الفصل الثاني

راعي الغنم

١

قالت خديجة لنسائها في صوت المروعة المأخوذة: «أقبلن فانظرن! فإني أرى شيئًا ما رأى الناس مثله قط.» وأقبل نساؤها، فلما نظرن أكبرن، ثم ارتعن فتراجعن، ثم عدن فجددن النظر، وقد ذهبت بهن الحيرة كل مذهب! فقلن لخديجة مبهورات مسحورات: «ما ينبغي أن يكون هذا رجلًا من الناس.» قالت خديجة وقد امتلأ صوتها حنانًا وحبًّا، وإعجابًا وإكبارًا: «إنه والله لرجل من الناس قد عرفت أمه وأباه وشهدت مولده، وسمعت أحاديث الناس عنه وآراءهم فيه، وقد طالما رَغَّبْتُنَّني عنه وحوَّلْتُنَّني عما كانت أريد منه. فأما الآن فلن تبلغن مما حاولتنَّ شيئًا.»

وما كادت تتم حديثها حتى كان محمد بن عبد الله قد دخل عليها فأنبأها في لفظ عذب سريع بما كان من رحلته إلى الشام، وبما عاد به إليها من ربح مضاعف لم تكن ترجوه، ولم تعد بمثله إليها العير منذ تعودت أن ترسل تجارتها إلى الشام مع العير. وقد أتم محمد حديثه دون أن تعرف خديجة كيف ترد عليه هذا الحديث، أو تشكر له هذا الصنيع، أو تكافئه على ما ساق الله إليها على يديه من خير.

كانت مأخوذة بمنظره قبل أن يدخل عليها، ثم أخذت بمنظره ولفظه حين تحدث إليها. وكانت في حاجة إلى الوقت لتسترد نفسها، وتستنقذ صوابها، وتخرج إلى الإفاقة من هذا الذهول. ولكن محمدًا لم يمهلها، وإنما قال لها ما قال، وانصرف عنها مسرعًا كأنما أدى إليها نبأ لم يكن يرغب في تأديته، ولم يكن مع ذلك يجد بدًّا من أن يؤديه. فلما ألقى هذا العبء عن عاتقه انصرف خفيف الجسم، نشيط الحركة؛ وما هي إلا أن يركب بعيره وينطلق إلى بيوت بني هاشم. ولكن خديجة قد عادت مسرعة وعاد معها نساؤها مسرعات إلى حين كن ينظرن، فرأين مرة أخرى ذلك المنظر العجيب الذي راعهن وروعهن منذ حين، وعدن إلى خديجة يقلن: «ما ينبغي أن يكون هذا رجلًا من الناس!»

قالت: «ويحكن! لقد رأيتنَّه وسمعتنه، وعلمتن أنه محمد بن عبد الله ذلك الذي كان يرعى لقومه الغنم بالقراريط في أجياد.»

قلن: «لقد رأينا محمدًا غير مرة وهو يدفع الغنم أمامه ماضيًا بها إلى مراعيها، ورأيناه غير مرة وهو يدفع الغنم أمامه عائدًا بها إلى حظائرها، فما رأيناه قط على مثل هذه الحال. لقد كان منظره يعجب، وقد كان محضره يخلب. ولقد كان كل شيء يحبب فيه ويدعو إليه. ولقد كانت أحاديث قومه عنه وآراء قومه فيه تصبي إليه النفوس، وتعطف عليه القلوب. ولكنه كان على كل حال فتى فقيرًا معدمًا يرعى الغنم لقومه بأجياد. وكنا نرى أن ليس من النصح لك، ولا من الإخلاص في مودتك، والوفاء بما لك علينا من حق، أن نعينك على ما كنت تجدين من حب له، وميل إليه، ورغبة في أن تتخذيه لك زوجًا، وأنت من تعلمين مكانةً في قومك، وارتفاعًا في نسبك، وضخامة في المال، وسعة في الثروة، وسلطانًا على نفوس الكهول والشباب من سادة قريش وأشراف مضر. كلهم سعى إليك. وكلهم رغب فيك، وكلهم خطبك وتمنى أن تكوني له زوجًا، فما صبوت إلى واحد منهم، وما حفلت بما أضمر لك من حب، وما أظهر لك من ود، وما قدم إليك من مال.»

قالت خديجة: «لئن كنت رفيعة المكانة في قومي فما مكانة محمد من قريش دون مكانتي، وإنا لننتهي جميعًا إلى قصيٍّ. ولئن كنت كثيرة المال ضخمة الثروة، فما عرفت قط أن المال يزن إلى جانب الحب شيئًا. ولقد رددت من خطبني من أشراف قومي وسادتهم؛ لأني لم أشعر قط بالميل إلى أحد منهم، ولم أفكر في أن أمري يصلح للزواج أو يستقيم عليه، ولم أرَ قط أن بين هؤلاء السادة والأشراف من شباب قريش وكهولها من يستطيع أن يستعلي بعقله ورأيه على عقلي ورأيي. ولكن ما رأيت محمدًا قط إلا صبتْ إليه نفسي، ومال إليه قلبي، وأذعنت لسلطانه العظيم عليَّ كل الإذعان.»

قلن: «كان ذلك قبل أن تري ما رأيت الآن. فأما بعد هذا المنظر العجيب الذي لم يرَ الناس مثله قط فما ندري ما أنت فاعلة!»

قالت: «سترين ما أنا فاعلة، ولكُنَّ أن تعرفن أو تنكرن، وأن ترضين أو تغضبن.»

قلن: «ما ينبغي لنا أن ننكر أو نغضب وقد رأينا ما رأينا. وإنك لأسعد امرأة من قريش إن ظفرت بأن يكون محمد لك زوجًا.»

وكان اليوم من أيام مكة الثقيلة البغيضة التي تلح عليها حين يشتد القيظ فترسل عليها من أشعة الشمس نارًا محرقة، تسكن لها الحركة، وتخفت لها الأصوات، ويهدأ لها كل شيء، ويكاد يصيح من لذعها أديم الأرض، وتشكو من حرها هذه الصخور التي تتوهج وتتلظى فتملأ الجو لهيبًا وسعيرًا.

وكان البشير قد أقبل مع الصبح، فمضى في المدينة من أعلاها إلى أسفلها يبعث صيحاته الحلوة الجميلة التي تتلقفها الأسماع وتطمئن لها القلوب، والتي تنبئ قريشًا بأن العير قد أقبلت من الشام سالمة غانمة موفورة، فترد إلى رجال قريش ونسائها هذه النفوس التي كانت مشردة تتبع الأبناء والإخوة والأزواج والآباء في هذه الطرق الملتوية المخوفة بين أودية تهامة وبلاد الروم، وتثير في القلوب ألوانًا من الفرح مختلفة متباينة: فقوم يفرحون لعودة ذويهم إليهم موفورين، وقوم يفرحون لعودة ثروتهم إليهم رابحة نامية، وقوم يفرحون لما حمل إليهم ذووهم من هذه الأمتعة والعروض التي كانوا يكلفون بها ويرغبون فيها وقد يتحرقون إليها تحرقًا. وقوم يفرحون باجتماع الشمل بعد تفرقه، وبعودة الحياة إلى طبيعتها الهادئة الآمنة المطمئنة البريئة من الخوف على الأنفس والأموال.

وكانت قريش كلها تتهيأ لاستقبال العير إذا كفت عنها الشمس هذه النار المحرقة، وأتاحت لها البروز إلى ظاهر المدينة تلقى فيها الأحبة وما يجلبون من الثروة والغنى، وما يحملون من أسباب اللذة والمتاع.

وكانت خديجة تنتظر مقدم العير أشد ما تكون شوقًا إليه، ووجدًا به، وتلهفًا عليه! لا لأن العير كانت تحمل لها تجارة واسعة إلى الشام، فكانت خديجة تريد أن تعرف ما كان من أمر تجارتها، وما أتيح لها من ربح، أو كتب عليها من كساد! فما كانت هذه أول مرة فصلت فيها العير عن مكة بتجارة خديجة الواسعة، وما كانت هذه أول مرة عادت فيها العير إلى مكة بتجارة خديجة نافقة أو كاسدة! فما أكثر ما أرسلت خديجة تجارتها في العير إلى الشام! وما أكثر ما انتظرت خديجة عودة العير هادئة وادعة، لا يخرجها الربح عن وقارها إلى هذا الفرح غير المنتظم الذي كان يخرج إليه رجال قريش ونساؤها، ولا يردها الكساد عن وقارها إلى هذا الحزن العميق الذي كانت ترتد إليه رجال قريش ونساؤها حين تتعرض تجارة مكة لبعض الشر، أو يلم بها بعض المكروه. وإنما كانت خديجة سيدة جلدة حازمة، صبورًا وقورًا، متزنة النفس، معتدلة المزاج، ترضى فلا يخرجها الرضا عن طورها، وتسخط فلا يغير السخط من شأنها شيئًا، ويراها الناس راضية وساخطة، وهادئة مطمئنة في الحالين، فتمتلئ قلوبهم إعجابًا بها وإكبارًا لها، ويشهدون بأن قريشًا لم تعرف قط أحدًا أملك لنفسه وأضبط لأمره وأقدر على عواطفه من هذه السيدة الجميلة الوضيئة الرزينة التي كادت تبلغ من سنها الأربعين.

كلا! لم تكن خديجة مشغولة النفس بأمر العير حرصًا على تجارتها، أو شوقًا إلى أن تعرف ما صارت إليه من نفاق أو كساد، وإنما كانت مشغولة النفس بابن عمها هذا الشاب الذي أرسلته في تجارتها إلى الشام، فسافر راضي النفس، آمن القلب، وإن الطريق لمخوفة، وإن الخطوب لكثيرة، ولا سيما لو علم الناس من أمر هذا الشاب ما كانت تعلم، وعرفوا من حياته ما كانت تعرف. لقد تذكر خديجة أن عمه الشيخ سافر به إلى الشام صبيًّا، فلم يلبث أن عاد به إلى مكة مسرعًا، شديد الحذر، عظيم الاحتياط لما خاف عليه من مكر النصارى وكيد يهود. تحدث الشيخ بذلك إلى أصفيائه وخاصته ورهطه الأدنين، فسمعوا له وابتسموا، ثم انصرفوا مشفقين عليه معجبين، يقول بعضهم لبعض: ما نرى إلا أن أبا طالب مسرف في حب ابن أخيه، وما نرى إلا أن هذا الإسراف يكلفه شططًا، ويرهقه من أمره عسرًا.

ولكن حديث الشيخ انتهى إلى خديجة، فتلقته في شيء من العجب، ثم أقرَّته في ثني من أثناء نفسها الطاهرة، وفي ناحية من نواحي قلبها الكريم، وأخذت تنظر إلى هذا الصبي اليتيم نظرة فيها الرفق والعطف، وأخذت ترقب هذا الصبي اليتيم في شيء كثير من الحب والبر والحنان، ترعى فيه حق القرابة وتلك المودة التي كانت بينها وبين أمه آمنة، حين كانت هي فتاة غضة ناشئة، وحين كانت آمنة أرأف الناس بها، وأحبهم لها، وأشدهم بها برًّا وعليها حنوًّا.

وما أكثر ما فكرت خديجة في أمر هذا الصبي اليتيم! وما أكثر ما همت أن تبرَّ به، وتصنع له المعروف وتسدي إليه الجميل، وترفه عليه وعلى أهله بعض ما كانوا يحتملون من آلام الحياة ويلقون من ضيق العيش. ولكنها لم تكن تجد السبيل إلى ذلك ميسورة ولا ممهدة؛ ففي بني عمها إباء وعزة وارتفاع عن مثل ما كانت تريده لهم من الخير والبر. وفي هذا الصبي اليتيم أنفة وكرامة، وشيء لا تستطيع أن تصوره له ولا أن تحققه، ولكنه يملأ قلوب الناظرين إليه هيبة له، ويردهم عن أن يفكروا في أن ينالوه بما تعودوا أن ينالوا به الفقراء واليتامى من البر والإحسان.

وما أكثر ما كانت خديجة تسأل عن هذا الصبي، وتتَّبع في حب وبر وحنان نموه وتقدم السن به، واضطرابه في كسب القوت، واحتماله لأثقال الحياة! ولقد أشفقت خديجة على هذا الصبي أشد الإشفاق حين علمت ذات يوم أنه خرج مع عمومته إلى عكاظ، فشهد معهم حرب الفجار، وما أشد ما كان إعجابها به، وما أعظم ما كان اغتباطها حين علمت أنه عاد مع عمومته من حرب الفجار سالمًا آمنًا موفورًا، لم يمسسه أذى، ولم ينله مكروه!

وكانت أنباء تبلغ خديجة عن هذا الصبي، أو قل عن هذا الفتى، فتملأ نفسها عجبًا، وتدفعها إلى كثير من المساءلة والتفكير. فقد كان يقال لها إن هذا الفتى على حداثة سنه شديد الميل إلى العزلة، لا يشارك أترابه من فتيان قريش فيما يأخذون فيه من فرح أو مرح، وفيما يدفعون إليه من عبث أو مجون! وإنما يلقى الناس بوجه مشرق دائمًا، مبتهج دائمًا، ولكنه هادئ مطمئن، ما يزدهيه رضا، ولا يخرجه عن طوره سخط. وكان يقال لها إنه لم يشهد أحد قط هذا الفتى حيث يشهد فتيان قريش جميعًا بين حين وحين آخذين في هذه اللذات التي كان يكلف بها الشباب القرشيون، حتى إذا رشدوا وبلغوا سن الوقار ترفعوا عنها، وضنوا بأنفسهم عليها، ورأوها لا تلائم أحلامهم الراجحة ومكانتهم الممتازة. ولم يصرفوا عنها مع ذلك أبناءهم الناشئين، كأنهم يرونها شرًّا ليس منه بد، وتجربة ليس على الشباب بأس أن يَصْلوْا نارها، وأن يلذعهم لهيبها بعض الشيء.

وكان الناس يعجبون من اعتزال هذا الفتى أترابه إذا أقبلوا على لذتهم تلك ويتساءلون فيما بينهم: ما بال هذا الفتى يمتاز من لذاته، ويسير على حداثة سنه ونضرة شبابه سيرة الكهول الذين ترفعهم رجاحة أحلامهم وسماحة طباعهم عن مثل هذه الصغائر والدنيات؟

وكان يقال لخديجة: إن لهذا الفتى شأنًا عظيمًا يحس الناس ظواهره ولكنهم لا يفهمونه، ولا يتبينون حقيقته ولا جلية الأمر فيه.

لقد كان شائعًا في مكة متواترًا بين أهلها أن عمه الشيخ رجل سيئ الحال، ضيق ذات اليد، مقترٌ عليه في الرزق مع كثرة العيال، وأنه مع ذلك لا يشكو بؤسًا، ولا يظهر تحرجًا بهذه الشدة التي يعانيها؛ لا لأنه رجل من بني هاشم يمتاز بما يمتاز به بنو هاشم من الصبر والكرامة والقناعة وحسن الاحتمال للمكاره والمشقات فحسب، بل لأن في حياته سرًّا غريبًا! فإن ابن أخيه هذا اليتيم «فتى مبارك» كما يقول الشيخ إذا ذكره أو تحدث عنه. ولم يجلس قط مع أبناء عمه إلى طعام إلا شبعوا وأفضلوا من طعامهم مهما يكن قليلًا. ولم يجلس بنو عمه من دونه إلى طعام إلا قاموا وهم جياع. وكان أبو طالب يتحدث بأنه إذا رأى أبناءه يقبلون على طعامهم كفهم عنه وقال: كما أنتم حتى يأتي ابني، فينتظرون حتى يأتي الفتى، وهنالك يخلي الشيخ بينهم وبين الطعام فيقبلون عليه، ثم يرفعون أيديهم عنه وكلهم قد شبعوا، وإن في طعامهم لفضلًا.

وكانت خديجة تسمع هذه الأنباء كما كان يسمعها غيرها من رجال قريش ونسائها، فتعجب لها كما كان يعجب لها غيرها من رجال قريش ونسائها. ولكنها لم تكن تنساها كما كان ينساها غيرها من قريش، وإنما كانت تضيفها إلى ما كانت تحفظه من أمر الفتى في ثنيٍّ من أثناء نفسها الطاهرة، وناحية من نواحي قلبها الكريم.

ثم يبلغ خديجة ذات يوم أن جماعة من شيوخ قريش وسادتها وأصحاب الأحلام الراجحة والبصائر النافذة فيها، قد اجتمعوا فيما بينهم فاستعرضوا من أمر الناس ما استعرضوا، وأنكروا من سيرة الناس ما أنكروا، ورأوا أن يلتمسوا لأنفسهم ولقومهم الخير، وأن يجتمعوا فيحدثوا بينهم حلفًا على أن يتعاونوا على الخير والمعروف، وإنصاف المظلوم مهما يكن ضعيفًا، من ظالمه مهما يكن قويًّا، وأن يبذلوا في ذلك ما يملكون من جهد، وأن يدوموا على ذلك ما بل بحر صوفةً، وأن قريشًا قد أعجبت بهذا الحلف أشد الإعجاب، وأكبرت المجتمعين عليه والمشتركين فيه أشد الإكبار، وسمَّته «حِلف الفضول».

ولكن الغريب الذي دهشت له قريش كلها والذي حفظته خديجة فأضافته إلى ذلك الكنز الذي حفظته في ثني من أثناء نفسها الطاهرة، وحنو من أحناء قلبها الكريم؛ أن فتى حدَثًا من فتيان قريش لم تتجاوز به سنه العشرين، قد كان مع هؤلاء السادة من شيوخ قريش، وقد عرف معهم ما عرفوا، وأنكر معهم ما أنكروا، وعاهدهم على ما تعاهدوا عليه. وقد كان في ذلك كله كأرحبهم حلمًا، وأذكاهم قلبًا، وأكرمهم نفسًا، وأحرصهم على الخير والبر، وأسبقهم بالمعروف، وأعطفهم على البائس والضعيف. فعل هذا الفتى ذلك كله، وإن أترابه من شباب قريش لمنصرفون إلى لذاتهم على اختلافها وتباينها. ولم يكن هذا الفتى إلا محمد بن عبد الله ذلك اليتيم الذي أصبح حديث قريش كلها، تعجب به، وتتحدث عنه، وتضربه لشبابها مثلًا.

وما أشد ما كانت خديجة تألم حين تعرف أن خير قريش كلها يحتاج إلى أن يرعى الغنم لقومه بأجياد، وإلى أن يكسب في ذلك القراريط من حين إلى حين، يستعين بها على ما يقيم أوده، ويفضل منها على أبناء عمه الشيخ، وإنه لأحرى قريش كلها بأضخم ما في مكة من ثروة، وأعرض ما في مكة من غنى، وأرق ما في مكة من نعيم.

هنالك أحست خديجة في قلبها حبًّا لهذا الفتى لم تعرف كيف تصفه ولا كيف تسميه، ولكنها كانت تجد من نفسها الطاهرة نزاعًا شديدًا إلى أن تراه وتسمع منه وتتحدث إليه، ولم يكن ذلك يتاح لها ولا يهون عليها. فأين هي مع ثروتها الضخمة، ومالها الكثير، ومكانتها الممتازة من هذا الفتى اليتيم الذي ينفق أكثر أيامه خارج مكة يرعى الغنم، فإذا عاد إلى مكة اعتزل الناس، أو كان كالمعتزل لهم، فلم يعرض لخديجة، ولم تستطع خديجة أن تعرض له. ومع ذلك فقد كانت نفسها تتبعه، وقد كان شخصه لا يفارق قلبها. وكثيرًا ما تحدثت عنه إلى نسائها فسمعن منها، ثم قصصن عليها من أمره الأعاجيب. وإن قريشًا كلها لمجتمعة على حبه وإيثاره، والإعجاب بسيرته وأخلاقه، وإنها لا تسميه محمدًا، وإنما تسميه الأمين. وإن من الناس قومًا يتحدثون عنه بأعاجيب لا يطمئن إليها العقل، ولا تجري بها عادة الناس. فمنهم من يزعم أنه رآه ذات يوم وقد اشتدت الهاجرة، وإن سحابه لتقيه الشمس. ومنهم من يزعم أنه رآه ذات يوم قد أوى إلى ظل شجرة فإذا الشجرة تحنو عليه حنوَّ الأم، وإذا هو يسمع الشجرة تتلقاه بالتحية والسلام.

وكانت خديجة تسمع هذا كله فتقبل منه ما تقبل، وترد منه ما ترد، ولكنها تشعر بأن حبها له يزداد، وميلها إليه يعظم، حتى لم تملك نفسها أن أظهرت لنسائها هذا الحب، وتحدثت إليهن بهذا الميل، ولمحت لهن بأنها تود لو أصبح هذا الشاب لها زوجًا، لا يمنعها من الجهر بذلك والسعي إليه إلا أنها أكبر من الفتى سنًّا، وأنها لا ترى نفسها له كفئًا.

فلما رأى نساؤها منها ذلك أنكرنه عليها أشد الإنكار، ورددنها عنه أشد الرد، وصوَّرنَ لها فقر الفتى وبؤسه، وما هي فيه من ثروة ونعيم، وذكرن لها تنافس الأشراف والسادة فيها، وحرصهم جميعًا على أن يبلغوا منها هذه المنزلة التي تؤثر بها هذا الفتى اليتيم. فأحست خديجة أن نساءها لم يفهمن عنها شيئًا، وأنهن لن يفهمن عنها شيئًا، وردت سرها العزيز إلى مكانه الأمين من نفسها الطاهرة وقلبها الكريم. وانتظرت حتى تهيأت العير في عام من الأعوام للرحلة في التجارة إلى بلاد الروم، وجعلت خديجة تهيئ تجارتها، وجعل الناس من فقراء قريش يعرضون أنفسهم عليها ليرحلوا في تجارتها إلى الشام كما تعودوا أن يفعلوا من قبل. ولكن خديجة لم تسمح لأحد منهم، ولم تقف عند أحد منهم، وإنما ألقي في نفسها — دون أن تعرف كيف ألقي في نفسها — أن محمدًا سيكون هذه المرة صاحب تجارتها إلى الشام. فلا تسأل نساءها عن شيء، ولا تحدِّث نساءها في شيء، وإنما ترسل إلى الشيخ دسيسًا يعرض عليه الأمر، ويهون عليه ما كان يستصعب منه، ويصور أن الفتى قد أصبح رجلًا لا بأس عليه من مشقة السفر، ولا خوف عليه من مكر النصارى، وهو بعدُ سيكون في طائفة من قومه يحمون العير بالعدد والعدة، ويزين له أن خديجة قد تعودت أن تأجُر المسافرين في تجارتها بَكْرين، وأنها لا ترضى بهذا الأجر لابن عمها الأمين، فهي تأجره أربعة أبكر.

وما كان أبو طالب ليرضى هذا العرض أو يقبله لولا أن قد كان لله في ذلك حكمة، ولولا أن الله قد ألقى في قلبه الرضا بهذا العرض لأمر يراد. فقد كان أبو طالب شفيقًا على ابن أخيه رفيقًا به، يكلؤه ويرعاه، ويحوطه ويحميه، يخشى عليه العوادي، ويضن به على المكروه، ولم ينس قط ما كان من تحذير «بحيرَى» له وإلحاحه عليه في أن يحوط ابن أخيه من مكر النصارى وكيد يهود. ما أكثر ما فصَلتِ العير عن مكة منذ عاد الشيخ بابن أخيه إليها، فلم يرسله أبو طالب مع العير، بل لم يفصل أبو طالب مع العير متجرًا، وإنما أبقى ابن أخيه في مكة، وأقام معه فيها حاميًا له، ذائدًا عنه. فلما عرض عليه رسولُ خديجة ما عرض، همَّ أن يرفض، ولكن الله ألقى في نفسه القبول، فقال للرسول: «سأعرض هذا على ابن أخي.» ثم يلقى ابن أخيه فيعرض عليه الأمر مرغبًا له، مشجعًا إياه.

وما كان الفتى في حاجة إلى ترغيب أو تشجيع؛ فإن الذي قد ألقى في نفس خديجة اختياره لتجارتها هذا العام، وألقى في نفس أبي طالب قبول هذا الاختيار حين عرضه رسول خديجة عليه، قد ألقى في نفس الفتى قبول هذا الاختيار حين تحدث إليه عمه فيه.

وهذه العير تتهيأ للخروج من مكة، وهذا الفتى يتهيأ للخروج معها في قومه من قريش، وقد ألحقت به خديجة غلامها ميسرة، وهؤلاء عمومة الفتى يوصون به رفاقه من قريش، ويغلون في هذه التوصية، فلا يسمعون من أصحاب العير إلا هذا الرد الجميل يلقونه إليهم باسمين: «ما إيصاؤكم إلينا بالأمين، وما منا إلا من يبذل حياته فداء للأمين!»

٢

ولم تكد العير تفصل من مكة وتمعن في طريقها إلى الشام حتى شقي بذلك في مكة شخصان أشد الشقاء، ولقيا منه أثقل الجهد وأعظم العناء، وحتى نغصت عليهما حياة النهار، وصُرِف عنهما نوم الليل، وفارقت كل واحد منهما نفسه، فتبعت تلك العير التي كانت ماضية نحو الشمال. وقد عرفتَ بالطبع هذين الشخصين؛ فأما أحدهما فهو أبو طالب، وأما الآخر فهو خديجة.

والغريب أن الخواطر التي كانت تملأ نفسيهما همًّا وحزنًا، وتفعم قلبيهما خوفًا وقلقًا، هي بعينها تلك الخواطر التي كانت تملأ نفس عبد المطلب بن هاشم وآمنة بنت وهب، وتشغل قلبيهما منذ خمسة وعشرين عامًا حين سافر عبد الله مع العير إلى الشام في التجارة لأول مرة ولآخر مرة أيضًا.

وكان ذلك يزيد في خوف أبي طالب، وقلق خديجة، ويضيف إلى إشفاقهما شيئًا غير قليل من الندم اللاذع، والأسف الذي لا يغني ولا يفيد. كان أبو طالب يلوم نفسه أشد اللوم، ويؤنبها أعنف التأنيب! لما فرط في ذات ابن أخيه، وقد كان حريصًا على ألا يفارقه ولا يخلي بينه وبين غوائل الدهر وعاديات الأيام. وهو يعلم بعد هذا كله أن قد كانت للأسرة من بني هاشم في هذا النوع من المحن سابقة، وأنه كان خليقًا أن يتعظ بما مضى، وأن يضن بمحمد على ما تعرض له عبد الله.

وكان يقول لنفسه إن عبد المطلب حين أغرى ابنه بالرحيل وحثه عليه، لم يكن إلا رجلًا من قريش، يأخذ ابنه بحياة قريش وما تعودت من الاضطراب في الأرض، والتماس الرزق طورًا في الشام، وطورًا في اليمن. ولم تكن الأيام قد وعظت عبد المطلب، ولا قدمت بين يديه من النذر ما كان خليقًا أن يحمله على التردد ويغريه بالاحتياط. فأما هو فقد وعظته الأيام وتقدمت إليه النذر.

وعظته الأيام بما وقع لعبد الله، ذلك الذي فجع به بنو هاشم على حداثة السن ونضرة الشباب، فكان خليقًا أن يتعظ، وكان خليقًا ألا يعرض الفتى لما تعرض له أبوه. وتقدمت إليه النذر؛ فما أكثر ما سمع، وما أكثر ما شهد، وما أكثر ما فكر في أن ابن أخيه خليق بالعناية المطردة والحماية المتصلة، والاحتياط الذي لا يغفل ولا ينام! وإن في آخر تلك النذُر لما كان خليقًا أن يمنعه من التخلية بين ابن أخيه وبين الرحيل، فضلًا عن أن يغريه به ويدفعه إليه. وإنه ليذكر حديث بحيرى وإشفاقه وتحذيره إياه من مكر النصارى وكيد يهود. وإنه ليذكر كيف ارتد بابن أخيه الصبي إلى مكة، دون أن يقضي حاجته من الشام، ودون أن يقوم على ما كان في يده من التجارة بالبيع والشراء، وإنما وكل بذلك من وكل من قومه متعمدًا رَد الصبي إلى وطنه، وحفظه من الغوائل والعاديات.

وإنه ليذكر إعراضه منذ سمع ذلك النذير عن الرحلة، ولزومه مكة، وإصراره على ألا يفارق ابن أخيه، وألا يطيل بينه وبينه الأمد. فما الذي غير رأيه في هذا كله؟ وما الذي دفعه إلى أن يحمل ابن أخيه على هذه الرحلة التي لا يأمن عواقبها؟ وأخذ الشيخ يتحدث إلى نفسه بمثل ما كان يتحدث به عبد المطلب إلى نفسه. وأخذ الشيخ يسأل نفسه عن هذا الذي ألقى في روعه قبول ما عرضت خديجة: أكان ناصحًا له أم ماكرًا به؟ أكان إلهامًا من الله أم غرورًا من الشيطان؟

وجعلت هذه الخواطر تفسد على الشيخ أمره، وكان يزيدها شدة عليه وإيلامًا له أن الشيخ كان يستعرض حاله السيئة وفقره المدقع، وما كان يلقى من الجهد في قوت عياله، وكان يشعر في أعماق نفسه بشيء من الخوف الأليم أن يكون قد عرض ابن أخيه لبعض الخطر إيثارًا لنفسه ولبنيه بالخير.

وما له لم يُغر بهذه الرحلة ابنه طالبًا أو ابنه عقيلًا، وإنما أغرى بها هذا الفتى اليتيم الذي فقد أمه وامتحن في أبيه بمثل ما يُمتحن به الآن! وكثيرًا ما جعل الشيخ يرد هذا الخاطر عن نفسه بأن خديجة لم تعرض عليه استئجار أحد أبنائه، وإنما عرضت عليه استئجار ابن أخيه، فما كان يستطيع أن يعرض عليها طالبًا أو عقيلًا. ولأمر ما رغبت خديجة هذا العام عمن كانت تكل إليهم تجارتها في الأعوام الماضية، ولم تختر إلا هذا الفتى، ولم تعرض عليه ما كانت تدفعه إلى غيره من الأجر، وإنما أضعفت له الأجر إضعافًا.

ولكن هذه المعاذير لم تكن تسلي الشيخ عن زلته، ولا تقيله عن عثرته، ولا تخفف عليه حزنًا، ولا ترد عنه ألمًا، وإنما كان ندمه يزداد وينمو حتى يكاد يخرجه عن طوره، ويتجاوز ما ألف من نفسه وما عرف الناس فيه من الرزانة والوقار. ولقد حدثته نفسه غير مرة أن يشد راحلته، ويلحق بابن أخيه، فإما رَدَّه عن هذه الرحلة، وإما رافقه فيها. ولكنه كان يستحي أن تقول قريش: ضعف أبو طالب، وجزع على فتى قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره. كان يستحي من ذلك لنفسه، وكان يستحي من ذلك لابن أخيه. وما رأيك في رجل لم يكن يعدل بحسن رأي الناس فيه وحديثهم عنه شيئًا؟!

وضاق أبو طالب بهذا الأمر أشد الضيق، فلم يستطع كتمانه على شدة ما حاول من ذلك، وإنما تحدث به إلى بنيه وإخوته، ولمح لهم على استحياء بأن من الخير أن يلحق به منهم لاحق، يتكلف ذلك، ويظهر حاجته إلى الرحلة، وندمه على التخلف عن القافلة. ولكن إخوته وبنيه نظروا إليه باسمين، وأجابوه مشفقين، وقالوا له: «تالله إنك لمسرف في الإشفاق على هذا الفتى، مغرق في الخوف عليه من كل شيء، حتى تحدث الناس عنك بذلك، فاتهموك بالضعف، وأنكروا عليك هذا الغلو في الخوف، وإنا لنعرف رعايتك لهذا اليتيم، وحدبك عليه! ولكن من الحب ما يؤذي، والإسراف في الإشفاق والرعاية قد يسوء هذا الفتى. فخلِّ بينه وبين الحياة، ودعه يضطرب في الأرض ليكسب قوته. فما أنت بباق له آخر الدهر، وما ينبغي له أن يقنع بهذا العيش الضيق الذي هو فيه.»

وكذلك عاش أبو طالب مقسمًا بين الخوف والرجاء، وبين اليأس والأمل، وبين الثقة والشك، وبين اللوم لنفسه والاعتذار عنها. وما أظن أنه شقي قط في حياته كما شقي في هذه الأيام التي فرقت بينه وبين ابن أخيه.

ولم يكن أمر خديجة بأيسر من أمر عبد المطلب، ولم يكن خوفها بأهون من خوفه، ولم يكن إشفاقها بأقل من إشفاقه. ولكن خواطرها كانت من طراز آخر، ومن طبيعة أخرى! فهي لم تكن مؤتمنة على الفتى، ولا كافلة له، ولا موكلة بحمايته ولا حياطته والقيام دونه. ولكنها كانت شيئًا آخر لعله أقوى من هذا كله، كانت تحب هذا الفتى. وحسبك بالحب مثيرًا للخوف والقلق، وباعثًا للجزع والفزع، وحائلًا بين القلوب وبين ما تحتاج إليه من الهدوء والاطمئنان.

لقد أحبت خديجة هذا الفتى منذ كان صبيًّا، وجعلت ترعاه من بعيد، وترقب من أمره ما تستطيع أن ترقبه، وتتبع نموه واكتماله. وكلما نما الفتى نما حبها له وكلفها به. أفحين بلغ الفتى أشده وأصبح خليقًا أن يحقق أملها فيه، يخطر لها هذا الخاطر الغريب، فإذا هي تدفعه إلى الرحلة، وتقذف به إلى أرض الروم؟! ومن الحق أنه لم يكن لها زوجًا، ولكن كانت تتمناه لنفسها زوجًا. وربما كان الخوف على الأماني أشد على النفس وأوقع في القلب من الخوف على الحقائق الواقعة والشيء الذي ظفرت به بعد أن طال تمنيك له وألحت رغبتك فيه. وكانت خديجة تذكر آمنة، وتذكر نفسها، فترى أن آمنة لم تدفع زوجها إلى الرحلة، وإنما أذعنت في ذلك لقوانين الحياة التي تقضي على فتيان قريش بالاضطراب في الأرض والإبعاد في الأسفار. ولو قد خيرت آمنة لاستبقت زوجها. ولو قد أتيح لقلبها أن ينطق لألحَّ على زوجها في البقاء.

فأما هي فلم تكره على فراق الفتى، وإنما سعت إليه ورغبت فيه، وأغرت به الفتى إغراء، ودفعته إليه دفعًا، ودست فيه الرسل إلى عمه الشيخ، وأضعفت أجره أضعافًا. أمحبة هي لهذا الفتى أم مبغضة له؟ أراغبة هي عن هذا الفتى أم راغبة فيه؟ أحريصة هي على جوار هذا الفتى أم على فراقه؟ إن أمرها لعجب مهما تقلبه على وجوهه. ولكن ألمها شديد، وحزنها موجع، وقلقها مضن. وقد تذكر أنها لم ترسله وحده إلى الشام، ولم تعرضه وحده للأخطار، وإنما أرسلت معه غلامها القوي الفتيَّ الأمين الناصح، وهو خليق أن يحوطه ويرعاه، وأن يلقى الموت في سبيل حياطته ورعايته. ولكن غوائل الدهر وعوادي الأيام جائرة غاشمة، وهي أقوى من غلامها ميسرة مهما يكن قويًّا، وأجرأ منه مهما يكن جريئًا، وأمضى إلى المكر والكيد منه إلى الحياطة والحماية والنصح.

وكذلك جعل هذا الشخصان يعيشان مع هذا الخوف الذي يفسد عليهما اليقظة والنوم، دون أن يستطيع أحدهما أن يفضي إلى صاحبه بما يجد أو ببعض ما يجد. فلا غرابة أن يطمئن قلباهما حين سمعا صيحة البشير بمقدم العير. ولا غرابة أن يحس كل منهما كأن نفسه تتحرق شوقًا إلى لقاء هذا الفتى. فأما أبو طالب فقد همَّ أن يخرج من مكة مع الضحى للقاء ابن أخيه، ولكن إخوته وبنيه صدوه عن ذلك، ولاموه فيه، وخوفوه حر الشمس وشدة الهاجرة، وخوفوه قبل كل شيء حديث قريش هذه التي استبشرت بمقدم العير، ولكنها استقرت في أماكنها، لم تهمَّ بالخروج للقاء الأبناء والإخوان قبل إبان الخروج.

وأما خديجة فما كان لها أن تخرج للقاء الفتى، ولا أن تفكر في الخروج للقائه؛ فليس هذا من شأن النساء، ولا هو مما يليق بحرائر قريش. ولكن نساءها أنكرن منها اضطرابًا منذ سمعت صوت البشير، وتحدثن فيما بينهن بكثرة ترددها على النافذة ونظرها إلى الطريق. وكان بعضهن يتحدث في ذلك إلى بعض حين دعتهن خديجة قائلة: «أقبلن فانظرن؛ فإني أرى شيئًا لم يرَ الناس مثله قط.» وقد أقبلن، فنظرن، فرأين شيئًا لم يرَ الناس مثله قط: رأين فتى مشرق الوجه، واضح الجبين، مهيب الطلعة، يسعى به بعيره تحت هذه الهاجرة المحرقة، ويخوض به لهيب هذه النار المضطرمة، وإن عن يمينه وشماله لشخصين تحسهما العين ولا تحققهما، تراهما من غير شك ولكنها لا تميزهما. ترى أنهما لا يمشيان على الأرض، وإنما يسعيان في الهواء سعيًا رفيقًا، وهما يظللان هذا الفتى ذا الوجه المشرق، والطلعة المهيبة، ويحميان حر وجهه الجميل من هذه الشمس المحرقة.

ينظرن، فيرين، ويقلن: «ما ينبغي أن يكون هذا رجلًا من الناس.»

ومتى رأى الناس رجلًا يظلله شخصان لا يمشيان على الأرض، وإنما يسعيان في الهواء؟!

٣

وأقبل ميسرة على خديجة حين أدبر النهار. فلما رأته تمالكت في شيء من الجهد غير قليل حتى كبحت عواطفها الثائرة، وضبطت خواطرها الجامحة، وردت نفسها ووجهها من الهدوء والسكون إلى ما تعودت أن تلقى به خادمها الوفي ومولاها الأمين. ثم سألته عن تجارتها كما تعودت أن تسأله كلما آب إليها من رحلة الشام أو من رحلة اليمن. ولكنه كان في هذه المرة يقص عليها أنباء الرحلة في شيء من الاضطراب لم تعهده، ويعرض عليها أمر البيع والشراء في شيء من الذهول لم تألفه. وكثيرًا ما تلبث في حديثه ليستحضر رقمًا غاب عنه، أو يرد خاطرًا ندَّ، أو يدعو فكرة شردت. وكانت خديجة تسمع له، معنية بما ترى من ذهوله وشرود خواطره، أكثر من عنايتها بما كان يعرض عليها من الأرقام، ويقص عليها من أنباء البيع والشراء.

وقد ترددت خديجة فطال ترددها، حين فرغ مولاها من حديث التجارة. ترددت في أن تسأله عن غير هذا الحديث من أمر هذه الرحلة. وليس من شك في أن العبد كان مترددًا مثلها، مطيلًا للتردد في أن يقص عليها شيئًا آخر من أنباء هذه الرحلة لا صلة بينه وبين البيع والشراء. وآية ذلك أن خديجة أطرقت فأطالت الإطراق، حتى نسيت العبد وحديثه، ومضت تفكر في شيء آخر غير العبد والحديث. فلما رفعت رأسها بعد ساعة رأته قائمًا أمامها لم يزُلْ عن مكانه، ولم يتحول عن موضعه، وقد أرسل عينه أمامه في هذه الغرفة المتوسطة بين السعة والضيق. فعينه حائرة تنظر ولا ترى، وكأنها تبحث عن شيء لا تحققه لأنها لا تعرف ما هو. فلما رأته أمامها على هذه الحال قالت في شيء من الدهش: «ما زلت قائمًا أمامي؟! أتريد أن تحدثني بشيء؟ أفاتك من أمر التجارة شيء لم تنبئني به ولم تقصصه علي؟»

قال ميسرة وقد دعاه صوت مولاته من بعد، فهو حائر مرتبك: «كلا يا مولاتي! لقد قصصت عليك من أمر التجارة كل شيء، وما أرى أني حدثتك منه بجديد! فقد سبقني إليك محمد وجه النهار، فأنبأك بما أتاح الله لتجارتك على يده من الربح والنماء.»

قالت خديجة: «هو ذاك! فما قيامك إذًا في مكانك؟ وما اضطراب عينيك وما شرود خواطرك؟ وما منظرك هذا الحائر الذي لم أشهده منك قط، وما أكثر ما رحلت بتجارتي، وما أكثر ما عدت إليَّ رابحًا حينًا، خاسرًا حينًا!»

قال ميسرة: «فإن لهذه الرحلة أنباء أخرى ما أدري أيهمُّ مولاتي أن تعرفها! وما أدري أينبغي لي أن أخفيها عليها أو أكتمها إياها! وما أدري أأستطيع إخفاءها أو أقدر على كتمانها، وما أرى إلا أني إن خرجت دون أن أقص على مولاتي جليتها فلن أستريح! ولن أطمئن ولن أطعم النوم حتى أتحدث بها إلى أحد غيري من الناس.»

قالت خديجة وهي تشعر بشيء من الغبطة، ولكنها تخفيه وتكتمه، وتظهر لمولاها السذاجة والاستهانة بما سيقص عليها من الأنباء: «وما ذاك؟»

قال ميسرة: «هو أمر ابن عمك هذا الذي وكلت إليه تجارتك، وأنبته عنك في مالك، وأمرتني أن أكون له خادمًا، وعليه حفيظًا.»

قالت خديجة: «فما باله؟»

قال ميسرة: «إنك لتسألين عن ذلك في هدوء لا أستطيع أن أجيبك بمثله يا مولاتي. وإني لأخشى أن تسمعي جوابي فتظني بي الظنون، وتتهميني بالجنون، كما ظن بي غيرك الظنون، وكما اتهمني غيرك بالجنون. ولولا أن الأمر لم يبق بيني وبين نفسي، وإنما شاركني فيه من آمنه وأطمئن إليه، لظننت بنفسي الظنون التي ظنوها بي، ولاتهمت نفسي بالجنون الذي اتهموني به، ولكني رأيت ولم يروا، وشهدت ولم يشهدوا، فلا بأس عليهم أن يسوء ظنهم بي ويقبح رأيهم في، ولا بأس عليَّ إن أكدت لك أني لست مجنونًا ولا مأفونًا ولا ذاهب العقل، ولا مضيع الصواب.»

قالت خديجة: «قد أطلت! فأفض إليَّ بحديثك، ولا تسرف في هذا الكلام الذي لا يغني.»

قال ميسرة: «فإني لا أدري كيف أبدأ معك هذا الحديث؛ لأني لا أعرف له بدءًا ولا أعرف له آخرًا؛ فقد اختلط أمره عليَّ اختلاطًا. وأقسم لولا أني قصصت أمره على من لا أتهم، لما شككت في أني مضيع العقل، مفرق اللب.»

قالت خديجة: «حسبك! فابدأ حديثك من حيث شئت أن تبدأه، ولكن امض في غير هذا اللغو؛ فقد عرفت أنك عاقل غير مجنون، وأنت مستكمل عقلك وصوابك كله؛ فلا تُضِع على نفسك وعلي من الوقت والجهد ما نحن في حاجة إليه.»

قال ميسرة وقد أطرق مستحييًا كأنه يجمع آراءه ويستحضر خواطره، ثم رفع رأسه فأظهر لمولاته وجهًا يبعث الضحك والإشفاق معًا! لكثرة ما يظهر عليه من إجهاد النفس وتعنية الضمير: «الآن قد عرفت!» ثم أخذ يتحدث إلى مولاته في بطء كأنه يرى حقائق ما يقص على سيدته من الأنباء، قال ميسرة: «كان بدء ذلك يا مولاتي في أول ليلة قضيناها بعد أن فصلت العير من مكة. فقد استقبلنا الليل فرحين مبتهجين، لم يفارقنا النشاط، ولم تدن منا شياطين السأم والملل. ولعلنا لم نكن نحب هذا الليل الذي وقفنا تقدُّمه عن السير، واضطرنا إلى النزول لنأخذ بحظ من راحة وهجوع. ولعلنا كنا نتعجل انقضاءه، ونتمنى أن يسفر لنا الصبح لنستأنف الرحيل. وقد كنا نقول لأنفسنا وكان بعضنا يقول لبعض: لننتفع بهذا النشاط الذي نجده في أول الرحلة، فلن نمضي أيامًا قليلة ولن نمعن في السفر حتى يسعى إلينا الملال، ويأخذ فينا الكلال، وحتى نتلفت إلى وراء أكثر مما ننظر إلى أمام. ولكنا أذعنا لحكم الليل، ونزلنا عن رواحلنا، وجعل كل منا يهيئ لنفسه مضجعًا يأوي إليه. وما هي إلا ساعة حتى هدأ القوم، وخفت الصوت، وسكن كل شيء، وما كنا نرى إلا ضوء القمر هذا الذي كان يغمرنا رفيقًا رقيقًا. وما كنا نسمع إلا أطيط الإبل، وأزيز هذه الحشرات المنبثة على سفوح الجبال من حولنا.

وأسهر أنا على محمد كما أوصيتني، فأهيئ له مضجعه، وأسعى إليه مرة ومرة، لأدعوه إلى الراحة وأحرِّضه على النوم، ولكني أراه جالسًا مكانه لا يريم ولا يتحول، وقد رفع وجهه إلى السماء، وأغرق في صمت متصل كأنما كان يفكر في أمر عظيم، أو يدبر في نفسه شئونًا ذات بال. وكنت كلما دنوت منه ورأيته على هذه الحال لم أجرؤ على أن أحدثه أو أقطع عليه صمته وتفكيره. فلما طال به مجلسه، وتكرر مني السعي إليه، لم أجد بدًّا من أن أتكلف شيئًا من الجهد فأسأله: أليس في حاجة إلى أن يستريح؟! ولكنه يجيبني في رفق أنه سيلتمس الراحة متى أحس الحاجة إليها، وأني أستطيع أن أشغل بنفسي عنه الآن! فأنصرف عنه وأحاول النوم دون أن تطمئن نفسي إلى الإغراق في النوم.»

ثم يسكت ميسرة لحظة، ثم يستأنف الحديث وقد ظهرت على وجهه آيات العجب والحيرة والإشفاق أن تظن به مولاته الظنون، فيقول: «ويخيل إليَّ يا مولاتي أني قد أخذت أسعى إلى النوم أو أخذ النوم يسعى إليَّ. وإني لفي هذه الحال الحلوة الغريبة التي لا يعرف صاحبها أنائم هو أم يقظان، وإذا أنا أرى كأني أسمع حوارًا غريبًا ما سمعت مثله قط، وما قدرت قط أني سأسمع مثله، وما كان ينبغي لي ولا أحد غيري أن يقدِّر ذلك أو يفكر فيه أو يُخطره لنفسه على بال! فقد كان الحوار بين هذا القمر المضيء وهذه الأرض المظلمة الساكنة.»

ثم ينظر إلى مولاته فإذا هي تصغي إليه معنية بحديثه أشد العناية، لا يظهر على وجهها إنكار ولا سخرية. فيبتهج العبد بما يرى، ويجد في إصغاء مولاته إليه وعنايتها به مشجعًا على الحديث، فيقول: «هذه أول مرة أقص فيها هذا النبأ فلا أسمع ضحكًا ولا استهزاء، ولا أرى آيات السخرية وعلامات الإعراض. سمعت إذًا هذا الحوار الغريب القصير يا مولاتي، فاستويت جالسًا، ولم أذق النوم من ليلتي! لأن نفسي قد امتلأت عجبًا لما سمعت، وإكبارًا لهذا الحلم الشاذ.»

قالت خديجة: «وما ذاك؟ ماذا سمعت؟»

قال: «سمعت كأن القمر يقول للأرض: وددت لو استطعت أن أمهد له من أشعتي هذه المشرقة اللينة الرطبة وطاء وثيرًا؛ فإني أخشى عليه أديمك الصلب ومسك الغليظ. وسمعت الأرض تجيب القمر قائلة: إن يكن أديمي صلبًا ومسِّي غليظًا، فإني أعرف كيف ألين له وأرفق به، وهو سيد من مشى عليَّ منذ كنت. ولكن قل لأختك الشمس ترفق به إذا كانت الظهيرة ورمت أشعتها باللهيب. وأسمع صوتًا ثالثًا يقول: لا عليكما! فإن الذي آثره بالكرامة، وفضله على الخلق كله، خليق أن يحميه من كل شيء، ويعصمه من كل ضر، ويرد عنه الأذى مهما يكن مصدره.

وأستوي يا مولاتي جالسًا، قد امتلأ قلبي رعبًا وعجبًا لما رأيت وما سمعت. ومن الحق أني لم أسمع ذكر محمد، ولكني لم أشك في أنه كان المعني بهذا الحوار. وإني — كما تعلمين — رجل ساذج جاهل، لم أقرأ الكتب، ولم أسمع للعلماء! ولكني على ذلك أنكرت ما رأيت وما سمعت، وقدرت أن أمرك لي وإلحاحك عليَّ في أن أعنى بابن عمك، وأن أهون عليه مشقة السفر، وأرد عنه عواديه وأذاته ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، هما اللذان شغلاني به، ووقفا تفكيري عليه.

فأقبلت على النوم وإني لأشفق عليه برد الليل وحر النهار في هذه الصحراء، ولم أحدث أحدًا بما رأيت وما سمعت. وفيم أحدث الناس به وقد عرفت أصله ورددته إلى مصدره؟! ولكني أقوم الليل كله غير بعيد من ابن عمك هذا الذي لا يبرح مجلسه ولا يتحول عنه، ولا يذوق من النوم إلا إغفاءة لا تطول. فلما أسفر الصبح استأنفنا الرحيل، وإذا ابن عمك أعظمنا قوة، وأشدنا نشاطًا، لا يظهر عليه جهد السفر، ولا مشقة هذا السهر المتصل.

ونمضي في طريقنا تندفع بنا الإبل هادئة سريعة، ونشغل أنفسنا بالحديث عما تركنا وراءنا، وعما نحن مقبلون عليه، وقد ارتفع الضحى، وزالت الشمس، وكانت الهاجرة، واشتد الحر، وخمدت له النفوس، وخفتت له الأصوات، وسكن له من حولنا كل شيء، وأنا مشفق على ابن عمك من هذه الهاجرة، أفكر في أن أسعى إليه وفي أن أحتال، لعلي أظله فأقيه بعض هذا الحر، فأحث بعيري حتى أدنو منه، ولا أكاد أنظر إليه حتى يكاد يصعقني العجب لروعة ما رأيت! فقد رأيت ابن عمك يسعى به بعيره، وإن عن يمينه وشماله لشخصين ما أتبينهما وما أحقق صورتهما، ولكنهما يظللان عليه وهو باسم الثغر، مشرق الوجه، وضاء الجبين، لا يظهر عليه جهد ولا تبدو عليه آية ملال أو كلال، إنما هو هادئ مطمئن مغرق في الصمت والتفكير.

وما قضيت العجب يا سيدتي مما رأيت، ولكني جعلت أنظر وأنظر، ثم أسأل من حولي من الناس: ألا ترون محمدًا؟ فيقولون: بلى! إنا لنراه وما نرى بأسًا. فأقول: أما ترون حوله شيئًا؟ فيقولون: كلا! ما نرى حوله شيئًا. فأقول: أما ترون إليه لا يظهر عليه جهد ولا أين؟ فيقولون: حديث عهد بالرحلة، مكتمل القوة، موفور النشاط، وسيبلغ منه الجهد والأين بعد حين، ولكني أدنو منه فأسأله: ألا يجد جهدًا؟ ألا يحس مشقة؟ ألا يحتاج إلى شيء؟ ولكنه يجيبني في هدوء ورفق بأنه على خير ما يحب. وما أزال أنظر إليه وإلى هذين الشخصين يظللان عليه، وما أشك في أني أراهما وحدي، ولا يراهما أحد غيري. وما أدري أكان محمد يحس مكانهما منه وعنايتهما به، أم كان عن ذلك منصرفًا مشغولًا. حتى إذا خفت حرارة الشمس وأقبل نسيم الأصيل، نظرت إلى محمد فإذا هو يسعى به بعيره كغيره من الناس لا يحفُّ به هذا الشخصان اللذان كنت أراهما منذ حين، وهو كعهدي به باسم الثغر، مشرق الوجه، مطمئن، مغرق في الصمت والتفكير.

وأتهم نفسي بشيء من اضطراب العقل وذهاب اللب، فأكتم أمري، ولا أظهر أحدًا عليه. حتى إذا كان الغد لاحظت محمدًا كما لاحظته أمس، فإذا هو كعهدي به أعظمنا قوة، وأشدنا نشاطًا، لا يظهر عليه جهد ولا أين. وأنتظر مقدم الهاجرة وارتفاع الظهيرة، فما نكاد نعود إلى مثل ما كنا فيه من الإذعان الأليم لهذا القيظ المحرق، حتى أرى ابن عمك كما رأيته أمس يسعى به بعيره بين هذين الشخصين اللذين كانا يظللان عليه. وما أطيق لهذا الأمر احتمالًا، وما أستطيع عليه صبرًا، فأتحدث به إلى من حولي وألفتهم إلى ابن عمك، فينظرون إليه، ثم يضحكون مني، ثم يقولون: لقد عبثت بك شياطين الصحراء، ومع ذلك فليس هذا أول عهدك بالطريق. فإذا لفتهم إلى نشاط محمد وإشراق وجهه، وهدوء نفسه وجسمه، وإلى ثغره الباسم وجبينه الواضح، نظروا إليه فملئوا عيونهم منه، ثم قالوا: إنه الأمين، وإن أمر الأمين ليدعو إلى العجب، ويملأ القلوب له إعظامًا وإكبارًا. وأغرب الأمر يا مولاتي أني كنت أرى ذلك ولا أستطيع أن أسأل محمدًا عنه أو أتحدث إليه فيه. وكثيرًا ما هممت بذلك فحثثت مطيتي حتى دنوت منه، ولكني أحس لساني ينعقد كلما حاولت أن ألقي عليه سؤالًا، أو أسوق إليه حديثًا.

ولم يكن هذا شأني وحدي، وإنما كان شأن الذين رافقونا في هذه الرحلة؛ فقد كانوا يسمعون لي ويعرضون عني ضاحكين حينًا، باسمين حينًا آخر. ويتحدث به بعضهم إلى بعض يسخرون مني، ولم يخطر لواحد منهم، أو لم يستطع واحد منهم أن يسعى ببعض هذا الحديث إلى محمد فيسأله عنه أو يحاوره فيه. وما أقل ما كنا نتحدث إلى محمد في أي شيء من الأشياء! فقد كانت قلوبنا تمتلئ هيبة له حتى ما ترتفع إليه أبصارنا وما ترقى إليه أصواتنا، إلا أن يبدأنا هو بالنظر والحديث فنجيبه، وإن أصواتنا وأبصارنا لتمتلئ حبًّا له وعطفًا عليه.

وكذلك أنفقنا أيام الرحلة إلى الشام، ما ارتفعت الظهيرة قط إلا رأيت هذين الشخصين الغريبين يسايران ابن عمك في الهواء حافِّين به، مظللين عليه، حتى إذا بلغنا بصرَى أو أردنا أن نعرض تجارتنا في سوقها، سألت محمدًا أن يأذن لي في أن أزور راهبًا تقوم صومعته غير بعيدة من السوق. وكنت قد تعودت ألا آتى بصرَى إلا ألممت به قبل أن أعرض تجارتي! لأني أجد من قلبي إليه ميلًا، وأنتظر من زيارته بركة وخيرًا، وأنا رجل نصراني كما تعلمين يا سيدتي، أحب الرهبان، وأُكبر الأحبار. فيأذن لي محمد في أن ألمَّ بصومعة صاحبي، وينتظرني في ظل شجرة قريبة من الصومعة. وما أخفي عليك يا مولاتي أني كنت أريد أن أسأل «نسطور» الحبر عما رأيت من أمر محمد هذا! فقد كنت أخشى على نفسي الجنون، وأخاف أن يكون قد مستها طائف من الشيطان. وكنت أريد أن أستعين ببركة هذا الشيخ على البراءة من هذه العلة الطارئة والمحنة العارضة. ولكني لا ألبث أن أستبشر ويمتلئ قلبي غبطة وحبورًا. فما أكاد ألقى «نسطور» وأبدؤه بالتحية حتى يسألني عن صاحبي هذا الذي جلس في ظل تلك الشجرة: من هو؟ فما أكاد أذكر اسمه حتى يسألني: أفي عينيه حمرة لا تفارقها؟ فما أكاد أجيبه أن نعم، حتى ينظر إليَّ مشرق الوجه ويقول لي مبتهجًا لا يكاد يملك نفسه من الفرح: إنه لنبي هذه الأمة؛ فما جلس قط تحت هذه الشجرة إلا نبي.

ومهما أكن ساذجًا، ومهما أكن قليل العلم، فإن حديث «نسطور» لم يملك عليَّ نفسي ولم يقنعني! فأنا أسأله ضاحكًا: ما علمك بذلك؟ شجرة قائمة منذ عهد قريب أو بعيد قد امتدت غصونها، فأظلت جانبًا من الأرض. فما أكثر الذين يأوون إليها، ويستظلون بها إذا اشتدت حرارة الشمس!

قال «نسطور» باسمًا وقد وضع يده على كتفي: «أتذكر أنك رأيت هذه الشجرة عام أول؟»

قلت: «ما أدري، وما أكثر ما رأيت من الشجر، وما أنا بقادر على أن أحصي منها كل ما رأيت.»

قال «نسطور»: «أتذكر أنك رأيتها حين أقبلت على بصرى مع الصباح؟»

قلت: «ما أدري! ولكني رأيتها حين أوى إليها سيدي.»

قال «نسطور»: «فإذا انطلقت مع سيدك إلى السوق لتعرضا تجارتكما، فتخلف عنه وعد إلى مكان هذه الشجرة؛ فإن رأيتها حيث تراها الآن فاعلم أني لم أصدقك الحديث، وإن لم ترها فهذا تأويل ما قلت لك.»

ثم اتسعت ابتسامة «نسطور» على ثغره، وقال: «ومع ذلك فما لك لا تسأل رفاقك من أصحاب العير على هذه الشجرة! فما رآها منهم أحد، وما يراها الآن منهم أحد.»

قلت: «لا والله، لا أسألهم عن شيء بعد الذي لقيته منهم في أثناء الطريق.»

قال «نسطور» وهو يضحك: «والذي ستلقاه منهم في أثناء القفول. إن لصاحبك هذا لشخصين موكلين به يظللان عليه إذا اشتدت الهاجرة.»

قلت: «وتعلم ذلك؟»

قال: «لم أستكشفه يا بني، ولكني أجده عندنا في الكتب، وقد سمعته من أحبارنا ورهباننا. فارْعَ سيدك، وأخلص له الحب، واصدُقْ في العناية به؛ فإني لأوَدُّ لو أن لي أن أقوم منه مقامك. ولكن لله حكمة بالغة، والله يدبر الأمر ويجريه كما يريد لا كما نريد.»

قلت: وقد كدت أطير فرحًا: «لأسرعنَّ إلى محمد فلأنبئنه بما تقول.»

قال وهو يضحك في شيء من الحزن الهادئ العميق: «حاول من ذلك ما شئت! فلن تستطيع، ولن يستطيع أحد أن يتحدث إلى محمد منه بشيء. إن الله يدبر الأمور ويجريها كما يريد لا كما نريد. ولن ينبئ محمدًا بما كتب الله له من كرامة، وما خبأ له الغيب من عظائم الأمور أحد من الناس، وإنما الله وحده هو الذي ينبئه بذلك متى أراد وكيف أراد.»

وأنصرف عن «نسطور» يا سيدتي، وفي نفسي أن أتحدث إلى محمد بما رأيت وما سمعت على رغم ما زعم لي «نسطور» ولكني لا أكاد أبلغه حتى يتصل بينه وبيني حديث التجارة دون غيره من الأحاديث. ونمضي إلى السوق، وأخالف عن محمد حينًا فأعود إلى الصومعة لأنظر إلى الشجرة فلا أرى شجرة ولا شيئًا يشبه الشجر، وإنما أرى «نسطور» قائمًا أمام صومعته ينظر إليَّ ويضحك لي، ثم يتولى إلى صومعته وعلى وجهه بعض الكآبة والحزن. وأسرع إلى محمد فأبلغه في السوق، وإن بينه وبين أحد النصارى لخصومة واختلافًا في بعض الأمر، والنصراني يسأل محمدًا أن يقسم باللات والعزى، فإذا محمد يجيبه في صوت هادئ ما سمعت قط شيئًا يشبهه عذوبة ولينًا: «ما حلفت بهما قط، وإني لأمرُّ بهما فأعرض عنهما.» فيقول النصراني له: «القول قولك.» ثم يتحول إليَّ فيهمس في أذني قائلًا: «هذا والله نبيٌّ تجده أحبارنا منعوتًا في كتبهم.»

وقد علمت يا سيدتي ما أتاح الله لتجارتك من ربح، ولمالك من نماء.

وقد قفلنا إلى مكة فأرى من محمد في أثناء القفول ما رأيت في أثناء الشخوص. ولكني أنعم بذلك ولا أعجب له، وأكتم ذلك في نفسي، ولا أفضي به إلى أحد، وقد اطمأننت إلى عقلي، ووثقت بصوابي. حتى إذا بلغنا مرَّ الظهران قلت لمحمد: تقدم فاسبقني إلى خديجة، فأنبئها بما أتاح الله لها من الخير على يديك! فإنها تعرف لك ذلك.»

ولم يقع في نفس خديجة قبل ذلك اليوم حديث موقع ذلك الحديث. ولم يحس قلب خديجة قبل ذلك اليوم سرورًا مثل هذا السرور الذي تجده. ولم يشرق وجه خديجة قبل ذلك اليوم كهذا الإشراق الذي يشهده ميسرة فيمتلئ قلبه به إعجابًا يوشك أن يكون فتونًا.

ولكن خديجة تملك نفسها وتضبط أمرها، وتقول لمولاها في هدوء وحزم: «لقد رأيتُ بعض ما رأيت، وأبصرت هذين الشخصين يظللان على محمد حين أقبل عليَّ منذ حين. ولقد أنبأني بربح تجارتي ونماء مالي، فسمعت منه وأثنيت عليه، ولكني لم أعرف له ذلك كما قدرت. اذهب إلى ابن عمي ورقة بن نوفل، فأنبئه بأني أود لو أراه، ثم أخرج للفقراء والبائسين حقهم من هذا المال الذي رجعت به من الشام.»

٤

وكان ورقة بن نوفل حازمًا عازمًا رجلَ صدْق! قد شهد مواطن قريش، وشارك في مفاخرها ومآثرها. ولكنه أنكر في نفر من قومه أولي حزم وعزم، وأصحاب فقه وبصر بالأمور، ما كانت عليه قريش من باطل وجهل، وما كانت تمعن فيه من عبادة هذه الأوثان التي لا تملك لها نفعًا ولا ضرًّا، ولا تغني عنها من الله شيئًا. وكان قد أجمع مع أصحابه أن يُعرضوا عن غيِّ قريش وباطلها، وأن يلتمسوا الخير لأنفسهم ما وجدوا إليه سبيلًا. وكان قد رحل مع صديقيه زيد بن عمرو وعثمان بن الحويرث إلى بلاد الروم يلتمسون فيها الدين الصحيح، ويبغون فيها لأنفسهم خيرًا.

فلما تحدثوا إلى الأحبار والرهبان وسمعوا منهم، مال ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث إلى دين المسيح فآمنا، وشكَّ زيد بن عمرو.

ولكن ورقة بن نوفل إن أحب النصرانية وأمعن فيها فقد كان لقومه محبًّا، ولوطنه مؤثرًا، وعلى ما ألف من عاداته المحمودة وسننه الكريمة حريصًا؛ فلم يمعن مع صاحبه عثمان بن الحويرث في بلاد الروم، ولم يذهب إلى قسطنطينية، وإنما حفظ من النصرانية ما حفظ، ووعى من علم الأحبار والرهبان ما شاء الله أن يعي، ثم عاد بهذا كله إلى مكة، فأقام فيها آمنًا وادعًا، فارغًا لدينه ونفسه، لا يعرض لأحد، ولا يحب أن يعرض له أحد. وعرفت قريش ذلك فأحبته وآثرته بالكرامة، واستشارته فيما كان يحزبها من أمر، وأطاعته فيما كان يعرض عليها من رأي. وكان أصفياؤه وذوو خاصته يقدرونه ويُكبرونه، ولا يكادون يصدرون في تدبير أمورهم إلا عن مشورته.

فلا غرابة في أن تفكر ابنة عمه خديجة في أن تسأله عما رأت وما سمعت من هذه الأحداث العظام والآيات الكبار، وهو الذي انتهى إليه علم أهل الكتاب في مكة. ولعل خديجة كانت تريد أن تسأله في أكثر من ذلك لو أنها تعمقت دخيلة نفسها الطاهرة، وعرفت أسرار قلبها الكريم! ولكنها حين أرسلت تستزيره لم تكن تريد إلا أن تعلم منه علم هذه الآيات.

وقد أقبل عليها ورقة مع الليل معتذرًا من إبطائه عليها بما كانت تعلم من اشتغال قريش بعودة العير، وانصراف أهل مكة إلى ما كانوا ينصرفون إليه في هذا اليوم من ألوان الفرح والمرح والابتهاج، وما كان يجب على المقيمين في مكة من الإلمام بالعائدين إليها.

فلما استقر المجلس بورقة قالت له خديجة: «إن عندي أنباء قد أهمتني أمرها، وما أرى إلا أنه يهمك كما أهمني، ولعله يعنيك أكثر مما عناني.»

قال ورقة: «وما ذاك؟»

قالت: «فإنك تعلم أني أرسلت في تجارتي هذا العام محمد بن عبد الله.»

قال ورقة: «نعم! وقد يظهر أن شئونًا غريبة عرضت له في بعض الطريق.»

قالت خديجة: «أوعلمت؟»

قال ورقة: «سمعت من ذلك أطرافًا؛ فقد كان رفاقه يتحدثون بأمر ميسرة وبما كان يزعم لهم؛ ومنهم من يظهر العجب لذلك، ومنهم من يمعن في إنكاره. وقد سألت ميسرة، فأفضى إليَّ بحديثه كله، وقص عليَّ ما سمع من «نسطور».»

قالت خديجة: «فإن أنبأتك بأني رأيت مثل ما رأى ميسرة، وبأن نسائي رأين مثل ما رأيت؟»

قال ورقة: «فإني أصدقك وأصدق نساءك، كما صدقت ميسرة حين سمعت منه هذه الأنباء.»

قالت خديجة، وقد ظهر على وجهها العجب والرضا معًا: «تصدَّقنا ولم ترَ مثل ما رأينا؟»

قال: «نعم! لأني أنتظر مثل هذه الآيات من عهد بعيد. وما رأيت راهبًا ولا حبرًا من الذين انتهى إليهم علم الكتاب فيما جبت من بلاد الروم إلا تحدث إليَّ بأن هذه القرية مبعث نبي يخرج من أهلها، وبأن زمانه قد أظلنا، وبأن بشائره قد أخذت تظهر ويقفو بعضها إثر بعض. وهم قد أقرءوني ذلك في كتبهم، وهم قد حدثوني بذلك عن شيوخهم وأساتذتهم. وما أخفي عليك يا ابنة عم أني قد أمعنت في النصرانية إمعانًا شديدًا، وأن قلبي قد تحدث إليَّ في بعض أوقاته ببعض الأمل، ولكني لم ألبث أن رجعت إلى الحزم والعزم والبصيرة! فإن لهذا الرجل الذي يبعث من هذه القرية علامات وآيات، منها ما يلزمه ولا يفارقه، ومنها ما يسعى بين يديه. وليس لي من هذه العلامات والآيات حظ، فأنا أنتظر كما ينتظر غيري من علماء أهل الكتاب. ولو أن ميسرة لم يحدثني إلا بما رأى لكنت خليقًا أن أصدقه وأن آمنه على هذا الحديث. فقلبه أدنى إلى السذاجة، وعقله أدنى إلى السماحة، وطبعه أقرب إلى السهولة واليسر من أن يتكلف الكذب، أو ينتحل الحديث، أو يدبر المكر تدبيرًا. ولكنه لم يحدثني وحده بهذا الذي رأى، وإنما حدثتني أنت به أيضًا! فقد رأيت ورأت نساؤك. على أن ميسرة قد حدثني بحديث «نسطور». وإني لأعرف من أمر «نسطور» ما أعرف، وهو رجل صالح صادق، عالم بما يأتي وما يدع، لا يقول إلا عن علم، ولا يصدر إلا عن رأي وثقة.»

قالت خديجة: «فأنت إذًا ترى لمحمد شأنًا؟»

قال: «ما أشك في ذلك. ولكني لا أدري متى يكون هذا الشأن، وإني لأنتظره، وإني لأتعجله، وإني لأريد أن أتحدث إلى محمد فيه، فلا أجد إلى ذلك سبيلًا ما لقيته قط. فما هممت بالتحدث إليه في أمر الدين إلا انعقد لساني عن الحديث، وانصرفت نفسي عما كنت أريد أن ألقي إليه.»

قالت خديجة: «وما ذاك؟ وكيف تُؤَوِّله؟»

قال: «تأويله يا ابنة عم أن الله يريد أن يستأثر بإنباء محمد بما كتب له من كرامة، وما هيأ له من أمر عظيم. وهو لا يريد أن ينبئه بذلك إلا حين يبلغ الكتاب أجله، وينتهي الأمر إلى إبانه.»

قالت خديجة: «فإني لا أفهم ظهور هذه البشائر والآيات لبعض الناس دون بعض، وانجلاء هذه الحقائق والمعجزات لبعض القلوب دون بعض.»

قال ورقة: «لو شاء الله لأظهر هذه الآيات للناس جميعًا، ولو شاء الله لما أظهر من هذه الآيات شيئًا لأحد من الناس. أترين أن الله لم يكن قادرًا على أن يقي محمدًا حر الهاجرة دون أن يرسل إليه هذين الملكين يظللان عليه؟ أترين أن الله لم يكن قادرًا أن يحجب هذه الآية عن ميسرة كما حجبها عن رفاقه الذين كانوا يسايرونه في العير، كما حجبها عن محمد نفسه في أكبر الظن؟! كلا يا ابنة عم! إن قدرة الله لأوسع من ذلك وأشمل، وإنه ليظهر من آياته ما يشاء، كما يشاء، لمن يشاء؛ لأن له في ذلك حكمة بالغة، وأربًا قد تعجز عقولنا عن فهمه وتعيا معرفتنا عن تأويله. وانظري من حولك يا ابنة عم، فما أكثر ما يتغير من الأشياء! وما أكثر ما نرى من الأمر فننكره ونعجب له! ولكننا لا نستطيع له رفضًا ولا ردًّا! لأنه الحق الواقع الذي لا نستطيع أن نماري فيه.

إنك لتعرفين من أمر عبد المطلب ما تعرفين، وما أرى أنك نسيت قصص عبد الله. وما أشك في أن ما يحيط بمحمد من غريب الأمر قد انتهى إليك كله أو أكثره. أفرأيت أسرة من قريش قد اجتمع لها مثل ما اجتمع لآل عبد المطلب، وألمَّ بها ما ألم بآل عبد المطلب؟»

قالت خديجة: «لا! وإني في ذلك لكثيرة التفكير، أعجب ببعضه، وأرثي لبعضه، وأقف من بعضه حائرة بين الإعجاب والرثاء.»

قال ورقة: «وكذلك أكثر الناس يا ابنة عم، يرون ويعجبون، ثم ينسى أكثرهم، ولا يذكر منهم إلا الأقلون.»

ثم أطرق ورقة إطراقًا طويلًا حتى خيل إلى خديجة أنه قد نسي مكانه منها ومجلسه عندها؛ ولكنه رفع إليها وجهًا قد تحدَّرت عليه بعض الدموع، وقال في صوت متهدج: «فلنرَ كما يرى الناس، ولنعجب كما يعجبون، ولكن لنجتهد في ألا ننسى؛ فإن الذكرى قد تنفع في يوم من الأيام، وهي بعدُ الخصلة التي تميز القلب الكريم.»

وهمَّ أن ينهض، ولكن خديجة استبقته قائلة: «أقم فإن حديثي لم ينته.»

قال ورقة: «أقدمي يا ابنة عم على ما تُديرين في نفسك، لا تحجمي ولا تترددي! فأنت أسعد نساء قريش، بل أسعد نساء الأرض إن أتم الله لك ما تتمنين.»

قالت خديجة دهشة: «وقد علمتَ هذا أيضًا؟!»

قال ورقة وهو ينهض: «عِمِي مساءً يا ابنة عم، وتلطفي في تدبير أمرك! فإن أحسست التوفيق لما تحبين فآذنيني بذلك! فإني أتمنى أن تكون لي يد ما في هذا الزواج الذي سيكون له في حياة الناس أسعد الأثر وأبقاه.»

٥

تحدث ابن سعد بإسناده:١ أن نفيسة بنت منية قالت: كانت خديجة بنت خويلد بن عبد العزى بن قصي امرأةً حازمة جلدة شريفة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبًا، وأعظمهم شرفًا، وأكثرهم مالًا، وكل قومها كان حريصًا على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وبذلوا لها الأموال. فأرسلتني دسيسًا إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام. فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تزوَّج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به. قلت: فإن كفيت ذلك ودُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت: خديجة. قال: وكيف لي بذلك؟ قلت: عليَّ. قال: فأنا أفعل. فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه أن ائت لساعة كذا وكذا، وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوِّجها، فحضر ودخل رسول الله في عمومته، فزوجه أحدهم.

وشهد هذا الحفل اليسير العظيم أبو طالب الذي كان يقوم دون محمد ويرعاه، وورقة بن نوفل الذي كان ينصح خديجة ويخلص لها الوفاء.

فلما أصبح الملأ من قريش غدوا إلى مجالسهم وأنديتهم من المسجد، وأخذوا في أحاديثهم. فقال قائل منهم: «ألم يبلغكم النبأ يا معشر قريش؟»

قالوا: «وما ذاك؟»

قال: «فإن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ذلك الذي كان يرعى لنا الغنم بالقراريط إلى وقت قريب، قد تزوج من خديجة بنت خويلد بن أسد.»

قال شيخ من شيوخ قريش: «ويحك يا ابن أخي! إنه لابن عبد المطلب، وإنه للأمين. وأي قريش أكفأ لخديجة من ابن عبد المطلب! وأي قريش يستطيع أن يسامي الأمين!»

١  «طبقات ابن سعد»: الجزء الأول، صفحة ٨٤، طبعة ليدن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤