الفصل الثالث

حديث باخوم

١

أخذ القوم يرفعون أيديهم عن الطعام، وجعلوا كلما تحول واحد منهم عن المائدة ممتلئًا ثقيلًا سعى هادئًا رفيقًا، لا تكاد قدماه تحملانه، كأنما أثقله ما ازدرد من الطعام والشراب، حتى إذا تخطى عتبة الدار اتخذ مجلسه أو ألقى نفسه إلقاء في هذا الميدان الفسيح الذي كان يمتد فيه البصر إلى غير مدى، والذي كان ينحدر في يسر وأناة حتى يبلغ النيل. وما هي إلا ساعة حتى كان القوم جميعًا قد أخذوا أماكنهم أمام الدار، وبدءوا حديثًا خافتًا بطيئًا متقطعًا أول الأمر، ولكنه يرتفع ويسرع ويتصل، ويزداد حظه من الارتفاع والسرعة والاتصال، كأنما كان ذلك يقدِّر بما يكون من استقرار الطعام والشراب في أجوافهم شيئًا فشيئًا، وتوفر معداتهم على الهضم قليلًا قليلًا.

وليس من شك في أن هذا النسيم العليل الذي كان يهب عليهم من الشمال رفيقًا رطبًا، قد أعانهم على هضم ما ازدردوا، ورد عليهم شيئًا من النشاط الذي كانوا في حاجة إليه، ليتصل بهم المجلس شطرًا من الليل، وليأخذوا في أسمارهم كما تعودوا أن يفعلوا كلما دعاهم صديقهم «يوحنا» إلى الطعام.

وكان «يوحنا» أكثر أهل القرية مالًا، وأعظمهم ثراء، وأوسعهم أرضًا، يعمل في زراعته الفقراء من شباب القرية الذين لا يملكون أرضًا، يفرغون لها، ويقفون جهودهم عليها. وربما احتاج في بعض المواسم والأوقات إلى عدد أكثر من هؤلاء الذين كانوا يجدهم في قريته، فيجلب العمال والفلاحين من القرى المجاورة. وقد كان بعضهم يسمع بثروة «يوحنا» وكرمه ورفقه بالعاملين في أرضه وسخائه عليهم، فيقصد إلى هذه القرية من بعيد، ليعمل عند هذا الرجل الذي لم يكن يشبه الكثير من أغنياء الإقليم وأصحاب الثروة فيه.

وكان «يوحنا» قد عوَّد نفسه البر بأهل قريته، والتوسعة عليهم بين حين وحين، لا يعرف أن أحدًا منهم قد مسه الضر، أو اشتدت عليه الحال، إلا أعانه وأغاثه وأنجده، يكتم ذلك ما وسعه الكتمان! كأنما كان يستحيي من أن يعرف الناس عنه بره وكرمه، ولكن الناس كانوا يعلمون منه ذلك ويتسامعون به. وكان صنائعه يرون من شكر الصنيعة ومعرفة الجميل أن يذيعوا إحسانه إليهم، وأياديه فيهم.

وكان «يوحنا» على ذلك لا يكتفي بهذا البر المكتوم يبذله لأهل قريته كلما احتاجوا إليه، وإنما كان يدعوهم من حين إلى حين إلى طعام عام يقدمه إليهم في أيام كانوا يرونها أعيادًا، وكانوا يستجيبون لدعوته ولا يتخلفون عنها، سواء في ذلك الميسور والمقتر عليه في الرزق، يرون ذلك نعمة منه عليهم، وحقًّا له في أعناقهم. وكانوا إذا أخذوا حظهم من الطعام والشراب فرغوا للأحاديث والأسمار فقضوا فيها شطرًا غير قصير من الليل، ثم تفرقوا موفورين محبورين، تخفق قلوبهم بالحب له، وتنطلق ألسنتهم بالثناء عليه.

وكانوا في هذه المرة في مساء يوم من أيام الآحاد، لم يجهدهم العمل، ولم يضنهم الكد، وإنما قضوا يومهم فارغين، قد خلصوا لحياتهم الخاصة، وانتظروا هذه الوليمة التي كانوا يترقبونها منذ أيام، وألموا بكنيستهم المتواضعة فأدوا صلاتهم، واستمعوا لوعظ القسيس. وكان قسيسهم شيخًا متهالكًا قد تقدمت به السن، وثقلت عليه الحياة، وأدرك عقله شيء يسير من ضعف كان ربما دفعه إلى بعض التخليط، وأغراه إلى أن يتحدث إليهم بغير الصواب. وكانوا على ذلك يحبونه ويكرمونه، ويرعون له طول عهده بهم، واتصال إقامته فيهم، وكثرة ما صنع بهم من معروف، وما أحسن الوساطة بينهم وبين الله. فكانوا إذا سمعوا منه بعض التخليط ابتسموا مشفقين عليه رفيقين به. وربما قسا عليه شبابهم من حين إلى حين، فأظهر شيئًا من سخرية، وأعلن شيئًا من اعتراض. وكان القسيس يلقى من أهل القرية حبًّا بحب، ووفاء بوفاء. وما له لا يفعل وشيوخ القرية إخوته الصغار، وشباب القرية أبناؤه الذين شهد مولدهم، وقدس زواجهم، وتلقى أبناءهم على اختلاف أسنانهم؛ منهم من لا يزال في المهد، ومنهم من جعل يدرج! ومنهم من أخذ يختلف إلى الحقول. ولم تكن قسوة الشباب عليه تؤذيه أو تبلغ نفسه الطيبة وقلبه الحليم، وإنما كان يلقاها بكثير من العفو والإسماح. وربما مكر بالشباب مكرًا فدفعهم إلى أن يعبثوا به ويقسوا عليه بعض الشيء؛ يرى في ذلك دعابة تسرُّه وتسر من حوله من أبنائه وأحبائه.

فلما أخذ القوم في حديثهم تلك الليلة بعد العشاء، انبرى شاب من شباب القرية كان معروفًا بالدعابة وخفة الروح، فقال للقسيس في هزل يشبه الجد: «لقد روَّعتنا يا أبانا منذ اليوم بما قصصت علينا من حديث الشيطان وما عرضت علينا من صوره الغريبة البشعة! فما قدرتُ قط أن للشيطان هاتين الأذنين الطويلتين، وهذين القرنين المحددين، وهذه الأرجل الثمان التي قسمت بين ظهره وبطنه، والتي تتيح له أن يسعى مرة ووجهه إلى الأرض وأن يسعى مرة أخرى ووجهه إلى السماء.»

قال فتى آخر من فتيان القرية: «فقد كان ينبغي أن تكون له أرجل ثمان أخرى: أربع منها عن يمين، وأربع منها عن شمال! ليستطيع أن يسعى على أي جنبيه شاء، كما يستطيع أن يسعى على بطنه حينًا، وعلى ظهره حينًا آخر.»

قال فتى ثالث: «وقد ينبغي أن يتاح للشيطان أن يسعى على قرنيه مرة وعلى ذنَبِه مرة أخرى.»

قال فتى رابع: «فأنتم تريدون أن يكون الشيطان كله أرجلًا إذًا! فهلا تركتم من جسمه موضعًا للجناحين! فقد ينبغي أن يكون له أجنحة يطير بها في الهواء، لينقل الشر بها في أقصر وقت وأيسره من قطر من أقطار الأرض إلى قُطر، ومن جيل من أجيال الناس إلى جيل.»

وتضاحك القوم جميعًا، فأغرقوا في الضحك، ولم يكن قسيسهم الشيخ أقلهم ضحكًا. ولكن الفتى الأول اتجه إلى أبيه القسيس الشيخ وقال في صوت غليظ وضحك عريض: «أرأيت الشيطان قط يا أبانا؟ وعلى أي شكل من هذه الأشكال رأيته؟»

قال القسيس الشيخ في صوت هادئ نحيف يبطئ به الكبر، ويكاد يهده الضحك هدًّا: «لم أرَ الشيطان قط يا بني، وما ينبغي لمثلي أن يراه، وأعوذ بالله لكم من أن نراه. وما حدثتكم من أمره إلا بما قرأت في الكتب، وسمعت من الأساتذة والمعلمين، وسمعت من أحاديث الناس أيضًا. ومهما نصوِّر من بشاعة الشيطان وقبح منظره، فلن نبلغ منهما شيئًا! فهو أبشع من كل ما نظن، وأقبح من كل ما نصور، لا في شكله وخلقه فحسب، بل في رأيه وعمله أيضًا، وفي مشورته وما يوسوس به إلى الناس بنوع خاص.»

وهنا تكلم «باخوم» فخفتت الأصوات، وأنصت الناس. وكان «باخوم» شيخًا من شيوخ القرية، قد عرف بطول الصمت خارج الكنيسة، وكثرة الصلاة إذا كان فيها، كما عُرف بالوقار والأناة إذا تحرك أو تكلم، وكما عرف بهذه الهيبة التي كانت تفيض على وجهه، وهذه المحبة التي كانت تجذب إليه الناس.

وكان «باخوم» رجلًا قد طوف في الأرض أول شبابه فأكثر التطويف، ولم يكن يلمُّ بقريته إلا ليمكث فيها العام أو بعض العام، ثم يرتحل عنها فيغيب عنها الأشهر حينًا، والعام حينًا آخر. وربما امتدت غيبته فبلغت العامين، ولكنه كان ينتهي دائمًا بالعودة إلى قريته والإقامة فيها حينًا، وكان لا يعود إلا ومعه فضل من مال يبرُّ به خاصته وذوي قرباه، ويحسن به إلى الفقراء والبائسين، وشيء من الطرف النادرة يتحف به الأغنياء وأصحاب اليسار.

وكان قد نشأ عاملًا يرافق البنائين حتى تعلَّم صناعتهم، وأحسن من فنونهم ما يحسن أهل القرى. وكأن ذلك لم يكفه ولم يغنه، فارتحل إلى المدن فجوَّد فنه شيئًا، ثم أخذ يتنقل بفنه من مدينة إلى مدينة، ومن إقليم إلى إقليم حتى جاب أرض مصر كلها. وكان كلما أحسن من فنه شيئًا طمع في أن يضيف إحسانًا إلى إحسان، ويرقى بفنه من طور إلى طور، حتى تسامع الناس به، ودعاه الأغنياء وأصحاب الثراء، في إقليمه وفي غير إقليمه! ليشرف على ما كانوا يريدون أن يشيدوا من الدور والقصور. وكأنه قد عرف ما كان عند المصريين من فن البناء، وحذق من ذلك ما كانوا يحذقون. ثم لم يكفه ما عرف، ولم يرضه ما أتقن، فأبعد في الرحلة، وتجاوز مصر إلى غيرها من البلاد المجاورة. ولكنه استبقى عادته وحفظ لقريته عهدها، فكان يبعد في الرحلة ويطيل الغيبة، حتى يستيئس أهل القرية من عودته، ويظنوا أنه قد هلك في بعض الطريق، أو عدت إليه عاديات الدهر في بعض أقطار الأرض. ولكنهم يرونه ذات يوم وقد أقبل عليهم مع الصباح أو مع المساء، هادئ النفس دائمًا، وقورًا في حركاته وكلامه دائمًا، طويل الصمت خارج الكنيسة، كثير الصلاة إذا كان فيها، يحمل فضلًا من مال يبرُّ به الفقراء والبائسين، وشيئًا من الطرف يتحف به الأغنياء والموسرين. وقد كان أول أمره يحب الفن ويَكلفُ بالعمارة والبناء، ولكنه إلحاحه في السفر وتجويبه للآفاق قد أضافا إلى هذا الحب الفني شيئًا آخر؛ هو حب الرحلة في نفسها والكلف بزيارة البلاد المختلفة، والإلمام بالأجيال المتباينة من الناس. فكان يرتحل للبناء أول الأمر، ثم أصبح يرتحل لا لشيء إلا لأن نفسه لا تستطيع أن تسلو عن الرحيل. وكان في أول أمره ينتهز الفرص ويتلمس العلل والمعاذير لما كان يزمع من رحلة، أو يعتزم من سفر؛ فكان يصحب القوافل إلى هذا الوجه أو ذاك من وجوه الأرض. ولكنه انتهى آخر الأمر إلى أن يستقل بتدبير أمره ويهيئ أسفاره، لا يلتمس لذلك علة، ولا ينتحل له معذرة، ولا يصحب هذه القافلة أو تلك، وإنما يعود من رحلة إلى بلد، فلا يكاد يستقر في قريته حتى ينبئ الناس بأنه مرتحل إلى بلد آخر، يسميه لهم تسمية العالم به، الملم من أمره بما لا يعرفون.

وقد عاد إليهم ذات مرة من بعض أسفاره في بلاد الروم. فلما أقام فيهم شهرًا أو بعض شهر أنبأهم بأنه يريد أن يركب هذا البحر الذي لا يركبه الناس إلا قليلًا، وأن يرى ما ينبثُّ على سواحله من المدن، ومن يعيش حوله من أجيال الناس. وقد سمع من أمر هذه الأجيال وتلك المدن أعاجيب، منها ما يقبله العقل، ومنها ما لا يستطيع الإنسان له تصديقًا. وهو يعلم على كل حال أن شرقيَّ هذا البحر، وغير بعيد من ساحله، تقوم مدينة قديمة، يسكنها قوم صالحون يعرفون المسيح، ويؤمنون به، ويُخلصون لدينه. وقد امتحنوا في دينهم بأعظم الشر وأشنع النكر، فصبروا على المحنة، وثبتوا للخطب، واصطلوا النار التي حرَّقهم بها اليهود تحريقًا. وهو يعلم أن قيصر قد رقَّ لهؤلاء الناس، وغضب لما أصابهم من الشر، فأنجدهم وأغاثهم وثأر لهم من اليهود. وهو يريد أن يزور هذه المدينة، ويرى هؤلاء الناس الصالحين الذين عذِّبوا في الدين، ويود لو استطاع أن يقيم لهم كنيسة، ويترك في مدينتهم تلك أثرًا يتقرب به إلى الله.

وكان أهل القرية يسمعون حديثه، فمنهم من يزين له المضي فيما عزم عليه، ومنهم من يصده عن ذلك ويرغبه في لين العيش واستقرار الحياة. ولكنه كان يسمع لأولئك وهؤلاء، ولا يرد على أولئك ولا على هؤلاء رجع الحديث، وإنما كان يمضي في تدبير أمره كما قدر هو، أو كما قدر الله له، لا كما أراده الناس عليه.

وأصبح القوم ذات يوم فإذا «باخوم» قد تهيأ للرحلة كما تعود أن يفعل، وإذا هو يفارقهم، فتتصل غيبته وتتصل، وتمضي الأعوام دون أن يسمعوا من أمره شيئًا، حتى يستيئسوا من عودته، ثم تمضي الأعوام وقد تسلوا عنه وكادوا ينسونه، وجعلوا لا يتحدثون عنه إلا قليلًا، وجعلوا إذا ذكروه رقت أحاديثهم عنه، وحسن ذكرهم له، وكثر إشفاقهم عليه، كدأب الناس حين يذكرون فقيدًا كريمًا كانوا يحبونه ويؤثرونه، ثم حالت بينهم وبينه الخطوب، فأخذوا يتعزَّون عنه ويذكرونه ذكرًا جميلًا.

ثم يتسامع أهل القرية ذات يوم بأن «باخوم» قد عاد إليهم بعد أن غاب عنهم عشر سنين، فينكرون أول الأمر، ثم يعرفون بعد أن يروا صاحبهم كعهدهم به، إلا أن السن قد تقدمت به، وظهر أثر ذلك في هذا الشيب الذي جلل رأسه، وفي هذا الهدوء الذي عظم حظه منه، وفي هذا الصمت الذي اشتد إمعانه فيه، وفي شيء آخر جديد لم يكونوا ينتظرونه منه؛ وهو إعلانه إليهم أنه لن يرحل عن قريته بعد هذه المرة! بل سيظل بينهم يشاركهم في الحياة حتى يقضي الله فيه بما يشاء.

٢

وكان أهل القرية يكلفون بحديث «باخوم» ويشغفون بالاستماع له. وليس من شك في أن أولي الجد منهم كانوا ينتظرون أن تنقضي هذه الدعابة بين الفتيان وأبيهم القسيس الشيخ ليطلبوا إلى «باخوم» أن يطرفهم بشيء من أنباء رحلته الطويلة الأخيرة! فإنه لم يقصَّ عليهم منها شيئًا.

ولم يطمئن أهل القرية قط إلى محدِّث أو قاصٍّ كما اطمأنوا إلى هذا الرحالة من أبناء قريتهم! فقد كانوا يعرفون فيه الصدق والأمانة والتواضع والاعتدال، ولم يعرفوا قط أنه تزيَّد أو تكثر أو اعتز بما رأى — وما كان أكثر ما رأى! — وبما شهد، وما كان أكثر ما شهد، فلما سمع أهل القرية صوته تدانوا منه، وأصغوا إليه، وكف الفتيان عن دعابتهم، وردوا ضحكهم إلى صدورهم ولم يتموه.

وكان «باخوم» يتكلم بصوت هادئ، غليظ بعض الشيء، عميق أشد العمق، كأنه يأتي من أقصى ضميره، فكانت الكلمات التي يحملها هذا الصوت الرزين العميق إلى آذانهم لا تكاد تبلغ آذان القوم حتى تنفذ منها مسرعة إلى قلوبهم، وتستقر فيها وتملؤها عجبًا وإعجابًا.

قال باخوم: «أما أنا فقد رأيت الشيطان، ما أشك في ذلك ولا أرتاب. ورأيته في قصة غريبة وقعت لي في رحلتي هذه الأخيرة منذ عامين.» ثم سكت قليلًا. ثم استأنف حديثه قائلًا: «نعم! منذ عامين، وقد امتلأت بها نفسي حتى كأنها لم تقع إلا بالأمس، وقد اتصل بها قلبي فطمع في تجددها أشد الطمع، ورجا تكررها أشد الرجاء، حتى كأنها ستكون غدًا. وهي آخر ما رأيت من أسفاري من عجيب الأمر. وما أرى إلا أنها آخر ما سأرى في حياتي من عجيب الأمر، إلا أن تمتد بي الأيام إلى أكثر مما أقدِّر وما يقدِّر أمثالي لأنفسهم من السن.

وما أشد ما أتمنى ذلك! وما أشد ما أحرص عليه! لا لأني أحب الحياة أكثر مما يحبها الناس، أو أرغب في البقاء أكثر مما يرغب فيه الناس، بل لأني موقن بأن لهذه القصة شأنًا، وبأنها قد أنبأت عن شيء سيكون. وما أشد شوقي إلى أن أشهد تحقيق هذا النبأ، وظهور هذا الحدث العظيم!»

وتصور أيها القارئ أثر هذه الجمل التي كانت تصدر عن «باخوم» ملتهبة، فتحرق قلوب المستمعين له تحريقًا. تصور أثر هذه الجمل في تشويق أهل القرية إلى هذه القصة التي سيطرفهم بها هذا الشيخ. وإنهم ليريدون أن يتعجلوه، ولكنه مطرق مغرق في الصمت، وقد اتصلت أبصارهم به، وتعلقت قلوبهم بشفتيه. ولبث هو في صمته حينًا، وقد سكن الليل وسكت النسيم، كأنما تريد الأرض والسماء، وهذه النجوم المتألقة، وهذا النيل الذي يسعى هادئًا من بعيد، أن تسمع له وتستمتع بحديثه، كما يستمتع له الفلاحون في قرية من قرى الصعيد.

قال باخوم بعد ساعة: كان ذلك منذ عامين حين انتهت بي الأسفار إلى مكة! تلك القرية التي تسمعون ذكرها أحيانًا حين تفد علينا قوافل قريش تحمل إلى مصر تجارة اليمن والهند. فقد ألممت بها، وإن لي من أهلها لبعض الصديق، وكنت أريد أن أقضي فيها أشهرًا، ثم أرحل مع قافلتهم إلى اليمن لأبلغ تلك المدينة الصالحة التي يسكنها قوم صالحون قد فتنوا في المسيح، فصبروا على الفتنة، وكنت أريد أن أقيم لهم كنيسة وأترك فيها أثرًا باقيًا.

فما أقضي في مكة شهرًا وبعض شهر حتى يتوسل إليَّ بعض الصديق من قريش في أن أبني له دارًا، فلا أمتنع عليه، وإنما أجيبه إلى ما أراد، وفاءً ببعض ما بيننا من المودة، وأداءً لبعض ما لهؤلاء الناس عليَّ من حق. وقد صحبتهم في سفر شاق بعيد، فحموني وحاطوني ورفقوا بي ووفوا لي بذمتهم، وأكدوا لي صادقين أنهم سيبلغونني نجرانَ إذا ارتحلوا إلى اليمن، وسيردونني إلى مأمني إذا عادوا إلى بلاد الروم. فلم يكن بدٌّ إذًا من أن أستجيب لصديقي، فأقيم له داره التي أراد أن يبنيها. وما هو إلا أن يكون التنافس بين القوم! فهؤلاء نفر من سراتهم وعظمائهم يتوسلون إليَّ في مثل ما توسل إليَّ ذلك الصديق فيه. وكلهم يعظم لي الأجر، ويهدي إليَّ ما استطاع من الخير. وإني لفي ذلك أجيب منهم من أستطيع إجابته راضيًا مسرورًا بإرضاء هؤلاء القوم الكرام، وبمعاودة المهنة بعد أن طال إهمالي لها وإعراضي عنها، وإذا خاطر يخطر للملأ من قريش ذات ليلة وهم يسمرون، فيفكرون فيه ثم يفكرون، ثم يستأنون به، ثم يعودون إليه، ثم يؤخرونه، ثم يستأنفون النظر فيه، ثم يُفضون إليَّ به على أنه شيء يريدونه وتتمناه قلوبهم، ولكنهم لا يجرؤن عليه. يُشفقون أن يكون في الإقدام عليه ما يغضب آلهتهم، ويجر عليهم ما يكرهون. رأوا بيتهم ذاك الذي يقدسونه ويعبدون ربهم فيه قد طال عليه العهد، وبعدت به الأيام، وظهر عليه الوهن، وتعرض لأخطار السيل، واجترأ عليه اللصوص فسرقوا بعض ما فيه من متاع، فتساءلوا: ألا يكون من الخير أن يهدموا بناءه هذا القديم، ويقيموا لربهم بيتًا جديدًا فخمًا متينًا، يلائم مكانته في قلوبهم، ويلائم ثروتهم هذه التي تزداد من يوم إلى يوم، ويلائم هذه الدور التي أخذوا يقيمونها لأنفسهم فخمة متينة، قد يُسرت لهم فيها أسباب الترف والنعيم؟ ولكنهم يفكرون ولا يعزمون، يخشون ألا يرضى ربهم عما لا بد لهم منه من هدم البيت إن أرادوا له تجديدًا. وكان يزيد خوفهم وإشفاقهم ويملأ قلوبهم فزعًا وهلعًا كلما هموا بالإقدام أن حية كانت تظهر كل يوم، فتسعى على جدران البيت صاعدة هابطة دائرة من حوله، وكان منظرها بشعًا مخيفًا، وكانت إذا دنا منها دان اتخذت شكلًا رهيبًا، لا يراه من يدنو منها حتى يرتد عنها مذعورًا. فكانوا يخشون أن تكون هذه الحية حارسًا لهذا البناء، وكانوا يقدرون أنهم إن أتموا رأيهم وأنفذوه لم يدنوا من البيت ليأخذوا في الهدم حتى تردهم عنه مدحورين. وإنهم لفي أنديتهم حول البيت ذات يوم وإذا الحية قد خرجت من مخبئها، وجعلت تزحف كدأبها، وجعلوا هم ينظرون إليها مروعين، وإذا عقابٌ تهوي من السماء فتأخذ الحية من ذنبها، ثم ترتفع بها في السماء وهم ينظرون ويعجبون، وقد غابت عنهم العقاب. فما يشكون في أن ربهم قد أذن لهم في أن ينفذوا ما عزموا عليه. وقد أحسوا بعد هذا الحادث شجاعة وإقدامًا، وجعلوا يديرون أمرهم بينهم، ويدبرون ما لا بد من تدبيره لبناء هذا البيت.

وإنهم لفي ذلك وإذا الأنباء تصل إليهم ذات صباح بأن سفينة من سفن الروم قد طغى عليها البحر، وعبث بها الموج، وقصفت بها الريح ثم دفعتها إلى الساحل القريب. فيسرعون إلى البحر، وأسرع معهم، ويرون السفينة وقد عطبت، واضطر أهلها من الروم والمصريين إلى أشد الخوف وأعظم الهلع؛ لأنهم دفعوا إلى غير مأمن، ووقعوا إلى أرض ليس لهم فيها جار. ولكن قريشًا يلقون أصحاب السفينة أحسن لقاء، ويؤمنونهم على أنفسهم وأموالهم، ولا يرضون حتى يشتروا منهم هذه السفينة التي أدركها العطب، ويقولون لي: «فإنا نستطيع أن نتخذ من خشب هذه السفينة لبيت ربنا سقفًا.» ولم يرتابوا بعد ذلك في أن ربهم قد أذن لهم بهدم البيت وتجديده. ألم يرسل العقاب إلى تلك الحية فتخطفها! ألم يرسل إليهم هذه السفينة ليتخذوا منها للبيت سقفًا! ألم يرسلني أنا إليهم لأبني لهم هذا البيت كما نقيم البناء في مدن الروم!

وكذلك تمت كلمتهم على إنفاذ ما دبروا. ولم أتردد أنا في أن أكون من بناء البيت عند ما يحبون. وكنت أنظر إليهم وإلى ما كانوا يرون ويقدرون في شيء من العطف عليهم والابتسام لهم؛ فهم أصحاب سذاجة لم يألفوا من الحضارة ما ألفنا، ولم يبلوا من خطوب الأيام ما بلونا. فأيسر شيء يدفعهم إلى التفاؤل، وأيسر شيء يردهم إلى التشاؤم، وأيسر شيء يدعوهم إلى الإقدام، وأيسر شيء يضطرهم إلى الإحجام. ولكني لم ألبث أن أحسست ما يحسون من روع، وشاركتهم فيما كان يملك قلوبهم من تردد واضطراب. حضرتهم ذات يوم وقد أطافوا ببيتهم، وجعل بعضهم يؤكد لبعض تقادم العهد به، وإلحاح الزمان عليه، وحاجته إلى التجديد، ويسعى شيخ من شيوخهم حتى يمس حجرًا من أحجار البيت ناتئًا بعض الشيء، فيجذبه بيديه فينجذب، وقد بعد الشيخ بهذا الحجر عن البيت شيئًا وهو يحمله في يده. ولكن ماذا نرى؟ نرى هذا الحجر يفصل عن يد الشيخ، ويمضي وحده في الهواء حتى يرتد إلى مكانه من البيت كأحسن ما يمكن أن يستقر في موضعه. ولست أخفي عليكم أني لم أكن أقل القوم ارتياعًا واضطرابًا حين رأيت هذا المنظر البديع، بل ما أشك في أني كنت أشدهم ارتياعًا واضطرابًا، وأعظمهم حيرة، وأعجزهم عن الفهم والتأويل. ذلك أن هذا الحدث قد روعهم شيئًا، ولكنه لم يذهب بصوابهم، ولم يخرجهم عن أطوارهم. وما أسرع ما فهموا، وما أحسن ما أولوا! فقد قال قائلهم: يا معشر قريش أقدموا على أمركم، ولكن احذروا أن تنفقوا في هذا البناء مالًا حرامًا، لا تدخلوا فيه من كسبكم إلا طيبًا. لا تدخلوا فيه مهر بغي، ولا بيع ربًا، ولا مظلمة أحد من الناس.

ثم غدوا إلى البيت يريدون هدمه، وقد صمموا على ذلك، ولكنهم على تصميمهم لا يجرءون، فيندبون شيخًا منهم فيرقى إلى البيت، ويبدأ في الهدم وهو يقول في لهجة ساذجة كان لها في نفسي أبلغ الأثر وأبعده: «اللهم لا تُرع، إنما نريد الخير.» وكان القوم ينظرون إليه معجبين به، مشفقين عليه من إقدامه دون أن يشاركوه فيما أخذ فيه، وإنما أجمعوا أمرهم بينهم أن ينتظروا ليلتهم حتى إذا أصبحوا رأوا! فإن كان قد نزل بالشيخ مكروه أو ألم به خطب، علموا أن ربهم غاضب، فأصلحوا ما هدم الشيخ وتركوا البيت على حاله، وإن غدا عليهم سالمًا موفورًا علموا أن ربهم راض، فمضوا في الهدم وأقاموا البناء.

وأصبح الشيخ سليمًا معافًى، فغدا على عمله وغدوا معه، حتى هدموا البيت. ثم جعلوا يجمعون الأحجار يسعون في جمعها بأنفسهم لا يستأجرون لذلك أحدًا، ولا يكلون ذلك إلى رقيق، يرون النهوض بذلك حقًّا عليهم وشرفًا يبقى لهم في أعقابهم. وأخذت أنا أبني لهم البيت أقيمه على أسسه القديمة التي لم يمسوها.

ولهم في هذا البيت حجر يعظمونه ويكرمونه، ويرونه هبة لهم من ربهم. فلما بلغ البناء إلى حيث يجب أن يوضع الحجر اختلف القوم بينهم: أيهم يضعه موضعه! فكلهم ابتغى لنفسه هذه المأثرة، وكلهم حرص عليها أشد الحرص! وإذا اختلافهم يستحيل إلى خصومة، وإذا خصومتهم تبلغ من الشر إلى أقصاه، وإذا هم يتلاحون ويتناذرون، ويؤذن بعضهم بعضًا بالحرب، وقد وقف البناء، وفسد الأمر بين القوم فسادًا عظيمًا. وأقاموا على ذلك أيامًا وليالي، وتحالف بعضهم على الشر، فجاءوا بجفنة قد ملئوها بالدم وغمسوا فيها أيديهم وهم يقسمون. ليستأثرن بهذا الشرف أو ليموتن من دونه. ثم يجتمع الملأ منهم صباح يوم فيتناهون ويتناصحون، ثم يشير عليهم شيخ منهم بأن يُحكِّموا في هذه الخصومة أول داخل عليهم من باب من أبواب المسجد، يسمونه باب بني شيبة. فلا يلبثون أن يدخل عليهم من الباب رجل شاب لم يروا أجمل منه طلعة، ولا أعظم منه هيبة، ولا أحسن منه سيرة في قومه. سمعت من أنبائه الشيء الكثير، ولكني استيقنت أنه رجل عظيم الخطر حين رأيتهم ينظرون إلى مقدمه مبتهجين ويصيحون: «هذا الأمين، قد رضينا. هذا محمد، قد سلمنا.» ثم يعرضون عليه الخصومة. فما رأيت وقارًا كوقاره، وما رأيت أناة كأناته، وما رأيت هدوءًا كهدوء نفسه، وما رأيت رجلًا أرفق منه بقومه، وأعطف منه عليهم، وآثر منه لهم بالخير. وانظروا إلى قضائه فيهم، فسترون كما أرى أنه لم ينتج عن تفكير إنسان، وإنما كان إلهامًا من الله.

نزع الأمين رداءه فألقاه على الأرض، ثم وضع الحجر في وسطه، ثم قال لقومه: «لينتدب من كل ربع من أرباع قريش رجل.» فلما اجتمع أربعة نفر يمثلون قومه كلهم، قال: «ليأخذ كل واحد منكم بزاوية من زوايا الرداء»، ففعلوا واشتركت قريش كلها في رفع الحجر، وتقسمت قريش كلها هذا الشرف العظيم قسمةً سواءً عدلًا، حتى إذا انتهوا إلى البناء آثره ربه بخلاصة هذا الشرف وخير ما في هذه المكرمة، فيأخذ الحجر بيده، ويضعه في موضعه، والقوم راضون فرحون، قد اطمأنت قلوبهم إلى هذا العدل، واستبشروا بما كف عنهم من الشر، وبما عصم لهم من الأنفس وحقن لهم من الدماء. وهنا استيقنت أني رأيت رجلًا هو أحب خلق الله إلى الله، وأكرمهم عليه. ولكني لم ألبث أن رأيت شخصًا يجب أن يكون أبغض خلق الله إلى الله، وشرهم عنده مكانة. كان رجلًا شيخًا حسن الطلعة، جميل المنظر، عليه وقار، وله سمة، ولم أكن قد رأيته في القوم قط، وما كان شكله ملائمًا لأشكالهم، ولا زيه مشاكلًا لأزيائهم. ولكني رأيته فجاءة لا أدري من أين جاء، أنجم من الأرض أم هبط من السماء.

أقبل هذا الشيخ النجدي يناول الأمين حجرًا يثبت به الركن الأسود في موضعه، فيقبل رجل من عمومة الأمين، فيأبى على هذا النجدي وينحيه ويدفع إلى الأمين الحجر الذي يشد به البناء. هنالك غضب الشيخ النجدي، فقال له الأمين: «إنه ليس يبني معنا في البيت إلا من كان منا.» فجعل النجدي يقول: «يا عجبًا لقوم أهل شرف وعقول، وسن وأموال، عمدوا إلى أصغرهم سنًّا، وأقلهم مالًا، فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم، كأنهم خدم له. أما والله ليفوتنهم سبقًا، وليقسمن بينهم حظوظًا وجدودًا.»

وتسمع قريش حديث النجدي فتسخط عليه وتثور به، وتريد أن تلحق به الأذى، ولكنا ننظر فلا نجد أحدًا، ونبحث فما نعرف إلى أين ذهب، كما لم نعرف من أين جاء.

ويقول قائلنا حين استيأسنا منه: «هذا والله إبليس، أراد أن تكون له في بيت ربنا يد، فرُدَّ عن ذلك مدحورًا.»

ثم سكت «باخوم»، وأطرق فأطال الإطراق، كأنه يستعيد في نفسه هذه القصة التي سحر بها قلوب سامعيه وألبابهم. ولكن القسيس الشيخ يسأل «باخوم» في صوته الهادئ المحطم: «ونجران يا بني أذهبت إليها؟ أأقمت فيها الكنيسة التي كنت تريد أن تقيمها؟»

قال باخوم: «لا يا أبانا، قنعت ببناء هذا البيت لهذا الحي من قريش. وما أدري لماذا استيقنت نفسي منذ ذلك اليوم بأن سيكون لهذا البيت ولهذا الأمين شأن.»

قال القسيس: «فإنك تسمي هذا الأمين محمدًا؟»

قال باخوم: «نعم! يسميه قومه محمدًا، ويسمونه أحمد، ويكنونه أبا القاسم، ويتحدثون عنه بالأعاجيب.»

قال القسيس في شيء من الحيرة والذهول: «أحمد! أحمد! أليس يمكن أن يكون هذا النبي الذي بشر به المسيح!»

وتفرق القوم من ليلتهم، وإن في قلب كل واحد منهم لأثرًا قويًّا باقيًا لهذا الحديث.

قال محدثي: والعجب أن أكثر المصريين يجهلون أن لهم في بناء الكعبة يدًا، وأنهم قد اشتركوا فيه، واشتركوا فيه مع الأمين الذي أصبح بعد سراجًا منيرًا، أخرج الله به الناس من الظلمة إلى النور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤