الفصل الخامس

نادي الشياطين

أطبق على الفضاء العريض ليل عريض، تكاثفت ظلماته وركب بعضها بعضًا، حتى لتوشك الأيدي أن تلمسها، وحتى لتعجز أضواء النجوم أن تنفذ من بعضها، وحتى لو رآها الناس لأنكروها، ولقال بعضهم لبعض: هذا آخر ليل تعرفه الأرض، أو هذا هو الليل الأبدي الذي لن تخرج الأرض منه ولن يمسها بعده الضوء. ولكن الناس لم يروا مثل هذا الليل العميق الكثيف شيئًا، وإنما رأوا ليلهم كما تعودوا أن يروه، يترقرق فيه ضوء القمر، وتتألق فيه أشعة النجوم. ثم كأن عمق هذا الليل وكثافته لم يكفيا ليحجبا السماء عن ذلك الفضاء العريض، فإذا قطع من السحاب تقبل من كل صوب في زمجرة وزئير حتى تلتقي وتنعقد، فتضيف عمقًا إلى عمق، وكثافة إلى كثافة، وكأن الأسباب قد قطعت في هذا الردح من الزمان بين الأرض والسماء.

في هذا الفضاء العريض القاتم الذي لا تستطيع لغة الناس أن تصف سعته وظلمته، جلس إبليس لأعوانه ومشيريه من الشياطين. وما هي إلا أن أقبلوا إليه خفافًا لطافًا، كأنما كان يحملهم نسيم من نار مظلمة. فلما انتهوا إليه وأطافوا به قال لهم في صوت خفي: «لقد علمتم ما ألم بهذه الأرض من خطب، وما نزل بأهلها من حدث، وما كان من تحولهم عما ألفنا منهم منذ قرون، فأشيروا.»

قالوا: «تكبرت أن نشير عليك، وإنما منك الأمر وعلينا الطاعة.»

قال مستخذيًا: «ما غمضت عليَّ الأمور قط كما غمضت عليَّ الآن. وما عميت عليَّ الأنباء قط كما عميت عليَّ الآن. وما عودتكم أن أسألكم عن شيء أو أستشيركم في شيء. ولولا أن الغيب قد حجب عني لأول مرة ما دعوتكم ولا استشرتكم.»

قالوا: «تكبرت! لئن حدب الغيب عنك لهو أحرى أن يحجب عنا. وإنا منذ الليلة لفي ظلمة دامسة لم نعهد مثلها قط، وإنا لنتحدث فما تكاد أصواتنا تبلغنا. ولولا أنك كبير في نفوسنا لأشفقنا ألا تبلغك أصواتنا.»

قال: «لا تراعوا ولا يخرجكم الفزع عن أطواركم! فإن أصواتكم تبلغني كما يبلغكم صوتي. وما هذه الظلمة الدامسة إلا من عملي وكيدي. فقد ألقي في روعي أن من الخطر كل الخطر أن نتشاور أو ندير أمرنا بيننا دون أن نقيم بيننا وبين السماء حجبًا كثافًا.»

قالوا: «تكبرت أن يرد عليك رأي أو يخالف لك عن أمر! فقل نستمع، وادع نستجب، ومر ننفذ إلى طاعتك أسرع مما تنفذ السهام إلى رميتها.»

قال: «على رسلكم حتى يثوب إليَّ الرسل الذين بثثتهم في أقطار الأرض، وبعثتهم في أجواز السماء ليعلموا لي علم هذا الخطب. فما أرى إلا أن حادثًا عظيمًا محدق بالأرض وسكانها.» وما أتم إبليس هذه الجملة من حديثه حتى جعل شرر دقيق سريع ينفذ من هذه الظلمات المتكاثفة في قوة، ويتبع بعضه بعضًا في عنف وازدحام، يأتي من كل وجه، ويقبل من كل صوب، حتى ريع الشياطين، وخيل إليهم أن السماء تمطرهم نارًا.

قال إبليس: «ما أرى إلا أنكم قد فقدتم صوابكم، وفارقتم أحلامكم، وجعلتم ترتاعون لغير روع. ما إشفاقكم من هذا الشرر وإنكم لترون فيه صور أنفسكم! انظروا! هؤلاء الرسل يقبلون من أقطار الأرض، ويهبطون من أجواز السماء، يحملون إلينا أخبار الأرض وأنباء السماء.»

وما هي إلا لحظة حتى عادت الظلمات إلى كثافها، وانعقدت كهيئتها قبل أن يقبل هذا الوابل من الشرر، كأنما كانت قطعًا من أدم أسود صفيق شقت لهذا الشرر حتى نفذ منها، ثم انعقدت عليه تحوطه وتحميه. وما هي إلا أن يتمثل هذا الشرر أشخاصًا خفافًا لطافًا لها أصوات خفاف لطاف كصوت إبليس ومن كان حوله من الشياطين. وإذا أحدها يتقدم واجفًا خائفًا، حتى إذا كان من إبليس غير بعيد انحنى يظهر الطاعة والإكبار، وقال في صوت هامس كأنه هفيف النسيم: «تكبرت! قد أفزعنا وروعنا ورمينا بالشهب، ورددنا عن مقاعدنا من السماء، فما لنا إلى استراق السمع من سبيل.»

قال إبليس: «تعست! لم تنبئنا بشيء لا نعرفه. فأين الرسل الذين أرسلتهم يستقصون الأنباء؟»

قال الشخص الماثل: «تكبرت، إنما أتكلم عنهم، أنطق بلسانهم. لقد انتشرنا في أجواز الجو من كل وجه، وارتفعنا نحتال في ذلك ما وسعتنا الحيلة، وخلى بيننا وبين الارتفاع حتى غرتنا الأماني، وخيل إلينا أنه قد رد الشر عنا. وما نكاد نبلغ مقاعدنا حتى تصب السماء علينا وابلًا من شهب مهلكة. وما أدري كيف خلصنا إليك؛ فقد احترق أكثرنا قبل أن يبلغ الأرض. وما أرى إلا أن السماء قد أبقت علينا لننفذ إليك فنبلغك ما ألم بنا من خطب، وما نصب لنا من حرب، وما هيئ لنا من نكاية وكيد.»

قال إبليس: «فأين الذين أرسلتهم إلى أقطار الأرض يحملون إليَّ أخبارها؟»

قال قائل خفيف لطيف في صوت هامس كأنه هفيف النسيم: «تكبرت! ها نحن هؤلاء نقبل عليك لا نحمل من الأنباء إلا ما يملأ قلوبنا هلعًا وجزعًا. لقد طرد إخواننا من أجواف الأصنام، وحيل بينهم وبين شهود الضحايا والقربان في هذا الوجه الذي تعرفه من وجوه الأرض. ما يكاد أحد منهم يستقر في جوف صنم من هذه الأصنام إلا أخذه العذاب من كل وجه، وضاق به هذا المكان الذي كان يتسع له، وأخذت عليه الطرق والمنافذ، كأنما يدفع به إلى الموت دفعًا. فمنا من كان ينفذ من أفواه الأصنام. ومنا من كان ينفذ من آذانها، ومنا من كان ينفذ من أنوفها، نجد في ذلك أشد الجهد وأشق العناء.»

قال إبليس مغيظًا محنقًا: «ويلكم! إنما أدرككم الجبن، وأعياكم الجهد، وعجزتم عن الاحتمال. إنما تفرون من عذاب إلى عذاب، لن تلقوا عندي خيرًا مما لقيتم هناك!»

قال الشخص الماثل: «تكبرت! ما جبنا ولا فشلنا، ولكنا آثرنا أن نأتيك بالأنباء، ونحن صائرون إلى ما تحب، وعائدون إن شئت إلى تلك الأصنام لنقيم في غير مقام، ونستقر في غير مستقر؛ فذلك أهون علينا وآثر عندنا من غضبك.»

قال إبليس: «فأين النساء؟»

قال الشخص الماثل: «تكبرت! كن أشجع منا نفوسًا، وأقدر منا على الاحتمال، فآثرن البقاء فيما يكتنفهن من ضيق، حتى يبلغهن أمرك، أو يأتيهن الموت.»

قال إبليس: «ولم يخزكم ما رأيتم من صبرهن واحتمالهن؟!» ثم سكت قليلًا، ثم قال: «بم يدعوك هذا الحي من قريش؟»

قال الشخص الماثل: «يدعونني هبل.»

قال إبليس: «ويزعمون أنك أكبر آلهتهم، فعد إلى مكانك مدحورًا مخذولًا، لأؤمرن عليكم النساء منذ الليلة، ولأعقدن لواءكم للعزى.»

ثم عاد إبليس إلى صمته، وإن الظلمة لتضطرب من حوله اضطرابًا شديدًا، كأنما جرى الخوف في طبقاتها، فبعث فيها رعدة غريبة تقشعر لها الأرض اقشعرارًا. ثم قال إبليس بعد هنيهة: «فأين الذين كلفتهم أن يحملوا إليَّ من تراب الأرض؟»

قالت أصوات مختلطة: «ها نحن هؤلاء.»

ثم جعل كل واحد منهم يدنو فيرفع إلى وجه إبليس قبضة من تراب فيشمها، ثم يشير إلى صاحبها أن ألقها فيفعل. حتى إذا دنا منه أحد هؤلاء الرسل وقرب إلى أنفه قبضة التراب التي كانت في يده، لم يكد يشم ريحها حتى أخذه ذعر شديد، فنهض قائمًا وهو يقول في صوت المرتجف المغيظ: «هو ذاك! هو هذا الوجه من بلاد العرب، قد ألم به الحدث العظيم. هو هذا الحي من قريش، قد فسد الأمر فيه علينا أشد الفساد.»

قالت الأصوات واجفة خائفة: «تكبرت! فماذا تأمرنا أن نفعل؟»

قال: «سنرى.» ولكنه لم يكد ينطق بهذه الكلمة حتى صعق، وصعقت الشياطين من حوله، وانجابت الظلمة في أيسر من لحظة، وأشرقت الأرض بنور عظيم وصل بينها وبين السماء، ولصق الشياطين بأديم الأرض كأنهم ذرات من تراب، وامتلأت أقطار الجو بصوت مهيب، ولكنه عذب يقول: «ألا إن الكتاب قد بلغ أجله. ألا إن أحمد قد نبئ منذ الليلة.»

ثم ينقبض الضوء مرتفعًا إلى السماء، ويتجرد الليل القاتم من ثوبه المشرق، ويعود الفضاء العريض كهيئته حين كانت تطبق عليه الظلمة الكثيفة. وتمضي لحظات قد هدأ فيها كل شيء، وإذا صوت خفيف لطيف كهفيف النسيم يضطرب في الجو قائلًا: «ويلكم! هبوا! فقد آن للجن أن ينصرف عنكم، وآن لقلوبكم أن تبرأ من الفرق.»

وهذه الأصوات تنبعث من أديم الأريض كأن كل ذرة من ذرات التراب قد استحالت إلى شخص يسمع ويبصر ويتحرك ويريد. وهذا إبليس قد اتخذ مكانه من أعوانه ورسله، وهو يلقي إليهم الأمر، ويبعث فيهم النشاط، ويوكلهم بأقطار الأرض، ويأخذهم بأن يكونوا أشد حذرًا، وأكثر احتياطًا، وأعظم إغواء للناس. ثم يتجه إلى جماعة منهم قائلًا: «أما أنتم فاكفوني شر هؤلاء الأحبار من يهود، وهؤلاء الرهبان من النصارى؛ فقد أخذوا منذ حين يفقهون التوراة والإنجيل، ويتحدثون إلى عامة الناس بما لم يكونوا يتحدثون به من قبل. فكفوهم عن ذلك ما وجدتم إلى كفهم سبيلًا، واحملوهم على أن ينكروا ما عرفوا، ويجحدوا ما قالوا، واملئوا قلوبهم زيغًا، وعقولهم ضلالًا.»

ثم يلتفت إلى جماعة أخرى قائلًا: «وأما أنتم فارجعوا إلى حيث كنتم من هذا الوجه من العرب، وليأخذ كل منكم مكانه في جوف صنمه لا يفارقه حتى يأتيه أمري.»

ثم يلتفت إلى سرب آخر قائلًا: «وأما أنتم فبيتوا قريشًا من ليلتكم، وليلزم كل واحد منكم رجلًا منهم نائمًا ويقظان، ساكنًا ومضطربًا في الأرض. وإياي وأن يفلت منكم أحد من قريش! واعلموا أن من أفلت منه صاحبه فلن يجد عندي إلا عذابًا تعرفونه، وما تحتاجون إلى أن أذكركم به أو أدلكم عليه.»

وقد أخذت الظلمة ترق، وقد أخذ السحاب يتفرق وينجاب، وقد أخذت أشعة النجوم تبلغ الأرض، وقد أخذ ضوء القمر يترقرق في الجو، وقد خفت الصوت، وسكنت الحركة، واستقر كل شيء. ثم أصبحت قريش فغدت على أعمالها كأنها لم تنفق ليلة نادرة في ليالي الدهر، إلا خديجة بنت خويلد! فقد أقبل عليها زوجها مرتاعًا سعيدًا، ينبئها بالنبأ العظيم.

قال ابن سعد: «أخبرنا علِي بن محمد، عن سعيد بن خالد وغيره، عن صالح بن كيسان: أن خالد بن سعيد قال: رأيت في المنام قبل مبعث النبي ظلمة غشيت مكة، حتى ما أرى جبلًا ولا سهلًا، ثم رأيت نورًا خرج من زمزم مثل ضوء المصباح، كلما ارتفع عظُم وسطع، حتى ارتفع فأضاء لي أول ما أضاء البيت، ثم عظم الضوء حتى ما بقي من سهل ولا جبل إلا وأنا أراه، ثم سطع في السماء، ثم انحدر حتى أضاء لي نخل يثرب فيها البسر، وسمعت قائلًا يقول في الضوء: سبحانه! سبحانه! تمت الكلمة، وهلك ابن مارد بهضبة الحصى بين أذرح والأكمة. سعدت هذه الأمة. جاء نبي الأميين، وبلغ الكتاب أجله. كذبته هذه القرية، تعذب مرتين، تتوب في الثالثة، ثلاث بقيت، ثنتان بالمشرق، وواحدة بالمغرب. فقصها خالد بن سعيد على أخيه عمرو بن سعيد، فقال: لقد رأيت عجبًا. وإني لأرى هذا أمرًا يكون في بني عبد المطلب إذ رأيت النور خرج من زمزم.»

لاكلوزا
١٦ رجب ١٣٥٥/سبتمبر ١٩٣٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤