الفصل الأول

صريع الحسد

١

كان الشيخ مهيبًا رهيبًا، وكان فخمًا ضخمًا، قد ارتفعت قامته في السماء وامتد جسمه في الفضاء. وكان وجهه جهمًا عريضًا، تضطرب فيه عينان صغيرتان غائرتان بعض الشيء. ولكنهما على ذلك في حركة متصلة لا تكادان تستقران، وهما متوقدتان دائمًا ينبعث منهما شيء كأنه الضوء المشرق على هذا الوجه الجهم الغليظ، فإذا لحظتا شيئًا أو أطالتا النظر إليه فكأنما تقذفانه بالشرر أو تسلطان عليه شواظًا دقيقًا قويًّا من النار. وكان الشيخ فوق هذا كله ذكيًّا حاد الذكاء نافذ البصيرة، يتعمق ما يعرض له من الأمر دون أن يحس الناس منه تعمقًا لشيء. يسأله الناس فيجيبهم لساعته جواب من فكر وقدر وأطال التفكير والتقدير، فيعجبون منه ويعجبون به. وكان بعد هذا كله بطيء المشي ثقيل الحركة وقورًا في كل ما يصدر عنه، وكان صوته يلائم هذا كله من أمره، فكان صوتًا ضخمًا عميقًا، يسمع السامع فيخيل إليه أنه يخرج من غار بعيد القاع. وكان الناس يهابونه ويرهبونه كما كانوا يجلونه ويكبرونه. فإذا سألتهم عن مصدر ذلك لم يعرفوا كيف يجيبون، إنما كان هذا الرجل يبهرهم ويسحرهم ويملأ نفوسهم إكبارًا وإعظامًا، فإذا ذكر الوليد بن المغيرة فقد ذكر سيدٌ من أروع سادات قريش، ورجل عظيم من رجالات البطحاء.

وكان ابن أخيه عمرو بن هشام في ذلك اليوم فتى قويًّا نحيفًا شديد النشاط كثير الحركة لبقًا في كل ما يصدر عن جسمه، رائعًا في كل ما يصدر عن عينيه القويتين البراقتين. وكان على وجه الفتى دائمًا، وفي ذلك اليوم خاصة، غشاء غريب فيه عبوس يصور الجد المر، وفيه ابتسام يصور الدعابة الحلوة. فكان الذين ينظرون إليه يطمعون فيه ويشفقون منه. وكان الذين يسمعون له يحارون فيما يسمعون أجدٌّ هو أم هزل. وقد أقبل في ذلك اليوم على عمه يمشي مشية فيها كثير من الخال والكبرياء وكثير من الاعتداد بالنفس والازدراء لغيره من الناس، وفيها مع ذلك شيء من السخط والحزن.

كل شيء في هذا الفتى كان يصور رجلًا شديد الطموح بعيد الأمل واسع الرجاء. ولكن الأسباب قد تقطعت به، فهو غير راض عن نفسه ولا عمن حوله من الناس ولا عما حوله من الأشياء. يريد أن يذعن لظروف الحياة التي لا يستطيع لها تغييرًا ولا تبديلًا، ولكن نفسه لا تطيق الإذعان ولا تطمئن إليه، فهي في جهاد متصل، وصراع مستمر. وكان الذين ينظرون إليه في ذلك اليوم يتساءلون عن مصدر هذه الخيلاء التي كانوا يرونها في مشيته، وفي تلك الابتسامة الحائرة على وجهه التي كانت تظهر لتستخفي، وتستخفي لتظهر، كأنها وميض البرق في الليلة المظلمة. وكان بعضهم يظن أن مصدر هذه الكبرياء هؤلاء الرقيق الذين كانوا يسعون بين يديه يحملون أثقالًا من الذهب والفضة لا تجتمع إلا لأصحاب الثراء الضخم من سادة قريش. وكان بعضهم يرد هذه الكبرياء إلى أن عمرو بن هشام كان يسعى إلى عمه الوليد بن المغيرة، فكان يستحضر في نفسه مجد مخزوم كلها تليده وطريفه، وثروة مخزوم كلها ما استقر منها في مكة، وما انتشر منها هنا وهناك في أطراف البلاد العربية، وما تجاوز منها البلاد العربية إلى تلك البلاد البعيدة التي كانت تنتشر فيها تجارة قريش.

وكان الشباب من أتراب عمرو بن هشام يرمقونه بأبصارهم ثم يردونها عنه مسرعين، منهم من يرضى عنه، ومنهم من يسخط عليه، وكلهم يبتسم له ابتسامة فيها كثير من الحسد وفيها شيء من الاستخفاف. فقد كان أتراب عمرو بن هاشم ينكرون غروره وافتنانه بنفسه، ويبادونه بهذا الإنكار جادين حينًا وهازلين أحيانًا. وكان منظرًا لا يخلو من روعة مضحكة، مقام هذا الفتى الرشيق الأنيق الساخر العابث بين يدي عمه الوقور المهيب وقد وضع الغلمان أثقالهم، وقال الفتى في صوت لا يخلو من فكاهة ولكنه لا يخلو من بعض الملالة والسأم أيضًا: «ها أنا ذا يا عم قد أقبلت أحمل إليك تحيتي وأحمل إليك مالي؛ فقد يظهر أن من الحق عليَّ أن أساهم فيما سترحل به القافلة من قريش إلى الشام، فهذه أسهمي من الذهب والورق أطرحها بين يديك، وما أشك في أنك ستردها عليَّ أضعافًا مضاعفة.» ثم تضاحك الفتى وهم أن ينصرف ولكن عمه أشار إليه أن أقم، ثم قال له في هدوء وأناة: «ما أرى أنك أقبلت لتحمل إليَّ هذا المال وتلقي إليَّ هذا السخف من القول، فقد كان هؤلاء الغلمان يستطيعون أن يحملوا إليَّ تحيتك ومالك، وما أظن إلا أنك أقبلت وأنت تريد أن تنفق معي شيئًا من وقتك وأن تفضي إليَّ ببعض الحديث، ولكنك تأبى إلا أن تعبث دائمًا. تقبل وأنت تريد أن تدبر، وتدبر وأنت تريد أن تقبل، لا تفرق في عبثك بين من تلقى من الناس، سواء عندك لقاء الأتراب ولقاء الشيوخ الذين ينبغي أن تلقاهم بوجه غير هذا الوجه وحديث غير هذا الحديث.»

قال الفتى في صوته الساخر الحزين: «ما تزال تنكر عليَّ شيئًا كلما لقيتني، وما أزال عاجزًا عن أن أبلغ رضاك. فإني لا ألقاك بهذه الدعابة في أندية قريش ومجالسها، وإنما ألقاك حرًّا في هذه الدار لا يظهر علينا فيها أحد من قريش. ولست أدري إلى أين تنتهي بنا هذه الأوضاع التي تفرضها قريش على عقولنا وقلوبنا وأجسامنا! فنحن لا نستطيع أن نفكر ولا أن نشعر ولا أن نتحرك إلا على النحو الذي رسمته قريش للتفكير والشعور والحركة. ما أشد حاجتنا إلى شيء من السماحة ننعم فيها بالحرية فيما نفكر وفيما نشعر وفيما نأتي وما ندع من الأمور.»

قال الشيخ: «فأنت إذًا ساخط دائمًا، منكر للمألوف من عادات قومك وأوضاعهم دائمًا. وقد كنت أنتظر مقدمك، ولو لم تقبل الآن لبعثت في طلبك؛ فإن بيني وبينك حديثًا أرجو ألا يطول، وأرجو مع ذلك أن يبلغني منك ما أريد.»

قال الفتى وهو يبتسم عن رضًا صريح وفكاهة لا غموض فيها: «وإذًا فلا بد من أن أقيم، فلا أقل من أن تأذن في أن أسقي ما يبل الظمأ وينقع الغلة، فقد جف حلقي ويبس لساني.»

قال الشيخ: «وآية ذلك أني لا أجد إلى وقفك عن الكلام سبيلًا، اجلس حيث شئت، يا غلام اسقه ما شاء من شراب.»

وأعرض الشيخ عن ابن أخيه ساعة شغل فيها بكثير من شباب قريش وشيوخهم، وقد أقبلوا يحملون إليه الأموال التي يساهمون بها فيما كانت قريش تهيئ من تجارتها إلى الشام، يحمل بعضهم إليه العين من الذهب والفضة، ويحمل إليه بعضهم العروض المختلفة، وهو يسمع لهم ويرد عليهم، وبين يديه كتاب يتلقون هذه الأموال ويسجلون ما يتلقون منها. فلما انقضت على ذلك ساعة وقل المقبلون بأموالهم، أشار إلى كتابه وغلمانه أن انصرفوا لتستأنفوا أمركم من الغد.

وانتهز عمرو بن هشام اشتغال عمه بمن كان يقبل عليه وينصرف عنه فلها بمداعبة من كان يقوم على خدمته وخدمة غيره من غلمان الدار، يعبث بهذا ويمازح ذاك، ويسأل هذا ويرد على ذاك، يقلدهم في لهجاتهم الغريبة المحطمة؛ يتحدث إلى هذا بلهجة الحبشي المستعرب، وإلى ذاك بلهجة الرومي، ويسأل هذا أو ذاك عن شئونه الخاصة، وربما سأل هذا أو ذاك عن بعض شئون عمه، ولكنه كان يهمس بمثل هذا السؤال وربما أومأ به. وكان الغلمان يجيبونه كما كان يتحدث إليهم مصرحين مرة، وملمحين مرة ومشيرين بالطرف واليد مرة أخرى، ومبتسمين له دائمًا. فقد كان عمرو بن هشام محببًا في دار عمه، ومحببًا إلى غلمان هذه الدار خاصة. وربما آثره هؤلاء الغلمان على ابن سيدهم الشاب خالد بن الوليد. كانوا يرون من خالد أنفةً واستكبارًا وازورارًا عنهم. وكانوا يرون من عمرو تلطفًا لهم وعناية بهم. وكان عمرو غريب الأطوار حقًّا، فقد كان شديد الكبرياء عظيم الخيلاء إذا لقي نظراءه من أبناء قريش، فإذا لقي الغرباء من الرقيق والخلعاء تلطف لهم ورفق بهم وخاض معهم في ألوان مختلفة من الحديث كأنه واحد منهم.

على أنه حين أحس أن عمه قد فرغ من الداخلين والخارجين وكاد يخلص له تكلف الجد وأشار إلى من كان حوله من الغلمان أن خذوا حذركم فقد جاءت الساعة الرهيبة. ونظر إليه عمه فلم يستطع أن يرد ابتسامة أشرقت في وجهه حين رأى هذا الجد المتكلف وهذا الإذعان لما ليس بدٌّ من الإذعان له. ورأى الفتى ابتسامة عمه فأغرق في ضحك متصل ثم قال: «لبيك عمي فإني منصت لما تقول.»

قال الشيخ في هدوء: «قد بلغتني عنك أحاديث لا أحبها ولا أحب أن تتحدث بها قريش عن عمرو بن هشام بن المغيرة.»

قال الفتى وهو يتكلف الجد: «ويلي من قريش وويل قريش مني! بماذا أنبأتك ألسنتها المنطلقة التي لا تستقر؟» قال الشيخ: «أنبأتني بشيء عظيم كرهته، وأرجو أن تكف عنه.» قال الفتى: «فتريد أن أعيد عليك ما أنبأتك به ألسنة قريش؟ فإنها قد زعمت لك أني أختلف مع شباب قريش إلى بيت نسطاس فنشرب ونعبث ونلهو، حتى إذا بلغنا حاجتنا من ذلك وهم أترابي أن ينصرفوا لم أخرج معهم وإنما تخلفت فأقمت عند نسطاس وأطلت عنده المقام، أسمع منه ومن جواريه، وأتحدث إليه وإلى جواريه. وقد أطيل المقام حتى يتقدم الليل، فإذا هممت أن أنصرف أشفق عليَّ نسطاس من غائلة الطريق، وأشفق عليَّ من كثرة ما شربت عنده من الخمر، فدعاني إلى أن أنتظر الصبح عنده وما أكثر ما أستجيب لهذا الدعاء؛ لأني أحب بيت نسطاس، وآنس إليه وإلى من حوله من الجواري والغلمان. وقريش تنكر هذا وترتاب به، وتكره لفتى شريف من فتيانها أن يبيت في غير مبيت وأن ينفق الليل بعيدًا عن أهله. وقريش تبيح لفتيانها أن يلموا بدار نسطاس وأن يشربوا فيها الخمر ويعبثوا فيها ما طاب لهم العبث ولكن على أن يعودوا إلى أهلهم قبل أن يتقدم الليل. فلقريش وقارها، وما ينبغي لفتيانها أن يغرقوا بالعكوف على اللذات، أو يوصفوا بإدمان اللهو والإسراف فيه.»

قال الشيخ: «وأنت تنكر من أمر قريش هذا كله، وتأبى إلا أن تبادي قومك بما يكرهون، فتخف حين يصطنعون الوقار، وتصطنع الوقار حين يخفون، وتحرص على أن تكون أحدوثة الناس إذا أصبحوا وأحدوثة الناس إذا أمسوا، لا بما تقدم عليه من عظيم الأمر ولا بما تحاول من الشئون الجسام، ولكن بالدعابة إذا جد الناس، وبالجد إذا لهوا، وبالاختلاف إلى حانة نسطاس إذا أقبل الليل مع اترابك، والتخلف عنهم إذا انصرفوا، كأن بينك وبين هذا الرومي سرًّا ما ينبغي أن يظهر عليه أحد إلا هؤلاء الروميات اللاتي يخلب بهن نسطاس عقول الفتيان.»

قال الفتى: «أما أني أنكر على قريش دخولها فيما لا يعنيها من أمري فهذا حق. وأما أني أتخلف عن أترابي عند نسطاس إذا انصرفوا حين يتقدم الليل فهذا حق أيضًا. وأما أن بيني وبين نسطاس وجواريه سرًّا لا ينبغي أن يظهر عليه أحد فهذا هو التكلف كل التكلف. فخمر نسطاس معتقة، وجواريه حسان يفتن بما لهن من دلٍّ كما يفتن بغنائهن العذب. وحديث نسطاس حلو ممتع، يرضي حاجتي إلى العلم، وشوقي إلى المعرفة، ورغبتي في الجد. فأنا أحد في هذه الدار ما لا أجد في أندية قريش. وأنا من أجل ذلك ملح في زيارتها، مطيل للإقامة فيها، مفتون بما أجد عند أهلها من لذة الجسم والنفس جميعًا. وما أعرف أني أعطيت قريشًا عهدًا عن نفسي أن أعيش كما تحب هي لا كما أحب أنا. وما أعرف أني أتتبع شيوخ قريش وفتيانها بمثل ما يتتبعونني به؛ فإن أمرهم لا يعنيني، فما بال أمري يعنيهم، وما بالهم لا يدعونني وما أشاء كما أدعهم أنا وما يشاءون؟!»

قال الشيخ: «إنك يابن أخي لذرب اللسان حديد القلب نافذ البصيرة، وإني لأحب منك هذا كله، ولكني …»

قال الفتى: «ولكنك تريد أن أنفق هذا كله فيما ينبغي لفتى من فتيان قريش أن ينفق جهده فيه، من الجد في التجارة حين يدعو الأمر إلى الجد، ومن العبث بهؤلاء البائسين من العرب حين يكون موسم الحج نضللهم ونغررهم ونزعم لهم أننا سادة الناس وأن إلينا وحدنا أمور دينهم، وأي دين! ثم من الفراغ للأحاديث التي لا تفنى إذا ربحنا من تجارتنا وأخذنا من موسم الحج ما نريد، وصدر الناس عنا وقد أخذنا منهم أموالهم وعقولهم جميعًا، هنالك نفرغ لأنديتنا فيتحدث بعضنا إلى بعض بأحاديث أقلها الحق وأكثرها الباطل، ويبدي بعضها لبعض أقل ما يمكن أن يبدي من نفسه، ويستر بعضنا عن بعض أكثر ما يمكن أن يستر منها. نكبر آلهتنا ونعظم من أمرها وإنا لنزدريها في نفوسنا أشد الازدراء، ونمقتها في قلوبنا أعظم المقت.»

قال الشيخ وقد أسرع بيده إلى فمه والتفت يمنة ويسرة التفاتة لا تلائم ما تعود من وقار: «صه! صه! يابن أخي.» قال الفتى وقد أغرق في الضحك: «لا بأس عليك يا عم فقد انصرف كل إنسان وأغلقت من دوننا الأبواب، وعلم غلمانك أننا نريد الخلوة.»

قال الشيخ وقد عاد إلى أناته ووقاره: «فإن من الحق عليك يابن أخي أن ترعى ما يرعى قومك من سنة وألا تغري السفهاء منهم بنفسك وبقومك. وقد حدثت أنك لا تكتفي بدار نسطاس ولكنك تألف دارًا أخرى ما أحب لك أن تألفها؛ لأن قريشًا لا تنظر إلى آلافها إلا شزرًا. ومن كان مثلك ومثلي ومثل سادة قريش من أصحاب التجارة كان خليقًا أن يقدر رأي الناس فيه وأن يحسب الحساب كله لما يمكن أن يذاع عنه من الأحاديث. فأمر التجارة والمال يقوم على الثقة وحسن الأحدوثة أكثر مما يقوم على المهارة وسعة الحيلة، وإنك لترى أمية وما يصنعون!»

قال الفتى: «بل قل وما يتكلفون.» قال الشيخ: «هو ذاك.» قال الفتى: «وهذه الدار الأخرى التي آلفها وأكثر من التردد عليها هي دار ورقة بن نوفل، أليس كذلك؟» قال الشيخ: «بل يابن أخي، هي دار ورقة بن نوفل الذي انحرف عن قومه وارتحل عنهم مخالقًا لهم، ثم عاد إليهم ملحًّا في الخلاف، يدين بما تدين به الروم، ويؤمن بما يؤمن به النبط، وينكر من أمر آلهتنا ما نعرف، ويعرف من أمر السماء ما ننكر. وقد علمت يابن أخي ما كان من ثورة قريش به ويزيد بن عمرو وأمثالهما.»

قال الفتى: «فإن كنت أحب دار ورقة كما أحب دار نسطاس، وإن كنت أجد عند ورقة من متاع الروح مثل ما أجد عند نسطاس من متاع النفس والجسم!» قال الشيخ: «فإن قريشًا لا تحب منك ذلك، وإني أنا لا أحب أن تنكر قريش من أمرك شيئًا، وما أحب أن يتحدث الناس في البطحاء والظواهر بأن قد عرض لفتى من فتيان مخزوم مثل ما عرض منذ حين لفتى من فتيان عدي من الانحراف عن الجادة والتمرد عن المألوف من عادات قومه.»

قال الفتى: «فإن مخزومًا قد أصهرت إلى عدي١ وما ينبغي لكم أن تصهروا إلى قوم وترسلوا إليهم كرائمكم ثم ترتفعوا عن مشاركتهم فيما يصيبهم من الأمر.» قال الشيخ: «لقد علمت ما أحببت هذا الصهر ولا رضيت عنه ولا أشرت به ولا انتظرت منه لقريش خيرًا؛ فالألفة بين عدي ومخزوم شيء لا يرجى، والخير أن يظل هذان الحيان من قريش على خلافهما القديم لا ليشقى به النساء جين يعيا بالطب له الرجال. ولئن أخطأ أبوك بقبول هذا الصهر فما ينبغي أن تمضي على أثره أو تضيف إلى خطئه خطأ جديدًا. وإنك لتعلم أن قريشًا لا تكره من أحد شيئًا كما تكره الانحراف عما ألفت من عادة ودين، ولا تخاصم أحدًا في شيء كما تخاصمه في مالها ودينها. ودين قريش جزء من مالها لأنه، كما علمت، وسيلتها إلى السيادة والسلطان.»

قال الفتى: «فإني لا أكره من قريش شيئًا كما أكره منها هذا الرياء: تكبر الآلهة وتعظم أمرها إذا شهد العامة أو حضر أهل الموسم، فإذا خلا الملأ من قريش إلى أنفسهم فأي استخفاف بالآلهة وأي ازدراء لمن يدينون لها بالإكبار والإجلال! إنكم لتطلبون إلينا شيئًا عظيمًا حين تريدوننا على أن نمهر كما تمهرون ونمكر كما تمكرون، ونعلن غير ما نسر ونسر غير ما نعلن، لا لشيء إلا لنثري ونسود. وإنا لنجد في رضا أنفسنا وراحتها واطمئنان ضمائرنا إلى ما نعلن وما نسر نعمة هي آثر عندنا من السيادة والثراء. فامضوا فيما تريدون لأنفسكم، وخلوا بيننا وبين ما نريد لأنفسنا.»

قال الشيخ: «ما أرى إلا أن دار نسطاس قد فتنتك، وأن دار ورقة قد أفسدت عليك أمرك كله يابن أخي، فإنك تتحدث حديثًا لا يتحدثه أحد من شيوخ قومك وشبابهم. وإني لأرى لداتك من الفتيان وأسمع منهم وأتحدث إليهم فلا أجد عند أحد منهم مثل ما أجد عندك، وما أعرف أن الناس ينكرون على أحد من أترابك مثل ما ينكرون عليك.»

قال الفتى: «وما تريد أن أصنع؟ هم مفتونون بك وبنظرائك من الملأ، وأنا مفتون بورقة ونسطاس ونظرائهما من الغرباء والمستضعفين.»

قال الشيخ: «أمسك عليك نفسك يابن أخي ولا تظهر قومك من أمرك على مثل ما تظهرني عليه؛ فإن شر هذا الخلاف لا يصيبك وحدك وإنما يصيب مخزومًا كلها، ما أظنك قد بلغت من حب نفسك أن تعرض قومك لما لا قبل لهم به.»

قال الفتى: «فإني لا أحب أن أعرض قومي لشيء ولا أن يعرضني قومي لشيء، وإنما أريد أن أترك الناس وما يحبون. ولست أكره إن شق عليكم أمري أن تخلعوني، فما أكثر الخلعاء الذين يعيشون في مكة من قبائل العرب! وما أكثر ما أغبطهم على ما ينعمون به من حرية القلب واليد واللسان!»

قال الشيخ وهو يبتسم ابتسامة غامضة فيها الإعجاب بشجاعة ابن أخيه والإشفاق من جرائره: «دون هذا وتستقيم الأمور بابن أخي. ولكن ما الذي يعجبك من نسطاس ومن ورقة وقد رأيتهما وتحدثت إليهما فلم أرَ عندها خيرًا ولا شرًّا؟»

قال الفتى: «فإني أجد عندهما الراحة من اللذة والألم جميعًا.»

قال الشيخ: «إني لا أفهم عنك ما تقول منذ اليوم. الراحة من اللذة! ما هي؟ وكيف تكون؟»

قال الفتى: «رح معي إلى نسطاس أو اغد معي إلى ورقة، ثم أطل عندهما المقام كما أطيله، وتصرف معهما في فنون القول كما أتصرف، فستجد عندهما مثل ما أجد، وسترضى من أمرهما عن مثل ما أرضى عنه، وستغدو على أحدهما وتروح على الآخر، وستؤثر داريهما على أندية قريش.»

قال الشيخ وقد تضاحك: «وكذلك أريد أن أنهاك عما يكره قومك فإذا أنت تغريني به وتحثني عليه «لقد شب عمرو على الطوق»، انصرف راشدًا يابن أخي وأحسن سياسة قومك، وكف عن نفسك وعنا غائلتهم.»

قال الفتى وقد نهض: «فإني منصرف الآن راشدًا كما تقول إلى نسطاس فشاربٌ عنده ومستمتع بحديثه وغناء جواريه، ثم إني غاد إذا كان الضحى على ورقة بن نوفل فمستمع له ومتحدث إليه، ثم ملم بعد ذلك بأندية قريش فمتحدث بما كان من أمري، فأيهم عرض لي بما لا أحب فلن يرى مني إلا ما يكره.»

قال الشيخ: «إني لأعرف فيك أنفة مخزوم وكبرياءها، ولو عرفت أنك تسمع لي …»

قال الفتى مقاطعًا في رفق: «لنصحت لي بأن أرحل مع القافلة بعد أيام فأبيع وأشتري وأربح كثيرًا من المال، وأرى كثيرًا من البلاد وألوانًا مختلفة من أجيال الناس، وأصبح فتى شريفًا من فتيان قريش أصنع ما يصنعون وأضطرب فيما يضطربون فيه، وأنافس صخر بن حرب فيما يكسب لنفسه من السؤدد والثراء.» قال الشيخ: «هو ذاك.»

قال الفتى: «فإني لا أحب من هذا كله شيئًا، وإنما أوثر أن أنفق هذا المال الكثير الذي لا أحصيه ناعم النفس قرير العين رضي البال مترددًا بين نسطاس وورقة، وأن أستأجر صخر بن حرب وأمثاله ليعملوا لي في مالي وليعينوني على ما أنا فيه من نعيم.» ثم استرد الفتى كبرياءه وخيلاءه وانصرف عن عمه كما أقبل عليه راضيًا عن نفسه وساخطًا عليها، مدلًّا بمكانته ومزدريًا لها.

٢

وأقبل من الغد على ورقة بن نوفل، فلم يلقه الشيخ هشًّا بشًّا كما تعود أن يلقاه، وإنما ابتسم له ابتسامة فيها شيء من كآبة. على أن الشيخ لم يكن فارغ البال ولا مطمئن النفس، وإنما كان معنيًّا بأمر عظيم يضمره ولا يظهره.

فلما رأى الفتى منه هذا الفتور أقبل عليه مداعبًا كأنما يستخفه إلى شيء من النشاط، فجعل يتحدث إليه عن ليلته التي أنفقها لاهيًا بخمر نسطاس وغناء جواريه.

ولكن الشيخ لم يخف ولم ينشط، وإنما جعل يسمع من الفتى أحاديثه الطويلة التي لا تنقضي، ويجيبه بين حين وحين برأسه يهزه أو طرفه يومئ به أو لسانه يديره في فمه بالكلمات القصار. فلما رأى الفتى منه ذلك سيء به وضاق به ذرعًا وقال في شيء من الحدة: «ويحك أيها الشيخ! إنك لشديد الكآبة منذ اليوم، وما سعيت إليك أبتغي كآبة أو حزنًا، وما أقبلت عليك لتنغض إليَّ رأسك أو تومئ إليَّ بطرفك أو تلوي لي لسانك بهذه الألفاظ التي لا تغني، إنما جئت ألتمس عندك شيئًا غير هذا.»

قال الشيخ وقد أخذ ابتسامه يتسع قليلًا: «تلتمس عندي ماذا يابن أخي؟» قال الفتى: «ألتمس عندك هذه القوة التي أستقبل بها سخف قريش وجه النهار وآخره، كما ألتمس عند نسطاس هذه اللذة التي أغسل بها هذا السخف عن نفسي حين يقبل الليل.»

قال الشيخ متضاحكًا في فتور: «فقد غسلت نفسك من سخف قريش ولكنك دنستها برجس نسطاس، ثم أقبلت الآن تريد أن تغسلها من هذا الرجس وتمحو منها آثار اللذة الآثمة، آثار الخمر وما يتبعها مما لا يجمل بالرجل الكريم! فما أعرف أن عند نسطاس لمثلك خيرًا، وإنما هي الفتنة التي تفل الحد وتفسد الطبع وتذهب المروءة وترد فتيان قريش إلى مثل ما عليه فتيان الروم من الضعف والوهن والفتور. لقد رأيتهم يا ابن أخي فما وجدت عندهم خيرًا، وإنما هو الفساد قد أخذهم من كل وجه وانسل إلى نفوسهم من كل سبيل، فأصبحوا لا يقدرون على شيء وإن خيلت إليهم كبرياؤهم أنهم يستطيعون أن يبلغوا كل شيء.» ثم سكت قليلًا وأطرق مليًّا، ثم رفع رأسه وقال في صوت هادئ متزن: «ما أبغض يا عمرو شيئًا كما أبغض الحانات التي يقيمها الروم في أعطاف مكة والتي يغري فتيان قريش بما فيها من هذه اللذات الآثمة التي تقتل الرجولة.»

وكان عمرو بن هشام يسمع لحديث الشيخ وعلى ثغره ابتسامة ضئيلة غامضة، وفي وجهه شيء من السخرية لا يكاد يبين، وربما حرك رأسه إلى يمين أو إلى شمال ليخفي على الشيخ سحابة من عبوس كانت تغشي جبهته بين حين وحين. فلما فرغ الشيخ من حديثه وعاد إلى إطراقه فأمعن فيه وجعل ينكت الأرض بعصاه، قام الفتى متثاقلًا يريد أن ينصرف. فنظر الشيخ إليه نظرة قصيرة كأنما كان يريد أن يمسكه، ولكنه لم ينشط حتى لذلك فغض بصره وعاد إلى إطراقه. واستدار الفتى نحو الباب، ولكنه عاد فجأة فاستقبل الشيخ وقال في شيء من العنف: «لن أنصرف، فلست أحب أن تصحبني منك هذه الصورة التي أنكرها. لقد كنت في نفسي شيئًا غير هذا، ولقد كنت أنتظر منك أن تباديني بكل شيء إلا ما باديتني به منذ اليوم.»

قال الشيخ: «فكنت تنتظر مني أن أغريك ببيت نسطاس وما فيه من لذة وإثم، وكنت تقول لنفسك إنما ورقة بن نوفل رجل نصراني قد أتى بلاد الروم وطوف في مدنها وقراها وعاد منها وقد أخذ كل ما وجد من الدين والدنيا، فهو نصراني كنسطاس، يحب كل ما يحب النصارى ويألف كل ما يألفون، والسن وحدها هي التي تقعده عن بيت نسطاس، ولو قد كان له فضل من قوة أو بقية من شباب لشاركني فيما أستمتع به عند نسطاس، فخمره معنقة وجواريه حسان وغلمانه صباح الوجوه، وعنده غناء يفتن القلوب ويسحر الألباب. كلا يا ابن أخي! لقد أتيت بلاد الروم، وطوفت في مدنهم وقراهم، وألممت ببيعهم وحاناتهم، ورأيت ما عندهم من دنيا ودين، ثم عدت وإني لأكثر أمرهم لكاره أشد الكره، وإني من حياتهم لنافر أشد النفور. ولو قد أعجبتني حياة الروم كما تعجبك لما عدت إلى واد غير ذي زرع كهذا الوادي الذي نعيش فيه.»

قال الفتى: «الآن ينطلق لسانك وقد كان معقودًا، ولكن لم آت لأسمع منك هذا الحديث ولا لألتمس عندك هذه الموعظة؛ فقد أسدى إليَّ منها عمي الوليد بن المغيرة أمس ما أستطيع أن أعيش عليه أيامًا وشهورًا.»

قال الشيخ: «فماذا جئت تلتمس عندي إذًا؟» قال الفتى: «جئت أتعلم منك، وأرى أنك ستتعلم مني.» قال الشيخ وقد عاد إلى نشاطه وخفته واستأنف ما ألف عنده عمرو بن هشام من هذا الطبع السمح والمزاح الحلو والمرح الذي كان يحببه إلى النفوس. قال الشيخ: «فعلمني يا عمرو فإن الإنسان لا يكبر عن العلم مهما تبلغ به السن، وإن العصا قرعت لذي الحلم.» قال عمرو بن هشام: «لا تهزأ فإني سأعلمك عجبًا من العجب! إنك لتجهل من أمر نسطاس كل شيء ولا تعلم منه إلا ما يعرفه المفتونون من شباب قريش، أولئك الذين يصطبحون عنده أو يغتبقون لا يعرفون إلا أن عنده خمرًا معتقة وجواري حسانًا وغلمانًا صباحًا وغناء عذبًا.» قال ورقة: «فما استكشفت عنده غير ذلك؟» قال: «استكشفت ما كنت أظن أنك لا تجهله. إن هؤلاء الروم الذين يقيمون حاناتهم في أعطاف مكة كما تقول فتنةً لشباب قريش وشيوخها لا يهبطون هذا الوادي المجدب رغبة في المال وحده أو حرصًا على أن يمتعوا قريشًا بهذه اللذات التي يحملونها إلينا، وإنما هم يبتغون أشياء لا تخطر لنا ببال. ولو قد فطن لها الوليد بن المغيرة الذي كان يسدي إليَّ النصح والموعظة أمس، ولو قد فطن لها عتبة وشيبة ابنا ربيعة وصخر بن حرب وأمية بن خلف لاستقبلوا من أمرهم غير ما يستقبلون، ولنفوا كل رومي عن هذه الأرض، ولاشتطوا على هؤلاء الغرباء من الروم والنبط والفرس أكثر مما يشتطون على العرب.»

قال ورقة بن نوفل وقد ظهر على وجهه شيء من الجد: «أفصح يابن أخي فإني لا أفهم عنك.»

قال الفتى: «ستفهم عني، فإن هؤلاء الروم لم يهبطوا هذه الأرض للتجارة وحدها، إنما اتخذوا التجارة وسيلة إلى أشياء أخرى يبتغونها ونخدع نحن عنها بهذه اللذات اليسيرة الفاتنة التي يحملونها إلينا ويغروننا بها.»

قال ورقة: «وما عسى أن تكون هذه الأشياء؟» قال الفتى: «إنما هم عيون قيصر في هذه الأرض ورسله إلى هذا الوجه، يمدون له فيه الأسباب ويمهدون له فيه السبل. وما أرى أن واحدًا منهم قد أقبل إلى بلادنا إلا وهو مجمع أن يحبب إلينا أمرًا من أمور الروم ويستخف قلوبنا لحب هذه الحياة الرومية التي يحملون إلينا أيسرها وأهونها، ثم يقول قائلهم لنا حين يرى منا الابتهاج والرضا! فكيف لو ذهبتم إلى هذه المدينة أو تلك من مدن الروم! وكيف لو رأيتم هذه اللذات في أصولها التي تخرج منها وبيئاتها التي تنمو فيها! وكيف لو اتصلت أسبابكم بأسبابنا واختلطت أموركم بأمورنا!»

قال ورقة: «وقد أحسست من نسطاس بعض هذا فجئت تتحدث إليَّ به وتؤامرني فيه؟ وما تراني أصنع لك في هؤلاء وقد اعتزلت قريشًا واعتزلتني قريش، وأصبحت أموركم لا تعنيني كما أن أمري لا يعنيكم؟ هلا تحدثت بذلك إلى عمك الوليد أو إلى الملأ من قريش!»

قال الفتى: «إني لأغبطك على أن قريشًا قد اعتزلتك وعلى أنك قد اعتزلت قريشًا. وإني لأتمنى أن يتاح لي من ذلك ما أتيح لك. فإني أعرف أي الناس أستطيع أن ألقي إليه بهذا الحديث. إنما جئت لأحدثك بالعجب من أمر نسطاس هذا الذي تلومني فيه كما لامني فيه عمي الوليد.»

قال ورقة: «وعند نسطاس أعجب مما ذكرت؟» قال الفتى: «نعم.»

قال الشيخ: «وما ذاك؟» قال الفتى: «تعلم أيها الشيخ أني لا ألتمس الخمر واللذة والغناء عند نسطاس فحسب، وإنما ألتمس عنده العلم أيضًا. وقد تعلمت منه كثيرًا أكثر مما تعلمت منك؛ فقد عرفت منه شئون الروم مفصلة وأخبارهم مطولة، وأنت لا تحدثنا من ذلك إلا بالنزر اليسير لأن ذلك لا يعنيك، فأما هو فيكفي أن يتقدم الليل وأن ينصرف شباب قريش إلى بيوتهم وأن يخلو إليَّ وإلى ثلاثة أو أربعة من غلمانه وجواريه وقد صرف سائرهم، فإذا خلا بعضنا إلى بعض أديرت علينا خمر لا تدار على غيرنا، وسمعنا غناء لا يسمعه غيرنا، حتى إذا تقدم الليل خطوات أخرى وأغرق كل شيء في الصمت والسكون وخيل إلينا أننا قد اقتطعنا من الحياة والأحياء اقتطاعًا وأننا نعيش في جزيرة من النور والحركة يحيط بها بحر من الظلمة والسكون، قال نسطاس بلسانه الملتوي وصوته الأجش: «الآن طاب الحديث.» ثم نأخذ في حديث الروم فأسمع منه العجب العجاب. وقد اتصل الود بيني وبين نسطاس منذ أعوام، وجعل أترابي من قريش يلمون معي بدار نسطاس ثم ينتقلون منها إلى غيرها من دور الروم والنبط يتبعون في ذلك أهواء نفوسهم ويفرون بذلك من الحياة المطردة المتشابهة. وما أكثر ما ألحوا عليَّ في أن أذهب مذاهبهم وأسلك مسالكهم وأتنقل معهم في الغي كما يتنقلون، ولكني لم أنحرف قط عن دار نسطاس ولم أمل قط إلى اللهو في غير دار نسطاس؛ لأن عند نسطاس ما ألزمني داره وشغلني بمودته، حتى لامني فيه اللائمون، وحتى ظنت قريش بي الظنون، وحتى شكا من ذلك أهلي وأترابي، وعاتبني فيه عمي الوليد.»

قال الشيخ: «وماذا علمت يابن أخي من أمر نسطاس؟ فقد أثرت في نفسي شغفًا بالعلم لا عهد لي به منذ ودعت الشباب.»

قال الفتى وقد دنا من ورقة كأنما يريد أن يهمس إليه بما لا يحب أن يسمعه غيره: «علمت أن وراء نسطاس التاجر الخمار الذي يفتن شباب قريش بالخمر والنساء والغناء فيلسوفًا يلتمس الحق، وديانًا يلتمس الدين الصحيح.» قال الشيخ دهشًا: «إنه لكذلك يا ابن أخي؟» قال الفتى: «نعم! وقد كنت أعرف أنك وأمثالك تخرجون من بلادنا هذه لتضربوا في الأرض ولتلتمسوا الحق والعلم والدين، عند هؤلاء الأعاجم من الفرس والروم ومن اليهود. وما كنت أنكر من ذلك شيئًا، فهم قد سبقونا إلى الحضارة، وهم قد سبقونا إلى الكتاب. فأما أن يخرج الروم من بلادهم إلى هذه البلاد المجدبة القاحلة الغليظة الجافية التي لا حظ لأهلها من حضارة أو علم أو كتاب، ليلتمسوا عندنا الحق والعلم والدين، فهذا هو الذي لا أفهمه، ولم تطمئن إليه نفسي حتى حدثني نسطاس بما حدثني به أمس.»

قال الشيخ وقد أهمه الأمر إلى أبعد مدى، واسترد نشاطًا غريبًا وقوة كانت تخيل إلى من يراه أنه قد عاد إلى شبابه، أو أن شبابه قد عاد إليه: «وبماذا حدثك؟»

قال الفتى: «حدثني بأنه فرد من جماعة تلتمس الحق وتبحث عن الهدى، وبأن هذه الجماعة منتشرة في بلاد الروم، يتعارف أفرادها فيما بينهم بعلامات لهم، لا يعرفها أحد غيرهم. فإذا تحدث بعضهم إلى بعض من قريب أو بعيد تحدثوا بالرموز والإشارات، فلم يظهر أحد من أمرهم على شيء. وحدثني بأن هذه الجماعة قديمة العهد طويلة العمر، قد مضت عليها القرون، يوصي كل جيل منها إلى الجيل الذي يليه بالمضي في التماس الحق والبحث عن الهدى، يجدون في ذلك ما أتاحت لهم قوتهم وحيلتهم أن يجدوا، يتفرقون في الأرض في ملك قيصر، وفي ملك كسرى، وفي أقطار لم يبلغها ملك قيصر ولا ملك كسرى، لا يبالون ما يلقون في ذلك من جهد ولا ما يحتملون فيه من عناء، حتى إذا ظفر أحدهم بشيء من العلم أو بما يراه الحق أو قريبًا من الحق، احتال حتى يبلغه أصحابه، وهم على ذلك يتواصلون ويتعاونون ويستكشفون من العلم ما يستطيعون. ولكنهم علموا فيما علموا منذ الزمان الأول، أن لهذه الديانات التي يدين الناس بها في أقطار الأرض غاية تنتهي إليها، وأمدًا تبلغه فلا تعدوه، وأن دينًا يهبط على الناس من السماء في آخر الزمان، فيتم من أمر السماء ما بدأ، ويحمل الناس على الجادة، ويهديهم إلى الحق الذي لا شك فيه.»

قال الشيخ وقد أخذ حتى اضطر الفتى إلى أن يهدئ من روعه: «قل قل يا ابن أخي! وبماذا حدثك؟»

قال الفتى: «وحدثني بأن الجماعة عرفت أن أمر هذا الدين قد قرب، وأن زمانه قد أظل، وأنه لن يهبط من سماء الشام حيث هبط دين اليهود والنصارى، ولا من سماء الفرس حيث ظهر دين زرادشت، ولا من سماء اليونان حيث ظهرت ديانات اليونان، ولكنه سيتنزل من سماء واد غير ذي زرع، فيه قوم غلاظ قساة لاحظ لهم من علم ولا من كتاب، يطمئن أكثرهم إلى الجهل ويضيق به أقلهم، ولكنهم على ذلك يكتمون ما يجدون من هذا الضيق، ويشاركون العامة فيما هم فيه من الجهل. يقدم بعضهم على ذلك نفاقًا ورياءً والتماسًا للمنفعة والثروة والسيادة، ويقدم بعضهم على ذلك عجزًا وكسلًا وإخلادًا إلى الراحة والدعة. وقد فرقت الجماعة سفراءها في أقطار الأرض المجدبة غير ذات الزرع والضرع، فهم يلتمسون فيها هذه العلامات، ويسجلون ما يجدونه منها ويؤذن به بعضهم بعضًا، وينتظرون فيها هذا الدين الجديد. ونسطاس أحد هؤلاء قد وقعت له أرضنا حظًّا، فأقبل إليها يلهينا بالخمر والغناء والنساء، وينتظر أمر السماء.»

ولم يبلغ الفتى هذا الموضع من كلامه، حتى وثب الشيخ وثبة لم يشك الفتى حتى رآها أنه قد فقد رشده ومسه طائف من جنون. ولكن الشيخ عاد إلى أمنه وهدوئه، وظل قائمًا مكانه وقد رفع يديه إلى السماء وهو يقول: «قدوس قدوس! أشهد ما أنبأتني خديجة إلا بالحق!»

٣

ولم يظفر عمرو بن هشام من الشيخ بعد هذا الكلام الغامض بشيء يوضحه أو يجلوه، وإنما ظل الشيخ قائمًا مكانه باسطًا يديه أمامه رافعًا رأسه إلى السماء كأنما ينتظر منها شيئًا، ثم انحنى رأسه واسترخت يداه إلى جنبيه، وعاد إلى الشيخ ضعفه وهرمه، فجثا على ركبتيه وأطرق إلى الأرض وجعل يصلي بكلام حاول الفتى أن يفهمه أو أن يتبين لفظه فلم يجد إلى ذلك سبيلًا. فانصرف مغيظًا محنقًا يسأل نفسه في أعماق ضميره: أمس الشيخ طائف من جنون، أم أراد الشيخ إلى العبث به والتعمية عليه؟ فقد لاحظ عمرو بن هشام اشتغال الشيخ عنه حين أقبل عليه، وإعراضه عنه حين تحدث إليه، ومحاولة الفرار منه كلما ألح عليه في الحديث، وتكلف الغباء والقصور عن الفهم حين بدأ يصغى إليه. وكان عمرو بن هشام يعرف من ورقة غير هذا كله، كان يعرفه حفيًّا به يحسن القول له والاستماع منه. وكان يعرفه ذكيًّا حاد الذكاء بصيرًا نافذ البصيرة، لا يكاد يحتاج من محدثه إلا إلى بدء الحديث. وكان يعرفه كلفًا بأمور الدين لا يكاد يعرض لها عارض بين يديه حتى يندفع كأنه السيل، فينكر على قريش مكرها ونفاقها وتكلفها عبادة الأوثان، وما هي من عبادة الأوثان في شيء، ويرثي للعرب من جهالتهم هذه الجهلاء التي يغرقون فيها إغراقًا منكرًا حتى يضللهم سادة قريش بهذه الأكاذيب يصوغونها عن آلهتهم هذه المنصوبة، وهم يعلمون أنهم يكذبون ويضللون، وهم يسخرون من الناس ومن الآلهة حين يخلون إلى أنفسهم وحين يخلص بعضهم لبعض نجيًّا. وقد راب الفتى ما رآه من تغير الشيخ هذا الضحى، وزاده ريبة ما رآه من هذه الثورة المفاجئة حين ذكر له ما ذكر من أمر نسطاس. على أن الفتى لم يصل إلى هذا الموضع من نجوى ضميره حتى ازداد ريبة إلى ريبة وشكًّا إلى شك؛ فقد ذكر أن وجه نسطاس لم يكن خاليًا له أمس، وأن نفسه لم تكن خالصة له كما تعودت أن تخلص له حين يتقدم الليل وتسكت الموسيقى وينقطع الغناء ويتفرق الندامى ويخلو الصديقان، لا يشهد خلوتهما إلا هذان القدحان قد بقيت فيهما بقية من شراب يقبلان عليه بين حين وحين فيحسوان منه حسو القطا، وإلا هذه النجوم التي كانت تطل عليهما من السماء كأنما تريد أن ترى ما يصنعان أو تسمع لما يقولان، وهي على ذلك تخفي عليهما أسرارًا غامضة طالما اشتاقا إلى استجلائها، وإلا هذا النسيم الخفيف الضئيل الذي كان يختلس مسراه من سكون الليل اختلاسًا ويمر بهما من آن إلى آن حذرًا متحفظًا كأنما يخشى أن يفطنا له فيدلا عليه ضوء الليل.

هنالك كانت نفسي الفتى العربي ونفس الرجل الرومي تمتزجان امتزاجًا غريبًا، فيصفو لهما الود، ويخلص بينهما الحب، ويطيب لهما الحديث. وربما غمرهما سكون الليل وسكوت الطبيعة من حولهما فسكنا وسكتا، ورأى كل منهما مع ذلك في نفس صاحبه كما يرى في المرآة، وفهم كل منهما عن صاحبه كما يفهم الصديق عن الصديق. فأما أمس فقد كان الرومي ذاهلًا عن صاحبه بعض الذهول، لا يدنو منه إلا لينأى عنه، ولا يصل إليه إلا لينفصل عنه، وكان يحدثه أحاديث متقطعة، يتحمس في بعضها حتى يبلغ أبعد غايات التحمس، ويفتر في بعضها حتى يبلغ أقصى آماد الفتور. وقد ذكر عمرو بن هشام أنه انصرف عن صديقه الرومي كئيبًا محزونًا يرد عن نفسه ملالةً لا تريد أن ترد، ويدفع عن نفسه سأمًا لا يريد أن يندفع. وكان يعلل نفسه بلقاء ورقة يتعزى ببشاشته وحديثه عن فتور نسطاس وشرود خاطره، كما أقبل على نسطاس من ليلته تلك يلتمس فيما عنده من لذة آثمة أو بريئة عزاء عن هذا العتاب الثقيل الذي لقيه به عمه، فآذاه به فيما لا يحب أن يؤذي فيه من هذه الحرية التي كان يؤثرها على كل شيء، ولا يرضى أن تكون موضوعًا للأخذ والرد أو للجدال والنزاع.

وكانت كل هذه الخواطر تضطرب في نفس عمرو بن هشام وهو ماضٍ في طريقه بين دار ورقة بن نوفل والمسجد. والحق أنه دفع إلى المسجد على غير إرادة منه؛ فلم يكن في نفسه شيء من النشاط للقاء شيوخ قريش وشبابها في أنديتهم تلك التي لا يسمع فيها إلا ما يضيق به من الحديث. ولو قد فكر في الغاية التي ينبغي أن يقصد إليها بعد ما خرج من عند الشيخ لتردد بين اثنتين: فإما أن يرجع إلى داره ليخلو فيها إلى نفسه ويستقصي حساب هذه الخواطر التي كان تضطرب في ضميره وإما أن يذهب إلى نسطاس، فلعله أن يجد عنده من النشاط وحضور الذهن ما ينسيه شروده أمس وشرود الشيخ عنه اليوم. ولكنه دفع إلى المسجد بحكم العادة؛ فقد كان ينفق أول النهار عند ورقة، حتى إذا ارتفع الضحى وكادت الشمس أن تزول سعي متباطئًا إلى المسجد فأدرك أندية قريش قبل أن يتفرقوا وينصرف كل منهم إلى حيث يقيل. فلما بلغ المسجد كان قد انتهى من حساب نفسه إلى نتيجة مؤلمة له أشد الإيلام، مؤذية لكبريائه أشد الإيذاء، وهي أنه لقي ثلاثةً من أحب الناس إليه وآثرهم عنده في أقل من يوم، فلم يرَ عند أحد منهم شيئًا يرضيه. فعمه يعتب عليه عتبًا ثقيلًا، وصديقه الرومي يعرض عنه إعراضًا مرًّا، وورقة بن نوفل لا يهدي إليه إلا هذا الغموض الذي هو أشد عليه من عتاب العم وإعراض الصديق.

ولم يكن يقدر أنه سيلقى من أندية قريش مثل ما لقي من هؤلاء الرجال الثلاثة: أشياء إن لم تحفظه وتنتهِ به إلى الغيظ فهي لا تسره ولا ترضيه. ولو ملك الفتى زمام نفسه واستطاع أن يستقصي أمره كما كان يفعل دائمًا، لرد الأمور إلى أصولها، ولعرف أن أحدًا من هؤلاء النفر الثلاثة لم يلقه بشيء يكرهه، وإنما هو الذي حمل نفسه على ما لا تحب فرأى عند هؤلاء الناس ما لم يكن يحب أن يرى؛ فقد كان يأخذ الأمور دائمًا أخذًا هينًا، لا يهتم لشيء ولا يضيق بشيء. وما أكثر ما كان يلقاه عمه بالجد المر والدعابة الحلوة فلا يحفل بذلك ولا يأبه له. ونفس الصديق ليست دائمًا خالصة للصديق، ووجه الخليل ليس دائمًا خاليًا للخليل؛ فللناس من أمورهم الظاهرة والخفية ما يجوز أن يشغلهم عن أحسن أصدقائهم عندهم منزلة، وأرفعهم في قلوبهم مكانة. ولكن عمرو بن هشام كان هذه الأيام حرج الصدر ضيق النفس بكل شيء، قد عرضت له أزمة من هذه الأزمات التي تعرض لأصحاب القلوب الذكية والنفوس الأبية، حين يحسون الفراغ من حولهم، ويشعرون بأن الحياة باطل ما فيها من الجد والهزل ومن الشدة والرخاء، ويلتمسون لهذه الحياة غاية خيرًا مما وجدوا إلى الآن، ويطلبون إليها ثمرات أحلى مذاقًا وأبقى أثرًا من كل ما بلوا إلى الآن، فلا يجدون شيئًا مما يلتمسون، ولا يبلغون شيئًا مما يطلبون.

هنالك ينكرون أنفسهم وينكرون الناس، وهنالك يضيقون بأنفسهم كما يضيقون بكل شيء وبكل إنسان. وهنالك يدق حسهم ويرق طبعهم، فإذا هم يجدون الألم والسأم في أشياء لم يكونوا من قبل يجدون فيها ألمًا ولا سأمًا. وآية ذلك أن عمرو بن هشام لم يلق ابتسام القوم له في ناديهم بابتسام مثله، ولم يرد تحيتهم الطيبة بتحية مثلها، وإنما أقبل فأهدى إلى قومه هذه التحية التي تدفع اللائمة ولا تزيد على ذلك. ولو قد استطاع لما ألم بهم ولا جلس إليهم. فقد رأى فيهم عمه الوليد بن المغيرة فكره ذلك أشد الكره، وكاد يمضي لوجهه لولا أن جعل القوم يرحبون به ويومئون إليه أن أقبل، ولولا أن جعل عمه يناديه: «أقبل أبا الحكم فقد جئت حين اشتدت الحاجة إليك.» ولم يكد عمرو يجلس إلى قومه حتى ابتدره عمه قائلًا في دعابة حلوة: «هذا أوان يختبر حزمك وعزمك وفضلك فيما تعقد من الأمور.»

قال عمرو بن هشام وهو يتكلف الابتسام: «إنك لحلو الدعابة منذ اليوم يا عم! وما أرى إلا أن أمور القافلة تستقيم لك على خير ما تهوى.»

قال الشيخ: «لم تعد الحق يابن أخي، فما أكثر ما حمل إليَّ من الذهب والورق والعروض! وما أشد ابتدار قريش إلى الرحلة وتنافسها في السفر! ولتعلمن قريش أن الوليد بن المغيرة ميمون النقيبة، لا يتولى لهم تجارة إلا عادت عليهم من الربح بأكثر مما ينتظرون.»

هنالك انبسطت أسارير القوم وظهر الابتهاج في وجوههم، وقال قائلهم: «والله ما علمناك يا أبا الوليد إلا سيدًا كريمًا ميمون النقيبة في كل ما وليت من الأمر.»

قال الوليد لابن أخيه في صوته العريض العميق: «ولكن أمور الموسم لا تجري من النجح والاستقامة على مثل ما تجري عليه أمور التجارة. فقد أدركت قومك يابن أخي وهم يختصمون في شيء ليس بذي خطر في ظاهر الأمر، ولكنه بعيد الأثر في حياتهم وفيما يستقبلون من سياسة العرب. وحسبك أنها الخصومة بين المنفعة والحياء. وإذا اختصمت في نفسك المنفعة والحياء فإلى أيهما تميل؟»

قال عمرو بن هشام: «فأما إن كنت تمزح فإني أوثر المنفعة ولا أعدل بها شيئًا. وأما إن كنت تريد إلى الجد فإني أوثر الحياء لا أعدل به شيئًا؛ لأني أوثر دائمًا أن أكون رجلًا، والحياء نصف مروءة الرجل. ولكني لا أفهم عنك ما تقول منذ اليوم، فما هذه الخصومة بين المنفعة والحياء؟»

قال الوليد: «فإن قومك يستعدون للموسم كما علمت، ويتهيئون لاستقبال العرب الذين يفدون علينا من كل صوب إذا دنت هذه الأشهر الحرم، وأنا أعلم أنك مشغول بنفسك عن مثل هذه الهنات، ولكن هذه الهنات معقدة يابن أخي أشد التعقيد، ينهض بأثقالها شيوخ قومك وذوو الأحلام منهم على حين تختلف أنت وأترابك …»

قال عمرو بن هشام: «حسبك يا عم فقد سمعت من ذلك ما أرضاني أمس»، ثم تمثل قول الشاعر اليثربي:

قالت ولم تقصد لقيل الخَنَا
مهلًا فقد أبلغت أسماعي

قال الوليد: «أما إن كان ذلك كذلك فإني أرجو أن يكون فيك خير. ولكن قومك يختصمون في الأمين وفي أمر أقدم عليه في الموسم الماضي، وهم يخشون أن يعود إليه في الموسم المقبل.» قال عمرو بن هشام: «وما ذاك؟» قال الوليد: «ألست تذكر أن محمدًا غير من عادات قريش في الحج ما لا يقدر أحد على تغييره، فحج كما يحج العرب لا كما يحج أهل الحرم؟» قال عمرو بن هشام وهو يبتسم ويهز رأسه: «لا أذكر من ذلك شيئًا.»

قال الوليد: «ما أنت وذاك يابن أخي! إن لك في مرح الشباب وأقداح نسطاس عن ذلك لشغلًا. ولكنك تعلم على أقل تقدير أن أهل الحرم لا يخرجون منه إذا أرادوا الحج، فهم لا يفيضون من عرفة ولا يأتون منًى ولا غيرها من المشاعر خارج الحرم، إنما يتركون ذلك لسائر العرب فضيلة لهم على الناس جميعًا.»

قال عمرو بن هشام: «فضيلة خصوا بها أنفسهم ولم تخصهم بها الآلهة، وأقرت لهم بها العرب ضعفًا وعجزًا.»

قال الوليد: «هذا أول الشر. فأنت إذًا لا تنكر على الأمين خروجه من الحرم، وإفاضته مع الناس من حيث يفيضون، وسيرته في الحج كسيرة رجل من العرب لا من قريش؟»

قال عمرو بن هشام: «لا أنكر عليه شيئًا ولا أقره على شيء ولا أُعنى من ذلك كله بكثير ولا قليل، ولو قد عُنيت من ذلك بشيء لسلكت فيه طريق الأمين، ولأعنته وجاهدت معه، حتى نرد قريشًا إلى السنة الأول ونلغي هذه البدعة التي ابتدعتها والتي لم نرثها عن آبائنا؛ لا لأني أحفل بقديم أو جديد، ولا لأني آبه لسنة أو بدعة، ولكن لأني أرحم هؤلاء العرب الذين تكلفونهم ما لا يطيقون، وتحملونهم ما لا يستطيعون له احتمالًا، إيثارًا لأنفسكم بالخير، واستكثارًا للربح من غير وجهه، واتجارًا بما لا ينبغي أن يتجر فيه. إنهم يأتونكم وقد حملوا ثيابهم وطعامهم وشرابهم، فتحرمون عليهم من ذلك ما أحل لهم من قبل، وتأبون عليهم أن ينزلوا بين أظهركم حتى يتحففوا كارهين من كل ما حملوا، ثم تبيعون عليهم من الثياب والطعام ما لم يكونوا في حاجة إلى أن يشتروه، ثم تكرهونهم على أن يشتروا منكم الطعام أو يقيموا بينكم جياعًا، وعلى أن يشتروا منكم الثياب أو يطوفوا بالبيت ويقيموا بينكم عراة، لا تفرقون في ذلك بين الرجل والمرأة، ولا بين الشيخ الفاني والغلام الناشئ. خطة اختططتموها من عند أنفسكم لم ترثوها عن سنة ولم تأخذوها من كتاب، وإنما هو حب الاستعلاء والطمع في الربح. لا يكفيكم أن تكونوا جيران الآلهة وسكان الحرم وحماة الكعبة حتى تستنبطوا من هذا كله حقوقًا لم تكن لكم. ولا يكفيكم ما تغله عليكم تجارتكم البعيدة والقريبة من مال حتى تضيفوا إليه مالًا تشتقونه من جوع الجائع وظمأ الظامئ وعرى العريان.»

قال عتبة بن ربيعة وقد أحفظه ما سمع: «على رسلك أبا الحكم! فإنك والله لتشاركنا في كل هذا، تأثم معنا إن أثمنا، وتنعم معنا إن نعمنا، فأنكر على نفسك إن كنت منكرًا.»

قال عمرو بن هشام: «نعم، إني لأشارككم في الخبيث والطيب من مالكم، وفي القبيح والحسن من أمركم، ولوددت والله ألا أشارككم في شيء، وأن أكون فيكم خليعًا كأحد هؤلاء الخلعاء.»

قال أمية بن خلف: «ما رأيت كاليوم سفيهًا كنا ننتظر منه الحلم، ولا غويًّا كنا نرجو منه الرشد.»

قال عمرو بن هشام: «اربع٢ على نفسك أبا علي، فليس كل من خالف عن أمرك سفيهًا، وليس كل من انحرف عن رأيك غويًّا.»

قال أبي بن خلف: «أمهلوا أبا الحكم فوالله إن له لشأنًا، وما علمناه عيابًا ولا مشتطًّا على قومه، وما أرى إلا أنه في حاجة إلى أن يقيل.»

قال الوليد بن المغيرة وهو يكظم غيظه ويتكلف الابتسام والدعابة: «دعوه، فوالله ما علمته إلا ولد سوء، وما أرى إلا أن خمر نسطاس وهراء ورقة بن نوفل قد أفسدا عليه أمره. ولقد نهيته عن هذين الرجلين فلم ينتهِ وإني أحلف باللات والعزى ليكفن عما هو فيه أو ليكونن له معي شأن كشأن زيد بن عمرو مع عمه الخطاب.» وهم عمرو بن هشام أن يرد على عمه القول، ولكن شيبة بن ربيعة وعلي بن أمية قاما إليه فرفقا به حتى انصرفا به من المجلس.

وعاد شيوخ قريش إلى ما كانوا فيه من النجوى. فقال أمية بن خلف: «قد علمتم يا معشر قريش أن للأمين فيكم مكانة ما تعدلها مكانة، وأنكم لم تنكروا من أمره شيئًا، وما زلت أراكم تحتكمون إليه وترضون حكمه في أمر هذا الركن. وقد علمتم أن لعبد المطلب وبنيه في الدين شأنًا غير شأنكم ومذهبًا غير مذهبكم: تيسرون على أنفسكم، ويشقون على أنفسهم، وتعلم ذلك منهم العرب كلها. فما زاد الأمين على أن مضى على سنة أبيه عبد المطلب فتكلف من شئون الحج ما لا تحبون أن تتكلفوا، فخلوا بينه وبين ذلك ولا تراجعوه في شيء منه فتسوءوه وتسوءوا بني هاشم، ولكم بعد في تحرج الأمين وتكلفه ما لا تتكلفون منفعة؛ فسيرى العرب أن سيدًا من ساداتكم وشريفًا من أشرافكم لا يكره أن يسير سيرتهم، ويحتمل من المئونة ما يحتملون، ويفيض معهم من حيث يفيضون. فإذا رأوا ذلك عرفوا لقريش السؤدد والتواضع جميعًا.» قال الوليد بن المغيرة: «إن رأيك لهو الرأي يا أبا علِي.» وتفرق القوم إلى دورهم.

فأما عمرو بن هشام فقد انصرف مع صاحبيه شيبة بن ربيعة وعلي بن أمية كارهًا وهما يرفقان به ويلطفان له، يأخذانه بالجد حينًا وبالدعابة والمزاح حينًا آخر، حتى ثابت إليه نفسه وسكت عنه الغضب. يقول له شيبة بن ربيعة متضاحكًا: «لقد قمت يا أبا الحكم عن الأمين مقامًا سيعلمه وسيحمده لك.» قال عمرو بن هشام: «وأقسم ما أبغضت إنسانًا قط كما أبغضت الأمين، وما آذاني شيء قط كما تؤذيني قريش حين تكرمه وتعظم من أمره ومن أمر بني عبد المطلب ما تعظم.» وكان القوم قد انتهوا إلى دار شيبة بن ربيعة، فعزم عليهم ليدخلن ولينالن عنده شيئًا من طعام وشراب. فلما استقر بهم المجلس وأخذ الغلمان يهيئون لهم غداءهم، قال شيبة: «ما ظننت قط أن أحدًا يبغض الأمين، وما عرفته إلا محمدًا كاسمه بين قومه محببًا إلى النفوس جميعًا. فهلا حدثتنا يا أبا الحكم ببدء هذا الشنآن الذي تضمره له!»

قال عمرو بن هشام: «إن بدء ذلك لقديم جدًّا، وإن عهدي به لفي أول أيام الشباب؛ أقبلنا على وليمة في دار عبد الله بن جدعان، فلما دعينا إلى الطعام ازدحمنا، وزاحمني محمد فزحمني، فزلت قدمي فسقطت على الأرض.»

قال شيبة: «أذكر ذلك، وأذكر أنك لم تشاركنا في طعامنا فقد أصاب إحدى ركبتيك بأس.»

قال عمرو بن هشام: «بأس! أي بأس! ما زال أثره باقيًا إلى الآن، وما أرى أنه سيزول، وما أرى إلا أن بغضي لمحمد سيبقى ما بقي هذا الأثر.»

قال شيبة: «هون عليك أبا الحكم؛ أمرٌ يكون بين الشباب لا عاقبة له.»

قال علِي متضاحكًا: «فإن محمدًا قد فوت عليه طعام ابن جدعان وطعام ابن جدعان يؤسي عليه.»

قال عمرو بن هشام: «كان ذلك بدء بغضي له، ولكني ما زلت أسمع عنه وعن قومه الأعاجيب، يتحدث بها الناس عنه فتسمعون أنتم وتنسون، وأسمع أنا وأحفظ، ثم يغيظني من ذلك ما لا يغيظكم. أتذكرون تلك الأحاديث التي أذيعت عنه وملئت بها مكة حين سافر إلى الشام في مال خديجة بنت خويلد؟!»

قال شيبة: «أحاديث غلام أعجمي صدقها من صدقها وكذبها من كذبها، وأشاد بها هذا الصابئ الذي تألفه وتكلف به ورقة بن نوفل.»

قال عمرو: «دع ورقة لا تعرض له، فإنه ما علمت لرجل خير.»

قال علِي: «توشك والله يا أبا الحكم أن تنحرف مع هذا الرجل عن مألوف قومك.»

قال عمرو ساخرًا: «قومي أعز عليَّ من هذا.»

وكانت المائدة قد مدت فأقبل القوم على طعامهم، ومضى عمرو بن هشام في حديثه يقول: «وإصهار محمد إلى خويلد واستئثاره بخديجة ومالها.» قال شيبة: «خير سيق إلى ابن عمك، فما ينبغي أن تنفسه عليه.» قال علِي: «لم ينفسه وحده، ولقد شاركه في ذلك كثير من قريش.» قال عمرو: «ولا والله ما غاظني شيء قط كما غاظني احتكام قريش إلى محمد في أمر الركن ورضاها بحكمه، واستئثار محمد من دون قومه بهذا الشرف حين أخذ الحجر بيده فوضعه في موضعه من الكعبة، ونحن قيام ننظر إليه لا نقول شيئًا كأنما سكرت أفواهنا، ولا نصنع شيئًا كأنما شلت أيدينا.»

قال شيبة: «ما أحببت قط رجلًا كما أحببت محمدًا في ذلك اليوم! فقد رد عن قومه شرًّا عظيمًا.»

قال عمرو: «وما ضقت بشيء قط كما ضقت بمكان عمي الوليد بن المغيرة الذي كان يسلقني بلسانه آنفًا. لقد كنت أراه حازمًا عازمًا جريئًا حين ترددت قريش، يقدم على هدم الكعبة حين أشفق الملأ من ذلك وهو يقول: «اللهم لا ترع فما أردنا إلا الخير» حتى إذا حمل قريشًا على ما أراد عجز عن أن يمضي في الحزم إلى غايته، وخلي بين مجد قريش وبين فتى من فتيان بني هاشم يستأثر به من دوننا.»

قال علِي: «إنه الحسد يا أبا الحكم، وما علمتك قبل اليوم حسودًا.»

قال عمرو: «سمه ما شئت؛ فإني أضمر لهذا الأمين من البغضاء ما لم أضمره لإنسان قط. ولو استطعت …» ثم سكت قليلًا ثم استأنف حديثه فقال: «ومن لي بأن أستطيع!» ثم التفت إلى علِي قائلًا: «ما علمتني يا علِي حسودًا، وما عرفت في نفسي حسدًا، وإنك لتستطيع أن تملك من الذهب والفضة ما يملأ بين هذين الجبلين، فلن أجد في نفسي من ذلك إلا الغبطة والرضا، ولكن شاة يملكها الأمين تؤذيني وتُقِضُّ مضجعي كما لو عدا على حر مالي فأخذه قهرًا وقسرًا.» وطوف الغلمان عليهم بأقداح من خمر بيسان فأقبلوا عليها شرهين إليها، ولكنها لم تكد تصرف عمرو بن هشام عن حديث الأمين وما كان يضمر له من البغض حتى شق على صاحبيه.

٤

وكانت أجبال مكة قائمة حولها ساهمة واجمة في يوم شديد القيظ، كأنما أدركها منه ما يدرك الناس فيذهلهم عن أنفسهم وعما حولهم من الأشياء. وكانت مكة بين هذه الأجبال ساكنة سكونًا مخيفًا لا حركة فيه، هادئة هدوءًا مفظعًا لا نشاط فيه، قد استقرت بين هذه الأجبال، واستقر فيها كل شيء، فما تجري فيها نسمة، وما يغني فيها طائر، وما تصوت فيها حشرة، وإنما هي جامدة هامدة تصب فيها أشعة الشمس المحرقة صبًّا، وتنعكس في هذه الأشعة المحرقة ألوان مختلفة من هذه الصخور القائمة من حولها، حتى ليخيل إلى من كان يمكن أن يراها في ذلك الوقت أنها طستٌ يصب فيها معدن مذاب يصهر كل ما مسه من شيء. وفي هذه المدينة الجامدة الهامدة المحرقة المشرقة كان رجل رومي يسعى ثقيل الحركة بطيء الخطو متخوفًا يلتفت عن يمين وشمال في كثير من الحذر، كأنما يخشى أن يرى مكانه أحد. وكان يسعى مجهودًا مكدودًا شديد الإعياء قد ألهبته هذه الشمس المهلكة، ولكنه على ذلك يسعى إلى غايته لا يبالي تعبًا ولا نصبًا، حتى إذا بلغ دار ورقة بن نوفل رأى غلامًا قائمًا بالباب يرقب مقدمه، فلما رآه مقبلًا تلقاه بابتسامة صامتة، ثم سعى بين يديه حتى أدخله الدار وأغلق من دونهما الباب، ثم سعى بين يديه ينقله من دهليز إلى دهليز ومن حجرة إلى حجرة، يسعى لا يقول شيئًا، والرومي وراءه يمشي لا يقول شيئًا، حتى انتهيا إلى حجرة في أقصى الدار، فلما دخلاها أغلق الغلام الباب من دونهما، ثم أحدث حسًّا فظهر ورقة كأنما كان في مخبأ. فلما رأى الرومي حياه بالإشارة ثم قال: «اتبعني يا نسطاس.» ثم التفت إلى الغلام وقال: «أما أنت فمكانك حتى نحدث لك أمرًا.» وهبط ورقة يتبعه نسطاس في سلم كان في زاوية من زوايا الغرفة، فلما انتهيا إلى أسفل السلم أمعنا في نفق طويل ضيق ولكنه جعل يتسع قليلًا قليلًا كلما أمعنا فيه حتى انتهيا إلى مجلس حسن، فلما بلغاه جثا كل من الرجلين على ركبتيه وأخذا يصليان بلغة غير عربية صلاة طويلة. فلما فرغا من صلاتهما مد ورقة يده إلى قدح فيه شيء من خمر فقرأ عليه كلامًا ثم قدمه إلى الرومي، فشرب منه ثم رده إلى ورقة فشرب ما كان قد بقي فيه. ثم تحول الرجلان عن مكانهما ذاك إلى حشية قد ألقيت على الأرض فجلسا عليها وبين أيديهما شراب أقبلا عليه صامتين. ثم قطع نسطاس الصمت قائلًا: «إنه الفجر يا ورقة.» قال ورقة: «نعم، إنه الفجر يا نسطاس! والفجر الصادق هذه المرة، فقد طالما كذبتنا نجوم الليل.» قال نسطاس: «فقد أخذ الليل ينجلي.» قال ورقة: «ولكنه ينجلي في بطء شديد.» قال نسطاس: «وقد آن لي أن أرحل بالخبر إلى أصحابنا قبل أن تشرق الشمس.» قال ورقة: «أو قبل أن يرتفع الضحى.» قال نسطاس: «بل قبل أن تشرق الشمس فالخير في البكور. وقد كان شاعركم يحب الغدو مع الطير، فلنكن عربًا ونحن نودع أرض العرب.» قال ورقة: «ولكنك عجلت على نفسك أمس يا نسطاس.» قال نسطاس: «بما حدثت به عمرو بن هشام؟» قال ورقة: «نعم.»

قال نسطاس: «لا ترع، فقد كان يجب أن نؤذن قريشًا بمطلع الفجر، وأن نهيئها لما سيغمرها من نور، ونعدها لما تضمر لها الأقدار مما تحب وما تكره. وما أعرف أحدًا كان أقدر على أن يهيئ قريشًا لهذا الأمر من صاحبك هذا؛ فإنه فتى طموح شديد الطموح، مغرور يكاد يقتله الغرور، حسود يأكل الحسد قلبه كما تأكل النار ما يلقى فيها من الحطب، وهو على ذلك ذكي القلب، فصيح اللسان، أثير عند قومه. وما أرى إلا أنه سيكون أشد الناس عداوة لهذا النور الجديد، وما أرى إلا أن عداوته ستزيد هذا النور انتشارًا كلما أمعنت في الشدة والحدة. وكذلك الأقدار يا ورقة تدبر للناس أمورهم كما تحب هي لا كما يحبون هم. نور يخرج من ظلمة، ثم ما تزال الظلمة تحاربه وتغالبه حتى يقهرها. أرأيت إلى صاحبنا هذا الذي أشرق الفجر في قلبه وسيشرق على الناس من فمه كيف أقبل على هذه الدنيا وكيف استقبل أيامه فيها؛ يولد أبوه وهو أحب الناس إلى أبويه، ولكنهما يفتنان فيه فتنة لم يعرفها الناس منذ إبراهيم، حتى إذا خلص الفتى من الفتنة وقرت به عينا أبويه خرج إلى الشام فلم يعد من رحلته تلك، وإنما دفن في حفرة بيثرب. لم يولد لنفسه، وإنما ولد لينقل ابنه إلى الأرض، فلما أدى أمانته مضى لسبيله. وتلد آمنة ابنها وتقوم عليه، حتى إذا تقدم به الصبا قليلًا واستغنى عن خدمة الأمهات مضت أمه إلى حيث مضى أبوه، وظل الصبي يتيمًا عائلًا ضالًا، لا ينتظر أحد له خيرًا، ولا يظن به أحد خيرًا، ولا يحفل به أحد، ولا يلتفت إليه أحد، إلا الذين أرادت الأقدار أن يعرفوا بعض شأنه وأن يقوموا ببعض أمره، لا يتكلفون في ذلك إلا أيسر الأمر وأهونه؛ لأن الذي اختارته الأقدار لمثل هذه المهمة العظمى لا ينبغي أن تكون للناس عليه يد، ولا يرعاه ويكلؤه إلا من اصطفاه لما يريد.»

قال ورقة: «هو ذاك يا نسطاس. وما أكثر ما بحثنا وأمعنا في البحث! وما أكثر ما استقصينا وغلونا في الاستقصاء! نبعد ومحمد بين أظهرنا. نلتمس مشرق النور في أقطار الأرض ومشرق النور يسعى بين أيدينا، حتى إذا تتابعت الآيات وتظاهرت الأدلة ظننا في غير قطع أننا قد اهتدينا إلى ما كنا نبحث عنه، وجعلنا نرقب محمدًا منذ خمس عشرة سنة منذ عاد من الشام. أتذكر يا نسطاس؟» قال: «نعم.» قال ورقة: «ما زلنا نرقبه منذ ذلك اليوم والآيات يتبع بعضها بعضًا، والأدلة يشد بعضها أزر بعض حتى جاء الحق وظهر نور الله.»

قال نسطاس: «هو ذاك! ولكن بماذا أرحل إلى أصحابنا؟» قال ورقة: «بما علمت.» قال نسطاس: «فإني لم أعلم من ذلك إلا خلاصته، وقد أحب أن أحمل إلى أصحابنا تفصيله. وقد أنبئت أن عندك من هذا العلم كله، فأعد عليَّ من ذلك ما تعلم، تقول أنت بعربيتك وأكتب أنا بيونانيتي، حتى إذا بلغت أرض الروم أفضيت بالأمر إلى أصحابنا فأخذوا له ما ينبغي من الأهبة، وتهيئوا له كما ينبغي أن يتهيئوا لهذا الأمر العظيم.»

قال ورقة: «يا ليتني أستطيع أن أرتحل معك، وأن أشارككم فيما ستبذلون من جهد وما ستحتملون من مشقة لتعدوا بلاد الأعاجم لاستقبال الشمس المشرقة حين يبلغها نورها.»

قال نسطاس: «ولكن عليك أن تقيم حيث أنت، وعلي أنا أن أعود إلى بلاد الروم، بهذا أمرنا، ولا بد من أن نذعن لما أمرنا به. فاقصص عليَّ بدء حديثك فقد هيأت كل شيء للرحيل، ويجب أن أترك مكة قبل أن تغرب الشمس وأن يأتي فتيان قريش إلى حانة نسطاس فلا يجدوا فيها نسطاس، ولا يجدوا فيا خمرًا ولا غناء ولا نساء، وإنما يجدون دارًا خالية بلقعًا يبابًا، كما سيجدون دورًا لقومهم حين يرتفع ضحى هذا النور الجديد.»

قال ورقة: «فإن ابنة عمي خديجة قد أقبلت عليَّ ذات يوم فأنبأتني بالنبأ تعيد عليَّ حديث زوجها، وقد حفظته عنها كما سمعته منها، فإن شئت فاكتب.» فأقبل نسطاس على رق يكتب فيه. وجعل ورقة يقول: «قال رسول الله .» يقول نسطاس: «يا لها كلمة حلوة المجرى على اللسان، حسنة الموقع في القلب، خالدة في الدهر ما بقي الدهر!» قال ورقة: «أتكتب يا نسطاس؟» قال نسطاس: «نعم.» قال ورقة: «قال رسول الله : جاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتَّني٣ به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتَّني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتَّني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ، قال: قلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي، فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. قال: فقرأتها، ثم انتهى فانصرف عني، وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابًا. قال: فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتًا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صافٍّ قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفًا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني، وانصرفت راجعًا إلى أهلي حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفًا إليها. فقالت: يا أبا القاسم! أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا أعلى مكة ورجعوا إليَّ. ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت: أبشر يابن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.»٤

ثم سكت ورقة فلم يقل شيئًا، وكف نسطاس فلم يكتب شيئًا، وظل الرجلان في هذا الصمت والسكون ساعة، كأنما كانت نفساهما قد فارقتاهما وجعلتا تسموان إلى أفق بعيد ليس من هذا العالم الذي يحيط بهما في شيء. ولو قد رآهما راءٍ على هذه الحال لخيل إليه أن قد اشتمل عليهما النوم. وآية ذلك أن الحس عاد إليهما فجأة فذعرا من هذا الصمت كأنما هبا من نوم عميق، ونظر كل منهما إلى صاحبه نظرة طويلة صامتة ثم مد كل منهما يده إلى صاحبه فصافحه مصافحة طويلة، وإذا دموعهما تنهل في صمت، وإذا نسطاس يقول لصاحبه: «ما أحسن ما كوفئنا يا ورقة بعد شدة الجهد وطول الانتظار! ولكن ممن سمعت حديثك هذا الذي حدثتني؟» قال ورقة وقد أشرق وجهه بشرًا وابتهاجًا: «سمعت حديثي هذا من خديجة أول الأمر، فما أنكرت منه شيئًا وما شككت في أن هذا الملك الذي جاء محمدًا هو الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، فعرفت أن محمدًا لم يفجأ بلقاء الملك ولا بتلقي الوحي، وإنما هيئ لذلك شيئًا فشيئًا حتى أنكر نفسه وأساء بها الظن؛ فقد جعل قبل أن يأتيه الملك بوقت طويل يرى من آيات ربه أشياء لم يكن يراها من قبل، فينكر ما يرى ويظن بنفسه العلة، ويصرفها عما كان يرى ويسمع، فلا تكاد تنصرف عنه، أو لا يكاد ينصرف عنه ما كان يرى ويسمع. وكان أول أمره من ذلك أن صدقته أحلام الليل صدقًا لم يألفه الناس ولم يألفه هو فيما مضى من دهره، فكان لا يرى رؤيا إلا صدقت وصحت وتحققت كأنها فلق الصبح، حتى كاد النوم يكون آثر عنده وأحب إليه من اليقظة. ثم أحس حب الخلوة والحاجة إليها، فكان لا يلم بمكة إلا قليلًا، ثم يخرج منها فيمضي أمامه في شعاب الجبال مستأنسًا بهذه الوحشة مطمئنًّا إلى هذه الوحدة. ولكن خلوته هذه لم تلبث أن رابته وأثارت في نفسه الظنون، أو قل لم تلبث أن فارقته، وإذا هو لا يخلص لنفسه ولا تخلص له نفسه ساعة من نهار أو ساعة من ليل، وإذا الفرق بين الليل والنهار قد ألغي بالقياس إليه إلغاء، فهو لا يرى إلا نورًا يأخذه من كل وجه سواء أكانت الشمس مشرقة أم كان الليل مظلمًا مُدْلَهِمًّا، فقد الظلمة فقدانًا تامًّا، ثم فقد السكون والصمت فقدانًا تامًّا؛ فكان لا يمشي إلا سمع الأصوات تناجيه أحسن النجوى، وتحدثه أعذب الحديث وتحييه أكرم التحية، يسمع ذلك من الأشجار، ويسمع ذلك من الأحجار، ويسمع ذلك من حصباء الأرض، ويسمع ذلك من نسيم الجو، حتى أنكر نفسه أشد الإنكار، وحتى أقبل ذات يوم على خديجة مدلهًا مولهًا مذعورًا يقول: تعلمين يا خديجة أني والله ما أبغضت شيئًا كما أبغض هذه الأوثان التي تعكف عليها العرب، وما كرهت شيئًا كما أكره ما ألف العرب من الكهانة، وإني مع ذلك لأجد أشياء أنكرها، وأخشى أن يلم بي لممٌ أو أن أصير إلى الكهانة. تقول له خديجة: لا بأس عليك! أنت أكرم على ربك وآثر عنده من أن يصنع بك هذا. إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث وتصنع المعروف، حتى كان ذلك اليوم الذي نبئ فيه.»

وكان ورقة يقص هذا الحديث هادئًا مشرق الوجه باسم الثغر، وكانت يد نسطاس تجري على قرطاسه بتفسير ما يسمع في لغة يونان. ثم سكت ورقة لحظة ثم استأنف حديثه فقال: «وقد لقيت محمدًا بعد ذلك، فسألته أن يعيد عليَّ ما حدثتني به خديجة من شأنه وما حدثتك به آنفًا، فيعيده علي؛ لا والله ما ينقص منه حرفًا وما يزيد فيه حرفًا، فيشرق الهدى في نفسي ويمتلئ قلبي يقينًا ونورًا، وأبشره بما ستبشر به أصحابنا في الإسكندرية وغيرها من مدن الروم، وبما ستنتشر أنباؤه في الآفاق من أنه نبي هذه الأمة. وأثبته وأوذنه مع ذلك بشيء من بعض العنت الذي سيلقاه من قومه.» قال نسطاس: «أوقد فعلت؟» قال ورقة: «نعم، ألسنا نقرأ في كتبنا أن قومه سيكذبونه وسيؤذونه وسيخرجونه وسيقاتلونه؟!» قال نسطاس: «بلي»: قال ورقة: «فقد تحدثت إليه ببعض ذلك، أولسنا نقأ في كتبنا أن علينا نصره وتأييده ما وسعنا النصر والتأييد؟» قال نسطاس: «بلى.» قال ورقة: «فقد وعدته بذلك، ولكن أنى لي هذا الفضل وإنما أنا هامة اليوم أو غد!» ثم استعبر واستعبر معه نسطاس. فلما سكت عنهما البكاء قال نسطاس: «وماذا كان صدى حديثك في نفسه؟» قال ورقة: «والله ما كدت أحسب أن قد كان لحديثي في نفسه صدى! دهش لما أنبأته به بعض الدهش، ثم أعرض عنه كأنه لم يسمع له. لا والله ما رأيت إلا حزمًا وعزمًا، وإلا يقينًا وإيمانًا، وإلا تصميمًا على أن ينهض بالأمانة ويؤدي الرسالة مهما يكتنفه من الأحداث والخطوب. وليتني كنت حاضر أمره!» قال نسطاس: «وليتني كنت حاضر أمره! ولكنك لن تحضر من أمره إلا قليلًا، ولكني لن أحضر من أمره في هذه الأرض شيئًا. والأقدار تجري بما تريد يا ورقة، وإنما نحن مأمورون، وعلينا أن نمضي لما أمرنا به حتى يبلغ الكتاب أجله.» ثم جثا الرجلان وبسطا أيديهما أمامهما وخفضا رأسيهما إلى الأرض وجعلا يصليان بلغة غير عربية وقتًا غير قصير ثم نهضا، وتناول نسطاس قدحًا فيه شيء من شراب، فبارك عليه ثم قدمه إلى صاحبه فشرب منه ثم أخذه هو منه فشرب سائره، ثم اعتنق الرجلان وخرجا من مجلسهما يسعيان في نفقهما الذي جعل يضيق شيئًا فشيئًا، حتى إذا بلغا السلم صعدا فيه، فوجدا الغلام قائمًا لم يبرح مكانه.

قال ورقة للغلام: «هل هيئ كل شيء؟» قال الغلام: «نعم! إن فرس نسطاس ينتظره في المكان الذي يعلمه.» قال ورثة لنسطاس: «فإنه الوداع إذًا يا نسطاس!» قال نسطاس: «إنه الوداع.» ثم اعتنق الرجلان مرة ثانية، يقول ورقة لنسطاس: «انطلق راشدًا مصاحبًا» ويقول نسطاس لورقة: «وأقم موفقًا مهديًّا.» ثم يغلق الباب من دون ورقة، وإذا هو قائم وحده ينظر عن يمين وينظر عن شمال ويرفع رأسه إلى السقف ثم يجثو باسطًا يديه أمامه وهو يصلي بلغة لا تفهمها ولا تتكلمها قريش.

٥

ومضت على عمرو بن هشام أيام لم يعرفها ولم ينكرها، كما أن قومه لم يعرفوه فيها ولم ينكروه. راح إلى دار نسطاس من يومه ذاك فألفاها قاعًا صفصفًا، فلما سأل عن صاحبه الرومي قال له من سألهم: والله ما ندري إلا أننا أحسسنا في دار نسطاس حركةً وجه النهار فلم ننكر شيئًا، فلما أمسينا رأينا الدار كما تراها. فانطلق إلى دار ورقة يستأذن عليه، فيقول له غلام ورقة: إن سيده يشكو بعض العلة ولا يستطيع أن يرى أحدًا. ولو قد استجاب الفتى لنفسه لذهب إلى دار عمه الوليد بن المغيرة، ولكنه ذكر ما كان بينه وبين عمه في المسجد فأعرض عن لقاء الشيخ إعراضًا. ولو قد استمع الفتى إلى ما ملأ قلبه من الضجر والضيق لعاد إلى بيته كئيبًا كاسف البال سيئ الخلق فساء أهله وبنيه، ولكن ماذا جنى أهله وبنوه!

فينطلق الفتى إلى مجلس من تلك المجالس التي كان يجتمع فيها شباب قريش حين يقبل الليل يشربون ويطربون ويعبثون بكل إنسان وبكل شيء، حتى إذا بلغ مجلسهم تلقوه دهشين يقولون له: ويحك أبا الحكم! فأين أنت من نسطاس؟! قال:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر

قال أخوه الحارث بن هشام:

بلى نحن كنا أهلها فأزالنا
صروف الليالي والجدود العواثر

قال عمرو بن هشام: «لا والله ما أزالت نسطاس صروف الليالي ولا الجدود العواثر، وإنما أزالته أمور دبرت بليل وكيدٌ يكاد لقريش.» قال القوم: «ويحك أبا الحكم! ماذا تقول؟» قال عمرو: «وأقسم لولا جبن قريش وحرصها على مالها وتجارتها لما قصرت في طلب نسطاس حتى أدركه وحتى أرده عليكم وحتى أذيقه من العذاب ألوانًا، ويومئذ تعلمون ما يكاد لكم من الكيد، ويومئذ تعلمون أنكم تسرفون على أنفسكم حين تضيفون هؤلاء الغرباء، وتبسطون لهم وجوهكم، وتغدقون عليهم كريم أموالكم ثمنًا لما يفتنونكم به من أقداح الخمر وغناء المغنيات. لا والله ما هؤلاء الغرباء إلا عيون عليكم لقيصر وكسرى؛ ولكنكم أصحاب تجارة تجوبون الأرض ولكم في كل بلد قافلة وأموال، فأنتم تخشون على أموالكم وأنفسكم. وأنتم تبيعون أمنكم وعافيتكم بهذا الربح الذي تتهالكون عليه. ولو قد عشتم كما يعيش العرب من حولكم لكرمتم على أنفسكم وعلى الناس أكثر مما أنتم.»

قال عتبة بن ربيعة: «ما أكثر ما تنعي على قومك منذ اليوم يا عمرو! فدعني أقل لك الآن مثل ما قلته لك في المسجد، فابدأ بنفسك فعش كما يعيش العرب من حولنا.»

قال عمرو بن هشام وفي صوته سخرية حزينة:

وهل أنا إلا من غَزِيَّةَ إن غوتْ
غويتُ وإن تَرْشُد غزية أرشد

ستستبينون الرشد غدًا أو بعد غد. ثم ضرب إحدى يديه بالأخرى وصاح: الخمر يا غلام. وأقبل على شرابه عاكفًا عليه مسرفًا فيه حتى عربد على أصحابه من ليلته تلك، وعاد إلى أهله سكران لا يكاد يبين. ثم لم تره قريش بعد ذلك إلا مغيظًا محنقًا، يسخر من كل شيء إن هدأ، ويغضب من كل شيء إن جمحت به نفسه، وما أكثر ما كانت تجمح به نفسه! وما أكثر ما كان يؤذي أصحابه وأترابه في غدوه ورواحه! حتى لقد كانوا يتجنبونه ويتكلفون النأي عنه. ولولا مكانه من مخزوم وموضعه من عمه الوليد بن المغيرة لأصبح خليعًا في قريش كما تمنى غير مرة أن يكون.

وبينما كان رائحًا في ذات يوم إلى حانته تلك يشرب فيها ويطرب وينغص على شباب قريش شربهم وطربهم، عرض له في بعض الطريق شيخ أعرابي حسن الوجه، رائق المنظر، لولا أنه كان غليظ الزي خشن الثياب، يكاد يبدو عليه الضر، لولا أنه يتجمل ويروض نفسه على ما لم يتعود الأعراب أن يروضوا أنفسهم عليه. فلما رأى عمرو بن هشام هذا الشيخ مقبلًا عليه، رماه بنظرة سريعة فيها كثير من السخرية وقليل من الحذر، وهم أن يمضي لوجهه. ولكن الشيخ استوقفه في رفق، فأظهر عمرو أنه لا يحفل به. ولكن الشيخ رفع صوته قليلًا بهذه الكلمة: «مكانك يا فتى فإن لي إليك حديثًا.»

وبلغ هذا الصوت أذن الفتى فروعه شيئًا، ولم يدر الفتى أيحب هذا الصوت أم يكرهه، وأراد ليمضي أمامه ولكن رجليه لم تطاوعاه، فقام مكانه كأنما ثبتت قدماه في الأرض تثبيتًا. ودنا الشيخ منه يسعى متباطئًا قصير الخطى، حتى انتهى إليه فوضع إحدى يديه على كتفه في رفق وقال له في صوت بلغ أعماق قلبه: «لا ترع يا بني فما أريد بك إلا خيرًا.» قال الفتى في صوت مضطرب يريد أن يثبت: «من تكون أيها الشيخ؟ وماذا تريد؟» قال الشيخ: «ستعرف من أكون، وستعرف ماذا أريد، ولكن تعلم أني بعد أن وضعت يدي هذه على كتفك هذه قد ملكت أمرك كله، فلن تنطق إلا بلساني، ولن تعمل إلا برأيي، ولن تصدر إلا عن أمري. وآية ذلك أنك ستحاول أن تمضي الآن أمامك فلن تطاوعك رجلاك، وستحاول أن تعود أدراجك فلن تطاوعك رجلاك، فاجتهد أن تتقدم، ثم اجتهد أن تتأخر، فلن تجد متقدمًا ولا متأخرًا، ستظل قائمًا مكانك حتى آذن لك في أن تتقدم أو تتأخر. ثم تناءى عنه قليلًا وأشار إليه أن جرب قدميك إن شئت. وهم الفتى أن يخطو إلى أمام فلم يستطع، كأنما شدت قدماه إلى الأرض بأسباب الرصاص. وهم الفتى أن يتحول ليرجع أدراجه فلم يستطع، كأنما استحال جسمه إلى تمثال نحت من الصخر الصلد. وهم الفتى أن يدير رأسه إلى يمين أو إلى شمال فلم يجد إلى ذلك سبيلًا. وهم الفتى أن يبعث من فيه صيحة يلتمس بها الغوث فلم يجد في جوفه إلا نفسًا خائرًا لا يبلغ أن يكون صوتًا يسمعه الناس.» والشيخ الأعرابي قائم منه غير بعيد ينظر إليه باسمًا له رفيقًا به عطوفًا عليه. ثم دنا الشيخ منه قليلًا قليلًا، حتى إذا حاذاه ضحك له ضحكة فيها كثير من الحب وكثير من السخرية، ولكنها سخرية لا تخلو من حنان وعطف، ثم قال له في صوت حلو: «الآن وقد عرفت سلطاني عليك فامض لوجهك، حتى إذا بلغت حانتك تلك فاشرب فيها ما شئت أن تشرب، واطرب فيها ما أحببت أن تطرب، وقل فيها ما أردت أن تقول، فلن تسوء قومك منذ الآن مهما تقل أو تفعل، ولن تسمع منهم إلا ما يرضيك، ولن ترى منهم إلا ما يسرك. لست أكبرهم سنًّا ولا أعظمهم قدرًا ولا أكثرهم مالًا، ولكنهم سيسمعون لك كما لو اجتمع لك هذا كله. ولن يطول بك المقام في حانتك تلك حتى يأتيك رسول عمك الوليد بن المغيرة أن زره من الغد فإن له معك شأنًا. ولا تعجل على نفسك ولا على أصحابك ولكن خذ من اللهو بأوفر حظ ممكن. ثم إذا انصرفت لتعود إلى أهلك فاذكر أني أنتظرك في هذا المكان، ولك أن تسلك إلى بيتك أي طريق شئت فإنك لن تبلغ دارك ولن تغلق الباب من دونك حتى تراني جالسًا أنتظرك. وستراني مهما تكن ظلمة الليل، وستراني وحدك لن يراني معك أحد، وسأناجيك وستسمعني وحدك لن يسمعني معك أحد. امض لوجهك، ولا تحاول أن تخالف عن أمري؛ فقد ملكت ناصيتك منذ اليوم.»

ونظر عمرو بن هشام حوله فلم يرَ أحدًا، وحرك رجليه فاستجابتا له، وحرك يديه فاستجابتا له، ولوى وجهه إلى يمين وإلى شمال فلم يرَ في ذلك عسرًا. وقد شق عليه ما رأى، وشق عليه ما أحس وظن أن قد ألم به طائف من الجن، وهم أن يستغيث ولكنه استحيا، وهم أن يتحدث إلى أصحابه في الحانة ببعض ما رأى ولكنه استحيا، فأقبل على لهوه وشرابه كأن لم يكن شيء، وأقبل على أصحابه وأترابه يحدثهم أرق حديث وأحسنه. يقول بعضهم لبعض: ما نرى إلا أن أبا الحكم قد عاد إلى خير أيامه، وذهبت عنه العلة التي كانت ألمت به.

ولم يكد يبلغ الثاني من أقداحه حتى أقبل غلام من غلمان عمه الوليد، فهمس في أذنه أن ألمم بعمك من غد فإن له في لقائك أربًا. فوقع همس الغلام في قلب عمرو موقعًا غريبًا نبهه إلى الشيخ الأعرابي وقد كاد ينساه، ولكنه على ذلك مضى في لهوه مقبلًا عليه مغرقًا فيه وفي حديثه إلى أصحابه وأترابه يرضيهم بجده ويسرهم بدعابته، ويسمع منهم خير ما أحب، وهو مع ذلك لا يكاد يخلص لما كان فيه من لذة الشراب والحديث والغناء، يذكر الشيخ الأعرابي بين حين وحين فتغشى قلبه غاشية من خوف وحزن، ثم لا يلبث أن يدفع ذلك عن نفسه، ويمضي في منادمة قومه، سمح الطبع، كريم النفس فصيح اللسان بأعذب الحديث. فلما تقدم الليل واستوفى القوم حظهم من السمر وهموا أن يتفرقوا، كان عمرو قد استرد مكانه في قلوب أصحابه جميعًا، فيأبى شيبة بن ربيعة وعلي بن أمية بن خلف أن يفارقاه حتى يبلغاه داره. يقول لهما عمرو: «والله ما هذه لكما بطريق، وما تعودت منكما هذا الرفق، وما أرى أن بي بأسًا، وما أحسب أن أحدًا يرصدني في الطريق، فانصرفا إلى أهلكما وصلتكما رحمٌ.» فيقولان له: «والله ما بك شيء مما ذكرت، وما بنا رعاية لك أو إشفاق عليك من مكروه، وإنما عدت إلى حسن سابقتك فينا، فنريد أن نعود إلى حسن عهدك بنا. ولا والله ما نصاحبك إيثارًا لك بصحبتنا بل إيثارًا لأنفسنا بصحبتك. ولو استطعنا لسمرنا معك إلى آخر الليل، وإنما أنت صديق فقدناه ثم وجدناه.» ويمضون وفي نفس عمرو بن هشام شيء من الرضا والأمن؛ فقد كان يكره أن يلقى الشيخ وحده، وما كان يشك في لقائه، وفي نفسه شيء من الحياء فقد كان يكره أن يراه الشيخ مع صاحبيه فيظن به جبنًا أو فرقًا. ومع ذلك فقد مضى مع صاحبيه يقول لهما ويسمع منهما كأن نفسه لم تكن تحدثه بشيء، وكأن قلبه لم يكن يفرق من شيء. فلما بلغ المكان الذي لقي فيه الشيخ آخر النهار أبطأت قدماه شيئًا ومد بصره، فيرى الشيخ قائمًا ينتظره ويبتسم له ابتسامة فيها كثير من الرضا، يراه وحده ولا يشك في أن صاحبيه لا يريان ما يرى. وآية ذلك أنهما لم يكفا عما كانا فيه من حديث، ولم يلقيا بالًا إلى شيء لأنهما لم يحسا شيئًا.

ويمضي القوم أمامهم والشيخ الأعرابي معهم يراه عمرو دون صاحبيه، ويكاد يؤذن صاحبيه بمكانه، ولكن شيئًا من حياء يرده عن ذلك: فقد كان يخشى أن يظن به صاحباه الجنون. فما حديثه إليهم عن شيخ يراه هو ولا يريانه هما؟ وكيف به لو قص عليهما ما كان بينه وبين الشيخ آنفًا؟ وكيف به لو حدثهما بأن الشيخ قد أنبأه بأن الأمور ستصفو بينه وبين أصحابه وأترابه، وبأن عمه سيدعوه لزيارته بعد ما كان بينهما من قطيعة، وبأن هذا كله قد كان! ولكنه لا يحدث صاحبيه بشيء بل لا يظهر لهما أن شيئًا يدور بخلده غير ما يدور بينه وبينهما من حوار في أمر هذه القافلة التي ستفصل بعد يوم أو يومين، والتي تحمل من الذهب والورق والعروض إلى بلاد الروم ما لم تحمله قافلة لقريش منذ أعوام، والشيخ الأعرابي يرمق عمرًا معجبًا به عاطفًا عليه. حتى إذا بلغ القوم دار أبي الحكم حيَّا بعضهم بعضًا واتعدوا نادى قومهم في المسجد إذا كان الغد. وانصرف شيبة وعلي، ودخل عمرو داره، ولكنه لم يدخلها وحده وإنما دخلها معه الشيخ باسم الثغر مشرق المحيا يقول: «لا عدمتك بطلًا من أبطال قريش! أشهد لقد أنجبت الحنظلية. لقد شهدتك بين قومك تجد ما تجد من الخوف، وتنكر ما تنكر من الأمر، لا يصرفك ذلك عن الحديث والمنادمة. ولقد شهدتك تحاول أن تخلص من صاحبيك لا إيثارًا ولا إسراعًا إليَّ ولكن إبقاء على نفسك أن أظن بك جبنًا أو فرقًا. ولقد قرأت ما كان يدور في نفسك من الخواطر حين لقيتني فأخفيت هذا كله لم يظهر أحد من دخيلة نفسك على شيء. وكذلك يجب أن يكون الرجل، ولا سيما حين تهيئه الأيام لأمور جسام.»

قال عمرو ولم يجد في نفسه خوفًا ولا فرقًا، ولم ينكر مكان هذا الشيخ منه: «ألا ترى أنك قد أثقلت عليَّ منذ الليلة؟ ألا تنبئني ما خطبك؟ وماذا تريد مني؟!»

قال الشيخ: «لك أن تلقاني بما أحببت من رفق وغلظة، ولك أن تحدثني بما شئت من لين القول وعنيفه، فقد وطنت نفسي على أن أحتملك كما أنت؛ لأن كل شيء فيك يروقني ويعجبني. وستعلم حين يتصل بينك وبيني الحديث، أني لم أثقل عليك منذ الليلة ولن أثقل عليك إلى آخر الدهر.» ثم ضرب على كتفه مبتسمًا وهو يقول: «فسأكون صديقك وحليفك إلى آخر الدهر، وستحمد مغبة هذه الصداقة وعواقب هذه الحلف، ولكن ابتغ لنا مجلسًا، فما يحسن أن يطول بنا الحديث ونحن قائمان. هلم أبا الحكم! لقد عهدتك جميل اللقاء للضيف، تحسن قراه إن ألم بك، فما لك لا تعرض عليَّ طعامًا ولا شرابًا؟ بل ما لك لا تعرض عليَّ مجلسًا أستقر فيه؟ إنك تريد أن أنتسب لك كما تعود الضيف أن يفعلوا حين يلمون بمن يضيفهم من الناس. وما يغنيك أن أنتسب لك وأنت لن تفهم عني نسبي إن عرضته عليك؟! وهل تفهم عني إن قلت لك إنني ابن النار منها خرجت وإليها أعود إن كنت إليها عائدًا لا أعرف لي غيرها أبًا ولا أمًّا.»

قال عمرو بن هشام وفي صوته شيء من الاضطراب: «ما رأيت كالليلة شيخ سوء يتحدث بكلام لا غناء فيه! ما ابن النار منها خرجت وإليها تعود؟!»

قال الشيخ: «ومع ذلك فليس لي نسب غير هذا. لا تعجل على نفسك فإن لكل شيء إبانه. ابغ لنا مجلسًا، ولا تكلف نفسك القِرى فقد نام أهل الدار، وما ينبغي أن توقظهم ولا أن تكلفهم قرى ضيف لا يرونه ولا يسمعونه.»

قال عمرو: «فتظنهم لا يسمعوننا الآن ونحن نتحدث؟ وهبهم لا يسمعون صوتك أنت، أتظنهم لا يسمعون صوتي أنا؟ وما تراهم يقولون حين يسمعونني أتحدث إلى شخص لا يرونه ولا يحسون مكانه؟»

قال الشيخ وهو يضحك ضحكًا غريبًا: «لا بأس عليك أبا الحكم! إنهم لا يسمعونك ولا يسمعونني مهما يرتفع صوتانا. إنهم لا يعلمون أنك قد عدت من سمرك، ولن يعلموا ذلك حتى أنصرف عنك، ولن ترى منك أم عكرمة إلا خيرًا. ابغ لنا مجلسًا، فأما إن أبيت فانحرف بنا إلى هذا المجلس عن يمينك من فناء الدار، فقد نستطيع أن نطمئن فيه. واعجب إن كنت في حاجة إلى العجب، فسأقدم إليك من القِرى ما لم ترد أن تقدم إليَّ. إن معي زقًّا من خمر الطائف فشاركني في شيء منه.» ثم أخذ بيده حتى أجلسه، وأخرج زقًّا صغيرًا من وعاء كان يحمله على ظهره، وأخرج قدحين فصب فيهما منه، ثم قال للفتى: «هلم أبا الحكم، فستحمد نشوة هذه الخمر.» ويحسو عمرو من القدح الذي قدم إليه فيقول: «لا والله ما شربت قط خمرًا كهذه الخمر، إن لها مذاقًا غريبًا في الفم، ونكهة غريبة في الأنف، وحرًّا غريبًا في الجوف.»

قال الشيخ: «ودوارًا غريبًا في الرأس، إنها خمر أبي مرة يا بني. هذه هي الكنية التي ستعرفني بها منذ الآن. إذا أعيا عليك أمر من الأمور، أو ضاق بك مسلك من المسالك، أو وجدت من الناس غير ما تحب، فادع حليفك أبا مرة، فسيستجيب لك قبل أن يرتد إليك طرفك، وسيفرج عنك كل كربة، وسيخرجك من كل ضيق. ولنأخذ الآن فيما أردت أن أتحدث إليك فيه، لقد أتيت أمرين في هذه الأيام كرهت أحدهما أشد الكره، ورضيت عن الآخر أشد الرضا. فأما الأمر الذي كرهته منك فخلافك لقومك، وخروجك عليهم، وازدراؤك لما يقولون ويعملون، واشتدادك على عمك في الحديث وقطيعتك له منذ اليوم، كل هذا كرهته أشد الكره لأنك عماد قومك وموئلهم وذخرهم الذي ادخر لهم حين تقبل الحوادث وإنها لجسام مفظعة. فعد إلى عملك فواصله، وعد إلى قومك فارفق بهم. واردد نفسك عن جماحها، واردد لسانك عن شططه، ودع هذه السخرية مما عليه قومك فإنه قوتهم، ولو قد انحرفوا عنه قليلًا لتخطفهم الناس. ولو قد تخطفهم الناس لهلكت العرب! فقريش ردؤهم وكهفهم الذي إليه يأوون. وأما الأمر الذي أحببته منك أشد الحب، فبغضك لابن عبد المطلب هذا الذي يسميه قومك الأمين ضعفًا منهم وخرقًا، وإنه لهم لمصدر البلاء كل البلاء والشر كل الشر والمحنة كل المحنة.»

قال عمرو في شيء من الحدة: «إليك عني! فوالله ما أحببت من نفسي هذه الخصلة، وما أرى إلا أني ظالم لابن عبد المطلب. حاسبت نفسي منذ قلت تلك المقالة في دار شيبة فما حمدت حسابها. إن ابن عبد المطلب ليصل الرحم ويصدق الحديث ويرفق بالضعيف ويرحم الرقيق، وإنه لمؤتمن في قومه على الهين والعظيم من أمرهم، وإني لأجد في نفسي الحسد له، وليس الحسد من أخلاق الرجل الكريم. وإني لأروض نفسي منذ ذلك اليوم على أن أعود على ابن عبد المطلب بالعافية وأمنحه مودتي وبري، ولكني لا أجد إلى ذلك سبيلًا، فيسوءني من نفسي هذا الضعف، وهذا هو الذي أفسد خلقي منذ أيام.»

قال الشيخ وهو يقدم القدح إلى عمرو: «اشرب أبا الحكم ودع عنك هذه الخواطر! فلقد صدقتك نفسك حين حملتك على بغض هذا الرجل. ولئن حمدت فيك شيئًا إنما أحمد فيك هذا البغض العنيف، هذا البغض الذي لا يبقي ولا يذر، هذا البغض الذي لا يعرف رحمة ولا هوادة ولا لينًا ولا أناة. وإن هذا البغض على عنفه وشدته لقليل بالقياس إلى ابن عبد المطلب.»

قال عمرو: «أبينك وبينه دم؟!»

قال الشيخ: «ليس بيني وبينه شيء، وإنما الشر كل الشر بينك أنت وبينه. أتذكر حين زحمك عند ابن جدعان؟ إن ذلك لم يكن إلا رمزًا لما سيكون بينك وبينه من خصام لا يحده إلا الموت. إنك لا تعرف من أمر ابن عبد المطلب شيئًا. إنك ترى قومك يكرمونه والشر كل الشر في إكرامهم له. إنه يدبر لهم من الأمر ما سينغص عليهم أيامهم، ويؤرق عليهم لياليهم، ويكدر عليهم صفو الحياة. أتذكر حديث نسطاس حين أنبأك بأن سيكون للسماء خبر؟ فإن ابن عبد المطلب هو الذي سيحمل إليكم خبر السماء. أتذكر ثورة ورقة بن نوفل حين أنبأته بحديث نسطاس؟ فإن ورقة يزعم من ذلك مثل ما يزعم نسطاس.» ثم قدم القدح إلى الفتى وهو يقول: «اشرب أبا الحكم! إنك لمتثاقل على الشراب منذ الليلة.» فيشرب عمرو ويقول للشيخ: «ويلك! والله ما أدري أخمرًا تسقيني أم نارًا؟!» فيجيبه الشيخ: «لست أسقيك خمرًا ولست أسقيك نارًا أبا الحكم، وإنما أسقيك بغضًا لابن عبد المطلب لو سلط البحر عليه ما أطفأه. لقد رحت إلى نسطاس من يومك ذاك فلم تجده، ورحت إلى ورقة فاعتل عليك يزعم أنه سقيم. أتريد أن تعرف ما كنت تجهل من أمر نسطاس؟ فإنه قد خلا إلى ابن نوفل ساعات من نهار، ثم انصرف عنه إلى بلاد الروم ينبئ جماعته تلك التي حدثك عنها بأن النبي الذي كانوا ينتظرونه قد ظهر، وبأن ابن عبد المطلب هو هذا النبي. وكره ورقة أن يلقاك حين رحت إليه، وسيكره لقاءك كلما حاولت أن تلقاه؛ لأنه يكره أن يتحدث إليك من أمر ابن عبد المطلب بقليل أو كثير، فلم يؤذن له بعد في الحديث عن هذا الأمر.»

قال عمرو وقد أدركه دهش كاد يخرجه عن طوره: «ومن الذي يستطيع أن يأذن لورقة أو لا يأذن له؟»

قال الشيخ: «ما أدري! ولكن أمر ابن عبد المطلب سيظل سرًّا خفيًّا حينًا من الدهر، لا يباديكم به ولكنه يهيئ لكم في أثناء ذلك شر ما تكرهون.»

قال عمرو: «ماذا يهيئ لنا؟» قال الشيخ وهو يقدم القدح إلى الفتى: «تريد أن تعرف ماذا يهيئ لكم؟ سيلقى في قلوب الذين يتبعونه أن لهم إلهًا غير آلهتكم لا يراه أحد ولا يحسه أحد وهو مع ذلك في كل مكان وفي كل قلب. وسيلقى إليهم أن آلهتكم كلها باطل من الباطل لا تملك لنفسها ولا لكم خيرًا ولا شرًّا.»

قال عمرو: «والله ما أكره من ذلك شيئًا.» قال الشيخ «وسيلقى إليهم أن ليس بين الناس قوي ولا ضعيف، وأن ليس بينهم شريف ولا وضيع، وأن ليس بينهم سيد ولا مسود، وأنهم جميعًا سواء كأسنان المشط قد خلقوا من التراب وإلى التراب يعودون، وأن ما بينهم من اختلاف المنازل وتفاوت المراتب وتباين الطبقات ظلمٌ يجب أن يرفع وباطل يجب أن يزال.»

قال عمرو: «إني لأرى في هذا شيئًا من حق، ولكن نفسي تكرهه وتنبو عنه.»

قال الشيخ وهو يقدم إليه القدح: «اشرب أبا الحكم! فلا بد من أن نستنفد ما في الزق.» ثم استأنف حديثه فقال: «سيلقى إليهم أن الناس جميعًا سواء لا يتفاوتون في الدنيا وإنما يتفاوتون في الآخرة بما يقدمون بين أيديهم من العمل، فمن عمل صالحًا فله جنة لا أدري ما هي، ومن عمل سيئًا فله نار لا أدري ما هي.» قال عمرو وقد رفع القدح إلى فمه فشرب منه: «وما الآخرة هذه التي تحدثني عنها؟»

قال الشيخ وهو يصب في القدح ليملأه: «حياة يزعم ابن عبد المطلب أنها كائنة بعد الموت، وأنها لا آخر لها.»

قال عمرو وقد عب في القدح عبًّا شديدًا، وقدحت عيناه شيئًا كأنه الشرر، وغشى وجهه شيء كأنه اللهب، وانبعث من فمه ضحك قبيح: «حياة بعد الموت لا آخر لها! هلم أبا مرة اسقني من خمرك هذه التي كأنها النار، أو من نارك هذه التي كأنها الخمر. حياة بعد الموت لا آخر بها! لن تخرج بزقك وفيه قطرة من شراب. حياة بعد الموت لا آخر لها! حياة بعد أن نصبح ترابًا تذروه الريح!»

قال الشيخ وهو يصب في القدح ليملأه: «اشرب أبا الحكم فإنك لا تشرب خمرًا ولا نارًا، وإنما تشرب بغضًا مذابًا. فأما في حياتكم هذه الأولى فأنتم وعبيدكم وإماؤكم سواء، ليس لكم عليهم فضل. وأما في حياتكم تلك الثانية فقد تلقون أنتم في النار تصهر جلودكم وتحرق وجوهكم، ويدخل عبيدكم وإماؤكم الجنة ينعمون فيها بالطيبات وأنتم ترون! تستقونهم قطرة من ماء فلا يجودون بها عليكم لأنكم نعمتم في حياتكم الأولى، فيجب أن تشقوا وتبتئسوا في حياتكم الآخرة، ولأنهم شقوا وابتأسوا في حياتهم الأولى فيجب أن ينعموا ويبتهجوا في حياتهم الآخرة. توشك أن تسمع ذلك أبا الحكم ممن في دارك ودار أصحابك من الرقيق.»

قال عمرو: «وإن محمدًا ليقول هذا للناس؟!»

قال الشيخ: «نعم! إنه ليقول هذا للناس، وإن الناس ليسمعون منه ويؤمنون له ويكثرون من حوله. وإن شئت فاغد إلى ابن أبي قحافة فسله عن ذلك، وإن شئت فاغد إلى زيد بن محمد فسله عن ذلك، وإن شئت فاغد إلى هذا الصبي علِي بن أبي طالب فسله عن ذلك، فسينبئونك جميعًا بأكثر مما أنبأتك به.»

قال عمرو: «ومن أين لمحمد هذا الحديث؟»

قال الشيخ في صوت يضطرب اضطرابًا فيه الغيظ والخوف معًا: «يزعم أن هذا الحديث يأتيه من السماء، ينزل عليه به الملك فيلقيه إليه في كلام غريب، يشبه الشعر وما هو بالشعر، ويشبه السجع وما هو بالسجع.» قال عمرو: «فاقرأ عليَّ بعضه.»

ولم يكد الشيخ يسمع هذه الكلمة من عمرو حتى تضاءل وتضاءل، واربد وجهه وأخذته رعدة منكرة، وقال في صوت مضطرب بلسان لا يكاد يبين: «كلا! كلا! لا تطلب إليَّ ذلك، فما ينبغي لي أن أقرأه.»

قال عمرو: «ويلك! ماذا أصابك؟»

قال الشيخ: «دعني! دعني! واشرب حتى تفرغ ما في هذا القدح؛ فقد أعلمتك من أمر ابن عبد المطلب ما كان ينبغي أن تعلم، وما زلت تجهل أكثره؛ لأن أمر ابن عبد المطلب لم يتجاوز أوائله بعد.»

قال عمرو: «وهل تنزل الملائكة من السماء وتلقي إلى الناس أخبارها؟»

قال الشيخ: «محمد يزعم ذلك، ويزعمه كذلك نسطاس وورقة بن نوفل، ومن قبلهم زعمه أهل الكتاب.»

قال عمرو وهو يعب في القدح عبًّا شديدًا: «وما بال السماء لم تختر لأمرها غير محمد؟! أليس في قريش إلا محمد!»

قال الشيخ وهو يبتسم ابتسامة منكرة: «كلا! ليس في قريش غير محمد، ليس فيها الوليد بن المغيرة، وليس فيها أمية بن خلف، وليس فيها عتبة بن ربيعة ولا شيبة بن ربيعة، وليس فيها أبو الحكم عمرو بن هشام فتى مخزوم وسيدها!»

قال عمرو وقد ظهر في وجهه غيظ شديد: «أما إذ قلت ذلك فإن مخزومًا كلها لتبغض هاشمًا كلها، وقد كنت أنقم من بني أمية تكلفهم وأنفس عليهم جدهم في تجارة قريش وحرصهم على سياتها، فأما الآن فلا والله ما أبغض أحدًا كما أبغض بني هاشم، ولا أجد من الضغن على أحد كما أجد على فتاهم هذا الذي يسمونه الأمين!»

قال الشيخ في صوت فاتر متكسر: «هون عليك أبا الحكم! فإنك لم تبل من بغض هؤلاء الناس إلا أهونه وأيسره، ولتبلغن العداوة بينك وبينهم أقصاها. فإذا بلغت ذلك فاذكر أن صديقك أبا مرة ليس منك ببعيد، وأن زقه ما زال رويًّا يسبأ للذات في كل يوم، كما قال امرؤ القيس.» ثم سكت قليلًا ثم استأنف حديثه في صوت ضئيل: «قد أوشك الليل أن ينقضي أبا الحكم، وآذن الصبح بإسفاره، فعد إلى أهلك فقد شققنا عليهم، ولكنهم لم يعلموا من سهرنا ولا من سمرنا شيئًا.»

قال عمرو: «لم يعلموا من سهرنا ولا من سمرنا شيئًا! اسقني أبا مرة! فقد حرمت عليَّ النوم من ليلتي هذه.» ولكن أبا مرة لم يسقه ولم يجبه. وينظر عمرو فلا يرى أحدًا، فينهض متثاقلًا وهو يقول: «لم يعلموا من سهرنا ولا من سمرنا شيئًا!»

٦

وأصبحت قريش فاجتمعت في أنديتها حول البيت كدأبها في كل يوم. وإنهم لفي أحاديثهم وإذا قائل منهم يقول: «انظروا يا معشر قريش هذا والله العجب.» فينظرون فلا يروعهم إلا الوليد بن المغيرة قد أقبل يتوكأ على ابن أخيه عمرو بن هشام باسمًا به متحدثًا إليه. يقول بعض قريش لبعض: والله إن للوليد بن المغيرة لشانًا، ما علمناه إلا عنيف الغضب إذا غضب، بطيء الرضا إذا رضى، عنيدًا إذا خاصم، وما علمنا ابن أخيه عمرًا إلا مثله أنفة وكبرياء، وقد باعد بينهما ما رأينا وسمعنا من ذلك الخلاف والحوار، حتى قال الوليد لابن أخيه إنه ابن سوء، فماذا قرب بينهما؟ وأيهما سعى إلى صاحبه؟

قال شيبة بن ربيعة: «ما أحسب إلا أن الشيخ هو الذي تقرب إلى ابن أخيه، وقد رأيت أحد غلمانه، يلم بنا في بعض مجالسنا فيلقي في أذن أبي الحكم حديثًا قصيرًا ثم ينصرف.»

وكانت قريش تتحدث بهذه الألفة بين الرجلين على حين كان الوليد وابن أخيه يطوفان بالبيت. وكان الوليد يطوف كما تعود غير آبه ولا مكترث، وإنما هو عبء يلقيه عن نفسه كعادة الملأ من قريش إذا غدوا على أنديتهم بالمسجد من كل يوم. ولكن عمرًا كان يطوف في هيئة لفتت إليه أشراف قومه، فيها كثير من الاجتهاد والاحتفال، وفيها كثير من التواضع والتضاؤل، وقد ظهر على وجه الفتى شيء من الإيمان بما كان يفعل والصدق فيه، حتى قال بعض قريش لبعض: «والله لقد دعا أبو الحكم إلى سنة قومه واجتهد فيها، وما نرى إلا أن قد ذهب عنه ما ألفنا عنده من السخرية بكل شيء والازدراء لكل شيء.»

حتى إذا فرغ الرجلان من طوافهما أقبلا فسلما وجلسا، ولم يجرؤ أحد أن يدخل فيما كان بينهما من نفور، وفيما استأنفا من تواصل ومودة، وإنما أخذوا في المألوف من أحاديثهما كأن لم يكن بينهم شيء. حتى أقبل النضر بن الحارث مهرولًا، فطاف بالبيت عجلًا أشد العجلة، حتى لاحظ الملأ ذلك، فقال بعضهم لبعض: إن للنضر اليوم لحديثًا يريد أن يلقيه إلينا، ألا ترونه يعجل بطوافه أشد العجلة! وقد كان للنضر حديث يريد أن يلقيه إليهم حقًّا، فما كاد يفرغ من طوافه حتى أقبل إليهم مسرعًا، فسلم وأخذ مجلسه. وابتدره عمرو بن هشام قائلًا في دعابة حلوة: «ما وراءك يا نضر؟ هات فوالله إن لديك حديثًا تريد أن تلقيه إلينا.»

قال النضر: «وأي حديث! ألم تعلموا أن قد حدث لبني عبد المطلب شأن؟!» قال الوليد: «وما ذاك؟» قال النضر وهو يضحك: «ظهر فيهم نبي هذه الأمة يتلقى أخبار السماء فيبلغها إلى الناس.» قال عمرو بن هشام مسرعًا: «وهذا النبي هو محمد؟!» قال النضر: «هو محمد والله! لقد كنا نعجب لما كان يروى لنا من أخبار عبد المطلب حين أمر في المنام أن يحتفر زمزم وحين خاصم قومه فيها ففجر له الماء تفجيرًا، وحين قام مقامه من صاحب الفيل، وحين فادى بابنه ذاك فداءه المعروف. ووالله لقد كنا نعجب لما كان الناس يحدثوننا به من أمر حفيده محمد بن عبد الله ذاك الذي فودي به فلم يمهله الموت في مكة إلا ليدركه في يثرب منصرفه من الشام؛ فقد كانوا يحدثوننا عن هذا الفتى بالعجب من الحديث حين كان صبيًّا ينشأ، وحين كان غلامًا يشب، وحين كان فتى يستكمل رجولته وقوته، ولقد كنا نحبه ونكرمه ونؤثره بخير ما عندنا من المودة والمعروف، حتى سميناه الأمين ورجعنا إليه في كل ما كان يحزبنا من الأمر. وما أرى إلا أننا قد أغريناه وأبطرناه، فهو الآن يستألف سيرة جده عبد المطلب ولا يدع الناس يتحدثون عنه بالأعاجيب، بل يتحدث هو بها عن نفسه، فيزعم أن الملائكة تتنزل عليه بأحاديث السماء، وأنه قد أمر أن يبلغ هذه الأحاديث إلى الناس ويدعوهم إلى بدعٍ من الأمر والله ما سمعنا به في آبائنا الأولين.»

قال عمرو بن هشام وقد ظهر في وجهه غيظ شديد: «إيه! ورب هذه البنية٥ لقد أغريتموه وأبطرتموه. وما أكثر من تغرون ومن تبطرون! وما أرى إلا أنكم ستلقون من هذا كله شططًا. أفلم أكن أحدثكم منذ أيام يا شيبة بن ربيعة بأمر نسطاس وأمثاله من هؤلاء الأعاجم الذين تمدون لهم أسباب العيش، وتيسرون لهم ما تعسرون على غيرهم من العرب؟! ألم أكن أذكر لكم أن هؤلاء الأعاجم ما هم إلا عيون قيصر علينا، يفدون علينا تجارًا، ويقيمون بين أظهرنا أحرارًا، يقولون لنا ويسمعون منا، ويذيعون فينا البدع، ويكيدون لنا الكيد، ثم ينصرفون عنا وقد أخذوا من أموالنا ما أرادوا، وعلموا من أمرنا ما أحبوا، واذاعوا فينا من مذاهبهم وآرائهم ما لا عهد لنا به؟! فهؤلاء هم الذين أفسدوا علينا زيد بن عمرو، وورقة بن نوفل، وغيرهما من كرام قومنا. وما محمد إلا أحد هؤلاء.»

قال الوليد بن المغيرة: «على رسلك يابن أخي! إنك لمجتهد في النعي على هؤلاء الروم، ولقد كنت أشدنا لهم معاشرة، وأكثرنا لهم مخالطة. ولقد نهيتك عنهم وعن نسطاس منهم خاصة، فلم أكن أرى منك إلا نأيًا وازورارًا. ولا والله ما أعلم أن محمدًا كان يختلف إلى نسطاس أو إلى أشباه نسطاس، كما كنتم تختلفون إليه وكما تختلفون إلى أمثاله من تجار الروم، وما علمت من أمره إلا خيرًا. إنه لأفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا وأمانة، وأصدقهم حديثًا، وأبعدهم من الفحش والأذى، وما رئى ملاحيًّا ولا مماريًا أحدًا، حتى سميناه الأمين لما تبينا فيه هذه الخصال. فإن كان قد جاء بما يحدثنا النضر أنه قد جاء به، فلا أحب أن أعجل في أمره. وما أظن أنه يريد أن يدخل على قومه سوءًا. وإنه لأبر الناس بقومه، وأوصلهم رحمًا، وأقربهم لهم مودة، فاستبينوا أمره قبل أن تقولوا فيه بما لا تعلمون.»

قال عتبة بن ربيعة: «وكيف علمت ما علمت من أمره يا نضر؟»

قال النضر: «علمت ذلك من بعض الذين صبوا إليه واستجابوا له. ألم يحدثني أخو جمح عثمان بن مظعون أنه قد جلس إليه، فبينما هو جالس معه إذ رآه يرفع رأسه إلى السماء ثم ينحرف عنه ساعة ثم يعود إليه. فلما أنكر عليه ذلك قال له: إن الملك قد نزل عليَّ من السماء فأوحى إليَّ أمر الله. فلما سأله عن أمر الله هذا، تلا هذا الكلام الذي حفظه عثمان واستجاب له، وحفظته أنا ولم أستجب له، ولكن في نفسي منه شيئًا.»

قال عمرو بن هشام، وقد ذكر في سرعة غريبة أن صاحبه أبا مرة لم يستطع أن يتلو عليه شيئًا مما كان يوحي إلى محمد، وإنما عجز عن ذلك وتضاءل له وأدركه منه رعب شديد. قال عمرو بن هشام: «فاقرأ علينا يا نضر ما سمعت وحفظت.» فتلا النضر هذه الآية: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلكُمْ تَذَكَّرُونَ. قال الوليد وقد سمع القوم فأعجبوا وأطرقوا برءوسهم إلى الأرض: «صدق والله محمد وبر. أقسم ما جاء قومه إلا بخير. ماذا تنكرون من هذا؟ وهل فينا من لا يحب العدل والإحسان! وهل فينا من يكره إيتاء ذي القربى! وهل فينا من يحب الفحشاء والبغي! أما والله لو جاء محمد قومه بمثل هذا دائمًا لكان أعطف قومه عليهم وأرأفهم بهم وأهداهم إلى سبيل الخير.»

قال عمرو بن هشام في شيء من الحدة يريد أن يكظمه: «ويحك يا عم! لقد كنت تأمرنا آنفًا ألا نعجل في أمر محمد حتى نستبينه، فإني أراك تعجل في أمره قبل أن تستبينه! إنك لم تسمع من أمره إلا ما حدثنا به النضر، ولو قد سمعت من أمره ما سمعت أنا لقلت فيه غير ما تقول الآن.»

قال الوليد: «ماذا سمعت يابن أخي؟» قال عمرو: «سمعت أنه جاء بما يفرق به بين المرء وزوجه، وما يفرق به بين الأب وابنه، وما يفرق به بين المرء وأخيه، جاء بالمساواة بين السيد والعبد، وبين القوي والضعيف، وبين الغني والمعدم، بل جاء بما يلقي في روع الضعفاء والأذلة من الناس أنهم خير من ساداتهم وأرفع منهم عند الله مكانًا، بل جاء بما يلقى في روع الناس أن ليس لهم إلا إله واحد يجب أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وأن آلهتنا هؤلاء الذين هم وسطاؤنا عند الله باطل لا يملكون لأنفسهم ولا يملكون لنا نفعًا ولا ضرًا. أفيعجبك هذا يا عم؟!»

قال الوليد وقد ملكه رعب شديد شاع في غيره من الملأ وقد رفع يديه فجعلهما أمام وجهه كأنما يحتمي بهما من هول ما سمع: «أما هذا فلا» يقولها ثلاثًا، ويقولها الملأ معه كلما قالها.

قال النضر: «فروا رأيكم يا معشر قريش! فقد جاءكم ابن عبد المطلب بأمر عظيم.»

قال عمرو بن هشام: «وأي رأي تريد أن نرى؟ إنه والله الهول، فإن لم نغلبه غلبنا. والله لنأخذن عليه الطريق، ولنسدن عليه المسالك، ولنحمين منه دين قريش وسلطانها وسيادتها على العرب.»

قال الوليد: «هو ذاك يابن أخي، ولكن لا تعجلوا على صاحبكم وانتظروا به حتى يبين لكم أمره جليًّا.»

قال عمرو: «ننتظر به حتى يفسد علينا أمرنا، وحتى نحاول الإصلاح فلا نجد إليه سبيلًا! لا والله لا نظرة ولا إمهال، وإنما هو السعي والاستقصاء منذ الآن، والسؤال عن أمر محمد عند من عرفه من قريب ومن عرفه من بعيد، ومن يلوذ به من أتباعه إن كان له أتباع، ومن يحف به من بني هاشم.»

قال القوم في صوت رجل واحد: «هذا والله الرأي يا أبا الحكم لا أرى غيره، لنسعين ولنستقصين، ولنسألن عن أمر محمد القريب والبعيد.»

وتفرق القوم وفي صدر كل واحد منهم هم ثقيل. ولا يكاد عمرو بن هشام يبعد عن المسجد قليلًا حتى يرى حليفه ذاك الأعرابي فجأة، لا يدري أنجم له من الأرض أم هبط عليه من الجو، ولكنه يراه وقد وضع يده على كتفه وهو يقول: «وَرِيَتْ٦ بك زنادي؛ لقد سُدت قومك وملكت أمرهم، فلن يخالفوك في شيء منذ اليوم.»

٧

وأقام رسول الله في قومه دهرًا لا يعرض لهم بشيء يكرهونه، ولا يلقونه بشيء ينكره، وإنما يدعوهم إلى كلمة الحق، ويذيع فيهم البر والمعروف، ولا يجلس إلى أحد منهم إلا قال له خيرًا أو دعاه إلى خير، وقريش ترى منه ذلك، فتحمد حبه للعافية، وسعيه بالخير، ولقاءه للناس بما يرضون. وقريش تسمع دعوته إلى الله، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فيستجيب له من أشرافها القليلون، ويستجيب له الكثيرون من الفقراء والمستضعفين وأهل البؤس والضر. وهو يسوي بين أولئك وهؤلاء في حبه لهم وبره بهم وعطفه عليهم، لا يفرق منهم بين الغني والفقير ولا بين ذي النفر والقوة ومن لا عون له ولا ظهير، إنما هم جميعًا إخوانه وأبناؤه، قد أحبهم في الله والخير، وأحبوه في الله والخير. والملأ من قريش يرون ذلك فيعرفون بعضه وينكرون بعضه: يعرفون دعوته إلى البر والمعروف، وسعيه بين الناس بالخير، ويعرفون أنه لا يؤذيهم ولا يريدهم بسوء، ولكنهم ينكرون إيثاره للصغار والبائسين وتتبعه لهم بالود والبر والتكرمة، ويقول بعضهم لبعض: لئن اتصل هذا من محمد ليفسدن علينا الناس، وليطمعن فينا ضعفاءهم، وليصبحن أحدنا فإذا عبيده وإماؤه وأتباعه ومواليه يطلبون إليه أن يلقاهم من الخير والبر والمساواة بمثل ما يلقاهم به محمد، ويومئذ لا يستقيم لقريش أمر. ثم يقول بعضهم لبعض: ولكن محمدًا لم يبغكم شرًّا، ولم يقدم إليكم مساءة في عادة أو دين، إنما هو يأتي المسجد كما تأتونه، ويطوف بالبيت كما تطوفون به، ويسعى في أمره كما تسعون في أموركم، ولكن له مع ربه ومع الناس مذاهب لا تذهبونها، وسيرة لا تسيرونها، فلا سبيل لكم عليه حتى يباديكم بما تكرهون. فيغيظ ذلك منهم عمرو بن هشام ويلقاهم بالشدة والحدة والمنكر من القول، يقول: «والله يا معشر قريش إنه للعجز، وإنكم لتخافون من ظلالكم. إنكم لتكرهون من محمد مثل ما أكره، ولكنكم تخافون أن تبادوه بما في نفوسكم فيباديكم بما في نفسه، فيظهر الشر بينكم وبينه، ويغضب له بنو هاشم وبنو عبد مناف، فتكون الحرب. وما عرفت أبغض منكم للحرب، ولا أشد منكم لها تهيبًا ومنها إشفاقًا.»

يقول قومه: «لا تجهل أبا الحكم! فما عرفناك جهولًا، وما علمنا أن بينك وبين محمد شرًّا.» فيجيب: «واللات والعزى ما أنا بالجهول! ولقد أسرفت على نفسي كما أسرفتم على أنفسكم في الحلم، وإن بيني وبين محمد للشر كل الشر، وإن بينكم وبينه للشر كل الشر، ولكني أرى ما لا ترون، وأعلم ما لا تعلمون.»

فيضحك عمه الوليد بن المغيرة ويقول: «ويح قريش من هذين الفتيين! أحدهما يأتيها بأخبار السماء، والآخر يرى ما لا ترى ويعلم ما لا تعلم. والله ما أدري ماذا ألم بهذا الحرم وقد كان آمنًا!»

وفي ذات يوم امتلأت مكة بحديث كان له في قلوب الناس جميعًا وقع غريب؛ فقد تحدثوا أن رسول الله خرج من صمته ودعا إليه أشراف قريش، فلما اجتمعوا إليه عرض عليهم دينًا جديدًا فيه التوحيد، ووعدهم إن سمعوا له واستجابوا لدعوته أن يكون لهم شرف الدنيا والآخرة، وأنذرهم إن أبوا عليه وأعرضوا عن دعوته أن يستقبلوا عذابًا مبينًا مهينًا يلقون صدرًا منه في حياتهم الأولى، ثم يخلدون فيه بعد الموت إلى غير غاية ولا أمد. وتحدثت قريش بأن عمه أبا لهب كان أول من رد عليه فكذبه وآذاه، وتفرق الناس عنه ولم يقل له أحد غير عمه شيئًا.

تحدثت بذلك قريش نهارها كله وشطرًا من ليلها، ثم أصبحت فتحدثت به، ثم أمست فخاضت فيه، ثم جعلت لا تصبح ولا تمسي إلا كان محمد لها حديثًا. وجعل عمرو بن هشام يلم بأندية قريش في المسجد وبمجالسهم في الدور والمتاجر، ويخرج إلى الظواهر فيلم بأندية البادين منهم، يقول لأولئك وهؤلاء: «أترون يا معشر قريش إلى محمد وقد ألقى القناع، ودعاكم جهرةً إلى ما كان يدعوكم إليه سرًّا؟! وإني أحلف باللات والعزى لو أخفتموه حين كان يذيع مقالته فيكم خفية لما اجترأ على أن يفجأ الملأ منكم بما فجأكم به، فخذوا حذركم وروا رأيكم، واجتهدوا لأنفسكم. فكأني بمحمد قد أفسد عليكم ضعاف الناس في مكة، وكأني به قد أفسد عليكم العرب وأغواهم بكم وأطمعهم فيكم. وايم الله لتقتلن محمدًا أو ليقتلنكم جميعًا.»

فيجيبه أشراف الناس وذوو الأسنان والمكانة فيهم: «إن ما تقوله لحقٌّ يا أبا الحكم، ولكن الأمور لا تؤتى بهذا العنف ولا تعالج بهذه العجلة. إن لمحمد فينا لمكانة وشرفًا، وإن له من قومه لعزًّا ومنعةً، وإن لبني هاشم وبني عبد مناف لبأسًا وقوة، فما ينبغي أن نعرض لمحمد بمكروه حتى نعذر فيه، وما نحب أن تسفك قريش دماءها بأيديها، وإنما ندعو محمدًا فنقول له ونسمع منه لعلنا نصرفه عن هذا الذي هو ماضٍ فيه، فإن لم يقبل منا رأينا فيه رأينا.»

فيرفع عمرو بن هشام كتفيه ساخرًا، ويهز رأسه مستهزئًا ويقول: «شيوخ قريش وذوو الأسنان والأحلام فيها! ويلٌ لقريش من الأسنان والأحلام!» فلما أكثر من ذلك وأثقل على عمه الوليد وعلى مشيخة قريش قال له عمه: «على رسلك يابن أخي! إنك لتتمادى في الجهل من يوم إلى يوم، وإن وجهك هذا الرائع، ولسانك هذا الذرب الفصيح لن يغنيا عن قريش شيئًا إذا قطعت أرحامها وسفكت دماءها، ولم ترع لهذا البيت مكانه، ولا لهذا الحرم حقه.»

ثم اجتمع الملأ من قريش فدعوا رسول الله إليهم، فلما جاءهم قالوا له فأكثروا القول، عرضوا عليه المال فرد عليهم المال، وعرضوا عليه الشرف والسيادة فرد عليهم الشرف والسيادة، وعرضوا عليه الملك والسلطان فرد عليهم الملك والسلطان، وعرضوا عليه الطب إن كان مريضًا فرد عليهم الطب وقال: ما أنا بمريض. ثم قال لهم رسول الله فدعاهم إلى الله، وحبب إليهم الخير، وزين لهم البر، وبين لهم أن آلهتهم لا تغني عنهم من الله شيئًا، ووعدهم شرف الدنيا والآخرة إن صدقوه، وأنذرهم خزي الدنيا والآخرة إن كذبوه، فتفرقوا عنه ولم يظفروا منه بشيء، ولم يظفر منهم بشيء، ولكنهم انصرفوا عنه وفي قلوبهم من الخوف والفرق ما لا يكادون يخفونه، وانصرف عنهم وفي نفسه من الثقة واليقين ما يملأ قلبه إيمانًا وتثبيتًا.

واستأنف عمرو بن هشام سعيه فيهم وإلحاحه عليهم، يغريهم بمحمد مجتمعين، ويغريهم به متفرقين، يسعى إليهم في أنديتهم ويلم بهم في بيوتهم، فيناجيهم في بغض محمد ويخوفهم منه ويؤلبهم عليه. وأبو مرة من ورائه يقويه ويشد أزره، ويساقيه البغض والحسد لمحمد حين يخلوان إذا تقدم الليل. حتى زار ذات يوم أمية بن خلف فرآه محزونًا مكروبًا، قال: «ويحك أبا علي، إني لأراك كاسف البال كئيب النفس.»

قال أمية: «إن كنت لصادقًا يا أبا الحكم في كل ما خوفتنا من محمد وما صورت لنا من أمره.»

قال عمرو وهو يبتسم: «وما ذاك يا أبا علي؟» قال أمية: «لقد دخل بيتي من محمد شر.» قال عمرو وهو يضحك: «أوأصابك الغيث؟» قال: «نعم! هذا عبد من عبيدي بلال بن رباح تَبِعَ محمدًا، فهو يصلي كما يصلي محمد، ويدعو بدعوته ويعتل عليَّ فيما لم يكن يعتل عليَّ في مثله من قبل، ويوشك أن يفسد عليَّ رقيقي كلهم إن استأنيت به.»

قال عمرو: «ولم تستأني به؟» قال أمية: «إنها الرحمة والبقيا يا أبا الحكم، فما تعودت قتل الرقيق. وإني لأرجو أن أستصلحه فيعود عليَّ منه نفع.»

قال عمرو: «لا تقتله ولكن عذبه حتى يثوب إلى ما تحب، وحتى يكون مثلًا لغيره من غلمانك وإمائك ومواليك.»

ومنذ ذلك اليوم بدأت محنة بلال رحمه الله، فسامه أمية من العذاب ألوانًا وألوانًا، وكان يأتي به في اليوم القائظ وقد أجاعه وأظمأه حتى يكاد يهلك فيلقيه على الأرض قد قيدت وشدت يداه إلى ظهره، ويعمد إلى الحجر الضخم الثقيل فيضعه على صدره ويقول: لتهلكن أو لترفضن ما تابعت محمدًا عليه؛ فلا يزيد بلالٌ على أن يقول: «أحدٌ! أحد!» حتى مر أبو بكر رحمه الله بأمية ذات يوم وهو يصنع ببلال ذلك، فرق أبو بكر، وكان رقيقًا، ونهى أمية فلم ينتهِ، فاشترى بلالًا وأعتقه. وسن أبو بكر رحمه الله هذه السنة. فكان بينه وبين عمرو بن هشام صراع رائع حقًّا، يغري عمرو بن هشام سادة قريش بتعذيب من يسلم من رقيقهم، ويعلم أبو بكر ذلك فيسعى في شراء هؤلاء الرقيق وإعتاقهم ليعبدوا الله أحرارًا، حتى أنفق في ذلك صفوة ماله وكان غنيًّا.

وقد رأى عمرو بن هشام أن تعذيب الرقيق يسوء محمدًا وأصحابه، ولكنه لا يمنع كلمة الله أن تنتشر، ولا دين الله أن يظهر، فأخذ يغري أشراف قريش بفتنة الأحرار من المسلمين وتعذيبهم، حتى يرجعوا عن دينهم، وحتى يكونوا مثلًا يخوفون بهم غيرهم من الناس. ولكن هذه الفتنة وإن شقت على محمد وعلى أصحابه لم تمنع كلمة الله أن تنشر، ولا دين الله أن يظهر. وجعلت الأمور تجري في مكة على هذا النحو، يشتد عمرو بن هشام وأضرابه في إيذاء محمد وأصحابه والإغراء بهم، فلا يزيد ذلك كلمة الله إلا انتشارًا، ولا يزيد ذلك دين الله إلا ظهورًا. وقد عرف الناس في تاريخهم كله أن لن يخدم رأي ولا دين بمثل اضطهاد أصحابه وفتنتهم، وقد كثر أصحاب محمد من الرجال والنساء، من الأغنياء والفقراء، من الأحرار والرقيق، وقد ائتلفوا حوله يلقاهم مصبحًا وممسيًا، فيدعوهم ويعلمهم ويبشرهم، وينذرهم، يجتمعون حوله مخلصين له مصدقين لما جاء، ويتفرقون عنه داعين إلى ما يدعو إليه من الخير، ثم يعودون إليه وقد زاد عددهم الرجل أو الرجال. وعمرو بن هشام لا يزداد لذلك إلا غيظًا، حتى ساء خلقه وقبحت سيرته واستهتر بالدعوة إلى الفتنة والإغراق فيها، فعرف بين المسلمين بأبي جهل؛ لأنه صورة للجهل والحمق والغضب الذي لا يبقي على شيء. وكان أبو جهل مع ذلك جبانًا رعديدًا إذا اتصلت أسبابه بأسباب محمد من قريب أو بعيد. كان يبغض محمدًا بغضًا مروعًا لم يعرف الناس مثله، وكان يخاف محمدًا خوفًا يضحك منه أحب الناس له وأعطفهم عليه. وكان أبو جهل على ذلك كله قد حرم التوفيق في كل ما كان يأتي من الأمر، لحكمة أرادها الله وأمر قدره؛ فكان يقدم على الأمر يظن أن فيه الإيذاء لمحمد والنيل منه والغض من قدره والصد عن سبيله، فلا يكاد يأتي ما يأتي حتى ينقلب عمله خيرًا لمحمد. لقي محمدًا ذات يوم فأفحش له بالقول وآذاه في نفسه إيذاء شديدًا، وانصرف عنه رسول الله لم يقل له شيئًا؛ لأن الله قد أدبه بأن يأخذ العفو ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين. وشهدت ذلك مولاة لعبد الله بن جدعان، فأنبأت به حمزة بن عبد المطلب مرجعه من الصيد، فحمى حمزة لما سمع، ومضى إلى المسجد حتى غشي أبا جهل في ناد من أندية قريش فضربه بقوسه فشجَّه شجَّة فاحشة. وهمت مخزوم أن تغضب لفتاها، فيقول أبو جهل لقومه مستخذيًا: «دعوا أبا عمارة فقد أفحشت لابن أخيه.» وينصرف حمزة من ساعته فيأتي ابن أخيه محمدًا فيسلم ويصبح أسد الله.

ولم ينكب أبو جهل في تلك الأعوام بمثل نكبته في ابن أخته حنتمة بنت هشام؛ فقد كان عمر بن الخطاب فتًى أروع من فتيان قريش، فيه شدة لم تعرف قريش مثلها إلا في خاله عمرو، وكان يمالئ خاله ممالأة شديدة، فيغري بالمسلمين ويشتد عليهم، حتى خرج ذات يوم متوشحًا سيفه يريد أن يبطش بمحمد نفسه؛ ولكنه يعلم في طريقه إلى محمد أن الإسلام قد دخل داره، وأن أخته قد أسلمت، فيعدل إلى أخته فيبطش بها حتى يسيل الدم من وجهها؛ ثم تأخذه الرحمة فيرق لأخته ويلطف لها حتى تقرئه بعض ما كان يتلى عندها من القرآن. فلا يكاد يقرؤه حتى يدخل الإيمان في قلبه، وإذا هو يسعى إلى محمد فيسلم، ثم ينصرف إلى خاله فيطرق عليه بابه. فإذا رآه خاله رحب به ترحيب المحب لابن أخته الممالئ له على أعداء قريش. ولكن عمر ينبئ خاله بأنه قد جاء يعلن إليه أنه قد شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فيرده أبو جهل أقبح رد، ويضيق بما أصابه فيه أشد الضيق. وقد سبق النبأ بإسلام عمر إلى المسجد، فتعلم به أندية قريش فيروعها ما تعلم من ذلك. ويأتي عمر فينهض له القوم يساورونه ويساورهم ويقاتلونه ويقاتلهم، حتى صلى وصلى بعده المسلمون جهارًا.

واشتد أمر المسلمين على قريش، واشتد أمر قريش على المسلمين، حتى أذن النبي لأصحابه في الهجرة، فهاجر فريق منهم إلى أرض الحبشة حيث استطاعوا أن يعبدوا الله أحرارًا، وأقام الآخرون يدعون إلى الله بين أظهر قريش يلقون في ذلك من الشدة والعنت ما يلقون. وخلا أبو جهل إلى صديقه مرة ذات ليلة يتساقيان البغض والحسد لمحمد كما كانا يصنعان، ويستقصيان ما بلغت بهما خصومتهما لمحمد وأصحابه، فيقول أبو جهل لصاحبه: «أحلف باللات والعزى ما بلغْنا من ابن عبد المطلب وأصحابه شيئًا، نفتنهم في أنفسهم وأجسادهم وأموالهم فلا تزداد دعوتهم إلا انتشارًا، ولا يزداد أمرهم إلا ظهورًا. إن أتباع محمد ليكثرون بين أظهرنا؛ وهذا دينهم قد خرج من مكة فاستقر في أرض الحبشة، ووجد أصحاب محمد هنالك عزًّا ومنعةً وجوارًا.»

قال أبو مرة وهو يقدم القدح إلى عمرو: «اشرب أبا الحكم وَرِيَتْ بك زنادي! لقد أبليت في جهاد محمد أحسن البلاء، ولكن قومك لا يبلغون من نصرك وتأييدك ما ينبغي أن يبلغوا. إنهم يخافون الحرب، ولو قد ثاروا بمحمد فقتلوه لكفوا أنفسهم شرًّا عظيمًا. ولكن أبا طالب يقوم دون محمد ومعه فتيان بني هاشم فتكره قريش أن تسفك دماؤها بأيديها. إنهم يبقون على محمد، وليأتين يوم يقتلهم فيه محمد تقتيلًا إلا أن يسبقوا إليه بالموت.»

وغدا أبو جهل على قومه ثائرًا ثورة لم يعرفوا منه مثلها، حتى أحفظهم وكاد يستخف أحلامهم ويخرجهم عن أطوارهم، لولا أن قالت مشيخة قريش: «على رسلكم أيها الناس! لا تعجلوا على قومكم حتى تعذروا فيهم. لنسعين إلى أبي طالب فنسمع منه ونقول له، لعله أن يسلم إلينا ابن أخيه أو أن يكفه عنا؛ فإن لم نظفر منه بإحدى الخصلتين رأينا فيه وفي بني هاشم رأينا.»

قال أبو جهل: «يا للخزي! يا للعجز! أقسم باللات والعزى لتعودن من عند أبي طالب كما تذهبون إليه لم تأخذوا منه شيئًا. ويلكم! اقتلوا محمدًا وافجئوا بموته أبا طالب؛ فإنه إما أن يخاف كثرتكم وقوتكم فيقبل منكم ديته، وإما أن ينهض لحربكم فما أيسر ما تردونه وقومه إلى الصواب.»

ولكن شيوخ قريش لم يسمعوا له، ونهضوا فمشوا إلى أبي طالب ومشى معهم أبو جهل لا لشيء إلا ليشهد إخفاقهم فيما يسعون إليه. وقد انتهى القوم إلى أبي طالب، فقالوا له وسمعوا منه، وطلبوا إليه أن يدعوا محمدًا فيكلموه ففعل. وجاء محمد فسمع منهم ولم يقبل مما عرضوا عليه شيئًا. ثم دعاهم إلى الله، ووعدهم شرف الدنيا والآخرة إن صدقوه، وأنذرهم خزي الدنيا والآخرة إن كذبوه، وطلب إليهم أن يقولوها كلمة واحدة تدين لهم بها العرب والعجم.

قال أبو جهل: «ما هي؟ نقولها والله وعشرًا أمثالها.» قال محمد: «تقولون لا إله إلا الله.» فتفرق القوم وهم يقولون: «أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إن هذا لشيء عجابٌ.» وانصرف أبو جهل ولم يشمت بقومه قط كما شمت بهم هذه المرة، فهو يستهزئ بذوي الأحلام والأسنان وأصحاب الرأي والمشورة، يقول: «ما رأيت كاليوم رجلًا واحدًا يرد الملأ من قريش خائبين مستخذين. فأما وقد بلغ بكم العجز ما أرى وانتهى بكم الجبن إلى ما ترونه فلأكفينكم محمدًا؛ فإن أمر محمد لا يعالج بالقول والسفارة، ولا بالاحتجاج والجدال، وإنما يعالج بشيء واحد هو قتل محمد، ولأقتلنه من الغد بين أيديكم وأنتم ترون! ولأقتلنه وهو يصلي لإلهه هذا الذي يريد أن نعبده مكان آلهتنا. لآخذن حجرًا ضخمًا ثقيلًا فلأشدخن به رأسه إذا سجد، فإذا فرغت منه فقوموا دوني إن شئتم، أو أسلموني لبني عبد مناف إن خفتم الحرب.» يقول الملأ من قريش وقد أحفظهم ما رأوا وما سمعوا: «لا والله ما نسلمك لأحد أبدًا.»

ثم غدت قريش إلى أنديتها لم يتخلف من أشرافها أحد لما شاع فيهم من وعيد أبي جهل. وغدا أبو جهل وقد أخذ حجرًا ضخمًا ثقيلًا، فجلس إلى قومه يتحدث وينتظر مقدم النبي. وأقبل رسول الله كعادته وطوف بالكعبة ثم قام يصلي، وقد جعل الكعبة بينه وبين الشام، وقام أبو جهل فاستدبره ومعه الحجر لا يكاد يحمله لثقله، حتى إذا سجد رسول الله دنا أبو جهل منه متباطئًا، ولكنه لم يكد يبلغه حتى عاد منهزمًا وسقط الحجر من يده والنبي ساجد لم يرفع رأسه من السجود. وتضاحكت قريش حين رأت أبا جهل يعود مهزومًا مدحورًا قد ظهر في وجهه الخزي والانكسار. فلما رأى منهم ذلك قال: «ويلكم! قوموا إليه إن شئتم فاصنعوا به ما أردت أن أصنع، والله لتردن عنه كما رددت.»

قالوا: «وماذا ردك أبا الحكم؟» قال: «رأيت والله بينه وبيني فحلًا ما رأيت مثل رأسه ولا مثل أنيابه قط. ولو أقدمت على ما كنت مقدمًا عليه لأكلني.» وأنبئ رسول الله بالخبر فقال باسمًا: «ذاك جبريل. ولو قد أقدم على ما كان يريد لأخذه.»

وخلا أبو جهل إلى صديقه أبي مرة حول زقهما ذاك؛ فقال أبو جهل لصاحبه في شيء من الخزي واللوم: «ما أراك أغنيت عني شيئًا صباح اليوم. إنك لههنا تغريني وتحرضني وتيسر عليَّ الأمر وتمنيني الأماني حتى إذا جد الجد نظرت فلم أجدك، وخليت بيني وبين الهزيمة والخزي، وأضحكت مني من كنت أستهزئ بهم من شباب قريش وشيوخها جميعًا.»

قال أبو مرة وهو يملأ له القدح: «اشرب أبا الحكم على بغض محمد؛ فقد علمت أن رجلًا واحدًا لن يبلغ منه شيئًا، وأن رجلين اثنين لن يبلغا منه شيئًا، وأن رجالًا كثيرين لن يبلغوا منه شيئًا حتى تجمع قريش كلها على قتله، فيومئذ تبلغ قريش ما تريد. فإلى هذه الغاية فاسع منذ اليوم.»

ولم يقصر أبو جهل في السعي إلى غايته تلك التي رسمها له حليفه الأثيم، وإن كان قد أمسك أيامًا عن الإلمام بأندية قريش، كان خجلًا مستخذيًا من انهزامه ذاك عن محمد، ومن قصة الفحل التي تحدث بها إلى قومه، فأظهروا التصديق ولكنهم ظنوا بشجاعته الظنون، وأخذوا يتعابثون به وبقصة الفحل كلما أحدث لهم منه ذكرًا. وتريد شقوة أبي جهل ذات يوم أن يدخل المسجد أعرابي، فيقف على بعض أنديتهم يستعين بهم على سيد من سادات قريش قد اشترى منه إبلًا ثم التوى عليه بثمنها لا يؤديه إليه، فإذا سئل الأعرابي عن هذا السيد من يكون قال: هو أبو الحكم عمرو بن هشام، فيتضاحك القوم ويقول بعضهم للأعرابي: أترى إلى هذا الرجل الوسيم الصبيح قد جلس من البيت غير بعيد! إنه وحده الذي يستطيع أن ينصفك من عمرو بن هشام، فاذهب إليه فستجد منه عونًا وتأييدًا حتى ترضى. وكان هذا الرجل الوسيم الصبيح محمدًا رسول الله، فيذهب إليه الأعرابي والقوم مغرقون في الضحك قد سخروا منه وخيل إليهم أنهم قد سخروا من رسول الله. وأقبل الأعرابي على محمد فاستعانه واستنصفه. وينظر الملأ من قريش، فإذا محمد قد قام، وإذا هو يمضي والأعرابي يتبعه، فيقولون لأحدهم اتبعهما وعد إلينا من أمرهما بما يكون. ومضى محمد والأعرابي وراءه ورسول قريش يرقبهما من بعيد. حتى إذا بلغ محمد دار أبي جهل طرق الباب، فخرج إليه عمرو بن هشام ووجهه ممتقعٌ ما فيه قطرة دم. قال محمد: «أد إلى هذا الرجل حقه.» قال أبو جهل: «نعم! لا تبرح حتى يرضى.» ودخل داره ثم عاد فأدى إلى الرجل ما له وانصرف راضيًا، فعاد إلى ندي قريش يثني عليهم ويقول: صنع الله لكم! لقد أنصفني صاحبكم وما تركني حتى أدى أبو الحكم إليَّ حقي. فتعجب قريش ويقول بعضهم لبعض: إنه والله الفحل الذي رآه أبو الحكم منذ حين. حتى إذا لقوا أبا جهل فيما بعد سألوه فينبئهم: «إنه الفحل كان يسعى بين يدي محمد، ولو قد التويت بحق هذا الأعرابي لما أنظرني.»

على أن أبا جهل جد في سعيه، وجد النكير بين المسلمين والمشركين واشتد نعي محمد على قومه وعيبه لآلهتهم، وأنزل الله من القرآن آيات وسورًا كانت تدمغ قريشًا وتؤذي ما كانت تعتز به من الصلف والكبرياء أشد الإيذاء. وقد حاول الملأ من قريش أن يعطوا محمدًا الرضا فلم يقبل منهم إلا الإيمان، ولم يستطيعوا أن يعطوه الإيمان. وحاول الملأ من قريش أن يخذلوا أبا طالب عن ابن أخيه فلم يزيدوه إلا جدًّا في نصره وحمايته، حتى استطار الشر وعظم الخطب، ولم يبق بد لقريش من أن تسمع لمشورة أبي جهل وتصير إلى ما كان يريد.

وقد صارت قريش إلى ما أراد أبو جهل وحليفه أبو مرة، فاجتمع الملأ منهم وكتبوا صحيفتهم تلك يقطعون فيها رحم بني هاشم ويحظرون فيها على قريش أن يكون بينهم وبين بني هاشم بيع أو شراء أو صهر أو تواصل ما. وانحاز بنو هاشم مع أبي طالب إلى شعبهم فحصروا فيه، حتى اشتد عليهم الجهد وعظم عليهم البلاء، وحتى جاع صبيتهم فما ينامون الليل، ولكنهم مع ذلك صبروا للمحنة كرامًا واحتملوها أعزة شمًّا. منهم من كان يؤمن لمحمد فهو يصبر طاعةً لله وجهادًا في سبيله. ومنهم من كان على جاهليته فهو يصبر عصبية للحسب والنسب، وإباء للضيم، وبغضًا لسوء القالة. ولم يقض أبو جهل أيامًا كانت أحب إليه من هذه الأيام؛ فقد كان سعيدًا بظلم بني هاشم ناعمًا بما يلقون من جهد، قد وجه قومه إلى حيث يريد فاتبعوه، واتبعوه جميعًا لم يكد يخالف عن أمره منهم أحد.

ورضي أبو مرة كل الرضا، وكان يقول له وهو يساقيه البغض: «إنك لتدنو من الغاية يا أبا الحكم. فأنتم أولاء قد كدتم تجمعون على قطيعة محمد وبني هاشم، وليس بينكم وبين الإجماع على حربه وحربهم إلا خطوات قصار.»

ولكن أبا طالب يغدو ذات يوم فيدخل المسجد ويطوف بالبيت، ثم يقف على ناد من أنديتهم فيقول: «يا معشر قريش! إن ابن أخي قد أنبأني بشيء سأنبئكم به، فإن كان قد صدقني فكفوا عما أنتم فيه من ظلمنا وقطيعتنا، وإن كان قد كذبني دفعته إليكم فقتلتموه وعادت العافية إلى قريش.»

قالوا: «أنصفتنا والله يا أبا طالب. فبماذا أنبأك ابن أخيك؟»

قال: «أنبأني بأن صحيفتكم تلك التي تعاهدتم فيها على ظلمنا وقطيعتنا وعلقتموها في جوف الكعبة قد عدت عليها الأرصفة فمحت كل شيء فيها إلا اسم الله، فاعمدوا إلى صحيفتكم هذه فانظروا فيها.» وعمدت قريش إلى الصحيفة وهي لا تشك في أن أبا طالب قد غر عن نفسه. ولكن القوم ينظرون إلى الصحيفة فإذا محمد لم يقل لعمه إلا الحق، وإذا الصحيفة قد محي كل شيء فيها إلا اسم الله فإنه لم يمسه سوء. فسقط في أيدي قريش، وأخذ الملأ يتلاومون على ما تعجلوا به من وعد أبي طالب بالنصفة، وأخذ بعضهم مع ذلك يقول: «لا والله لا نكذب الشيخ ولا نخلفه وعدنا. ولقد علمنا أن هذه الصحيفة كانت شؤمًا، لقد شلت يد كاتبها. ولا والله ما جرت علينا القطيعة إلا شرًّا. كيف نأكل ونشرب وننام وننعم بالطيبات، وإخواننا جياع قد بلغ بهم الضر كل مبلغ؟!»

واجتهد أبو جهل في أن يجمع قريشًا على القطيعة ويمضي بها فيما أحب من إخلاف الوعد ونكث العهد فلم يفلح، وإنما انتصر عليه أولو الحلم والمروءة من قومه، فرُفع الحصار عن بني هاشم، واستخذى أبو جهل وحليفه أبو مرة، وعادا يلتمسان العزاء عند زِقِّهما ذاك الروي بنار تشبه الخمر أو خمر تشبه النار.

٨

على أن الحوادث ردت إلى أبي جهل صلفه وخيلاءه، وإلى أبي مرة شيئًا من أمل وفضلًا من رجاء. فقد مات أبو طالب، وماتت بعده خديجة بقليل، وفقد محمد رِدْأه الذي كان يلوذ به، كما فقد سكنه الذي كان يأوي إليه، وأدركته الشدة حين كان يلقى الناس فيطمع فيه سفهاؤهم ويهزأ منه حلماؤهم. وأدركته الشدة حين كان يأوي إلى بيته فلا يجد فيه ما كان يجد عند خديجة من الرحمة والعطف والعزاء. وهم عمه أبو لهب أن يقوم منه مقام أبي طالب فيحميه من الأذى ويجيره من الظلم والبغي. ولكن أبا جهل عرف كيف يرد أبا لهب عن همِّه ذاك، جاءه فقال له: «سل ابن أخيك عن أبيك عبد المطلب أين هو؟» فلما سأل أبو لهب محمدًا: «أين عبد المطلب؟» أجابه: «بين قومه.» فخرج الرجل راضيًا لا يرى بجواب ابن أخيه بأسًا. ولكن أبا جهل ضحك له ضحكة الشيطان وقال: «فإنه يزعم أن عبد المطلب وقومه في النار.» فرجع أبو لهب إلى ابن أخيه يسأله: «أحق ما أنبئت به من أنك تقول إن عبد المطلب في النار؟» قال رسول الله: «نعم! وكل من مات على جاهليته فهو في النار.» قال أبو لهب: «لا جوار لك عندي.» ثم خرج إلى قريش، فقال: «اصنعوا بصاحبكم ما تريدون فإني قد رفعت عنه حمايتي وجواري.»

منذ ذلك اليوم بلغت الفتنة أقصاها، وانتهت المحنة إلى غايتها، وعرف رسول الله أن ليس له بمكة أمن، فخرج يلتمس الأمن في الطائف عند ثقيف، فردوه أشنع رد وأقبحه، فعاد إلى مكة محزونًا مكلومًا، واثقًا بالله مع ذلك أعظم ثقة وأقواها. على أنه لم يستطع أن يدخل مكة حتى أرسل إلى مطعم بن عدي فاستجاره فأجاره مطعم، ودخل مكة آمنًا. ولكن أي أمنٍ هذا الذي هو مدين به لرجل من غير رهطه الأدنين!

وفي تلك الأعوام طغت قريش وبغت، وأسرف أبو جهل في فرحه ومرحه. وجعل محمد يترقب الموسم يعرض نفسه على قبائل العرب يسألهم أن يحموه ويمنعوه حتى يؤدي رسالات ربه فلا يجد عندهم غناء، حتى استجاب له الأوس والخزرج، فأذن للمسلمين في الهجرة إلى يثرب، وأخذوا يخرجون من مكة أرسالًا. هنالك تنبه أبو جهل وما كان غافلًا، فجد في تحريض قريش وتأليبها لتمنع المسلمين من الهجرة. ولكن لله أمرًا هو بالغه، وقدرًا هو مجريه؛ فقد هاجر أكثر المسلمين، وأقام محمد بمكة ينتظر إذن الله له في الهجرة، ومعه صاحبه أبو بكر وابن عمه علِي. وقد علمت قريش وعلم أبو جهل أنها القوة والمنعة لمحمد إن هاجر إلى يثرب، وأنها الحرب على مكة ومن فيها إن استطاع محمد أن يأوي إلى الأنصار.

وهنا بذل أبو جهل أقصى جهده وغاية ما يملك من قوة، وآزره حليفه أبو مرة فأحسن مؤازرته. واجتمعت قريش في دار ندوتها تتشاور في أمر محمد، وحضر اجتماعهم أبو مرة ظاهرًا لهم في زيه ذاك الذي كان يراه فيه أبو جهل. فلما جعل القوم يديرون رأيهم بينهم أخذ أبو مرة يرد على كل متكلم كلامه، حتى قال أبو جهل مقالته فأيدها أبو مرة أشد التأييد. ولم لا! لقد كانت مقالة أبو جهل تبلغه الغاية التي كان يسعى إليها. رأى أبو جهل أن ينتدب لقتل محمد فتى جَلْدًا من كل قبيلة من قبائل قريش، ثم إذا اجتمع هؤلاء الفتيان عدوا على محمد فضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد، فإذا فعلوا ذلك ذهب دمه بين القبائل، ولم يعرف بنو عبد مناف عند من يطلبون بدمه. ولكن كيد أبي جهل وأبي مرة لم يغن عنهما من الله شيئًا؛ فقد خرج محمد على هؤلاء الفتيان يتلو آيات من القرآن، ويضع التراب على رءوسهم، وغشيت أبصارهم فهم لا يرونه، وارتدوا عما أرادوا خائبين، كما ارتد أبو جهل خائبًا عن كل ما أراد.

٩

على أن مكة خلصت لأبي جهل وحليفه أبي مرة حينًا من الدهر حين هاجر منها محمد وأصحابه. فلم يعبد الله فيها إلا سرًّا، وخفت فيها صوت الحق إلى حين. وظهر فيها بغي قريش وكبرياؤها كعهدهما قبل أن يشرق في مكة نور الإسلام. ولكن من بقي من شيوخ قريش وذوي أحلامها كانوا يظنون السوء وينتظرون المكروه، ولا يشكون في أن ستكون بينهم وبين أصحاب محمد خطوب. وقد أخذت هذه الخطوب تتابع قليلًا قليلًا، حتى كان الخطب الأكبر يوم بدر.

هنالك ندب رسول الله أصحابه للخروج إلى تجارة قريش مرجعها من الشام، لعل الله أن ينفلهم إياها. فخرجوا، حتى إذا كانوا في بعض الطريق عرف أبو سفيان مكانهم فأرسل يستنفر قريشًا لحماية العير، ونفرت قريش لم يكد يتخلف أحد من أشرافها. وساحل أبو سفيان بتجارته فأحرزها وأمن عليها من محمد وأصحابه، وأرسل إلى قريش يأمرهم بالرجوع إلى مكة وينبئهم أن قد أمنت العير. ولكن أبا جهل يأبى إلا أن يبلو بلاءه الأخير، فيقسم لا نرجع حتى نأتي بدرًا فنأكل ونشرب ونطرب ونطعم الناس، ويعرف العرب ذلك فنسترد هيبتنا في نفوسهم. وقد استمعت له قريش لا تظن أن عليها بذلك بأسًا. حتى إذا بلغوا بدرًا والتقى الجمعان، عرفت قريش أنها الحرب، ونظرت قريش فإذا محمد وأصحابه لا يكادون يتجاوزون ثلاثمائة إلا قليلًا. ولكن قريشًا تنظر فترى قومًا مشاة يريدون أن يحملوا، حفاة يريدون أن ينتعلوا، جياعًا يريدون أن يأكلوا، عراة يريدون أن يكتسوا، لا يحميهم ولا يمنعهم إلا سيوفهم، فيشفق أشراف قريش من هذه البلايا تحمل المنايا. ويسعى عتبة بن ربيعة وحكيم بن حزام في قبائل قريش يحببون إليهم السلم ويدعونهم إلى القفول. ولكن ذلك يبلغ أبا جهل عن عتبة فيقول: «انتفخ والله سحره.»٧ ويبلغ ذلك عتبة فيقول: «سيعلم ابن الحنظلية أينا انتفخ سحره» ثم يدعو بسلاحه ويكون هو وأخوه شيبة وابنه الوليد أول من يخرج إلى القتال، فيقتلون جميعًا. ويزحف القوم بعضهم على بعض وقد سقى أبو مرة نديمه وحليفه كأسه الأخيرة من خمر كأنها النار أو نار كأنها الخمر، وزين له أن النصر قريب فخرج أبو جهل يرتجز:
ما تنقم الحرب العوان مني
بازل عامين حديثٌ سني
لمثل هذا ولدتني أمي

ولكن أبا جهل لا يكاد يقوم حتى يرى هولًا لم يرَ مثله قط، وما كان يقدر أنه سيراه آخر الدهر. يرى سحائب بين السماء والأرض قد أظلم لها الجو، ومرت كأنها العواصف، ثم هبط منها أشخاص قد لبسوا العمائم وألقوا فضلها على ظهورهم، وركبوا الخيل مسومة، وهم يضربون من المشركين الأعناق ويقطعون منهم كل بنان. وينظر أبو جهل عن يمين وشمال، وينظر أبو جهل وراءه يلتمس حليفه ونديمه أبا مرة، فإذا هو قد ذاب كما يذوب الملح. هنالك يذهب الغرور كله عن عمرو بن هشام، ولا يبقى في نفسه إلا حفاظ الرجل العربي وكبرياؤه. هو بين اثنتين: إن شاء لوى عنان فرسه فطارت به إلى حيث الأمن، وإلى حيث السيادة، وإلى حيث أبو مرة وخمره وكيده، وإلى حيث العار، وإن شاء مضى أمامه فأحس الألم ساعة ثم مضى كما يمضي الناس منذ أول الدهر. ولا والله لا تضحك مني قريش، ولا تحدثني بحديث الفحل، ولا تقول قريش إني ما رأيت محمدًا إلا ملئت منه رعبًا ووليت فرارًا. ثم يقحم فرسه بين الصفوف، وإذا هو صريع قد قطعت إحدى ساقيه والدم ينزف منه نزفًا شديدًا، ولكنه مستيقظ يقظةً لم يعرفها قط، يرى كل شيء، يرى أصحاب محمد يأخذون ظهور قريش برماحهم، ويرى رجلًا قد أقبل يسعى حتى وطئ صدره بقدميه. من يكون هذا الرجل؟ إني أعرفه! لقد فتنته بمكة فتنة شديدة! إنه الهذلي ابن مسعود راعي الغنم!

ثم يرتفع صوت أبي جهل متحدثًا إلى ابن مسعود رضي الله عنه فيقول: «لقد ارتقيت مرتقًى صعبًا يا راعي الغنم.» يقول ابن مسعود: «وهل أخزاك الله يا عدو الله!» قال أبو جهل: «وبم أخزاني! وأي عار على فتى قتلتموه! ولكن أنبئني لمن العاقبة؟» قال ابن مسعود: «لله ولرسوله وللمسلمين»، ثم أهوى إليه فاحتز رأسه وحمله إلى النبي. وبعد قليل أُلقي قتلى بدر من المشركين في القليب، ووقف عليهم رسول الله يقول: «يا معشر قريش! أرأيتم ما وعدكم ربكم حقًّا! فإني رأيت ما وعدني ربي حقًّا.» يقول المسلمون: «أتكلم الموتى يا رسول الله؟» فيقول : «والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا ينطقون.»

١٠

أشرف خالد بن الوليد رحمه الله على بدء الزحف العام يوم اليرموك وكان مشرق الوجه مبتهج النفس، ولكن شيئًا من القلق كان يظهر في عينيه اللتين كانتا تمتدان في الأفق كأنما تريدان أن تبلغا ما وراء الجيشين الملتحمين، ثم تنحرفان إلى يمين مرة وإلى شمال مرة أخرى، كأنما تريدان أن تتعجلا عواقب الموقعة لتعودا بها إلى نفس القائد العظيم الذي لم يعرف إلا الانتصار، والذي كان شديد الشوق إلى أن يتبين الموقعة قبل أن تتم وقبل أن تأتيه بها رسله وعيونه.

وكان خالد بن الوليد رحمه الله ينظر إلى هذين الجيشين العظيمين وقد سعى كل منهما إلى صاحبه في أناة ورزانة وثقل، حتى ليخيل إلى من كان يراهما أنهما الجبال المتقابلة يسعى بعضها إلى بعض في مهل وبطء، ثم لا يزال بها السعي البطيء حتى تستحيل الأناة عجلة والمهل سرعة، وحتى يرى الرائي كأنما قد زلزل كل شيء، فمادت الأرض، واضطربت السماء، وماج الجو، واختلط كل شيء اختلاطًا هائلًا غريبًا.

وكان خالد يذكر ما ألف من الحرب في بلاد العرب، وما ألف من الغزوات التي شهدها. وكان يذكر ما كان الناس يتحدثون به عن هول هذه المواقع، فيبتسم ابتسامة فيها العجب وفيها الرضا. وأكبر الظن أنه كان يوازن بين تلك المواقع اليسيرة وبين هذه الموقعة الهائلة التي لم يرَ عربي مثلها قط. فقد كانت أكبر جيوش العرب حين يحارب بعضهم بعضًا لا يكاد يتجاوز أحدها الألف أو الآلاف. فلما زحف النبي على مكة بعشرة آلاف من المسلمين أكبرت العرب ذلك وهابته هيبة شديدة. ولم تكد قريش ترى مقدم هذا الجيش حتى استحالت كبرياؤها فأصبحت تواضعًا وطاعة، وإذا النبي يسأل قومه: «ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟» فلا يدرون كيف يجيبون. فإذا عرفوا أنه العفو قالوا: «أخ كريم وابن أخ كريم.»

ولما بلغ جيش النبي يوم حنين عشرتين أو ثلاث عشرات من الألوف ظنت العرب أن الجيوش لن تبلغ مثل هذا العدد آخر الدهر. وهذا خالد يقود جيشًا للمسلمين يبلغ العشرات الكثيرة من الألوف إلى جيش من الروم يبلغ العشرات الكثيرة من الألوف.

وقد تغيرت الحرب فلم تصبح كرًّا وفرًّا ومبارزة ومناجزة، وإنما هي زحف الجبال إلى الجبال، واختلاط الأرض بالسماء. فلما ملأ خالد رحمه الله عينيه من هذا المنظر الرهيب عاد إلى مجلسه في سرادق الأمير، وقد ذكر أن عظيمًا من عظماء الروم قد انحاز إليه، وأنه سيلقاه ويسأله عن شأنه. ولم يكد يستقر في مجلسه حتى أذن للعظيم الرومي، فأدخل عليه، وإذا شيخ جليل قد تقدمت به السن لولا بقية من نشاط وفضلٌ من قوة، وإذا هو يحيي خالدًا تحية الإسلام في عربية فصيحة يلتوي بها لسانه بعض الشيء. فيرد عليه خالد تحيته بمثلها. ثم يسأله: «أتتكلم العربية أيها الشيخ أم هي تحيتنا تعلمتها لتلقانا بها لقاء حسنًا؟» قال الشيخ: «أصلح الله الأمير! فإن لي بالعربية عهدًا، وما أظننا نحتاج إلى ترجمان.» فأجلسه خالد إلى جانبه محتفيًا به مقبلًا عليه، ثم أشار إلى من حوله فانصرفوا، والتفت إلى الشيخ كأنه ينتظر أن يبدأ بالحديث. قال الشيخ: «أصلح الله الأمير! إنك لم تخل إلى رجل من الروم قد أقبل يسعى إليك فيما يسعى فيه الساسة الذين يخالفون عن رؤسائهم وساداتهم إلى العدو ليدلوه على عوراتهم، ويظهروه على ما دبروا من الكيد لرؤسائهم والانحياز إلى المغيرين، إنما تخلو إلى مسلم قد شهد فجر الإسلام حين انبثق في البطحاء من أرض الحرم، فآمن به حين استيقن أنه الحق قد جاء من عند الله. ثم فر بما علم من ذلك فهاجر إلى مكة إلى وطنه من بلاد الروم يهيئ قومه لمثل هذا اليوم الذي نحن فيه. وقد مضت أعوام وأعوام وأنا أستقصي الأنباء وألتقط الأخبار وأعلم ما يحدث في مكة وفي يثرب من الخطوب. حتى إذا كانت وقعة مؤتة علمت أن الشمس قد أخذت تبلغ أرضنا، وأن نور الله قد أخذ يشرق في آفاقنا. ثم ها أنتم هؤلاء قد أقبلتم مظفرين، فجئت لألقاك بالبشرى، ولأنبئنك بأن لا بأس عليكم بعد هذه الموقعة، فلن يثبت لكم العدو في مدينة أو قرية أو مكان ما في هذه الأرض ولا في غيرها مما يجاورها من الشام ومصر، ولن تجدوا من الناس بعد انهزام الجيوش عنكم إلا مودة ومعونة وحسن لقاء. فاقدموا عليهم كما تقدمون على الصديق لا كما تقدمون على العدو، فسيدخلون في دين الله أفواجًا وستخلص لكم نفوس الذين يستمسكون بدين آبائهم.»

قال خالد: «ألم تنبئني أنك شهدت فجر الإسلام حين انبثق بمكة؟!»

قال الشيخ: «نعم! وكنت ثاني اثنين كانا يرقبان مطلع الفجر؛ فأما أحدنا فأقام بمكة ومات فيها. وأما الآخر فأقبل إلى هذه الأرض يبشر الناس بمطلع الفجر.»

قال خالد: «فمن ذاك الذي مات بمكة؟» قال الشيخ: «ابن عمك ورقة بن نوفل.»

قال خالد: «وأنت من تكون؟» قال الشيخ: «أنا من أكون! لست أدري أيدلك اسمي على شيء! ولكن أباك كان يعرفني حق المعرفة ويبغضني أشد البغض، وابن عمك كان يعرفني حق المعرفة ويحبني أشد الحب.»

قال خالد: «أي أبناء عمي؟» قال الشيخ: «عمرو بن هشام بن المغيرة، كنا نسميه أبا الحكم.» قال خالد: «ثم سميناه بعد ذلك أبا جهل.» قال الشيخ: «وقد صرعه البغي والحسد يوم بدر.»

قال خالد: «نعم! صرعه البغي والحسد؛ صرعه البغي والحسد وغرور الشيطان.» وسمع خالد هائعة٨ خارج السرادق، فسكت كأنما يريد أن يتبين ما سمع، وإذا قوم يريدون أن يقتحموا باب الأمير والحجاب يذودونهم عن ذلك. فيضرب خالد إحدى يديه بالأخرى ويدخل نفر من المسلمين وقد احتملوا بينهم رجلًا جريحًا قد أشرف على الموت ولكن فيه رمقًا، وهم يقولون: ابن عمك أيها الأمير عكرمة بن أبي جهل. فيغشى وجه خالد حزن لا يلبث أن تطرده ابتسامة حلوة، ويشير إليهم أن قدموا الجريح؛ فإذا وضعوه قريبًا منه أقبل عليه فوضع رأسه على فخذه وجعل يمر يده على جبهته إمرارًا خفيفًا وهو يقول: «أتسمعني يا عكرمة؟» فيشير الجريح بطرفه «أن نعم.» يقول خالد: «زعم ابن حنتمة أننا لا نستشهد، أبشر بالجنة يا عكرمة!» ثم يلتفت إلى الشيخ ويقول: «أما أبوه فقد صرعه الحسد والبغي، وأما هو فقد صرعه الجهاد في ذات الله.» وإذا الشيخ قد وقف رافعًا يديه إلى السماء وهو يتلو: وَلَا تَحْسَبَنَّ الذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.

قال خالد: «وقد حفظت من القرآن شيئًا أيها الشيخ؟» قال الشيخ: «نعم! حفظت منه شيئًا.» قال خالد: «ولكنك لم تنبئني من أنت؟» قال الشيخ وقد استعبر: «لو استطاع هذا الفتى أن يراني لعرف أني نسطاس، ولكنه يرى الآن وجوهًا خيرًا من وجه نسطاس، ويسمع أصواتًا أعذب من صوت نسطاس، يرى وجوه الملائكة ويسمعهم يقولون له ولأمثاله الذين يصرعون الآن في ذات الله وهم يفتحون لهم أبواب الجنة: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ

١  كانت حنتمة أخت عمرو بن هشام زوجًا للخطاب وهي أم عمر رضي الله عنه.
٢  اربع على نفسك أي كف وارفق.
٣  الغتُّ: العصر الشديد مثل الغطِّ.
٤  سيرة ابن هشام، الجزء الأول، صفحة ٥٢٢، طبعة المطبعة الخيرية بمصر.
٥  البنية: الكعبة.
٦  ورت الزناد ووريت: اتقدت وخرجت نارها. وتقول لمن أعانك ونصرك: «وريت بك زنادي.»
٧  السحر: الرئة: ويكنى بانتفاخ السحر عن الجبن، فيقال انتفخ سحر فلان إذا مل وجبن.
٨  الهائعة هنا: الضجة والأصوات الكثيرة. وأما الهيعة فالصوت الذي تفزع عنه وتخافه من عدو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤