الفصل الثالث

ذو الجناحين

أقبلت تسعى رويدًا رويدًا مثل ما يسعي النسيم العليل، لا يمس الأرض وقع خطاها، فهي كالروح سرى في الفضاء. نشر الليل عليها جناحًا فهي سر في ضمير الظلام. وهبت للروض بعض شذاها، فجازاها بثناء جميل، ومضى ينشر منه عبيرًا مستثيرًا كامنات الشجون. فإذا الجدول نشوان يبدي من هواه ما طواه الزمان. ردت الذكرى عليه أساه، ودعا الشوق إليه الحنين؛ فهو طورًا شاحب قد براه من قديم الوجد مثل الهزال. صحب الأيام يشكو إليها بثه لو أسعدته الشكاة. وهو طورًا صاخبٌ قد عراه من طريف الحب مثل الجنون. جاش حتى أضحك الأرض منه عن رياض بهجةً للعيون، ونفوس العاشقين كراتٌ يعبث اليأس بها والرجاء، كحياة الدهر تأتي عليها ظلمة الليل وضوء النهار.

ولبث الشيخ مطرقًا تتغنى في نفسه الكئيبة هذه الخواطر الحزينة التي تريد أن تبتسم فلا تجد إلى الابتسام سبيلًا، ويخفق قلبه بهذه المعاني الشاجية التي تريد أن تشرق فلا تكاد تدنو من النور حتى يلقى بينها وبينه ستار رقيق من الظلمة يدنيها منه وينئيها عنه، ويغريها به ويزهدها فيه. ولم يكن يدري عمن كانت تتحدث هذه الخواطر في نفسه المحزونة. ولم يكن يعلم إلى من كانت تشير هذه المعاني القاتمة في قلبه السقيم. وإنما أنفق يومًا بغيضًا مريضًا تتابعت عليه فيه الهموم، وتواترت عليه فيه الأحزان، وضاقت عليه به الحياة. يومًا من هذه الأيام التي تظلم على النفوس أشد الإظلام وإن صحا فيها الجو واعتدل فيها الإقليم، وترقرق فيها ضوء الشمس يحمل على نفوس الغافلين لذة وبهجة وجمالًا. يومًا من هذه الأيام التي يشرق فيها وجه الطبيعة، ويبسم فيها ثغر الحياة، وتكاد النفوس الحرة تقبل فيها على الأمل والعمل، لولا أن طائفًا من السر يصدر عن بعض النفوس الماهرة الماكرة، فيحول إشراق الطبيعة ظلمة واكتئابًا، ويرد ابتسام الحياة إلى عبوس وتقطيب. والله قد امتحن أخيار الناس بأشرارهم، وابتلى علماء الناس بجهالهم، وسلط على إخلاص المخلصين نفاق المنافقين، وعلى جد أصحاب الجد والعمل كيد أصحاب الكيد والعجز. يطهر بهذه المحنة قلوبهم، ويصفي بهذه الفتنة نفوسهم، ويبلو بهذه التجربة قدرتهم على الصبر، وثباتهم للخطب، ونفاذهم من المكروه، وحسن استعدادهم للتضحية في سبيل ما يؤمنون به من رأي، وما يسعون إليه من خير، وما يدفعون إليه من إصلاح.

وكان الشيخ قد استقبل يومه نشيطًا، يريد أن يعمل كما تعود أن يستقبل أيامه، مندفعًا إلى ما يسر له من ألوان النشاط. ولكنه لم يكد يستقبل الضحى حتى جاءته الأنباء عن يمين وعن شمال بأن سحبًا تتجمع في الجو غير بعيدة، وقد أخذ بعضها يركب بعضًا، وجعلت ريح هوجاء حمقاء تجمعها وتدفعها، تريد أن تسوقها إليه وتصب شرها عليه، فلم يحفل بذلك ولم يأبه له؛ وأراد أن يمضي فيما كان بسبيله، ولكن الأنباء تأتي بأن سحبًا أخرى تتجمع ويركب بعضها بعضًا، وبأن كيدًا يكاد، وشرًّا يراد، وألوانًا من المكر يهيأ بعضها سرًّا، ويهيأ بعضها إعلانًا. وما هي إلا أن أقبل عليه المقبلون، منهم من ينذر، ومنهم من يرثي، ومنهم من يواسي، حتى ضاق بهم جميعًا وبما يتحدثون عنه ويخوضون فيه. فانصرف إلى نفسه، ولكنه لم يلبث أن ضاق بها. وانصرف إلى أهله، ولكنه لم يلبث أن نبا عنهم. وانصرف إلى كتبه، ولكنه لم يلبث أن زهد فيها. فهجر المدينة والتمس العزلة في مكان بعيد في طرف من أطراف الريف، وقد قامت فيه شجرات خضرٌ ملتفة الأغصان، على جدول من الماء هادئ صافي الأديم، يداعب النسيم صفحته في رفق، فيثير عليها أمواجًا صغارًا توشك أن تكون حبابًا.

هنالك جلس الشيخ مع الأصيل، وهنالك انصرف الشيخ عن نفسه وعن الناس، وعن المدينة وأهل المدينة، وعن الأعداء وما كانوا يأتمرون، وعن الأصدقاء وما كانوا يدبرون، وفرغ لشجراته الخضر وجدوله الصافي، وهذا النسيم العليل الفاتر يداعب أوراق الشجر وصفحة الجدول، وضوء الشمس الحزينة المتهالكة يتبعها حزينًا متهالكا في طريقها إلى الغروب، وهذه الطير الكثيرة، قد أقامت على غصونها مترجحة في أناة وهدوء، متغنية في يشبه الحزن والأسى كأنما كانت تودع النهار كارهة للوداع، وتستقبل الليل ضيقة باستقباله.

وإذا نفس الشيخ تمتزج بهذه الأشجار الخضر، وهذا الجدول الصافي، وهذا النسيم الفاتر، وهذا الضوء الشاحب، وهذه الطير البائسة اليائسة. وإذا هذه الخواطر الحزينة تلم بنفسه، وتخفق بقلبه، وتبلغ لسانه فيوشك أن يتحرك بها لولا أنه يبغض أصوات الناس، ويبغض صوت نفسه أيضًا، فيسمع لهذه الخواطر تتحدث إلى نفسه وتبلغها من غير طريق الأذن. ويمضي في ذلك وقتًا لا يعرف أكان طويلًا أم كان قصيرًا، وقد نسي كل شيء، ونفذ من كل شيء، وخلا إلى غير شيء، إن جاز أن يخلو الناس إلى غير شيء.

وها هو ذا يفيق من حاله تلك التي لم تكن نومًا ولا يقظة، والتي لم تكن غيبًا ولا شهادة، لا يدري كيف دفع إلى هذه الحال، ولا يدري كيف خرج من هذه الحال. وأكبر الظن أن الصمت المتصل من حوله قد دعاه إلى نفسه أو دعا نفسه إليه، فثاب الشيخ إلى نفسه أو ثابت نفس الشيخ إليه. وأكبر الظن أن هذه الخواطر الحزينة التي أطالت التردد بين نفسه وقلبه، وأطالت الغناء في دخيلة ضميره، قد دعت إليه هذه الصورة الغريبة الجميلة التي رآها ماثلة أمامه على الضفة المواجهة له من ضفتي الجدول، يترقرق على وجهها الرائع البارع غشاء رقيق هادئ من ضوء القمر، الذي قام في مكانه من السماء يرسل أشعته المطمئنة في أناة وريث إلى الأرض، كأنما يريد أن يداعب الأرض وما عليها بأشعته تلك مداعبة الساخر الماكر الذي لا يحفل بأحد، ولا يحفل بشيء.

والغريب أن الشيخ لم ينكر هذه الصورة التي كانت ماثلة أمامه ولم يعرفها، ولم يضق بمكانها منه ولم تنبسط نفسه لها، وإنما نظر إليها فأطال النظر، كأنما كان ينتظر زيارتها له وإلمامها به. ونظر إليها دون أن يوجه إليها حديثًا، كأنما كان ينتظر منها أن تبدأه هي بالحديث. وقد فعلت؛ فهذا صوت حلو فاتن رقيق يصل إلى الشيخ وقد مازجه همس الجدول الذي كانت أمواجه تصطفق كأنما تحمل النسيم سرًّا إلى الليل، وإذا هذا الصوت الحلو الفاتن يقع في نفس الشيخ موقع الماء من ذي الغلة الصادي، فيرد إليه حياته ونشاطه، ويذكره بيومه المظلم وليلته المشرقة.

وإذا هو يسمع الصورة تسأله: «ما هذا الصمت الذي أنت مغرق فيه؟! لقد دعوتني إلى نفسك فأطلت الدعاء. وها أنا ذي أسعى إليك وألم بك وأقف منك غير بعيد، فلا تحفل بي ولا تأبه لي، ولا توجه إليَّ حديثًا ولا تسألني عن شيء. ففيم دعوتني إذًا؟ وفيم تكلفتُ السعي إليك؟ وفيم تجشمتُ في ذلك ظلمة الليل؟!»

قال الشيخ في هدوء ودعة: «أنا دعوتك يا ابنتي؟! ومن تكونين؟»

قالت: «فمن هذه التي أقبلت تسعى رويدًا رويدًا، مثل ما يسعى النسيم العليل؟»

قال الشيخ: «لا أدري يا ابنتي؛ لم أدْعُ أحدًا ولم أتحدث إلى أحد وإنما هي خواطر كانت تضطرب بها نفسي، ومعانٍ كان يخفق بها قلبي.»

قالت الصورة: «فقل إني دعوت نفسي إليك، أو إني دفعت نفسي إليك، أو إن مقامك هذا بين هذه الشجرات الخضر، وهذا الجدول النقي، وهذه الطير النائمة، وهذا الضوء الهادئ الذي ينحدر من القمر، قد أعجبني فأقبلت أشاركك في هذه العزلة، وأتحدث إليك في بعض ما يكون فيه الحديث.» قال الشيخ: «ولكن من تكونين؟»

قالت الصورة: أحريص أنت على أن تعرفني؟ فقل إني أنا العزلة التي يفزع إليها المكروب إذا ضاق بالأحياء والأشياء. وقل إني أنا الوحدة التي يفر إليها الإنسان من نفسه وأهله، ومن الأعداء والأصدقاء، ومن الخير والشر. وقل إني أنا الحرية التي يجدها الإنسان الفرد حين يفر من الجماعة إلى حيث يستطيع أن يفكر آمنًا ناعم النفس رضي البال. وقل إني أنا العزلة والوحدة والحرية جميعًا قد ائتلف منها شخصي، وتكونت منها نفسي. وقل — إن شئت — إني أنا الهجرة التي يفزع إليها الناس حين يخافون على عقائدهم، وحين يضيقون بنفاق المنافقين وكيد الكائدين، وحين يحسون أن لا مقام لهم في هذه الدار أو تلك فيفرون منها إلى هذه الدار أو تلك. أنا الهجرة التي قد وكلت بالأخيار إذا ضاقوا بالأشرار، أواسيهم أثناء المحنة وأسليهم عن الفتنة، وأصحبهم حين يخفون عن أوطانهم إلى أوطان أخرى، فأونسهم في الطريق، وأرد عنهم غوائل السفر، وأتلقاهم في مهاجرهم، فأحبب إليهم أوطانهم الجديدة وأسليهم عن أوطانهم القديمة، وأفتح لهم أبواب الأمل، وأمهد لهم سبل العمل، وأنتهي بهم إلى ما هم أهل له من الفوز. قل إني أنا الهجرة التي تغناها شاعركم القديم حين قال:

وأصرِف وجهي عن بلادٍ غَدَا بها
لساني معقولًا وقلبي مقفلًا
وإنَّ صريح الحزم والرأي لِامرئٍ
إذا بلغته الشمس أن يتحولا

قال الشيخ: «لقد أذكرتني بهذين البيتين من شعر أبي تمام يا ابنتي وما كنت لهما ناسيًا ولا عنهما غافلًا. ولكني لا أريد الهجرة ولا أجد إليها سبيلًا لو أردتها.»

قالت: «فإنك لا تريد إلا الهجرة، ولا تجد عن الهجرة منصرفًا. ألم تهاجر إلى هذا المكان منذ الليلة؟ ألا تهاجر إلى نفسك بين حين وحين، حين تضييق ببيئتك التي تحيا فيها وتشقى بها؟ فإني أونس وحشتك حين تهاجر إلى نفسك في المدينة، كما أونس وحشتك الآن حين هاجرت إلى هذه الشجرات الخضر، وهذا الجدول الناصع، وهذه الفضة المذابة التي تترقرق بين الأرض والسماء كأنما تحمل إلى نفسك الثائرة رسالة الأمن والطمأنينة والهدوء والصفح عن الآثمين والإعراض عن الجاهلين. استمع لي وافهم عني؛ فكم صحبت من أخيار ضاقوا بالحياة وضاقت الحياة بهم، فآنست وحشتهم، وفرجت كربتهم، ولزمتهم رفيقة بهم عطوفًا عليهم حتى أبلغتهم مأمنهم. وإني لأعرف من أخبارهم وآثارهم ما هو خليق — إن قصصت بعضه عليك — أن يسلي عنك الهم، ويسري عنك الحزن، ويعصمك من الشك، ويثبتك على اليقين، ويمضي بك إلى الوجه الذي يسرك الله له، حتى تخرج من هذه الحياة وقد رضيت عن ضميرك ورضي ضميرك عنك مهما يكن رأي الناس فيك.

لقد صحبت فتى من قريش فيما مضى من سالف الدهر ما أنسيت صحبته قط. أردت أن أونسه فكان هو مؤنسًا لي. وأردت أن أسلي عنه الهم، فلم أجد في نفسه همًّا أسليه عنه. إنما أقبل عليَّ محبًّا لي مشغوفًا بي مؤثرًا أياي على كل شيء. ولقد أبعدت به السفر، ولقد أطلت عليه الغربة، فما أشفق من سفر غير قاصد، وما ضاق بغربة غير منقضية، وإنما هاجر كلفًا بالهجرة، مؤثرًا لها على اليسير والعسير من الفتنة.

كانت نفسه حلوة هادئة، فأبت أن تمزج حلاوة الإيمان بمرارة الفتنة، وأن تخلط هدوء اليقين بعنف الجدال فيه. كان من السابقين إلى الإسلام. رأى ابن عمه يدعو فاستجاب له عن حب وصدق ويقين. ومضى على الوفاء لما أقبل عليه من هذا الدين الجديد، يؤثر التقوى الخالصة والإيمان الهادئ المطمئن على كل شيء. فلما اضطرب الأمر من حوله ورأى اضطهاد قريش للمسلمين، ورأى ثبات المسلمين للمحنة وإلحاح قريش عليهم فيها، صبر كما صبروا، واحتمل كما احتملوا، ولقي في ذات الله مثل ما لقوا، حتى إذا أذن الله للمسلمين في أن يفروا بإيمانهم إلى حيث الأمن والهدوء — إن أرادوا — هاجر من مكة تاركًا وطنًا أحبه وعشيرة آثرها، وحياة نعم بما لقي فيها من ضروب الشدة واللين. هاجر فيمن هاجر من أصحاب ابن عمه إلى أرض بعيدة نائية.

صحبته في سفره ذاك، ورأيته يتجشم مع أصحابه أهوال البر والبحر فارًّا بدينه من الفتنة، مؤثرًا أن يعبد الله في دعة، وأن ينشر دينه في هدوء وسلم. ولقد أطال المقام، وأحب الغربة حتى ألفها أو كاد يألفها. ولكني كنت ألزمه وأهون عليه من مشقة الغربة ما قد يكون عليه عسيرًا. حتى إذا أذن الله لنبيه في الهجرة، واستقرت أمور الإسلام في المدينة، وأظهر الله دينه على كثير من بيئات الشرك والكفر، جعلت أغري صديقي بالانتقال من غربة إلى غربة، والالتجاء من وطن جديد إلى وطن جديد؛ وما بلغت منه الرضا بذلك إلا حين استوثق من أنه لن يفارقني ولن يُقصى عني، ولكنه سيظل مهاجرًا.

سينتقل من هجرة الحبشة إلى هجرة المدينة حيث يستطيع أن يعبد الله آمنًا راضيًا مطمئنًّا في ظل ابن عمه وبين أصحابه وذوي قرابته، وحيث يستطيع أن يبلي في ذات الإسلام كما أبلى غيره من المسلمين، وأن يحتمل من أعباء الجهاد مثل ما احتملوا.

لقد صحبته مرتحلًا إلى الحبشة، فصحبت مؤمنًا يفر بإيمانه إلى الطمأنينة وفي نفسه حسرات. ولقد صحبته في عودته إلى المدينة، فصحبت مؤمنًا يعود بإيمانه إلى مستقر الهدى ومشرق النور، وإن في قلبه لجذوة تضطرم شوقًا إلى ابن عمه، وطموحًا إلى الأخذ بحظه من أثقال الجهاد.»

ثم سكت الصوت الهادئ الحلو قليلًا، ومضى الجدول يتغنى شكاته المتصلة، ومضى النسيم يداعب الجدول مترفقًا به، ويحرك الأغصان في خفة، فيسمع لها وله حفيف وهفيف يمتزجان بشكاة الغدير، فيبعثان أنغامًا عذبة، كأنما كانت صلاة حلوة على روح ذلك المهاجر الكريم.

ثم ارتفع الصوت الحلو في أناة وهو يقول: لقد رأيته حين بلغ المدينة وكان ابن عمه عائدًا إليها، وقد فتح الله عليه ما فتح من حصون خيبر وثبت أمره، وأعلى كلمته، وإذا ابن عمه يلتزمه ويقبل بين عينيه ويقول: «ما أدري بأيهما أنا أشد فرحًا: بفتح خيبر، أم بعودة جعفر.»

ولكن صحبتي له لم تنتهِ، وإنما لزمته في مهاجره الجديد، ونعمت بلزومي إياه بما كنت أرى وبما كان الناس يرون من بره بالضعفاء، ورفقه بالمساكين، ورحمته للبائسين، وإيثاره أصحاب العوز على نفسه وعلى أهله، بما كان الله يتيح له ولهم من الكثير والقليل، حتى كناه ابن عمه بهذه الكنية الحلوة «أبي المساكين».

ثم صحبته إلى رحلته الكبرى، صحبته حين جهز النبي جيشه إلى مؤتة، وكان في نفسه شيء حين أمَّر ابن عمه عليه زيد بن حارثة. وقد كلم النبي في ذلك، فقال النبي له في صوت يملؤه الحب والحنان والإشفاق: «امضه فإنك لا تدري أي ذلك خير.»

لقد عرفت دخيلة نفسه، وسمعت نجوى ضميره بعد هذا الحديث إنما كان الشوق إلى حسن البلاء واحتمال أثقال الجهاد هو الذي دعاه إلى أن يعاتب النبي في تقديم زيد عليه. كان يؤثر زيدًا والمسلمين، ويريد أن يقدم عليهم نفسه إلى المكروه. فلما رده النبي عن ذلك كانت نفسه تتأذى مخافة أن تظن به الأثرة، وما أراد إلا الإيثار. وكانت نفسه تتحرق شوقًا إلى أن يلقى من الأذاة في سبيل الله مثل ما لقي زيد وأصحاب زيد. ولقد رأيته حين تقدم زيد فقاتل حتى قتل وآن له أن يأخذ الراية، وكان على فرس له. فينزل عن فرسه ويعقره ويكون أول عاقر في الإسلام، ويتقدم بالراية فيقاتل حتى تقطع يداه، وحتى تأخذه السيوف والرماح والسهام، وحتى يصرع كما كان يريد أن يصرع شهيدًا. ولولا ما أنبأ النبي به مما صار إليه من نعمة الله عليه، لما تعزيت عن الحزن الذي ملأ نفسي لمصرعه. ولكن كيف السبيل إلى الحزن على الشهداء الذين لا يكادون يموتون حتى يردوا إلى الحياة وإذا هم أحياء عند ربهم يرزقون! كيف السبيل إلى الحزن على شهيد لم يدركه الموت حتى رفع إلى السماء، وأنبأ النبي بأن الله قد عوضه من يديه جناحين مخضوبين بالدماء يطير بهما في الجنة فيتبوأ منها حيث يشاء.

وكم من أحاديث لأولئك النفر من أصحاب محمد الذين هاجروا قبله والذين هاجروا معه، والذين هاجروا بعده، لو قصصتها عليك أيها الشيخ لمحوت من نفسك كل موجدة، ولنقيت قلبك من كل حفيظة، ولأقررت في نفسك أني أحق بحبك ومودتك!

قال الشيخ: «حسبك! فقد بلغت من ذلك ما تريدين.»

قالت: «فادعني إذا أحسست ألمًا أو كربًا، فلن تجد مثلي صديقًا رفيقًا.»

وأخذ اصطفاق الجدول يرتفع شيئًا، ويرتفع معه حفيف النسيم وحفيف الغصون، وغناء متقطع ضئيل ينبعث من أجواف الطير النائمة، وهذا سهمٌ وردي نحيل ينفذ في جوف الليل قليلًا، ولا يكاد يتقدم حتى يتسع شيئًا فشيئًا، وحتى ينهزم الليل أمامه مضطربًا مروعًا، وهذه الصورة تحيي الشيخ في صوت ضئيل نحيل يبعد عنه شيئًا فشيئًا حتى ينقطع. وهذه أصوات ترتفع متجاوبة حول الشيخ تأتيه من بعيد، من هذه القرى الكثيرة المنبثة في الريف. وهذا الشيخ ينظر من حوله فيرى آية النهار المبصرة جادة في محو آية الليل المظلمة، فينهض متثاقلًا وقد غسلت هذه الليلة نفسه من أوضار المدينة، واستقبل الحياة كأنه ولد لساعته. وها هو ذا يمضي نحو المدينة هادئًا رزينًا، وإن نفسه لتتغنى: «أقبلت تسعى رويدًا رويدًا مثل ما يسعى النسيم العليل!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤