الفصل السادس

طريد اليأس

لم يذكروا في تلك الليلة ماضيهم الحلو وحاضرهم المر، ولم يتحدثوا عن أوطانهم تلك النائية التي كانوا ينعمون فيها بلذات الحياة، ويستمتعون فيها بخفض العيش، ويسيرون فيها سيرة الأحرار، لا يعرفون لأحد غير قيصر وعماله عليهم سلطانًا، وقد يعرف لهم غيرهم كثيرًا من السلطان والبأس، وقد يقدم إليهم غيرهم كثيرًا من آيات الطاعة والإذعان. ولم يسمروا بهذه الأحاديث التي تعودوا أن يسمروا بها إذا فرغوا من أعمالهم وانصرفوا إلى راحتهم ولقي بعضهم بعضًا حين ينقضي النهار ويتقدم الليل، والتي كانوا يستعيدون بها حياتهم تلك الجميلة المشرقة، ويستحضرون بها مواطن لذاتهم ونعيمهم، هناك حيث لا يشتد القيظ حتى ينضج الجلود ويصهر الأجسام، وحيث لا تقع العين على الجبال الجرد والوهاد المقفرة، وحيث لا تضيق الأرض بالناس ولا يضيق الناس بالأرض، وحيث يستقبل الناس أيامهم راضين باسمين، ويستقبلون لياليهم لاهين عابثين. كلا! ولم يسمروا في تلك الليلة بما كانوا يسمرون به من ذكر الفاتنات المفتونات اللاتي كن يحولن حياتهم أحلامًا، ويجعلن جدهم لعبًا، ويسرين عنهم كل هم، ويغرين بهم كل نعيم، يخلبنهم باللفظ واللحظ، ويعذبنهم بالدل والتيه، ويسعدنهم بالقرب والوصل، كلا! ولم يسمروا في تلك الليلة بأحاديث قيصر وقصره، ولا بأنباء الحاكم وحاشيته، ولا بقصص الحرب بين الفرس والروم.

وأين هم الآن من قيصر وقسطنطينيته! وأين هم الآن من تلك الثغور الباسمة القوية التي كانت تبسم لأهلها كأنها الجنات، وتعبس لأعدائها كأنها الجحيم! وأين هم الآن من الفرس والروم! وأين تكون مكة من ميادين الحرب بين الفرس والروم! كلا! ولم يسمروا في تلك الليلة بما كانوا يسمرون به أحيانًا من أحاديث ساداتهم ومواليهم، ومما كان يتصل بينهم من التنافس والجهاد، ومما كان يدبر بينهم من الكيد والمكر، ومما كان يجتمع لهم من الغنى والثراء، ومما كان يلم بهم من الحوادث والخطوب. كلا! ولم يسمروا في تلك الليلة بما كانوا يسمرون به أحيانًا من أحاديث هذه القوافل التي تفصل من مكة إلى الشام، فتمضي معها نفوسهم تسايرها في تلك الطرق البغيضة التي يذكرون طولها وثقلها حين قطعوها عناةً أذلاء، يساقون إلى مكة عبيدًا أرقاء، والتي كانت تعود إلى مكة قافلة من الشام تحمل من أرض قيصر أنباء مختلطة وأحاديث مشوهة مضطربة، ولكنهم كانوا يتلقفونها ثم يتناولونها بالتأليف والتصنيف، وبالتحليل والترتيب، حتى يكونوا منها شيئًا مستقيمًا أو كالمستقيم، ثم يتخذون منه علمًا بأمور أوطانهم تلك التي لم يبق لهم إليها سبيل.

كلا! لم يسمروا في تلك الليلة بشيء من هذا؛ لأن أحاديث مكة شغلتهم عن كل هذا. وما لها لا تشغلهم وصاحبهم «لسياس» قد اشترك فيها وأثار كثيرًا منها! وها هو ذا قد اتخذ مكانه بينهم كئيبًا كاسف البال، محزونًا بادي الحزن، قد اضطربت نفسه أشد اضطراب، وهو يتحدث إليهم في صوت متقطع مظلم كأنما أسبغ الحزن والندم واليأس عليه ظلمة كثيفة متراكمة لا تنكشف عن شيء. وما له لا يكتئب ولا يبتئس! وما له لا يحزن ولا يندم! وما له لا يفزع ولا يجزع، وقد سفكت يده المسيحية دمًا بريئًا ولما ينتصف النهار!

وكان هؤلاء النفر جماعة من نصارى الروم دفعوا إلى بعض أطراف الصحراء، وعدت عليهم بعض القوافل فاتخذتهم تجارة، وتقلبت بهم أحوال الرق حتى انتهوا إلى ملك جماعة من سادة قريش. وكان «لسياس» أنقاهم ضميرًا، وأصفاهم قلبًا؛ وأعظمهم حظًّا من الدين. وكان لهذا كله أصبرهم على ما ألم به من كرب، وأحسنهم احتمالًا لما سلط عليه من محنة، وأعظمهم رضًا بهذه النكبة التي كان ينظر إليها على أنها اختبار له، وابتلاء لإيمانه، وامتحان لثقته، وتهيئة لنفسه لتحيا حياة السعداء إذا انقضت إقامتها في هذا العالم الشقي البغيض. ولكنه أظهر في تلك الليلة غير ما تعود أن يظهر لأصحابه من الجلد والصبر، ومن الإباء والاحتمال. وهم يعزونه ويرفقون به في العزاء. وهم يلومونه ويعنفون عليه في اللوم. وهم يأتون نفسه من جميع أنحائها يريدون أن يصرفوها عن هذا الحزن العميق، وأن يصرفوا عنها بعض الهم الثقيل، ولكنهم لا يبلغون منه شيئًا ولا يزيدونه إلا إغراقًا في الحزن وغلوًّا في اليأس. وربما بلغوا بأحاديثهم قرارة نفسه فأثاروها ودفعوه إلى الحديث، فإذا هو يتكلم بكلام تقطعه العبرات وتبلله الدموع.

وكان «لسياس» ملكًا لصفوان بن أمية، وكان قد أنفذ في ذلك اليوم أمره في أسير من أسرى الأنصار يقال له زيد بن الدَّثِنَة، دفعه إليه صفوان وأمره أن يخرج به من الحرم، حتى إذا بلغ به التنعيم قتله ثم عاد. ولم يكن مثل هذا العمل يحبب إلى «لسياس»، ولكنه لم يكن خليقًا أن يدفعه إلى مثل هذا اليأس المهلك، لولا أنه عرف عن أمر أسيره وصريعه ومن أمر أصحابه ما عرف، ولولا أنه عرف من أمر زيد ما رأى، وسمع من أمر خبيب ما سمع، وانتهت إليه أحاديث أولئك الذين أدركهم الموت قبل أن يحملهم إلى مكة ويبيعهم لقريش غدر الغادرين من هذيل. ولكنه عرف ما عرف، ورأى ما رأى، وسمع ما سمع، فذكر أمورًا كان يقرؤها في الكتب، وأحداثًا كان يهلع لها حين يسمع أنباءها من الوعاظ.

ذكر أولئك الشهداء الذين قتلوا في المسيحية تقتيلًا، والذين امتحنوا بما كتب الله عليهم من ضروب المحن وفنون الكيد، فلم تضعف نفوسهم، ولم تهن عزائمهم، ولم يفرطوا في دينهم، ولم يجد الشك إلى نفوسهم سبيلًا.

ذكر أولئك الشهداء الذين أقاموا مجد المسيحية على أشلائهم، وغذوه بدمائهم، وقووه بضعفهم، وأعزوه بما احتملوا في سبيله من الذل، وأيدوه بما لقوه في سبيله من الأذى والآلام. ذكر أولئك الشهداء الذين كان يكبرهم ويجلهم، ويرى أنهم شفعاؤه وشفعاء أمثاله عند الله، وأنهم قدوته الصالحة وأسوته الحسنة ومثله الأعلى، وأنه أسعد الناس لو استطاع أن يظفر ببعض ما ظفروا به من عذاب الدنيا ونعيم الآخرة، ومن ذل الدنيا وعز الآخرة، ومن هذا الموت الهين السريع الذي تتبعه حياة باقية سعيدة متصلة لا حد لما فيها من نعيم.

ذكر هؤلاء الشهداء، وذكر أنه لم يزد حين أطاع أمر مولاه صفوان على أن قتل واحدًا منهم، واقترف ذلك الإثم الذي اقترفه الظالمون الذين اضطهدوا الشهداء وفتنوهم، ثم قدموهم قربانًا إلى آلهتهم وأوثانهم في الزمن القديم. هنالك اضطربت نفسخ اضطرابًا، وزلزل قلبه زلزالًا، ورأى حياته كلها وقد استحالت إلى شر منكر، ورأى ما قدم من الخير وقد استحال إلى فساد، ورأى ما احتمل من الآلام وقد أصبح هباء. وهنالك ملك الندم عليه أمره، وملأ اليأس عليه قلبه، وعجز أصحابه عن أن يمسوا نفسه بما كانوا يقدمون إليه من تسلية أو عزاء.

على أنه لم يكن يحس في نفسه شيئًا من الموجدة على مولاه صفوان، ولم يكن يضمر له شيئًا من البغض، إنما كانت موجدته كلها وحقده كله قسمة بين نفسه وبين امرأة من قريش، هي سلافة بنت سعيد بن سهم زوج طلحة بن عبد الله بن عبد العزى.

كان واجدًا على نفسه أشد الموجدة، مبغضًا لها أشد البغض؛ لأنها أثمت بقتل هذا الرجل الشهيد. وكان حانقًا على سلافة حاقدًا عليها؛ لأنها هي أصل هذا الشر، ومصدر هذا الإثم، ومنشأ هذا البلاء. وكان يقول لأصحابه: «لولا أن هذه المرأة الآثمة نذرت ما نذرت، وأذاعت ما أذاعت في أهل البادية، لما دفع صفوان إلى ما دفع إليه، ولما ظفر صفوان بما ظفر به، ولما اشترى أسيره، ولما أنفذت أمره فيه.»

قال أصحابه: «وما نذر سلافة! وماذا أذاعت في الأعراب؟»

قال: «أتذكرون يوم حشدت قريش لحرب صاحبها في يثرب كيف كان أشراف مكة موتورين يأكل قلوبهم الغيظ، وتملأ نفوسهم الحفيظة، وتضطرب أمامهم أشباح الخزي! يذكرون هزيمتهم حين لقوا صاحبهم لأول مرة ففعل بهم الأفاعيل، وترك من أشرافهم صرعى لم يثوبوا إلى أهلهم ولم يستمتعوا بتجارتهم تلك الرابحة التي أنقذها أبو سفيان. ويشفقون أن يتراءى لهم الموت فلا يثبتوا له ولا يقدروا على النظر إليه فيفروا منهزمين، كما فروا من قبل، ويتركوا صرعى من أشرافهم كما تركوا مثلهم من قبل. هنالك أجمعوا أمرهم على أن يتقووا بالنساء ويتقوا بهن الهزيمة والعار؛ فاختاروا منهن أعلاهن قدرًا وأرفعهن شأنًا وأنبههن ذكرًا وأقدرهن على دفع الرجال إلى غمرات الموت. وكانت سلافة بين هؤلاء النساء، خرجت مع زوجها وبنيها الثلاثة، وعادت مع المنتصرين أيمًا ثكلى قد فقدت زوجها وفقدت بنيها.»

ثم سكت «لسياس» كأنما يستحضر هولًا يروع النفوس ويخلع القلوب. ثم عاد إلى حديثه في صوت هادئ بعيد فقال: «إن كانت لوقعةً مروعة حقًّا تلك التي كانت عند يثرب! لقد عادت قريش تتحدث بالأعاجيب. لقد عادت تتحدث بالإخوان يسعى بعضهم إلى بعض بالموت. لقد عادت تتحدث بالأمهات يدفعن أبناءهن إلى أن يقتل الرجل منهم أخاه. لقد عادت تتحدث بأم مصعب بن عمير وقد قتل ابنها مصعب، فما كانت لتظهر عليه حزنًا أو جزعًا لأنه كان من خصم قريش وأصحاب محمد. لقد عادت قريش منتصرة تتحدث بأمر سلافة هذه وقد فقدت زوجها وتلقت ابنيها أحدهما بعد صاحبه يبلغها وقد أصابه السهم، فتضع رأسه على حجرها وتسأله: يا بني من أصابك؟ فيقول ما أدري، ولكني سمعت قائلًا يقول: خذها وأنا ابن الأقلح، ثم أصابني السهم. يقول ذلك ثم يجود بنفسه بين ذراعيها. هنالك نذرت سلافة: لئن قدرت على قاتل ابنيها لتشربن في قحف رأسه الخمر. وهنالك أذاعت في أهل البادية وأعراب الحجاز أن من جاءها برأس ابن الأقلح هذا فله مائة من الإبل. هذا أصل الشر، وهذا مصدر البلاء.»

قال قائل: «وأي شيء لا يفعله الأعراب في سبيل جزور فضلًا عن عشرة من الإبل! فضلًا عن مائة من الإبل؟!» قال «لسياس»: «والغدر أيسر ما يفعله الأعراب ليبلغوا أيسر من هذا المال.

أقبل جماعة من هذيل على صاحب يثرب، فزعموا له أنهم قد آمنوا به وأسلموا له، وأن دينه قد فشا فيهم، وسألوه أن يرسل معهم من يفقههم في الدين ويعلمهم شرائعه، يظهرون الإخلاص ويضمرون الغدر، لا يبتغون إلا أن يظفروا بنفر من أهل يثرب يبيعونهم من قريش لتصيب بهم ثأرًا وليصيبوا بهم مالًا. ويريد الله لأمر قضاه أن يختار نبي يثرب ستة من أصحابه، وأن يؤمر عليهم عاصم بن ثابت بن الأقلح الذي كانت تبتغيه سلافة، وأن يرسل هؤلاء النفر من أصحابه مع أولئك الغادرين. فما هي إلا أن يقربوا من مكة حتى يظهر الخفي ويصرح الشر ويتبين الغدر، وإذا الذين كانوا يعلنون إيمانهم يستصرخون فيأتيهم الصريخ من هذيل، وإذا أصحاب محمد يرون الغدر فينحازون إلى الجبل. ويعاهدهم أعداؤهم على ألا يقتلوهم ولا يمسوهم بأذى إن هم ألقوا بأيديهم. فأما عاصم واثنان من أصحابه فيقسمون لا ينزلون على عهد كافر أبدًا، ويقاتلون حتى يقتلوا. وأما الآخرون فيحبون الحياة ويلينون لها فيستأسرون؛ ولا يكادون يفعلون حتى يروا الغدر، فيأبى أحدهم أن يتبغ الغادرين وإذا هو مقتول. ويبقى الآخران أسيرين، يحملان إلى مكة ويباعان فيها. فيشتري أحدهما صفوان ويأمرني به فأتم له ما قدر له من نعيم، ويتم لي ما قدر لي من شقاء.»

ثم يجهش «لسياس» بالبكاء ويغرق فيه حينًا، ثم يعود إلى حديثه في صوته ذلك الهادئ البعيد فيقول: «لقد عرفت ورأيت من أنباء هؤلاء الناس ما لم أكن أقدر أن أعرف أو أرى. ولولا أن الشقاء مقضيٌّ عليَّ ومقدور لي، لكان فيما عرفت قبل أن أقترف الإثم صارفٌ لي عن اقترافه. وماذا كنت أخاف لو عصيت صفوان ولم أسفك هذا الدم الحرام! وأيهما أهون عليَّ وأيهما كان خليقًا أن أوثره: الموت بيد صفوان أم الشقاء الأبدي الذي دفعت إليه؟

لقد فرحت هذيل بمقتل عاصم بن ثابت، وقالت: مائة من الإبل تدفعها إلينا القرشية حين نأتيها بهذا الرأس! ثم أقبلوا إليه يريدون أن يحتزوا رأسه. ولكن ماذا سمعت وماذا تسمعون؛ هذه ظلةٌ من الدبر١ تقوم دونه فتحميه وتمنعهم أن يصلوا إليه. فيقول بعضهم لبعض دعوه حتى يأتي الليل، فستنصرف عنه هذه الدبر، وسيخلص لنا رأسه. حتى إذا كان الليل هموا أن يسعوا إليه ليحتزوا رأسه. ولكن ما سمعت وماذا تسمعون! لم يبلغوه ولم يمسوه، وإنما أقبل السيل فاحتمله، ومضى به إلى حيث لا تبلغه يد. ولقد حدثت أن هذا الرجل كان قد نذر ألا يمس كافرًا ولا يمسه كافر. ولقد حدثت أنه لما امتنع على القوم فقاتلهم وقاتلوه، رفع صوته ضارعًا إلى ربه وهو يقول: «اللهم إني قد حميت دينك أول النهار فاحم لحمى آخر النهار».» ولما بكى «لسياس» عند هذا الحديث لم يبك وحده، وإنما بكى معه أصحابه جميعًا بكاءً طويلًا. حتى إذا تكففت٢ عبرته وهدأ عنهم البكاء مضى في صمته. ولكنهم ألحوا عليه أن يتم ما بدأ من الحديث. فقال: «وبم تريدون أن أتحدث إليكم؟ لقد كنت أقرأ أخبار شهدائنا وأسمع أحاديثهم، فأرهبها وأكبرها وأخافها وأرغب فيها، وأود لو أني حييت في تلك الأيام التي كانت ترخص فيها الحياة ويغلو فيها الإيمان، وأود لو أني كنت واحدًا من هؤلاء الناس الذين باعوا نفوسهم من الله؛ فقد أتيح لي اليوم أن أعيش في بيئة الشهداء وأن أراهم وأتحدث إليهم وأن أسمع منهم، ولكني لم أبع نفسي من الله، وإنما بعتها من الشيطان، ولم أسفك دمي في سبيل الله، وإنما سفكت دم شهيد كريم.

ولقد سمعت أبا سفيان زعيم قريش يسأله: «أيحب أن يقوم محمد مقامه هذا وأن يكون هو آمنًا بين أهله؟!» فيجيبه: «والله ما أحب أن تصيب محمدًا شوكة تؤذيه وأنا آمن بين أهلي.» فيقول أبو سفيان لمن حضر من أشراف قريش: «ما رأيت أحدًا يحب أحدًا كما يحب هؤلاء الناس صاحبهم.» ثم تمتد يدي الآثمة إلى هذه الحياة الطاهرة فتطفئ سراجها، وإلى هذا الدم الزكي فتسفكه على الأرض مخافة من غضب صفوان. يا للهول! لقد كنت أحسب أن صفوان لم يملك إلا جسمي وأن نفسي ما زالت حرة؛ فقد علمت الآن أني رقيق حقًّا. وقد علمت الآن أن سلطان السادة على الأرقاء قد يتجاوز الأجسام إلى النفوس. وقد علمت الآن أن الرجل الذي يرضى بالرق ولا يموت دون الحرية إنما يقتل نفسه قتلًا. لقد قتلت نفسي يوم آثرت الحياة وقبلت أن أكون سلعةً في يد أولئك التجار.»

قال رجل من أصحابه: «وإن كان صديقك هذا شهيدًا كريمًا — وما أراه إلا كذلك — فإن رفيقه الذي قتله بنو الحارث بن عامر لم يكن أقل منه كرامة. ولعل مصرعه أن يكون أشد من مصرع صاحبه ترويعًا للنفس وتمزيقًا للقلب. لم يبسطوا عليه بالشر يد مولًى من مواليهم أو عبد من عبيدهم، وإنما كانوا ظماءً إلى دمه، حراصًا على أن يخمدوا جذوته بأيديهم. خرج به جمعهم إلى التنعيم، فلما أرادوا قتله أستأذنهم في أن يتقرب إلى ربه بالصلاة قبل أن يخطو آخر خطواته في الحياة؛ فأذنوا له، فصلى ركعتين ثم قال لهم: لولا أني أخاف أن تظنوا بي الجزع لزدت. ثم ينهض إليه أحدهم فيقلته ويعودون عنه وإنهم ليتحدثون عن أخلاقه وخصاله بما كان خليقًا أن يصرفهم عن قتله، لولا أن قلوبهم قست فهي كالحجارة أو أشد قسوة. لقد كانوا يقولون: إنهم جعلوا سجنه عند امرأة منهم، وإن هذه المرأة كانت تتحدث إليهم عن أمره بالأعاجيب. كانت تراه مغلولًا يأكل من الفاكهة والثمر ما ليس لأهل مكة عهد به في مثل هذا الوقت، لا تدري كيف سيق إليه؛ ولقد أنبأتهم أنه حين أظله اليوم الذي كان يراد قتله فيه طلب إليها موسى يتهيأ بها للموت، فأرسلتها إليه مع طفل صغير يدرج، ثم لم تلبث أن راعها ما فعلت وأن امتلأ قلبها رعبًا وأن قالت لنفسها: ما يمنع هذا الأسير أن يقتل هذا الصبي فيثأر لنفسه قبل أن يدركه الموت! وأقبلت عليه مسرعة، فإذا هو قد أجلس الطفل على فخذه وهو يداعبه ويلاعبه، وأكبر الظن أنه كان يودع فيه طفلًا له بعيدًا. فلما رأى المرأة مقبلةً وقد أخذها الروع ابتسم لها ابتسامة الحزن، ونظر إلى الطفل نظرة الحب، وقال للمرأة: أشفقت على هذا الصبي من الغدر؟ ليس الغدر من أخلاقنا.

أفمثل هذا الرجل كان خليقًا أن تقدمه قريش فتقتله لو أن قريشًا تعرف الحق، أو تقدر الخير، أو ترجو لله وقارًا، أو تحس في قلوبها أثرًا من آثار الرحمة والبر!»

قال قائل منهم: «ما أرى إلا أن لهؤلاء الناس من أهل يثرب شأنًا. فلو أنهم يقيمون أمرهم على شيء من باطل هذه الحياة الدنيا لما استقبلوه بهذا الحزم، ولما احتملوا في سبيله هذه الأهوال، ولما رخصت عليهم نفوسهم ودماؤهم وأموالهم وأهلوهم إلى هذا الحد. والله إني لأسمع ما يقال وأرى ما يحدث، فلا أشك في أن أهل هذه الأرض يستقبلون عصرًا كذلك العصر الذي استقبله أهل بلادنا حيث انبعث فيهم رسل المسيح: هذا الإيمان الذي زين في بعض القلوب حتى زهدها في كل شيء، هذا اليقين الذي سيطر على بعض النفوس حتى هون عليها كل شيء، هذه المعجزات التي تساق إلى الناس في يسر وسذاجة وما كانوا ينتظرونها ولا يرجونها فلا تغرهم ولا تطغيهم ولا تدفعهم إلى أشر ولا بطر.»

كل هذا دليل واضح على أن السماء لم تقرب من الأرض قربها في هذه الأيام، وعلى أن أخبار السماء لم تتصل بالأرض اتصالها في هذه الأيام، وعلى أن الله يريد بالناس شيئًا لم نكن نقدر أنه كائن ولكن أوانه قد آن. أما إني لاحقٌ بهؤلاء الناس إن استطعت إلى ذلك سبيلًا.

قال آخرون: «ما أيسر ذلك وما أعسره! وأنى لمثلنا أن يفلت من سادة قريش، وإن من حول مكة من أهل البادية لأرصادًا على من أقبل من يثرب أو قصد إليها من الأحرار، فكيف بالرقيق!»

قال «لسياس» وهو ينتحب: «فكروا في ذلك ودبروا، وتهيئوا لذلك واستعدوا؛ فأنتم أهلٌ لهذه الكرامة إن كان الله قد قضاها لكم. أما أنا فقد كتب عليَّ الشقاء. وما أرى أن بحار الأرض لو سلطت على التنعيم تستطيع أن تغسل هذا الدم الزكي الذي سفكته هذه اليد الآثمة.»

ثم قام عنهم يعدو مشتدًّا في العدْو، فلم يروا له بعد ذلك أثرًا ولم يسمعوا عنه بعد ذلك خبرًا.

١  الدبر هنا: جماعة النحل والزنابير.
٢  تكففت عبرته: ارتدت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤