الفصل الثامن

الوفاء المر

١

أقبل الفتى على أمه وعمه جذلان مبتهجًا، قد تألق وجهه بشرًا، ولكن الحزم والعزم ظهرا في عينيه الحادتين وفي صوته الممتلئ الهادئ الرزين. ولم يكن كعب قد أتم السابعة عشرة من عمره، ولكنه كان قوي الجسم، مرتفع القامة في السماء، كثير الحركة، عظيم النشاط، في نفسه حزن دفين. يظهر في صوته إذا تحدث إلى الناس، وفي خواطره التي كان يديرها في رأسه كئيبة قاتمة، ويخرجها إلى لداته وأترابه عابسة شاحبة لا حظ فيها للرضا ولا للابتسام.

وكان لِدَاتُهُ وأترابه يتحدثون عنه إذا لم يشهدهم، فيذكرون التناقض بين حركته الدائمة ونشاطه، وبين نفسه الحزينة وباله الكاسف، ويقول بعضهم لبعض: ما نظن هذا النشاط المتصل والحركة العنيفة، إلا وسيلة يتخذها كعب ليتسلى بها عن هذا الحزن الخبيء الذي لا يريد أن يظهره ولا أن يبوح به، والذي يحميه في أعماق ضميره كأنه حرمٌ لا ينبغي لغيره أن يبلغه أو يظهر عليه.

وكانت أمه تجد مثل ما يجد أصحابه من الإشفاق عليه والرثاء له، ومن إنكار هذا التناقض بين جسم مضطرب نشيط ونفس ساكنة هادئة حزينة. ولكنها كانت تعلم من أمر هذه النفس الهادئة الحزينة أكثر مما كان يعلم أصحاب الفتى.

وكانت تتحدث عن حزن الفتى واكتئابه إلى عمه الشيخ إذا خلت إليه. وكان الشيخ يسمع لها ويصغي إليها، ثم ينظر إلى وجهها المشرق الذي يترقرق فيه حزن رقيق، تخفي أصوله في نفسها نظراتٌ طويلة، ثم يقول لها في هدوء متكلف وأناة مصطنعة وصوت يكاد يتفجر فيه الغيظ المكظوم: «مهلًا مهلًا يا أسماء! فإن الأوان لم يئن بعد.» وكانت أسماء تسمع من الشيخ هذه الجملة التي يكررها كلما تحدثت إليه في أمر الفتى، فلا تزيد على أن تلزم الصمت، وتقطع الحديث، وترسل دموعًا هادئة تنحدر على وجهها الجميل، ثم تسرع إلى هذه الدموع فتكفكفها، ثم تنصرف عن الشيخ ساعة، ثم تعود إليه مشرقة الوجه باسمة الثغر، كأنها لم تقل له شيئًا ولم تسمع منه شيئًا، وكأن دموعها الغزار لم تغسل وجهها الجميل.

وكانت أسماء قد وصلت بابنها الصبي إلى هذه المدينة من مدن الشام منذ أكثر من عشر سنين، تحمله بين ذراعيها، ولا تخلي بينه وبين الحركة الحرة إلا قليلًا لكثرة ما خافت عليه، ولكثرة ما تعرضت وتعرض معها له من الهول. فلما انتهت إلى المدينة تلقاها الشيخ فأحسن لقاءها، وسمع منها حديثها فأحس له ألوانًا مختلفة من العواطف: أحس الغيظ والحنق، وأحس الثورة والغضب، وأحس الرحمة والإشفاق، وأحس البر والحنان، وقال لامرأة أخيه آخر الأمر: «أقيمي يا أسماء وادعةً مطمئنة، فقد بلغت مأمنك وانتهيت إلى دارك، ولك عليَّ ألا تجدي في هذه الديار إلا ما ترضين، وأن أقوم على هذا الصبي كما كان أبوه يريد أن يقوم عليه، لا أسألك في ذلك إلا أمرين: أن تفرغي للصبي حتى يتم رجلًا كامل الخلق موفور القوة، ولك بعد ذلك أن تفرغي لنفسك، فتلتمسي الزواج وتستأنفي الحياة، وأن تكتمي على الصبي أمر أبيه فلا تنبئيه منه بشيء حتى أوذنك بأن الأوان قد آن.»

قالت أسماء وقد شاع في صوتها من الأسى ما يذيب القلوب: «وا حسرتاه! وهل أستطيع أن أفرغ لشيء غير هذا الصبي الناشئ! وغير ذكرى ذلك الشيخ الذي مضى ولم يترك مع ابنه إلا لوعةً ما أراها تهدأ، وحبًّا ما أراه ينجلي عن هذا القلب البائس! لن أفكر إلا في هذا الصبي أعده ليكون لي خلفًا من أبيه. فأما الزواج فقد قضيت أربي منه. وأما الحياة فقد أخذت منها كل ما أعطتني، فما أطمع منها في شيء، وما أرجو منها خيرًا. ولقد ودعت حياة الزواج يوم ودعت أبا كعب، فمضى إلى الموقعة، ومضيت إلى هذا الوجه من أرض الشام. ولقد أردت أن أطيل وداعه، وأن أسترسل معه في بعض الحديث، وأن أعاهده على الوفاء له، وأن أقسم له على أني سأظل له زوجة إن قضى كما كنت له زوجة قبل أن يتعرض للموت. ولكنه لم يرد أن يسمع لي ولا أن يصغي إلي، ولا أن يطيل موقف الوداع، وإنما نظر إليَّ نظرة فيها الحب والغضب معًا، ورفع ابنه فقبله بين عينيه، ثم دفعه إليَّ في شيء من العنف ثم تحول عني. حتى إذا استقلت الإبل ودفعت في طريقها إلى الشام، تلفت فإذا هو قد استدار وجعل يتبعنا بصره وهو قائم لا يتحرك ولا يظهر على وجهه إلا هذا الغيظ المروع الذي رأيته فأنكرته حين عاد إليَّ من ناديه آخر النهار. فلما أبى أن يسمع لي ويتلقى قسمي عاهدت نفسي وقد عجزت عن أن أعاهده، وأقسمت لنفسي وقد عجزت عن أن أقسم له. ثم لاقيت في الطريق ما تعلم من خطب، وتعرضت لما تعلم من هول؛ فلم تبق الحوادث مني لحياة الزوجات شيئًا، وإنما أبقت مني لحياة الأمهات كل شيء.»

قال الشيخ: «وتكتمين على الصبي أمر أبيه حتى أوذنك بأن الأوان قد آن.» قالت: «ذلك لك، وإن كنت لا أعرف كيف أجد السبيل إلى الكتمان.»

وأنفقت أسماء أعوامًا وأعوامًا، تنشئ ابنها وتحدب عليه في ذرا البر العنيف الماكر من شيوخ يهود في الشام. حتى إذا تقدمت السن بالفتى وعرف نفسه ونظر، فلم يجد حوله إلا أمه وعمه سأل عن أبيه، فأنبأته أمه باسمه ومكانته من قومه، وبأنه قد لقي مصرعه في بعض ما يلقى الناس فيه مصارعهم من الحوادث التي تعرض، والخطوب التي تلم هناك في تلك الأرض البعيدة التي هاجر اليهود إليها بحريتهم فيما مضى من سالف الدهر.

وجعل الفتى يسأل أمه ويلح في السؤال يريد أن يعرف عن أبيه أكثر من ذلك فلم يجد منها إلا مداورة والتواء، فلجأ إلى عمه فلم يجد عنده إلا مثل ما وجد عند أمه من المداورة والمراوغة والالتواء. هنالك ارتاب الفتى وأثر الشك في نفسه آثارًا عميقة. وهنالك تعقدت الأمور في ضمير الفتى، فأحس الخوف من هذا السر الذي تخفيه عليه أمه ويحجبه عنه عمه، وأحس الكبرياء التي منعته من الإلحاح في السؤال مخافة أن يعلم ما يغض من نفسه أمام نفسه، وأحس الإشفاق على هذه الأم الجميلة البرة الحزينة أن يكون في إلحاحه عليها ما يؤذيها، أو أن يكون في جوابها له ما يؤلمه. فعكف الفتى على نفسه، وأسر الحزن في ضميره، وجاهد الهم ما استطاع إلى جهاده سبيلًا، فلم يقهر الهم ولكن الهم لم يقهره. وكانت الحركة الدائمة والنشاط المتصل وسيلته إلى هذا الجهاد، فكان لا يصبح إلا أسرع إلى الخروج من داره، واضطرب فيما يضطرب فيه شباب العرب في هذه المدينة القائمة في طرف من أطراف الشام. صراعٌ وجلادٌ وخروج إلى الصحراء القريبة للصيد مرة ولمجرد الإيغال في الصحراء مرة أخرى، وحديثٌ إذا شق على الفتى وأترابه ما ينفقون وقتهم فيه من الحركة والاضطراب. ولكنه لم يستطع قط أن يمنح الحياة ابتسامة نقية من الشوائب، كما لم يستطع قط أن يتلقى من الحياة ابتسامة بريئة من العبوس.

فلما كان ذلك اليوم أقبل الفتى على أمه وعمه جذلان فرحًا يتألق وجهه بشرًا ولا يفارقه مع ذلك حزنه العميق. ولم يكد يراهما حتى قال لهما في صوت متقطع قد امتزج فيه الأمل باليأس: «تهيآ للرحلة، فليست هذه المدينة لكما بدار منذ اليوم.»

فوجمت الأم ولم تحر جوابًا، وتماسك الشيخ ونظر إلى ابن أخيه نظرته الطويلة العابسة الماكرة، وقال في هدوء متكلف: «وما ذاك؟» قال الفتى: «ذاك أن جيوش هذه الصابئة من أصحاب محمد قد دنت من أرضنا، وأن نائب قيصر يستعد للقائها، وقد هيأ جيوش الروم وأذن في أهل الشام من العرب بالنفير العام. وما أرى إلا أن هذه المدينة ستكون موضعًا للصراع بيننا وبين هذه الصابئة.»

قال الشيخ وهو محتفظ بهدوئه المتكلف: «وما نحن وهذا الصراع يا بني؟ نصارى ومسلمون يقتتلون، سنرتحل وسنخلي بينهم وبين ما يملأ قلوبهم من الحقد والبغض.» قال الفتى: «سترتحلان! أما أنا فمقيم.» قالت أسماء: «أما أنت فمقيم! وما تريد أن تصنع في دار الحرب؟ وكيف تقدر أنا سنرتحل من دونك؟»

قال الفتى: «سترتحلان لأنكما لا تقدران على الحرب، وليس لكما فيها أربٌ، وسأبقى أنا لأني أقدر على الحرب، ولأن لي فيها أربًا.» قالت أسماء: «لك في الحرب أربٌ! وما هو؟» قال الفتى: «هو أن أجد فيها من الجد ما يشغلني عن نفسي ويصرفني عن همي. فإن لقيت فيها الموت فسأستريح من حياة لم أجد فيها إلا عناء وحزنًا.»

وتحطم صوت الفتى وجرت دموعه على خديه، فنهضت إليه أمه تضمه إليها وتمزج دمعها بدمعه، وثبت الشيخ في مكانه هادئًا ينظر إلى الفتى وأمه نظرته تلك الطويلة العابسة الماكرة، ثم انفرجت شفتاه عن هذه الجملة التي قالها وهو ينهض متثاقلًا: «لقد آن الأوان يا أسماء!»

٢

وانصرف الشيخ وترك الفتى واجمًا، وأمه تنازع شيئًا من حيرة طارئة. ولكن لم يمض إلا قليلٌ حتى ثاب الفتى إلى نفسه، وخلصت الأم من حيرتها، فنظرت إلى ابنها نظرةً فيها كثير من الحنان، وفيها كثير من الوجد، وفيها كثير من الغيظ الدفين. ثم أخذت بيد ابنها فأجلسته وجلست إلى جانبه، ثم أحاطت عنقه بذراعها وضمته إليها، ثم قالت: «فأنت إذًا تريد أن تحارب يا بني؟» قال الفتى: «نعم!» قالت الأم: «من تريد أن تحارب؟» قال الفتى: «أريد أن أحارب هذه الصابئة التي تغير على أرض قيصر، وتريد أن تجلينا عنها أو أن تتخذنا لها عبيدًا وخدمًا.»

قالت الأم: «فإنك لن تفعل من هذا شيئًا يا بني إلا أن تكون ابنًا عاقًّا ينكر أباه.» قال الفتى وقد وجم: «ماذا تقولين؟ وماذا أعرف من أمر أبي؟ وكيف يكون قتالي لهذه الصابئة التي اضطهدت يهود فقتلتهم وعذبتهم وأجلتهم عن ديارهم إنكارًا لأبي وجحدًا لحقه علي؟»

قالت الأم: «إن الأمر يا بني لأعسر مما تظن! لقد هيأك عمك لتثأر لأبيك وليهود من هؤلاء الذين تسميهم الصابئة. ولقد صابرته وطاولته ومالأته على ما فعل وشاركته فيما أراد، وكنت أستجيب في ذلك لعواطف نفسي وأهوائها، وكنت أستجيب لهذه العصبية التي يجدها أبناء يهود جميعًا على هؤلاء الذين قتلوهم وعذبوهم وأجلوهم عن ديارهم كما تقول. وكنت أستجيب لشيء آخر يا بني هو حبي لك وحرصي على تنشيئك وحمايتك من غوائل الدهر، ووفائي لعمك هذا الشيخ الذي منحنا من العطف والبر والحنان ما مكنني من أن أبلغ بك هذه السن وأصير بك إلى هذه الحال. ولقد انصرف عنا الآن يا بني وهو يقدر أني سأهيئك لما هيأك له، وسأعدك لما أعدك للمضي فيه، وسأنبئك بحديث أبيك على نحو يدفعك إلى الثأر له. ولكني يا بني أنظر إليك إلى جانبي، وأنظر إلى أبيك في قرارة ضميري، أرى وجهك ماثلًا في عيني، وأرى وجهه ماثلًا في قلبي، أسمع لصوتك العذب يمس أذني مسًّا حلوًا، وأسمع لصوت أبيك العنيف يهز ضميري هزًّا قويًّا وأسأل نفسي: أأفي للأحياء أم أفي للموتى؟»

ثم أطرقت أسماء ساعةً والفتى ينظر إليها ولا يكاد يفهم عنها. ولكن أسماء رفعت رأسها وكفكفت من دمعها، وقالت في صوت هادئ مطمئن ولكنه مظلم حزين: «أنت بين اثنتين يا بني: فإما أن تحارب مع هؤلاء الذين تسميهم الصابئة، وإما أن تعتزل الحرب وترحل مع المرتحلين. فأما أن تحارب في جيش قيصر فذلك شيء لا سبيل إليه.»

قال الفتى: «ماذا تقولين فإني لم أفهم عنك منذ اليوم؟» قالت أسماء: «أقول ما كرهت يهود أن تقوله، وما كره عمك أن يقوله. أقول شيئًا لو قالته يهود لما قتلت ولا عذبت ولا أجليت عن ديارها. إن أباك يا بني لم يكن لنبي العرب عدوًّا وإنما كان له صديقًا وبه حفيًّا وله وفيًّا. لقد عاهدت يهود نبي العرب على أن تنصره إن اعتدى عليه المشركون من قومه. فلما آن أوان الوفاء بالعهد وأقبلت جيوش قريش تريد الغارة على المدينة، نفر نبي العرب للحرب ونفر معه من نفر من أصحابه، ودعا أبوك قومه إلى الوفاء بالعهد فتلكئوا وتباطئوا وتثاقلوا، وحاورهم أبوك فتشدد في الحوار وذكرهم وألح في تذكيرهم، ولكنهم تعللوا يا بني، وقالوا: يحارب محمد في يوم السبت، وما ينبغي أن نحارب في يوم السبت.

قال مخيريق — ولم تكد تنطق باسمه حتى احتبس صوتها وانهمرت عبرتها فكفت عن الحديث حينًا ثم استأنفته قائلة — قال مخيريق: فإن محمدًا لم يختر الحرب ولم يختر يومها ولم يختر موضعها، وإنما اختار ذلك عدوه. لا سبت لكم! وانفروا إلى الوفاء بالعهد، فلم يجد منهم إلا إعراضًا وإصرارًا على الإعراض. وما أنس يا بني فلن أنسى عودة أبيك من نادي قومه وقد اربد وجهه وتطاير شرر الغيظ من عينيه. وكنا إذا أقبل إلينا تلقيناه مبتهجين بلقائه وتلقانا هو مبتهجًا بعودته إلينا. فلما أقبل ذلك اليوم لم تكد أبصارنا ترتفع إليه مفتونة معجبة حتى ارتدت عنه محزونة مشفقة. أنكرناه يا بني بل خفناه. ولم ينظر إلينا هو وكأنه لم يحس أننا كنا نتلقاه، فمضى أمامه لا يلوي على شيء، حتى إذا انتهى إلى حجرته أقبل على التوراة فنظر فيها غير طويل ثم طواها، ثم أمر أحد غلمانه أن يدعو إليه بعض أصحابه من يهود. فلما أقبلوا أقرأهم شيئًا في التوراة ثم قال: «أسبتوا إن شئتم من الغد، فأما أنا فلا سبت لي.» ثم قال لهم: «اشهدوا أني نافرٌ إذا كان الغد فواف بعهدي لهذا الرجل؛ فإن أصبت في هذا اليوم فمالي كله لهذا الرجل يقضي فيه بما أراد الله.» ثم دعا كبير غلمانه فأمره أن يهيئ الإبل لرحلة طويلة. فلما تهيأ له ذلك دعا هذا الغلام فأوصى إليه أن يرتحل بي وبك حتى يبلغ هذه المدينة من أرض الشام فيسلمنا إلى عمك، فإن فعل ذلك فهو حر.

ولم يستقر له قرار حتى استقلت بنا الإبل واستبد بنا السفر، وحدا بنا الحداة، وقد أنبئت يا بني أنه قاتل حتى قتل. وقد أنبئت يا بني أن نبي العرب كان يقول إذا تحدث عنه أو سمع الحديث عنه، مخيريق خير يهود. وقد صارت إليه يا بني أموال أبيك، فلم يأخذ لنفسه منها شيئًا، وإنما أجراها صدقة على الفقراء من أصحابه. ولم يستقر لنا الطريق يا بني إلى هذه المدينة من أرض الشام، وإنما التوت بنا أشد الالتواء، فلم يقنع العبد بحريته ولم يف لأبيك بوعده، وإنما أطمعته الدنيا، وزين له حب الثراء أمرًا عظيمًا، فهم أن يبيعنا يا بني بيع الرقيق لولا أن أخطأه الحظ، فعرضنا على من لم يشق عليَّ أن أعرفه بنفسي وزوجي. فلما عرفنا أكرم مثوانا، واحتفظ بالعبد رقيقًا، وأمننا وصاحبنا حتى أبلغنا هذه الدار. وكنت يا بني صبيًّا لا تعقل ولا تكاد تستقل. فلما أنبأت عمك بهذه الأنباء لم ألق منه خيرًا، ولم يطلب إليَّ إلا أن أكتمك الحديث، حتى يأتي لك أن تنهض للثأر. ولم يرد عمك أن يقر أباك على ما فعل، بل لم يرد عمك أن يصدق من هذه الأنباء إلا ما أراد هو وما أرادت يهود، فزعم أن أصحاب محمد قتلوا أباك. وما قتلوه يا بني وما عرضوه للقتل، وما طلبوا منه حربًا ولا قتالًا، ولكن أباك وفى بالعهد يا بني، وقد يكون الوفاء مُرًّا في بعض الأحيان. فانظر ماذا تصنع: أتنصر قومًا نصرهم أبوك؟ أم تكف عن حرب قوم نصرهم أبوك؟ فأما أن تخذل من كان لهم أبوك ناصرًا، فما أرى أن ذلك شيء تستطيع أن تقدم عليه.»

قال الفتى: «حسبك يا أماه فقد سمعت! وسأنظر في أمري. ولكن ارتحلي؛ فليست هذه المدينة لك بدار.» قالت أسماء: «سأرتحل يا بني عنك كما ارتحلت عن أبيك.» قال الفتى: «سيكون وداعك لي قصيرًا، كما كان وداعك لأبي قصيرًا.»

ومضى عام وبعض عام وإذا أعرابي من جند المسلمين يسأل في دمشق عن امرأة يهودية تعرف بأم كعب أسماء زوج مخيريق، ويكفلها يهودي شيخ هاجر معها من أطراف الشام حين أغار المسلمون على هذه الأرض. وقد جد حارث بن الحباب السلمي في البحث عن هذه المرأة واستقصاء أمرها؛ حتى إذا اهتدى إلى دارها وأدخل إليها ذات ضحى، قال لها في لهجته الحجازية البدوية: «أبشري يا أمة الله فقد كتب الله لابنك الشهادة كما كتبها لأبيه مخيريق!»

سمعت أسماء لهذا الأعرابي فلم تعبس ولم تبسم، ولم تنهمر من عينها عبرة، ولم يظهر على وجهها حزن، وإنما قالت: «إنا لله وإنا إليه راجعون!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤