الفصل التاسع

طبيب النفوس

«أين الناضرة؟ عليَّ بالناضرة. ردوا عليَّ الناضرة.» وكان صفوان بن أمية يقول هذا في صوت تظهر فيه الحدة والغضب، ويظهر فيه السخر والضحك معًا. وكان يقول هذا وهو يرمي إلى قيم داره بنظرات كأنهن قطع النار، حتى أخاف القيم وملأ قلبه روعًا وهولًا، فقام مبهوتًا لا يدري ماذا يصنع ولا يعرف كيف يجيب. وكان يقول هذا وقد أخذ بيد صديقه الحارث بن هشام يجذبه إليه جذبًا عنيفًا لا رفق فيه، ويضطره إلى المجلس الذي أراده على أن يجلس فيه، لا يلتفت إليه ولا يسمع له، كأنما يجذب شيئًا لا رأي له ولا إرادة. فلما طال عليه وجوم القيم أقبل عليه منذرًا لا يكاد يخفي حنقه وهو يقول: «ألم أسألك عن الناضرة! ألم أطلب إليك الناضرة؟! أفي أذنيك وقرٌ! أتحولت صخرًا لا يسمع ولا يجيب؟» قال القيم في صوت مضطرب وبلسان متلجلج: «فإن الناضرة في حيث أمر مولاي أن تكون من الحبس، وعليها ما أمر مولاي أن يكون عليها من الأغلال منذ غنت ذلك الصوت.» قال صفوان متضاحكًا لا يكاد يهدأ غضبه: «وقد ضربتها الأسواط التي أمرك مولاك أن تضربها في كل يوم إذا أصبحت، وكنت تتهيأ لتغديها بالأسواط التي أمرك مولاك أن تغذيها بها في كل يوم إذا مالت الشمس إلى الزوال؛ فإني أريد الآن أن أضعك مكانها وأجعل عليك أغلالها، وأرد إليك السياط التي قدمتها إليها منذ أمرتك ذلك الأمر المحنق. اذهب فأخرج الناضرة من حبسها، وضع عنها أغلالها، وأقبل عليَّ بها مكرمة موفورة، وأسرع في ذلك ولا تبطئ، فإني أخشى أن يجر عليك الإبطاء شرًّا عظيمًا.» قال ذلك ثم تحول عن مولاه إلى صديقه الحارث بن هشام وهو يقول: «ما رأيت أحدًا بلغ به الحمق ما بلغ بهذا الغلام.»

قال الحارث وهو يتكلف الابتسام: «بل ما رأيت أحدًا بلغ به الغيظ ما بلغ بك أيها الصديق. إنك لتكلف هذا الفتى من أمره شططًا، تأمره أن يحبس هذه الجارية وأن يعذبها، ثم لا تظهر له أنك غيرت رأيك فيما أردت من حبسها وتعذيبها، ثم تلومه الآن لأنه أمضى ما أردت ولم يخالف عن أمرك!»

قال صفوان: «فإنه يزعم أنه ذكي لبقٌ، وأنه يعرف ما لا يعرف، ويسبق إلى فهم الأشياء، وهو قد رأى ما نرى وسمع ما نسمع وأحس ما نحس، وعلم أن كل شيء من حولنا يتغير، وأن كل سلطان من حولنا يزول: فقد كان من الحق عليه أن يعلم أن لم يبق لنا على الناضرة حبس ولا تعذيب.»

قال الحارث وقد انجلى عنه ما كان يغمر وجهه من الحزن، وابتسم ثغره عن ابتهاج صريح: «نعم! وقد كان ينبغي أن يعلم أن ليس لك عليه أمر ولا نهي، وأنك لا تملك أن تلومه ولا أن تعنف عليه. وقد كان ينبغي أن يدع دارك هذه وما فيها ومن فيها، وأن يمضي إلى حيث يلقى حريته وأمنه ورجولته كاملة ثم يعود إليك متسلطًا ظافرًا، فيصدر إليك من الأمر ما يصدر الغالب إلى المغلوب.»

قال صفوان وقد ثابت إليه نفسه واطمأن قلبه بين جنبيه: «نعم! هو ما تقول. لقد رأيت اليوم ما أخرجني عن طوري. وإن أعجب لشيء فإنما أعجب لهدوئك واستقرار نفسك، واطمئنانك إلى ما يقع حولك من الأحداث.»

قال الحارث: «وماذا تريد أن أصنع؟ لقد جاهدت محمدًا ما وسعني جهاده، وحاربته ما وجدت إلى حربه سبيلًا. ولقد ذقت في هذه الحرب مرارة الهزيمة وحلاوة النصر. ولقد طاولته كما طاولته قريش، وعاجلته كما عاجلته قريش؛ فقد أبت الأحداث إلا أن يظهر محمد على قومه، وأبت الأحداث إلا أن يدخلها علينا محمد عنوة، وقد حلنا بينه وبين ذلك منذ أعوام، فلم ينفعنا ما قدمنا إليه من عنف، ولم يغن عنا ما أظهرنا له من بأس. وها هو ذا يدخلها علينا لا عنيفًا بنا ولا مشتطًّا علينا، لا يجزينا من بأسنا بالبأس، ولا يلقانا بمثل ما لقيناه به من الصلف والخال.١ ولكني لم أعرف الناضرة هذه التي تطلبها، ولا أعلم فيم حبستها وأثقلتها بالأغلال، ولا أفهم فيم سؤالك عنها وإلحاحك في هذا السؤال، وفيم تكريمك لها بعد أن أرهقتها بالعذاب!»

قال صفوان: «فإنك ستعلم من هذا كله ما جهلت.»

وأقبل القيم يدفع أمامه في رفق فتاة قصيرة الخطو، تتقدم في كثير من التردد والامتناع، في وجهها جمال لا تبلغه العين حين يصل إلى القلب فيحدث فيه أثرًا عميقًا. ولكنها تتقدم مترددة ممتنعة، قد ملكها الخوف والإشفاق، وكأن ما لقيت من السجن والعذاب قد آذى منها قلبًا كريمًا، وأهان منها نفسًا عزيزة، وإن لم يؤمن ساجنوها ومعذبوها لها بكرم القلب وعزة النفس. ومتى آمن السادة الأحرار بالكرم والعزة للرقيق المستذل! وكان وجه الفتاة يبين عما يملأ قلبها من خوف كما كان يبين عما يؤذي نفسها من هذا الشعور بالإهانة، ولكنه كان يبين في الوقت نفسه عن شيء يشبه الرضا والإذعان وعن شيء يشبه العفو والمغفرة. كان هذا كله يقرأ في ذلك الوجه الجميل المشرق، وفي تلك اللحظات الوادعة الهادئة.

فلما رآها الحارث مال إلى صاحبه وهو يقول: «ما رأيت أنضر من هذا الوجه!» قال صفوان: «وما عرفت أكرم من هذه النفس.»

ثم نظر إلى الفتاة في رفق عظيم وهو يقول: «أقبلي يا بنتي فليس عليك بأس! أقبلي لا تراعي فأنت آمنة منذ اليوم. لقد آذيناك وشققنا عليك، ولكنا سنصلح ما قدمنا إليك من مساءة. أقبلي وخذي مجلسك كما تعودت أن تجلسي، وغنيني ذلك الصوت الذي كان مصدر ما لقيت من الأذى، والذي سيكون مصدر ما تلقين من النعيم.»

ولكن الفتاة لبثت قائمة واجمة كأنها لا تسمع، أو كأنها لا تفهم، أو كأنها لا تصدق ما كان يساق إليها من الحديث.

قال صفوان: «أقبلي يا بنتي واسمعي لما يقال لك، وأنزليه من نفسك منزل الحق؛ فأنت حرة بعد أن تغنيني ذلك الصوت، وأنت مطلقةٌ تذهبين حيث تشائين، وتستقبلين من أمرك ما تريدين، ولك عليَّ ألا تتعرضي لحاجة، وأن تكفي غوائل الدهر. اجلسي يا بنتي كما تعودت أن تجلسي، وغني يا بنتي كما تعودت أن تغني.»

ثم التفت إلى قيم الدار وقال في صوت حازم: «الخمر والأقداح يا غلام!»

وما هي إلا ساعة حتى كان الصديقان مقبلين على شرابهما، والفتاة تغنيهما في صوت عذب نفاذ إلى القلوب، يغمر وجهها إشراق أخاذ للنفوس هذه الأبيات:

جزى الله ربُّ الناس خير جزائه
رفيقين حلَّا خيمتَي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروحا
فأفلح من أمسي رفيق محمد
ليُهْنِ بني كعب مكان فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد

قال الحارث بن هشام، بعد أن أخذ من الغناء والشراب بحظ موفور: «ألم يأن لك أن تنبئني عن قصتك، وأن تبين لي عن خطتك، فإني أراك شديد الغموض منذ اليوم، وما عرفتك قط غامضًا ولا ملتويًا فيما تأتي وما تدع من الأمر!»

قال صفوان: «أتذكر هذا الشعر؟» قال الحارث: «كيف لا أذكره وقد عرفنا به وجه محمد في هجرته، واستيأسنا به من القدرة على رده إلينا، وتعلمنا به أن ستكون لنا معه خطوب! إني لأسمع هذا الشعر الآن كما كنت أسمعه في تلك الليلة حين انطلق به ذلك الصوت الرائع الرهيب يمشي به صاحبه من أسفل مكة إلى أعلاها، والناس يسمعونه ويتبعونه، ويلتمسون مصدره فلا يرون له شخصًا، فيستقر في نفوسهم أنه هاتف من الجن. وما أدري الآن أكان هاتفًا من الجن أم كان هاتفًا من الملائكة، ولكنه كان روحًا من هذه الأرواح التي ملأت علينا جونا في هذه الأعوام.»

قال صفوان: «فإني قد كرهت هذا الشعر كرهًا شديدًا، وازداد كرهي له منذ قتل أبي وأخي بأيدي أصحاب محمد، ومنذ ورد الملأ من قريش موارد الموت فيما كان بيننا وبين محمد من حرب. ولقد حاولت الثأر في أحد، ولقد حاولت الثأر بعد أحد. ولقد كنت أظن أني سأجد فيمن قتلنا من أصحاب محمد وبني أبيه شفاء، ولكني لم أجد إلا غلًّا يزداد تحرقًا وتأججًا كلما تقدمت الأيام. ولقد التمست السلو عن هذا الغل في الرحلة، والتمسته في الصيد، والتمسته في اللهو، فما ظفرت به وما وجدت إلى شيء منه سبيلًا. وأدعو ذات يوم بهذه الفتاة وأطلب إليها الغناء، فتغنيني ما شاءت، وأطرب لصوتها العذب وغنائها الحلو، فأستزيدها فإذا هي تغنيني هذا الشعر، فتذكرني بما كنت أريد أن أنسى، ويكون ذلك حين تبلغنا الأنباء بأن محمدًا قد عبأ لحربنا، وفصل من يثرب ليدخلها علينا عنوة بعد أن رددناه عنها كرامًا، فيملكني الغضب وتستأثر بي الثورة، وآمر بالفتاة كما رأيت أن تحبس في بيت من بيوت هذه الدار، وأن توضع عليها الأغلال، وأن تصبح وتمسي بالسياط تلهب جسمها هذا الرخص الجميل.»

قال الحارث: «ففيم إطلاقك لها، وفيم استماعك لهذا الصوت وشربك عليه؟» قال صفوان: «فإن الرجل الكريم هو الذي يلقى جليل الأمر معترفًا به غير منكر له ولا جاحد لأخطاره. وقد حاربنا هذا الرجل ما وسعتنا حربه، وقد ظننا به الظنون، وأرسلنا فيه ألسنتنا وعقولنا، وقلنا فيه ما نعتقد وما لا نعتقد، وكانت الأيام تكذبنا، وكانت الحوادث تكشف لنا عما كنا فيه من الإثم والضلال، فكنا لا نسمع للأيام ولا نؤمن للحوادث، وإنما نمضي فيما كنا نضمر من البغض، وفيما كنا نظهر من العدوان. ولم تكن الحرب بينا وبين هذا الرجل، وإنما كانت بيننا وبين قوة أعظم من هذا الرجل بأسًا وأشد منه نفاذًا وأبعد منه أثرًا في حياة الناس. كنا نغالب القضاء، فقد غلبنا القضاء. وكنا نحارب السماء، فقد قهرتنا السماء. فما الخير في أن نمضي فيما كنا نمضي فيه من صلف قريش وكبريائها، ومن جاهلية قريش وغرورها!»

قال الحارث: «إنك لتحدثني بما ناجتني به نفسي مذ أعوام، وبما كانت تناجيني به نفسي حين لقيتك عائدًا إلى دارك بعد أن سمعنا منادي محمد يؤذن في الناس أن من لزم داره فهو آمن، وأن من لزم دار أبي سفيان فهو آمن. وكنت أريد أن أبلغ داري فألزمها حتى أرى لي مخرجًا من هذا الحرج، فلما لقيتك دعوتني إلى دارك فأقبلت معك وإن كنت لغائبًا عنك أسمع لما كانت نفسي تحدثني به من النجوى.»

قال صفوان: «أما أنا فقد عدت إلى داري مغيظًا محنقًا لا أملك نفسي من الغيظ، ولكني عدت إلى نفسي معترفًا بأن أمر محمد قد ظهر على أمرنا، وبأني قد ظلمت هذه الفتاة كما ظلمت غيرها من الناس.»

قال الحارث: «فما تريد أن تصنع؟» قال صفوان: «ما أدري! ولكني لن أذعن لهذا السلطان الجديد إلا أن أكره على ذلك إكراهًا.»

قال الحارث: «أما أنا فمخرج نفسي من هذا اليأس وذاهبٌ إلى محمد فقابلٌ منه دعوته ومعلنٌ إليه إيماني بما يريدنا عليه.»

وهما في ذلك وإذا باب صفوان يطرق، وإذا مولاه يدخل مضطربًا فينبئ سيده بأن رسول محمد بالباب. قال صفوان وقد ظهرت على وجهه ابتسامة حازمة: «فأدخل رسول محمد»، ثم التفت إلى صاحبه وهو يقول: «هذا أول الشر! ما تظنه يريد منا؟»

ولكن الرسول أدخل فحيا وتلطف في التحية، وتلقاه صفوان لقاء حسنًا، ثم يقول الرسول لصفوان: «إن رسول الله يستعد لحرب هوازن، وقد جمعت له جمعًا عظيمًا، وقد علم أن عندك سلاحًا ودروعًا وكثيرًا من أداة الحرب؛ فهو يسألك أن تعينه بما عندك.»

قال صفوان في لهجة لم تخل من سخرية: «فهو الغصب إذًا!» قال الرسول في لهجة غلبت عليها الأناة والحلم: «كلا يا صفوان! ليس الغصب من أخلاق رسول الله، وهو لم يعلمنا غصبًا ولا غدرًا ولا تجبرًا، وإنك لتعلم قدرته عليك وعلى غيرك من الطلقاء، أفتراه قد مسكم بشر، أو نالكم بأذى! إنه يستعير منك سلاحك ودروعك وما عندك من أداة الحرب، على أن يردها عليك موفورة بعد الظفر إن شاء الله.»

قال صفوان: «فأبلغ محمدًا أن له عندنا ما يرضي، وأنا سنعينه بما نقدر عليه من أداة للحرب. ومن يدري! لعلنا نعينه بأنفسنا، فهو بعد ملك قريش.» قال الرسول: «بل قل نبي الله.» وأطرق صفوان ونهض الرسول فانصرف راضيًا.

قال الحارث: «أباق أنت على ترددك؟ أما أنا فمسلمٌ منذ الآن.» قال صفوان: «ما أدري والله ما أصنع! إن قلبي ليحب هذا الرجل ويؤمن له، وإن نفسي مع ذلك لا تستطيع أن تسلو عن عز قريش.» قال الحارث: «فإني أرى أن عز قريش لم يتبدل، إلا أن يكون ظهور محمد قد زاده قوة وبأسًا، ألم ينبئا منذ أظهر دعوته بأننا إن نؤمن له ضمن لنا ملك الدنيا ونعيم الآخرة؟ لقد كذبناه وأعرضنا عنه وسخرنا منه، فلم يرعه ذلك، ولم يفل من عزمه، وإنما مضى أمامه لا يلوي على شيء ولا يحفل بشيء ولا يشفق من شيء، حتى إذا لم يجد عند قومه خيرًا ولا في وطنه أملًا، هاجر بدعوته إلى حيث يستطيع أن يجهر بها وأن يذيعها آمنًا ويذود عنها بالقوة إن تعرضت للخوف. ولست أخفي عليك أني لم أعجب بشيء قط كما أعجبت بهذه الهجرة يفر فيها صاحبها برأيه ليذود عنه ويدعو إليه حرًّا طليقًا لا يخاف شرًّا ولا يلقى أذى!

هذا الفرار بالحرية، أو هذا الفرار في سبيل الحرية، شيء لم نعرفه من قبل. لقد كنا نفر بأموالنا لنحصنها، وكنا نفر بأمتعتنا لنؤمنها، وكنا نفر بدمائنا لنحقنها، فإذا هذا الرجل وأصحابه يفرون بدينهم لينشروه، ويتركون لنا أموالهم وأمتعتهم ومنافعهم، ثم لا يلبثون أن يبذلوا دماءهم في سبيل ما يدعون إليه. ألا يروعك هذا.»

قال صفوان: «فما بال هذا كله لم يرعك قبل اليوم؟»

قال الحارث: «والله لقد راعني وما زال يروعني؛ وإنما هي الكبرياء. وقد آن أن تنجلي عني غمرتها.»

قال صفوان: «أما أنا فلم تنجلِ عني غمرة الكبرياء بعد! وانظر؛ إن أمري لعجبٌ حقًّا! إني لا أستطيع أن أذعن لمحمد، ولا أومن لما جاء به، ولكني مع ذلك لا أستطيع أن أبقى بمكة آمنًا وادعًا وهو يلقى عدوه من قيس. لأشهدن حربه هذه كما يشهدها أصحابه، ولأنظرن في أمري بعد ذلك.»

ويتيح الله لنبيه الظفر يوم حنين على جموع قيس بعد أن امتحن المسلمون في أنفسهم وقد أعجبتهم كثرتهم فلم تغن عنهم من الله شيئًا، وإذا رسل النبي تصل إلى صفوان في خيمته ومعه الحارث بن هشام قد أسلم وشهد الوقعة مسلمًا. فإذا دخل الرسل على صفوان قال قائلهم بعد أن حيا وتلطف في التحية: «إن رسول الله يرد عليك سلاحك ودروعك وأداتك موفورة، ثم هو يهدي إليك حظًّا من الغنيمة يمنحك مائة من الإبل، ولا يكره أن يزيدك إن استزدت.»

قال صفوان: «وصلته رحمٌ! فما عرفته إلا رجل خير، وما أرى إلا أن الله قد منحه القدرة على تطهير القلوب من الحقد والبغض، ومن الضغينة والإثم. هلم سيروا معي إليه، فقد آن لغمرة الجهالة أن تنجلي، وآن لصفوان بن أمية أن يؤمن بمحمد وما أنزل عليه من الحق.»

ويمضي صفوان بن أمية إلى النبي فيسلم. ثم يعود فيخلو إلى نفسه ويفرغ لأمره، ولا يكاد يشارك الناس فيما يضطربون فيه من الأمر.

قال بعض أصحاب صفوان له ذات يوم: «أي أبا وهب! إنك أسلمت، ولكن الإسلام لا يستقيم لك إلا أن تهاجر كما هاجر الناس.»

قال صفوان: «فلنهاجر كما هاجر الناس.» وخرج من مكة غير محب للخروج. فلما بلغ المدينة لم يقم فيها إلا قليلًا حتى قال له رسول الله : «عزمت عليك يا أبا وهب لما رجعت إلى أباطح مكة.» فرجع إلى أباطح مكة أحب ما يكون في الرجوع إليها، وأقام فيها ما شاء الله أن يقيم. وكان يتحدث إلى الناس فيقول: «لقد أعطاني رسول الله يوم حنين، وإنه لمن أبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لمن أحب الناس إليَّ.»

قال قائل: «لقد أحببته إذًا لعطائه!» قال صفوان: «ويحك! لا والله إن كنت لغنيًّا، وإنما أحببته لأن الله علمه كيف يداوي القلوب المرضى.»

١  الخال: اسم بمعنى الخيلاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤