الفصل الثالث

المصادر الفرنسية في السينما المصرية

إذا كانت السينما الأمريكية هي الأم الرءوم للنصوص السينمائية المصرية، فإن الأدب الفرنسي الشعبي هو الأب غير الشرعي لهذه النصوص، حيث راح السينمائيون يبحثون عن حكايات ميلودرامية مسلية في خبايا الروايات الشعبية المكتوبة باللغة الفرنسية، وأغلب هذه الروايات لا يتمتع بأي أهميةٍ تُذكر، سواء في جانب النقد أو التواجد الأدبي على الساحة. وسوف نرى أن أيًّا من السينما العالمية، بما فيها السينما الفرنسية ذاتها، قد تجاهلت هذا النوع من الروايات المكتوب في فرنسا، وأن السينما في مصر حاولت دائمًا الانتساب إلى هذا الأب غير الشرعي بكل ما تملك من قُوى، وهي تارة تحاول الاعتراف به وتارة أخرى تنكره وتتجاهله. وحكايات هذه الروايات تدور في عالمٍ أسري عن الابن العاق، والأب الضال، وبائعة الخبز التي خرجت من السجن كي تبحث عن أولادها، وزوجة الأب المتسلطة على أعضاء الأسرة.

ومن أهم كُتَّاب الرواية الشعبية الذين اعتمدت عليهم السينما المصرية: هنري مرجيه، وجول ماري، وجورج أونيه، ودوري دجوفيه، وبيير كورسيل … وآخرون.

أما النصوص الأدبية المشهورة لكتَّابٍ عُرفوا بأهميةٍ خاصة، فإن السينما راحت تبحث عن نصوصٍ بعينها لتقديمها حول نفس الموضوعات، وهناك روايات مدللة بشكلٍ خاص تأليف كتَّاب مشهورين عرفت طريقها العديد من المرات إلى شاشة السينما؛ مثل «الكونت دي مونت كريستو» لألكسندر دوماس، و«البؤساء» لفيكتور هوجو، و«تيريز راكان» لإميل زولا، ومسرحية Le Cid لبيير كورني ومسرحية «فاني» لمارسيل بانيول … وغيرها من النصوص الأديبة.

وجميع هذه الأعمال قائمة على الحكايات الميلودرامية؛ لذا فإن المخرجين وكتاب السيناريو راحوا يبحثون عن مصادرهم في الروايات الشعبية، بل يعيدون إخراج نفس الرواية أكثر من مرة، مثل ما فعل هنري بركات وحسن الإمام وحلمي رفلة.

وإذا كان هذا هو حال الروايات الشعبية، فسوف نرى أن السينما قد تجاهلت التيارات الأدبية الطليعية التي ظهرت في القرن العشرين، والتي أبدعت الروايات المليئة بالتجريب، ومحاولة الخروج من المألوف؛ فلم يُقدَّم من أدب ألبير كامو مثلًا سوى مسرحية «سوء تفاهم» حول الأم التي تقتل ابنها دون أن تعرف حقيقته. بينما كانت العلاقة مبتورة تمامًا بكل اتجاهات الأدب في القرن العشرين. وإن كانت السينما المصرية قد اقتربت بشيءٍ من الحذر من بعض أفلام سينما الحركة الفرنسية، وهي أفلام مصنوعة على الطريقة الأمريكية.

figure
إذا أردنا أن نبدأ برواية «كارمن» Carmen؛ فلأنها أحد النصوص الأدبية المفضلة لدى السينمائيين، ليس فقط في مصر بل في جميع أنحاء العالم، فقد حوَّلها المبدعون إلى نصوصٍ سينمائية ومسرحيات وأوبريتات عالمية، كما راح المخرجون يعزفون على أوتار موضوعها عشرات المرات، تارة في إطارٍ استعراضي، وأخرى في شكلٍ معاصر، وثالثة بشكلٍ تجريبي، أو هو ممزوج بالباليه. وكثيرًا ما كان النص يعتمد على الحدوتة الجذابة فيه. وقد تحولت كارمن إلى امرأةٍ زنجية في بعض الأفلام، ولكنها ظلت دائمًا الغجرية الحسناء التي تخلب لُب الرجال، لكن رجلًا واحدًا لا يمكن أن يمتلك عواطفها. وقد بلغ عدد المرات التي ظهرت فيها «كارمن» على الشاشة قرابة الثلاثين مرة، ومن أشهر هذه المعالجات تلك التي أخرجها جاك فيريه في عام ١٩٤٨م، وجسدت شخصية كارمن الممثلة ريتا هيوارث، كما أن الخماسية السينمائية التي أُخرجَت في النصف الأول من الثمانينيات في كلٍّ من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، قد استطاعت أن تعطي للقصة الأدبية قيمة أهم من الرواية الأصلية، وأشد أصالة وعمقًا، وهي خمسة أفلام أخرجها على حدة كلٌّ من فرانشيسكو روزي، وكارلوس ساورا، وجودار وبيتر لوك. وظهرت في مصر مرتين هما: «الشيطان امرأة» لنيازي مصطفى عام ١٩٧٢م، و«امرأة بلا قيد» لهنري بركات عام ١٩٧٩م.

ورواية «كارمن» هي في الأصل أقصوصة طويلة نشرها بروسبير ميريميه في القرن الماضي ضمن مجموعة أخرى من رواياته القصيرة، وهي مصاغة بأسلوبٍ أدبي راقٍ في عباراتٍ موجزة تعبِّر عن جوٍّ مليء بالقلق والتوتر، حول رجل من الشرطة يختلط بحكم عمله بالناس، يقع في غرام إحدى بنات الغجر التي تبدي في أول الأمر مقاومة حتى لا تقع في غرامه، إلا أنها تمتثل شيئًا فشيئًا لأنوثتها، وعندما ترغب في التمرد على هذه العلاقة يقتلها عشيقها ويلقى مصيره.

figure

وأهم ما في «كارمن» هو شخصية تلك الغجرية التي لا يمكن أن تنصاع لأي رغبات، تعيش على سجيَّتها، وتتصرف بتلقائية؛ تفعل ما تريد، تنام بلا قيدٍ يؤرق حلمها، تُلهب قلوب العشاق، إلا أنها عندما تود التخلص من عواطف الجندي الذي أحبها بجنون فإنه يقتلها. وقد صورها مؤلفها فتاة شقية خفيفة الظل لا تؤذي أحدًا، ولا ترتكب شرًّا، فهي تذهب إلى منقذها في سجنه، وتحضر له الطعام، ثم تطلب منه أن يزورها في منزلها لترد له الدين، مرددة بعد ذلك: «أنا في حلٍّ من وعدي». أما نيازي مصطفى فقد صورها فتاةً شريرة تقوم بتهريب غزل التريكو من المصنع الذي تعمل فيه، وهي تسعى إلى إيقاع حارس البوابة أمين في غرامها، كي تتمكن من تنفيذ عملياتها، وما يلبث الرجل أن يصبح أداةً في يدها، ويتحول إلى خارجٍ على القانون مثلها. أما «نور» بركات فهي تعمل في التهريب، وتساعد العصابات على كسب الآلاف من الجنيهات. و«كارمن» كينج فيدور هي الأقرب إلى الفتاة البريئة، وإن كانت قد تحولت في النهاية إلى عشيقةٍ لرجلٍ آخر غير خوسيه، وقد صورها كل من فيدور وبركات على أنها غجرية من اللاتي يؤمنَّ بكشف الغيب عن طريق الفنجان. أما كارمن ميريميه فهي من البوهيميين الذين ينتشرون في إسبانيا ضمن العديد من طبقات الغجر، وتقول لخوسيه قبل أن يقتلها: «كنت أعرف أنك ستقتلني، ففي أول مرة رأيتك فيها شاهدت قَسًّا على باب منزلي، واليوم شاهدت قطًّا يمرق بين قدمي حصانك، هذا هو المكتوب علينا.»

وياسمينا في «الشيطان امرأة» تغري أمين بترك الخدمة، مثل ما فعلت نور مع الرقيب عبد الحميد، ثم تهرب معه بعد أن تَصور أنه قتل «أبو دومة» أحد رجال التهريب، وهي تسعى إلى تهريبه خارج البلاد مهما كان الثمن. وإذا كان خوسيه قد تحول إلى قاتل، إلا أنه لم يكن أبدًا ذلك الشرير الذي يقتل بلا سبب. ونور أقرب إلى كارمن عندما ترد الدَّين إلى الرجل الذي أنقذها. وأن تدعو امرأة رجلًا إلى منزلها ليقضي معها ليلة حلوة يبدو شيئًا مقنعًا عند البوهيميين في جنوب إسبانيا، لكنه غريب على غجر مصر من الأعراب، وكل من نور وكارمن ترفضان الارتباط العاطفي بالشرطي في أول الأمر، ثم تتركه دون سبب مرددة: «ستكون كارمن حرة للأبد.» أما نور فتسقط عنها هذا المفهوم، وهي تردد: «أصبحت رجلي وهواك وافق هوايا.» ويُعتبر أدهم — المجرم — في فيلم بركات هو المعادل لشخصية لوكاس عند ميريميه، حيث إن ظهوره يكون سببًا لبدء المشاكل وإنهاء العلاقة بين العاشقين، مما يؤدي إلى أن يقتل خوسيه غجريته ويقوم بدفنها، فيضع فوق جثتها خاتمها الثمين وصليبًا صغيرًا، ثم يتجه إلى القرية ويعلن أنه قتل كارمن، ولكنه يفتخر أنه لن يخبر أحدًا بمكان مقبرتها. أما كارمن في الفيلمين المصريين فإنها تموت ويلقى كلا الرجلين جزاءهما.

أما الرواية الثانية التي أصبحت بمثابة الفرخة التي تبيض ذهبًا للمخرج المصري فهي «تيريز راكان» لإميل زولا، وهي رواية جيدة لا تنتمي بالطبع إلى الرواية الشعبية، ولكن حوادثها أقرب إلى ما يدور في هذه الروايات. وظهرت هذه الرواية ثلاث مرات في مصر. كما قدمها الفرنسيون والبريطانيون، فقد أخرجها مارسيل كارنيه عام ١٩٥٣م في فيلمٍ من بطولة سيمون سينيوريه، أما اليوناني جورج كوزماتوس فقد قدمها عام ١٩٧٢م تحت عنوان «خطيئة» Sin بطولة راكيل والش. وفي مصر كانت تجربة صلاح أبو سيف مع هذه الرواية جديرة بالاهتمام، حيث أخرجها عام ١٩٥١م تحت عنوان «لك يوم يا ظالم» عن سيناريو نجيب محفوظ وسيد بدير بالاشتراك مع المخرج صلاح أبو سيف. وهو نفس السيناريو الذي أعاد أبو سيف إخراجه من جديد في عام ١٩٧٨م تحت عنوان «المجرم». وبعد ذلك بعامين قدَّم أشرف فهمي حكايةً ريفية عن تيريز راكان تحت عنوان «الوحش في الإنسان»، كتبه عبد الحي أديب.

وتريز المصرية امرأة تعيش مع عمتها التي ربتها. هي خجول لا تعرف أن للدنيا حدودًا سوى جدران منزلها، لذا تعمل العجوز على أن تزوج المرأة من ابنها المعتوه، وتقبل هي عن رضاء، فلا شيء يتغير في الدنيا سوى أنها منسوبة إلى رجلٍ كان يعيش قريبًا منها. ويدخل إلى هذه الأسرة رجل، هو صديق للزوج، يرمي شباكه حول المرأة فيفتح في آفاقها طموحات لم تعهدها في نفسها. في أول الأمر تقاوم، ثم ما تلبث أن تخضع وتخون فراشها، ثم تمتثل له وتشترك معه في التخلص من الزوج. وفي نفس الغرفة تعيش مع زوجها الجديد، إلا أن الندم يتسرب إليها، فينهش الندم لحمها، فيقتل كل منهما الآخر بعد حالة الكراهية التي أعقبت حبًّا آثمًا. فبعد قتل الزوج سعى الرجل إلى تعذيب العجوز التي صُدمت عندما عرفت الحقيقة.

وقد صاغ أبو سيف فيلميه في أجواءٍ شعبية، وجد نفسه متوافقًا مع رواية زولا التي صورت أسرة باريسية فقيرة تسكن حيًّا شعبيًّا في القرن الماضي، تمارس الحياكة من أجل قوت يومها. إلا أن أبو سيف أضاف شخصياتٍ جديدة مثل الجيران الطيبين، وصبي المحامي والمعلم الشهم.

وجميع الأفلام التي أُخرجت عن هذه الرواية اهتمت بالرجل القادم إلى الأسرة، بما فيها الأفلام الفرنسية والبريطانية، فعلى سبيل المثال، في فيلم المجرم نجد منير إنسانًا بلا عواطف، يفكر في الاستحواذ على زوجة زميله إنصاف، وفي أول الأمر يدفعها أن تهجر المنزل من أجله، ثم يدبر خطة لإغراقه في إحدى الترع ويتزوج من إنصاف، المرأة التي لم تتعلم التمرد يومًا، فمن السهل تحريكها كعرائس الماريونيت، فكما حركتها عمتها طيلة حياتها السابقة، فإن منير يحركها بنفس الكيفية. أما إلِينا في فيلم كوزماتوس، فرغم أنها امرأة ريفية، فإنها لم تكن أبدًا مغلوبة على أمرها، وكانت العقل المدبر للتخلص من الزوج وعلى نفس الدرجة من الشر.

ويقول سعد الدين توفيق في كتابه «صلاح أبو سيف فنان الشعب»: «يلاحَظ أن الاقتباس هنا جيد للغاية، إذ لم يؤخذ من القصة الأصلية إلا الخط العريض فقط، أما التفاصيل والشخصيات والجو الشعبي فقد جاءت كلها محلية مائة في المائة، بحيث إن المتفرج لا يستطيع أن يدرك أنها قصةٌ مقتبسة.»

وأبرز ما في الأفلام المأخوذة عن تيريز راكان هو شخصية العمة، فهي موجودة بنفس الكيفية في كل الأفلام، تؤثر في سير الأحداث بشكلٍ إيجابي، فبعد أن يموت ابنها، وبعد أن تكتشف خيانة زوجة ابنها مع صديقه، تصاب بالخرس وهي تسمع اعتراف الخائنَين بما ارتكباه، ثم تحاول كشف جرم الاثنين أمام الجيران مرة تلو الأخرى دون جدوى.

أما البطل العائد من الخارج فهو إنسان يسعى إلى اشتهاء زوجة صديقه محمود ابن البلد في فيلم أشرف فهمي، فقد كان يحب «صدفة» قبل سفره مما يعطي للعلاقة بعضًا من الشرعية، وقد نقل المخرج أجواء فيلمه إلى منطقةٍ ريفية قريبة من أبي قير، حيث يتم تصنيع الطوب الأحمر. في بادئ الأمر يشعر المتفرج بشيءٍ من التعاطف مع العاشقَين اللذين فرقتهما الأزمنة، فها هو الرجل يجد حبيبته زوجة لرجلٍ أبله لا يستحقها، إلا أنه بعد قتل سيد تتحول العلاقة بين العاشقين إلى جحيمٍ لا يطاق، فلا يقدر أي منهما على لمس الآخر، ويقتتلان كما لم يعتادا من قبل.

ورغم أن فيلم «لك يوم يا ظالم» هو أكثر الأفلام المأخوذة عن الرواية جودةً، إلا أن أيًّا من هذه الأفلام، بما فيها فيلم «خطيئة»، لا يرقى إلى مستوى الفيلم الذي أخرجه مارسيل كارنيه الذي لم يرق بدوره إلى الرواية التي سطرها قلم إميل زولا. الطريف أن أشرف فهمي اقتبس من زولا قصته، وأكسبها عنوان رواية أخرى له، وهي نفس الرواية التي قام ببطولتها جان جابان لحساب السينما الأمريكية عام ١٩٤١م.

ومن الروايات الجيدة أيضًا «الكونت دي مونت كريستو» Le Comte de Monte Cristo لألكسندر دوماس، وهي تدور حول إدموند دانت البحَّار الشاب الذي عاد إلى مدينته الصغيرة من أجل الزواج بحبيبته مرسيدس، إلا أن العودة تثير الغيرة في قلوب ثلاثة رجال نافسهم: واحد على قلب الفتاة، والآخر على وظيفته في السفينة، والثالث لحساباتٍ قديمة، فيتآمر الثلاثة عليه من أجل إدخاله السجن، أما نائب الحاكم فهو رجلٌ متعجرف وعسكري متسلط؛ لذا يسرع بزجه في السجن، وهو مكان رهيب فيه كافة ألوان القسوة، كما أنه معزولٌ عن الحياة، وبعد سنواتٍ يتمكن من الهروب، ويصبح ثريًّا عقب عثوره على الكنز الذي أرشده إليه الراهب الذي صادقه في الحبس، فيغير اسمه ويتحول إلى إنسانٍ آخر يسعى إلى الانتقام ممن زجوا به في السجن، الواحد تلو الآخر، بأسلوبٍ إنساني لا يخلو من دماثة خلق، ودون استخدام السلاح، أو دون أن يفقد دانت براءته التي عُهدت فيه.

حدوتة مليئة بالنبل والأخلاق السامية استطاعت أن تضع كاتبها على قمة أدباء عصره رغم سطحية رواياته الأخرى. والانتقام الذي يمارسه رجلٌ بريء تم اتهامه غدرًا، موضوعٌ محبب لدى الناس. لذا سارعت السينما العالمية والعربية إلى اقتباسها عدة مرات؛ فقدمها كرستيان جاك في عام ١٩٥٥م، ثم اقتبسها كلود ليلوش وروجيه بيجو في إطارٍ معاصر من خلال فيلمي: «الأذعر» و«الحساب العسير». أما السينما المصرية فقد قدمت الرواية ست مرات؛ من أشهرها ذلك السيناريو الذي قدمه بركات مرتين: الأول «أمير الانتقام» عام ١٩٥٠م، والثاني «أمير الدهاء» عام ١٩٦٤م حول حسن الهلالي في عصر المماليك، وهو بمثابة مطابقة لم تخرج كثيرًا عن رواية دوماس، كان الهلالي رجلًا نبيلًا، وفارسًا لا يستخدم سلاحه قط إلا كي يدافع عن نفسه. وكان كريستو واضحًا في ثوب أنور وجدي، إلا أن تنفيذ نفس السيناريو الذي جسده فريد شوقي لم يكن بنفس الجودة رغم إمكانات الإنتاج الأفضل.

أما سمير سيف فقد قدم موضوع إدمون دانت في فيلم «دائرة الانتقام» من خلال حكايةٍ مليئة بالعنف والدموية، خلت من النبل تمامًا، وأصبحت حكاية مجرم يبحث عن ثلاثة شركاء سابقين غرروا به يومًا في عملية سطو ارتكبها معهم، فراح يتفنن في كيفية قتلهم جسديًّا، وراح يطلق رصاصاته وحقده على الواحد تلو الآخر. وبينما سعى دي كريستو إلى التخلص من خصومه معنويًّا واجتماعيًّا، وامتثل لابتهالات حبيبته السابقة مرسيدس ألا يقتل ابنها، فإن جابر كان كتلة من الرذيلة، سواء مع النساء اللائي عرفهن، أو مع الرجال الذين أودعوه في السجن، فانتقم منهم بشرٍّ أكثر من شرورهم، مما أفقده تعاطف المتفرج مع انتقامه، وضاعت المعاني النبيلة المعروفة في عالم «دي مونت كريستو».

وقد جاءت حكاية سمير سيف لتتناسب مع تيار أفلام العنف الذي انتشر بشكلٍ ملحوظ في السينما المصرية منذ منتصف السبعينيات. وهي نفس السمة التي حدثت في الفيلم الخامس المقتبس عن رواية «غادة الكاميليا» وهو فيلم «السكاكيني» الذي ظهر عام ١٩٨٥م.

و«غادة الكاميليا» La Dame aux Camélias حكاية وردية دامية بلا أمل، عن غانيةٍ جميلة يخطب رجال المجتمع ودها، فيحبها شابٌّ من أسرةٍ نبيلة مما شكل تهديدًا على سمعة هذه الأسرة، فتحطم حبها فوق مائدة السمعة المهددة، ويقتلها الحب والتضحية ومرض السل.

وهذه الحكاية هي إحدى الحواديت المحببة بشكلٍ غريب لدى صناع السينما في العالم، وفي مصر؛ حيث تم إخراجها خمس مرات لتصبح مرجريت جوتييه فتاة عربية تنطق بلغة الضاد. وفي «ليلى» لتوجو مزراحي و«عهد الهوى» لبدرخان تصبح الغانية امرأة رقيقة يقع في غرامها طالبٌ قادم من الريف، ينتمي إلى أسرةٍ إقطاعية ثرية، وعلى الأب أن يأتي خصيصًا من القرية حيث يعيش؛ كي يقابل الفتاة ويخطب ودها من أجل أن تهجر ابنه. وقد اعتمد كلا الفيلمين على الغناء، سواء من قِبل ليلى مراد التي قامت بالدور في فيلم توجو مزراحي عام ١٩٤٢م، ثم من قِبل فريد الأطرش الذي جسد دور الشاب الذي يرسل زهور الحب دائمًا إلى حبيبته الغانية ويغني لها دومًا في عام ١٩٥٥م.

الغانية في هذه الأفلام جميعها تموت بمرض السل، وهي أداة طيعة لدى المجتمع الذي يتعامل معها، وتهب جسدها لمَن يدفع ويقدر، وتهب رجلًا منهم التضحية. ولأنها غانية فهي خاطئة في نظر أبناء المجتمع؛ لذا عليها أن تموت بشكلٍ دامٍ ومأساوي مما يزيد من حدة الإعجاب بها، فهي ضحية دومًا، وإذا كان السل لم يعد مرض العصر القاتل، فإن المخدرات أصبحت آفة تقتل مرجريت جوتييه في فيلم «السكاكيني» لحسام الدين مصطفى عام ١٩٨٥م. أما أحمد ضياء الدين مخرج فيلم «عاشق الروح» عام ١٩٧٢م المقتبس عن رواية دوماس الابن، فيردد في حديثٍ صحفي منشور له: «ليست كل الأعمال صالحة للاقتباس، فالقصص الإنسانية قصص عالمية من الممكن اقتباسها في أي بيئة وأي عصر، أما القصص التي تعتمد على الأحداث فتكون على العكس مقتصرة على العصر والظروف التي حدثت فيها.»

تنضم رواية البؤساء Les Misérables لفيكتور هوجو إلى نوعية الروايات الفرنسية السابقة في موضوعها باعتبارها رواية شعبية، إلا أن كاتبها بتمكنه وقدرته استطاع أن يجعل منها تحفة أدبية راقية. وهي رواية مدللة دائمًا لدى صناع الأفلام والمسرحيات والاستعراضات الغنائية في العالم ومصر، ولأن الرواية فرنسية فقد قُدمت هناك عديدًا من المرات، ومن أشهرها ثلاث معالجات؛ الأولى: في عام ١٩٥٨م بطولة جان جابان، والثانية: عام ١٩٨٢م من إخراج روبير هوسين، وبطولة لينو فنتورا الذي جسد شخصية جان فالجان، والثالثة: عام ١٩٩٥م من إخراج كلود ليلوش وبطولة جان بول بلموندو. وهذه الرواية وجدت طريقها إلى السينما المصرية في فيلمين بنفس الاسم؛ الأول: في عام ١٩٤٣م لكمال سليم، ثم عام ١٩٧٨م لعاطف سالم. فقد تحول فالجان إلى الشرقاوي الذي هرب من السجن، وقضى فيه فترةً طويلة بتهمة سرقة رغيف لسد بطنه من الجوع، ومعه أبناء شقيقته. وفي السجن يلاقي معاملةً سيئة من ضابطٍ عُرفت عنه القسوة. وعقب هروبه من السجن يغيِّر اسمه ويبدأ في ممارسة حياة شريفة تحت اسم عبد الفتاح الشريف، فتبتسم له الحياة ويغدو من الرأسماليين. وفي أحد مصانعه يتعاطف مع العاملة درية التي اكتشفت إحدى زميلاتها زَلة لها، فعهدت بطفلها إلى شخصٍ يدير فندقًا. إلا أن رئيسة القسم تطردها مدعية أن الباشا هو الذي أمر بذلك، فأطاعت، وتلتقي درية بالباشا فتسبه وتبصق عليه.

ويلتقي الباشا بالضابط فهيم الذي أصبح مديرًا للسجن، ويرتاب بأمره، ويعمل على أن يزج به في السجن مرةً أخرى. وسط هذه المعاناة من المطاردات المعنوية، يشفق الباشا على درية فيصرف لها راتبًا ومسكنًا خاصًّا، وتصاب يومًا بمرضٍ خطير، فتبوح للباشا بسر ابنتها وتوصيه بها خيرًا، ثم تموت.

ومثل هذا الموضوع مفضل كثيرًا لدى صناع السينما حول الإنسان المقهور أو المجرم الذي يتوب، ولكنه مطارد من ماضٍ مظلم يسعى أن يجذبه إليه مرةً أخرى، ويشده أن يدفع ثمن آثامه فيه. وبالنظر إلى التفاصيل الدقيقة للرواية والفيلمين المأخوذين عنها، سوف نلاحظ أن السينما قد صنعت من فالجان المصري شخصية نبيلة أقرب إلى «دي كريستو».

إذا كان هذا هو حال الروايات الأكثر أهمية المقتبسة عن الأدب الفرنسي، فإن الروايات الشعبية أقل شهرة، وهي أقرب إلى روايات الحب التي لاقت شهرة في الثلاثينيات. وإذا كان أصحاب الأفلام المقتبسة قد راحوا يستفيدون من هذه الروايات المترجمة، فإن البعض الآخر الذي يتحدث الفرنسية قد لجأ إلى المصادر المكتوبة بالفرنسية مباشرة؛ مثل: حسن الإمام وبركات وحلمي رفلة. وقد أشرنا إلى هذه الروايات وكتَّابها، وهي أقل شهرة وأهمية أدبية، كما أنها روايات أشبه بما يسمى عالميًّا best sellers. من هؤلاء الأدباء مثلًا جورج أونيه Georges Ohnet صاحب روايتي «ملك الحديد» Le Maître de forges و«حق الطفل» Les droits de l’enfant وعشرات من الروايات المماثلة. الرواية الأولى تدور حول الزوج الذي يكتشف في ليلة زفافه أن حبيبته تحب رجلًا آخر، فيتفق معها أن يعيشا زوجين بشكلٍ صوري حتى يتمكنا آجلًا من الانفصال. ولكن الحب يتولد بطيئًا في قلب الزوجة وتنسى ماضيها تمامًا.

هذه الرواية قدمتها السينما المصرية أربع مرات؛ المرة الأولى: لدى توجو مزراحي عام ١٩٤٢م بعنوان «قلب امرأة»، أما المرة الثانية: فقدمها بركات عام ١٩٥٤م تحت عنوان «ارحم دموعي»، وهو أيضًا الذي قدمها للمرة الثالثة مع الالتزام بقصةٍ قصيرة لتوفيق الحكيم تحمل اسم «ليلة الزفاف» عام ١٩٦٥م، أما المرة الرابعة: فكانت في جعبة حسن الإمام تحت عنوان «حب وكبرياء» عام ١٩٧٢م. والزوج في كل هذه الأعمال شخص مرموق وجذاب، مما يدفع أسرة الزوجة التي تعاني من انهيارٍ اقتصادي إلى التمسك به والدفاع عنه، وهو شخص نبيل في حبه وكراهيته، يتصرف بحسٍّ مرهف تجاه المرأة التي اختارها.

باستثناء فيلم «ليلة الزفاف» الذي غلب عليه الطابع الكوميدي، فإن الأفلام الأخرى قد دارت في وسط صراعاتٍ ميلودرامية، من خلال الحبيب الذي يتخلى بسرعةٍ عن حبيبته من أجل المال، ثم يعود إلى مراوغتها عندما يحتاج مالها وجسدها، هذه الفتاة التي طالما تاقت إلى عودته من الخارج كي تتزوجه، لكنه يختار امرأةً ثرية. ومما يزيد الطين بِلة أن والد الفتاة يمر بأزمةٍ اقتصادية تدفعه أن يبيع أرضًا لمنتجٍ كان عرض عليه شراءها من قبل، هذا الرجل النبيل الذي يعرض أمواله ونفسه على الأسرة، في مقابل كل هذا، يفاجأ أن زوجته تعترف له أن الجسد وهبته له بلا قلب، وأن القلب يسكن عند رجلٍ آخر، فيقرر أن يهجرها ويحدد موعدًا للطلاق، وتدور الحياة بطيئة يغلفها التكلف، وتنجذب الزوجة رويدًا رويدًا إلى نبل زوجها، فتخبره سعيدة أنها حامل. وسط محاولة الحبيب القديم إلى إجهاض حبها لزوجها، فإن توترًا يسود بين الزوجين يؤدي إلى فقدان الجنين، ثم يدرك الرجل أن زوجته تحبه مما يغير من مشاعره نحوها وتتصالح الأمور.

أما الرواية الشعبية الثانية لجورج أونيه فتدور حول ثري تزوج امرأة أحبها، ولكنه تعامل معها على أنها إحدى ممتلكاته، فيعطي لنفسه الحق أن يعاشر نساءً أخريات تحت سمعها وبصرها، فتهجره إلى رجلٍ آخر أعطاها الحنان، ودفعها هذا الرجل إلى طلب الطلاق، لكن ابنتهما تلعب دورًا في إعادة شمل الأسرة مرةً أخرى. هذه الرواية صنعها للسينما حسن الإمام في فيلم «حكايتي مع الزمن» عام ١٩٧٢م، في إطارٍ أقرب إلى الكوميديا الموسيقية، أو لنقل الميلودراما الموسيقية، التي حشدت لها كافة إمكانات النجاح التجاري.

أما كاتب الروايات الشعبية الثاني فهو جول ماري Julie Marie صاحب روايتي «روجيه لا هونت» Roger la Honte، و«الأب المزيف» وغيرهما. وتدور أحداث «الأب المزيف» حول أحد العمال يدخل السجن نيابة عن مديره بتهمةٍ ارتكبها هذا الأخير. وفي السجن يطلب العامل من مديره وصديقه أن يتولى رعاية ابنته التي لم يرها منذ سنواتٍ طويلة. وعندما يذهب الرجل لمقابلة التلميذة في المدرسة الداخلية تعامله على أنه أبوها الذي عاش بعيدًا عنها طوال سنوات عمرها، ويجد الأب المزيف نفسه في وضعٍ حرج للغاية فيقبل التجربة على مضض. ويُكتشَف أن التلميذة قد ساعدت الرجل في تنقيته من شوائبه.

هذه الرواية وجدت أيضًا طريقها إلى السينما ثلاث مرات، وجسدت كلٌّ من فاتن حمامة وسعاد حسني ونجاة الصغيرة دور التلميذة التي وجدت نفسها أمام أبٍ مزيف، ثم تُصدم عندما تعرف الحقيقة، في أفلام: «قلوب الناس» لحسن الإمام عام ١٩٥٤م، و«الساحرة الصغيرة» لنيازي مصطفى عام ١٩٦٣م، ثم «ابنتي العزيزة» لحلمي رفلة عام ١٩٧١م.

والمقارنة في هذه الحالات ليست واردة، فلا يمكن أن ينسج النول ثوبًا جيدًا من خيوطٍ ممزقة وضعيفة القيمة، فالروايات المأخوذة عنها هذه الأفلام بلا قيمة، وهكذا جاءت في ولادةٍ متعسرة، فنزل الجنين غالبًا مشوهًا مبتورًا. ومن هذه الروايات على سبيل المثال: «البوهيمية» La bohème للكاتب الفرنسي الأصل هنري مرجيه، وهي منشورة عام ١٨٤٨م، والتي اقتُبِسَت مباشرة منها مسرحيةٍ غنائية بنفس الاسم لبوتشيني. وهي رواية تقترب من «غادة الكاميليا» في العديد من أنسجتها؛ الفتاة الفقيرة التي تموت بداء الصدر على فراش المرض إلى جوار حبيبها، بل ثلاثة رجال أحبوها من أعماق قلوبهم. والفقر هو البطل الأول لهذا النوع من الروايات، فالفقراء دائمًا مرضى وعاجزون عن مواصلة الحياة، أما الأغنياء فيتسمون بقسوةٍ ذات طابعٍ ظاهر. هذه الرواية وجدت طريقها مرتين إلى السينما من خلال سيناريو علي الزرقاني (نفس السيناريو في كلتا المرتين): «أيامنا الحلوة» لحلمي حليم عام ١٩٥٥م، ثم «وداعًا للعذاب» لأحمد يحيى ١٩٧٨م. وقد حقق الفيلم نجاحًا ملحوظًا، ليس لموضوعه فقط، ولكن لوجود أربعة من نجوم السينما الكبار: عبد الحليم حافظ، وعمر الشريف وأحمد رمزي وفاتن حمامة.

من هنا، كانت فكرة إعادة تقديم «أيامنا الحلوة» بالسيناريو الأصلي، مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة عليه؛ منها أن ابنة الخال في الفيلم الأول رق قلبها فسددت حساب المستشفى، في حين لم تفعل زيزي مصطفى ذلك في الفيلم الثاني؛ ومنها استبدال هواية رمزي للملاكمة باتجاه محمود عبد العزيز للكاراتيه. أما التغيير الأهم فكان في النهاية؛ في «أيامنا الحلوة» مأساوية، وتنتهي بمشهدٍ رائع يصور فاتن حمامة وهي تنظر إلى الأصدقاء الثلاثة وهم يغادرون المستشفى بصفاء، ثم فجأة تجذب ستار النافذة وتسقط على الأرض. أما «وداعًا للعذاب» فقد جعل نجاح العملية، وليس الموت، خاتمة رحلة الآلام.

وإذا كانت السينما المصرية قد اقتبست بعض أفلامها عن مصادر روائية فرنسية، فإنها راحت بنفس المنظور تقتبس مصادرها عن المسرحيات. وهي في غالبها مسرحيات نُشرت في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وفي الغالب فإن هذه المسرحيات قد وجدت طريقها أولًا إلى خشبة المسارح المصرية في فتراتٍ متعاقبة من الزمن، ويغلب على بعضها اللون الكوميدي مثل: مسرحيات الكاتب الفرنسي مارسيل بانيول صاحب «فاني» و«طوباز». وقد اختار الكاتب للمسرحية الأولى شكلًا فنيًّا جديدًا لم يتبعه أحد من قبله أو بعده.

حيث راح يحكي حدوتة «فاني» من خلال ثلاثية، لكلٍّ منها بطل رئيسي يقص نفس الأحداث من وجهة نظره … وبذلك قدم شكلًا أقرب إلى المسرح بصياغته. أما الثاني «سيزار» فهو أقرب إلى السيناريو السينمائي، بينما مزج في الجزء الثالث «ماريوس» بين الرواية والمسرحية، قبل أن يتجه لهذا الشكل توفيق الحكيم بسنواتٍ طويلة. وقد استهلكت السينما المصرية حكاية «فاني» و«ماريوس» و«سيزار» كثيرًا، وتضاعف عدد المرات التي ظهرت فيها في جميع أنحاء العالم. وتدور المسرحية حول فاني الفتاة التي تعيش في مارسيليا مع أمها، وتحب الشاب ماريوس الذي يسافر على متن سفينة بعد أن ترك جنينًا داخل بطن فاني، وخوفًا من آثار الفضيحة تتزوج من العجوز «بانيس» الذي يهبها الحنان وينسب الابن إلى اسمه. لكن ماريوس يعود من السفر بعد سنوات ويطلب حقه الشرعي في عودة ابنه إليه، وأيضًا أمه وحبيبته التي لا تزال تحمل له نفس الود القديم.

ظهرت هذه المسرحية في السينما أول مرة في عام ١٩٣٢م في فرنسا من إخراج مارسيل بانيول نفسه. ثم أخرجها الأمريكي جوشوا لوجان عام ١٩٥٩م. أما السينما المصرية فقد قدمتها أكثر من خمس مرات، بدأت عام ١٩٣٩م على يد توجو مزراحي في «ليلةٍ ممطرة»، والذي آثر أن يغير الكثير من الأحداث، فجعل ماريوس هنا رجلًا شريرًا يغرر بالفتاة، ويعود لابتزازها بعد سنوات الغربة، أما بانيس فهو العجوز الشهم الذي لا يلبث أن يهجرها ثم يعود إليها. من الملاحظ أن مزراحي قد مزج في هذا الفيلم مسرحية بانيول برواية «ملك الحديد» لأونيه. أما عز الدين ذو الفقار فقد غير الكثير من أحداث المسرحية في عام ١٩٥٤م، من خلال «شاطئ الذكريات»، وجعل من بانيس العجوز شقيقًا عاقلًا، جسده عماد حمدي، يقوم بالتستر على خطيئة أخيه مع الفتاة التي أحبها. ويغادر الأخ الأصغر (شكري سرحان) البلاد تاركًا الفتاة (شادية) حاملًا. وتتعاطف مع زوجها الذي ينسب ابن أخيه إلى نفسه، إلى أن يعود الحبيب الغائب ويطلب لنفسه حقًّا هرب منه يومًا. وهذا الأخ أرعن هوائي، مما يفقد التعاطف معه … أما نور الشريف في فيلم «توحيدة» عام ١٩٧٥م فهو أقرب إلى ماريوس في كل سلوكه؛ فهو الشاب الطيب الذي عليه أن يرحل باحثًا عن فرصة عمل أفضل، ويترك حبيبته كي يتزوجها رجلٌ آخر ليست بينهما صلة قرابة، مثل ما حدث في فيلم عز الدين ذو الفقار. وفي هذا الفيلم حاول حسام الدين مصطفى صناعة أجواء مارسيليا، أقرب إلى ما حدث في فيلم لوجان، وكأن «توحيدة» اقتباس للفيلم الأمريكي أكثر مما هو اقتباس لمسرحية بانيول، واستعان بنجمين مثل: فريد شوقي ورشدي أباظة ليجسدا نفس الشخصيتين اللتين جسدهما من قبل كلٌّ من: موريس شيفالييه وشارل بواييه، وأصبح في الأنفوشي مرسًى للسفن الذي على ماريوس العربي أن يرحل منه إلى ميناءٍ بعيد. وفي هذا المكان تدور حكاية توحيدة وحبيبها حسين الذي يُضطر للسفر للخارج للعمل من أجل توفير الأمان لحبيبته التي أسلمت نفسها له قبل السفر. وقد قام الفيلم بتغيير شخصية الأب إلى أم (سناء جميل) تدافع عن ابنتها ضد الزلل والخطيئة فتزوجها من العجوز.

وفي العام نفسه ١٩٧٥م قدم بركات معالجةً غنائية لمسرحية «فاني» تحمل اسم: «نغم في حياتي»، حوَّل فيها الفتاة المارسيلية إلى هناء التي تعمل سكرتيرة للمطرب المشهور ممدوح، ويربط الحب بينها وبين شابٍّ يسافر إلى البرازيل للبحث عن عمل، ويتخلى عن هناء بعد أن حملت منه. وعندما يعلم ممدوح بما أصاب سكرتيرته يتزوجها وتعيش معه حياةً سعيدة، وعندما يعود محسن ويحاول استمالة هناء فإنها ترفض ولاءً منها لممدوح، ويشعر أنها ما زالت متعلقة بمحسن، فيطلقها حتى يتمكن الطفل أن يعيش بين والديه.

أما مسرحية «السِّيد» لبيير كورني، فقد تمت معالجتها في السينما المصرية من خلال العديد من المستويات الدرامية، فقد وجدت الفتاة في المسرحية الفرنسية نفسها صريعة التردد بين واجبها للانتقام لأبيها وبين عواطفها المشوبة تجاه حبيبها، وفي أثناء محاولة الانتقام تشعر بمزيدٍ من الحب تجاه رودريجو. هذا الموضوع تكرر بأشكالٍ متباينة في «غرام وانتقام» و«دماء على النيل» و«العيال الطيبين»، وهي معالجات تدور في إطارٍ معاصر، وإن اختلفت الأماكن. ففي فيلم يوسف وهبي «غرام وانتقام» فإن المطربة تتقرب من الرجل الذي قتل حبيبها سعيًا لجذب اعترافه كقاتل، وفي اللحظة التي يتم فيها القبض على حبيبها جمال تكون قد أدركت أنها أحبته، فيصرعها هذا التضارب بين حبها وواجبها. وأما نيازي مصطفى في «دماء على النيل» فقد راح بأبطاله إلى أعماق الصعيد؛ كي يجعل من هند رستم أرملة تطارد هريدي للانتقام منه؛ لأنه قتل زوجها أثناء مشاجرة، والزوج هنا رجلٌ خائن سبق أن خانها مع امرأةٍ أخرى؛ لذا فإن مبررات الانتقام تخف حدتها. تقترب المرأة «غالية» من خصمها اللدود وتحبه، بل وتدفع عنه الأذى. وقد حدث نفس الشيء في كلا الفيلمين معًا، أما إمام في «العيال الطيبين» فهو يسعى للانتقام من الفتاة صوفي؛ لأن أباها طرد أباه من وظيفته، وبينما يحاول الانتقام منها إذا بها تتقرب إليه وتقنعه، كذبًا، أنه اعتدى عليها في إحدى الليالي حتى تتمكن من الزواج منه.

وهناك نماذج أخرى عديدة من الاقتباس من المسرح الفرنسي المعاصر، مثل ما حدث في فيلم «المتوحشة» لسمير سيف المقتبس عن مسرحيةٍ بنفس الاسم La Sauvage لجان أنوي Jean Anouilh. فها هي فتاة تعمل في فرقة جوالة وتقدم الاستعراضات الراقصة، ثم تلتقي برجلٍ هو سليل إحدى الأسر الثرية، وهو مثقفٌ عائد لتوه من أوروبا، شخصٌ مهذب ومرشح للعمل في السلك الدبلوماسي، ولكن الواقع الاجتماعي يحول بينهما، فما يلبث الشاب أن يتعرض لمجموعةٍ من الضغوط لارتباطه بها. وفي الفيلم المصري تختار المرأة أن تموت بسبب طعنة وجَّهها زميلٌ آخر إلى حبيبها فتلقفتها نيابة عنه. وهذه المعالجة تختلف بالطبع عن مسرحية «أنوي»، حين هجرت تيريز كل هذا العالم الذي يصعب أن تقترن به بكل ما يحمل من عفونةٍ وتخلف.
أما جلال الشرقاوي فقد قدَّم عام ١٩٦٥م أولى تجاربه السينمائية «أرملة وثلاث بنات»، عن مسرحية «الغربان» Les Corbeaux لهنري بيك. وهي أيضًا مسرحية منشورة في سلسلة المسرح العالمي. حول رجلٍ يعمل شريكًا في مؤسسةٍ اقتصادية، وعندما يموت شريكه يسعى إلى الورثة كي يبيعوه نصيبهم. الورثة هم أربعة أشخاص يتمثلون في الأم الطيبة وبناتٍ ثلاث، لكل منهن معاناتها وآلامها وطموحها. وتحاول الأم جاهدة أن تمنع الشر عن أسرتها ضد الغربان التي جاءت تنهش في لحم بناتها بعد أن مات عائلها الأول. فهناك فتاة تزل وأخرى تنهار وثالثة تكاد أن تقع فريسة للشريك القديم. وقد حاول الشرقاوي في هذا الفيلم أن يبتعد عن الميلودراما الفاقعة، ولم يحقق الفيلم النجاح التجاري رغم أهميته كتجربةٍ أولى لمخرجٍ لم يتميز بعد ذلك في أيٍّ من أفلامه اللاحقة.
وللمسرح الفرنسي أيضًا نصيب كبير من حالات الاقتباس؛ من: سوء تفاهم «ألبير كامو» إلى: «ثمن الحرية» Montserrat لإيمانويل روبليس، و«دكتور كنوك» Docteur Knock لجيل رومان، ومسرحيات عديدة على الشاشة المصرية، وكذلك «لعبة الحب والمصادفة» لبيير دي ماريفو، ومسرحية «مهاجر بريسبان» لجورج شحادة، وهو كاتب لبناني يؤلف بالفرنسية.
أما السينما الفرنسية فلم يكن رصيدها في الاقتباس بكبيرٍ مثل ما حدث في الرواية والمسرحية، باستثناء حالات قليلة؛ فإن المصريين قد اقتبسوا أفلام الحركة الناطقة باللغة الفرنسية ليقدموها المرة تلو الأخرى. ويهمنا هنا أن نبدأ بالحديث عن فيلم «علاقة خطرة»؛ لأنه يكشف عن علاقة كاتب السيناريو بالمصادر الأجنبية التي يستعين بها عند الكتابة، فقد راح مصطفى محرم كاتب السيناريو إلى مصدرين مشهورين؛ الأول: فرنسي لأندريه كايات يحمل عنوان «أخطار المهنة» عام ١٩٦٧م. أما الفيلم الثاني: فهو «شروط المحاكمة» Term of Trial لبيتر جلنفيل، الذي عُرض في مصر تحت عنوان «الطالبة والأستاذ». ولم يكن فيلم تيسير عبود بنفس الأهمية التي حظي بها الفيلمان، فقد جاء مملًّا مطولًا، وكأنه حاول أن يأخذ من الفيلمين أحسن ما فيهما، فلم يوفَّق في ذلك. يدور فيلم كايات حول المدرس الملتزم الذي يتمسك بمبادئه، ولكن إحدى تلميذاته الصغيرات تدَّعي أنه حاول إغراءها، مما يوجه إليه تهمة إغراء قاصر. ورغم أن المدرس في الفيلمين الأوروبيين كان متزوجًا فإن بطل الفيلم العربي كان أعزب؛ ولذا فإن حالة إغواء المدرس كانت بدافع الزواج من قبل أم التلميذة التي تود أن تزوج ابنتها بأي ثمن. ويتم اتهام المدرس بأنه اغتصب التلميذة، إلا أنه عند التحقيق تم اكتشاف أن الفتاة فقدت عذريتها على يد مهندسٍ زراعي متزوج. وفي النصف الثاني من الأحداث يهتم الفيلم بالمواقف الحرجة التي تعرض لها المدرس، مثل ما في فيلم كايات، عقب إثبات براءة المدرس، فرغم أن المحكمة قد أبرأت ساحته، إلا أن المجتمع ظل على إدانته له.
أما الأفلام الأخرى المأخوذة عن مصادر فرنسية فهي، كما أشرنا، من أفلام الحركة، مثل ما حدث في فيلم «سلام يا صاحبي» لنادر جلال، المأخوذ عن فيلم «بورسالينو» Borsalino لجاك ديراي. لم يعتمد السيناريست صلاح فؤاد فقط على الفيلم الفرنسي، بل اقتبس مشاهد عديدة من فيلم «حدث في أمريكا» لسرجيو ليوني، حول صعود صعلوكين من شوارع باريس الخلفية في الثلاثينيات ليتمكنا من أن يكونا على قمة النظام الاقتصادي. وقد جاءت السينما بعادل إمام وسعيد صالح ليجسدا دوري آلان ديلون وجان بول بلموندو، ويتعارفان في أول الأمر في ظروفٍ غريبة، ثم ما يلبثا أن يتحولا إلى صديقين حميمين يواجهان عصاباتٍ عاتية في سوق الخضار بالقاهرة، وهما يتنافسان تارةً على امرأة، ثم لا يلبث أحدهما أن يتركها للآخر.
أما الفيلم الثالث فهو «دعوني أنتقم» لتيسير عبود ١٩٧٩م عن فيلم The Big Gun من إخراج دوتشيو تيساري Duccio Tessari، حول الرجل (آلان ديلون) الذي يسعى للانتقام من عصابةٍ قتلت جميع أفراد أسرته أمام عينيه، وأثناء محاولته الانتقام يتعرف على امرأةٍ تسعى للاحتفاظ به بكل ما لديها، وتدافع عنه، ولكنه يلقى حتفه أثناء محاولته للمصالحة. وفي فيلم عبود استقال ضابط الشرطة محمود (حسين فهمي) من عمله حتى يتمكن من الانتقام من قتلة زوجته وابنه، ويسعى إلى النيل من الشنواني الذي كان الرأس المدبر لقتل امرأته، فيهرب من السجن بعد القبض عليه، ويلتقي بالشنواني الذي يتعرف عليه، فيوكل إليه بعض العمل من خلال نجوى التي تحبه وتسعى إلى مساعدته والاحتفاظ أيضًا به، وبعد أن يقوم الاثنان بسرقة بعض الذهب تحدث مواجهة بين محمود والشنواني فيقتل كلٌّ منهما الآخر.

تلك هي أشهر حالات الاقتباس في السينما المصرية من المصادر الفرنسية، وكما رأينا فإن الأدب هو الأب غير الشرعي لهذه السينما، وهو أدب — كما رأيناه — محدود في دائرةٍ معينة. والجدير بالذكر أن الصلة بين هذه السينما وأدب القرن العشرين من الرواية بصفةٍ خاصة مقطوعة تمامًا، سواء عن السينما أو عن الترجمة، وتلك مسألة تؤكد أن السينما المصرية تفتش فقط عن الحدوتة؛ أي إن صناع هذه السينما لا يتعبون أنفسهم في القراءة، ولكن عليهم المشاهدة، وهو ما يُسمى بالاقتباس السهل.

وقد لُوحظ أن الأجيال الجديدة من كتَّاب السيناريو والمخرجين قد توقفوا عن الاقتباس من الأدب الفرنسي، والاكتفاء باقتباس الأفلام الأمريكية ببساطة؛ لأن الجيل الذي كان يجيد الفرنسية قد رحل ابتداءً من توجو مزراحي، ثم بركات وحسن الإمام، ومحمد مصطفى سامي كاتب السيناريو.

(١) ثمن الحرية

لا يزال الاحتفال بثورة ١٩١٩م مستمرًّا، ومن المهم أن نتكلم مجددًا عن واحدٍ من الأفلام المصرية الموجودة على اليوتيوب، ونتعرف على صورة هذه الثورة كما عايشها آباؤنا، إنه فيلم «ثمن الحرية» الذي أخرجه نور الدمرداش عام ١٩٦٥م، وهو الفيلم الذي أكد على تلاحم عنصري الأمة في بث الروح في هذه الثورة، ورأينا العلاقة القوية بين الطرفين.

الفيلم أول بطولة سينمائية لعبد الله غيث في دور الضابط المصري الذي يحمل أمانة الكلمة، ويمتنع عن ذكر اسم زعيم الفدائيين، والذي جسده كمال ياسين، وجسدت كريمة مختار دور الأم، وهي التي تزوجت من المخرج في تلك الحقبة. أما الحكمدار البريطاني فقد جسده محمود مرسي. شارك في البطولة أيضًا محمد توفيق، وصلاح منصور، وصبري عبد العزيز. وقد كتب نجيب محفوظ السيناريو عن مسرحيةٍ كتبها الأديب الفرنسي المولود في الجزائر إيمانويل روبليس باسم «مونتسيرات»، وتُرجمت المسرحية بعنوان «ثمن الحرية» إلى اللغة العربية، وتم تمثيلها على خشبة المسرح قبل سنواتٍ قليلة من إخراج الفيلم بنفس اسمها حسب الترجمة العربية. وأحداث المسرحية الأصلية تدور أحداثها في أمريكا اللاتينية التي لم تتوقف فيها الحركات الثورية طوال قرن ونصف من الزمان.

figure

ليست هناك إشارة مكتوبة أن فيلم «ثمن الحرية» تدور أحداثه أثناء ثورة ١٩١٩م، لكن الحكمدار الإنجليزي الذي يجمع ضباطه حوله في مكتبه، يعبر عن غضبه من الثورة التي يقوم بها الثوار بقيادة الثائر أحمد عبد الحفيظ، وفي وقتٍ آخر من الفيلم فإن الحكمدار ينتبه إلى وجود الراهبة تيريز وسط الستة أفراد، فيسألها عن اسمها وسنها، ويعرف أنها في الثامنة عشر، ويردد: «إزاي الشبان المصريين منشغلين بالثورة، ومش ملتفتين للجمال ده.» تيريز بنت مصرية قبطية جاءت لتتعرض لخطر القتل، لو لم يتكلم محمد المصري ويبوح بمكان الثائر الذي يخطط للتخلص من قادة الاحتلال، منهم اثنان من الضباط المصريين أحدهما كمال، ثم محمد المصري، وهو أيضًا واحد من التنظيم السري الذي يبلِّغ أحمد عبد الحفيظ بالأخبار الجديدة الخاصة بالقبض على الثوار، يعلم الحكمدار أن الملازم محمد درويش المصري هو مَن يعرف الطريق إلى الفدائي أحمد عبد الحفيظ، وسرعان ما يتم القبض على المصري أفندي ويُساق إلى سجن القلعة، وأمام تمسك المصري بعدم البوح بما يعرفه عن الفدائي المطلوب، يأمر الحكمدار رجاله بإحضار أول ستة أشخاص عابرين في ميدان القلعة، ويمنح المصري ساعةً واحدة للاعتراف بمكان الفدائي، وتكون الراهبة تيريز واحدة من الأبرياء الستة الذين أوقعهم حظهم السيء في طريق عساكر الإنجليز، وتبدو تيريز شخصية جادة بالغة الشجاعة، فهي الوحيدة من ضمن الأشخاص الستة التي لا تتوسل إلى الحكمدار أن يبقي على حياتها، بينما الجميع لديه الإغراءات التي تجعله يطلب الحياة؛ فالأم تركت ولديها الصغيرين في انتظار أن تحضر لهما الطعام، والتاجر الذي تزوج حديثًا يبغي العودة إلى زوجته الجديدة، بينما الحوذي يريد الرجوع إلى الحصان، والطالب يتوسل كي يعود إلى أمه التي ليس لها غيره، والمطرب يخاف من الموت المجاني، وهو الذي يغني أغنية سيد درويش «أنا المصري كريم العنصرين». أما تيريز فإن الحكمدار يختارها كي تمتعه، وهي التي تعامله بكل ازدراء. وبعدما يتم إطلاق الرصاص على أول ثلاث ضحايا، فإن تيريز تقدم نفسها كي تكون القربان القادم، بكل ثباتٍ وشجاعة. وهذا الدور قامت به ممثلة موهوبة جميلة هي فايزة فؤاد، التي كانوا يشبهونها بشادية في تلك الآونة، وكانت في قمة تألقها في فيلم «حرامي الورقة» إخراج علي رضا ١٩٧٠م، واختفت عن الأنظار بدون سبب. وتيريز تنتابها حالة من البكاء وهي ترى الأبرياء يموتون وسط حالة من الدم البارد، سواء من الحكمدار أو الضابط الثائر، فالراهبة تبكي بعد إطلاق الرصاص على الشاب الطالب.

والراهبة هي التي تقف ضد الضابط عندما يهُم بنطق العنوان الذي يوجد فيه أحمد عبد الحفيظ، أي إنها أكثرهم ثباتًا كما صورها الفيلم، وهي التي تم اغتصابها وقتلها لتكون إلى جوار كافة الضحايا.

وكما رأينا فإن موضوع التكاتف بين المسلمين والأقباط تم بدون افتعال في هذا الفيلم، وفي أعمالٍ أخرى مثل «بين القصرين»، كي تبقى ثورة ١٩١٩م رمزًا للتوحد بين المصريين في الحياة والواقع، لتصير تلك الصورة أبدية دومًا بعد قرنٍ من الزمان رغم كافة التغيرات الحادة التي عاشها المصريون وعبَّرت عنها السينما.

(٢) القرش الأبيض

لا يتمتع الكاتب المسرحي الفرنسي موليير لدى السينمائيين المصريين بنفس المكانة التي يتمتع بها قرينه المسرحي بومارشيه، فمن عمل مسرحي واحد هو «لعبة الحب والزواج» ظلت السينما تنهل الكثير من الأفلام. أما موليير، فرغم تنوعه وأهميته فإن السينما لم تأخذ منه سوى عملين لا أكثر؛ هما: مسرحية «مدرسة الزوجات» التي تم إنتاجها مرتين باسم: «كيد النساء» ١٩٥٠م، و«قصة ممنوعة» بعد أحد عشر عامًا. ولعل الكثير من المشاهدين المعاصرين لا يعرفون أن مسرحية موليير الشهيرة باسم «البخيل» تحولت إلى فيلمٍ باسم «القرش الأبيض» إخراج إبراهيم عمارة، كتبه أبو السعود الإبياري ١٩٤٥م دون الإشارة إلى موليير، بالرغم من أن هذه المسرحية عُرضت العديد من المرات.

فيلم «القرش الأبيض» من بطولة ليلى فوزي، وفوزي الجزايرلي، مع مجموعةٍ كبيرة من نجوم ونجمات منتصف الأربعينيات، ومنهم الراقصة حورية محمد، ومحمود إسماعيل، وعباس فارس، وإسماعيل ياسين، وثريا حلمي. وهو يدور حول شخصية الأب البخيل «بحبح» الذي يريد الاستفادة من جمال ابنته، وأن يزوجها لشابٍّ غني يزيد من رصيده المالي، هذا الأب يدخر أمواله للاستفادة بها قدر المستطاع، فهو يسعى أن يزوج ابنته «إنصاف» إلى رجلٍ عجوز غني، وأن يتزوج هو من الفتاة التي يحبها ابنه الوحيد، ويقوم بتوفير مصاريف الاقتران. موضوع إنساني للغاية، ويصلح لكل زمانٍ ومكان، وقد وجد هوى لدى سينما الأربعينيات التي كانت تتعامل بحساسيةٍ شديدة مع الفارق بين الفقراء والأغنياء. ومثلما كانت مسرحيات بومارشيه، فإن مسرحية «البخيل» تجعل الأغنياء أيضًا يقعون في حب بعضهم البعض، وأن الخدم والفقراء يفعلون الشيء نفسه من أجل انتظام حركة التطور في المجتمع، فلدينا الشاب «وجدي» تتهافت عليه النساء، خاصة بنات الهوى والراقصات، يعشقن ثروته، ويتعفف عنهن، وبالتالي فهو يبحث عن الارتباط بمَن تحبه بعيدًا عن ثروته الكبيرة. أما الفتاة «إنصاف» التي تقف طويلًا عند محطة الأتوبيس فهي ليست فقيرة، وإنما أبوها «بحبح» يكتنز داخل الحاشية الكثير من الأوراق المالية، ولا يشتري سيارة لابنته الحسناء إنصاف، وعندما تصدمها سيارة الشاب الثري وجدي، فإنه يبلغها أنه مجرد سائق للسيارة التي يركبها، وأن أحواله المالية لا تسر عدوًّا ولا حبيبًا. وتبدو ليلى فوزي هناك بالغة الخفة والجمال، مقابل ثقل ملحوظ لأداءٍ لم يتطور أبدًا من جانب الممثل محمود إسماعيل، الذي يوافق أن يعمل سائقًا خصوصيًّا للبخيل بحبح، ويصرف على شراء البنزين حتى يكون على مقربةٍ من حبيبته، التي تعرف بثرائه بعد الوقوع في الحب.

الغريب في مسيرة محمود إسماعيل أنه صار مؤلفًا كبيرًا في الإذاعة والسينما، وكان منتجًا ومخرجًا، وقد نشر بعض أعماله في كتبٍ بعد نجاحها. وهو يخص لنفسه أدوارًا ثقيلة الظل كي يجسدها، كأنه أكثر الناس معرفة بقدراته؛ مثل ما حدث في شخصية المهرب في «سمارة» المسلسل والفيلم. وأيضًا في أفلامٍ أخرى كتبها ومثلها، منها شخصية اللص في فيلم «طاهرة»، وشخصية «فجلة» في مسلسل وفيلم «توحة»، وأيضًا شخصية المعلم في فيلم «بنت الحتة». وقد كانت لديه ذائقة حادة في معرفة ذوق جمهور الترسو، وهو يقدم الشخصية نفسها في أفلامٍ عديدة منها: «عفريت سمارة»، و«بائعة الورد»، و«زنوبة». وفي فيلم «القرش الأبيض» كانت البدايات في البطولة لنفس الأدوار التي تكررت في «حسن وحسن»، و«طاقية الإخفاء»، و«الأحدب». ورغم أنه لم يكن الجذاب ساحر النساء، فإنه هنا سحر أجمل نساء عصره التي جسدتها كلٌّ من حورية محمد وليلى فوزي.

الغريب أن محمود إسماعيل ظل أسيرًا للشخصية نفسها حتى صار رجلًا عجوزًا؛ مثل ما حدث في فيلم «الدرب الأحمر» عام ١٩٨٠م، كأنما الزمن لم يغيره، وهو الذي اختفى تمامًا عن الأنظار بعد دوره البارز في فيلم «بنت الحتة»، وقيل إنه دخل السجن.

رغم أن البطولة المطلقة كانت لمحمود إسماعيل، فإن إسماعيل ياسين الذي جسد شخصية ابن البخيل كان هنا في أحسن أحواله على الإطلاق، ويمكن أن نراه هنا ممثلًا جيدًا يغني ويرقص ويمثل. ما يثير الدهشة أنه ظل لسنواتٍ طويلة يؤدي الأدوار الثانية التي لم ينقذه منها سوى حلمي رفلة. ورغم الشأن الذي صار إليه الممثل في حياته، وأنه لم يتكرر، فلا نعرف كيف ستكون المسيرة لو أن المخرجين الآخرين تعاملوا معه مثل ما فعل إبراهيم عمارة الذي لم يُحتسب أبدًا على السينما الكوميدية.

التجربة التي نتعلمها من الفيلم أن أكثر النساء قصرًا في العمر في الظهور على الشاشة هن الراقصات، مثل حورية محمد التي كانت البطلة المطلقة في العام نفسه في «شارع محمد علي». وفي فيلم «القرش الأبيض» صارت هي الشخصية الرئيسية عندما قررت المشاركة في تلقين البخيل درسًا، وأن تفقده ثروته التي يحرص عليها. في تلك الآونة لم تكف عن الرقص، بما يكشف أنها كانت من أبرز نجمات عصرها، فالراقصة عليها ملاحقة الزمن كي تعمل كثيرًا قبل أن تفقد حيويتها، خاصة إذا كانت قد دخلت السينما فقط من باب الرقص. ومن أشهر راقصات تلك الفترة أيضًا: نبوية مصطفى، وهاجر حمدي، وببا عز الدين، اللاتي اختفين ما إن بدأ عَقد الخمسينيات في الزوال.

(٣) لا أنام

كتبت مقالات عن أفلامٍ بعينها على استحياءٍ شديد، واليوم وقع بين يدي مجددًا كتاب «صلاح أبو سيف والنقاد»، ولفت انتباهي المقال الجريء الذي كتبه أنور عبد الملك في مجلة «الإذاعة» بتاريخ ٩ نوفمبر ١٩٥٧م، حول فيلم «لا أنام» الذي كتب فيه كلامًا مهمًّا عن: «فيلم قصته من باريس يدور في شوارع شبرا» تحدث أن: «العديد من الكتابات أشارت إلى التقارب بين الفيلم المصري ورواية فرانسواز ساجان، وأن الكاتب رمى بكل الآراء التي نبهت إلى ذلك في صندوق المهملات.» وأنا أضيف أن كاتبنا كرر الأمر في أعمالٍ أخرى منها: «في بيتنا رجل»، و«بئر الحرمان» وأيضًا «دعني لولدي»، و«العذاب فوق شفاه تبتسم».

الغريب أنني حاولت بأي شكلٍ إعادة مشاهدة الفيلم الأمريكي الذي عرض في العالم بعد صدور الرواية عقب عرض الفيلم في مصر؛ أي إن الفيلم الأمريكي عُرض في مصر بعد العرض التجاري لفيلم «لا أنام»، مما يؤكد أن المصريين سبقوا الأمريكان. أولًا هذه المرة الأمر ليس تشابهًا، ومن الواضح أن أنور عبد الملك قرأ الرواية لكنه لم يشاهد فيلم أوتو بريمينجر، وأن التقارب بين النصوص يُلزم بالمقارنة بين الرواية والفيلم المصري المأخوذ عن روايةٍ سرعان ما تلقفتها السينما.

figure

أعترف أنني لم أقع أبدًا في غواية الحكي عند فرانسواز ساجان، ولم تجذبني الأفلام السينمائية المأخوذة عن أعمالها مثل: «هل تحبين برامز» و«ابتسامة ما»، و«خفقات قلب». وقد تهافت المنتجون على تحويل بعض الروايات بإقبالٍ ملحوظ في السينما الأمريكية والفرنسية، وكم رأيت أنها حالة من الإبهار أحدثتها كاتبةٌ صغيرة السن تم النظر إليها على أنها كوليت الجديدة، ولمَ لا و«مذكرات آن فرانك» كتبتها صبيةٌ صغيرة. وقد قمت بمشاهدة الفيلم، وإعادة قراءة الرواية، واستفزني مقال الدكتور أنور عبد الملك، وأزال عني حرجًا، فالنص المصري الأدبي ثم السينمائي متشابهان مع الرواية الفرنسية، والعلاقة الأساسية هنا بين البنت وأبيها، تشعر بامتلاكه، ومن حقها الاحتفاظ به، وقد انتهت علاقة الأب بحبيبته التي كانت تعيش معه، وجاءت إلى البيت امرأة في سن الابنة وهي أيضًا زميلتها في الصف، لكنها تخونه. وفي النص المصري إضافات كثيرة وتحولات إلى الجانب الشرير من طرف الفتاة، وأيضًا مسألة أن هناك رجلًا في حياة البنت فاتن حمامة، هذا الرجل تزوج فيما بعد من الزوجة صفية التي كانت الابنة سببًا في طلاقها. وأضاف الفيلم، والرواية أيضًا، شخصية العم الذي كان أداةً لإثارة غيرة الأب على طريقة عطيل.

هناك نقاط تشابه واختلاف تجمع بين النصوص الأربعة، أبرزها أنها جميعًا تدور على لسان فتاة في سن الثامنة عشر تعيش مع أبيها الأعزب الذي تفرغ لها طيلة حياته، حتى إذا بلغت السن بدأ في التواصل مع النساء، أغلبهن بنات صغيرات صديقات الدراسة للفتاة سيسيل أو نادية، عدا الصديقة أو الزوجة التي تأتي إلى البيت لبعض الوقت، وتظهر الزميلة من جديد. نحن هنا نعيش في عالم من المقتدرين، يتمتع ريمون ولطفي بثراء، يعيش في أماكن فخمة وبيوت على الشواطئ، لكننا لا نعرف كيف يكسب المال. وهناك دائمًا علاقة مشبوبة بين البنت وأبيها، تتضح أكثر في فيلم أوتو بريمينجر؛ فالأب ريمون لا يكف عن تقبيل ابنته في فمها، حتى وإن لم تحمل معنى التلذذ الحسي. وفي النصوص المصرية فإن هناك إضافات لأحداثٍ تشد انتباه مَن يبحثون عن تفاصيل الحكايات؛ مثل علاقة نادية برجلٍ ناضج تتردد على شقته، هذا الرجل سوف يتزوج صفية بعد طلاقها. كما أن الأحداث تبدو ساخنة، والغيرة تستبد بقلب الأب وهو يتصور أن هناك علاقة بين زوجته وأخيه بإيحاءٍ خفي من الابنة، فيطرد كليهما من البيت، وتأتي له الابنة بزميلتها اللعوب ليتزوجها، فتخونه بقوة، وتدفعها للزواج من عشيقها، كي يتاح للزوجة الانفراد بعشيقها للأبد. وعليه فالقصة المصرية أضافت ما يسمى: «بهارات الحكي»، بينما النص الأجنبي وصف لنا حالة بنت تروي عن نفسها وعالمها المحدد بعلاقاتٍ ما، حيث إنها تخرج وتراقص وتتلامس بجسدها مع شباب، لكن الأب هو ركيزة حياتها، وقد آل الأب في النهاية إلى ابنته، بعد أن ماتت الزوجة الشابة في حادث سيارة، فإن الأب وسيسل يعيشان معًا، وتستكمل الفتاة الحكي وهي تبكي. أما نادية فبعد حفل الزفاف الذي لم يكتمل، وطرد العريس والزوجة الخائنة، فإن نادية ستبقى مع أبيها لا شك. وكما أشرنا فإن هناك شخصيات إضافية كما تحدثنا.

لم تشدني روايات ساجان، ولا الأفلام المأخوذة عنها، وكنت أخشى أن يعكس هذا تدني ذوقي، لكن أغلب المتابعات اتفقت مع رأيي. والأمر نفسه حدث بالنسبة لفيلم أوتو بريمينجر، وهو مخرج مهم، لكن يبدو أنه كان في نزهةٍ إلى الريفيرا مع فريق العمل أكثر منه مخرجًا. تلك المنطقة الساحرة السياحية كانت الأنسب لتصوير أفلام خفيفة في تلك الفترة، أبرزها: «امسك حرامي لهيتشكوك»، و«الحب شيء رائع» وغيرها. وبالنسبة للرواية المصرية فلم تشدني مثل أعمالٍ كثيرة للكاتب؛ مثل: «لا شيء يهُم» و«شيء في صدري». وبلا شك فإن مرحلة علاقة صلاح أبو سيف بقصص الكاتب قد تنوعت من فيلمٍ إلى آخر، وهناك محطات قوية مثل: «أنا حرة»، و«الطريق المسدود»، و«لا تطفئ الشمس» وأعمالٍ أخرى.

(٤) إكس علامة معناها الخطأ

هذا فيلم مجهول تاه وسط تاريخ الأفلام رغم أهمية موضعه، وبالنسبة لنا هنا فإنه الفيلم المصري الوحيد الذي يعترف فيه صاحبه بالصوت والصورة أنه مقتبسٌ عن روايةٍ فرنسية، وهي الرواية التي اقتبستها السينما ٦ مرات ولا تزال. الغريب أن الفيلم بعيد تمامًا عن الرواية الفرنسية، لو قسنا الأمر بما حدث في فيلمي «أمير الانتقام» و«أمير الدهاء»، وأن أكثر هذه الأفلام لم تذكر اسم المصدر الأجنبي. ومن الطرائف أن فيلم «الظالم والمظلوم» لحسام الدين مصطفى ١٩٩٠م قد أشار أصحابه إلى أنه مأخوذٌ من نفس الرواية، ولكننا اكتشفنا فيما بعد أن الأصل هو فيلم هندي بطولة أميتاب باتشان.

تعني عبارة الاعتراف بالصوت والصورة أن المخرج وكاتب السيناريو سمير نوار قد علق بصوته أن جمال الحكايات أن تسمعها مرةً ثم مرة ومرة أخرى، وفي كل من هذه المرات تزداد القصة حلاوة وإثارة، وأن هذه القصة هي معالجة للكونت دي مونت كريستو.

figure

سمير نوار هو كاتب سيناريو ومخرج لفيلمٍ واحد فقط، هو «علامة معناها الخطأ»، ويبدو أنه قد استلهم روح الحكماء والواعظين ليتوقف عند كلمة الخطأ ويكررها ويشرحها أكثر من مرة، وكأنما هي الهم الأساسي والنبراس الذي يجب أن يعيش عليه الناس. الخطأ الذي يمارسه الآخرون قد يدفع الشرفاء ثمنه. وفي بداية الفيلم يخرج الشاب من السجن بعد قضاء فترة العقوبة، ويجد صديقته القديمة الصحفية كوثر في انتظاره وتعرض عليه العمل في الصحافة، لكنه يصر أن ينتقم من الذين تسببوا في دخوله السجن بعد أن كان مدير الحسابات، وفازوا بما دبروا له، خاصة حبيبته مديحة التي تزوجت من زميلٍ لها من المتآمرين وصارت بدورها مديرة للحسابات.

المكان الذي تدور فيه الأحداث هو شركة تختلف تمامًا عن عالم البحار الواسعة التي عاش فيه إدمون دانت بطل الرواية الفرنسية، الذي قضى في السجن ١٥ عامًا وخرج ليعثر على كنزٍ جعله بالغ الثراء، فانتقم ممن زجوا به في السجن، من خلال ثروته، وانتقم منهم جميعًا دون أن يطلق رصاصةً واحدة أو يحمل سيفًا ضد أحدٍ، فيما يسمى بالانتقام النبيل. من هنا يبدو الاختلاف الشديد بين المصدر الفرنسي والمصدر المصري. وأنا أرى أن المخرج قد وضع عينيه على فيلم «دائرة الانتقام» الإخراج الأول لسمير سيف ١٩٧٧م أكثر من أي مصدرٍ آخر، فالحدوتة تدور في مكانٍ ضيق للغاية، وهو مكتب الشركة التي كان يعمل بها، ولا تزال مديحة تعمل هناك، والتشابه هنا يأتي من خلال أن حبيبته تزوجت من خصمه، وأن المتهم البريء قد أشهر السلاح ضد الجميع، بما فيهم الشرطة، كما أن عمر الحريري الذي لعب دور ضابط الشرطة في الفيلم المذكور كرر نفس الدور هنا، وصار عليه أن يساعد الشاب في الانتقام من خصومه والقبض عليهم جميعا. ولا نعرف لماذا يصر المخرج أنه يقوم بعمل معالجة عصرية لموضوعٍ استهلكته السينما عشرات المرات، ويبدو أن نجاح دائرة الانتقام وقوة الحركة فيه التي عكست خصوبة سمير سيف، كانت سببًا للعزوف عن مشاهدة هذا الفيلم. بشكلٍ عام فإن الفيلم يعتبر مقبولًا باعتباره اعتمد على فكرةٍ فلسفية هي محاولة الإنسان العادي التصدي للخطأ أكثر من أي شيءٍ آخر، فارتفعت حدة الفكرة على حساب براعة الحدوتة، وعلت مكانة الرؤية الفلسفية على حيوية الأحداث، فسرعان ما سقط الفاسدون بعد أن تم القبض عليهم، واختفت مديحة عن الأحداث دون أن تتنامى أي علاقةٍ عاطفية وهذا الشاب البريء.

سرعان ما اختفى سمير نوار من السينما مع فيلمه، وقام زميله سمير سيف بتطوير نفسه. وتكرر الأمر مع فيلمٍ آخر ١٩٨١م هو «المشبوه»، الذي أُنتج في نفس الأسبوع باسم «اللصوص» لمخرجٍ آخر، وشتان بين أفلام سمير سيف والأفلام التي تقلده.

(٥) تعال سلم

قصة هذا الفيلم تم اقتباسها ثلاث مرات خلال ٧ سنوات، وهي مأخوذة عن مسرحيةٍ فرنسية بعنوان «على المقهى»، والموضوع الأساسي فيها هو أن يكتشف صاحب العمل «المقهى» أن الجرسون الرئيسي لديه قد ورث مبلغًا ماليًّا طيبًا، فيسعى إلى تقييده بعمل عقد طويل الأجل، كي يكسب منه الكثير، ويقرر الجرسون الفقير، الذي صار غنيًّا، مضايقة صاحب العمل حتى يطرده، وفي أثناء هذا الأمر فإن العامل يُغرَم بابنة صاحب المقهى، وتنتهي الأمور بأن يسير العقد عاطفيًّا.

هذه الفكرة رأيناها في فيلمي: «حسن ومرقص وكوهين» و«المليونير الفقير».

«تعال سلم» أحد الأفلام الكوميدية الناجحة التي تعاون فيها كل من فريد الأطرش وحلمي رفلة، وضم الفيلم مجموعةً كبيرة من الممثلين الكبار، ومنهم: سامية جمال، وعبد الفتاح القصري، وإسماعيل ياسين، وسراج منير، وميمي شكيب، وأيضًا فريد شوقي.

وهذا الفيلم هو الأقرب إلى النص المسرحي، فالفيلمان يدور أحدهما في الفندق والثاني في صيدليةٍ أو محل عطارة.

figure

وفي فيلمنا اليوم فإن المقهى قريب، فشكله العام من المقاهي التي نعرفها في شوارع باريس، سواء جلوس الرواد على الرصيف من الجنسين، أو التندة التي تحمي من المطر والشمس، وأيضًا تناول المشاريب. وهذا هو المشهد العام الذي صوره المشهد المسرحي، فالشاب مشمش فقيرٌ يحب سكرة التي تقع في غرام شابٍّ آخر يحاول استغلال ثروة أبيها، وهذه الفتاة لا تصدق بالمرة أن مشمش واقعٌ في غرامها وتنفر منه حتى وإن صار ثريًّا.

الاختلاف بين النصوص هنا أننا أمام فريد الأطرش الذي يجب أن يغني، وسامية جمال التي يجب أن ترقص. والغريب أن الشرائط الموجودة على اليوتيوب ليست الموجود بها أي من أغاني فريد الأطرش، بما يعني أنه تم حرمان المشاهد من الأغنية والرقص. ويبقى الموضوع الرئيسي منحصرًا في المقالب التي يدبرها مشمش من أجل الحصول على مخالصة للخروج من قيد العقد.

وبالتالي فإننا في هذه الحال لسنا في فيلمٍ غنائي، بعد أن فقد بهجته التي تتمثل في الثالوث المتمثل في المطرب والراقصة والممثل، فينضم الفيلم إلى العملين الآخرين؛ لأن فيلم «حسن ومرقص وكوهين» مجرد عمل كوميدي، أما المليونير الفقير فهو فيلم غنائي تغني فيه فايزة أحمد وإسماعيل ياسين وترقص نجوى فؤاد.

المهم في هذا الفيلم هو التوقف عند فريد شوقي في تلك المرحلة من الزمن، فقد كان يقوم دائمًا بدور الفتي الشرير وبشكل مكثف، وينتقل بين الأفلام بنفس القناع والملابس، هذا القناع يجيد التلاعب بالحاجبين بشكلٍ نمطي للغاية، ولو كان الممثل استمر على هذا المنوال لظل «محلك سر»، أشبه بمحسن حسنين، ممثلًا أبرز الأشرار في السينما المصرية، لكنه وجد سبيله الأفضل مع صلاح أبو سيف في «الأسطى حسن»، ونيازي مصطفى في «حميدو» و«رصيف نمرة ٥»، وأيضًا عاطف سالم في «جعلوني مجرمًا».

(٦) الكروان له شفايف

المصادفة وحدها أيضًا هي التي ساقتني للكتابة عن هذا الفيلم، وفي هذه المرة شعرت بالحنق الشديد على كتَّاب السيناريو والمخرجين الذين اقتبسوا أفلامهم، ووضعونا كباحثين في دائرةٍ مظلمة مقفلة بإحكام.

كنت أود كتابة مقال عن المخرج الأمريكي بيلي وايلدر، وكيف أنه تم اقتباس أغلب أفلامه وتحولت إلى أفلامٍ مصرية، منها: «إيرما الغانية»، و«البعض يفضلونها ساخنة»، وفيلم «الشقة»، وأعمال أخرى، ووجدت نفسي أمام مفاجأةٍ اسمها «حكم القوي»؛ إنه الفيلم الذي أخرجه حسن الإمام مرتين وباسمين مختلفين. تعالوا نعرف الحكاية:

figure

في السبعينيات بعد مرور أكثر من ربع قرن قرر حسن الإمام إعادة إخراج الكثير من أفلامه التي سبق أن قدمها تحمل أسلوبه، ومنها: «غضب الوالدين»، و«الملاك الظالم»، و«حب في الظلام»، وأيضًا «حكم القوي»، وهو الفيلم أعاد تقديمه باسم «الكروان له شفايف»، عام ١٩٧٦م. كل هذه الأفلام مقتبسة من رواياتٍ فرنسية شهيرة، وكان محمد مصطفى سامي هو كاتب السيناريو والحوار، وفي بعض هذه الأفلام لم يكن يُذكر اسم الرواية الأصلية. والفيلم الأول «حكم القوي» إنتاج عام ١٩٥١م، وهو الذي جمع نخبةً كبيرة من النجوم، كما أنه الفيلم الذي التقى فيه فريد شوقي مع هدى سلطان للمرة الأولى. أما الفيلم الثاني فقد جمع أيضًا العديد من النجوم الذين صاروا كبارًا في السينما، وكانت البطولة النسائية لكلٍّ من نبيلة عبيد وسهير رمزي. أما الفيلمان فإن المصدر الأدبي الأساسي كان يحمل اسم «روجيه لا هونت» من تأليف الفرنسي جول ماري (المخرج هو الذي كتب بنفسه أن المؤلف هو جول ماري)، لكن الحقيقة أن الفيلم أقرب في موضوعه إلى فيلمٍ أمريكي باسم «شاهد إثبات» إخراج وايلدر عام ١٩٥٧م، وبطولة تشارلز لوتون ومارلين ديتريتش، وفي الفيلم إشارة إلى أن الفيلم الأمريكي مأخوذ عن مسرحيةٍ لأجاثا كريستي عام ١٩٥٣م، وأن النص الأصلي هو قصة قصيرة لأجاثا كريستي منشورة عام ١٩٢٥م. أي إن حكاية جول ماري هي تأليفة من المخرج، ويحتاج الأمر إلى تفسير. في هذه الفترة من السبعينيات كان هناك حماس ملحوظ من طرف حسن الإمام للممثل سمير صبري الذي منحه — هنا — البطولة المطلقة، وجسد الشخصيات التي قام بأدائها محسن سرحان في أفلامه القديمة، حيث السيناريو عمل ميلودرامي استعراضي غنائي، ولم يكن الإمام يمتلك براعة أبناء جيله من المخرجين في عمل الفيلم الاستعراضي، ومنهم: حسين فوزي، وعباس كامل، وأنور وجدي، وإن قدم فقط الفيلم الغنائي. ولم يشأ حسن الإمام أن يعترف أنه مغرمٌ بالسينما الغنائية التي تعتمد القصة الرئيسية فيها على ارتكاب الجريمة. القاتل ابن الخمسينيات قاسم شريف الذي يظل مطلق السراح لفترةٍ غير قصيرة، يستمتع بما فعل، أما شريكه حسين البريء الطيب فتقترب رقبته من حبل المشنقة. كان الاثنان يديران فرقةً مسرحية استعراضية، فلما أفلست اختلفا، وقررا الانفصال بطلبٍ من قاسم الذي وضع حسين في موقفٍ حرج أمام أعضاء الفرقة والوسط الفني.

من المهم أن نعقد مقارناتٍ بين فترتين تدور فيهما نفس الحدوتة بدون إضافات، فهل تصلح تفاصيل الجريمة التي دارت في عام ١٩٥١م أن تنتقل دون تغييرٍ إلى أوائل الربع الأخير من القرن الماضي؟ بالطبع الإجابة بالنفي، لكن المخرج لديه قناعات أن الغناء والرقص لا يزالان بخير، فأسند دور بطلة الفرقة إلى سهير رمزي، ودفعها أن تغني أكثر من مرة. وهناك الزوجة التي تعشق رجلًا ظهر في حياتها فراحت تلح عليه أن يتقبل عواطفها، وكانت النتيجة أنه تورط في جريمة قتلٍ لم يرتكبها، ووضعته في مأزقٍ اجتماعي بالغ الحرج. نحن هنا أمام العديد من المستويات، فوقوع جريمة قتل عادية كان من الممكن أن يثير الرأي العام في الخمسينيات، لكنها لن تلفت نظر أحد في العقود التالية؛ لأن الجرائم صارت أكثر وحشية، ففي منتصف السبعينيات تغيرت الأمور كثيرًا، ولم يعد الأمر يعني أن قاتلًا ترك أموالًا عليها بقع الحبر، وكان ذلك دليلًا استطاعت الشرطة الوصول من خلاله إلى القاتل. إذن فإن سينما حسن الإمام في العقد السادس لم تعد تدهش الناس في السبعينيات، فالرجل متزوج من امرأةٍ تدبر له أموره، كما أنه مطارد من قِبل دلال حبيبته السابقة التي لا تزال تكنُّ له مشاعر الحب، لكنه لا يسعى لإغوائها احترامًا لزوجها، وهو صديقه القديم، كما أن حسين مضطرٌّ إلى التعامل مع المرابية تفيدة التي تتذبذب في الموافقة لعمل شراكة مع حسين، لأن قاسم يشككها في قبول الشراكة، باعتبار أن مهنة المرابية لم تعد موجودة في السبعينيات، وقاسم هذا يقوم بقتل تفيدة من أجل نقودها الكثيرة، ويتم القبض على حسين، ويصحو ضمير دلال وتحاول كشف أن قاسم هو القاتل.

قام حسن الإمام بالالتزام بالسيناريو القديم دون أي إضافات، وإن تم حذف أشهر مشاهد «حكم القوي»، وهي مشاهد الطفلة سهير فخري تعترف ضد أبيها. اعتمد الفيلم الأول على المطربة الجديدة هدى سلطان في الغناء، وهنا غنت سهير رمزي بصوت مطربات أخريات. والفيلمان تدور أحداثهما الأساسية بعد حدوث الجريمة، وبداية التحقيقات والمحاكم، حيث تبدو معادن الناس، فالزوجة تقف مع زوجها وتطلب منه أن يتكلم عن المرأة التي كانت معه وقت حدوث الجريمة، والمحامي لا يعرف أن حسين وزوجته دلال كانا معًا.

هذا هو ما يعزف عليه الفيلم؛ أن اعتراف حسين سيدمر أسرة، وهو يفضل أن يموت معدمًا، وهذا ما يعلنه المحامي أنه من المؤكد أن حسين كان موجودًا مع زوجة أحد أصدقائه.

في المشهد الأخير تدخل دلال إلى المحكمة وبكل شجاعةٍ تعترف أنها المرأة المقصودة التي كانت مع حسين لحظة أن قتل رجل آخر المرابية.

احتفظ السيناريو الجديد بجميع أسماء أبطال الفيلم القديم، مثل: دلال وقاسم والمحامي. وقد ألغى الفيلم الجديد شخصية الابنة، التي جسدتها الطفلة سهير فخري، التي شاهدت أباها يدخل بيت القتيلة، ورأت خيالًا يطعن المرأة فظنت أن أباها هو القاتل. وفي المحكمة اعترفت بما شاهدت، فورطت أباها أكثر، وقد بلَغَت الطفلة حد الإعجاز في الأداء وهي تشهد ضد أبيها، ربما لأنه لا يمكن إعادة مثل هذه المشاهد بالقوة نفسها أو لأسبابٍ أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤