تقديم المترجم
رالف والدو أمرسن كاتب أمريكي، بل كاتب عالمي، عاش في القرن التاسع عشر، ونشر بين معاصريه كثيرًا من الآراء الطريفة والأفكار النافذة. وقد وُلد في اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو من عام ١٨٠٣م في مدينة بوستن بأمريكا لأب من رجال الدين. وبعدما تخرج في جامعة هارفرد اشتغل بالتعليم. ولكنه لم يلبث على هذه الحرفة طويلًا، بل التحق بإحدى الكنائس قسيسًا كأبيه. ولما كان يميل بطبعه إلى حرية الفكر، فقد أخذ يُذيع على الناس خلال عظاته مبادئَ ثورية لم تتفق وعقائدهم في ذلك الحين، فاشتد سَخَط العامة عليه، وتبرمهم به، حتى اضْطُر إلى التخلي عن عمله، ثم رحل إلى أوروبا، والتقى بكبار كُتَّابها وشُعرائها، وتعرف إلى كولردج ووردزورث وكارليل. وعاد بعدئذٍ إلى أمريكا واشتغل أستاذًا بجامعة بوستن، وألقى كثيرًا من المحاضرات العامة التي لفتت إليه الأنظار، وحينئذٍ أدرك الناس أن بينهم أديبًا كبيرًا وقائدًا عظيمًا من قادة الفكر، وقوةً تدفع الرأي الأمريكي إلى الأمام. ومات أمرسن في عام ١٨٨٢م بعدما اعترف له الأمريكيون جميعًا بالصدارة في الأدب، والزعامة في الفكر.
كان أمرسن عميق الفكر، ولكنه لم يكن فيلسوفًا بما تحمل هذه الكلمة من معنًى. لم يكن فيلسوفًا له مذهب خاص وطريقة خاصة، بل إنه كثيرًا ما يناقض نفسه فيما يكتب وما يقول. وأشهر ما خلَّف لنا هذا الكاتب العظيم «مقالاته» و«كتاب الطبيعة» و«خصائص الإنجليز» الذي نشره إثر عودته من زيارة إنجلترا، و«نماذج الرجال»، الذي صاغه على صورة كتاب كارليل «الأبطال وعبادة البطولة»، وله فوق هذا بعض المقطوعات الشعرية الرائعة.
وقد رأيت أن أقدِّم إلى قراء العربية في هذا الكتاب بضع صفحات من «مقالاته»، ليتدبروها ويتأملوا معانيها، كما يتزودوا مما اشتملت عليه من فلسفة وحكمة، وهي مجموعة من الآراء العميقة الثاقبة لا يدرك مراميها القارئ المتعجِّل العابر، وإنما يبلغ كنهها مَن يقف عند كل كلمة من كلماتها مترويًّا ومفكرًا، وهي لا تتضمن عِلمًا مجردًا لا نزاع فيه، أو معرفة دقيقة لا يرقى إليها الجدل، ولكنها إيحاء وإلهام، تبعث في قارئها الثقة بنفسه وبالله.
ولعل في هذه المنتخبات التي أوردناها هنا حافزًا إلى الاستزادة لمن أراد مزيدًا.
ومن النقاد مَن يعتقد أن «نماذج الرجال» من خيرِ ما كتب أمرسن إطلاقًا. وفي هذا الكتاب تخيَّر أمرسن تلك الشخصيات التي كان يراها نماذج للبشرية. ولو ألقينا نظرة عاجلة على مَن كتب عنهم من الرجال عرفنا كثيرًا من مبادئه في الحياة؛ فلم يشتمل كتابه على رجل من رجال الدين أو رجال الأخلاق والإصلاح الاجتماعي؛ إذ لم تكن له ثقة بأمثال هؤلاء من عظماء الرجال، إنما الأبطال عند أمرسن هم: أفلاطون الفيلسوف، وسودنبرج المتصوف، ومونتيني المتشكك، وشكسبير الشاعر، وجيته الكاتب، ونابليون رجل الدنيا، وهو عنده مثلٌ أعلى للقدرة على العمل والتنفيذ، يقدِّره لأنه طهَّر الجو من أدران الإقطاع والامتيازات والملكية المستبدة، وربما لجأ إلى حشد الجيوش وإلى العنف والقوة، ولكن القوة عند أمرسن وسيلة ممقوتة تبرِّرها الغاية النبيلة.
ويقول أمرسن عن أفلاطون: «ليس في العالم في وقت واحد أكثر من اثنَي عشر شخصًا يقرءون أفلاطون ويفهمونه، وليس من بين هؤلاء مَن يستطيع أن يشتري نسخة واحدة من مؤلفاته، ومع ذلك فإن هذه المؤلفات تنحدر من جيل إلى جيل من أجل هذه القلة من القراء، كأن الله يحملها لهم بين يديَه.» وهذه العبارة عن أفلاطون تنطبق على أمرسن نفسه إلى حد كبير.
عاش هذا الكاتب حياته للحكمة الخالصة والفكر المجرد، وكان يتوق دائمًا إلى زيارة مصر؛ ليستمد من وحي طبيعتها الجميلة وآثارها القديمة موضوعاتٍ للفكر والتأمل. فلما احترق مسكنه في عام ١٨٧٢م وأوشك أن يعيش عيشة مُشردة، أشفق عليه رفاقه، وأرادوا أن يُدخِلوا على قلبه العزاء والسلوى، فلم يجدوا وسيلةً خيرًا من أن يقدِّموا له من معونة المال ما يكفي لبناء مسكن جديد، والقيام بالرحلة إلى مصر التي طالما كان يحلم بها. فاستطاع في أخريات حياته أن يحقق إحدى رغباته الدفينة، ورحل إلى مصر في شتاء عام ١٨٧٢م، فجددت شمسها الدفيئة قواه، وأنعشت سماؤها الصافية ونيلها وصحراؤها وآثارها نفسَه وقلبَه، وكأنه التمس الحل للغز الحياة عند أبي الهول. وطاف بأنحاء الإسكندرية والقاهرة، ثم استقل «دهبية» نيلية سارت به جنوبًا يشق بها صعيد مصر حتى بلغ الأقصر، فشهد آثارها، ثم واصل رحلته إلى أسوان؛ لأنه كان يتحرق شوقًا إلى أن يطأ بقدمَيه جزيرة فيلة التي كان يعتقد أنها مستقر أوزيريس. وجاء في إحدى رسائله: «إن الرحلة إلى مصر كانت مليئة بما يسر الفؤاد، ولقد تنبهت إلى ما في هذه البلاد القديمة من عجائب. وسوف أذكر معابدها الضخمة التي تنتشر فوق مئات الأميال، والتي تتحدَّى زماننا الذي نعيش فيه، وترغمنا على التقدير والاحترام.» وفي موجز العبارة، كان لأمرسن في شتاء مصر الدافئ الدواءُ الناجع لجسمه الضعيف، وفي آثارها وصفاء سمائها تجديدٌ لنشاطه الذهني واطمئنانه الروحي.
•••
يؤثِّر الكاتب في عقول الجماهير بمقدار ما عنده من عمق التفكير … فالكاتب الذي يستمد موضوعه من أذنه ولا يستمده من قلبه، ينبغي أن يعلم أنه يخسر بمقدار ما يربح … ولا تقوم الشهرة الأدبية على الحظ؛ فإن أولئك الذين يُصدرون الحكم النهائي على الكُتَّاب ليسوا هؤلاء القراء المتحيزين الصاخبين الذين يضجون للكِتاب عند ظهوره، إنما هي محكمة كأنها من الملائكة، هي جمهور لا يرتشي، ولا يُتوسل إليه ولا يُروَّع، ذلك الجمهور هو الذي يقرر شهرة الكاتب، ولا يبقى من الكتب إلا ما يستحق البقاء؛ فالغلاف المُذهب، والورق الصقيل، والجلد المتين، ونُسَخ الهدايا الفاخرة التي تُقدَّم للمكاتب، وكل أولئك لا يكفل للكاتب الذيوع إلا إلى أمد قصير.
وليس من شك في أن «مقالات» أمرسن التي نقلنا إلى العربية بعضها من بين تلك الكتب الخالدة، التي يشير إليها الكاتب، والتي لا تقوم شهرتها على ما يثور حولها من صخبٍ وضجيج، ولكن على ما لها من قيمة ذاتية.