مقدمة
كان رالف والدو أمرسن أول فيلسوف أمريكي الروح؛ فمع أن أمريكا قد نالت استقلالها السياسي قبل مولده باثنين وعشرين عامًا، إلا أنها كانت لا تزال تستمد ثقافتها من الخارج؛ فكان كوبر يكتب طبقًا لتقاليد سكوت، وواشنطن إيرفنج يكتب بأسلوب أديسون. وقد عاش أمرسن سِني حداثته في عصر من عصور التوسع حينما كان الأمريكان يتقدمون غربًا بأعداد وافرة لم يسبق لها مثيل، ويطبقون مبدأ الديمقراطية في عزة وحماسة. وساد الجوَّ في كل مكان استقلالٌ تام في الروح وفي الواقع. وأعلن الرئيس منرو هذا الاستقلال للجمهور في مبادئه عام ١٨٢٣م، كما صرح كلاي بشجاعة: «إننا (أي الأمريكان) نتطلع إلى الخارج أكثر مما ينبغي … ولنكن أمريكيين حقيقيين صادقين.»
وما حققه رجال الدولة في ميدان السياسة طبَّقه أمرسن في مجال الثقافة، لا بطريق العمل، ولكن بالإرشاد والتوجيه. وقد ذكر في مقدمة كتابه الأوَّل في عام ١٨٣٦م: «إن عصرنا رجعي، يعيش على الماضي، فلماذا لا تكون لنا علاقة أصيلة بالعالم؟ لماذا لا يكون لنا شعر وفلسفة يتميزان بنفاذ البصيرة لا بالتقاليد، ودين من وحي أنفسنا؟ … دعنا نطالب بأن تكون لنا أعمال خاصة وقوانين وعبادة خاصة.» وفي خطاب جريء له في العام التالي عن «العالم الأمريكي» يقول: «لقد أطلنا الاستماع إلى آلهة الفنون الأوروبية الظريفة.» ثم نَصَحَ أمرسن العلماء المجتمعين في كمبردج أن يعيشوا ويفكروا كما يعيش ويفكر أحرار الرجال. وفي العام التالي هاجم في أحاديثه الشعائر والتقاليد الدينية. وما ذكره في هذه الأحاديث كان مُنَفِّرًا لكثير من الناس في بوسطن وكمبردج، حتى لقد انقضى زهاء الثلاثين عامًا قبل أن تشعر جامعة هارفارد أنه رجل ليس من ورائه خطر فترده إليها.
ولم يكن ذلك راجعًا إلى أن له برنامجًا أو أسلوبًا خاصًّا في التفكير، وإنما كان أمرسن فيلسوفًا شاعرًا يركن إلى الإلهام أكثر مما يركن إلى العقل، وكان يدرك دائمًا أن محاضراته ومقالاته ينقصها الاتصال، فيتألم من أجل ذلك. وكان يعجز عن الجدل، ويتحاشى — ما استطاع ذلك — الكلامَ في الموضوعات ذات الأهمية الشائعة؛ لأنه كان يعتقد أن مواهبه يجب أن تتجه نحو تنوير العقل عامة؛ فقد كان رجلًا حرًّا في روحه وعقله، وكان من الناحية الشخصية رجلًا ذا صفات ممتازة، تأثيره عظيم بالغ، فأشعل عقول الرجال والنساء في العالم أجمع. كان رجلًا جازمًا في حزم. وما دام موضوعه الأساسي هو قدرة الفرد التي لا حد لها على الإسهام في كل ما يمتد إليه الكون، فإن كتاباته ما فتئت جديدة كما كانت حينما جمعها في مشقة من الآراء الشتيتة، ومن لمحات البصيرة الزائلة.
•••
ولا مراء في أنه كان رجلًا ثائرًا، وإن شق علينا أن ننعته بهذا الوصف؛ لأنه كان ليِّنًا ضعيفًا ودودًا دمث الأخلاق. وقد عاش عيشة هادئة في كنكورد بمساشوستس كأكثر المواطنين وقارًا. وهو ينحدر من سلالة عريقة من رجال الدين في «نيو إنجلند». وكان أحد أفراد أسرة تميل بطبعها إلى الكهنوت؛ فقد وُلد في بوسطن في اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو من عام ١٨٠٣، وهو ابن راعي الكنيسة الثانية وواحد من أخوةٍ خمسة، ثم مات أبوه بعد ثماني سنوات. ومع أن أمه قد أصبحت تعول أسرة في سبيل النمو وفي ظروف مالية يائسة، إلا أنها كانت سيدة ذات إرادة قوية جِدًّا، فصممت على تربية أبنائها، وقد أفلحت؛ فأتم أربعة منهم تعليمهم الجامعي، وكان كل واحد منهم يعاون من يتلوه وهو على أهبة الدراسة. وكانت حياة شاقة عسيرة، تركت من غير شك أثرها في صحة الأطفال؛ فمات منهم اثنان وهما لا يزالان في سن الشباب. ولم تكن صحة رالف قوية في يوم من الأيام؛ فقد ساءت إلى حد الخطر مرتين، ولم يخلُ أخوه الأكبر البتة من الألم والاضطراب الجثماني، ويبدو أن سلالة أسرة أمرسن لم تكن قوية البنية في عهد رالف؛ فقد مات له أخ وأخت في سن الطفولة، وأخ آخر لم ينضج عقله قط. وكان للفاقة التي مُنيت بها أسرة أمرسن بعد وفاة الوالد أثر سيئ بنوع خاص على أجسام عليلة.
التحق أمرسن بكلية «هارفارد» في عام ١٨١٧م وهو في الرابعة عشرة من عمره. ومع أنه كان في النصف الأعلى من فصله، إلا أنه لم يُظهر امتيازًا، وتخرج في عام ١٨٢١م، وظل أربع سنوات يعاون أخاه باشتغاله بالتعليم في مدرسة تكميلية للبنات في بوسطن. وبعد التعليم في المدارس في مناطق أخرى التحق بمدرسة هارفارد الدينية، غير أن ضعف رئتَيه وبصره وما أصابه من روماتزم كاد يحول دون تعليمه الديني من أول الأمر، واضْطُر إلى قضاء شتاء بأكمله للاستشفاء في الجنوب. وبعدما أتم تعليمه في عام ١٨٢٩م عُيِّنَ راعيًا مساعدًا للكنيسة الثانية حيث كان أبوه يقوم بالوعظ، وسرعان ما خلف الراعي، وبات يحمل تبعة الدائرة الدينية بأكلها. وعندئذٍ تزوج من «إلن تكر الكنكوردية» من نيو هامبشير، ولكنها عاشت بعد الزواج عامًا ونصف العام فقط.
ولما خاب أمله في حياته المهنية، وأزعجه موت زوجته وأحد إخوته، وكان هو نفسه معتل الصحة، فقد أقلع إلى إيطاليا في الشتاء. واسترد صحته في هذه الرحلة، التي كانت حافزًا لعقله؛ فقد استمتع بكنوز الفن العظمى في إيطاليا. وزار لاندُر الذي أُعجب بكتابته. وفي إنجلترا التقى بكولردج ووردزورث وكارليل الذين كان يهتم بمؤلفاتهم بنوع خاص. وكانت زيارته لكارليل حدثًا له أهميته في حياته؛ فقد ألفاه حافزًا على التفكير خفيف الظل في شخصه كما هو في مؤلفاته. وعاد إلى أمريكا مُعافًى بعد عام، واستقر به المقام نهائيًّا في كنكورد حيث كان والد زوج أمه الدكتور أزرا ربلي يعيش في مانس القديمة. وسارع أمرسن إلى شراء بيت وقطعة من الأرض عن طريق بوسطن بوست، وتزوج من لديان جاكسن من أهالي بليموث، واستقر في حياة سعيدة تطورت به إلى مستقبل عظيم. وكان وقتئذٍ في الثانية والثلاثين من عمره. وانتهى كل ما أصابه من حرمان في طفولته وما لاقى من صراع روحي في حياته المهنية. ولبث سبعة وأربعين عامًا بعد ذلك يزداد عظمة وحكمة ويُضفي على العالم من فضله.
كانت كنكورد خير البلدان لأمرسن؛ لأنها كانت مدينة جميلة، يُغرم أهلها بحب الطبيعة، هذا الحب الذي يكمن وراء فلسفته. وكانت لها مكانة عالية في قصة قتال أمريكا في سبيل الاستقلال؛ فقد حدثت موقعة كنكورد قريبًا من مانس القديمة، وأثلج هذا التاريخ المشرق للمدينة صدر أمرسن. وكانت الحياة الاجتماعية في كنكورد كذلك فاتنة؛ فقد ضمت في حياته برنسن إلكت المدرس الملهم، وناثانيل هورثون الروائي الخجول المعتزل، وهنري ثورو فارس الطبيعة، ووليم ألري تشاننج الشاعر المحدث، ورجالًا أفاضل من أمثال صمويل هور والقاضي أ. ر. هور وأدمند هوزمر المزارع صاحب العقل الراجح، وصاحب القداسة أزرا ربلي، الراعي المسيحي القوي صاحب الضمير الحي.
ولعب أمرسن دورًا فعالًا في حياة المدينة؛ فقد انْتُخب في إحدى الوظائف العامة عند أول إقامته في كنكورد، وكان عضوًا في جمعية إطفاء الحريق، وكانت الدلاء الجلدية والكيس الصوفي دائمًا مدلاة من السلم عند المدخل الجانبي، وبالاشتراك مع جيرانه كان يكافح حرائق الغابات بأغصان الصنوبر. وفي أول عهده بالمدينة ألقى خطبة من أكثر الخطب التاريخية أهمية في عيد انقضاء مائتَي عام على استعمار كنكورد. وكان بين الحين والحين يعتلي منبر الخطابة في المدينة. كما كانت معلمات مدارس الأحد يلتقين بمسز أمرسن في البهو الأمامي. وباعتباره مديرًا لنادي كنكورد الأدبي عاون على إيجاد غرفة عامة للمطالعة حيث كانت الصحف والمجلات تُحفظ في أكداس مرتبة. وبالمحافظة على نشاط النادي الأدبي عمل هو وثورو على تنبيه الحياة العقلية في كنكورد.
وانتعشت حياة أمرسن كلها هناك، فزرع حديقة واشتغل بها مستهينًا بالوقت الذي كان ينبغي له أن ينفقه في مكتبه. وزرع حديقة للفاكهة أفرط في اعتزازه بها. وأخيرًا اشترى قطعةً أخرى من الأرض واشتغل بمزرعة صغيرة استأجر فيها العمال. وأُغرم بغابات والدن فاشترى بها رقعة من الأرض لمجرد المتعة. وقد أقام ثورو منسكه المشهور في غابات أمرسن. وكانت كنكورد كذلك قريبة من بوسطن التي كانت تسيطر على الحياة العقلية في أمريكا في تلك الأيام. وكانت عربة الانتقال تقف بجوار بيت أمرسن وتبلغ بوسطن في خلال ساعتين أو ثلاث. وبعد ذلك بقليل قُرِّب خط فتشبرج الحديدي بوسطن من كنكورد؛ فكانت كنكورد من جميع نواحيها مجتمعًا مثاليًّا لرجل في مثل مزاج أمرسن. أحبها في شبابه عندما زار الدكتور ربلي في بيته القديم، ولبث على حبه لها، وبمرور الزمن أحبته كنكورد باعتباره شيخ المدينة الوقور.
وفي أول إقامته في بيته الخاص مع زوجته الشابة اعتلى المنابر هنا وهناك وألقى الخطب بين الحين والحين. بَيْدَ أنه كان لفترةٍ ما يتدبر كتابًا فلسفيًّا شعريًّا عن تأثير الطبيعة الأساسي في حياة البشر، وأسماه في بساطة «الطبيعة»، وأتمه ونشره في عام ١٨٣٦م. نشر منه خمسمائة نسخة غفلًا من اسم المؤلف. ومع أن كارليل قد هلل لهذا الكتاب فإنه لم يُقابل بحماسة ولم يُعد طبعه حتى عام ١٨٤٧م.
غير أن أمرسن كان قد بدأ عمله الذي شغل به حياته. وكان خطابه عن «العالِم الأمريكي» أمام جمعية هارفارد في بيتاكبا في عام ١٨٣٧م حدثًا مثيرًا في تاريخ الثقافة الأمريكية، وقد وصفه أولفر وندل هولمز بأنه «إعلان استقلالنا العقلي». وأثار هذا الخطاب الشباب خاصة، وأقبل الناس بحماسة على شراء النسخ المطبوعة منه بأعداد وافرة بمجرد ظهوره في المكتبات. وفي العام التالي ألقى أمرسن خطابًا على الطلبة المتخرجين في مدرسة اللاهوت، وعارض فيه القيمة الحقيقية لتاريخ المسيحية الأولى، وقدح في الأسلوب الرسمي المتكلف للخطب المنبرية. وقابل رجال الدين هذا النقد للكهنوت والتفكير الديني بالاستنكار والسخط، ووصموه بالضلال، ووسموا أمرسن بالكفران، ولم يلقَ بعد ذلك ترحيبًا فوق المنابر أو على منصات المحاضرات التي كانت من قبلُ تكرم وفادته. ومع أنه لم يشترك في الجدل الذي ثار حوله عدة أشهر، إلا أنه ظن لفترةٍ ما أنه ربما اضْطُر إلى البحث عن طريقة جديدة للعيش لكي يعول نفسه وأسرته.
بَيْدَ أنه سرعان ما اكتشف أن الناس يستمعون بالترحاب يوم الأربعاء إلى الأمور التي تبدو لهم كفرًا يوم الأحد؛ فقضى بقية حياته يحاضر بنوع خاص في موضوعات روحية وفلسفية في جميع أرجاء البلاد. وكان في فصل الصيف من كل عام يجمع شتات أفكاره في صيغة خطب. وعندما كان يستيقظ في الفجر وينسل من غرفة النوم تسأله زوجته: «هل أنت مريض؟» فيجيبها: «كلا، إنما أنا أتصيد فكرة.» وكان في فصل الشتاء من كل عام يقرأ محاضراته حيثما دُعِي، متنقلًا بالعربات ومركبات الجليد، والزوارق والبواخر والقطارات، مخترقًا نيو إنجلند وولايات الأطلنطي والغرب الأوسط، ويقيم في الفنادق البدائية بجميع أنواعها، ويعبر المسيسبي فوق الجليد، ويستمتع أشد الاستمتاع بتقدم الحياة في البلاد. ومع أنه كان رجلًا ذا جسم نحيل وكتفَين محدودبين، إلا أنه كان خطيبًا شعبيًا مصقعًا، يجذب إليه الناس بشخصيته الرفيقة، وبصوته ذي الرنين الذي يذهل الأسماع، فاعترف له الجميع بأنه أستاذ في فن الخطابة.
وكانت حياة المحاضرة شاقة؛ إذ إن أمرسن كان رجلًا فقيرًا من رجال الأعمال، يخطب عادة بأي أجر يُقدَّم إليه، فلم يكسب قط مالًا كثيرًا، إلا أنه كان ذا مزاج متفائل بطبعه، يعتقد بسهولة في أوجه الخير من كل شيء، وقد أدخل السرور على نفسه طوال حياته إيمانه العميق؛ إذ إن واجب العالِم في اعتقاده هو: «أن يُدخِل البهجة في النفوس، وأن يسمو بالناس، ويرشدهم، ويبين لهم الرشد من الغي.» وفي غضون أسفاره في عرض البلاد «مُفرغًا ما بجعبته من حكمة شعبية» — على حد تعبيره عن محاضراته — كان يحس أنه يُغني حياة الناس ويقوم بالعمل الذي يلائم نبوغه. وكان يلقي محاضراته كتجربة على أوساط مختلفة من المستمعين، ثم يعيد كتابتها كمقالات وينشرها في صورة كتاب. وتكاد كتاباته كلها — ما خلا الشعر — أن تكون حديثًا في مبدأ الأمر ملقًى من فوق منصة الخطابة.
ولم يفقه كل الناس ما كان يتحدث عنه، أو يوافقه عليه. ويبدو أن الشباب كان أسلس له قيادًا من الشيوخ. وقد قال أحد وكلاء النيابة في بوسطن إن محاضرات أمرسن «لا معنَى لها البتة لديَّ، ولكن ابنتيَّ، وعمر إحداهما خمس عشرة سنة والأخرى سبع عشرة سنة، يفقهانها تمامًا.» وقد سألتْ مسز هور مرة خادمةً كانت تواظب دائمًا على الاستماع إلى محاضرات أمرسن في كنكورد: «هل تفهمين مستر أمرسن؟» فأجابت الخادمة بقولها: «لا أفهم كلمة واحدة، ولكني أحب أن أذهب وأشاهده واقفًا هناك وهو يبدو كأنه يَحسِب كل فرد إنسانًا طيِّبًا مثله.» ويفتخر أحد الفلاحين في بوسطن بأنه استمع إلى كل محاضرات أمرسن في النادي الأدبي «بل وقد فهمها». وقد أدركها بوضوح أحد المواطنين البارزين في كنكورد إلى حد أنه اعترض على ما تضمنته من آراء ثائرة، فاستوقف أمرسن في الطريق ذات يوم وقال له: «لست أعرف غير أشخاص ثلاثة تمقت آراءهم هذه الجماعة، وأولئك هم تيودور باركر ووندل فلبس وأنت يا سيدي، إن جاز لي أن أُخلِص القول.»
وبعد أكثر من عشر سنوات قضاها أمرسن في البحث المضني والمحاضرة، لبَّى بسرور بالغ في عام ١٨٤٧م دعوةً لإلقاء بعض محاضراته في إنجلترا، وقضى هناك عامًا. وفي أسفاره في بطون إنجلترا أُتيحت له فرصة الاتصال الوثيق بكثير من طبقات الشعب الإنجليزي. وباعتباره من رجال أمريكا المشهورين، دعته كثير من البيوت الإنجليزية دعوات خاصة واستقبلته استقبالًا حارًّا. وجدَّد صداقاته القديمة وبخاصة مع كارليل الذي تغضن قليلًا من فعل السنين. وزار أمرسن كذلك فرنسا في خلال فترة من القلاقل السياسية العظيمة. وأهم ما أسفر عنه عام من العمل قضاه أمرسن في الخارج كتاب «الصفات الإنجليزية»، وهو تاريخ وتحليل نفسي في آن واحد للخلق الإنجليزي.
ومع أنه كان رجلًا محببًا، إلا أنه كان خجولًا متواضعًا، تنقصه الروح الحية، وكان يحس أن به فتورًا لا يمكِّنه من الاختلاط الاجتماعي. وفي خلال الأيام التي قضاها في التعليم بالمدارس كان اضطرابه أليمًا، وقد استغل الطلبة هذا الاضطراب للتفكه به. ولم يسيطر على الجماعات بقوة الشخصية، وكانت أقوى أفكاره تطرأ له في خلوته. غير أن الفترة التي عاش فيها كانت فترة اختمار اجتماعي غير عادي؛ فكان المصلحون يجذبون العالم من جذوره، ويصوغون من الأهواء الفردية نُظُمًا عامةً، تلك كانت فترة الجمعيات الفلسفية، كجمعية بروك فارم وفروت لاندز. وباعتبار أمرسن الفيلسوف الأوَّل لما فوق العقل في عهده، كان يستشيره ويتوسل إليه كل مَن يبتدع نظامًا جديدًا، من المتنبئين الصادقين إلى الشواذ وضعاف العقول. كانوا جميعًا يقصدون بيته، ويجلسون إلى مائدته، فيستقبلهم ويكرم وفادتهم. غير أن أمرسن لم يكن يستسيغ فكرة الاجتماع، فانتزع نفسه من بينهم في ثبات وحزم، وكانوا يبدون له كأنهم أصحاب آراء متحيزة.
وكان من الناحية السياسية محجمًا. وقد اعتقد من أول الأمر أن العبيد يجب أن يتحرروا، غير أنه تحاشى ما استطاع الجمعيات الثورية التي كانت تعمل على إلغاء الرق، وحينما استُحث لكي يسهم في العمل المباشر قال: «إن روحي حبيسة سجن سحيق، لا يزوره أحد إذا لم أفعل أنا ذلك.» ولكن لما علا الضجيج حول الرقيق بدأ أمرسن يأخذ فيه بنصيب. وحينما صدر قانون العبيد الهاربين، واعتقد أمرسن أن بطله دانيل وبستر قد خان عهد الجمهور، ظهر في المجتمعات العامة في كنكورد وبوسطن ونيويورك وتكلم بحرارة غريبة على رجل في مثل رزانته. وبالرغم من أن غرائزه كلها كانت تعارض في الإسهام في العمل السياسي، وبالرغم من انعدام ثقته في معرفته بالشئون السياسية، فقد ارتبط ارتباطًا وثيقًا بقضية إلغاء الرق بعد صدور قانون العبيد الهاربين. وذات مرة أبدى لأحد أطفاله ملاحظة، وكان على هذا الطفل أن يكتب موضوعًا مدرسيًّا عن بناء المنزل، فقال له أمرسن: لا ينبغي أن يُبنى منزل دون أن يكون فيه مكان لإخفاء عبد هارب. واستضاف جون براون في بيته، وأسهم في قضية الإلغاء بأكثر مما تستطيع مقدرته المالية، وتكلم مدافعًا عن جون براون بعد هاربرز فري. وكان في السابعة والخمسين من عمره عندما اشتعلت الحرب الأهلية ولم يأخذ في القتال بنصيب.
وفي عام ١٨٦٥م دُعي أمرسن لإلقاء خطاب في بيتاكبا في هارفارد مرة أخرى. وكانت هارفارد في هذه المرة قد نسيت فضيحة خطبة البكالاريا في عام ١٨٣٨م. وبعد ذلك بقليل انتُخب عضوًا في مجلس المراقبين. وفي عامَي ١٨٧٠م و١٨٧١م حاضر في الفلسفة في هارفارد، غير أن السن تقدمت به، وبدأت تظهر عليه علامات جهد عمر قضاه في نشاط عقلي متواصل، كما بدأت تخونه الذاكرة؛ فقد كان يقترب من نهاية مستقبل عظيم. وفي يوليو من عام ١٨٧٢م أتلفت النيران جزءًا من بيته، فهُرِع هو وزوجته للنجاة بحياتهما ولم يتسع لهما الوقت لارتداء ملابسهما، وأجهدا قوتَيهما محاولَين أن ينقذا بعض ما يملكان. وكانت صدمة هذه الكارثة أشد مما يستطيع أمرسن احتماله؛ فقد كادت أن تودي به، وانتقل مرة أخرى إلى مانس القديمة، حيث قضى طفولته السعيدة، وأُعِدَّ له مكتب في القرية.
ولكن سرعان ما اتضح أنه لا يستطيع العمل، وأخيرًا تدخل في الأمر بعض أصدقائه، وأرسلوه إلى مصر مع ابنته ألن، وفي أثناء غيبته أعادوا بناء بيته وجددوه. وعندما عاد في شهر مارس التالي دقت نواقيس المدينة وصحبه حشد كبير من الأطفال والجيران والأصدقاء من محطة السكة الحديدية وتحت قوس من أقواس النصر إلى بيته الجديد. واستقر شاكرًا وأخذ يعد كتَاب مقالات كان قد وعد به أحد الناشرين في لندن، ولكنه لم يعد قادرًا على السير في عمل متصل. وفي نهاية الأمر اضْطُر صديقه جيمس إليت كابوت إلى أن يُضمِّن الكتاب كثيرًا من المحاضرات والمقالات وإلى تنسيق المذكرات تنسيقًا حسنًا.
وعاش أمرسن حياة هادئة قانعة مع أسرته وأصدقائه حتى أبريل من عام ١٨٨٢م حينما أُصيب بالتهاب رئوي بسبب سيره في المطر دون قبعة أو معطف. وقضى نحبه في مساء ٢٧ أبريل. وبعد الساعة التاسعة من ذلك المساء دق ناقوس كنيسة يونتاريان تسعًا وسبعين دقة معدِّدة سني حياته، ومعلنة النبأ المفجع في كل أنحاء القرية. وعرفت كنكورد — التي عاش فيها أمرسن مواطنًا معظم حياته — أن أعظم أبنائها قد انتهى. وكانت وفاته نبأً قوميًّا، فدبج كُتَّاب المقالات الصحفية والنعاة أعمدة كثيرة في الصحف فيها معلومات وفيها تقدير نقدي. وحضر إلى الجنازة في قطار خاص من بوسطن كثير من الأصدقاء الممتازين. وحضر كذلك الرئيس أليوت من هارفارد وأولفر وندل هولمز وجورج وليم كيرتس وتشارلس أليوت نورتن. وقرأ من الإنجيل في صلاة الجنازة الدكتور و. ﻫ. فرنس من رجال الدين في فيلادلفيا وصاحب القداسة جيمس فريمان كلارك من بوسطن.
غير أن كنكورد التي أحبت أمرسن باعتباره أعظم مواطنيها تأثرت تأثيرًا بالغًا وساد الجنازة جو محلي، وتكللت بالسواد المساكن والمخازن والمنشآت العامة في كل مكان. وبعد الظهر بعد الانتهاء من صلاة الجنازة الخاصة، سار القرويون وراء النعش من البيت الكبير في طريق بوسطن بوست إلى الكنيسة القديمة. وتكدست حول المذبح أغصان من شجر الصنوبر التي كان يقدسها أمرسن. وعزفت على القيثار الأوسط في ذكراه بأعواد النرجس الصفراء لويزام. الكت. أمَّا القاضي أ. ر. هور الذي لم يكن من أهل القرية فحسب، بل كان كذلك جارًا حميمًا وعضوًا في نادي السبت المشهور، فقد تكلم بالنيابة عن أهل بلده وعبَّر عن محبتهم الخاصة له. وأمَّا برنسن ألكت المعلم الذي ألهم أمرسن وأزعجه عدة سنوات، فقد قرأ بصوت جهوري أنشودة وُضِعت لهذه المناسبة.
وبعدما انتهت الصلوات انسل خلف النعش، الذي استقر فيه هادئًا في النهاية ذلك الرجل النحيل صاحب الملامح المدببة، انسل أولئك الذين أفلحوا في اقتحام الكنيسة وأولئك الذين تجمعوا محزونين عند الأبواب في الخارج. وقرابة المساء في يوم من أيام الآحاد الدفيئة الصافية من شهر أبريل، تحرك موكب الجنازة إلى مقبرة سلسيبي هولو حيث دُفن ثورو وهوثورن، ثم إلى أعلى الجبل بين صفوفٍ مكشوفة من الأوساط الاجتماعية بكنكورد، وَوُرِيَ أمرسن التراب تحت شجرة من أشجار الصنوبر إلى جوار قبر أمه وقبر ابنه والدو.
•••
كان أمرسن في فلسفته يتخطى العقل، ويعتقد في «روحٍ عليا»، وهي تلك الروح المطْلَقة التي يكون كل شيء حي جزءًا منها. وحتى في أيام أمرسن كان هذا التعبير «فوق العقل» يُعتبر من دواعي الارتباك الذهني، وما زال المعنى الشائع للكلمة «غامضًا، مبهمًا، خياليًّا». ولم يستطع العلماء الذين ألفوا المعرفة الدقيقة أن يفقهوا معنًى لمدرسة أمرسن في الفكر. ولم يكن ذلك عجيبًا، فإن «ما فوق العقل» مذهب لا نظام له، فهو إلى الشعر أقرب منه إلى الفكر. قال أمرسن مرة: «إن ما يسميه العامة بيننا فوق العقل إن هو إلا المذهب المثالي.» إن الرجل المادي يستمد منطقه من الحقائق الواقعة، ومن تاريخ الإنسان وحاجاته الحيوانية، وعلى خلاف ذلك الرجل المثالي الذي يعتقد في «قوة الفكر والإرادة، وفي الإلهام والمعجزة، وفي الثقافة الفردية.» فالمثالية تكشف عن الإيمان بالله بقوةٍ تنفي كل ما يعارض هذا الإيمان.
وفي بلد ناهض، بدأ من عهدٍ قريب فقط يستمتع باستقلاله ويتوسَّع منهومًا في كل ناحية من النواحي، كان هذا الأسلوب من أساليب الفكر طبيعيًّا ومُرضيًا؛ فهو يعتقد أن أي شيء يمكن إنجازه، كما أن أساليب التفكير وطرائق التعليل تبدو خانقةً لقومٍ ذوي مزاج مبتهج يتطلعون إلى كل ثمار الأرض فيجدونها طيبة. كان يسيرًا عليهم أن يؤثِروا البداهة على التجربة، فيبدو لهم أن الحق الأسمى لا ينحصر فيما تم عمله وإنما ينحصر فيما يمكن أداؤه؛ فالحياة تدب في الرجل الذي يؤمن بما فوق العقل من الزهور والسُّحب والطيور والشمس، ومن برودة الطقس ودفئه، وجمال المساء، ومن المزارع ومحلات التجارة والسكك الحديدية حيث تنبض الحياة وتقع الحوادث الطيبة.
وبالرغم من أن فلسفة أمرسن لم تكن نظامًا شاملًا، فقد سارت على شبه خطة في الطريقة التي عالجها بها. كان موقفه من الحياة يقوم على حبِّه الطبيعة، وقد ذكر ذلك في أول كتابه «الطبيعة»، وهو كتاب صغير نشره دون ذكر اسم مؤلفه. وقد عاب عليه نقاد الكتب أنه تعبير مرح عن وحدة الكون، أسلوبه فاتن غير أنه تافه الدلالة. ومع ذلك فإن هذا الكِتاب يمثل سنواتٍ عدةً من التفكير المقصود حينما كان أمرسن يحاول أن يصوغ آراءه على نسق معيَّن. وقد بدأ في المقدمة بتعريف المصطلحات، فهو يقول: «الطبيعة في المعنى العام تشير إلى الجوهر الذي لا يغيره الإنسان، هي الفضاء والهواء والنهر وأوراق الشجر. والفن يُطلَق على امتزاج إرادة الإنسان بهذه الأشياء، فمنه البيت والقناة والتمثال والصورة.» ومن دواعي السرور عند أمرسن أن يكون الإنسان جزءًا من الطبيعة، وأن تكون الطبيعة موطنه.
وبعد ذلك بخمس سنوات نَشر أمرسن كتابه الأوَّل من «المقالات»، وهو يتألف من المحاضرات التي ألقاها في بوسطن خاصة. وقد حوى هذا الكتاب الجديد مقالًا عن «الروح العليا» ويمكن اعتبار هذا المقال حجر الزاوية في عقيدة الرجل.
وكانت عقيدة منشئة؛ فقد بدت الحياة طيبة في أساسها، وأمكن الوثوق في الطبيعة والإنسان، وباتت الحياة شيئًا لا نتعلمه ولكن نحياه. وأصبح ذلك الوقت هو الساعة الملائمة لبداية جديدة. كانت هذه العقيدة مذهبًا يقبل الجديد، ويؤمن بأن النظرية الناقصة التي تحتوي على لمحات من الحق خيرٌ من النظم المهضومة التي أدركها الفناء.
كانت عقيدة أمرسن قوة محركة، ومِنْ ثَمَّ بدا لشباب عصره كأنه المحرر الثقافي الأعظم. كان دائمًا يؤيد الكشف بالخيال؛ فهو يقول في مقاله «العالِم الأمريكي» إن المنفعة الوحيدة للكتب هي الإلهام، «إنما ينبغي للمرء أن يكون منشئًا لكي يحسن القراءة.» وبدا له أن اشتغال العالِم بعلم الكِتاب يودي به إلى الهلاك، واستحث العالِم لكي يصبح من رجال العمل فيتعلم من الحياة رأسًا: «الحياة قاموسنا، وإنك لتحسن إنفاق عمرك لو عملت في الريف، وفي المدينة، وفي تبصُّر الحِرَف والصناعات، وفي الاتصال الخالص بكثير من الرجال والنساء، وفي العلم، وفي الفن، وذلك لكي تحذق في كل الحقائق لغةً توضح بها مدركاتك وتصوغها فيها.»
وإذا كان مقاله عن «الروح العليا» هو حجر الزاوية من فلسفته، فإن مقاله عن «الاعتماد على النفس» هو أقوى إعلان عن معناها. وكثير من مقالاته غير قاطع، وكثير منها يفتقر إلى التنسيق. ولم يستطع في كل موضوع أن يستجمع شتيت تأملاته. غير أنه في مقاله «الاعتماد على النفس» يحض قراءه في شجاعة على أن يعملوا وفقًا لخير ما لديهم من دوافع وألا يتهاونوا في الواجب؛ فهو يقول: «من العبقرية أن تعتقد في رأيك الخاص، وأن تعتقد أن ما تراه حقًّا في نفسك حقٌّ للناس جميعًا.» ثم يقول إنه من الطبيعي للإنسان أن يكون في سلوكه شيء من عدم الاكتراث وشيء من الأنفة. ويقول لا رياء في العادات، ولا ضعف في حب البشر، ولا عملًا طيِّبًا نفاقًا لضمائر الناس، ولا انقيادًا أعمى، ولا تشبث بثبات الرأي خوفًا وفزعًا. الجماعة تحض على الحذر، والعادات الاجتماعية تحد من حرية العمل. والاتِّباع مريح. ولكن أمرسن يرى «ألا شيء في النهاية مقدَّسًا، اللهم إلا نزاهة عقلك.» وبالرغم من أنه كان رجلًا ليِّن العريكة في شخصه، إلا أنه يدعو في هذه الرسالة بحرارة إلى الاستقلال، فيقول: «ليعلمِ الإنسان إذن قيمته، ويجعل الأشياء تحت قدمَيه، فلا يسترق النظر أو يسرق، أو يسير متخفيًا كأنه يطلب الإحسان، أو كأنه ابن زنًا، أو مدسوسًا على الدنيا التي وُجدت له.» لا تندم، ولا تقلِّد. وينتهي بقوله: «لا شيء يجلب لك الطمأنينة غير نفسك، ولا شيء يجلب لك الطمأنينة سوى انتصار المبادئ.» وبعد ذلك بعدة أعوام نُفي طالب روسي إلى سيبريا لحيازته نسخةً من رسالة أمرسن «الاعتماد على النفس».
وقد انتقد بعض الناس أمرسن لصراحته، فقالوا إنه قَبض على زمام الناس «من خير مقابضهم»، واعتقد بسهولة زائدة في خيارهم. وعندما سلَّط خياله على السكة الحديدية أو التلغراف الكهربائي — وكانا مستحدثَين في عهده — تنبأ لهما بمستقبل باهر، ولما فكَّر في إمكانيات البلاد كانت آماله كذلك فوق العقل. خاطب جمعية المكتبة التجارية في بوسطن قائلًا: «هناك مصير سامٍ ودي يسترشد به الجنس البشري.» فهل يا تُرى كان يفكر كذلك في القرن العشرين، إنه سؤال نظري، غير أن الإجابة عنه يسيرة، فالجواب «نعم»؛ لأن عقائده الثابتة التي ارتآها، والتي كانت تلائم حالة أمريكا في عهده، إنما صدرت عن مزاجه؛ فإنه كان بطبعه يتطلع وراء التفصيلات إلى حقائق الطبيعة والبشرية الأساسية، ومِنْ ثَمَّ كان يعتقد أن «الإبداع يمكن أن يكون الآن، وفي هذا المكان» على حدِّ تعبير ثورو.
وكانت هناك أسبابٌ تكفي لليأس في عهده؛ فشئون السياسة كانت فاسدة، واستولت المادية على عقول الناس وأرواحهم، وما عتَّمت البلاد تخون الهنود. والحرب المكسيكية نقضت رأي كل إنسان عادل في الاعتدال. وقد انقلب على إحدى الأفكار التي كان ينافح عنها أمرسن دانيل وبستر، وهو أحد الأوثان التي كان يقدسها الرجل. واعترضت مستقبل أمرسن المأساة الكبرى، مأساة الحرب الأهلية التي كان المواطنون في بلد واحد يقتل فيها أحدهم الآخر. كما أن نهب الجنود بصورة مفزعة بعد الحرب الذي قام به رجال السياسة الانتهازيون والمختلسون المتبجحون، هذا النهب كان يمثل موضع الانحطاط في أخلاقنا القومية. وكذلك الجهل والشر أسدلا ستارًا أسود على حياة أمريكا في عصر أمرسن، فعلت الكآبة نفوس الكثيرين من معاصريه.
عرف أمرسن هذه الأشياء وعانى من أجلها. وبعدما كان يفرغ من قراءة الصحف كثيرًا ما كان يسير إلى غاباته في والدن كي يسترد عقله ويعيد توجيه نفسه في هذا الكون. ولكن شيئًا لم يستطع أن يهز عقيدته في خير الكون؛ لأنه كان ملهمًا. وبينما كان يجوب البلاد في أسفاره ومعه حقيبة محاضراته البالية، ويتفرس وجوه الأمريكيين، لم يسعه إلا أن يعتقد في الخير. كان معلم أمريكا، دمث الأخلاق، رفيقًا، مستقيمًا، وما برحت أقواله وكتاباته «الإنجيل» الذي نفهمه في سهولة كبرى.