الآداب

ما أقرب الجمال من الخير!
إنَّا لا نكاد نراه
حتى تذهل حواسنا
بتخطيطه وصورته الظاهرة.

•••

أصلحوا أنفسكم،
واكتسوا بكل جمال
يستطيع اللون أو التناسب
أن يضفيه على أجسامكم.
فإن فقدتم هذه الفنون الصامتة
من رسوم وصور
فقد تحتاجون إلى صفاتٍ أخرى
يميزها سمو الإحساس باحترام النفس والكرامة
اللذَين تلقاهما في الحركات الصادقة.
بن جونسن

يُقال إن نصف العالم لا يعرف كيف يعيش النصف الآخر، ولقد رأى رجال حملتنا الكشفية أهل جزيرة فيجي يتناولون عشاءهم من العظام البشرية، وقيل إنهم يأكلون زوجاتهم وأطفالهم. والاقتصاد المنزلي عند سكان جورنو المحدثين (غربي طيبة القديمة) فيه فلسفة خاطئة. إعداد المنزل عندهم لا يتطلب سوى إناءين أو ثلاثة من الخزف، وحجر لطحن الطعام، وحصيرة هي الفراش. والبيت وهو المقبرة، مستعد، لا يدفع عنه صاحبه أجرًا أو ضريبة. لا تتسرب إليه مياه الأمطار من السقف، وليس له باب؛ إذ ليست إليه حاجة، فليس هناك ما يخشى ضياعه، فإذا ضاقوا ذرعًا ببيوتهم خرجوا منها ودخلوا غيرها؛ إذ إن تحت تصرفهم مئات عديدة. ويضيف إلى ذلك بلزوني الذي نَدين له بهذا الوصف: «إن الكلام عن السعادة فيه شيء من الغرابة بين قومٍ يعيشون في القبور بين الجثث والخِرَق التي خلَّفتها أمة قديمة لا يعلمون عنها شيئًا.» وفي صحاري بورجو لا يزال قوم «تبو» الجبليون يعيشون في الكهوف كالسنونو الجبلي، ولغة هؤلاء الزنوج يشبِّهها جيرانهم بصراخ الوطاويط وشقشقة العصافير، ثم إن أهل برنو لا يَتَسَمَّوْنَ بأسماء الأعلام، إنما يُسَمَّى الأفراد بارتفاعهم أو بدانتهم أو أية صفة عارضة أخرى، وليست لهم إلا أسماء مستعارة. غير أن الملح والبلح والعاج والذهب التي من أجلها يرتاد الرحالة هذه المناطق المرعبة تجد سبيلها إلى بلادٍ من العسير أن تسوي المشتري والمستهلك فيها بهذا الجنس الذي يأكل لحوم البشر ويسرق الآدميين، بلاد يخدم الناس فيها أنفسهم بالمعادن والأخشاب والحجر والزجاج والصمغ والقطن والحرير والصوف، ويكرم الناس فيها أنفسهم بفن البناء، ويسنون القوانين، ويحاولون تنفيذ إرادتهم بأيدي أمم كثيرة، وهم يُنشئون — بنوع خاص — طبقة ممتازة، تجدها شائعة في كل بلد به رجال أذكياء، وهي أرستقراطية قائمة بذاتها، أو أخوة بين الخيار، تخلد نفسها بغير قانون مدوَّن أو عادة محكمة من أي نوع، وتستعمر كلَّ جزيرة حديثة الزراعة، وتتخذ لنفسها — وتصنع — أي ضرب من ضروب الجمال أو أية صفة عجيبة قومية ممتازة حيثما ظهرت.

أية حقيقة في التاريخ الحديث أشد بروزًا من خُلق الرجل المُهذب؟ إن الفُروسية هي ذاك، والإخلاص هو ذاك. ونصف المسرحيات وكل الروايات في الأدب الإنجليزي من سر فيليب سدني إلى سر والتر سكت يصوِّر هذه الشخصية. إن لفظة الرجل المهذب «الجنتلمان» التي ينبغي منذ اليوم — كلفظ المسيحية — أن تميِّز هذا القرن والقرون القليلة القادمة، نظرًا للأهمية التي تُعزى إليها، هذه اللفظة تشير إلى بعض الخصائص الشخصية التي لا يمكن انتقالها. لقد ارتبطت بهذه الكلمات صفات طائشة خيالية، إلا أن اهتمام الناس الثابت به يجب أن يُردَّ إلى الخواص القيمة التي تتضمنها. إن العنصر الذي يوحِّد بين جميع الأشخاص الأقوياء في كل البلدان، ويجعلهم متفاهمين على وفاق، عنصر محدد، يحس المرء لأول وهلة إذا كان الفرد لا يتسم بميسمه الذي يشبه الأخوية الماسونية. هذا العنصر لا يمكن أن يكون ثمرةً عرضية، ولكنه لا بد أن يكون نتيجة مستخلصة من مميزات الشخصية والصفات التي تتوفر في الرجال. ويبدو أن هذه النتيجة ثابتة معينة، كما أن الجو مركَّب ثابت، في حين أن كثيرًا من الغازات لا تتحد إلا لكي تتحلل. يصف الرجل الفرنسي المجتمع الطيب بأنه «ما ينبغي أن يكون»، إنها ثمرة تلقائية للمواهب والمشاعر التي تتصف بها تلك الطبقة عينها التي يتوفر لديها أكبر قسط من النشاط، وتتزعم العالم في هذه الساعة، وربما كانت هذه الخلاصة بعيدة عن الطهارة، بعيدة عن أن تؤلف أبهج أنغام المشاعر الإنسانية وأعلاها، ولكنها خلاصة طيبة بالمقدار الذي يسمح به المجتمع بأسره. إنها تتألف من الروح أكثر مما تتألف من مواهب الناس، وهي نتيجة مركبة يدخل في تركيبها كل قوة عظمى، كالفضيلة، والفطنة، والجمال، والثراء، والنفوذ.

في كل الكلمات التي تُستعمل في التعبير عن الآداب الممتازة والتهذيب الاجتماعي شيءٌ من الإبهام؛ لأن الكميات دائمة التغيُّر، وتفترض الحواس أن الأثر الأخير هو الباعث الأوَّل، ولفظة «جنتلمان» ليس لها معنًى يناظرها ويعبِّر عما تقصد من صفات، وكلمة «جنتلتي» أو الكياسة لفظة وضيعة، كما أن كلمة «جَنْتِلَسْ» أو الرقة لفظةٌ بائدة. غير أنَّا يجب أن نؤكد الفرق في لغتنا العامية بين «الطراز الجديد» وهي عبارة كثيرًا ما يكون معناها ضيقًا بغيضًا، وبين صفة البطولة التي يعنيها الجنتلمان. ومهما يكن من أمر فإن الكلمات المألوفة يجب أن تُحترم؛ فسوف تجد أنها تحتوي على جذور الموضوع. والنقطة البارزة في كل هذه الطائفة من الكلمات، كالمجاملة، والفروسية، والطراز الجديد، وما إليها، هي أننا نتدبر الزهرة والثمرة، دون بذرة الشجرة. إنما هدفنا هذه المرة هو الجمال دون القيمة. وموضع السؤال الآن هو النتيجة، وإن كانت ألفاظنا تشير إشارة كافية إلى الإحساس العام بأن المظهر يفرض وجود المادة.

الجنتلمان رجلٌ صادق، سيدُ أعماله، ويعبِّر بمسلكه عن تلك السيادة، بطريقة لا تتوقف البتة على الأشخاص أو الآراء أو المِلك، ولا تسير في أثرها. وفوق هذه الصفة — صفة الصدق والقوى الحقيقية — تدل كلمة الجنتلمان على الطبيعة الطيبة والخير، والرجولة أوَّلًا ثم الرقة. ومن المؤكد أن الفكرة العامة تضيف إلى ذلك شرط اليسر والثراء، غير أن ذلك نتيجة طبيعية للقوة والمحبة الشخصية، فترى الرجال المهذبين يمتلكون ما في العالم من خير ويتصرفون فيه. كل شخص بارز يجب في أوقات الشدة أن ينتهز كثيرًا من الفرص كي يدل على ضخامته وقيمته. ومِنْ ثَمَّ فإن كل اسم من أسماء الرجال برز من بين الجماهير في عهود الإقطاع يرن في آذاننا كدق الطبول. ولا يزال هذا سائدًا اليوم، وفي الزحام الزاحف من المجتمع الكريم يُعرف الرجال البواسل الصادقون، ويرتفعون إلى مكانتهم الطبيعية. وقد تنتقل المنافسة من الحرب إلى السياسة والتجارة، غير أن القوة الشخصية سرعان ما تظهر في هذه الميادين الجديدة.

القوة أوَّلًا أو تنعدم الطبقة المتزعمة. وفي السياسة والتجارة نجد أن المقاتلين من أجل الجوائز والقراصنة أشد تبشيرًا بالنجاح من المتحدثين والكُتَّاب. ويعلم الله أن كل صنوف الرجال المهذبين يقرعون الباب، ولكن لفظة «الرجل المهذب» إذا استُعملت بدقة وجدنا أنها تشير إلى الطاقة الأصيلة. إنها تصف الرجل متمسكًا بالحق، ويعمل بوسائلَ لم يلقنه إياها أحد. إن السيد الكريم يجب أن ينطوي على حيوان كريم، على الأقل إلى الحد الذي يجعله يسفر عن مزايا الروح الحيوانية التي لا تُبارى. أمَّا الطبقة الحاكمة فيجب أن تتصف بأكثر من ذلك، ولكنها يجب أن تكون لها هذه الصفات، فيشيعون في كل جماعة الإحساس بالنفوذ، الذي ييسر أداء الأشياء التي تُفزِع الحكماء. إن مجتمع الطبقة قوية العزم في اجتماعاتها الودية البهيجة، مجتمع مليء بالشجاعة والمحاولات التي يجبن أمامها العالِم الشاحب. إن الشجاعة التي تبديها البنات أشبه بمعركة لنديزلين أو بمعركة بَحرية. إن العقل يعتمد على الذاكرة يستمد منها ما يواجه به هذه الفِرَق البحرية المرتجلة. غير أن الذاكرة كالمتسول الوضيع الذي يحمل السلة والشارة في حضرة هؤلاء السادة المفاجئين.

إن حكام المجتمع يجب أن يكونوا أكفاء لعمل الدنيا، ونظراء لواجباتهم المتنوعة: رجالًا من الطراز القيصري الصحيح، لهم علاقات بعيدة المدى. وما أبعدني عن الاعتقاد في المبدأ المتخاذل الذي يقول به لورد فوكلند، وهو: «إن الحفل يجب أن يذهب إليه اثنان؛ لأن الرجل الجريء سوف يجتاز أدق امتحان.» ومن رأيي أن الجنتلمان هو الرجل الجريء الذي لا يُهزم، ولا يسود حقًّا إلا تلك الطبيعة الغزيرة التي تُتَمِّم أي شخص تتحدث إليه. الرجل المهذب عندي يصدر القانون الذي يسير عليه. إنه يفوق القديسين صلاة في الكنائس، وقواد الجيش المستميتين في الميدان، وهو أشد إشراقًا من المتظرفين في القاعات. إنه رفيق طيب للقرصان، وهو يساير رجال العلوم، ولذا فمن العبث أن تحصِّن نفسك ضده. إنه يملك المدخل الخاص لكل العقول، وإن استطعت أن أفرَّ من نفسي استطعت أن أفرَّ منه.

كان الرجال المهذبون المعروفون في آسيا وأوروبا من هذا الطراز القوي: صلاح الدين وسابور وسيد ويوليوس قيصر وسبيو والإسكندر وبركليز وأعظم الشخصيات سلطانًا ونفوذًا، كانوا يجلسون في مقاعدهم بإهمال شديد، وكانوا في أنفسهم أعلى من أن يقيموا وزنًا لأي موقف من المواقف.

ويحسبُ الناس في حكمهم العام أن الثراءَ الطائِلَ أمرٌ لازمٌ لكمال رجُلِ الدنيا هذا، ولكنه تابع مادي يسير في حَلبةِ الرقْص التي بدأها الأوَّل؛ فالمال ليس ضروريًّا، ولكن هذه الصلات الواسعة لازمة، وهي صلات تتخطى العادات الطائفية والمذهبية، وتُرغِم الناس من جميع الطبقات على الإحساس بها. وإذا كان الرجل الأرستقراطي صالحًا في الدوائر العصرية فقط، وليس صالحًا في الأوساط العادية، فلن يكون زعيمًا من الطراز الجديد. وإذا كان الرجل من عامة الناس لا يستطيع أن يتحدث إلى «الرجل المهذب» حديث الند للند، حتى يدرك هذا الرجل المهذب أنه فعلًا من درجته، فإن هذا الأخير لن يُخشى له بأس.

كان ديوجنيس وسقراط وأبا مِنُداس رجالًا مهذبين تجري في عروقهم أطهر الدماء، وقد آثروا حالة الفقر، في حين أن حالة الثراء كانت ميسورة لهم كذلك. إنني أستخدم هذه الأسماء العتيقة، ولكن الرجال الذين أتحدث عنهم معاصرون لي. إن القدَر لا يَمن على كل جيل بواحد من هؤلاء الفرسان المبرزين، غير أن كل جماعة من الناس تقدم مثالًا من طبقتها؛ وسياسة هذا البلد، وتجارة كل مدينة، يوجهها هؤلاء العاملون الأشداء الذين لا يعبئون بالتبعات، الذين لديهم من قوة الابتكار ما يؤهلهم للقيادة، ومن سعة العطف ما يجعلهم يزاملون الجماهير، ويحبب أعمالهم إليهم.

إن أصحاب الذوق السليم يراعون ما تتجمل به هذه الطبقة من آداب، ويتمسكون بها مخلصين. واجتماع هؤلاء السادة بعضهم ببعض واجتماعهم بأناس يدركون مزاياهم محبَّب إلى الفريقَين وحافز لهما. والصورة الرائعة والعبارات السعيدة التي تصدر عن كلٍّ منهم يكررها الآخرون ويحاكونها. وفي رضًى خاطف تتلاشى النوافل وتتجدد الجلائل.

إن الآداب الرفيعة تبدو مريعة للرجل الذي لم ينل شيئًا من التهذيب. إنها علم رقيق بوسائل الدفاع لكي يدرأ المرء عن نفسه الشرور ويُدخِل في روع غيره الفزع. فإذا قابلها الطرف الآخر بما يناظرها من مهارة فإنها تفقد حدة سلاحها، فلا تكون هناك مبارزة أو لعب بالسيوف، ويجد الشاب نفسه في وسطٍ شفاف، تكون فيه الحياة لعبة هينة، ولا ينشأ بين اللاعبين أي ضربٍ من ضروب سوء التفاهم.

إن الآداب تهدف إلى تيسير الحياة، وإلى الخلاص من العقبات، وإلى تمهيد السبيل أمام المرء لكي يبذل نشاطه خالصًا من كل شائبة. إنها تُعين على ما بيننا من تعامل وحديث، كما تعين السكك الحديدية على السفر، وذلك بالتخلص من كل عقبات الطريق التي يمكن تفاديها، بحيث لا تترك لنا شيئًا نتغلب عليه سوى الفضاء المطلق. وسرعان ما تثبت هذه الصيغ، ويزداد الناس اهتمامًا بالتعود على دقة الإحساس بالصواب، حتى تصبح هذه الدقة وسامًا مميزًا اجتماعيًّا وقوميًّا. وهكذا ينشأ «الطراز الجديد»، صورة مبهمة، قوية التأثير، عجيبة، لا تأبه بشيء، يخشاها الناس ويتبعونها، وعبثًا ما تحاول الأخلاق أو العنف أن تهاجمها.

وهناك علاقة وطيدة بين طبقة المقتدرين، والفئة المصقولة المنتقاة من الناس، هذه الفئة التي تستمد من تلك الطبقة دائمًا أو تمدها. إن أقوياء الرجال عادة يتسامحون بعض الشيء حتى فيما يجدونه في الطراز الجديد من نزق، نظرًا لهذه العلاقة التي يلمسونها فيها. إن نابليون، ابن الثورة، ومحطِّم طبقة النبلاء القديمة، لم يكفَّ قط عن التودد إلى فوبور سنت جرمان، وهو يحس من غير شك أن الرجال العصريين مدينون لأمثاله من الرجال. إن طراز العصر يمثل كل فضائل الرجولة، ولو بطريقة عجيبة، وهو ثمار الفضيلة، أو هو شرف يناله صاحبه بعد الموت. إنه في كثير من الأحيان ليس من صفات العظماء، ولكنه من صفات أبنائهم، هو موئل للماضي، وهو عادة يعترض عظماء هذه الساعة. ولا يرود عظماء الرجال عادة قاعاته، بل يتخلفون في الميدان؛ فهم ما زالوا يعملون ولم يجنوا بعدُ ثمار أعمالهم. الطراز الجديد يتألف من أبنائهم، من أولئك الذين يحصلون — عن طريقِ ما لشخص آخر من قيمة أو فضيلة — على بريقٍ لأسمائهم، وعلى شارات مميزة، ووسائل للتهذيب والكرم، وعلى شيء من الصحة والوجاهة في تكوينهم الجثماني، مما يكفل لهم نفوذًا كبيرًا يستمتعون به، إن لم يكن أعظم نفوذ يعملون به. أمَّا طبقة الأقوياء، أمَّا الأبطال العاملون من أمثال كورتز ونلسن ونابليون، فإنهم يرون أن هذا هو الابتهاج أو الاحتفال الدائم بما هم عليه من صفات، ويرون أن الطراز الجديد هو ثمار المواهب، هو المكسيك ومارنجو والطرف الأغر مهزومة هزيمة منكرة، وأن الأسماء العصرية اللامعة إنما ترجع إلى أسماء عامة كأسمائهم، ظهرت منذ خمسين أو ستين عامًا. هم الزارعون، وأبناؤهم الحاصدون، وأبناؤهم — كما هو معهود — لا بد أن يسلموا ما يملكون من محصول لمنافسين جدد ذوي أعين أشد حدة وأجسام أقوى بناءً.

إن المدينة تستمد أبناءها من الريف. ويُقال إن كل ملك شرعي في أوروبا في عام ١٨٠٥م كان معتوهًا، ولولا أن المدينة كانت تتلقى المدد من الحقول لفنيت من عهد بعيد وفسدت وتفجرت. إنما هو الريف الذي قصد الحضر أوَّل من أمس، فأصبح اليوم المدينة والبلاط.

إن الأرستقراطية والعصرية نتائجُ معينة لا مفر منها. وهاتان الفئتان المتبادلتان لا ينهدمان. إذا أثارا الغضب بين أفراد أقل الطبقات امتيازًا، وانتقمت الأكثرية المبعدة لنفسها من الأقلية المستبدة، بقوة اليد، ثم قتلتها، صعدت فوق القمة في الحال طبقة جديدة، كما يطفو الزُّبد في إناء اللبن. وإذا هدم الناس طبقة بعد طبقة، حتى يبقى رجلان اثنان، أمسى أحدهما زعيمًا، وقام الآخر بخدمته ومحاكاته على غير إرادته. وقد تُبعد هذه الأقلية عن الأنظار وعن العقل، ولكنها تمسك بزمام الحياة، وهي إحدى ضياع المملكة. وأنا أشد ما أكون دهشةً لإمساكها بالزمام عندما أرى عملها. إنها تقدر إدارة صغائر الأمور حتى أنَّا لا نتوقع لحكمها بقاءً ونحن أحيانًا نقابل رجالًا متأثرين بفكرة معنوية قوية، كحركة وطنية، أو أدبية، أو دينية، ونحس أن الإحساس الخلقي يتحكم في الإنسان والطبيعة. ونحسب أن كل ميزة وكل رابطة أخرى تافهة عرضية، كالطبقة الممتازة أو الطراز الجديد مثلًا. ولكن تعالَ من عام إلى آخر، وانظر إلى ثبات ذلك في حياة المرء في بوسطن أو نيويورك، حيث لا يكون له، كذلك، أدنى طابع من قانون البلاد. إنك لن تجد في مصر أو في الهند خطًّا أثبت منه أو أشد مناعة. هنا تجد جماعات تنعقد أواصرها فوق هذا الحاجز أو تحته أو خلاله، كجمعية من التجار، أو فرقة حربية، أو فصل في الجامعة، أو معسكر حول النار، أو جماعة مهنية، أو حزب سياسي أو ديني. الأشخاص هنا يبدو كأنهم يقتربون بعضهم من بعض اقترابًا لا ينفصم. ولكن إذ ما انفض هذا الجمع، فإن أعضاءه لن يتقابلوا أثناء العام مرة أخرى. ويرجع كلٌّ منهم إلى درجته في سُلَّم المجتمع الصحيح، فيبقى الخزف خزفًا والفخار فخارًا. إن أهداف العصرية قد تكون تافهة، أو قد تكون العصرية بغير هدف، ولكن طبيعة هذا الاتحاد وهذا الامتياز لا يمكن أن تكون تافهة أو عارضة. إن مرتبة كل فرد في ذلك التدريج الكامل تتوقف على شيء من التوازن في بنائه، أو على شيء من الاتفاق بين بنائه وتوازن المجتمع. وإن أبواب المرتبة العليا لتفض قضبانها لتوها إذا أقبل عليها طالب طبيعي من نوع أبنائها. يجد الجنتلمان الطبيعي طريقه إلى الداخل، ويترك وراءه أقدم النبلاء في الخارج، ما دام قد فقد مرتبته الذاتية. إن الرجال العصريين يعرف بعضهم بعضًا. وكرام الأصل وأصحاب التفوق الشخصي من أي بلد سرعان ما يتآخون مع أمثالهم في أي بلد آخر. وقد ميَّز زعماء القبائل المتوحشة أنفسهم في لندن وباريس بطهارة أذيالهم.

وإذا ذكرنا محاسن العصرية بقدْرِ ما نستطيع قلنا إنها تقوم على الحقائق ولا تمقت شيئًا مثلما تمقت الأدعياء. إنها تبتهج لإبعاد المدعين ونعتهم بالإبهام وتفادي الاختلاط بهم إلى الأبد. ونحن بدورنا نزدري كل موهبة أخرى من مواهب رجال الدنيا هؤلاء، ولكن عادة الاعتماد في كل شيء — حتى في أصغر الأمور وأقلها شأنًا — على إحساسنا بصحة نفوسنا وحده، هو أساس الفروسية كلها. لا يكاد يكون هناك ضربٌ من ضروب الاعتماد على النفس، ما دام معقولًا متناسبًا، لا تتخذه العصرية من حين إلى حين، وتعطيه حرية صالوناتها.

إن الروح المقدسة رشيقة دائمًا، وإن شاءت، انضمت دون احتكاك إلى أقوى الحلقات سياجًا. ولكن جوك راعي الماشية كذلك يمكن أن ينضم، في أزمةٍ تأتي به إلى هذا المكان، فيلقى قبولًا حسنًا، ما دام رأسه لا يُصاب بالدوار ومن الظروف الجديدة. ولا يميل الحذاء الحديدي إلى رقص الوالتز والكوتلون؛ لأن الآداب ليس فيها شيء ثابت، وإنما يخضع قانون السلوك لنشاط الفرد. وتعتقد الفتاة عند أول ظهورها في قاعات الرقص، والفلاح عندما يتناول الغداء في المدينة، أن هناك طقوسًا ينبغي أن تُراعى عند أداء كل عمل أو النطق بأية عبارة من عبارات الثناء، وإلا أبعد الفاشل عن مكان الاجتماع. ولكنهما يتعلمان فيما بعد أن الشخصية، وحسن الإدراك، تتخذ صورتها الخاصة في كل لحظة، فتتكلم أو تكف عن الكلام، وتتناول النبيذ أو ترفضه، وتلبث أو تنصرف، وتجلس فوق المقعد أو تتمرغ مع الأطفال فوق الأرض، أو تقف على رأسها، أو تفعل شيئًا آخر، بطريقة جديدة أصيلة، وتلك الإرادة القوية هي الطراز الجديد دائمًا، وليكن من شاء غير عصري. كل ما تتطلبه العصرية رباطة الجأش، ورضى النفس. إن جماعةً من الرجال كاملة التربية تكون جماعة من الأشخاص العاقلين، تظهر فيها شخصية كل فرد وآدابه الطبيعية. وإذا كان العصري يعدم هذه الصفة فإنه لا يساوي شيئًا. إننا نحب الاعتماد على النفس إلى حدٍّ يجعلنا نتسامح في كثير من الخطايا عند الفرد إذا أظهر لنا رضاه التام عن موقفه، فلا يطلب حسن ظني أو ظن أي إنسان آخر فيه. في حين أن أي انقياد لرجل بارز أو امرأة نابهة في هذه الدنيا يضيِّع كل ميزة من مزايا النبل. إن المرء يكون حينئذٍ تابعًا، ليس لي به شأن، فسوف أتحدث إلى سيده. لا ينبغي للمرء أن يذهب إلى حيث لا يستطيع أن يصطحب دائرته أو جماعته كلها معه، يصطحب جماعة أصدقائه كلها، لا بأجسادهم ولكن بجوهم. يجب أن يحتفظ في الجماعة الجديدة بحالته العقلية وحقيقة صلاته عينها التي يعرضها عليه رفاقه كل يوم، وإلا حُرِم خير ما لديه من دعائم، وبدا يتيمًا في أشد المجتمعات مرحًا. «لو استطعت أن ترى فش إيان فوهر بذيله!» ولكن فش إيان فوهر لا بد أن يحمل خصائصه على صورةٍ ما، فإذا لم تكن شرفًا يكسبه، فهي عار يتخلص منه.

في المجتمع دائمًا أشخاص معينون هم كالكواكب المرموقة، تحدد لفتاتهم في كل لحظة لكل متطلع مراكزهم في الدنيا. هؤلاء هم أتباع صغار الآلهة. وعليك أن تقبل برودتهم دليلًا على قربهم من عظماء الآلهة، واعترف لهم بكل مزاياهم. إنهم واضحو الأهداف، ولا يمكن أن يكونوا على هذه الرهبة دون أن تكون لهم مزاياهم الخاصة. ولكن لا تقس أهمية هذه الفئة بما تزعم لنفسها، أو تتوهم أن المتحذلق يمكن أن يتصرف في الشرف والعار. إنما هؤلاء يُقدرون قدرهم الصحيح. وهل يمكن أن يكونوا غير ذلك في جماعات كأنها مكاتب أُقيمت لفحص الشخصيات فحصًا دقيقًا؟

وبما أن أول ما يتطلبه المرء من الإنسان هو الحقيقة، فإنها تظهر في كل صورة من صور المجتمع. إننا نقدم أحد الفريقَين إلى الآخر في دقة وبالاسم. وكأننا نقول: اعلم أمام الأرض والسماء جميعًا أن هذا هو أندرو وذاك هو جريجوري. إن كلًّا منهما ينظر إلى أخيه في عينَيه، ويقبض على يدَيه، كي يعرف كلٌّ منهما الآخر ويميزه. وإن ذلك لرضًى عظيم. والرجل المهذب لا يتنصل أبدًا. إن عينَيه تنظران أمامهما على خط مستقيم، وهو يؤكد للجانب الآخر — قبل كل شيء — أنه قد يستقبله؛ إذ ما الذي نبحث عنه في كثير من الزيارات وحسن الضيافة؟ هل نسأل عن ملبسك، أو صورك، أو زينتك؟ ألسنا نسأل أوَّلًا: هل كان في البيت إنسان؟ قد أستطيع أن ألج بسهولة بيتًا فخمًا، فيه كثير من المواد، ومدد فاخر للراحة والترف وحسن الذوق، ولكني برغم ذلك لا ألاقي هناك أي مضيف يجعل هذه النوافل أمورًا ثانوية. وقد ألج كوخًا وأجد فلاحًا يحس أنه الرجل الذي أتيت لأراه، ويجابهني طبقًا لذلك. ومِنْ ثَمَّ كان من الطبيعي جِدًّا في المجاملات الإقطاعية العتيقة أن الرجل المهذب الذي يستقبل زائرًا — حتى إن كان مليكه — لا يترك مسكنه، بل ينتظر ضيفه عند باب بيته. إن البيت — حتى إن كان التويلري أو الأسكوريال — لا يساوي شيئًا إن خلا من سيده. ولكنَّا مع ذلك كثيرًا ما لا نقنع بهذه الضيافة. إن كلَّ مَن نعرف يحيط نفسه ببيت جميل، وكتب قيمة، وبيوت من الزجاج للنبات، وحدائق، ومعدات، وبكل صنوف اللعب، وكلها حجب تحول بينه وبين ضيفه. ألا يبدو ذلك كأن المرء ذو طبيعة ماكرة مراوغة، ولا يخشى شيئًا مثلما يخشى لقاءً تامًّا لزميله وجهًا لوجه؟ وأنا أعلم أنه من القسوة الشديدة أن يزيل المرء بتاتًا استخدام هذه الحجب، التي تمد صاحبها بالراحة القصوى، سواء كان الضيف عظيمًا جِدًّا أو حقيرًا جِدًّا. إننا ندعو كثيرًا من الأصدقاء الذين يشغل أحدهم الآخر باللعب، أو نعمد إلى تسلية الشباب بأسباب الترف والزينة، ونحافظ على الاعتزال. إذا أتى إلى بابنا مصادفةً رجل واقعي باحث، لا يهمنا أن يرمقنا بنظراته، اندفعنا ثانية إلى الاحتجاب، وأخفينا أنفسنا كما فعل آدم عندما سمع صوت ربه في الفردوس.

كان الكردنال كابرارا، مبعوث البابا في باريس، يحمي نفسه من نظرات نابليون بنظارة ضخمة خضراء. وقد التفت إليها نابليون، وسرعان ما استطاع أن يعمل على إزالتها، ومع ذلك فإن نابليون بدوره لم تبلغ عظمته — برغم ثمانمائة ألف جندي وراءه — حدًّا يمكنه من مجابهة عينَين متحررتَين منذ وُلدتا، بل كان يقي نفسه بالمجاملات، وفي حواجز مثلثة من التحفظ، وقد تعوَّد — كما يعرف العالم كله من مدام دي ستيل — حينما كان يجد نفسه ملحوظًا أن يعفي وجهه من كل تعبير. غير أن الأباطرة والأثرياء ليسوا بأية حالة أمهر أساتذة الآداب الطيبة.

إن قوائم الإيجار ومراتب الجيش لا تبعث الكرامة في رجلٍ يواري ويتوارى. وأهم وجه من وجوه المجاملة يجب أن يكون الصدق دائمًا كما تشير إلى ذلك حقًّا كل صورة من صور التربية الصحيحة.

كنت أقرأ منذ عهد قريب، في ترجمة المستر هازلت، قصة مونتيني لرحلته في إيطاليا، ولم أُعجب لشيء قط عجبي لطُرُز ذلك العصر التي تحترم ذاتها. كان وصوله إلى كل مكان، وصول الرجل المهذب الفرنسي، حدثًا له نتائجه؛ فقد كان حيثما حل يقوم بزيارة لأي أمير أو رجل مهذب له وجاهته يقطن في طريقه، كواجب نحو نفسه ونحو المدينة. وعندما يترك بيتًا أقام فيه بضعة أسابيع كان يطلب أن تُطلى أسلحته وتُعلق كعلامة دائمة لهذا البيت، كما كانت عادة الرجال المهذبين.

وإنما تُتَمِّم الكرامة هذا الاحترام الجليل للنفس، وهو أشد ما أتطلب وأصر عليه من بين جميع صفات التربية الحسنة. وإني لأحب أن يكون كل كرسي عرشًا فوقه مِلك، وأوثر المَيل إلى العظمة على المبالغة في الزمالة. وليعلمنا الاستقلالَ ما في الطبيعة من أشياء لا يمكن بلوغها وما لدى الإنسان من عزلة ميتافيزيقية. لا أحب أن يُعرف الواحد مِنَّا معرفة وثيقة.

وخير للرجل عندي أن يدخل بيته خلال قاعة مليئة بتماثيل الأبطال والقديسين، كي لا تنقصه لمحة من رباطة الجأش واتزان النفس.

يجب أن نلتقي كل صباح كأن كلًّا منَّا من بلد أجنبي، وبعدما نقضي نهارنا معًا، نفترق في المساء كأن كلًّا مِنَّا راحل إلى بلد غريب. أحب ألا تُغزى جزيرة المرء من أية ناحية من النواحي. ولنجلس متباعدين كالآلهة، يتكلم كلٌّ مِنَّا من فوق قمته، وكلنا حول أولمب. ولا ينبغي أن تضعف هذه السنة أية درجة من درجات المحبة. إنما ذلك هو المر وحصا البان الذي يحفظ غيره حُلوًا. وعلى العاشق أن يحتفظ بغرابته. فإذا ما بالغ العشاق في التهاون، انزلق كل شيء نحو الاضطراب والوضاعة. ومن اليسير أن ندفع هذه الكرامة إلى حد المجاملات الصينية، بَيْدَ أن البرودة وانعدام الحرارة والعجلة كلها من دلائل الصفات الطيبة. إن الرجل المهذب لا يُحْدِث ضجة، والسيدة الكريمة تتصف بالرزانة. إن أولئك الغزاة الذين يملئون البيت المنهمك في العمل بالصياح والعدْو كي يظفروا بالقليل التافه من أسباب الراحة إنما يُقابَلون مِنَّا بما يلائم مسلكهم من تأفف. ولست أقل كرهًا للعطف الشديد الذي يبديه الجار إزاء حاجات جاره. هل لا بد لكلٍّ مِنَّا أن يدرك ذوق صاحبه تمام الإدراك؟ كما يدرك الغافلون الذين طالت عِشرة بعضهم لبعض متى يريد كلٌّ منهم السكر أو الملح. وإني لأرجو رفيقي إن أراد خبزًا، وإن أراد نبات الغار أو الزرنيخ أن يطلبهما مني، ولا يمد طبقه إليَّ كأني أعرف من قبلُ ما يطلب. كل عمل طبيعي يمكن بالتروي والعزلة أن يكون كريمًا. ولنتخلَّ عن العجلة للعبيد. إن مزايا تربيتنا وقيمتنا، تستدعي عظمة مصيرنا مهما بَعُدَ هذا المصير!

إن زهرة المجاملة لا تحتمل كثرة التقليب بين أيدينا. ولكنا إذا جرؤنا على فتح ورقة أخرى واكتشفنا من أي الأجزاء تتألف وجدنا كذلك صفة ذهنية. إن الذهن — كاللحم والقلب — لا بد أن يكون جانبًا من جوانب قادة الرجال. والنقص في الآداب هو عادةً نقص في دقة الإدراك، والناس في تكوينهم أشد غلظة من رقة السلوك والعادات الجميلة. إن اتحاد الشفقة بالاستقلال لا يكفي التربية الصحيحة تمامًا. إنما نحن نتطلب حتمًا إدراكًا للجمال في رفاقنا وولاء له. إن الفضائل الأخرى مطلوبة في الحقل وفي ميدان العمل، ولكن درجة معينة من الذوق لا يُستغنى عنها عند أولئك الذين يجالسوننا. وإني لأوثر أن أتناول طعامي مع رجل لا يحترم الحق أو القانون على أن أتناوله مع شخص سيئ البزة قبيح الهندام. إن الصفات المعنوية تحكم العالم، ولكن الحواس تستبد بنا في المسافات القصيرة. وإنك لتجد في جميع نواحي الحياة هذا التمييز عينه لكلِّ ما هو لائق وجميل، وإن يكن أقل عنفًا وشدةً. إن الروح العامة بين أفراد الطبقة الناشطة هي الحس المرهف الذي يتأثر بحدود معينة ويهدف إلى أغراض معينة. وهو يضم كل موهبة طبيعية. ولما كان هذا الحس اجتماعيًّا في طبيعته فإنه يقدِّر كلَّ ما يؤدي إلى الوحدة بين الناس، وهو يبتهج للقياس الصحيح. وليس حب الجمال في أساسه سوى حب القياس أو التناسب الصحيح. إن الشخص الذي يصيح، أو الذي يستعمل صيغة المبالغة، أو يتحدث في حرارة، ينفِّر منه رواد الصالونات جميعًا. إن أردت أن تحب أحب القياس الصحيح. وإن أردت أن تخفي عجزك عن القياس الصحيح فلا بد أن تكون نابغًا أو ذا نفع عظيم. إن هذا الإدراك إنما يصقل أجزاء الأداة الاجتماعية ويؤدي بها إلى الكمال. إن الجماعة تتسامح كثيرًا مع النابغين وأصحاب المواهب الخاصة. ولكن لما كانت بطبيعتها تقليدية فإنها تحب التقليد، أو ما يتعلق بالتضامن. وذلك هو ما يخلق الطيب والخبيث من الآداب، أعني ما يعين على الزمالة أو يعوقها؛ لأن النمط الجديد ليس هو الحس المرهف مطلقًا، ولكنه حس نسبي، ليس حسًّا مرهفًا خاصًّا، ولكنه حس مرهف يدخل في حسابه الرفاق. إنه يمقت الزوايا وصفات الشخصية البارزة، يمقت الأشخاص المشاغبين المحبين لأنفسهم المنعزلين المكتئبين، يمقت كلَّ ما يعوق الامتزاج الشامل بين فريق وآخر، في حين أنه يعتبر كل الصفات التي تتفق والزمالة الصحيحة صفات يانعة إلى أقصى الحدود. وإلى جانب شيوع النكتة في الحديث لتوكيد المجاملة، فإن السناء المباشر يشع من القوى الذهنية أمر يرحِّب به المجتمع الرقيق ويَعُده أغلى صفة من صفات سلطانه وامتيازه.

يجب أن يشرق في حفلنا الضوء الجاف لكي يجمِّله، ولكنه يجب أن يُخفف وأن يُظلل، وإلا أساء إلينا. الدقة لازمة للجمال، والإدراك السريع لازم للأدب، ولكنه لا ينبغي أن يكون سريعًا جِدًّا؛ فالمرء قد يكون مواظبًا ودقيقًا أكثر مما ينبغي. ويجب عليه عندما يُقبِل على قصر الجمال أن يتخلى عند مدخله عن العلم التام بالأعمال.

إن المجتمع يحب الطبائع المهجنة، والآداب الناعسة المتراخية، بحيث تنطوي على الإحساس، والجلال، والنية الحسنة: جو القوة المسترخية التي تنزع عن النقد السلاح، وربما كان ذلك؛ لأن مثل هذا الشخص يبدو كأنه يحتفظ بنفسه لخير أدوار المباراة، ولا يبذل ذاته فوق السطوح، إنه كالعين المتغافلة، التي لا ترى أسباب الضيق، والحيل، والقلق، مما يجلب الغم، ويكبت صوت كل امرئ حساس.

ولذا فإن المجتمع — فوق القوة الشخصية وقدْر من الإدراك يكفي لخلق الذوق الذي لا يخطئ — يتطلب في الطبقة الأصيلة عنصرًا آخرَ أشرنا إليه من قبل، عنصرًا تُطلق عليه «الطبيعة الطيبة» وهي تسمية لها دلالتها، وهي تعبِّر عن كل درجة من درجات الكرم، من أدنى رغبةٍ وقدرةٍ على صُنْع الجميل، إلى قمم النخوة والمحبة. ولا بد أن تتوفر لدينا البصيرة، وإلا عارض أحدنا الآخر، وضللنا الطريق إلى طعامنا، ولكن الذهن ضحل محب لذاته.

إن سرَّ النجاح في المجتمع إحساس قلبي معين ونوع من العطف. إن الرجل الذي لا يسعد بالرفاق لا يستطيع أن يجد كلمة في ذاكرته تلائم المناسبة. كل ما لديه من معرفة فيه شيء من الفظاظة. أمَّا الرجل الذي يسعد في الجماعة فإنه يجد في كل لون من ألوان الحديث فرصًا طيبة متكافئة تقدِّم لما يريد أن يقول. إن المفضلين في المجتمع ومن يسميهم المجتمع «النفوسَ الكاملة» رجالٌ قادرون، لديهم من الروح أكثر مما لديهم من الفطنة، تُعْوِزهم الأنانية البغيضة، ولكنهم يملئون الساعة والجماعة تمامًا، قانعين مُقْنعين، سواء في زفاف أو مأتم، في مرقص أو محكمة، في رحلة مائية أو مباراة في الصيد. وقد أخرجت إنجلترا، الغنية بالرجال المهذبين، في بداية هذا القرن، مثالًا طيِّبًا لهذا النبوغ الذي تحبه الدنيا، وذلك في شخص المستر فوكس، الذي ضم إلى جانب قدراته الفائقة ميلًا اجتماعيًّا شديدًا، ومحبة حقيقية للناس. وليس في تاريخ المجالس النيابية أقوال أروع مما جاء في المناقشة التي افترق فيها بَرْك عن فوكس في مجلس العموم، حينما ناشد فوكس صديقه القديم حق الصداقة القديمة في شيء من اللطف استدرَّ دموع النواب جميعًا. وهناك حادثة أخرى وثيقة الصلة بموضوعي ولا بد لي أن أخاطر بروايتها: كان هناك تاجر يلح عليه كثيرًا في طلب دَين له عليه مقداره ثلاثمائة جنيه، وقد ألفاه ذات يوم يَعُد ذهبًا، فطلب إليه أن يدفع الدَّين، فأجابه فوكس قائلًا: «كلا، إني مَدين بهذا المال لشريدان، وهو دَين وعدتُ أداءه بكلمة الشرف، فإن وقع لي حادث فلن يجد لديَّ ما يبرره.» قال الدائن: «إذن فإني أحوِّل دَيني إلى دَين شريف.» ومزق الصك إربًا إربًا. فشكر فوكس الرجل على ثقته وأدى له دينه قائلًا: «إن دينه قديم، وعلى شريدان أن ينتظر.» وكان يتمتع بسمعة طيبة جِدًّا بين الجماهير، كمحب للحرية، وصديق للهندوس، ونصير لرقيق أفريقيا. وقد قال عنه نابليون بمناسبة زيارته باريس في عام ١٨٠٥م: «إن مستر فوكس سوف يمثل الصدارة دائمًا في أي اجتماع بالتويلري.»

ومن اليسير أن نبدو مضحكين في إطرائنا على المجاملة، كلما أصررنا على أن فعل الخير هو أساسها. إن الصورة الوهمية الملونة للطراز الحديث ترتفع لكي تُلقي ضربًا من ضروب السخرية على ما نقول. ولكني لن أنزل عن شيء من التسامح لاعتبار الطراز العصري أساسًا رمزيًّا، ولن أنزل كذلك عن الاعتقاد بأن المحبة هي أساس المجاملات. يجب علينا أن نحصل على «هذا» إن استطعنا، كما يجب علينا أن نؤكد «ذاك» بأية وسيلة من الوسائل. إن الحياة تَدين بالكثير من روحها لهذا التباين الشديد؛ فالطراز العصري الذي يزعم أنه الشرف ليس في أكثر الأحيان في خبرة الناس جميعًا سوى قانون صالة الرقص، ولكن ما دام ذلك هو أعلى الدوائر، كما تتصور خير الرءوس في هذا الكوكب، فلا بد أن يكون فيه شيء ضروري وفائق؛ لأننا لا يصح أن نفترض أن الناس قد اتفقوا على أن يكونوا مخدوعين لأي شيء سخيف، والاحترام الذي توحي به هذه الألغاز إلى أشد الشخصيات غلظة وسذاجة، والشغف الذي نقرأ به تفصيلات الحياة الرفيعة، كل ذلك يدل على حب الآداب المهذبة في كل مكان. وأنا أعلم أننا نحس مفارقة مضحكة إذا ولجنا «الدوائر العليا» المعترف بها، وطبقنا هذه المعايير المزعجة، معايير العدالة والجمال والمنفعة، على الأفراد الموجودين هناك فعلًا؛ فالملوك والأبطال، والحكماء والعاشقون، هؤلاء ليسوا قومًا شُهمًا. للطراز العصري طبقات متعددة وقواعد كثيرة للتمرين والانتساب، وهو لا يضم الأخيار وحدهم. لا يُشترط حق الغزو فقط، الذي يزعم النوابغ — وإنما الفرد الذي يُظهِر أرستقراطيته الطبيعية يكون من خيار الخيار — بل إن هناك صفاتٍ أقل من هذه يمكن قبولها في الوقت الحاضر؛ لأن الطراز الحديث يحب الأُسْد، ويشير — مثل كيرشي الساحرة — إلى رفيقها ذي القرنَين. هذا الرجل المهذَّب وصل هذا المساء من الدنمارك، وهذا سيدي رايد عاد بالأمس من بغداد، وهنا كابتن فريزر من رأس تيرناجين، وكابتن سِمْز من باطن الأرض، ومسيو جوفير الذي هبط هذا الصباح في بالون، ومستر هبنيل المصلح، والمقدس جول بات الذي آمن على يدَيه كل أبناء المنطقة الحارة في مدرسة الأحد التي يملكها، وسنيور تور دل جريكو الذي أطفأ نيران فيزوف بمياه خليج نابلي التي صبَّها فيه، وسافي السفير الفارسي، وتُل وِلْ شان، أمير نبول المنفي من بلاده، الذي يُعد سرجه الطراز الجديد. غير أن هؤلاء أشخاص يبرزون في يوم، ويُردُّون في غد إلى جحورهم وكهوفهم؛ لأن كل مقعد في هذه الحجرات له من يترقبه. إن الفنان والعالم ومن إلى هؤلاء عامة يصعد إلى هذه الأمكنة، ويُمثَّل هنا، على أساس هذا الغزو إلى حدٍّ ما. وثمت طريقة أخرى، وهي أن يمر المرء خلال جميع الدرجات، وينفق عامًا ويومًا في ميدان سنت ميشيل، مغمورًا في مياه كولونيا، معطرًا، متناولًا عشاءه، ومُقدَّمًا إلى المجتمع، ومؤسسًا تأسيسًا صحيحًا في سِيَر السيدات وسياستهن ونوادرهن.

ومع ذلك فهذه الزخارف قد يكون لها جلالها وحصافتها. ولتكن هناك تماثيل تُثير الضحك عند مداخل المعابد وأبهائها، بل ليكن للمذاهب والوصايا العشر الهزل الذي يحاكيها ويخضع لها ولو في سفاهة ووقاحة. إن صيغ الأدب تعبِّر في كل مكان عن فعل الخير بدرجةٍ شديدة المبالغة. ألا يمكن أن تكون في أفواه المحبين لذواتهم، الذين يستخدمونها وسائل لأنانيتهم؟ وهلا يمكن أن يُخرج الجنتلمان الكاذب أخاه الصادق من الدنيا؟ هلا يمكن أن يحاول الجنتلمان الكاذب أن يخاطب زميله في لباقة يستبعد بها كلَّ مَن عداه من محيط حديثه، ويجعلهم يشعرون كذلك بالاستبعاد؟ إن الخدمة الحقيقية لا تفقد نبلها. ليس كل الكرم فرنسيًّا وهوائيًّا فحسب، ولا يصح أن يخفى أن الدم الحي وعاطفة الشفقة تميز في النهاية بين الجنتلمان الرباني والجنتلمان المصطنع. إن العبارة المكتوبة على قبر سر جنكن جروت ليست غامضة كل الغموض لأبناء العصر الحديث وهي: «هنا يرقد سر جنكن جروت الذي أحب صديقه وأغرى عدوَّه. ما طَعِمَه فمُه دفعتْ ثمنَه يدُه، وما اغتصبه خدمُه ردَّه. إذا أمتعته امرأة أعانها في الألم. لم ينسَ أطفاله قط، ومَن مسَّ أصبعه جرَّ وراءه جسدَه كلَّه.» وحتى سلالة الأبطال لم تنقرض تمامًا. ما زال هناك شخص يدعو إلى الإعجاب في ثياب عادية، يقف على المرفأ، ويقفز إلى الماء لإنقاذ رجل غريق. ما زال هناك رجل يفتعل الأسباب لدفع الصدقات. هناك مَن يرشد ومن يعزي العبيد الآبقين. هناك من يحب بولندا، ومن يحب اليونان. هناك المتحمس الذي يزرع الشجر ليظلل الجيل الثاني والثالث من بعده، ومن يزرع بساتين الفاكهة في شيخوخته. هناك الوَرَع المختفي تمامًا. هناك الرجل العادل ذو السمعة السيئة، والشاب الذي يخجل من فضائل الثراء. فيلقي بها جَزِعًا على عواتق الآخرين. هؤلاء هم مراكز المجتمع، التي يدور عليها ليجد البواعث الجديدة. هؤلاء هم خالقو الطراز العصري، وهو محاولة لتنظيم جمال السلوك. إن الجميل والكريم كلاهما نظريًّا من رجال الكنيسة ورسلها. هم سبيو وسيد وسر فيليب سدني وواشنجطن وكل قلب نقي باسل ممن قدَّس الجمال قولًا وعملًا.

إن الأشخاص الذين تتألف منهم الأرستقراطية الطبيعية لا يوجدون في الأرستقراطية الواقعية، أو هم حافتها فقط، شأنهم في ذلك شأن الطاقة الكيماوية للطيف الضوئي تكون على أشدها خارج الطيف قليلًا. ومع ذلك فإن كبار الحُجَّاب لا يعرفون مليكهم عندما يظهر لما في نفوسهم من خور. إن نظرية المجتمع تفترض وجود هؤلاء كما تفترض سلطانهم. إنها تتكهن بمقدمهم من بعيد، وهي تنشد مع الآلهة القدامى:

كما أن السماء والأرض يفوقان جمالًا
الهَيولَى والظلام المطلق، ومنهما انبعثا،
وكما نفوق هذه السماء وتلك الأرض تماسكًا وجمالًا
من حيث الشكل والصورة،
فكذلك يأتي في إثرنا كمال جديد،
قوةٌ، أشد جمالًا، وقد تولدت عَنَّا،
وقُدِّر لها أن تَبُزنا نورًا
كما نَبُز ذلك الظلام القديم جلالًا،
ذلك هو القانون الأبدي،
ما بَزَّ جمالًا بَزَّ نفوذًا.

ومِنْ ثَمَّ فإن في داخل دائرة المجتمع الطيب التي تقوم على أساس السلالات دائرةً أضيق وأعلى، هي ضوءُها المركَّز، وهي زهرة المجاملات، تتم دائمًا في مخبرها عن الكرامة والأصالة، كأنها الصفوة الممتازة التي لا تنال، أولئك هم النواب الذين يمثلون المحبة والشهامة. وإنك لواجد ذلك كله في أولئك الذين يكون المَيل إلى البطولة فيهم أمرًا طبعيًّا، الذين يحبون الجمال، ويبتهجون للرفاق، ويقدرون على زبرجة الساعة الراهنة. إذا استعرضنا اليوم الأفراد الذين تتألف منهم أنقى دوائر الأرستقراطية في أوروبا، أصحاب الدماء التي صانتها القرون، على صورة تمكننا من فحص مسلكهم، ناقدين أحرارًا، فقد لا نجد رجلًا مهذَّبًا أو امرأة مهذبة؛ لأنهم قد يكونون أنماطًا ممتازةً في الكياسة وحسن التربية، نرضى عنهم جماعات، إلا أنَّا نكشف عن سوءاتهم فرادى؛ لأن الرشاقة لا تأتي بالتربية، وإنما تأتي بالطبيعة.

لا بد أن يكون للشخصية رونقها، وإلا فلا جدوى من استبعاد النقائص مهما دقَّ هذا الاستبعاد. إنما تتجه العبقرية هذا الاتجاه، ولا يكفي أن يكون الرجل كيِّسًا، إنما ينبغي أن يكون الكياسة عينها. والسلوك الرفيع نادر في القصص الخيالية ندرته في الواقع. إنما يُحْمَد لسكُت الإخلاصُ الذي صوَّر به مسلكَ الطبقات العليا وأحاديثها. وليس من شك في أن الملوك والملكات، والنبلاء وكرائم السيدات، كان لهم بعض الحق في الشكوى من سخف الكلام الذي نُسب إليهم قوله قبل أيام ويفرلي، بَيْدَ أن محاورات سكت لا تحتمل النقد كذلك. كان اللوردات في قصصه يجرؤ أحدهم على الآخر في أحاديثه المقتضبة الحازمة، ولكن الحوار ينساق في أسلوب عادي، ولا يَسُرُّ إذا قُرِئَ للمرة الثانية، إنه لا ينبض بحرارة الحياة. عند شكسبير وحده لا نرى المتكلمين يتبخترون زهوًا أو يتشامخون، والحوار عظيم في سهولة، وهو يضم إلى الألقاب الكثيرة لقب أحسن الناس تربيةً في إنجلترا وفي العالم المسيحي. إن الفرد لا يجد في حياته إلا مرة أو مرتَين فرصةَ التمتُّع بسحر الآداب النبيلة في حضرة رجل أو امرأة لا يقف أمام طبيعتهما حاجز، ولكن شخصيتَيهما تُعبِّران عن نفسهما بحرية في الكلمات والحركات. إن القوام الجميل أحسن من الوجه الجميل، والسلوك الجميل أحسن من القوام الجميل. إنه يعطينا متعةً أعظم من التماثيل والصور، إنه أجمل ما في الفنون الجميلة. ليس الرجل إلا شيئًا صغيرًا وسطَ ما في الطبيعة من أشياء، ولكنه بالصفة المعنوية التي تشع من طلعته يستطيع أن يهدم كل اعتبار من اعتبارات العظمة، ويستطيع بآدابه أن يضارع جلال الدنيا.

رأيت رجلًا آدابه تدخل كلها في نطاق تقاليد الطبقة الرفيعة، ولكنه — برغم ذلك — لم يتعلَّمها هناك، وإنما كانت آدابه أصيلة متسلطة، تتصف بالوقاية والنجاح. إنه رجل لم يكن بحاجة إلى معونة زي البلاط، ولكنه يشع جلال التقديس من عينَيه. لقد أبهج الخيال لأنه فتح أبواب الوسائل الجديدة للعيش على مصاريعها، ونفض عن نفسه أسر الرسميات في آداب المعاشرة، بمسلكه الموفق القوي، وطبيعته الطيبة، وحريته التي يحاكي بها حرية روبن هود. ومع ذلك فطلعته طلعة الملوك، وإن اقتضت الضرورة فهو هادئ رزين قادر على أن يقاوم تحديق الملايين.

الهواء الطلق والحقول، والشارع والقاعات العامة هي الأماكن التي ينفِّذ فيها الرجل إرادته. وعليه أن يسلم الصولجان أو يقتسمه عند باب البيت. والمرأة بغريزة سلوكها سرعان ما تكشف في الرجل حب التوافه، وأي برودة أو غباء، أو — في عبارة موجزة — أي نقص في ذلك السلوك الطبيعي الكريم الذي لا يستغني المرء عن التحلي به في الصالون. وقد توددت إلى المرأة نظمنا الأمريكية، وفي هذه اللحظة، أعد تفوق النساء في هذا البلد ميزة كبرى. إن نوعًا من الإحساس الشاذ عند الرجال بنقصهم قد ينشأ عنه ضرب من ضروب الشهامة الجديدة التي تدافع عن «حقوق المرأة». إن المرأة قد تتحسن مكانتها قطعًا في القوانين وفي الأوضاع الاجتماعية، ولكني أثق كل الثقة في طبيعتها الملهِمة الموسيقية، حتى إني لأعتقد أنها هي وحدها التي تستطيع أن ترينا كيف تُقدَّم لها الخدمات. إن كرمها العجيب في عواطفها ينقلها أحيانًا إلى مناطق البطولة والألوهية. ويحقق صور منرفا أو جونو أو بولمنيا. وإنها لتقنع أغلظ الحاسبين بأن هناك طريقًا آخر غير الطريق الذي تطؤه أقدامهم، وذلك بالثبات الذي ترتقي طريقها به. ولكن إلى جوار أولئك اللائي يحلين في خيالنا مكانة إلهات الشعر وكاهنات دلفي، أليس هناك من النسوة من يملأن كئوسنا ومزاهرنا بالخمر والورد حتى حافاتها، فيجري الخمر أنهارًا ويمتلئ البيت بالعطور، ومن يلهمنا حسن المعاشرة، ومن يفككن عقدة في ألسنتنا فننطق بها، ويكملن أعيننا فنرى بها؟

إننا نقول عبارات ما كُنَّا نحلم بالتفوه بها؛ لأن جدرانَ تحفُّظِنا الذي ألِفناه تنهار لأول مرة وتتركنا أحرارًا. كُنَّا أطفالًا نلعب مع أطفال في حقل من الزهور فسيح. ثم صحنا: اغمرونا بهذه المؤثرات أيَّامًا وأسابيع نصبح شعراء لامعين، ونكتب القصص الخيالية — التي تتمثل فيكن — في كلمات متنوعة الألوان. هل هو حافظ أو الفردوسي الذي قال عن ليلاه الفارسية إنها كانت قوة من قوى الطبيعة الأصيلة وأذهلتني بمقدار ما عندها من حياة عندما شهدتها تشع يومًا بعد يوم — في كل لحظة — فرحًا زائدًا وجلالًا فائقًا على كل مَن كان حولها؟ لقد كانت عنصرًا من عناصر التحليل يوفِّق بين كل الأشخاص المتنافرين في مجتمع واحد، عنصرًا — كالماء أو الهواء — له من بعد الصلات ما يجعله يتحد فورًا بآلاف المواد. إذا حضرت ارتفع كلُّ مَن عداها عما كان عليه. كانت وحدة وكانت كلًّا، حتى إن كل ما فعلت كان يلائمها. كان عطفها ورغبتها في إدخال السرور على غيرها أشد مما تستطيع التعبير عنه، وكانت آدابها تتميز بالكرامة، ومع ذلك فلم تستطع أن تتفوق عليها أميرة في مسلكها الواضح المستقيم في أية مناسبة من المناسبات. لم تتعلم قواعد اللغة الفارسية ولا قصائد المعلقات السبع، ولكن لكأن المعلقات السبع كلها قد نُظمت فيها. لم تكن بطبيعتها تميل إلى التفكير، وإنما تميل إلى العطف، ولكنها برغم ذلك قد بلغت في طبيعتها حدًّا من الكمال يمكنها من مقابلة رجال الفكر بقلبها المليء، فتدفئهم بعواطفها، مؤمنة بأن معاملها النبيلة للجميع، سوف تجعل الجميع يبدو نبيلًا.

وأنا أعلم أن هذه الكومة البيزنطية من صفات الشهامة والعصرية، التي تبدو جميلة رائعة لأولئك الذين ينظرون إلى الحقائق المعاصرة باحثين عن العلم أو التسلية، أعلم أن هذه الصفات لا تسر الناظرين إليها بدرجة واحدة. إن تكوين مجتمعنا يجعلها قلعة عملاق للشباب الطموح الذين لم يجدوا أسماءهم مدونة في كتابها الذهبي، والذين أبعدتهم عن مزاياها وألقابها الشرفية المشتهاة. إن هذا الشباب لم يدرك بعدُ أن فخامتها الظاهرية نسبية غامضة. إنها عظيمة لأنهم متسامحون، وإن أشد أبوابها فخامة لينفتح فورًا إذا اقتربت منها شجاعتهم وفضائلهم. وعلى أية حال فإن هناك دواءً ميسورًا يشفي من الألم الحالي أولئك الذين يعانون من قسوة هذه الصفة المميزة.

إن البعد بالمسكن ميلَين أو أربعة على الأكثر يخفِّف عادةً أقصى ضروب الحساسية؛ لأن المزايا التي يقدرها العصريون نباتات تزهر في موضع محلي جد محدود، وخاصة في شوارع معدودة. فإذا بعدت عن هذه البيئة أصبحت عديمة القيمة، فهي لا تفيد في الحقل، أو الغابة، أو السوق، أو الحرب، أو الحياة الزوجية، أو في الدوائر الأدبية والعلمية، أو في البحر، أو الصداقة، أو في سماء الفكر والفضيلة.

ولكنَّا تلكأنا طويلًا في هذه الدور المزخرفة. إن قيمة الشيء الذي ترمز له لا بد أن تبرر لنا استساغة الرمز. إن كل ما نسميه بالعصري أو المجاملة يخضع أمام مبعث الشرف ومنبعه، وخالق الألقاب والكرامات، أقصد قلب الحب. هذا هو الدم الملكي، وهو النار التي تترك أثرها في جميع البلدان وفي كل المناسبات، وتغزو كلَّ ما يقترب منها وتمدده. وهو الذي يُكسب كل واقعة معانيَ جديدة. إنه يفقر الغني؛ لأنه لا يحتمل عظمة غير عظمته. ما معنى الغنى؟ هل يكفي غناك أن تعين إنسانًا ما؟ وأن تساعد العامة من الناس وشواذهم؟ هل يكفي غناك أن تجعل الكَنَدي في عربته، والمتجول الذي يحمل توصية من قنصله «لكل محسن»، والإيطالي الأسمر بكلماته الإنجليزية القليلة المتعثرة، والسائل الأعرج الذي يطارده المراقبون من بلد إلى بلد، بل والأبله الفقير أو الرجل المخبول المحطَّم أو المرأة المسلوبة العقل المتهدمة، هل يكفي غناك أن يجعل أمثال هؤلاء يحسون أن وجودك وبيتك استثناء نبيل من الزمهرير السائد والتحجُّر المنتشر. وأن يجعل أمثال هؤلاء يحسون أنهم يتلقون التحية منك بصوتٍ يدفعهم إلى تذكر الماضي والأمل في المستقبل؟

إنما الانحطاط أن ترفض الطلب بسبب الحواجز والموانع، وليس السمو إلا أن تسمح به، وأن تحرر قلبهم وقلبك يومًا من الحذر القومي. إنما الثري متسول دنيء إذا لم يكن له قلب غني. كما أن مَلِك شيراز لم يستطع أن يسخو كما سخا عثمان الفقير الذي كان يسكن عند بابه. كانت لعثمان إنسانية واسعة عميقة. ومع أن كلامه عن القرآن كانت فيه جرأة، وكان فيه حرية اشمأز لها الدراويش، إلا أن كل منبوذ فقير، وكل شاذ أو أبله أو معتوه قص لحيته أو فقد طرفًا من أطرافه تنفيذًا لعهد أو كان في رأسه مس من جنون، كل هؤلاء كانوا يُهرعون إليه — فذلك القلب العظيم كان يستلقي هناك وسط البلاد مشمسًا جوادًا — وكأن غريزة كل مكابد تجذبه إلى جواره، ولكنه لم يقتبس شيئًا من الجنون الذي كان يأويه. أليس هذا غِنًى؟ إنما هذا وحده هو الثراء الحق.

ولا يؤلمني أن أسمع أني لا أحسن القيام بدور جليس الأمير، وأني أتكلم عن أمورٍ لا أحسن فهمها. ومن اليسير أن ترى أن ما نطلق عليه الامتياز، من مجتمع وذوق عصري، له قوانينه الطيبة كما أن له قوانينه السيئة، وفيه كثير مما يلزم وكثير مما لا يلزم، فهو أحسن من أن نبعده، وأسوأ من أن نباركه. وهو يذكرنا بتقليدٍ معروف في الأساطير الوثنية كلما حاولنا أن نحدد صفته. قال سبلينس: «استمعت إلى جوف ذات يوم وهو يتحدث عن تحطيم الأرض. قال إنها قد هوت؛ فالناس جميعًا سفلة أوغاد يسيرون من سيئ إلى أسوأ كلما توالت الأيام.»

وقالت منيرفا: «إنها لا تظن ذلك؛ فليس الناس سوى مخلوقات صغيرة مضحكة، تتميز بهذه الصفة العجيبة، وهي أن فيها شيئًا من الإبهام، وأن لها وجهًا غير محدود، يتوقف على نظرك إليه من بعيد أو من قريب. إن قلت إنهم خبثاء ظهروا كذلك، وإن قلت إنهم طيبون بدَوا كذلك. وليس بينهم شخص واحد أو عمل واحد لا يحيِّر بومَها — بل ويحيِّر أولمبس كله أكثر مما يحيِّره — فلا يعرف إن كان طيبًا أو خبيثًا في أساسه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤