الحب

كنت كنزًا مخفيًّا، فأردت أن أُعرَف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني.

(حديث قدسي)١

كل وعد من وعود الروح يمكن أن يُوفى على صور لا تُعد. وكل شوق من أشواقها يتطور إلى حاجة جديدة. والطبيعة التي لا يحتويها شيء، المتدفقة، المتطلعة، تودع فعلًا في عاطفة الشفقة الأولى حُبًّا شاملًا للخير يهمل كل الاعتبارات التفصيلية في ضوئه العام. والمدخل إلى هذا الإحساس السعيد إنما يكون بالعلاقة الخاصة الرقيقة بين فرد وفرد. هذه العلاقة هي سحر الحياة البشرية، وهي — كالفورة أو الحماسة الإلهية — تستولي على المرء في فترةٍ ما، وتؤجج ثورة في عقله وجسمه، وتوحِّد بينه وبين جنسه، وتربطه بصِلاته البيتية والمدنية، وتحمله بعطف جديد إلى الطبيعة، وتعزز قوى الحواس وتفتح الخيال، وتضيف إلى شخصيته صفات البطولة والتقديس، وتؤسس الزواج، وتعطي الجماعة الإنسانية صفة الدوام.

يظهر أن العلاقة الطبيعية بين عاطفة الحب وفورة الشباب تستلزم ألا يهرم المرء حتى يمكنه أن يصوِّر هذه العاطفة بألوان حية يعترف كل فتًى وفتاة أنها تعبِّر تعبيرًا صادقًا عن تجارب قلوبهم النابضة. إن خيالات الشباب المعذبة تنبذ أدنى شيء يفوح برائحة الفلسفة الناضجة؛ لأنه يصيب ازدهارهم البهيج ببرودة الشيخوخة والحذلقة؛ ولذا فأنا أعلم أني أجلب لنفسي تهمة الجمود والتزمت اللذين لا ضرورة لهما من جانب أولئك الذين يؤلفون برلمان الحب وبلاطه. ولكني أشكو إلى مَن يكبرونني هؤلاء الرقباء الأشداء؛ لأننا يجب أن نذكر أن هذه العاطفة التي نتحدث عنها لا تهجر الشيوخ وإن بدأت مع الشباب، أو على الأصح إنها لا ترضى لمن يخلص في خدمتها أن يشيخ، وإنما تجعل المسنين الذين يحسون هذه العاطفة كالعذارى الرقيقات، لا يقلون عنهن، وإن اتخذت العاطفة عندهم لونًا آخر أشد نبلًا؛ لأنها نار تشتعل جذوتها الأولى في ركن ضيق من صدرِ إنسانٍ ما، وقد شبت فيه من شرارةٍ تطايرت من قلب آخر. وهذه النار تتأجج وتنتشر حتى تدفئ وتضيء عددًا كبيرًا من الرجال والنساء، أو ذلك القلب العام الذي يشمل الجميع، ولذا فإنها تضيء الدنيا كلها والطبيعة كلها بلهيبها السخي. ومن أجل ذلك لا يهمنا أن نحاول وصف هذه العاطفة في سن العشرين، أو الثلاثين، أو الثمانين. ومن يصورها في العهد الأوَّل يفقد شيئًا من صفاتها في عهدها الأخير. ومن يصورها في آخرِ عهدها يفقد شيئًا من صفاتها الأولى. ويكفينا أن نأمل أننا ربما نبلغ — بالصبر وبمعونة آلهة الشعر — سر ذلك القانون الذي يصف حقيقةً من الحقائق الفتية دائمًا والجميلة أبدًا، حقيقة مركزية تجذب العين من أية زاوية تُشاهد.

وأول شرط هو أنه ينبغي لنا أن نتخلى عن التمسك بالوقائع تمسكًا شديدًا معطلًا، وأن ندرس العاطفة كما ظهرت في الأمل لا كما ظهرت في التاريخ؛ لأن كل امرئ يتصور حياته الخاصة ممسوخة مشوهة على خلاف حياة الناس. كل إنسان يرى تجربته الخاصة لوثة من الخطأ، في حين أن تجربة الآخرين تبدو له جميلة مثالية. ولو عاد المرء إلى تلك الصلات الممتعة التي يتكون منها جمال حياته، والتي أمدته بأخلص المعارف والغذاء، لأسف أشد الأسف. وا أسفاه! لست أدري لماذا يعكر وخز الضمير الشديد — في سن النضوج — صفو ذكريات السرور لعهد الحداثة، ويتغلغل في كل اسم عزيز. كل شيءٍ جميلٌ، إذا نظرت إليه من ناحية العقل أو نظرت إليه كحقيقة من الحقائق. ولكن كل شيء مُر إذا نظرت إليه كتجربة. التفصيلات كئيبة، ولكن الخطة العامة نبيلة لائقة المظهر. في الحياة الواقعة — دولة الزمان والمكان الأليمة — تسكن الهموم والآفات والمخاوف. ومع الفكر، والمثل الأعلى، يوجد البِشر الخالد، أو زهرة السرور. وحوله تغني جميع آلهة الشعر. ولكن الحزن يلتصق بالأسماء والأشخاص والاهتمامات الجزئية واليوم والأمس.

نستطيع أن ندرك مَيل الطبيعة الشديد من المكانة التي يحتلها موضوع هذه العلاقات الشخصية في أحاديث المجتمع. ماذا نريد أن نعرف عن أي شخص له قيمته بقدْر ما نريد أن نعرف عن مقدار ما لديه من هذه العاطفة؟ وما هي الكتب التي تروج في المكتبات المتنقلة، ما أشد سرورنا بالروايات العاطفية، حينما تُروى فيها القصة بشيء من وميض الحق والطبيعة! وماذا يجذب الالتفات في صلات الحياة، مثل ما يدور بين فردَين مما ينم عن المحبة؟ ربما لم نرهما من قبل، وربما لا نراهما مرة أخرى. ولكننا نراهما يتبادلان النظر، أو يُظهران عاطفة عميقة، فلا نحس أننا غرباء. إننا نفهمهم ونهتم أشد الاهتمام بتطور قصتهما الخيالية. إن الناس جميعًا يعشقون العاشق. والمظاهر الأولى للعطف والشفقة أغلى صور الطبيعة ثمنًا. إنها بداية الأدب والرقة عند كل جلف ساذج. إن الفتى القروي الفظ يضايق الفتيات عند باب المدرسة، ولكنه اليوم يُهرع إلى المدخل، ويقابل فتاة حسناء ترتب حقيبتها، فيحمل كتبها لكي يعينها، ويبدو له فجأة كأنها ابتعدت عنه نهائيًّا، وأصبحت له حرمًا مقدسًا. فيجري بفظاظة بين جموع الفتيات، ولكن واحدة منهن فقط تبتعد عنه. وهذان الجاران الصغيران، اللذان كانا متقاربَين جِدًّا منذ برهة، قد تعلما أن يحترم كلٌّ منهما شخصية الآخر. ومن ذا الذي يستطيع أن يغض الطرف عن أساليب فتيات المدارس التي تسترعي الالتفات، تلك الأساليب التي فيها شيء من المهارة وشيء من السذاجة، والتي يتبعها الفتيات عندما يذهبن إلى محلات البيع في الريف لشراء لفافة من الحرير أو صحيفة من الورق، ويتحدثن نصف ساعة عن لا شيء مع الفتى البائع صاحب الوجه العريض والطبيعة السمحة؟ إنهن في القرية على قَدم المساواة الكاملة، التي يتصف بها الحب؛ فترى طبيعة الحب السعيدة عند المرأة تنطلق — دون أي تدلل — في هذا الحديث العذب. قد يكون نصيب الفتيات من الجمال ضئيلًا، غير أنهن ينشأن في وضوح وجلاء بينهن وبين الفتى أحب العلاقات وأوثقها صلةً بما لديهن من هزل وجد عن «إدجر» و«جوتاس» و«ألميرا» وعمن دُعي للحفل، ومن رقص في مدرسة الرقص، وعن موعد افتتاح مدرسة الغناء، وغير ذلك من التفاهات التي يهدر بها الفريقان. ثم تمر الأيام، ويحتاج هذا الفتى إلى زوجة، وإنه ليعرف صادقًا من كل قلبه أين يجد الرفيقة الحلوة المخلصة، دون أية مخاطرة، كتلك المخاطرة التي يرثي ملتن تعرُّض العلماء وعظماء الرجال لها.

قيل لي إن تقديري للعقل في بعض محاضراتي العامة قد جعلني فاترًا نحو العلاقات الشخصية بغير مبرر، ولكنني الآن أكاد أرتعد من ذكرى هذه الكلمات التي تستخف بي؛ لأن الأشخاص هم دنيا الحب، وأشد الفلاسفة برودة لا يستطيع أن يتحدث عما تدين به الروح الشابة — التي تجوس خلال الطبيعة — لقوة الحب، دون أن يُغرَى بنفي كلِّ ما سبق له ذكره مما يحط من قدْر الغرائز الاجتماعية؛ لأن الحط من شأن هذه الغرائز خيانة للطبيعة. ومع أن السرور الإلهي الذي يهبط من السماء لا يستولي إلا على قلوب الشباب، ومع أننا قلَّ أن نرى بعد سن الثلاثين جمالًا يقهر كل تحليل وكل مقارنة ويقذف بنا بعيدًا عن أنفسنا، إلا أن ذكرى هذه الرؤى يدوم أكثر من كل الذكريات الأخرى، وهي كإكليل الزهر على أعتق الجباه. وهنا حقيقة عجيبة؛ فقد يبدو لكثير من الناس — عندما يسترجعون تجاربهم — أن كتاب حياتهم ليست فيه صفحة أجمل من الذكرى العذبة لبعض الصلات التي حاول فيها الحب أن يضفي فيها فتنة على بعض الظروف الطارئة التافهة؛ فتنة تفوق الجاذبية الكبرى لصدق الحب ذاته. وعندما يتطلعون إلى الوراء قد يجدون أن أشياء عديدة لم تكن تسحرهم فيها من الواقع — لهذه الذاكرة المتخبطة — أكثر مما في السحر نفسه الذي كانت تتصف به هذه الأشياء. ولكن مهما تكن خبرتنا بالتفصيلات، فإننا لا يمكن أن ننسى تلك الزيارات التي كانت تؤديها لقلوبنا وأذهاننا تلك القوة التي خلقت كل شيء من جديد، والتي كانت لها مبعث الموسيقى والشعر والفن، والتي جعلت وجه الطبيعة يشرق بالضوء البنفسجي، والتي جعلت للصبح والليل ألوانًا من السحر، حينما كانت نغمة مفردة من صوت واحد تستطيع أن تجعل القلب ينبض، وأن نودع سويداء الذاكرة أتفه الحوادث ما دام يرتبط بإنسان معين، حينما كان كله عينًا في حضرة فرد معين، وكله ذاكرة في غيبة ذلك الفرد، عندما كان الشباب رقيبًا للنوافذ، مهتمًّا بالقفاز والقناع والشريط وعجلات العربة، وعندما لم يكن أي مكان تام العزلة تام السكون بالنسبة إليه؛ لأنه يجد في أفكاره رفاقًا أعزَّ وحديثًا أعذب مما يستطيع أن يقدمه إليه أي صديق قديم مهما كان من الأخيار الأصفياء؛ لأن صور الشيء المحبب وحركاته وكلماته ليست كغيرها من الصور مكتوبة بالماء، ولكنها كما قال فلوطارخس «مطلية بالنار»، وتصلح للدراسة في منتصف الليل:

إنكِ عند اختفائكِ، لا تختفين، فحيثما أنتِ
تخلِّفين له عينَيك الساهرتين، وقلبكِ العاشق.

وفي ظهيرة الحياة وأصيلها لا تزال قلوبنا تنبض بذكرى أيام لم تكن فيها السعادة خالصة، وإنما كانت مخدرة بلذة الألم والخوف. ومن قال عن الحب:

إن كل متعة أخرى لا تساوي ألمه.

قد مسَّ سر الموضوع. تلك كانت أيامًا لم يكن يكفينا منها أن نستغرق النهار كله في عذب الذكريات، وإنما كان لا بد من الليل كذلك. وكان الرأس يغلي طوال الليل فوق الوسادة بالعمل الكريم الذي يعتزم أداءه، وكان ضوء القمر حرارةً تمتع النفوس، وكانت النجوم أحرفًا، والزهور ألغازًا، والهواء يصفر غناءً، وكان كل عمل سفاهة، وكل الرجال والنساء الذين يَعْدُون في الطرقات جيئةً وذهابًا صورًا مجردة.

العاطفة تعيد بناء الدنيا للشباب، وتجعل كل شيء حيًّا له معنًى فتصبح الطبيعة واعية، ويغني كل طائر على أغصان الشجر لقلبه وروحه. ويكاد النغم أن ينطق. وتكتسب السحب أوجُهَا حينما ينظر إليها. وأشجار الغابة، والحشائش المتموجة، والأزهار المتفتحة، تكتسب عقلًا وحكمةً، ويكاد يخشى أن يُعهد إليها بالسير الذي يبدو أنها تدركه. ومع ذلك فالطبيعة تريحه وتعطف عليه. ويجد في عزلة الحقول مأوًى أعزَّ مما يجد عند الناس:

الينابيع والأحراش التي تخلو من الممرات،
والأماكن التي تعشقها العاطفة الملتهبة،
والطرقات التي يضيئها القمر، عندما تأوي كل الطيور،
آمنة إلى أوكارها، خلا الوطاويط والبوم،
والناقوس في وسط الليل، والأنة العابرة،
تلك هي الأصوات التي بها نحيا.

انظر هناك في الغابة إلى الرجل المجنون الفريد! إنه صرحٌ من الأصوات والمناظر العذبة. إنه ينبسط، إنه رجلان في آنٍ واحد، إنه يسير وذراعاه إلى وسطه، إنه يناجي نفسه، وينادي العشب والشجر، ويحس بدماء البنفسج والبرسيم والسوسن في عروقه، وهو يتحدث مع النهر الذي يبلل قدمَيه.

إن الحرارة التي نبهته إلى الجمال الطبيعي جعلته يحب الشعر والموسيقى. وكثيرًا ما نلاحظ أن المرء يكتب أجود الشعر بوحي الحب. وما كان ليجيد الكتابة تحت أي ظرف آخرَ غير ذلك.

ولعاطفة الحب أثرٌ مماثل على طبيعته كلها. إنها توسِّع إحساسه وتجعل من المهرج رجلًا مهذبًا، وتعطي الجبان قلبًا. إنها تبث في أشد الناس حقارة، وأقلهم شأنًا قلبًا وشجاعة يتحدى بها العالم، إذا ما ظفر بطلعة الحبيب. إن عاطفة الحب تملِّك المرء لغيره، ولكنها بذلك تجعله أشد امتلاكًا لنفسه فيمسي رجلًا جديدًا، ذا إدراك جديد، وأغراض جديدة أكثر تحديدًا، وشخصية موقرة وأهداف كريمة، إنه لم يَعُد ينتسب إلى أسرة أو جماعة، إنما هو شيء ما، هو شخص، هو روح.

وهنا دعنا نفحص عن كثب طبيعةَ ذلك التأثير الذي له كل هذا النفوذ على شباب الإنسان. إن الجمال الذي نشيد الآن بظهوره للإنسان، والذي نرحِّب به كما نرحب بالشمس أنى أشرقت، والذي يُدخل السرور على قلب كل إنسان، هذا الجمال يبدو مكتفيًا بذاته. والعاشق لا يستطيع أن يتصور عشيقته فقيرة وحيدة. إن الجمال يأنس بنفسه، وهو كالشجرة المتفتحة، رطب، متفتح، عليم، وإن العاشقة لتعلِّم عين عشيقها لماذا صُور «الجمال» محفوفًا «بالحب» و«الجلال». إن وجود المعشوقة يُفني العالم. وقد تُبعد كل شخص آخر عن التفاته وتجعله يبدو له رخيصًا لا قيمة له، إلا أنها تعوِّضه ذلك بأن تجعل وجودها شيئًا غير شخصي، كبيرًا، يملأ الدنيا، فيتمثل له فيها كل شيء مختار، وكل فضيلة ممتازة. من أجل ذلك، لا يرى العاشق قط وجهًا للشبه بين شخص معشوقته وبين ذويها أو غيرها. يجد أصدقاؤه فيها شبهًا بأمها أو أخواتها أو بأشخاص من غير ذوي قرباها. ولكن العاشق لا يرى لها شبهًا إلا في ليالي الصيف، وفي الصباح المتلألئ، وأقواس قُزَح، وأناشيد الطير.

كان القدماء يسمُّون الجمال ازدهار الفضيلة. ومن ذا الذي يستطيع أن يحلل الفتنة الرائعة التي تشع من هذا الوجه أو ذاك وفق هذه الصورة أو تلك. إننا نتأثر بأحاسيس الحنو والرضا، ولكننا لا نستطيع أن نعرف إلى أين تشير هذه العاطفة الرقيقة، أو ذلك الشعاع الضال. وأية محاولة لإخضاعها إلى شيء من النظام تقضي عليها في خيالنا. وهي كذلك لا تشير لأي لون من ألوان صلات الود والمحبة التي يعرفها ويصفها المجتمع، ولكنها — كما يبدو لي — تشير إلى عالَم آخر يختلف عن ذلك كل الاختلاف ولا يمكن بلوغه، تشير إلى علاقات رقيقة لا يتصور رقتها العقل، عذبة لا يتصور عذوبتها الخيال، تشير إلى ما يشير إليه وينبئ به الورد والبنفسج. إننا لا نستطيع أن ندرك الجمال، فإن طبيعته كالبريق المتنوع الألوان في رقبة الحمامة، وهي تحلق فوق الرءوس فترة ثم تختفي. وهو في هذا يشبه أروع الأشياء، التي لها جميعًا هذه الصفة، صفة الألوان المتعددة كقوس قزح، متحدية كل محاولة للظفر به والانتفاع منه. وماذا كان يعني «جين بول رشتر» حينما خاطب الموسيقى قائلًا: «ابتعدي عني! فإنك تحدثينني عن أشياء لم أجِدْها في حياتي الطويلة كلها، ولن أجدَها»؟ ويمكننا أن نرى هذه الطلاقة عينها في كل عمل من أعمال الفنون التطبيقية؛ فالتمثال يكون جميلًا عندما يبدأ في غموضٍ لا يُدرك، حينما يخرج عن النقد، ولا يمكن تحديده بالبوصلة وعصا القياس، ولكنه يتطلب خيالًا نشطًا يسايره، ويعبِّر عما هو قائم به. إن إله النحات أو بطله يتمثل دائمًا في الانتقال من ذلك الذي يمكن تمثيله للحواس إلى ذلك الذي لا يمكن تمثيله؛ فهو يكف أوَّلًا عن أن يكون حجرًا. وهذه الملحوظة تنطبق كذلك على التصوير. وكذلك في الشعر لا يُفلح الشاعر إذا بث فينا السكينة وأرضانا، ولكن حينما يذهلنا ويشعل نفوسنا بمحاولات جديدة لإدراك ما لا يمكن بلوغه. ويتساءل لاندُر في هذا الشأن قائلًا: «أليس مَرَدُّ الشعر إلى حالة من حالات الإحساس والوجود أنقى وأصفى؟»

وكذلك الجمال الشخصي لا يفتن أوَّلًا ولا يمثل نفسه إلا إذا نزَّه نفوسنا عن الأغراض، عندما يصبح قصة بغير نهاية، وحينما يوحي بالإشعاعات والرؤى، ولا يقنعنا بأغراض دنيوية، حينما يجعل الرائي يحس تفاهة قدره، ولا يستطيع أن يحس حقه فيه أكثر مما يحس حقه في القبة الزرقاء وروعة الشمس الغاربة.

ومِنْ ثَمَّ نشأ هذا القول: «إن أحببتك، فما قيمة ذلك لك؟» إننا نقول ذلك لأننا نحس أن ما نحب ليس في إرادتك، ولكن فوق إرادتك. إنه ليس أنت، ولكنه إشعاعك. إنه ذلك الذي لا تعرفه عن نفسك، ولا تستطيع أن تعرفه.

ويتفق ذلك تمامًا وفلسفة الجمال العليا التي أحبها الكُتَّاب الأقدمون؛ لأنهم قالوا إن روح الإنسان، التي تتجسد فوق هذه الأرض، هامت على وجهها هنا وهناك في طلب العالم الآخر الذي يخصها، والذي خرجت منه إلى هذا العالم، ولكنها سرعان ما عشى عينَيها ضوء الشمس الطبيعية، وعجزت عن رؤية أي شيء غير ما في هذه الدنيا، وإنْ هذا إلا ظلٌّ للأشياء الحقيقية؛ ولذا فإن الله يرسل جلال الشباب أمام الروح، كي تستفيد الروح من الأجسام الجميلة التي تعينها على ذكر الخير والجمال السماويين. والرجل الذي يشاهد مثل هذا الشخص في الجنس اللطيف من البشر، يُهرع إليه، ويجد السرور في تأمُّل صورة هذا الشخص وحركته وذكائه؛ لأنه يوحي إليه بوجود ذلك الذي هو في داخل الجمال حقًّا، وعلة الجمال.

ومهما يكن من شيء، فإن الروح إذا أكثرت من الحديث إلى الأشياء المادية ثقلت، وأخطأت الأوضاع ورضيت بالجسد. وهي بذلك لا تجني غير الأسى؛ لأن الجسم يعجز عن الوفاء بما يعد به الجمال. أمَّا إذا تقبل الإنسان بما تشير إليه الإيحاءات والرؤى التي يثيرها الجمال في نفسه، فتخطَّى بروحه الجسم، وأُعجب بمزايا الشخصية، وتأمَّل العاشق معشوقته في الأحاديث والحركات، ثم يتجه صوب معرض الجمال الحقيقي، فيزيد اشتعال حبه له، وبهذا الحب يطفئ الرغبات الدنيئة، كما تطفئ الشمس النار بشروقها على الأرض. حينئذٍ يصبح العاشق نقي النفس مقدسًا. إن العاشق بحديثه إلى ما هو رائع في ذاته، عزيز النفس، متواضع، عادل، ينتقل إلى حب لهذه الصفات النبيلة أشد حرارة، وإلى إدراك لها أسرع. ثم ينتقل من حبها فُرادى إلى حبها جماعة. وهكذا ترى أن الروح الجميلة الواحدة ليست سوى المنفذ الذي يدخل خلاله إلى جملة الأرواح الصادقة الطاهرة. إن العاشق في صحبته الخاصة لرفيقته يشتد وضوح رؤيته لأية بقعة أو أية لوثة من هذه الدنيا لطخت جمالها، ويستطيع أن يشير إليها، ويكون ذلك بسرور مشترك، حتى إن العاشقَين يستطيعان — دون أن يسيء أحدهما إلى الآخر — أن يشيرا إلى عيوبهما وعوائقهما، وأن يقدِّم كلٌّ منهما للآخر كل معونة وعزاء لعلاج هذه العيوب وتلك العوائق.

وإذ يرى العاشق في أرواحٍ عديدة صفات الجمال الإلهي، ويفصل في كل روح ما هو مقدس عن الدنس الذي اقتبسته في هذه الدنيا، يرقى إلى قِنَنِ الجمال، إلى حب الله ومعرفته، على درجاتٍ من سلم الأرواح المخلوقة.

بمثل هذا حدَّثنا الحكماء الصادقون عن الحب في جميع العصور. وليس هذا المذهب بالقديم أو الجديد. وإذا كان أفلاطون وفلوطارخس وأبوليس قد بشَّروا به، فكذلك بشَّر به بترارك وأنجلو وملتن. ونود لو اتصف به الزواج في صدق وإخلاص، فنقضي — ونلوم أنفسنا — على تلك الحِكَم المستورة التي تسود عقود الزواج التي نصوغها في كلمات نستمدها من العالم العلوي، في حين أننا نتطلع بإحدى عينَينا إلى مخزن الطعام، فينم أخطر حديث نتحدث به عن رائحة لحم الخنزير وأواني المساحيق. وأسوأ ما يكون الأمر عندما تدخل هذه الحسِّية في تعليم الفتيات، وتذوي أمل الطبيعة الإنسانية ومحبتها، بتعليمهن أن الزواج معناه اقتصاد منزلي، وأن حياة المرأة لا تهدف إلى شيء آخر.

غير أن حلم الحب هذا، وإن يكن جميلًا، إلا أنه منظر واحد من مسرحيتنا؛ فالروح في سيرها من الداخل إلى الخارج تتسع دائرتها دائمًا، كالحصاة يُلقى بها في بركة الماء، أو كالضوء يصدر عن النجم. إن أشعة الروح تقع أوَّلًا على أقرب الأشياء، على كل أداة نافعة وكل ألعوبة، على المربيات والخَدم، على البيت، والفناء، والمسافرين، وعلى دائرة المعارف المنزلية، وعلى السياسة والجغرافيا والتاريخ. ولكن الأشياء تتجمع دائمًا وفقًا للقوانين العليا أو السفلى. والبيئة، والحجم، والعدد، والعادات، والأشخاص، تفقد تدريجًا نفوذها على أنفسنا. وتسود فيما بعدُ العلة ومعلولها، والعلاقات الحقيقية، والتشوق إلى الانسجام بين الروح وما يتحوطها من ظروف، والميل الطبيعي إلى التقدم وإلى تصوير الأشياء في صورة مثالية. والخطو إلى الوراء من العلاقات العليا إلى العلاقات السفلى يصبح ضربًا من المحال. وهكذا ترى أنه حتى الحب، وهو تأليه الأشخاص، لا بد أن يتحوَّل إلى شيء غير شخصي يومًا بعد يوم. ولكنه لا يشير إلى ذلك البتة أول الأمر. وقلما يفكر الشاب والفتاة — عندما يتطلع كلٌّ منهما إلى الآخر خلال الحجرات المزدحمة بعيونٍ ملؤها الإدراك المتبادل — في الثمرة الغالية التي سوف يؤتيها بعد وقت طويل هذا الباعث الجديد الخارج عن أنفسنا خروجًا تامًّا. إن عملية الاخضرار تبدأ أوَّلًا في أطراف القشور وأوراق البراعم. ومن تبادل النظرات يتقدم الشاب والفتاة إلى الملاطفة وإلى الشهامة، ثم إلى العاطفة الملتهبة، ثم إلى العهد القاطع، فالزواج. إن الرغبة الحارة تنظر إلى هدفها كوحدة كاملة، والروح تتجسد تجسدًا تامًّا، والجسد يتحول تحولًا تامًّا إلى روح:

إن دماءها الصافية الفصيحة،
تنطق في وجنتَيها، بكلمات مفصلة واضحة،
حتى إن المرء ليوشك أن يقول إن جسمها يفكر.

إن روميو — برغم موته — يجب أن يُقطَّع أنجمًا صغيرة لكي يجمِّل السماء. والحياة مع هذَين العاشقَين ليس لها هدف آخر، غير جوليت، أو روميو. والليل والنهار والدراسات والمواهب والممالك والدين كلها كائنة في هذه الصورة المشبعة بالروح. وفي هذه الروح التي كلها صورة — إن العاشقين يسعدان بإعزاز أحدهما الآخر. وعندما يتعهدان بالحب، وفي الموازنة بين تحية كلٍّ منهما للآخر. وعندما يختلي أحدهما يسلي نفسه بصورة حبيبته التي يذكرها. هل يرى حبيبه الآخر نفس النجم، ونفس السحابة الذائبة، ويقرأ نفس الكتاب، ويحس نفس العاطفة، التي يسعد بها الآن؟ يبذل العاشق حبه ويزنه، ويجمع المزايا الثمينة، والأصدقاء، والفرص، والأملاك. ويبتهج عندما يكتشف أنه يود راضيًا مسرورًا أن يسلم كل هذا فديةً للرأس الجميل الحبيب، دون أن يمس شعرةً واحدة منه أذًى. ولكن مصير البشرية يتوقف على هؤلاء الأطفال. يتعرضون للخطر والأسى والألم كما يتعرض غيرهم. فيتوسل الحب ويعقد العهود مع «القوة الخالدة» نيابةً عن هذا الرفيق العزيز. والاتحاد الذي يتم على هذه الصورة، والذي يضيف قيمة جديدة إلى كل ذرة في الطبيعة؛ لأنه يحوِّل كل خيط في نسيج العلاقات كله إلى أشعة ذهبية، ويُغرق الروح في عنصر جديد أحلى من كل عنصر آخر، هذا الاتحاد مع ذلك حالة مؤقتة؛ لأن الزهور واللآلئ والشعر، والنزاع، بل والسكنى في قلب آخر، كل ذلك لا يستطيع دائمًا أن يُشبِع الروح التي تسكن الطين. إنها توقظ نفسها في نهاية الأمر من بين هذه الأشياء العزيزة، التي تشبه اللعب، وتعد العدة متجهة صوب أغراض بعيدة عالمية. إن الروح الكامنة في نفس كل فرد، والتي تشتهي السعادة الكاملة، تكتشف المتناقضات والعيوب، واختلال النسب في الفرد الآخر. ومِنْ ثَمَّ كانت الدهشة والعتاب والألم. ومع ذلك فإن ما جذب أحدهما إلى الآخر هو دلائل الجمال، ودلائل الفضيلة، وهذه الفضائل موجودة مهما تسترت. إنها تظهر، ثم يعود ظهورها، وتستمر في جاذبيتها، ولكن التقدير يتغير، ويبتعد عن هذه الدلائل ويلتصق بالمادة. فتسترد بذلك المحبة الجريحة كرامتها. وفي نفس الوقت، كلما بَلِيت الحياة أثبتت أنها لعبة فيها تبادل واتحاد لجميع الأوضاع الممكنة للفريقَين، يستخدم فيها كلٌّ منهما كل موارده، ويعلم فيها بمواطن الضعف والقوة عند الآخر. كل ما في الدنيا، مما هو معروف أو ينبغي أن يُعرف، يندمج بمهارة في تكوين الرجل أو المرأة:

حب الفرد للفرد يلائم النفس،
وهو، كالمَنِّ، فيه مذاقُ كلِّ شيء.

ويسير العالم، وتتغير الظروف في كل ساعة. وتطل من النوافذ الملائكة التي تسكن معبد الجسم هذا، وكذلك الشياطين والرذائل، وتوحدها جميع الفضائل. فإن كانت هناك فضيلة، اتصفت بها جميع الرذائل، وأقرت بذلك وانصرفت. وبمرور الزمن تفتر في صدر كل عشيق تلك النظرة الملتهبة، وتفقد من حدتها ما تكسبه في عمقها، وتصبح تفاهمًا طيبًا كاملًا. ويسلِّم كل منهما للآخر — دون شكاة — بالوظائف الطيبة التي يُكلَّف بأدائها مع مرور الزمن كلٌّ من الرجل والمرأة على حدة، ويستبدلان بالعاطفة التي كانت من قبلُ لا تستطيع أن تحوِّل النظر عن هدفها اهتمامَ كل طرف بأمل الآخر، اهتمامًا يشوبه السرور والتحرر من الغرض، سواء في حضرته أو غيبته. وأخيرًا يكتشفان أن كل ما جذب أحدهما نحو الآخر أوَّلًا — تلك الملامح التي كانت مقدسة، وأثر ذلك الفتنة الساحرة — كان مؤقتًا إلى حين، وكان له غرض يرمي إليه، كالهياكل الخشبية التي تُشيد عليها المنازل. وتطهير العقل والقلب عامًا بعد عام، هو الزواج الحق، الذي يتوقعه الطرفان ويتأهبان له من أول الأمر، وهو فوق إدراكهما تمامًا. وعندما أفكِّر في هذه الأغراض التي من أجلِها ترى شخصَين — رجلًا وامرأةً — على ما بينهما من اختلاف واتفاق في المواهب، يغلقان عليهما بيتًا واحدًا ينفقان بداخله اختلاطًا زوجيًّا أربعين أو خمسين عامًا. عندما أفكر في ذلك قد أعجب من الاهتمام الذي يترقب به القلب هذا الموقف الحرِج منذ الحداثة. ولا أعجب من روعة الجمال، التي تزيِّن بها الغرائز سرير الزوجية، ولا أعجب كذلك من أن تتبارى الطبيعة والعقل والفن، في المزايا والألحان التي تضفيها على أناشيد العُرسِ.

وهكذا نتدرب على حبٍّ لا يعرف الجنس، ولا الشخص، ولا الهوى، ولكنه يبحث عن الفضيلة والحكمة. نحن بالطبيعة نلاحظ، ومِنْ ثَمَّ نتعلم، وهذه حالنا الدائمة، ولكنا كثيرًا ما نُدفع إلى الإحساس بأن أهواءنا ليست سوى خيام في الليل، وأهداف أهوائنا تتغير، كما تتغير أهداف الفكر، وإن يكن ذلك في بطء وفي ألم. وهناك لحظات تسيطر فيها الأهواء على المرء وتستوعبه، وتجعل سعادته متوقفة على شخص واحد أو أشخاص. ولكن العقل — في حالة الصحة — سرعان ما يعود إلى الظهور، فترى أبهاءه ذات الأقواس العالية، تلمع بالأضواء الثابتة التي كأنها تشع من الكواكب. ويفقد الحب الحار والمخاوف التي مرت بنا كالسُّحب صفتها الزائلة، وتتحد مع الله، كي تبلغ كمالها. ولكننا يجب ألا نخشى فقدان أي شيء بتقدم الروح. بل يمكننا أن نثق في الروح حتى النهاية. وأمثال هذه العلاقات الجميلة الجذابة يجب ألا يقلقها ويحتل مكانتها إلا ما هو أجمل منها، وهكذا إلى الأبد.

١  يذكر أمرسن في الأصل عبارة يَحسب أنها ترجمة لآية من القرآن الكريم، ولم نعثر على آية بهذا المعنى، ولعل الحديث القدسي الذي ذكرناه هو أقرب المعاني لعبارة المؤلف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤