الخبرة

سادة الحياة، وما أدراك مَن هم!
لقد رأيتهم يمرون
في أزيائهم الخاصة بهم
متشابهين وغير متشابهين،
على سيماهم الوقار والعبوس،
منهم من ينفع ومنهم من يثير الدهشة،
ومنهم من يظهر، ومن يختفي كالأحلام،
يتتابعون مسرعين، كاذبين كالأشباح،
طبائع بغير لسان،
ومخترع الألعاب
موجود في كل مكان، بغير عنوان.
ترى بعضهم، وتقدِّر الآخرين،
وهم يسيرون من شرق إلى غرب.
والرجل صغير الشأن،
بين سيقان ولاته الطويلة،
يسير في آخر الصفوف بنظرة حائرة،
فتأخذه الطبيعة العزيزة من يده.
ما أعز الطبيعة، وما أقواها وما أرحمها!
إنها تهمس وتقول: «عزيزي، لا تأبه!
غدًا يبدلون وجوههم،
أنت المؤسس! وهؤلاء بنوك!»

أين نجد أنفسنا؟ في سلسلةٍ لا نعرف لها طرفًا، ونعتقد أن ليس لها. نستيقظ فنجد أنفسنا فوق دَرَج، وتحتنا دَرَج، يبدو أننا قد صعدناه، وفوقنا درج، خطواته كثيرة، يتجه إلى أعلى ثم يختفي عن الأنظار. ولكن العبقرية التي — بناءً على العقيدة القديمة — تقف عند الباب الذي ندخل منه، وتقدم لنا ماء النسيان نشربه، حتى لا نقص القصص، قد مزجت الكأس مزجًا قويًّا، ولا نستطيع أن ننفض عن أنفسنا السبات الآن في وضح النهار. إن النوم يطوف طوال حياتنا حول أعيننا، كما يحلق الليل طول النهار فوق أغصان شجر الشوح. كل شيء يعوم ويتلألأ. وليست حياتنا مهددة مثل إدراكنا. إننا ننزلق خلال الطبيعة كالأشباح، ولا ينبغي لنا أن نعرف مكاننا مرة أخرى. فهل حل موعدنا في لحظة من لحظات العوز والاقتصاد في الطبيعة، فقترت علينا في نارها، وجادت علينا بترابها، حتى إنه ليبدو لنا أننا نفتقر إلى مبدأ الإيجاب، وقد تتوفر لنا الصحة والعقل، ولكنا نفتقد فيض الروح لخلق جديد؟ لدينا ما يكفي أن نعيش وأن نقضي العام، ولكن ليست لدينا ذرة نقدمها أو نسهم بها. آه لو كانت عبقريتنا أكثر قدرة! ما أشبهنا بعمال الطواحين في المستويات الدنيا من تيار الماء حينما تكون المصانع العليا قد استنفدت كلَّ ما هنالك من ماء؛ فنحن كذلك نتصور أن القوم في الطبقة العليا لا بد أن يكونوا قد رفعوا سدودهم.

لو عَرفَ أحدُنا ماذا نحن صانعون، أو إلى أين نحن ذاهبون، إذن لأجدنا المعرفة حينما نفكر! إننا لا نعرف اليوم هل نحن مشغولون أو خاملون؛ ففي أوقاتٍ حسبنا أنفسنا فيها خاملين تبين لنا فيما بعدُ أننا قد أنجزنا الكثير، وأن نفوسنا قد بدأ فيها الكثير. كل أيامنا عديمة الجدوى وهي تمضي، حتى إننا لنعجب أنى ومتى ظفرنا بشيء مما نسميه الحكمة أو الشعر أو الفضيلة. إننا لم نظفر بها في يوم مؤرَّخ من أيام التقويم. ولا بد وأن تكون بعض الأيام السماوية قد انضمت إلى التقويم العادي في وقتٍ ما، كتلك الأيام التي ظفر بها هرمز من القمر بالنرد كي يُولَدَ أوزيريس. يُقال إن كلَّ استشهاد يَبدو تافهًا عند تجربته. كل سفينة شيء خيالي، إلا حينما نقلع فيها. فإذا نحن أبحرنا، تخلى الخيال عن سفينتنا، وعلق بكل سفينة أخرى تبدو في الأفق. إن حياتنا تبدو تافهة فنتفادى تسجيلها. وكأن الناس تعلموا من الأفق فن التقهقر الدائم والتأجيل. يقول الفلاح المتذمر: «تلك الأراضي المرتفعة مرعًى خصيب، ويملك جاري أرضًا غنية، أمَّا حقلي فيكاد لا يدر إلا ما يقيم أود العيش.»

إنني أروي قول غيري. ولسوء الحظ هذا الآخر يقوم بنفس التصرف ويروي عني. إنها حيلة الطبيعة أن تحطَّ من شأن الحاضر هكذا. طنين شديد، ونتيجة تتم بطريقة سحرية في مكانٍ ما. كل سقف محبب إلى العين، حتى يرتفع. حينئذٍ نجد المأساة والنساء اللائي يولولن، والأزواج ذوي العيون الجامدة، وطوفان النسيان، فيتساءل الناس: «أي شيء هناك جديد؟» كأن كل قديم خبيث. كم فرد نستطيع أن نعد في المجتمع؟ وكم عمل؟ وكم رأي؟ إن جزءًا كبيرًا من وقتنا تحضير، وجزء آخر كبير ينفق في العمل المألوف، وآخر في تدبُّر الماضي، حتى إن خلاصة عبقرية كل امرئ تتقلص إلى ساعات قلائل. إن تاريخ الأدب — إذا أخذنا النتيجة الصافية لترابوشي وورتن أو شلجل — مجموعُ أفكار قليلة جِدًّا، وقصص مبتكرة قليلة كذلك، وكلُّ ما عدا هذا تحوير في هذه الأفكار وتلك القصص. وكذلك في هذا المجتمع العظيم الذي ينبسط حولنا، نجد بالتحليل الدقيق أن الأعمال التلقائية قليلة محدودة. وتكاد كل الأعمال أن تكون عادات وإحساسًا مألوفًا. بل إن الآراء ذاتها قليلة كذلك، وهذه الآراء تبدو من طبيعة المتكلمين، وكأنها لا تؤثر في الحياة العامة.

أي مخدر ينصب في كل كارثة! إنها تبدو مريعة حينما نقترب منها، غير أنه ليس هناك في آخر الأمر احتكاك مؤذٍ خشن، ولكنها سطوح زلقة منحدرة: إننا نعثر في يسر شديد على فكرة من الفكر، فيهون المُصاب:

ويسير فوق رءوس الناس مُحلِّقًا
بأقدام رقيقة خفيفة الوطء.

وإن الناس ليحزنون ويندبون على أنفسهم، ولكن الأمر لا يبلغ معهم كل هذا المبلغ من السوء كما يقولون. هناك من الحالات العقلية ما يجعلنا نرحب بالآلام أملًا في أن نجد فيها الواقع على الأقل، وأطراف الحقيقة وقممها البارزة. ولكن الأمر ينتهي على أنه زور وتقليد لا أصالة فيه. إن الشيء الوحيد الذي علمنيه الأسى هو أن أعرف مقدار ضحولته. فإنه — كغيره من الأمور — يطفو على السطح، ولا يقدمني أبدًا إلى الحقيقة، التي نود من أجل الاتصال بها لو دفعنا ثمنًا غاليًا، يكلفنا أبناءنا ومَن نحب. هل هو بوسكوفتش الذي اكتشف أن الأجسام لا تتصل قط؟ إن الأرواح كذلك لا تبلغ أهدافها. إن بحرًا لا يصلح للملاحة تتلاطم أمواجه الصامتة بيننا وبين الأشياء التي نهدف إليها ونتحدث إليها. والحزن كذلك يجعلنا مثاليين. عندما فقدت ولدي منذ أكثر من عامين، بدا لي كأني فقدت ضيعة جميلة، وليس أكثر من ذلك. لا أستطيع أن أقرِّبها مني. ولو أُخبرت في غدي عن إفلاس المدينين لي، فإن فقدان ملكي يسبِّب لي ضعفًا شديدًا، ربما لعدة سنوات. ولكنه يتركني كما وجدني، لا أحسن ولا أسوأ. وكذلك الحال في هذه المصيبة. إنها لا تمسني. إن شيئًا تصورته جزءًا مني، ولا يمكن أن يُنتزع مني دون أن يمزقني، ولا يمكن أن يكبُر دون أن يغنيني، يسقط مني، ولا يترك أثرًا. ولقد سقط قبل الأوان. إنما أحزن لأن الحزن لا يستطيع أن يعلمني شيئًا، ولا يحملني خطوة واحدة نحو الطبيعة الحقة. إن الرجل الهندي الذي دُعي إليه بألا تهب عليه ريح، وألا يتدفق إليه ماء، أو تحرقه نار، مثال مِنَّا جميعًا. إن أعز الأحداث هي أمطار الصيف، ونحن معاطف البارا التي تنبذ كل قطرة. ولم يبقَ لنا الآن إلا الموت. ونحن نتوقعه مستسلمين متجهمين، ونقول: هنا على الأقل تكون الحقيقة التي لا تتحاشانا.

وصفة الانزلاق والزوال هذه التي تتصف بها جميع الأشياء، والتي تجعلها تفر من أيدينا كلما شددنا عليها القبض، هذه الصفة أسوأ جانب في ظروفنا. إن الطبيعة لا تحب أن تُراقَب، وتحب أن نكون سخريتها وألعوبة في يدها. وقد نتخذ الكرة الأرضية كرة للعب، ولكنا لا نستطيع أن نتخذ ثمرة من ثمار التوت لفلسفتنا. إنها لم تمدنا بالقوة التي نضرب بها الضربات المباشرة. كل ضرباتنا خاطفة، وكل خبطاتنا عارضة. وعلاقة أحدنا بالآخر عارضة لا تستقيم.

ويُسلمنا حُلم إلى حُلمٍ، وليس للوهم آخر. والحياة سلسلة من الحالات العقلية تشبه صفًّا من الخرز، عندما نمر بها يتبين لنا أنها عدسات متنوعة الألوان تلون العالم بلونها. وتبين كلٌّ منها ما يقع في بؤرتها فقط. من الجبل نشهد الجبل. ونبعث الحياة فيما نستطيع، ولا نرى إلا ما نبعث فيه الحياة. والطبيعة والكتب تتعلق بالأعين التي تراها. وعلى الحالة العقلية للمرء يتوقف إن كان يرى غروب الشمس أو القصيدة الرائعة. وهناك دائمًا غروب للشمس، وهناك دائمًا عبقريات. ولكن قلَّ من الساعات الهادئة ما نستسيغ فيها الطبيعة أو النقد. إن ذلك يتوقَّف إلى حد كبير على التكوين أو المزاج. والمزاج هو السلك الحديدي الذي ينخرط فيه الخرز. وما فائدة الحظ أو الموهبة لطبيعة باردة معيبة؟ ومن ذا الذي يأبه بما يبديه في وقتٍ ما من إحساس أو تمييز، إذا أغرق في النوم فوق كرسيه؟ أو إن هو ضحك أو سخر؟ أو إن اعتذر؟ أو أُصيب بالأنانية؟ أو فكَّر في ماله؟ أو لم يكفِه طعامه؟ أو ظل طفلًا في صباه؟ وما فائدة العبقرية إن كان العضو شديد التقعر أو شديد الاحْدِيداب، ولا يستطيع أن يجد مسافةً بؤرية في حدود الأفق الحقيقي للحياة الإنسانية؟ ما الفائدة إذا كان الذهن شديد البرودة أو شديد الحرارة، وإذا لم يعبأ المرء كثيرًا بالنتائج، فلا يحثه ذهنه على التجربة، ويدفعه إليها؟ أو إذا كان النسيج رقيقًا جِدًّا، شديد الحساسية للذة والألم، حتى إن الحياة لتركد من كثرة ما تستقبل دون أن تجد لها مخرجًا كافيًا؟ وما جدوى العهود الوثيقة بالاستقامة إذا كان الخارج على القانون فيما سبق هو عينه الذي يتعهد بها؟ أي سرور تبعثه فينا العاطفة الدينية، إذا كُنَّا نلمس أن هذا السرور يتوقف في الخفاء على فصول العام، وعلى المزاج الخاص؟ عرفت طبيبًا فطنًا وجد عقيدته في القناة الصفراوية، ولم يفتأ يؤكد أنه إذا كانت بالكبد علة أصبح الرجل كلفنيًّا، وإن صح هذا العضو منه صار موحِّدًا. من المؤلم جِدًّا أن يدرك المرء — كارهًا — أن الإفراط الزائد أو البلاهة تحد مما تبشِّر به العبقرية. إننا نرى شُبَّانًا يَدينون لنا بعالم جديد، ونأمل من ورائهم خيرًا جزيلًا عاجلًا، ولكنهم لا يؤدون الدَّين قط. إنهم يموتون صغارًا ويتفادون الحساب، وإن عاشوا ضلوا وسط الزحام.

وللمزاج كذلك أثره الشديد فيما لدينا من أوهام، وهو يحبسنا في سجن من الزجاج لا نراه. فحول كل شخص نلاقيه وهمٌ نظري. ولكل فرد في الواقع مزاج خاص يظهر في شخصيته خاصة، لا يتخطى حدودها، بَيْدَ أننا ننظر إليه، فيبدو لنا حيًّا، ونتوهم أن لديه قوة دافعة، إنها تبدو في تلك الخطة قوة دافعة، ولكنها بعد عام، وبعد العمر، يظهر أنها نغمة مطردة معينة، لا بد أن تعزفها الأسطوانة التي تدور في صندوق الموسيقى. إن الناس يعارضون في الصباح الفكرة التي تقول بأن المزاج يسود كل شيء زمني أو مكاني أو ظرفي، ولا يتلاشى في نيران العقيدة الدينية، فإذا ما أقبل الليل آمنوا بها. وقد ينجح الإحساس الخلقي في إدخال شيء من التعديل، غير أن نسيج كل فرد يبقى على طبيعته، فإذا لم يستمل إليه الأحكام الخلقية، فإنه يحدد مدى النشاط والمتعة.

إنني بهذا أعبِّر عن القانون كما يُسن فوق منصة الحياة العادية، ولكن لا ينبغي أن أتركه دون أن أشير إلى الاستثناء الأساسي؛ لأن المزاج قوة لا يستمع المرء راغبًا إلى أحد يثني عليها سوى نفسه. إننا فوق منصة علم الطبيعة لا نستطيع أن نقاوم المؤثرات التي لا مفر منها لما نسميه العلم. والمزاج يهزم كلَّ ما هو مقدس. وأنا أعرف الميل العقلي للأطباء، وأسمع ضحكات علماء فراسة الدماغ. وخطاف الرقيق وتجاره يحسبون كل امرئ فريسة للآخر، يقلِّبه بين أنامله؛ لأنه يعرف قانون بقائه، ويعرف كل شيء عن نصيبه من الدنيا وعن صفاته من دلائل بسيطة كلون لحيته، أو مَيل قَذَاله. إن أشد جهالة لا تنفِّر كما تنفِّر هذه المعرفة السليطة. يقول الأطباء إنهم ليسوا ماديين، ولكنهم كذلك، فإن الروح مادة تحولت إلى رقة بالغة، يا لها من رقة! بَيْدَ أن تعريف «الروحاني» يجب أن يكون «ذلك الذي يدل على نفسه.» أي آراء ينسبونها للحب؟! وأي آراء ينسبونها للدين؟! إن المرء لا يحب طوعًا أن ينطق بهذه الكلمات في أسماعهم، ويعطيهم الفرصة لتدنيسها. رأيت رجلًا وقورًا مهذبًا يشكِّل حديثه على هيئة رأس الرجل الذي يوجه إليه الحديث! وكنت أتصور أن قيمة الحياة في إمكانياتها التي لا يُسبر غورها، وفي كوني لا أعرف قط ما قد يقع لي حينما أوجه حديثي إلى فرد جديد. إني أحمل مفاتيح قلعتي في يدي، مستعدًّا لإلقائه عند قدمي سيدي كلما بدا لي وعلى أية صورة تنكَّر. وأنا أعلم أنه إلى جواري مختبئ بين المتشردين. فهل أقف في سبيل نفسي باتخاذي مقعدًا مرتفعًا، وتشكيل حديثي في رفق على صورة الرءوس؟ فإن فعلت ذلك اشتراني الأطباء ببضعة دريهمات. «ولكن التاريخ الطبي يا سيدي، والتقرير المقدم للمعهد، والحقائق الثابتة!» إنني لا أثق في الحقائق وما يترتب عليها. المزاج هو الفيتو أو قوة الكبح في تكوين الأشياء، يَحسُن استعماله إذا استُخدِم في كبح الإفراط في الناحية الأخرى من التكوين، ولكنه لا يجدي نفعًا إذا حسبته قوة تكافئ الاعتدال الأصيل. إذا حضرت الفضيلة نامت كل القوى الثانوية. المزاج نهائي في مستواه أو بالنسبة إلى الطبيعة. ولست أرى — إن وقع الإنسان في هذه المصيدة التي يسمونها العلوم — أي مفر له من حلقات سلسلة الضرورة الطبيعية. إنك إن أُعطيت مثل هذا الجنين، فإن مثل هذا التاريخ لا بد أن يتلو. فوق هذه المنصة يعيش المرء في دائرة حسية، وسرعان ما يبلغ الانتحار. ولكن يستحيل على القوة الخالقة أن تستبعد نفسها؛ ففي كل ذكاء منفذ لا ينسدُّ ينفذ منه الخالق. إن العقل وهو الذي يبحث عن الحق المطلق، أو القلب وهو الذي يعشق الخير المطلق، يتدخل لإنقاذنا، وعندما تصغر إحدى هذه القوى العليا نستيقظ من نضالٍ لا يجدي مع هذا الكابوس، فنقذف به في جحيمه الخاص ولا نستطيع أن نعيد أنفسنا مرة أخرى إلى مثل هذه الحالة الوضيعة.

وسرُّ خديعتنا ينحصر في أننا نعتقد في ضرورة تتابع الأحوال العقلية أو الموضوعات. إننا نحب أن نرسو بسرور، غير أن المرسى أرض غير ثابتة. وهذه الحيلة البادية من الطبيعة أقوى مما نحتمل. حينما أنظر في المساء إلى القمر والنجوم أبدو ساكنًا، وتبدو مسرعة. إن حبنا لما هو واقعي يجذبنا إلى الثبات، ولكن صحة البدن لا تتوفر إلا مع الحركة، وصحة العقل لا تتوفر إلا في التنوع أو في سهولة الربط بين الأشياء. إننا نحتاج إلى تغيُّر الأشياء. وإذا وهبنا أنفسنا لفكرة واحدة فسرعان ما يدب الملل في نفوسنا. إننا قد نساكن المجانين، ويتحتم علينا أن نمازجهم، حينئذٍ يُقتل الحديث. اشتد إعجابي مرة بمونتيني حتى حسبت أني لن أحتاج إلى كتاب آخر، وقبل ذلك بشكسبير، ثم بفلوطارخس، ثم بأفلوطين. ومرة بالفيلسوف بيكون، وبعدئذٍ بجيته، بل وببَتينْ، ولكني الآن أقلب صحف أي منهم بفتور، وإن كنت ما زلت أقدِّر لهم عبقرياتهم. وكذلك الحال في الصور. كلٌّ منها تجتذب الانتباه بشدة في وقتٍ ما، بَيْدَ أنها لا تستطيع أن تحتفظ بهذه الجاذبية، وإن كُنَّا نود لو لبثنا مستمتعين على هذا الوجه. ما أقوى شعوري نحو الصور، حتى إنك لو أنعمت النظر في واحدة منها لا بد أن تستأذنها في الانصراف؛ لأنك لن تراها مرة أخرى. تعلمت دروسًا طيبةً من الصور التي أصبحت من ذلك الحين أشاهدها دون عاطفة أو ملحوظة. يجب أن يستنتج المرء شيئًا من الرأي الذي يعبِّر عنه حتى الحكماء بشأن كتاب أو حادث جديد. إن آراءهم تعطيني أنباءً عن حالاتهم العقلية، وحدسًا غامضًا بعض الشيء عن الحقيقة الجديدة. ولكن لا ينبغي لي أن أثق فيها باعتبارها العلاقة الدائمة بين تلك العقلية وذلك الشيء. يسأل الطفل أمه قائلًا: «لماذا لا أحب القصة يا أماه كما أحببتها حينما قصصتها لي بالأمس؟» وا أسفاه يا بني، إن الأمر كذلك حتى مع أقدم ملائكة المعرفة. ولكن هل يجيب سؤالك أن نقول: ذلك لأنك وُلدت للكل، وهذه القصة مسألة فردية؟ إن سبب الألم الذي يسببه لنا هذا الكشف (وهو كشف لا يتم إلا متأخرًا فيما يتعلق بأعمال الفن والفكر) هو عينه المأساة التي تنجم عنه فيما يتعلق بالأشخاص والصداقة والمحبة.

هذا الجمود وانعدام المرونة الذي نجده في الفنون، نجده كذلك عند الفنان، وهو عندئذٍ أشد إيلامًا. ليست في الناس قدرة على التوسُّع. يبدو أصدقاؤنا لنا أول الأمر كممثلين لآراء معينة، ولكنهم لا يتخطونها أو يتجاوزونها قط. إنهم يقفون على حافة محيط الفكر والقوة، ولكنهم لا يتقدمون قط تلك الخطوة الوحيدة التي تأتي بهم إلى هناك.

ما أشبه المرء بقطعة من سارية لبرادور، لا تجد لها بريقًا إذا قلبتها بين يدَيك، حتى تبلغ زاوية معينة. حينئذٍ تجد لها ألوانًا غزيرة جميلة. ليس بين الناس اتفاق أو قاعدة عامة. وإنما لكل امرئ موهبته الخاصة، وإنما تَفوَّق الرجال الناجحون؛ لأنهم يحذقون الوقوف حيثما وحينما يغلب استخدام هذه الموهبة. إننا نفعل ما ينبغي لنا أن نفعله، ونطلق عليه أحسن ما نستطيع من أسماء، ونود أن نظفر بالثناء على أننا كُنَّا نرمي إلى النتيجة التي ترتبت. لا أستطيع أن أذكر أية صورة لإنسان لم يكن زائدًا عن الحاجة في وقتٍ ما. ولكن، أليس هذا مما يدعو إلى الحسرة؟ إن الحياة لا تستحق أن تُنال، إذا كُنَّا نعبث بها.

إن الاتزان الذي ننشده يحتاج بالطبع إلى المجتمع بأسره. إن العجلة ذات الألوان المتعددة يجب أن تدور بسرعة زائدة كي تبدو بيضاء. إننا نتعلم شيئًا ما حينما نتحدث في حماقة شديدة أو نقص معيب. وموجز الكلام أننا مهما فقدنا في ناحيةٍ ما فنحن دائمًا من فريق الفائزين. والقداسة تقع كذلك خلف فشلنا وحماقاتنا. إن ألعاب الأطفال عبثٌ لا معنَى له، ولكن هذا العبث له قيمة تربوية كبرى. وكذلك الحال في أضخم الأشياء وأكثرها جِدًّا، في التجارة، والحكومة، والكنيسة، والزواج، وكذلك في تاريخ خبز كل إنسان، والطرق التي يحصله بها. إن القوة التي لا تسكن في رجل أو امرأة، ولكنها تصدر في لحظة من هذا، وفي لحظة أخرى من ذاك، أشبه ما تكون بالطائر الذي لا يستقر في مكان، ولكنه يثب دائمًا من غصن إلى غصن.

ولكن أي عون لنا من هذه الزخرفة في الكلام وهذه الحذلقة؟ أي عون لنا من الفكر؟ ليست الحياة جدلًا. وقد تلقينا — فيما أحسب — في هذه الأيام دروسًا كافيةً عن سخافة النقد. ما أكثر ما فكَّر وكتب شبابنا في العمل والإصلاح، وبرغم كلِّ ما كتبوا، فإن العالم — وهم أنفسهم — لم يتقدم خطوة إلى الأمام. إن تذوق الحياة تذوقًا فكريًّا لن يحل محل النشاط العضلي. إن المرء إذا فكر في سهولة انزلاق كسرة الخبز في حلقه، مات جوعًا. في «ميدان التربية» احتلت أنبل نظرية عن الحياة أجملَ أجسام الشبان والعذارى، فكانت عاجزة كل العجز، مكتئبة حزينة. إنها لا تجمع ولا تفرِّق طنًّا واحدًا من الحشائش الجافة، ولا تجهز جوادًا، ثم إنها تترك الرجال والعذارى شاحبَي اللون جياعًا. ما أفكه المقارنة التي عقدها أحد الخطباء السياسيين بين وعود أحزابنا وطرق الغرب، التي تبدأ فخمة، تنبت على جوانبها الأشجار، كي تغري المسافر، ولكنها سرعان ما تضيق ثم تضيق، حتى تنتهي بآثار أقدام السنجاب، وتتسلق إحدى الأشجار. وهذا شأن الثقافة معنا. إنها تنتهي بدوار الرأس.

ما أشد كآبة الحياة وما أشد عقمها عند أولئك الذين كان بريق الوعود في إبانهم يبهر عيونهم منذ أشهر قلائل. «لم يعد الآن هناك طريق مستقيم للعمل، ولم يبقَ بين أهل أيرانس أي ثقة في النفس.» لقد شبعنا من الاعتراضات والنقد. لكل طريق من طرق الحياة ما يعترضه، والحكمة العملية تتخذ لها وسط الاعتراضات التي تتحوطها من كل جانب طريقًا لا يعبأ بشيء. إن هيكل الأشياء كله يعلمنا ألا نأبه بشيء. لا تربك نفسك بالتفكير، واشرع في أداء عملك في أي مكان. ليست الحياة ذهنية أو نقدية، ولكنها صلبة شديدة. خيرها الأكبر يناله قوم اعتدل مزاجهم فاستطاعوا أن يستمتعوا بما وجدوا، بغير سؤال. إن الطبيعة تمقت التطلع، وتعبِّر أمهاتنا عن حكمتها حينما يقلن لأطفالهن: «كلوا طعامكم، ولا تتحدثوا عنه.» السعادة أن تملأ ساعتك، تملأها فلا تترك فيها ثغرة لندم أو رضًى. إننا نعيش بين السطوح، وفن الحياة الحق هو أن نحسن الانزلاق عليها. في ظل أعتق التقاليد وأشدها قِدَمًا يفلح المرء ذو القدرة الطبيعية كما يفلح في أحدث عالم، وذلك بمهارته في تناول الأشياء وعلاجها. إنه يستطيع أن يقف ثابتًا في أي مكان. والحياة نفسها مزيج من القوة والصورة، ولا تحتمل أية زيادة في أحدهما. والحكمة في أن تقضي لحظتك، وأن تجد نهاية الرحلة في كل خطوة من خطوات الطريق، وأن تعيش أكبر عدد من الساعات الطيبة: ليس من شأن الناس، ولكنه من شأن المتعصبين. أو قل — إن شئت — إنه من شأن علماء الرياضة، أن يقولوا إننا إذا نظرنا إلى قِصَر الحياة، لم نأبه في هذا الأمد القصير أن نهبط إلى ذل الحاجة أو نعلو عن الأنظار. وما دام شأننا باللحظات، فلنحسن تدبيرها. إن خمس دقائق اليوم توازي عندي خمس دقائق في العصر الذهبي المرتقب. لنكن اليوم متزنين حكماء مالكين لأنفسنا. ولنحسن معاملة الرجال والنساء، نعاملهم كأنهم حقائق، وربما كانوا كذلك. يعيش الناس في الأوهام، كأنهم سكارى، أيديهم مرتخية مرتجفة لا تقوى على عمل ناجح. إنها عاصفة من الأوهام، والثقل الوحيد الذي أعرف أنه يوازنها هو تقدير الساعة الراهنة. وبغير أي ظل من ظلال الشك، ووسط هذا الدُّوَار من المظاهر وشئون السياسة، يزداد يقيني بأنه لا ينبغي لنا أن نؤجل أو نهمل أو نؤمل، بل يجب علينا أن نعدل في أحكامنا حيث نحن، ومع أيٍّ ممن نعامل، فنقبل ظروفنا كما هي ورفاقنا كما هم، مهما كانوا متواضعين أو منفرين؛ فهم الوسطاء المجهولون الذين وكلت إليهم الدنيا إبلاغ كل مسراتها لنا. فإن كان هؤلاء على ضعة وخبث، كان لإسعادهم — وهو آخر ما تصبو إليه العدالة — صدًى في القلب أوقع من صوت الشعراء ومن العطف العابر الذي يبديه الأشخاص الذين نرمق إليهم بإعجاب. وأعتقد أنهم مهما احتمل الرجل المفكر من عيوب رفقائه وسخافاتهم، فإنه لا يستطيع — دون تكلُّف — أن ينكر على أية جماعة من الرجال والنساء نوعًا من الإحساس له قيمته الكبرى. إن الأجلاف والمستهترين لديهم شعور بالسمو، إن لم يكن لديهم عطف، وإنهم ليمجدون هذا الشعور بطريقتهم الهوائية العمياء، ويُخلِصون له الولاء.

إن الشباب الرقيق يحتقر الحياة، ولكني وأمثالي ممن لا يشكون التخمة، وممن يحسبون يومهم خيرًا خالصًا محسوسًا، ترى أنه من فرط الأدب أن يبدو المرء مستخفًّا وأن يطلب الرفاق. إن العطف يبعث فيَّ شيئًا من القلق ورقة الإحساس، ولكنك إن تركتني وحيدًا، استمتعت بكل ساعة وما تجلبه لي، واستمرأت ما أجد من طعام، كما أستمرئ الأحاديث العتيقة في الحان. وإني لشكور للقليل من الرحمة يصيبني. إنني وازنت بيني وبين أحد أصدقائي الذي يتوقع من الدنيا كل شيء، ويخيب رجاؤه إذا قصَّر أي شيء عن خير ما يكون عليه، فألفيتني أبدأ عند الطرف الآخر، لا أتوقع شيئًا، وأنا دائمًا شاكر جِدًّا لقدر معتدل من الطيبات. أنا أقبل طنين الاتجاهات التي تعترضني ورنينها. وأستطيع أن أحتمل مدمني الخمور وثقال الظل. إنهم يضفون ظلًّا من الواقع على الصورة المجاورة التي لا يستغني عنها المظهر الذي سرعان ما يختفي كالشهاب. أستيقظ في الصباح، وأجد الدنيا القديمة، والزوجة، والأطفال، والأم، وكنكورد وبوسطن، والعالم الروحي العزيز الحبيب، بل والشيطان العزيز الحبيب على مقربة مني. إذا نحن أخذنا ما وجدنا من الطيبات، دون سؤال، فسوف نجد الكثير المتراكم. إن الهدايا العظيمة لا تُنال بالتحليل. كل شيء طيب في الطريق العام. والمنطقة الوسطى من الكون هي المنطقة المعتدلة. نستطيع أن نتسنم الذروة الرقيقة الباردة، ذروة الهندسة البحتة والعلم لا حياة فيه، كما نستطيع أن نستغرق في الحياة الحسية. وبين هذَين النقيضَين خط استواء الحياة، والفكر، والروح، والشعر، وهو نطاق ضيِّق. ثم إن كل شيء طيب — في الحياة العملية العامة — تجده في الطريق العام. إن جامع الصور يتطلع في جميع محلات الصور في أوروبا، باحثًا عن منظر طبيعي لبوسان، أو عن رسم بالرصاص لسلفاتور، في حين أن «التحول» و«الحكم الأخير» و«تناول القديس جيروم» وما شابه ذلك من صورٍ لما وراء العقل، تجدها على حوائط الفاتيكان وأوفيزي واللوفر حيث يستطيع كل عابر أن يشاهدها. ولا أذكر بالطبع صور الطبيعة في كل طريق، أو مغرب الشمس أو مشرقها كل يوم، والتماثيل الطبيعية لجسم الإنسان الذي لا يغيب عن أنظارنا قط.

في مزاد عام في لندن اشترى حديثًا أحد الهاوين كلمةً بخط شكسبير بمبلغ مائة وسبعة وخمسين جنيهًا، في حين أن التلميذ في المدرسة يستطيع أن يقرأ «هاملت» دون مقابل، ويستطيع أن يكتشف أسرارًا لها أهميتها القصوى في هذه المسرحية لم تُنشر بعد. أظن أنني لن أقرأ سوى أشد الكتب ألفة للناس: الإنجيل وهومر ودانتي وشكسبير وملتن. فلماذا إذن نعدو هنا وهناك باحثين عن الأركان والخفايا؟ إن الخيال يستمتع بالصناعات الهندية الخشبية، وبمن يتصيدون النحل والحيوانات ذات الفراء. إننا نتوهم أننا غرباء. ولسنا مستأنسين استئناسًا صميمًا فوق هذا الكوكب كالرجل الهمجي والوحش الكاسر والطير، ولكنا نستبعد هؤلاء كذلك، نستبعد كل مخلوق متسلق أو طائر أو زاحف أو مريش أو يمشي على أربع. إنك إن شاهدت الثعلب والفأر الجبلي والصقر والشنقب والعجاج عن كثب لم تجد لها جذورًا في الأرض أعمق من جذور الإنسان، وألفيتها مجرد مخلوقات ساكنة عابرة فوق هذه الأرض. ثم تأتي الفلسفة الذرية الجديدة فتُظهر فجوات سحيقة بين ذرة وأخرى، وتبين أن الدنيا كلها في الخارج، وليس لها داخل.

الحياة الوسطى خير حياة. الطبيعة كما نعرفها ليست قديسًا. وهي لا تُؤْثر بالفضل أضواء الكنيسة، أو الزاهدين، أو الجنتو، أو آكلي الحِنطة؛ فهي تأتي آكلة شاربة آثمة. وأعزاؤها العظماء والأقوياء والجُمال، ليسوا أبناء سنَّتنا، ولم يتخرجوا في مدرسة الأحد، ولا يَزِنون طعامهم، ولا يستمعون إلى الوصايا في كل حين. فإن أردنا أن نكون أقوياء مع قوَّتها، فلا ينبغي لنا أن نخفي ضمائرَ مكتئبة، نستعيرها كذلك من ضمائر الأمم الأخرى. يجب أن نقيم الفعل الحاضر القوي في وجه كل إشاعات الغضب، ماضيها ومستقبلها.

هناك أشياء كثيرة لم تستقر بعد، ومن المهم جِدًّا أن تستقر، وإلى أن تستقر يجب أن نفعل كما نفعل. وبينما يستمر الجدل على موازنة التجارة، ولا ينتهي قبل انقضاء قرن أو قرنَين، تستطيع «نيو إنجلند» وإنجلترا القديمة أن تفتح محلها التجاري. وقد نناقش قانون حق التأليف، وحق التأليف الدولي، وفي خلال ذلك نبيع كتبنا بقدْرِ ما نستطيع. وقد نبحث في ضرورة الأدب، وفيما يبرره، وفي قانونية تسجيل فكرة من الأفكار. وقد يحتدم الجدال في موضوعٍ ما، وبينما تستعر المعركة فعليك أيها الباحث العزيز أن تَنْكَبَّ على عملك السخيف، وأن تضم سطرًا في كل ساعة، وتضيف سطرًا بين الحين والحين. وقد يدور النزاع حول امتلاك الأرض، وحق الملكية، وقد نبحث في التقاليد، وقبل أن نستقر على رأي عليك أن تحرث بستانك، وأن تنفق ما تكسب هبات وعطايا في كل غرض جدي جميل. الحياة نفسها فقاعة وشك وسبات في سبات. هبْها، بل وهبْ أكثر مما تريد. أمَّا أنت يا حبيب الله، فعليك أن تهتم بحلمك الخاص، ولا تضل طريقك وسط مَن يزدرون الدنيا أو يشكون فيها. ومهما يكن من أمر، فلتلتزم غرفتك، ولتعمل حتى يتفق الآخرون عما نعمل بحياتنا. يقولون إن مرضك وعاداتك التافهة تتطلب منك أن تعمل هذا أو تتجنب ذاك، ولكن اعلم أن حياتك حالة عابرة، أو هي قباء تقضي فيه الليل، وعليك — مريضًا أو مُعافًى — أن تتخطى هذه الحدود. إنك مريض، ولكن حالتك لن تسوء، والدنيا التي تعزك سوف تتحسن.

الحياة الإنسانية تتألف من عنصرَين: القوة والصورة، ويجب أن نحتفظ بالتناسب بينهما دائمًا، إن أردناها حلوة سليمة. كل واحد من هذَين العنصرَين إن زاد نجم عنه أذًى يضر كما يضر نقصانه. كل شيء يسير نحو الزيادة، كل صفة طيبة بغيضة، إذا هي لم تختلط بضدها. والطبيعة تجعل كل صفة خاصة عند المرء طاغية كي تبلغ بالخطر حافة الدمار. وهنا بين الحقول نسوق العلماء أمثلة لهذه الحقيقة المرة. إنهم ضحايا التعبير في هذه الطبيعة. وأنت يا مَن ترى الفنان والخطيب والشاعر عن كثب، وتجد أن حياتهم لا تفوق حياة الصناع والمزارعين، وتجدهم ضحايا التشيع لفكرة واحدة، أجوافًا أعجافًا، وتحكم عليهم بالفشل وتَصِمهم بالدجل لا بالبطولة، تستنتج بحق أن هذه الفنون ليست للإنسان ولكنها مرض من الأمراض. ومع ذلك فالطبيعة لن تسندك. الطبيعة التي لا تُقاوم خلقت الناس على هذه الصورة، وتخلق ألوفًا منهم كل يوم على ما هو أكثر من هذه الصورة. إنك قد تحب الصبي يقرأ في كتاب أو يتأمل في صورة، أو تمثال، ومع ذلك فماذا عسى أن تكون هذه الملايين التي تقرأ وتشاهد سوى كُتَّاب أو نحاتين مبتدئين؟ وإذا ما زادت قليلًا هذه الصفة التي تطالع الآن وتشاهد، أمسكوا بالقلم والإزميل. وإذا تذكر المرء كيف بدأ في بساطة أن يكون فنَّانًا، أدرك أن الطبيعة انضمت إلى خصومه. الإنسان استحالة ذهبية، والطريق الذي ينبغي له أن يسلكه في دقة الشعرة. والحكيم يُصاب بالغفلة إذا أمعن في حكمته.

وما أيسر — إن شاءت الأقدار — أن نلتزم دائمًا هذه الحدود الجميلة، وأن نخضع أنفسنا، للمرة الأولى والأخيرة، للحساب الدقيق، حساب دولة الأسباب والمسببات المعروفة. وفي الطريق وفي الصحيفة تبدو الحياة أمرًا واضحًا بحيث يكفل للمرء النجاح أن يعتزم التزام جدول الضرب في جميع الأجواء. ولكن سرعان ما يأتي اليوم، أو لعله نصف ساعة، الذي يهمس في آذاننا همس الملائكة، ويُحبِط ما وصلت إليه الأمم والسنون من عِبر! وفي الغد مرة أخرى يبدو كل شيءٍ حقيقيًّا ومحددًا، وتعود المعايير المألوفة، ويندر الإدراك السليم ندرة العبقرية، بل هو أساس العبقرية، والخبرة بالنسبة إلى كل رأي جديد هي الأيدي والأرجل، وبرغم ذلك فإن ما يؤدي عمله على أساس هذا الفهم سرعان ما يفلس. إن القوة تسير في طريقٍ آخرَ لا تقف في سبيله حواجزُ الاختيار والإرادة، وأقصد به نُفق الحياة وقنواتها التي تختفي في طبقات سحيقة الغور. ومما يبعث على الضحك أننا رجال سياسة وأطباء وقوم عقلاء، ليس هناك من يفوق هؤلاء غفلة. الحياة سلسلة من المباغتات، ولولا ذلك ما استحقت أن نحصل عليها أو نظفر بها. إن الله يسره أن يعزلنا كل يوم، ويخفي عَنَّا الماضي والمستقبل. وإننا نود لو تلفتنا حولنا، ولكنه بأدب جم يسدل أمامنا ستارًا لا يُخترق من السماء الصافية، ويسدل خلفنا ستارًا آخرَ من السماء الصافية. وكأنه يقول لنا: «لن تذكروا ولن تتوقعوا شيئًا.» كل حديث طيب، وأدب، وعمل، يصدر عن حالة تلقائية تتغافل المألوف، وتجعل اللحظة الراهنة لحظةً عظمى. الطبيعة تمقت الحاسبين، ووسائلها وثابة مندفعة. يعيش المرء بالنبض، وحركاتنا العضوية كذلك، والعوامل الكيمائية والأثيرية متموجة متناوبة، ويسير العقل إلى الأمام معاديًا، ولا يفلح قط إلا في نوبات مفاجئة. إن نجاحنا يأتي طارئًا. وأهم ما جمعنا من تجارب إنما جاء عرضًا. وأشد طبقات الناس جاذبية أولئك الذين تأتيهم القوة منحرفة ولا تأتيهم مستقيمة، هؤلاء عباقرة لم يُعترف بهم بعد، يظفر المرء بسنا ضيائهم، دون أن يدفع في ذلك ثمنًا غاليًا. جمالهم جمال الطير، أو إشراق الصباح، وليس جمال الفن. في فكرة النبوغ تكمن المفاجأة دائمًا. والإحساس الخلفي يصح أن يُسَمَّى «الجدَّة»؛ لأنه لا يكون غير ذلك، جديد على أقدم العقول جدته على الطفل الصغير، «المملكة التي تأتي بغير ملاحظة». وكذلك النجاح العملي لا يأتي مع التصميم الدقيق. إن المرء لا يُلاحظ وهو يؤدي أحسن ما يستطيع أداءه. إن حول أصح أعماله سحر خاص، يذهل قوي الملاحظة، حتى إنك لا تلقي إليه بالًا برغم أنه يؤدَّى أمام ناظرَيك. إن لفن الحياة خفرًا يأبى عليه الظهور. كل امرئ أمر مستحيل حتى يُولد، وكل شيء مستحيل حتى نشهد نجاحًا. والمتحمسون للدين يتفقون في نهاية الأمر مع أشد المتشككين برودة، على أنه ليس هناك شيء مِنَّا أو من عملنا، إنما كل شيء من الله. إن الطبيعة لا تستغني لنا عن أدق أوراق شجر الغار. كل كتابة تهبط علينا بفضل من الله، وكذلك كل عمل وكل امتلاك. وإنه ليسرني أن أكون أخلاقيًّا، وأحافظ على الحدود والتخوم الصحيحة، التي أحبها وأعزها، وأعزو الكثير إلى إرادة الإنسان، ولكني آثرت لنفسي الإخلاص في هذا الفصل من الكِتاب، ولا أستطيع أخيرًا أن أرى شيئًا، من نجاح أو فشل، إلا ما ينبعث إلى حد كبير عن القوى الحيوية التي يمدنا بها الخلود. إن نتائج الحياة لم تُحسب ولا يمكن حسابها. والسنون تعلِّم الكثير مما لا تعرفه قط الأيام. والأشخاص الذين تتألف منهم صحبتنا، يتحدثون ويجيئون ويذهبون، ويصممون وينفذون الكثير، وينجم عن كل هذا أي شيء إلا ما نتوقع من نتائج. إن الفرد دائمًا على خطأ. إنه يصمم الكثير، ويجذب إليه الأعوان، ويتشاجر مع بعضهم أو كلهم، ويرتكب الأخطاء الجسيمة، وينتهي إلى شيءٍ ما، وكل أمر يتقدم قليلًا، ولكن الفرد دائمًا على خطأ. ويخرج شيء جديد، ولكنه يختلف كل الاختلاف عما وعد به نفسه.

وقد أذهل القدماء عدم خضوع عناصر الحياة البشرية للحساب كما ذكرنا؛ فألَّهوا المصادفة. بَيْدَ أن هذا بمثابة مَن يطيل الوقوف عند الشرارة — التي يتلألأ بريقها في نقطة واحدة — في حين أن الكون يدفأ بحرارة النار عينها التي تكمن فيها. إن معجزة الحياة التي لا يمكن تفسيرها، والتي سوف يبقى إعجازها أبدًا، تُدخل عنصرًا جديدًا. وأظن أن سير إفرارد هوم قد لاحظ في نمو الجنين أن التطور لم يكن من نقطة مركزية واحدة، ولكنه كان فعَّالًا في نقط ثلاث أو أربع في وقت واحد. إن الحياة ليست لها ذاكرة؛ لأن ما يتتابع في سيره قد يُذكر، أمَّا ما يوجد مع غيره في وقت واحد، أو ما يصدر عن سبب أعمق، بعيد عن الوعي، فإنه لا يعرف لنفسه اتجاهًا. وكذلك حالنا، نكون مرة في ريبة من أمرنا، أو على غير اتحاد، لأننا غارقون في الصور والمسببات، وكلها يبدو ذا قيم متساوية متعادية، ومرة نكون متدينين، حينما نستقبل قانون الروح. وبرغم هذا التشتيت، وهذا النمو للأجزاء في وقت واحد، فإنها سوف تصبح «أعضاء» ذات يوم، وتخضع لإرادة واحدة. وإلى هذه الإرادة الواحدة، وهذا السبب الخفي، توجَّه انتباهنا وأملنا. إن الحياة بذلك تنصهر في أمل أو في عقيدة. وخلف التفصيلات التافهة التي ليس بينها انسجام كمال موسيقي، و«المثل الأعلى» يلازمنا دائمًا، والسماء بغير شقوق أو ندوب. وما عليك إلا أن تراقب أسلوب استنارتنا. حينما أتحدث إلى عقل عميق، أو إذا كانت لديَّ أفكار طيبة عندما أكون وحيدًا في أي وقت من الأوقات، لا أبلغ حد الرضى دفعة واحدة، مثلما أشرب الماء وأنا صادٍ، أو أقرب النار وأنا مقشعر. كلا، بل إني أول الأمر أدرك اقترابي من منطقة من مناطق الحياة جديدة رائعة. وبإصراري على القراءة أو التفكير تزيد هذه المنطقة دلالة على نفسها، كأنها قبس من نور، ويتكشف لي فجأة جمالها واطمئنانها، وكأن السحب التي تغطيها تنقشع في فترات، وتبدي للرحالة المقترب الجبال الداخلية، تنتشر عند سفوحها المراعي الهادئة الخالدة، حيث ترعى القطعان، ويزمر الرعاة ويرقصون، غير أن كل تبصُّر من جانب هذه المملكة الفكرية يبدو كأنه مبتكر جديد، ويبشر بما يتلوه. إنني لا أخلقه، وإنما أبلغه، وأشاهد ما كان كائنًا هناك من قبل. كلا، لست بالخالق! إنني أصفق براحتي في دهشة الأطفال وسرورهم، إزاء الفتح الأوَّل الذي يتبدى لي في هذه العظمة الشاهقة، العتيقة بما حبتها به العصور العديدة من حب وولاء، الحديثة بما يدب فيها من حياة الحياة، وكأنها مكة المشرقة وسط الصحراء. وأي مستقبل تفتحه لي! إنني أحس قلبًا جديدًا ينبض بحب الجمال الجديد. إنني مستعد لأن أموت من أثر الطبيعة، وأُولد مرة أخرى في هذه القارة الأمريكية الجديدة التي لم يقربها أحد من قبل، والتي وجدتُها في الغرب.

فلا اليوم ولا الأمس بداية هذه الأفكار،
التي كانت منذ الأزل، بل ولا يمكن أن يوجد الإنسان،
الذي عرف أول دخولها.

وإذا كنت قد وصفت الحياة بأنها سلسلة من الحالات العقلية، فلا بد لي أن أضيف إلى ذلك أن فينا شيئًا لا يتغير، تنخرط تحته جميع الإحساسات وحالات العقل. إن الوعي عند كل إنسان مقياس متحرك يجعله مرة شيئًا واحدًا مع «السبب الأوَّل»، ومرة مع لحم جسمه، حياة فوق حياة، في درجاتٍ لا نهاية لها. والعاطفة التي صدر هذا الوعي عنها تعيِّن قيمة أي فعل. والمسألة دائمًا ليست هي ما فعلت أو ما تجنبت، وإنما هي بأمر من تفعل أو تُجتنب.

إن «الحظ» و«منرفا» و«آلهة الفن» و«الروح القدس» إن هي إلا أسماء عجيبة أضيق من أن تشمل هذه المادة التي لا تحد. والعقل المتحير يجب أن يخضع لهذا المسبِّب، الذي لا يقبل التسمية، هذا المسبِّب الذي يفوق الوصف، والذي حاولت كل عبقرية رقيقة أن تمثِّله برمز مؤكد، فمثَّله طاليس بالماء، وأنكسمانيس بالهواء، وأناكساجوراس بالفكر، وزرادشت بالنار، ويسوع والمحدثون بالمحبة. والاستعارة التي استخدمها كلٌّ منهم أصبحت دينًا قوميًّا. ولم يكن منكيس الصيني بأقل من ذلك نجاحًا في تعميمه؛ فلقد قال: «إنني أفهم اللغة تمام الفهم، وأُحسن تغذية ما عندي من قدرة عظيمة.» فسأله رفيقه عما يسميه القدرة العظيمة، فأجاب منكيس: «التفسير عسير، هذه القدرة عظيمة جِدًّا، لا تلين بتاتًا. إن أنت غذيتها غذاءً صحيحًا، ولم تُصبْها بأذًى، مَلأتْ ما بين السماء والأرض من فراغ. هذه القدرة تسير مع العدالة والعقل، وتُعاونهما ولا تسمح بالجوع.» وفي تعبيرنا الأصح نُسَمِّي هذا التعميم باسم «الوجود»، وبذلك نعترف بأنا قد بلغنا إلى أقصى ما نستطيع الذهاب إليه. ويكفي لابتهاج الكون أنَّا لم نبلغ سدًّا، وإنما وصلنا إلى محيطات لا تُحَد.

إن حياتنا لا تبدو حاضرة بمقدار ما تبدو مستقبلة، لا في الشئون التي تُنفق فيها هذه الحياة، ولكن كإشارة إلى هذه القدرة العظيمة. إن أكثر الحياة يظهر أنه مجرد إعلان عن القدرة العقلية. إن المعرفة لا تُعطى لنا لكي نبيع أنفسنا بثَمَن بخس. إنما نحن في قمة العظمة. وكذلك في التفصيلات، تكون عظمتنا دائمًا ميلًا أو اتجاهًا ولا تكون في العمل. علينا أن نعتقد في القاعدة لا في الاستثناء. وهكذا يُعرف النبيل من الحقير. وكذلك عند إحساسنا بالعاطفة الدينية، لا تكون الأهمية القصوى، أو الحقيقة الأساسية في تاريخ الأرض، فيما نعتقد بشأن خلود الروح أو ما إلى ذلك، وإنما في «الدافع العام إلى الاعتقاد». فهل نصف هذا المسبِّب بأنه ذلك الذي يؤثِّر تأثيرًا مباشرًا؟ إن الروح ليست عاجزة أو بحاجة إلى أعضاء وسيطة. إن لها قوًى وافرة وآثارًا مباشرة؛ فأنا مفهوم بغير تفهيم، ومحسوس بغير عمل، وحيث لا أكون. ومِنْ ثَمَّ فإن كل امرئٍ عادل يقنع بثناء نفسه على نفسه، ويرفض أن يشرح نفسه، ويقنع بأن تقوم له بهذه المهمة أعمال جديدة. إنه يعتقد أننا نتصل بغير كلام، وبما فوق الكلام، وأن ليس من أعمالنا الصميمة ما ينعدم تأثيره بتاتًا على رفاقنا، مهما بعُدت الشُقَّة؛ لأن أثر العمل لا يُقاس بالأميال. لماذا أُغضب نفسي لأن حادثًا وقع فحال دون وجودي حيث كان ينبغي أن أكون؟ إذا لم أشهد الاجتماع، فإن وجودي حيث أنا يجب أن يكون في منفعة الحكمة والصداقة المشتركة كما يكون وجودي في ذلك المكان؛ فإني أبذل القوة عينها في كل مكان. هكذا يسير «المثل الأعلى» العظيم أمامنا. فإنه لم يُعرف عنه قط أنه تخلف إلى الوراء. ولم يحصل أحد على خبرة مشبعة، ولكن صالحه ينبئ بخبرة أوسع. فإلى الأمام دائمًا! في لحظات التحرير، نعلم أن صورة جديدة من صور الحياة والواجب كانت ممكنة، فإن في كثير من العقول التي حولنا تُوجد بالفعل عناصر عقيدة في حياةٍ سوف تتخطى حدود أي سجل مكتوب لدينا. وهذه الصورة الجديدة سوف تشتمل على ما يشك فيه المجتمع، كما تشتمل على ما يؤمن به، فيتكون من انعدام العقيدة مذهب جديد؛ لأن الشكوك ليست اعتباطية أو متمردة، وإنما هي حدود للعقيدة الإيجابية، ويجب على الفلسفة الجديدة أن تتقبلها، وأن تستوحيها الآراء الموجبة، كما ينبغي لها أن تشتمل على أقدم العقائد.

عندما اكتشف الإنسان أنه موجود جلب على نفسه الشقاء، ولم يَعُد له من هذا الشقاء منفذ. هذا الاكتشاف هو ما نسميه «سقوط الإنسان». إننا منذ ذلك الحين نرتاب فيما لدينا من قدرات.

لقد تعلمنا أننا لا نرى رؤية مباشرة، ولكنا نرى بالوساطة، وأنه ليست لدينا وسيلة نصلح بها هذه العدسات. ربما كانت لهذه العدسات الإنسانية قوة خالقة، وربما لم تكن هناك مرئيات، ولكنا عشنا ذات يوم فيما رأينا. أمَّا الآن فإن ضراوة هذه القدرة الجديدة التي تهدد بالاستيلاء على كل شيء، تشغلنا؛ فالطبيعة، والفن، والأشخاص، والآداب، والديانات، وغير ذلك من أشياء، يتلاشى على التتابع، وليس الإله إلا فكرة من أفكارها. وتكون الطبيعة والأدب ظواهرَ ذاتية. وكل شر وكل خير ظل نلقيه. إن الطريق مليء بمظاهر الإذلال للمتكبرين. وكما أن المتحذلق قد حاول أن يكسو خدمه في زيه ويجعلهم يخدمون ضيوفه على المائدة، فكذلك الكروب التي تصدر عن القلب السيئ كفقاعات، تتخذ في الحال أشكال السيدات والسادة في الطريق، وأصحاب الحوانيت والحانات في الفنادق، وتهدِّد أو تهين كلَّ ما يقبل التهديد أو الإهانة فينا. وكذلك الحال مع الأوثان التي نُولع بها. إن الناس ينسون أن العين هي التي تخلق الأفق، وعين العقل الباحثة هي التي تجعل من هذا الرجل أو ذاك طرازًا أو ممثلًا للإنسانية باسم البطل أو القديس. إن يسوع «الإنسان المؤله» رجل طيب، اتفق كثير من الناس على أن هذه القوانين البصرية تنطبق عليه. وبالمحبة من جانب، وبالإمساك عن الاعتراض من جانبٍ آخر، استقر الأمر مؤقتًا على أن ننظر إليه وسط الأفق، ونعزو إليه الخواص التي يتصف بها أي امرئ ننظر إليه هذه النظرة. غير أن الحب أو الكراهية مهما طال أمده له نهاية سريعة. إن النفس العظيمة الوهاجة التي تمتد جذورها إلى الطبيعة المطلقة، تقتلع كل الوجود النسبي وتدمِّر مملكة المحبة والصداقة الفانية. إن الزواج (فيما يُسَمَّى العالم الروحي) أمرٌ مستحيل، بسبب المفارقة بين كل ذات وكل موضوع؛ فالذات تستقبل الألوهية، ولا بد أنها تحس عند كل موازنة أنها تعظم بتلك القوى الخفية. ولا بد من الإحساس بأثر المادة، بوجودها إن لم يكن بطاقتها، ولا يمكن لأية قوة من قوى العقل أن تنسب إلى الموضوع الألوهية الصحيحة التي تغفو أو تتيقظ دائمًا في كل ذات. ولا تستطيع المحبة قط أن تسوي بين قوة الوعي وقوة حلوله في الأشياء. وسوف توجد دائمًا الفجوة بين كل «أنا» و«أنت»، كما توجد بين الأصل والصورة. إن الكون هو عروس الروح. وعطف الفرد عطف من جانب واحد. الكائنان البشريان كالكرتَين لا يتماسكان إلا في نقطة واحدة. وطالما هما على اتصال فإن جميع النقاط الأخرى في كل من الكرتَين تكون في حالة سكون. لا بد أن يأتي دورها كذلك، وكلما طال بقاء نوع من أنواع الاتحاد، زاد ما تحصل عليه الأجزاء التي لم تتحد من شدة الشوق.

للحياة أن تتخذَ لنفسها صورة، ولكنها لا يمكن أن تتجزأ أو تتضاعف. وأي غزو لوحدتها يكون مدعاة للفوضى. إن الروح ليست توءمًا، ولكنها فريدة، وهي — وإن تكشفت كطفل في الزمان، وطفل في المظهر — ذات قوًى فاصلة عالمية، ولا تسمح بحياةٍ أخرى إلى جانبها. إن كل يوم، وكل عمل يكشف عن الألوهية التي ساء اختفاؤها. إننا نعتقد في أنفسنا بما لا نعتقد في غيرنا. ونسمح بكل شيء لأنفسنا، وما نسميه إثمًا عند الآخرين هو بالنسبة إلينا تجربة. ومن أمثلة إيماننا بأنفسنا أن الناس لا يتحدثون قط عن الجريمة باستخفاف كما يظنون. أو أن كل امرئ يُفسِح لنفسه في مجال الأمن، بدرجةٍ لا يسمح لغيره بها. إن العمل يبدو مختلفًا كلَّ الاختلاف في داخله عن خارجه، وفي نوعه عن عواقبه. إن القتل عند القاتل ليس من الأفكار المخرِّبة كما هو عند الشعراء وأصحاب الخيال. إنه لا يزعزعه، ولا يصرفه عن ملاحظته العادية للتوافه. إنه عمل من اليسير جِدًّا تأمُّله، ولكنه يدل في عاقبته على أنه ضجيج مزعج، وأنه يدعو إلى اضطراب جميع العلاقات. والجرائم التي تصدر عن الحب خاصة تظهر عدلًا وحلالًا في عين مرتكبيها، ولكنها — بعد ارتكابها — تبدو مدمرة للمجتمع. وفي النهاية لا يعتقد إنسان أنه يمكن أن يضل، أو أن الجريمة سوداء كما هي عند الأثيم؛ لأن العقل في حالتنا الخاصة يشكل الأحكام الخلقية؛ إذ إنه ليست هناك جريمة للعقل؛ فهو مناقض للشرائع أو فوقها، ويحكم على القانون كما يحكم على الحقيقة. يقول نابليون معبِّرًا بلغة العقل: «إن ذلك أسوأ من الجريمة، إنه خطأ فاحش.» الدنيا لدى العقل مشكلة في الرياضة أو في علم العدد، وليس له شأن بالثناء أو الهجاء وبكل العواطف الضعيفة. كل سرقة أمر نسبي. فإن تعرضت للمطلق، فبربك من ذا الذي لا يسرق؟ إن القديسين يحزنون لأنهم ينظرون إلى الإثم (حتى حينما يتأملون) من وجهة نظر الضمير، ولا ينظرون إليه من وجهة نظر العقل، وهو اضطراب في الفكر. إنك إن نظرت إلى الإثم بالفكر وجدته شيئًا صغيرًا أو قليل الشأن، وإن نظرت إليه بالضمير أو الإرادة، ألفيته فسادًا أو سوءًا. العقل يسميه ظلًّا، أو انعدامًا للضوء، ولا يراه جوهرًا. أمَّا الضمير فيحسه جوهرًا، أو شرًّا لا بد منه. إنه ليس كذلك: له وجود موضوعي، وليس له وجود ذاتي.

وهكذا فلا بد للكون من أن يتلون بلوننا، ولكل شيء أن يخضع بدوره للذات. والذات موجودة، وهي تتضخم. وكل شيء يتخذ مكانه إن عاجلًا أو آجلًا. أنا كائن، ولذا فإني أرى. وأيًّا كانت اللغة التي نستخدمها، فإننا لا نستطيع أن نقول شيئًا إلا ما نحن عليه.

كان هرميز وكادمس وكولمبس ونيوتن وبونابرت وزراء عقولهم. وبدلًا من أن نحس الفقر عندما نلتقي برجل عظيم، دعنا نعامل القادم الجديد كأنه عالم بطبقات الأرض عابر، يمر بضيعتنا، ويطلعنا على نوع جيد من الأردواز أو حجر الجير أو فحم الأنثرسيت في أحراشنا ومراعينا. والعمل الجزئي لكل عقل جبار في اتجاهٍ ما عبارة عن منظار مقرِّب للأشياء التي يتسلط عليها. وكل جانب آخرَ من جوانب المعرفة لا بد أن يصل إلى المبالغة عينها قبل أن تكمل استدارة الروح.

هل تشهد تلك القُطَيْطة تتابُعَ ذيلها في حركة رشيقة؟ إن استطعت أن تنظر بعينَيها ربما رأيتَها محاطة بمئات الأشخاص الذين يمثلون مسرحيات معقدة، من مهازلَ ومآسي، فيها أحاديث مطولة، وشخصيات عديدة، وكثير من تقلبات القدَر، وفي الوقت ذاته ليست سوى قُطَيْطة وذيلها. متى يسقط عَنَّا القناع، فيتلاشى صوت الدفوف والضحكات والصياح، فنتبين أنَّا كُنَّا نمثِّل وحدنا؟ ذات وموضوع؛ ما أروع أن تتم الدورة الكهربية، ولكن الجسامة لا تزيدها شيئًا. فماذا يهم لو كان الموضوع عن كبلر والكرة، أو كولمبس وأمريكا، أو عن قارئ وكتابه، أو القُطَيْطة وذيلها؟

حقًّا أن إلهة الفنون جميعًا والحب والدين تمقت هذه التطورات، وإنها تحاول أن تجازي الكيمائي الذي ينشر في الصالون أسرار المعمل. ولا نستطيع أن نقلل من شأن الضرورة التي يحتِّمها تكويننا لرؤية الأشياء على أوجهٍ شخصية أو ملونة بلون مزاجنا. ومع ذلك فإن الله يستوطن هذه الصخور الجرداء. وهذه الحاجة هي التي تودع في الأخلاق الفضيلة الكبرى، فضيلة الثقة بالنفس. يجب أن نستمسك بهذا العيب، مهما جلب علينا من عار، وأن يشتد استمساكنا بمحورنا بعودتنا إلى أنفسنا في قوة وعزم بعد اندفاعنا إلى العمل. إن حياة الحق باردة، وهي حتى الآن مفجعة، ولكنها لا تخضع للدموع والندم والاضطراب. إنها لا تحاول أن تعمل عمل شخص آخر، وأن تتخذ لنفسها حقائقَ فردٍ آخر. ومن دروس الحكمة الأساسية أن تميز ما لك مما لغيرك. تعلمت أني لا أستطيع أن أتصرف في حقائق الآخرين. ولكني أملك لحقائقي المفتاح الذي يشجعني ضد كل ما ينكرون، وتعلمت كذلك أنهم يملكون المفاتيح لحقائقهم. إن الشخص العطوف يقع في ورطة السابح بين جماعة من الغرقى. كلهم يتشبثون به، فإن هو قدَّم ساقًا أو إصبعًا أغرقوه. إنهم يرغبون في النجاة من أضرار رذائلهم، لا من رذائلهم أنفسها. إن البِر يضيع هباءً إذا نحن بذلناه في سبيل هذه الأعراض الضعيفة. والطيب الحكيم المتمكن يقول: «اخرج من هذا.» كأول شرط من شروط النصيحة.

وفي بلادنا هذه أمريكا التي يكثر فيها الكلام تفسدنا طبيعتنا الطيبة واستماعنا إلى كل جانب. وهذا الإذعان يزيل القدرة على أن يكون المرء عظيم الفائدة. لا ينبغي للمرء أن يتمكن من النظر إلا رأسًا وإلى الأمام. وانصراف الانتباه هو الرد الوحيد على إصرار الآخرين على الاستهتار. وقد نعير هؤلاء آذاننا، ولكن لكي نستخف بما يطلبون. هذا رد مقدس، ولا يترك مجالًا للعدول عنه أو لجمود التفكير. ترى في تصوير فلاكسمان ليومنديز، الذي ذكره أيسكلس، أن أورستيز يتضرع إلى أبولو بينما تنام آلهة الغضب عند الأعتاب. إن وجه الآلهة يعبِّر عن شيء من الندم والرأفة، ولكنه هادئ لاعتقاده في عدم إمكان التوفيق بين الاتجاهَين. لقد وُلد في ظروف سياسية أخرى، في عالم الخلود والجمال. والرجل الذي عند قدمَيه يطلب إليه أن يهتم باضطراب الدنيا، وهو ما لا تستطيعه طبيعته. ويومنديز يعبِّر باستلقائه عن هذا الفارق تعبيرًا قويًّا. إن الإله مثقل بمصيره المُقدس.

الوهم، والمزاج، والتتابع، والظاهر، والمباغتة، والواقعية، والذاتية، هذه كلها خيوط في نسيج الزمن، وهي سادة الحياة. ولا أجرؤ على التفكير في ترتيبها، ولكني أذكرها كما تخطر لي. وأنا أعلم مِن أنْ أزعم الكمال لصورتي، إنما أنا جزء، وهذا جزء مني. وأستطيع في ثقةٍ كبرى أن أعلن قانونًا من القوانين، يتخذ لنفسه صورة وهيئة، ولكني ما زلت أصغر بقرون من أن أضع دستورًا. إنني ألغط لساعتي فيما يتعلق بالسياسة الأبدية. ولم يكن عبثًا ما رأيت من صور كثيرة جميلة. ولقد عشت في زمن عجيب، ولست كما كنت ناشئًا في سن الرابعة عشرة، بل ولست كما كنت منذ سبع سنوات. ولست أعبأ بمن يسأل وأين الثمرة؟ إنني أكتفي بالثمرة الخاصة. هذه ثمرة من الثمار، وهي أني لا أتوقَّع نتيجة كبرى من التأملات والمشورات وجمْع الحقائق. وإني لأشعر بالحسرة لو توقعت نتيجة لهذا البلد ولهذه المقاطعة، أو أثرًا واضحًا في الشهر الحالي والسنة الراهنة. إنما الأثر عميق عالمي كالسبب نفسه. إنه يفعل فعله في عصورٍ لا تكون فيها الفترة القصيرة من حياة المرء شيئًا يُذكَر. كلُّ ما أعرف هو الاستقبال. أنا كائن وأنا مالك، ولكني لا أحصل على شيء، وحينما أتصور أني ظفرت بشيء أجد أني لم أظفر به. إنني أعبد «الحظ» الأعظم معجبًا به. وما أكثر ما استقبلت، حتى أصبحت لا أضيق باستقبال هذا أو ذاك من الأمور مهما تكن غزارته. وإني لأقول للعقل العبقري هذا المثل بعد استئذانه: «ما يدخل الطاحون يستحيل إلى ملايين الأجزاء.» وعندما أتلقى هِبة جديدة لا أميت شهوة جسدي بالتقشف لكي يحصل التعادل؛ لأنني إن مت لا أستطيع هذا التعادل. لقد جاوزت المنفعة القيمة في اليوم الأوَّل، وظلت تجاوزها منذ ذلك الحين. وما أحسب هذه القيمة عينها إلا جزءًا مما أتلقاه.

وكذلك يبدو لي أن التلهف على أثر ملموس أو عملي ضربٌ من ضروب الكفران. وأنا جاد جِدًّا في رغبتي في الاستغناء عن هذا الأثر الذي لا ضرورة له. إنما تظهر لي الحياة خيالًا لا أثر له. إنَّ أشق عمل وأشده خشونة خيالي كذلك، والأمر كله اختيار بين أحلام هادئة وأحلام مزعجة. إن الناس يحطون من قدر المعرفة والحياة العقلية ويحثون على العمل. وأنا قانع جِدًّا بالمعرفة لو استطعت أن أعرف. وتلك تسلية عظمى، وتكفيني أمدًا طويلًا.

إن قليلًا من المعرفة يساوي قيمة هذه الدنيا. إنني أستمع دائمًا إلى قانون «أدراستيا» الذي يقول بأن «كل روح حصلت على حقيقةٍ ما، يجب أن تكون في مأمن من الأذى حتى فترة أخرى.»

أنا أعلم أن العالم الذي اضطرب فيه في المدينة وفي المزرعة ليس هو العالم الذي «أفكر» فيه. ولسوف أعرف ذات يوم قيمة هذه المفارقة وناموسها. ولكني لم أجد أني أفدت كثيرًا من محاولاتي العملية لتحقيق عالم الفكر. كثير من الأشخاص المتحمسين يقومون بالتجارب المتوالية في هذا السبيل، فيضعون أنفسهم في مكانةٍ تبعث على الضحك والسخرية. إنهم يكتسبون عادات شعبية، ويرغون في أفواههم، ويكرهون وينكِرون. وأسوأ من ذلك أني ألاحظ أن ليس في تاريخ البشر مَثَلٌ فريدٌ للنجاح، إذا اتخذنا مقاييسهم للنجاح. وإني أذكر ذلك جدلًا، أو إجابة على هذا السؤال: لماذا لا تحقق عالمك؟ ولكن ما أبعدني عن اليأس الذي يتعجل الحكم على القانون العام بتجربة تافهة؛ لأن كل محاولة صحيحة لا بد أن تنجح. صبرًا، صبرًا، وسوف تكسب في النهاية. يجب أن نرتاب أشد الريبة في خداع عامل الوقت. فالأكل، أو النوم، أو اكتساب مائة دولار، يستنفد وقتًا طويلًا، في حين أن الترحيب بالأمل وبالبصيرة التي تضيء حياتنا لا يتطلب إلا وقتًا وجيزًا. إننا نهذب بستاننا، ونتناول غذاءنا، ونناقش شئون المنزل مع زوجاتنا، بَيْدَ أن هذه الأمور لا تترك أثرًا، وتُنسَى في الأسبوع التالي. أمَّا في العزلة التي يأوي إليها كل إنسان دائمًا، فإنه يجد فيها صحة العقل والإلهام الذي يحمله معه في رحلته إلى عوالمَ جديدة. وكأنها تقول: «انهض مرة أخرى أيها القلب العجوز ولا تعبأ بالسخرية، ولا تعبأ بالهزيمة! فالنصر آتٍ تحقيقًا للعدالة.» والقصة الخيالية التي توجد الدنيا لتحقيقها، هي تحول العقل العبقري إلى قوًى عملية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤