الفصل العاشر

خوض المخاطر الصحيحة

كريس كرامر

تمهيد
جون أوين

حين قضى المصور العراقي ذو الاثنين وعشرين ربيعًا، نمير نور الدين، نَحبه إثر قصف جوي أمريكي في يوليو عام ٢٠٠٧ في شرق بغداد، صار خامس صحفي لدى رويترز يفقد حياته أثناء تغطية حرب العراق. كما أن سائقه ومساعده العراقي سعيد شماغ، وهو أب لأربعة أطفال، قُتِل أيضًا في ظروف قد لا تُفسَّر أبدًا تفسيرًا كاملًا لعائلته أو لعائلة نمير أو لوكالة أنباء رويترز.

تعرَّض بعدها بيوم في العراق صحفي عراقي آخر للقتل وهو خالد حسان، ذو الثلاثة وعشرين ربيعًا، وكان يعمل مراسلًا ومترجمًا لدي صحيفة ذا نيويورك تايمز؛ إذ قُتِل رميًا بالرصاص وهو في طريقه إلى عمله. أفادت لجنة حماية الصحفيين أن طريقه المعتاد إلى مكتبه أُغلق يوم مقتله لأسباب أمنية وأنه أُجبر على سلك طريق بديل.

ولقي صحفيان ومساعد إعلامي مصرعهم في غضون أسبوع واحد بالعراق خلال حرب أودت، حتى أغسطس ٢٠٠٧، بحياة أكثر من ٢٢٠ صحفيًّا وإعلاميًّا، أكثر من ٨٠ بالمائة منهم عراقيون.

إن مصرع هؤلاء العراقيين الثلاثة يُبرز واحدة من الإحصائيات والنتائج القاتمة التي توصَّل إليها المعهد الدولي لسلامة الإعلاميين إثر تحقيقاته في حوادث موت الصحفيين خلال عشر سنوات: لقد تعرَّض صحفيان للقتل كل أسبوع في مكان ما بالعالم خلال تلك الفترة. أصدر المعهد تقريرًا عام ٢٠٠٧ بعنوان «قتل الرسل»، تناول فيه ما أسماه بأشد العقود دموية في تاريخ الصحفيين، وهو العقد الذي يمتد من عام ١٩٩٦ وحتى ٢٠٠٦؛ إذ فقد ألف صحفي وإعلامي حياتهم خلال تلك الفترة، وتعرَّض ثلثهم تقريبًا للقتل.

شكل ١٠-١: صار المصور العراقي نمير نور الدين، ٢٢ عامًا، خامس صحفي تابع لرويترز يتعرض للقتل خلال تغطية حرب العراق، يوليو ٢٠٠٧ (نُشرت الصورة بإذن من أسوشيتد برس، بعدسة المصور خالد محمد).

قيل إن قتل صحفي هو أقصى أشكال الرقابة. تؤكد الدراسة الصادرة عن المعهد الدولي لسلامة الإعلاميين الحقيقة المروعة التي تقول إنه في عدد كبير جدًّا من البلدان، يتمكن المسلحون أو القتلة المأجورون من قتل الصحفيين مع الإفلات من العقوبة، وهو المصطلح الذي تستعمله المجموعات المعنية بحُرية الصحافة للدلالة على شبه اليقين لدى القتلة بأنهم لن يتعرضوا أبدًا للاعتقال أو لن تنجح مساعي محاكمتهم ومعاقبتهم.

إن ما تُذكِّرنا به تلك الدراسة هو أن من يدفعون الثمن الأكبر هم الصحفيون المحليون الذين يُستَهدَفون بالقتل لتقصِّيهم انتهاكات حقوق الإنسان، ووقائع الفساد الحكومي، والجريمة المنظمة.

نادرًا ما يُسلط الإعلام الدولي الضوء على مقتل الصحفيين المحليين، لكن اغتيال الصحفية الروسية آنا بوليتكوفسكايا في موسكو في أكتوبر ٢٠٠٦، كما ذكرنا في الفصل السابق، كان استثناءً لتلك القاعدة. كانت آنا ممن يُجاهرون بانتقاد الرئيس بوتين في الصحف والمؤتمرات الدولية. كما رفضت التوقف عن تغطية الانتهاكات التي تمارسها القوات الروسية لحقوق الإنسان في حرب الشيشان المنسية؛ لذلك لقيت آنا مصرعها جرَّاء إطلاق النار عليها أثناء دخولها المصعد في البناية التي تقطن بها بموسكو.

ما تعيره وسائل الإعلام الدولية اهتمامًا أكبر هو مقتل الصحفيين وطواقم التصوير العاملين لدى كبرى الشبكات أو الصحف الغربية أثناء أداء عملهم. كان أشهر مثال على ذلك هو مراسل صحيفة ذا وول ستريت جورنال، دانييل بيرل، الذي نُشِر مقطع إعدامه البشع على المواقع الإلكترونية.١ وحين احتجزت جماعة إسلامية مسلحة مراسل الشرق الأوسط التابع لبي بي سي، آلان جونستون، في غزة لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر عام ٢٠٠٧، حرصت شبكة البي بي سي على ألا تُنسى محنة جونستون التي انتهت بإطلاق سراحه دون أن يمسه أذًى.
شكل ١٠-٢: رجل يمر بجانب زهور موضوعة أمام منزل الصحفية الروسية آنا بوليتكوفسكايا بوسط موسكو، في أكتوبر ٢٠٠٦ (نُشرت الصورة بإذن من تومسون رويترز، بعدسة المصور سيرجي كارباكين).

بالنسبة إلى رويترز وبي بي سي، وهما من أحرص المؤسسات الإخبارية فيما يخص تدريب طواقمها الإخبارية وحمايتهم، يعد ذلك تذكيرًا صارخًا لهما بأن صحفييهما عُرضة دائمًا للمخاطر في عالم ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

رغم أن الجهود المبذولة لحماية الصحفيين في أماكن كالعراق تبدو بلا طائل، فإن هناك ما يُبرر بقوةٍ الحرص على منح تدريبات خاصة بالبيئات العدائية ودورات الإسعافات الأوَّلِيَّة لكلِّ عضو من أعضاء الطواقم الإخبارية، سواءٌ أكان صحفيًّا دوليًّا، أم مراسلًا محليًّا، أم مستقلًّا، أم مساعدًا إعلاميًّا.

بدأت حركة تدريبات السلامة تخطو أولى خطواتها الجادة في منتصف التسعينيات حين اتضح أن الصحفيين الدوليين المنخرطين في تغطية الحروب والصراعات المندلعة في البلقان عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وجدار برلين يواجهون أخطارًا لم يشهدوها مِن قبلُ. وبدلًا من أن يعتري الصحفيين القلق من التعرض للقتل نتيجة وجودهم في المكان الخطأ والتوقيت الخطأ، صاروا الآن محل استهداف من المتمردين والميليشيات الذين لا يُبدون أي احترام أو تفهُّم للقانون الدولي وحقوق الصحفيين في تغطية أخبارهم. كما أن الصحفيين الذين اعتادوا على التجول حيث أرادوا دون حماية خاصة صاروا يفقدون حياتهم بأعداد متزايدة. فحسب إحصائيات لجنة حماية الصحفيين (التي أخفقت في إدراج أعداد الصحفيين المحليين الذين يعملون على نحو قانوني كمساعدين إعلاميين (معاونين محليين و/أو مترجمين) ضمن إحصاءاتها)، لقي ٤٢ صحفيًّا مصرعهم خلال عام ١٩٩٢، وازداد العدد عام ١٩٩٣ ليصل إلى ٥٧ صحفيًّا، أما عام ١٩٩٤ فقد بلغ عددهم ٦٦ صحفيًّا (لجنة حماية الصحفيين ٢٠٠٧).

وكما هو الحال في أيِّ أمر يتعلق بالأخبار، لم يجذب انتباهنا سوى الاستثنائي والخارق للعادة. شهدت مقديشو في أكتوبر ١٩٩٣ تعرُّض ثلاثة صحفيين ومهندس صوت تابع لوكالة إخبارية للضرب حتى الموت على يد حشد من الصوماليين الحانقين بسبب هجوم جوي أمريكي أوقع أعدادًا كبيرة من الضحايا في غارة فاشلة على ما كان يُعتقد أنه مقر الجنرال الصومالي محمد عيديد. كان من بين من قتلتهم الجموع الصومالية دان إلدون، الصحفي الفوتوغرافي الموهوب الذي كان يعمل لحساب رويترز ولم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره. أقدمت والدته، كاثي، وأخته، إيمي، لاحقًا على إنتاج فيلم وثائقي مؤثر بعنوان «الموت في سبيل إيصال الخبر»، يحكي قصته والتضحيات التي بذلها غيره من الصحفيين ممن فقدوا حياتهم.

غير أن الصحفيين المحليين ووسائل الإعلام المحلية ممن يعملون تحت وطأة الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية الوحشية هم الذين عانوا مخاطر أشد، لكن مصابهم لم يسترعِ، كالعادة، اهتمامًا دوليًّا كبيرًا. عُقِد في المركز الأوروبي التابع لمنتدى الحرية بلندن في سبتمبر ١٩٩٧ ما قد يُعد واحدًا من أوائل المؤتمرات المعنية بقضية تدريبات السلامة. أعرب خلال هذا المؤتمر روبير مينار، الأمين العام لمنظمة «مراسلون بلا حدود» الكائنة في باريس، عن إدانته لمقتل ٥٩ صحفيًّا في الجزائر في الفترة بين عامي ١٩٩٣ و١٩٩٦، مشيرًا إلى أن ٥٨ منهم كانوا جزائريين.

بعد مرور عشر سنوات من انعقاد هذا المؤتمر المهم حول سلامة الصحفيين في لندن، يبقى أبرز الداعين إلى تدريبات السلامة هو كريس كرامر، الذي كان يتولَّى حتى وقت قريب منصب نائب الرئيس التنفيذي لقناة سي إن إن إنترناشونال ومدير تحريرها. فحين تحدَّث كرامر في منتدى الحرية، كان مديرًا لعملية جمع الأخبار في بي بي سي، وهو المنصب الذي منحه سمعة بوصفه مديرًا مثيرًا للخوف والإعجاب في آنٍ واحدٍ. كانت القصص تنهال تَترى حول «كرامر» (كما يُعرَف على نطاق واسع في عالم الأخبار التليفزيونية) وإشرافه الصارم الذي لا يقبل الهزل على المراسلين والمنتجين.

كان لتأييد كرامر، القائد الصارم، لمبادرات تدريبات السلامة واستشارات الصدمات النفسية دوره في إضفاء الشرعية عليها داخل شبكة بي بي سي كما منحها مصداقية داخل غيرها من المؤسسات الإخبارية التي ما لبثت أن انتبهت لمسئولياتها تجاه حماية كوادرها وتدريبهم. كنت مديرًا لمكاتب سي بي سي الخارجية في ذلك الوقت، ونتيجة لأن كرامر وشبكة بي بي سي أقدما على شراء سيارات مصفحة وتزويد طواقمهما الميدانية في البوسنة بالمعدَّات اللازمة، استطعت أن أقدم مبررات أكثر إقناعًا لزملائي في تورونتو بضرورة بذل المال لتقليدهما.

بالإضافة إلى ما سبق، أسهم كرامر بدور فعال في التأسيس لعمل المعهد الدولي لسلامة الإعلاميين وتعزيزه، كما يواصل عمله رئيسًا شرفيًّا له.

مراجع

Committee to Protect Journalists (2007) Journalists killed in 2007. http://www.cpj.org/killed/killed07.html.
International News Safety Institute (2007) Killing the Messenger: Report of the Global Inquiry by the International News Safety Institute into the Protection of Journalists. INSI.

إن من أكثر جوانب إدارة السلامة إثارةً للإحباط هو وقوع حدث يقوض كل ما ظننا أننا أنجزناه وحققناه خلال العشرين عامًا الماضية بصدد إبراز أهمية السلامة والتوعية بها في مجال الإعلام.

كان آخر تلك الأحداث بالنسبة إليَّ هو الصراع الإسرائيلي-اللبناني في أغسطس ٢٠٠٦. نشرت شبكة سي إن إن حينها في هذه المنطقة كوكبة من كوادرها هي الأكبر منذ عدة سنوات؛ ما يقرب من ١٢٠ موظفًا، بما فيهم الموظفون المُوفَدون إلى هناك بالفعل والمراسلون والمنتجون والمعاونون وطواقم تصوير، إلخ. كان الصراع أخطر نشوب لأعمال قتالية منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وكان بلا شك يستحق ذلك النوع من التغطيات التي تُشتهر بها تلك الشبكة الكبيرة.

figure
شكل ١٠-٣: أدريان أرسينو، مُراسلة القسم الإخباري بشبكة سي بي سي، وهي ترتدي سترة واقية من الرصاص في عام ٢٠٠٦ (نُشرت الصورة بإذن من القسم الإخباري بشبكة سي بي سي).

كان من الواضح أن سلامة موظفينا تحتل صدارة اهتماماتنا بينما نبعث بكوادرنا من أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا والولايات المتحدة الأمريكية. هل تلقَّوا تدريبات للتعامل مع المعارك؟ أمزودون هم بالمعدَّات الملائمة؟ ألديهم مركبات النقل المناسبة وبصحبتهم أفراد أمن؟

يُعد طرح هذه التساؤلات، وتقديم إجابات مناسبة لها، من الممارسات المعتادة حاليًّا عند تكليف المحررين والمنتجين بمهام صحفية في شبكة سي إن إن، وفي واقع الأمر، في أغلب المؤسسات الإخبارية المعتبَرة، وذلك في سعيها للتغلب على المخاطر التي تكتنف تغطية عالمنا المضطرب. لقد لقي المزيد من الإعلاميين وداعميهم مصرعهم خلال السنوات القليلة الماضية أكثر من أيِّ وقتٍ مضى؛ ففي عام ٢٠٠٧، وحتى تاريخ تأليف هذا الفصل (٢٨ نوفمبر)، بلغ عدد الصحفيين والإعلاميين الذين قضوا نحبهم ١٧١ (المعهد الدولي لسلامة الإعلاميين ٢٠٠٧ﺟ).

ربما تبدو الانتكاسة التي أشير إليها تافهة لكنها تُمثِّل أساسًا لإنجازين وتراجعًا في مجال حماية الكوادر الصحفية.

إن المحادثة التي أصابتني بالاكتئاب هي تلك التي أجريتُها مع مكتب الإرساليات الصحفية حول مراسل ينقل الأخبار من منطقة حربية دون ارتداء سترة واقية من الرصاص، وقد بدا لي أنه يُعرِّض نفسه لمخاطر لا مبرر لها، لا سيما وأنه كان يُقدِّم تغطية متواصلة من أحد طرفَي الصراع.

أخبرني العاملون بالمكتب بما يلي: «إنه لا يرغب حقًّا في ارتداء السترة. إنه يشعر أن إجباره على ارتداء سترة واقية من الرصاص لا يختلف عن إجبار تلميذ جديد في المدرسة على ارتداء سترته، إلا أنه سوف يرتديها لو صممنا.»

وهو ما فعلناه بالتأكيد.

ما يجعل هذه المحادثة باعثة على الاكتئاب بالنسبة إليَّ هو أنها ذكَّرتني بحوار شهدته حين كنت مديرًا لعملية جمع الأخبار في شبكة بي بي سي أوائل التسعينيات، وكان يتسم بالنوع نفسه من استعراض العضلات. كان هناك مراسلون وطواقم دعم رافضون لمحاولات الإدارة الرئيسية فرض رؤاهم حول السلامة على الطواقم الإخبارية العاملة على خطوط المواجهة الأمامية؛ أولئك العاملون المعاندون الذين رأوا ذلك، في أفضل الأحوال، نوعًا من التدخل «الأبوي»، وفي أسوئها، كإجراءات وُضعت لتقليص مسئوليات الشركة القانونية حيال من يعملون في بؤر القتال.

ولا شك أن الحقيقة ليست هذه ولا تلك.

بالرغم من ذكائهم البادي، يعتقد الإعلاميون، بوجه عام، أنهم في مَنَعة مما يتولون تغطيته؛ إذ ينطلقون بالآلاف كل عام لنقل الصراعات والاضطرابات في جميع أنحاء العالم، محتمين بقناعتهم أنه لا يمكن للعنف المحيط بهم أن يصيبهم بأيِّ أذًى، معنويٍّ أو ماديٍّ. ثم يعودون إلى كنف منازلهم وعائلاتهم ويواصلون ما انقطع من نشاطاتهم. قد يبدو الأمر بالنسبة إلى كثير منهم، كما وصفه أنتوني لويد في كتابه «كم أشتاق إلى حربي التي انقضت»، كالقفز من قطار مسرع: سرياليًّا ومخيفًا وكثيرًا ما يُفضي إلى اكتئاب حاد (لويد ١٩٩٩).

لا تعترف صناعة الإعلام في أغلبها بتأثير اضطراب ما بعد الصدمة على المراسلين والمصورين وغيرهم ممن يعملون في مجال الأخبار. بل إن كثيرًا من المؤسسات الإخبارية لم تقبل إلا مؤخرًا مجرد التفكير في مدى جاهزيتها لما يقوم به كثير منها بصفة منتظمة.

لنتناول أولًا تدريبات السلامة البدنية.

إلى وقت قريب جدًّا، ربما منذ عشر سنوات فقط، كانت المؤسسات الإعلامية في أغلبها تعتقد أن الصحفيين لا يفعلون سوى واجبهم: التوجه إلى ساحات الحروب أو البيئات العدائية، وتغطية كل ما يجري، ونقله، ثم الخروج مرة أخرى. كان تنفيذ ذلك دون الإصابة بأذى غالبًا ما يعد مسألة حظ لا تقدير. فقط اروِ الخبر، وعُد إلى بيتك واحسب نفقاتك المالية، ثم استجم حتى تحين مهمتك التالية.

لم تكن تتلقى تدريبًا قبل بدء عملك، بل كنت تتعلم أثناء أداء وظيفتك، محتفظًا بمشاعرك وتجاربك لنفسك، وإذا كنت محظوظًا، فسوف تُكلَّف بمهمة جديدة بعد إخفاقك في مهمة ما.

بدأت الأمور تتغير مؤخرًا.

تزامن التغيير في شبكة بي بي سي مع تشريع شاقٍّ للغاية صدر في أوائل التسعينيات نص على أن أصحاب الأعمال مسئولون عن الجهات التي يرسلون إليها موظفيهم، وعن المهام التي يكلفونهم بها، وعن الكيفية التي يطالبونهم باتباعها في تنفيذ مهامهم.

كانت تغطية صحفيي شبكة بي بي سي لحصار مدينة دوبروفنيك في أكتوبر ١٩٩١ بمنزلة ناقوس الخطر بالنسبة إليَّ. لقد قرر الفريق الذي كلفته بتغطية الحدث أن الوضع من الخطورة بحيث لا يمكنهم البقاء هناك؛ فالمدينة تحت قصف متواصل مما يُعرِّض حياتهم للخطر، ولذا أبلغوني أنهم راحلون.

استشطت غضبًا لعلمي أن منافسينا سوف يبقَون ويقدمون، كما تبيَّن لاحقًا، تغطية متميزة حظيت بعدة جوائز للبث.

كيف أمكن لفريقي أن يصنعوا ذلك بي؟ كيف استطاعوا أن يتركوا خبرًا على هذا القدر من الأهمية والضخامة والعالم في حاجة إلى معرفة ما يحدث، وكيف كان شعور من يعيشون هناك؟

ثم كانت صحوتي. كيف استجبت للموقف بتلك الطريقة؟ لم يكن ذلك الانفعال الخاطئ فقط؛ بل كان، ولا يزال، الإدارة الخاطئة في الأساس. فنظرًا لأني أرسلت طاقم عمل إلى منطقة حرب أو بيئة عدائية، فإنني كنت أتحمل إذًا المسئولية القانونية، فضلًا عن المسئولية الأخلاقية، عن سلامتهم، وكل ما عدا ذلك يأتي في المرتبة الثانية.

ورغم ذلك، كنت شخصيًّا لا أزال منزعجًا. كنت أفكر أن الإعلاميين كانوا يؤدون عملهم، ولطالما أدَّوه. كانت مهنتنا خطرة بحُكم طبيعتها.

لقد انطلق الصحفيون لسنوات في تغطية العالم بوجه عام وليس في حوزتهم سوى ورقة وقلم، وأحيانًا جهاز تسجيل أو كاميرا فوتوغرافية، ومؤخرًا، كاميرا فيديو. ربما ارتدوا في بعض الحالات خوذة فولاذية، وسترة واقية من الرصاص في حالات أخرى، لكن لم يكن لديهم، في الغالب الأعم، ما يحميهم سوى مهنتِهم، وقليل من الأشياء الأساسية الأخرى.

نجح بيتر هانتر، مسئول السلامة في قسم الأخبار في بي بي سي، في إقناعي وإقناع غيري من المديرين بأن تقديم تدريبات وتوعية ملائمة بشأن السلامة شرط أساسي لبلوغ نموذج الشركة الإعلامية المسئولة. حاجَجَ هانتر قائلًا: «أتظنون لوهلة أن رجال الإطفاء وأفراد القوات المسلحة يذهبون لأداء مهامهم دون توعية بقضايا السلامة وتدريبات الإسعافات الأوَّلِيَّة؟ لِمَ ينبغي أن يختلف الأمر بالنسبة إلى الإعلاميين؟!» لقد كان محقًّا. إن صناعة الإعلام حول العالم مَدِينةٌ له بالكثير لإثارته هذه القضية ومنحها التقدير الذي كانت تستحقه.

لقد اعتنق الصحفيون من جميع أنحاء المجال وعلى مدار سنوات مبدأ عدم رفض أيِّ مهمة صحفية على الإطلاق، مهما بدت خطورتها؛ إذ قد يكلفهم ذلك فقدان بعض التقدير المهني. كان الأمر برمَّته بالنسبة إلى الصحفيين، رجالًا ونساءً، مسألة «شجاعة وإقدام»، وكان هناك الخطر الإضافي الذي شعر به كثير منا بأنك لو أبديت أمام مديرك نقصًا في الشجاعة، فقد وضعت نفسك أمام مخاطرة حقيقية بفقدان المهمة الصحفية الموكلة إليك.

غير أن رؤية بيتر هانتر دفعت مديري شبكة بي بي سي، ومن بينهم كاتب هذا الفصل، إلى الرغبة في تغيير المنظومة. لقد أردنا أن نبعث برسالة صارخة مفادها أنه من المقبول تمامًا الحديث عن السلامة وتدريباتها، وأن ذلك ليس «جبنًا» بأي حال من الأحوال.

وقد حققنا التغيير المطلوب، رغم أنها كانت تجربة شاقة وباعثة على الاكتئاب في كثير من الأحيان.

خلال عامي ١٩٩١ و١٩٩٢، اشتركت مع راي جاودريدج، نائب رئيس عملية جمع الأخبار في شبكة بي بي سي، في صياغة مبدأ توجيهي للمراسلين والمنتجين والفنيين، ثم أبلغنا به جميع العاملين في الشبكة، سواء متفرغين أو مستقلين. وكان هذا المبدأ كالتالي:

ما من خبر يستحق التضحية بالحياة. وما من صورة تستحق الإصابة بجرح. وما من مقطع صوتي يستحق تعريض كوادرنا للخطر.

لقد مضينا إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ تعهَّدنا ببذل أقصى ما في وسعنا لتقديم أفضل المعدَّات والتدريبات والمركبات وأنظمة التأمين لكوادرنا المعرَّضين للأخطار، بما فيهم المستقلون منهم. وحصلنا في نهاية المطاف على دعم مجلسَي الإدارة والمحافظين بالشبكة.

كما أعلنَّا كذلك أنه لن يجري إرسال أيٍّ من كوادرنا إلى منطقة حرب دون تدريبه على الإسعافات الأوَّلِيَّة الميدانية ودون تزويده بالمعرفة الميدانية المتعلقة بكيفية التعامل مع المعارك. كانت تلك السياسة مؤلمة، وكانت تعني أن بعض المراسلين لم يسافروا لمناطق الصراع.

لكننا كنا صارمين: لم يكن يُسمح سوى لأكثر المراسلين والطواقم خبرةً بتخطي هذه السياسة، ولكن فقط بعد أن يتلقوا دورات تنشيطية. وقد فتحنا الباب أمام الشركات المتخصصة لتقديم هذه الدورات.

تقدَّم العديد من الشركات، وقد عمدنا إلى تعديل برامجها بحيث تلائم احتياجاتنا. كما خضعت الإدارة العليا للبرامج التدريبية وأدخلت بعض الأقسام فيها وأقرت تطبيق الدورات في شكلها النهائي. وذهب المراسلون المخضرمون، واستمعوا، وأعربوا عن تقديرهم لما تعلَّموه.

غير أن بعض العاملين في بي بي سي لم يبرحوا مرحلة الإنكار وراعتهم تلك التطورات. فاتهمونا باستخدام تلك السياسة المعنية بالسلامة كحيلةٍ تأمينية تُجنِّبنا تحمُّل مسئولياتنا. وما كان منهم إلا أن رفضوا ارتداء ستراتهم الواقية، وسخروا منا، معتبرين إيَّانا مديرين نحاول استغلالهم. لكننا ثبتنا على مواقفنا.

لقد استمعت إلى جميع الأعذار التي احتجَّ بها المراسلون وطواقم الدعم لعدم ارتداء السترات الواقية:
«تلك السترات ثقيلة للغاية. كما أنها تتعرض للسرقة.»
«تلك السترات تتعرض للاستهداف.»
«إنها تُميزنا عن السكان المحليين ومِن ثَمَّ تعوقنا عن أداء وظيفتنا.»

لكن ما كانوا يقولونه لي على وجه الحقيقة هو كالتالي: «دعني أؤدي وظيفتي. دعني أُقتل أثناء تأدية عملي. دعني أصير شهيد قضيتي.»

كثيرًا ما سمعنا حجةً أخرى من المديرين وأصحاب الأعمال وهي: «تختلف الصحافة المطبوعة عن الصحافة المرئية والمسموعة.» كانت نظريتهم تقوم على فكرة أن الصحفيين العاملين في الصحافة المطبوعة يتمتعون بقدر أكبر من الأمان في السفر منفردين، وأنهم يتحلَّون بمزيد من الخبرة، ولا حاجة بهم لدورات تدريبية للتوعية بمسائل السلامة.

هذا هراء. كان ذلك، ولا يزال، أسوأ شكل من أشكال غطرسة أصحاب الأعمال. لطالما رأيت أن الصحفيين العاملين في الصحافة المطبوعة قد يواجهون مخاطر أكبر من زملائهم العاملين في الصحافة المرئية والمسموعة نظرًا لأنهم يعملون غالبًا بعيدًا عن «القافلة» الإعلامية. كما أنهم عادةً ما يكونون غير مجهَّزين بما يكفي من المعدَّات وتقلُّ فرص تزويدهم بالمركبات المُصفَّحة أو المحصَّنة تحصينًا جيدًا، بالإضافة إلى أنهم أكثر عرضة للاستهداف.

كانت هناك ذرائع أخرى تذرَّع بها بعض القيادات الإعلامية: «نحن نرسل صحفيين مستقلين لا متفرغين، ومِن ثَمَّ لا يمكننا مطلقًا تحمُّل تكاليف تأمينهم.»

أرى أن ذلك كلام خطير وغير مسئول للغاية من جانب أصحاب الأعمال. لقد وجدت، حسب خبرتي، أن بعض قيادات الصحف يتسمون بقدر أكبر من انعدام المسئولية مقارنةً بنظرائهم في مجال الصحافة المرئية والمسموعة حين يتعلق الأمر باستغلال كوادرهم دون مراعاة لسلامتهم.

كثيرًا ما تكون بعض المؤسسات الإخبارية في الولايات المتحدة الأمريكية، رغم كل ما تتمتع به من حنكة، هي الأكثر إحجامًا عن مواجهة القضايا التي أتحدث عنها. وفيما عدا بعض الاستثناءات الملحوظة — بما فيها مؤسستي، وسي إن إن، وإيه بي سي، وإن بي سي، وذا نيويورك تايمز — لا تمتلك سوى بضع مؤسسات إخبارية أمريكية خططًا رسمية متعلقة بتدريبات السلامة للصحفيين الذين يسافرون إلى مناطق خطرة.

من يتولَّى إذًا زمام المبادرة؟ وأين المبادئ التوجيهية؟ وأين أفضل الممارسات؟

لو تحدثنا عن بريطانيا، فسنجد أن مجموعة جديدة من المبادئ التوجيهية المعنية بالسلامة جرى اعتمادها والاتفاق عليها في مؤتمر نيوز وورلد الذي انعقد في برشلونة عام ٢٠٠٠، وذلك برعاية شبكتَي بي بي سي وسي إن إن، وغيرهما من بعض المؤسسات الأخرى مثل آي تي إن، ورويترز، ووكالة أسوشيتد برس للأخبار التليفزيونية.

نصَّت تلك المبادئ التوجيهية على التالي:
  • (١)

    إن صيانة النفس البشرية وسلامتها تأتي في المقام الأول. يجب توعية العاملين المتفرغين والمستقلين بأن المخاطر غير المبرَّرة سعيًا وراء خبرٍ ما أمرٌ غير مقبول ويجب ثنيهم بقوة عن خوضها. ويجب أن تكون المهام الصحفية إلى مناطق الحروب أو البيئات العدائية اختيارية وألا تضم سوى الكوادر الإخبارية المحنكة.

  • (٢)

    يجب منح جميع العاملين المتفرغين والمستقلين المكلَّفين بالعمل في بيئات عدائية الفرصة لتلقِّي تدريبات تنشيطية ملائمة فيما يخص السلامة. وأصحاب الأعمال مدعوون لجعل ذلك إلزاميًّا.

  • (٣)

    على أصحاب الأعمال أن يُقدِّموا لجميع العاملين المتفرغين والمستقلين المكلَّفين بالعمل في مواقع خطرة معدَّات السلامة الفعالة، التي تضم صدرية/سترة كيفلار شخصية واقية من الرصاص، وخوذة واقية، ومركبات محصنة تحصينًا ملائمًا، إذا لزم الأمر.

  • (٤)

    يجب منح جميع العاملين المتفرغين والمستقلين تأمينًا شخصيًّا أثناء عملهم في المناطق العدائية، بما في ذلك التأمين ضد الوفاة والإصابات الشخصية.

  • (٥)

    على أصحاب الأعمال تقديم الإرشاد النفسي الطوعي والسري للعاملين المتفرغين والمستقلين العائدين من المناطق العدائية أو عقب تغطية الأحداث المؤلمة وتشجيعهم على اللجوء إلى هذا. (قد يتطلَّب ذلك تقديم بعض التدريبات للقيادات الإعلامية للتعرف على أعراض اضطراب ما بعد الصدمة.)

  • (٦)

    تُعتبر المؤسسات الإعلامية وممثلوها مراقبين محايدين؛ لذا، يُحظر على أي إعلامي حمل سلاح ناري أثناء تأدية عمله.

  • (٧)

    يجب أن تتعاون المؤسسات الإعلامية معًا في سبيل إنشاء بنك بيانات يضم المعلومات الخاصة بالسلامة، مع تبادل أحدث تقييمات السلامة للمناطق العدائية والخطرة.

كانت هذه المبادئ التوجيهية مجرد نقطة البداية، لكن الدافع من ورائها كان تصعيد قضية السلامة إلى مستوى جديد. إن ما لم تتناوله هذه المبادئ التوجيهية هو ذلك العدد الكبير من الصحفيين المحليين حول العالم الذين يتعين عليهم نقل الأعمال العدائية الجارية في بلدانهم دون الحصول على تدريبات مناسبة أو معدَّات خاصة بالسلامة. كانت هذه الفئة وما زالت الأكثر عرضة للمخاطر.

إن زيادة توعية الإعلاميين بقضايا السلامة لن تمنع استهدافهم أو تعرُّضهم للقتل أو الإصابة عن طريق الخطأ. لكن المبادئ التوجيهية الخاصة بالسلامة التي أرساها مؤتمر برشلونة كانت انطلاقة هامة.

(١) اضطراب ما بعد الصدمة

دعوني ألتفت الآن إلى قضية أخرى هامة وأكثر إثارة للجدل، وهي ما أصفه بأنه «تدريب سلامة العقل». إنه اضطراب ما بعد الصدمة. سوف نناقش تلك القضية بمزيد من الاستفاضة والإيضاح في الفصل الحادي عشر من هذا الكتاب، لكنني أذكرها هنا لأن مسائل سلامة العقل ومسائل سلامة البدن لم ترتبطا معًا في تفكيرنا إلا في السنوات الأخيرة. إنني أذكرها أيضًا لأنني أتحدث من واقع تجربة مريرة ومن وجهة نظر الضحية.

كنت في أبريل ١٩٨٠ أحد الرهائن الذين احتُجِزوا لفترة وجيزة داخل السفارة الإيرانية في لندن. ذهبت إلى السفارة لاستلام تأشيرة لزيارة طهران لأداء مهمة صحفية لشبكة بي بي سي؛ إذ كان عليَّ تغطية حادث احتجاز عدد كبير من الرهائن الآخرين داخل السفارة الأمريكية على يد داعمين للثورة الإيرانية. كان الأمر بالنسبة إليَّ نموذجًا فريدًا لسوء التوقيت؛ ففي غضون دقائق من دخولي المبنى في كنسنجتون بلندن، اقتحمه ستة إرهابيين، مدعومين من العراق بهدف الترويج لمنطقة إيرانية متنازع عليها. وقبل أن تتمكن قوات الخدمات الجوية البريطانية الخاصة من تحريرنا بعد ستة أيام من الاحتجاز، كان المسلحون قد قتلوا رهينة ودأبوا على التهديد بقتل رهينة كل ساعة قبل تفجير المبنى بمن فيه.

أقدمت في اليوم الثاني للاحتجاز، وبعد تعرُّضي للتهديد الشخصي والضرب بأعقاب المسدسات، على التظاهر بإصابتي بأزمة قلبية للتخلص من الأسر.

عند عودتي إلى مقر عملي بشبكة البي بي سي، عرض رؤسائي عليَّ الخضوع لإرشاد نفسي. لكن شخصًا ما نصحني بأن أقضي الليلة خارج المنزل وأن أثمل ثم أعود إلى العمل في اليوم التالي. أخذت بنصيحته، والسبب الرئيسي في ذلك هو أنني كنت أنتمي آنذاك إلى المدرسة الصحفية التي تؤمن بأن الرجل الحق هو الذي يعود ببساطة إلى عمله، طارحًا ذكرياته ومخاوفه عند الباب؛ لذلك رفضت أي شكل من أشكال الإرشاد النفسي، ورفضت عرضين مماثلين تلقَّيتهما خلال السنوات القليلة التي أعقبت تلك الحادثة.

أعلم الآن أنني كنت مخطئًا تمامًا. لقد عانيت شخصيًّا من سنوات عذاب طويلة، ساعيًا في الغالب لإخفاء كل ذلك عمن حولي. فلم أكن أقوى على استقلال الطائرات والمصاعد والسلالم الكهربائية، ولا على الذهاب إلى المطاعم أو دور السينما أو المسارح. أفرطت في احتساء الخمر، وظللت أتنقل من علاقة غير مُرضية إلى أخرى، ولم أتجنب المخدرات سوى لإدراكي أنني قد أستمتع بها أكثر من اللازم! لقد عانيت لسنوات من عذاب نفسي شديد. واعتدت لفترة أن أنظر أسفل سيارتي كل يوم بحثًا عن قنبلة، وبالطبع لم أجد.

كانت مشكلتي نمطية. كنت خائفًا من الاعتراف بأنني قد فقدت رباطة جأشي.

أما الآن فقد صرت أكثر حكمةً واستيعابًا لحقيقة أن الصحفيين لا يمكن أن يكونوا بمنأًى عن الأخبار التي ينقلونها أو ينخرطوا فيها، وأن السترات الواقية التي يرتدونها والمركبات المُصفَّحة التي قد يستقلونها ليست أدوات فعَّالة لحمايتهم من التوتر العقلي والعاطفي.

قدَّمنا في أوائل التسعينيات في شبكة بي بي سي بعض الإرشاد النفسي السري للعاملين والدورات التدريبية للمديرين في سبيل رصد آثار اضطراب ما بعد الصدمة. كانت تلك الممارسة مثار جدل كبير، غير أن من حسن الحظ أن السنوات الأخيرة شهدت تبنِّي الكثير من المؤسسات الإخبارية المعتبَرة لها. لكن صناعة الإعلام استغرقت وقتًا طويلًا للغاية حتى تدرك أنه من الطبيعي تمامًا أن يشعر الصحفيون، كغيرهم من البشر، بآثار الصدمات النفسية، وأن عملهم لا يتميز بشيء يحميهم مما يشهدونه؛ إن محاولة إنكار تلك الحقيقة والتفكير خلافًا لها أمر غير طبيعي في أفضل الأحوال، وخطير في أسوئها.

أمتلك حاليًّا تصورًا للسمات الشخصية للإعلامي الذي ربما يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة. سوف يبدأ ذلك الإعلامي الحوارات بعبارات على شاكلة «تلك حربي الثلاثون، كما تعلم»؛ «حين أعود إلى المنزل أخرج وأثمل وأدخل في علاقة جديدة أو ما شابه، ثم أصير بخير.»

علاوةً على ما سبق، أجد أنه من العجيب حقًّا أن أغلب الإعلاميين في الولايات المتحدة الأمريكية دون غيرها، حيث ابتُكِر مفهوم استشاري التكيف مع الحزن، لم يعيروا قضية اضطراب ما بعد الصدمة أي اهتمام يُذكَر إلا في الآونة الأخيرة. وفيما خلا بعض الاستثناءات البارزة، لم يصدر تقريبًا أي اعتراف من داخل صناعة الإعلام بوجود مثل هذا الاضطراب النفسي بين صفوف الإعلاميين.

لو تحدثنا عن المخاطر التي يعمل في ظلها الإعلاميون، فسوف نجد أن صناعة الإعلام أمضت فترة طويلة للغاية قبل أن تدركها إدراكًا تامًّا. إن تغطية أخبار العالم عملية خطرة بطبيعتها، ومن يواصلون السفر إلى مناطق محفوفة بالمصاعب هم عرضة الآن لخطر أكبر من أي وقت مضى؛ فالمخاطر التي يواجهونها على يد الفصائل، والحكومات أحيانًا، تفوق تلك التي واجهها أسلافهم على مدار تاريخهم.

أول ما علينا فعله هو دراسة الحقائق.

حسبما أفادت لجنة حماية الصحفيين، قُتِل أكثر من ٦٠٠ إعلامي حول العالم في الفترة بين ١٩٩٢ و٢٠٠٦. لم يسقط أغلب هؤلاء الإعلاميين في خضم القتال، بل استُهدِفوا بالقتل. ومن الحقائق المروعة التي كشفتها الإحصائيات أن المسئولين الحكوميين والعسكريين يقفون خلف كثير من عمليات القتل هذه. ولم يَمْثُل أمام العدالة سوى القليل من الجناة.

حين أصدرت لجنة حماية الصحفيين إحصائياتها في سبتمبر عام ٢٠٠٦ (لجنة حماية الصحفيين ٢٠٠٦)، أظهرت أن ثلاثة صحفيين في المتوسط يتعرضون للقتل كل شهر، ولم تتضمن تلك الأرقام الحوادث أو حالات الوفاة لأسباب صحية إلا في مناطق الحروب. وقد وقع ٨٥ بالمائة من تلك الوفيات بين صفوف المراسلين والمحررين والصحفيين الفوتوغرافيين المحليين.

إن النتائج المشابهة التي كشف عنها المعهد الدولي لسلامة الإعلاميين في استقصائه العالمي للسلامة عام ٢٠٠٧، والتي تُظهر مقتل ألف صحفي في الفترة بين ١٩٩٦ و٢٠٠٦، من شأنها أن تكشف أكثر عن المأساة المتواصلة التي تواجه الإعلاميين (المعهد الدولي لسلامة الإعلاميين ٢٠٠٧أ). يتَّبع هذا المعهد سياسةً تقضي بعدم الاقتصار في إحصائياته على الصحفيين والإعلاميين، بل يضم أيضًا من يعملون معهم، كالسائقين والمترجمين والمعاونين وطواقم الأمن.

ورغم كل تلك الإحصائيات الصارخة، فإن أجزاءً كثيرة من الإعلام تعتقد أنها محصنة نوعًا ما من جميع ما تتولَّى تغطيته وتُحجم عن مواجهة الحقيقة الجلية. وقد دأب بعضنا على ترديد ذلك لما يقرب من عشرين عامًا حتى الآن. إن الحقيقة الواضحة هي أن أغلب قطاع الإعلام يعيش حالة من الإنكار حين يتعلق الأمر بالوعي بقضايا السلامة، وإدراك أننا قد نتأثر نفسيًّا وبدنيًّا بما ننخرط في تغطيته.

لقد كان لإنشاء المعهد الدولي لسلامة الإعلاميين دوره في الانتقال بكامل قضية سلامة الإعلاميين ومنحهم التدريبات المناسبة إلى مستوى جديد من التطور، وهو ما حققه أيضًا نشاط مؤسسة روري بيك (www.rorypecktrust.org)، التي أُنشئت عقب وفاة المصور المستقل المرموق، روري بيك، خلال تبادل لإطلاق النار في موسكو عام ١٩٩٣. تعتمد المؤسسة على التبرعات العامة لتحقيق أهدافها المتمثلة في الاحتفاء بأعمال الإعلاميين المستقلين حول العالم، بالإضافة إلى رعاية الدورات التدريبية المعنية بالتعامل مع البيئات العدائية والتي يجري تقديمها إلى إعلاميين مستقلين مختارين.

تلعب المؤسستان السالف ذكرهما كذلك دورًا كجماعتَي ضغط لجذب انتباه الرأي العام إلى الأخطار التي يعمل الإعلاميون في ظلِّها، وهذا العمل مُضنٍ ومُحبِط في كثير من الأحيان.

قاد المعهد الدولي لسلامة الإعلاميين الجهود التي يبذلها كثير من شبكات البث ومؤسسات الصحافة المطبوعة في سبيل المراجعة والتحديث المتواصلَين لبعض من المبادئ التوجيهية الخاصة بالسلامة التي صاغتها شبكة بي بي سي في تسعينيات القرن الماضي، ثم جرى تنقيحها على يد المؤسسات الإخبارية البريطانية في مؤتمر نيوز وورلد عام ٢٠٠٠.

تنص المبادئ التوجيهية الحالية للمعهد الدولي لسلامة الإعلاميين على التالي:
  • (١)

    إن صيانة النفس البشرية وسلامتها تأتي في المقام الأول. يجب توعية العاملين المتفرغين والمستقلين بأن المخاطر غير المبرَّرة سعيًا وراء خبرٍ ما أمرٌ غير مقبول ويجب ثنيهم بقوة عن خوضها. وعلى المؤسسات الإخبارية أن تضع في اعتبارها السلامة أولًا، قبل المزايا التنافسية.

  • (٢)

    يجب أن تكون المهام الصحفية إلى مناطق الحروب أو المناطق الخطرة الأخرى اختيارية وألا تضم سوى الكوادر الإخبارية المحنكة ومَن هم تحت إشرافهم المباشر. وفي حال امتنع أيِّ صحفي عن أداء مهمة صحفية خطرة، يجب ألا يضر ذلك بمسيرته المهنية. ويحق للمحررين الموجودين في المقرات الصحفية أو الصحفيين الميدانيين أن يُقرِّروا إنهاء مهمة صحفية خطرة بعد إجراء المشاورات اللازمة فيما بينهم.

  • (٣)

    يجب منح جميع الصحفيين والإعلاميين دورات تدريبية مناسبة لتوعيتهم بكيفية التعامل مع البيئات العدائية، وكذلك بالمخاطر الموجودة هناك وذلك قبل إرسالهم إلى المناطق الخطرة. وأصحاب الأعمال مدعوون لجعل ذلك إلزاميًّا.

  • (٤)

    قبل تكليف الصحفيين بمهامهم، يجب على أصحاب الأعمال أن يتأكَّدوا من اطلاع الصحفيين على آخر التطورات في الأوضاع السياسية والمادية والاجتماعية السائدة في المناطق المقرر أن يعملوا فيها، ويتأكدوا كذلك من إدراكهم للقواعد الدولية المُنظِّمة للصراعات المسلحة على نحو ما هو محدد في اتفاقيات جنيف وغيرها من الوثائق الرئيسية المعنية بالقانون الإنساني.

  • (٥)

    يجب على أصحاب الأعمال تزويد جميع العاملين المتفرغين والمستقلين المكلَّفين بالعمل في مواقع خطرة بمعدَّات السلامة الفعالة ووسائل الوقاية الطبية والصحية المناسبة للأخطار التي قد يواجهونها.

  • (٦)

    يجب أن يحظى جميع الصحفيين بتأمين شخصي أثناء عملهم في المناطق العدائية، بما في ذلك التأمين ضد الإصابات الشخصية والوفاة. ويجب ألا يقع أي تمييز بين العاملين المتفرغين ونظرائهم المستقلين.

  • (٧)

    يجب على أصحاب الأعمال تقديم الإرشاد النفسي السري المجاني للصحفيين المنخرطين في تغطية الأحداث المؤلمة. وعليهم أن يُدرِّبوا المديرين على التعرف على اضطراب ما بعد الصدمة، وأن يُسْدوا المَشُورة وقت الحاجة لذوي الصحفيين العاملين في مناطق خطرة بشأن سلامة أحبائهم.

  • (٨)

    إن الصحفيين مراقِبون حياديون؛ لذلك يُحظَر على أيِّ إعلامي حمل سلاح ناري أثناء تأدية عمله.

  • (٩)

    إن الحكومات وجميع القوات العسكرية والأمنية مدعوة لاحترام سلامة الصحفيين الموجودين في مناطق عملياتهم، سواءٌ أكانوا برفقة قواتهم الخاصة أم لا. ويجب ألا يقيِّدوا حرية الصحفيين في التحرك بلا مبرر أو يمسُّوا حق وسائل الإعلام الإخبارية في جمع المعلومات ونشرها.

  • (١٠)

    يجب على القوات الأمنية عدم التعرض مطلقًا للصحفيين المزاولين لأنشطتهم المشروعة بالمضايقة أو التخويف أو الاعتداء البدني (المعهد الدولي لسلامة الإعلاميين ٢٠٠٧ب).

دار، في الوقت نفسه، نقاش بين أعضاء المعهد بشأن قيمة ارتداء أو إبداء الإعلاميين للشارات المعترَف بها دوليًّا المكتوب عليها كلمات مثل «صحافة»، أو «إعلام»، أو «تليفزيون/راديو»، قبل استقرارهم على أن مثل هذه الشارات ربما تكون سببًا أدعى لتعرض حامليها لأعمال العنف بدلًا من حمايتهم منها. لا تزال تلك المناقشة المثيرة للجدل مستمرة.

(٢) الإعلام في العراق

قد يكون الصراع الدائر في العراق هو أصعب ما نقلت وسائل الإعلام على مدار تاريخها، وهو لا شك الأخطر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ فقد لقي ١٦٣ إعلاميًّا ومساعدًا لهم مصرعهم منذ الغزو الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣ وحتى أكتوبر ٢٠٠٧. لقد حسبت في الأشهر الأولى القليلة من الصراع، احتمالية وفاة الإعلاميين الدوليين، ووجدتها واحدًا بين كل ١٠٠ إعلامي، مُقارنةً بواحد بين كلِّ ألف لو كنت جنديًّا في القوات الأمريكية أو قوات التحالف؛ أي إن احتمالية مواجهتك للموت كإعلامي تفوق نفس الاحتمالية لو كنت جنديًّا بمقدار عشر مرات!

بالنسبة إلى تلك المؤسسات الإعلامية الدولية التي اختارت البقاء وتغطية الأحداث، فإن سلامة كوادرها تأتي في المقام الأول قبل أيِّ اعتبار آخر. ولقد تسببت التكاليف المتمثلة في تناقص أعداد العاملين وارتفاع أسعار متطلبات الأمن والسلامة في انسحاب كثير من تلك المؤسسات من العراق.

أما وسائل الإعلام العراقية المحلية فلا تتمتع، بالطبع، بتلك الرفاهية، وتُمثل أعداد الضحايا الذين سقطوا بين صفوف المراسلين والمصورين وطواقم التصوير المحليين دليلًا مُحبِطًا على تلك الحقيقة.

يقتصر الآن أكثر المؤسسات الإخبارية مراعاةً لقضايا السلامة، مثل بي بي سي ورويترز وأسوشيتد برس وسي إن إن وغيرها من شبكات البث الأمريكية، على إرسال أكثر كوادرها خبرة إلى العراق. ومنعت بعض المؤسسات الإعلامية، مثل السي إن إن، الصحفيين المبتدئين من دخول العراق دون تلقِّيهم أشد التدريبات صرامةً فيما يتعلق بالتعامل مع البيئات العدائية أو إرسال طواقم أمن إضافية لمرافقتهم.

من المقولات المفضلة لدى المسئولين التنفيذيين الإخباريين أمثالي هي:

إن العمل في العراق أشبه بجلوس ضفدع في إناء يُغلى الماء الموجود فيه على نحو تدريجي؛ إذ تتصاعد درجة حرارة الماء طوال الوقت، والمعضلة التي تواجهنا هي معرفة متى يتعيَّن علينا بالضبط أن نأمر الضفدع بالقفز منه؛ أي تحديد الوقت المناسب للتخلي عن الخبر. إن الكابوس الذي يهددنا هو أن نصدر ذلك الأمر بعد فوات الأوان؛ أي، بعد أن يكون الضفدع قد استمر في الغليان حتى الموت.

ما يعنيه التنفيذيون بتلك التعليقات هو أن المخاطر المحدقة بالإعلاميين في العراق تجاوزت أي تجربة سابقة شهدها تاريخ التغطية الإخبارية. ولا تتوفر لدى مديري أقسام الأخبار مراجع خاصة بالسلامة ولا مبادئ توجيهية بشأن «أفضل الممارسات» تمكِّنهم من تحديد كيفية أداء العمل. نحن، باختصار، نضع القواعد بينما نمضي في عملنا.

من كان بوسعه أن يتنبأ بالمستوى الذي وصلت إليه احتياطات السلامة التي تُعَد حاليًّا إجراءات اعتيادية لمن يرغبون في بقاء كوادرهم داخل العراق: عشرات من الحراس المسلحين، وتحصينات خرسانية للمدافع، ومركبات مصفحة للتنقل ولو عبر أقصر المسافات، والحاجة الحقيقية لمستشارين أمنيين حاملين لأسلحة ثقيلة بينما ينجز الصحفيون والطواقم الإخبارية مهامهم الصحفية الأساسية؟

تؤدي أغلب المؤسسات الإخبارية أعمالها من «حصون» داخل بغداد وحولها وفي مناطق أخرى، قد أُنشئت خصيصًا لهذا الغرض، وهي مزودة بحراسة على مدار اليوم، ونقاط تفتيشية للمركبات، وعدة متاريس. لقد تصاعدت التكاليف التي تكبدها أغلب المؤسسات الإخبارية لتصل إلى ملايين الدولارات سنويًّا. وكل ذلك قبل أن تنقل تلك المؤسسات خبرًا واحدًا.

لا ريب أن تلك المهمة الصحفية ليست للإعلاميين أصحاب القلوب الضعيفة.

إن مجرد الدخول إلى العراق يتطلب أعصابًا فولاذية وشغفًا بتغطية أخطر قصة إخبارية في العالم.

لقد وَصف لي توني مادوكس، النائب الأول لرئيس جمع الأخبار والعمليات في شبكة سي إن إن، والذي خلفني في قيادة قناة سي إن إن إنترناشونال، زيارته إلى العراق عام ٢٠٠٥ على النحو التالي:

تحدَّثْ إلى من عملوا في مجال الأخبار لوقت طويل وسوف يُجمعون على أنه ما من مهمة صحفية تشبه تغطية الصراع في العراق.

يُعَد الصحفيون في العراق في ذلك الحين أهدافًا رئيسية، وذلك على نحو دءوب ومركَّز لم نعهده من قبلُ.

أضف إلى الأهوال المعتادة للوقوع في شَرك حربٍ ذلك الشعور بأنك تُعتَبر هدفًا ثمينًا أهم من العدو نفسه.

وينبغي أن نعيد صياغة المقصود بأهوال الحرب المعتادة؛ فالهجمات على السكان المدنيين تقع بانتظام مثير للاشمئزاز، والمجازر تُعَد أمرًا مألوفًا، وكل أسبوع ترد تفاصيل عمل وحشي جديد أحقر من سابقه.

وعلى طواقم الأخبار أن تعيش وسط ذلك كله. يعيش مراسلونا وطواقمنا ومنتجونا ومهندسونا بدعم من كوادر محلية على قَدرٍ هائل من الشجاعة، داخل مجمعات تضم مكتب الأخبار ووحداتهم السكنية وقوات أمن لا تغادر مطلقًا.

إن المبنى المخصص لشبكة سي إن إن في بغداد كان في السابق منزلًا فخمًا في حيٍّ راقٍ. أما الآن فهو يُشبه الحصن.

وكان من المقرر أن أزور هذا المبنى.

يُعَد موظفو سي إن إن من بين أشجع الكوادر الإخبارية في المجال. ولا شك أن مثل هذا الوصف لا ينطبق عليَّ، لكنني أترأَّس كثيرًا منهم بالفعل، وقد حان الوقت لأرى كيف كانت الحياة تبدو في تلك المهمة التي تبتلع الكثير من ميزانيتنا والكثير من وقتي.

لدى علمهم بخططي لزيارة مقر سي إن إن في العراق، تطوَّع الزملاء بإسداء الكثير من النصائح والإرشادات إليَّ، وكلها تُفيد بأن الرحلة، ذهابًا وعودةً، هي على الأرجح أشد أجزاء المهمة إثارة للفزع. إنني أدرك أن تغطية الأخبار الدولية ليس خيارًا مهنيًّا محتملًا لراكب عصبي المزاج، لكن صدقوني، لم أكن الوحيد. كان ذلك يعني أن الرحلة الباهظة التي لا تنطلق سوى مرة واحدة في اليوم من عمَّان إلى بغداد ستختبر حماسة أشد الطيارين حماسة. أظنكم سمعتم عن الهبوط اللولبي، حيث تتجه الطائرة إلى الأرض في مسار لولبي لتجنب أي هجوم موجه إليها من الأرض؟ الحسنة الوحيدة التي يمكن أن أذكرها لرحلة الذهاب أنها كانت أقل رعبًا من رحلة العودة؛ إذ كانت طائرة الركاب النفاثة التي كنت على متنها تحاول أن ترتفع عن سطح الأرض وهي بكامل حمولتها بينما تتحرك في دوائر متصاعدة، بينما يشير أحد جناحيها نحو الأرض.

كانت الرحلة بالطائرة أفضل ما كان بالإمكان؛ إذ أعقبتها رحلة بالسيارة إلى مكتب الأخبار.

اتخذت الرحلة طريقًا طوله ١٢كم يُعرف باسم مطار بغداد الدولي. يُطلِق العسكريون على ذلك الطريق اسم الطريق الأيرلندي، أما الآخرون فيسمونه طريق الموت، نظرًا للعدد الهائل من الهجمات التي تقع بطوله. حين زُرت العراق، في سبتمبر عام ٢٠٠٥، كانت الفوضى على أشُدِّها، مع وجود قنابل مزروعة على جوانب الطرق وألغام وكمائن مسلحة، وأشكال أخرى لا تُحصى من الدمار.

كان السير على هذا الطريق في قافلة مُكوَّنة من سيارتين هو أقل الخيارات سوءًا. واستعنَّا كأغلب المؤسسات الإعلامية بمركبتَين مُصفَّحتين قادهما مستشارونا الأمنيون الذين كانوا على اتصال دائم بعضهم ببعض وبعامل اتصال في مقرِّ مكتب الأخبار.

ارتديت سترة كيفلار وخوذة واحتللت مكاني في مُؤخِّرة سيارة من سيارات الدفع الرباعي، المعروفة ﺑ «جاذبة القنابل»، وكنت في حالة انتباه وترقُّب شديدين بحثًا عن أيِّ علامة دالة على وجود هجوم. نصحني السائق بالبقاء متيقظًا وألَّا أغفو بعد رحلتي الطويلة قادمًا من أتلانتا. لست أدري حتى ما إذا كان يمزح أم لا.

بالنسبة إلى أشد الطرق السريعة رعبًا على مستوى العالم، تبدو المنطقة قاحلة، إذ لم نرَ أيَّ شيء على الإطلاق أغلب الطريق، سوى الحشائش الطويلة المثيرة للقلق على كلا جانبيه.

قال أحد أفراد الأمن: «إنها تُقدِّم ساترًا مثاليًّا للمهاجمين. أعتقد أن على الأمريكيين إحضار من يشذب تلك الحشائش اللعينة.» رأيت أنها فكرة جيدة للغاية، رغم أنها قد تكون أقل مهام البستنة جاذبية في العالم.

لقد كان الوصول إلى وسط بغداد، حيث الفوضى العارمة، أمرًا يبعث على الراحة، أما مكتب الأخبار فكان يبدو ملاذًا آمنًا، وهو ما يَشي بما كانت عليه رحلتنا على طريق الموت.

غريبة هي قدرتنا على تعديل توقعاتنا. لو كنت في أتلاتنا، فلن أزعم أن العمل في مكتب بغداد يُمثل بيئة باعثة على الراحة، لكنه نسبيًّا، إذا قورن بباقي المدينة، بمنزلة واحة قد تجد فيها الهدوء وتُسيطر في ظلها على الأوضاع.

يقوم موظفو سي إن إن المغتربون بجولات تتفاوت في مدتها، لكن أغلبهم يوجد هناك لبضعة أسابيع على الأقل. نحرص دائمًا، قبل إرسال أيِّ موظفٍ إلى العراق لأول مرة، على أن نصده عن تلك الخطوة. فنحن في حاجة إلى التحقق من أنهم قد فكروا فيها مليًّا؛ لأن الأمر لا يقتصر على مجرد المخاطرة الواضحة — كثير من كوادرنا أكثر إقدامًا وجسارة مني — بل يشمل أيضًا طبيعة العمل الطاحنة.

لا شك أن جميع رحلات العمل خارج المكتب تُمثل تحدِّيًا يتطلَّب كثيرًا من التحضير والتخطيط. كما أنه لا توجد حياة اجتماعية خارج حدود المكتب؛ فلا يمكنك حتى الخروج لنزهة بسيطة.

كانت مرافقنا وأطعمتنا مقبولة، لكنها بالنسبة إلى كثير من العراقيين كانت تُعَد رفاهيةً حقيقية، غير أن الحقيقة هي أنك حبيس في نفس المكان مع نفس الأشخاص وتتناول نفس الطعام لفترة طويلة.

ليس هناك الكثير لتفعله سوى العمل، وهو ما ستجد منه الكثير؛ وذلك في كل يوم، وكأنك تدور في طاحونة.

ورغم كل ما سبق، فالغريب أنه لم يصدر منا سوى القليل جدًّا من الشكاوى، وكأن طبيعة الأخبار وملابسات تغطيتها تفرض منظورها الخاص. إن الأمور التي تزعج أغلبنا أو تصيبه بالإحباط خلال أعمالنا المعتادة يجب أن تحتلَّ مكانها على الهامش مقارنة بأمور تفوقها أهمية بكثير.

قد تكون هذه الرحلة، بالنسبة إلى كثيرٍ من موظفينا، لا سيما أولئك الذين يستهلُّون حياتهم المهنية، تجربة تُغيِّر مَجرى حياتهم.

رحت أتأمل تلك الفكرة في أثناء جلوسي في حانة بلندن، قبل الانطلاق إلى الجزء الأخير من رحلة عودتي إلى أتلانتا.

بالنسبة إلى من يُشرف منا على تلك النوعية من المهام الصحفية، هناك حاجة ماسة للتحلي بوعيٍ عالٍ بالضرر الذي قد تعانيه كوادرنا جرَّاء تغطيتهم لخبر تلو الآخر من الأخبار المُثقلة بالمعاناة والوحشية. نحن نستعين بخبراء مدربين لمساعدة كوادرنا على حل تلك المسائل، كما أن مديرينا مكلفون برصد أيِّ أعراض دالة على أنهم يعانون اضطرابًا ما.

إلى جانب التركيز على مسائل السلامة، أعتبر أن رغبتنا في معالجة قضايا مثل اضطراب ما بعد الصدمة بمنزلة أحد أهم التطورات في مجال الأخبار خلال السنوات العشر السابقة.

غير أننا في حاجة أيضًا إلى أن نُقرَّ بأن الإعلاميين دائمًا سيرغبون في أداء مهام كتغطية الحرب في العراق، وأن تلك التجارب، لو أديرت كما ينبغي، فيمكن أن تكون عظيمة النفع لتقدُّمهم وتنميتهم.

أعلم أن زيارتي القصيرة للعراق كان لها بالتأكيد تأثير إيجابي عليَّ.

فقد اكتسبت فهمًا أفضل للضغوط التي تشهدها مهامنا وكوادرنا، ورؤيةً أعمق بكثير للعملية الإخبارية.

ولم أكن عصبيًّا خلال رحلتي على الخطوط الجوية البريطانية عائدًا من لندن إلى أتلانتا. حسنًا، لم أكن عصبيًّا بقدر ما اعتدت في السابق.

إن وصف مادوكس لرحلة العراق، ذهابًا وعودة، وتجربته القصيرة للحياة هناك، والتي كانت أشبه بالسجن، يُفسر بدقة لِمَ تُعَد تغطية الأحداث في العراق مهمة في غاية الصعوبة، ولِمَ لا يُعَد غريبًا أن أغلب الإعلاميين يفكرون مرتين قبل أن يخطوا خطوة خارج مجمعاتهم السكنية إلى داخل بغداد.

فمن يفعلون ذلك لا يقدِمون على تلك الخطوة إلا بعد تقييم مُفصَّل للمخاطر في ضوء غرض تلك الخطوة والأخبار أو المعلومات المزمع الحصول عليها.

يُسمَّى ذلك ﺑ «المخاطر مقابل العائد».

في كثير من المؤسسات الإخبارية؛ تلك المؤسسات المعتبَرة بالتأكيد التي تقدِّم مصلحة كوادرها على الخَبر، تطغى اعتبارات السلامة تمامًا على آليات تغطية الحرب في العراق. تتبنَّى سي إن إن سلسلة من القواعد الصارمة التي تحدد حتى ما إذا كان الفريق سينفذ المهمة من الأساس أم لا. فيجب على مدير مكتب بغداد، أو نائبه، أن يُقدِّم تقييمًا مُفصَّلًا لمخاطر المهمة المقررة، ثم تجري مناقشة ذلك التقييم مع أحد المستشارين الأمنيين المقيمين على الدوام في المكتب، والذين هم في حاجة إلى معرفة تفاصيل الجولة التي سيقوم بها الطاقم، وخط السير الذي وقع عليه الاختيار ليسلكه الطاقم من المكتب، والوقت الذي يُمضونه ميدانيًّا، والموعد الذي يُتوقَّع أن يعودوا فيه إلى المكتب. ويجب على طاقم سي إن إن أن يبقوا على اتصالٍ دائمٍ مع المكتب، بما في ذلك مكالمات المتابعة، وأن يكونوا على دراية مستمرة بخطوط السير الواجب اتباعها في حالة الطوارئ.

ثم يُعرض تقييم المخاطر للمناقشة مع كبار المديرين في مقر سي إن إن بأتلانتا، ويكون عليهم التوقيع بالموافقة على تنفيذ المهمة. في كل مرة، يُطرح السؤال: «ما المخاطر، وما العائد؟»

لم تسمع أي مؤسسة إعلامية عن تلك الإجراءات البيروقراطية إلا في السنوات الأخيرة، لكنها فُرِضت على الصحفيين نتيجةً لواقع تغطية ذلك الصراع الذي يتميز بالوحشية. لقد عانت سي إن إن، كغيرها الكثير من المؤسسات الإعلامية الأخرى، من تعرُّض طواقمها للقتل والإصابة والاختطاف كرهائن في العراق؛ لذلك فهي تتخذ كل إجراء ممكن، باستثناء مغادرة العراق، لحماية كوادرها الصحفية.

(٣) التأمين المسلح

لم يَعُد من المستغرب الآن أن يسير العاملون في مؤسسات البث والصحف داخل العراق وغيرها في صحبة أفراد أمن، بل ويُسمح لهم أحيانًا بحيازة الأسلحة، رغم أن ذلك قد يبدو غير معقول بالنسبة إلى الصحفيين والإعلاميين المخضرمين الذين اعتادوا العمل في ظلِّ ظروف أكثر أمانًا.

هناك فرق شاسع هنا بين الصحفيين الحاملين للأسلحة وأولئك المكلَّفين بحمايتهم، رغم أن ذلك الفرق لا يتفهمه بعض من يتبنَّون نهجًا متشددًا في المحافظة على التقاليد الصحفية.

لم تسمح الإدارة العليا لشركات مثل بي بي سي وسي إن إن لكوادرها بحيازة السلاح تحت أي ظرف؛ لأن ذلك من شأنه أن يُدمِّر العرف والمبدأ السائد بأن الصحفيين يجب ألَّا يُنظَر إليهم كمقاتلين. وهو ما يُفسر ما يسببه القلائل الذين يعلنون حملهم للسلاح أثناء عملهم الصحفي — مثل مراسل فوكس نيوز الأمريكية جيرالدو ريفيرا — من إساءة إلى المهنة بأكملها. إن فكرة حمل الصحفيين للسلاح ليست جديدة تمامًا؛ فربما كان أشهر من طبقها هو وينستون تشرتشل؛ وذلك حين سافر لحساب صحيفة ذا تايمز كجندي وصحفي في آنٍ واحد. ثم حذا الكثيرون حذوَه بمرور السنوات.

غير أن الأمر مختلف في العراق وأفغانستان والصومال.

إن المخاطر المحدقة بالإعلاميين في تلك البلدان تبلغ من الحدَّة بحيث لا يتجاهلها سوى المديرين عديمي المسئولية. يرغب البعض في إلحاق الأذى بنا أو قتلنا، ولن نستفيد شيئًا لو مُتنا شهداء.

برزت على الساحة تلك القضية المثيرة للجدل — والتي كانت مادة للحوار المتعصب في حلقات النقاش الإعلامية المتتابعة حول العالم — في الأسابيع القليلة الأولى من حرب العراق عام ٢٠٠٣، حين وَجد أفراد طاقم تابع لشبكة سي إن إن أنفسهم يجتازون بسيارتهم تكريت، مسقط رأس صدام حسين في العراق.

كان برينت سادلر، أحد مراسلي سي إن إن الأكثر خبرةً ومهارةً، موضع اهتمام بالفعل من المتشددين الذين بدا أنهم مُصمِّمون على مهاجمة فريق إعلامي غربي بارز؛ ولذلك كان يتجول في أنحاء العراق برفقة أفراد أمن مسلحين، وأفراد معينين محليًّا، وأفراد مدربين من الجيش البريطاني حين تعرضت سيارتهم لهجوم.

هذا ما حدث، كما وصفته كلمات برينت:

نجحنا، خلال ساعات النهار في الوصول إلى قلب تكريت، مسقط رأس صدام حسين، لكن ذلك لم يحدث حتى اخترقنا مشارفها.

وصل فريق سي إن إن إلى هناك بينما كانت تتجه قوات التحالف وقوات المارينز الأمريكية شمالًا نحو تكريت لبدء معركة لدكِّ آخر معاقل صدام حسين.

استطعنا أن نصل إلى اثنين من المجمعات العسكرية العراقية الكبرى. كان أحدهما وحدة مدرعات تابعة للجيش العراقي النظامي، وكانت تشغل مساحة شاسعة، وفيها عثرنا على مستودعات لناقلات جنود مُصفَّحة ومهجورة ودبابات مهجورة. وكانت أبواب بعض هذه المركبات القتالية مفتوحة؛ لذا يبدو أن الجنود قد فروا على عجل.

كما كان هناك الكثير من الدمار؛ من الواضح تمامًا أنه ناجم عن ضربات جوية شنها التحالف على مدار الأيام السابقة. سمعنا بالتأكيد المزيد من النشاط الجوي عندما كنا على مشارف تكريت.

توجهنا أيضًا إلى كتيبة مدرعات تابعة للحرس الجمهوري. لم تكن مركباتهم القتالية في أماكنها، مما يدل على أنهم ربما قد توجهوا إلى قلب تكريت للدفاع عنه.

يتفق ذلك الافتراض مع ما عرفناه من آخر التقارير الصادرة عن قوات المارينز الأمريكية، والتي أفادت أن المروحيات المقاتلة دمرت خمس دبابات تابعة للحرس الجمهوري العراقي خلال الساعات القليلة الماضية.

الآن وقد وصلنا إلى قلب تكريت، أشار إلينا شخص في نقطة تفتيش سامحًا لنا بالمرور. لم يكن أسلوبه شديد العداء، ولا شديد المودة.

سِرنا متقدمين وبدأنا نتحدث إلى بعض الأشخاص، ولم يمر سوى بضع لحظات حتى تعرَّضنا لإطلاق نار، واضطُررنا إلى الخروج مسرعين بسيارتنا من تكريت تحت وابل من الطلقات المنطلقة من الكثير والكثير من الرشاشات. (سي إن إن ٢٠٠٣)

لم يمر سوى بضعة أشهر حتى تعرَّض فريق آخر تابع لسي إن إن لهجوم آخر في يناير ٢٠٠٤، لكن عواقبه كانت أكثر مأساوية.

كان الموظفون عائدين إلى بغداد في قافلة مُكوَّنة من سيارتين بعد أدائهم لمهمة صحفية في مدينة الحِلَّة الجنوبية حين تعَرَّضوا لكمين على مشارف بغداد.

لقي كلٌّ من دريد عيسى محمد، وهو مترجم ومنتج يبلغ من العمر ٢٧ عامًا، وياسر خطاب، وهو سائق يبلغ من العمر ٢٥ عامًا، مصرعهما متأثرَين بإصابتهما بعدة طلقات نارية. أما المصور سكوت ماكويني الذي كان يستقل سيارة أخرى، فقد أُصيب بخدش في رأسه جَرَّاء رصاصة.

كانت سيارتا السي إن إن متجهتين جنوبًا نحو بغداد حين اقتربت من الخلف سيارة أوبل ذات لون بني مائل إلى الحمرة، تُقِل مسلحًا واحدًا حاملًا رشاش كلاشينكوف وقد خرج من فتحة سقف السيارة وفتح النيران على إحدى السيارتين.

نجحت السيارة التي تتقدم القافلة في الهروب من المُسلح، بعد تعرُّضها لإطلاق النار خمس مرات على الأقل، وذلك بعد أن أطلق مستشار سي إن إن الأمني النار في المقابل.

عبَّر المراسل مايكل هولمز عن الأمر قائلًا: «أعتقد بلا شك أن جميع من كانوا في سيارتنا كانوا سيُقتَلون عن آخرهم لو لم يَرُد المستشار الأمني بإطلاق النار. لم تكن الحادثة محاولة سرقة؛ بل كان من الواضح أنها محاولة قتل.»

كان هولمز، والمنتجة شيرلي هنج، والمستشار الأمني وسائق يرافقون ماكويني ولم يُصَب أحدهم بسوء.

دارت السيارة الأوبل في منتصف الطريق بينما غادرت السيارة الثانية، التي تُقل محمدًا وخطابًا، الطريق السريع، حسبما أفاد أحد أفراد طاقم سي إن إن.

توجَّه طاقم سي إن إن الموجود في سيارة ماكويني إلى قسم للشرطة العراقية، وطلبوا من الضباط العودة إلى موقع الحادثة لمساعدة محمد وخطاب.

ثم توجَّه الطاقم بعدها إلى قاعدة عمليات أمريكية أمامية تابعة للفرقة ٨٢ المحمولة جوًّا، حيث تلقَّى ماكويني العلاج، ثم أرسل الجيش الأمريكي فريقًا للعثور على موظفَي سي إن إن المفقودَين. (سي إن إن ٢٠٠٤)

إذًا، نجح مُجددًا أفراد الأمن المسلحون والمحترفون في حماية بعض كوادر سي إن إن على الأقل، بينما أدرك آخرون في مجال الإعلام أنه لا مجال للعودة إلى الوراء فيما يخص مستوى الرعاية والحماية المطلوب في مناطق الحروب.

خاتمة

إذًا، ماذا يحتاج الإعلاميون وهم يواصلون تغطيتهم لهذا العالم المليء بالتحديات؟

لا شك أنهم يحتاجون إلى وعيٍ كامل بأنهم لم يعودوا أشخاصًا يتمتعون بالحصانة، حتى لو كانوا كذلك في السابق.

ويجب أن يُدركوا أن هناك من يرغبون في إيذائهم ويتمنون عرقلة مهمتهم.

أرى أن أفضل حماية نُقدِّمها للإعلاميين هي أن نضمن أن كل صحفي وإعلامي لديه تفهُّم كامل بالمخاطر المتأصلة التي نواجهها.

ويجب على من يرغبون في الدخول إلى مجالنا أن يدركوا أن تقييم المخاطر ضرورة تُعادِل في أهميتها مهارات الكتابة السريعة (الاختزال) أو استيعاب القوانين ذا الصلة بالعمل أو القدرة على إجراء مقابلة صحفية وتصوير حدث بكاميرات الفيديو أو الكاميرات الفوتوغرافية. إن طلاب الإعلام في حاجة إلى تعلُّم القضايا المتعلقة بسلامتهم البدنية والنفسية في كلياتهم أو جامعاتهم.

كما أنهم يحتاجون إلى أن يفهموا على نحوٍ علميٍّ أن ممارسة الصحافة في صورتها النموذجية قد تكون في الواقع وسيلة للوقاية من العنف والإرهاب. فلو أدينا وظيفتنا بعناية ودقة مع التحلي بروح الإنصاف، فربما يُقلص ذلك من الأسباب الداعية إلى مهاجمتنا أثناء عملنا.

ملحق: النجاة والسلامة في ظل عالم عدائي

على مدى تاريخ شبكة سي إن إن الممتد لستة وعشرين عامًا في تغطية أخبار العالم، واجه المئات من كوادرها الأخطار. وقد تمكَّن أغلبهم، لحسن الحظ، من إنجاز مهامهم الخطيرة دون أن يمسهم سوء، لكن من المفجع أن بعضهم لم يتمكن من ذلك. فطوال تاريخ الشبكة، واجه موظفوها الميدانيون أمراضًا وإصابات خطيرة، وحوادث اعتقال واختطاف، بل وحتى الموت. وأسهمت كل واقعة من تلك الوقائع المؤلمة في إبراز حقيقة مفادها أن التدريبات والتحضيرات المناسبة الخاصة بالنجاة ضرورية لأيِّ مُهمةٍ صحفية تجري في منطقة عدائية.

تُحتم سياسة شبكة سي إن إن على الموظفين المُوفَدين إلى مناطق الحروب النشطة إتمام دورة تدريبية خاصة بكيفية التعامل مع «المناطق العدائية» مدتها خمسة أيام، وذلك قبل سفرهم. وتُقدِّم مجموعة إيه كيه إي المحدودة — وهي شركة متخصصة في مجال السلامة الميدانية للصحفيين تتخذ من المملكة المتحدة مقرًّا لها — هذه الدورة المعروفة رسميًّا باسم «النجاة في المناطق العدائية»، والتي تُغطي طائفة واسعة من مهارات إنقاذ الحياة التي تشمل الإسعافات الأوَّلِيَّة المكثفة والوعي الموقفي. وقد أتمَّ أكثر من ٦٠٠ موظف في الشبكة تلك الدورة منذ إطلاقها.

تُقدِّم الدورة إطارًا عامًّا لكيفية التعامل مع المخاطر الكامنة لا في مناطق القتال فحسب، بل وفي البلدان التي لا تُعَد القنابل والرصاص فيها مصدر الخطر، بل البيئة نفسها. في واقع الأمر، إن الحوادث أو الأمراض اليومية المعتادة في العالم المتقدم تعني زيارة سريعة إلى غرفة الطوارئ لإجراء جراحة أو تلقِّي العلاج، لكن خذ الملابسات ذاتها وضعها في مكان تقع فيه أقرب مستشفًى على بعد ١٠٠ كيلومتر تقطعها عبر طرق خالية من أيِّ علامات إرشادية وستكون النتيجة أن المصاب سيلقى حتفه لانعدام الرعاية الفورية. يُقدِّم التدريب المتضمن في الدورة أساليب تمكِّنك من النجاة معتمدًا على نفسك أو بمساعدة زميل حاصل على نفس التدريب.

ليست شبكة سي إن إن وحيدة في المنهج الذي تتَّبعه حيال الالتزام بقضية السلامة أو التدريبات الخاصة بها؛ إذ يتبنى الكثير من الشبكات الأخرى الأمريكية والدولية برامج مشابهة، كما أن إيه كيه إي هي واحدة من ثلاث شركات على الأقل في العالم تُقدِّم مثل هذه الدورات المَعْنية بالنجاة والتي تستهدف الصحفيين خصوصًا.

بدأت إيه كيه إي في تقديم هذه الدورة عام ١٩٩٣، والتي كانت الأولى من نوعها. وقد دشن هذا التدريب العضو السابق في قوات الكوماندوز التابعة للخدمات الجوية الخاصة البريطانية، أندرو كين (يحمل اسمُ الشركة أول حرفين من اسمه)، والذي يعتمد على المعرفة العسكرية المُوظَّفة في البيئات عالية الخطورة، لكنه يُكيِّف تلك المعرفة بما يلائم متطلبات جمع الأخبار ميدانيًّا، سواءٌ أكان ذلك للصحف أم شبكات البث.

ينقسم هذا التدريب إلى أربعة أقسام: التوعية، والجوانب الطبية، والاكتفاء الذاتي، والتخطيط (مجموعة إيه كيه إي ٢٠٠٨).

يُقدَّم التدريب في شكل مزيج من المحاضرات داخل القاعات والسيناريوهات العملية الخارجية، وهي الأكثر إثارة، وذلك لتأكيد ما تعلَّمه المشاركون في الدورة داخل المحاضرات من خلال تفاعلهم مع تدريبات غاية في الواقعية، ولم يسبق لهم ممارستها عمليًّا في ساحة التدريب. تجري الاستعانة بممثلين لأداء دور المقاتلين مما يضع الصحفيين في ظروف ربما لم يتخيلوا قَطُّ المرور بها لكن ربما يعلمون أنها يمكن أن تقع خلال مهامهم الصحفية.

لنُلقِ نظرة على أحد أمثلة تدريبات النجاة الذي يُدعى «حواجز الطرق». خلال هذا التدريب، يمارس المشاركون «ممارسة عملية» ما تلقَّوه من محاضرات على مدى يومين على الأقل في ساحة التدريب (المجاورة لواحدٍ من المرافق التدريبية الإقليمية الثلاثة التابعة لمجموعة إيه كيه إي). يُبلِغ قائد فريق التدريب الصحفيين أنهم على وشك الشروع في تغطية خبر ما، وأن أحد زملائهم من الصحفيين قد استعان بمعاون من أجل قيادتهم إلى حيث من المُقرر أن يلقوا الشخص الذي يرغبون في عقد المقابلة معه. وهذا الأمر لا غرابة فيه؛ فأغلب الصحفيين معتادون على ذلك الإجراء الروتيني.

يُسمح للطلاب بإجراء مناقشات فيما بينهم يتناولون فيها ما يتوجب عليهم فعله قبل الانطلاق في رحلتهم. ثم تغادر المجموعة وبعد سلسلة من المنعطفات المربكة تُفاجأ بوصولها إلى منطقة مغطاة بالأشجار. ويُوضَع حاجز أمام السيارة التي تُحاط بغتةً برجال مُلثَّمين شاهرين أسلحتهم.

يواجه المشاركون في الدورة خلال الثلاثين دقيقة التالية واقعة صادمة جرت فعليًّا بكل تفاصيلها لكثير من الزملاء: مسلحون مُدججون بالرشاشات يُوقِفون سيارتك. ماذا عساك أن تفعل؟ يصيح أحد المسلحين قائلًا: «اخرجوا! ترجَّلوا من السيارة حالًا!» يتوجه المقاتلون المُرعِبون والمتخفُّون نحو السيارة جاذبين الأبواب بشدة ومُصوبين أسلحة الكلاشينكوف نحو وجوه الركاب. فتُفتح الأبواب ويُدفع بالصحفيين إلى جانب الطريق.

يُطلب من الصحفيين تسليم محافظهم وجوازات سفرهم، بينما يصيح بهم المقاتلون بعدائية لا رحمة فيها: «اخفضوا رءوسكم! ولا تلتفتوا حولكم. إن لم تطيعوا الأوامر، فسنطلق عليكم النار!»

ليس لدى المشاركين الآن متسع من الوقت للتفكير. يبلغ الموقف حدًّا من الواقعية يدفع كثيرًا منهم إلى الارتجاف بوضوح؛ فالأمر مثير جدًّا لأعصاب الجميع. ثم يسير «قائد المقاتلين» خلف الصحفيين الذين اصطُّفوا الآن وهم منبطحون أرضًا.

«إلى أين تذهبون؟ نحن «نسيطر» على هذا الطريق! لا بد أنكم جواسيس للسي آي إيه!»

يبرز إلى السطح في تلك المرحلة ما تعلَّمه الصحفيون خلال الدورة من إطار عمل. يحتج البعض على الاستجواب، بينما يبقى آخرون صامتين. وربما يفكر أحدهم في الهرب، أما الباقي فلا يدري ماذا يفعل. إن هذا أقرب ما يكون إلى ما يجري في الواقع.

يتواصل المشهد، بل ويتصاعد، بما في ذلك تلك اللحظة التي يسحب فيها مسلحان إحدى الصحفيات بعيدًا. في بعض السيناريوهات التي تتضمنها الدورة، تنطلق صرخة مكتومة ثم طلقة بندقية، لكن ذلك يجري بعيدًا عن مرأى المحتجزين عند السيارة، والذين يتساءل كلٌّ منهم حينها، بلا شك: «هل أنا التالي؟»

قد تُنهي كل مجموعة تلك التمثيلية المثيرة على نحو مختلف. قد تكون بعض النهايات سعيدة؛ إذ يتولَّى شخص ما زمام المبادرة وينجح في تحرير الجميع ببراعةٍ ودهاءٍ. لكن في أحيان أخرى قد تكون النهاية عنيفة، نتيجة لتصرُّف غير مدروس يأتي به طالبٌ حسَن النية لكنه متشبث بفكرة خاطئة. ما يقال في تلك التدريبات وما يُفعل يُثبت شيئًا واحدًا، وهو أنه لا يوجد شيء مؤكد. تعيد كل مجموعة استعراض سيناريو حواجز الطرق خاصتها ويناقش المدربون الكيفية التي تعامل بها الأفراد مع الموقف والجوانب الإيجابية الموجودة فيها. وتُظهر هذه الواقعة الميدانية أنه ليس هناك «صواب» مطلق ولا «خطأ» مطلق. فأنت لا يسعك بوصفك صحفيًّا فعل الكثير، لكن ما يمكنك فعله هو أن تكون متأهبًا قدر الإمكان. وتمنح الدورة التدريبية هذه المشاركين فيها مجموعة من المهارات المتعلقة بكيفية «النجاة على أفضل وجه ممكن» لو وقعوا في مواجهة حقيقية تهدد حياتهم.

يُعَد تدريب حواجز الطرق واحدًا من ثلاثة تدريبات ميدانية على الأقل تُمارَس خلال الدورة التي تدوم لخمسة أيام. كما تضم الدورة مواد إضافية تُغطي كيفية التعرف على أنواع الأسلحة، بما فيها المدفعية والألغام والفخاخ المتفجرة. لو شكَّك أحدهم في الحاجة إلى معرفة أنواع الأسلحة، فلينظر في أهمية معرفة ما إذا كان «زناد الأمان» الخاص ببندقية الكلاشينكوف المصوَّبة نحو رأسك منزوعًا أم لا. فإذا واجهت إعدامًا محتملًا ولم يكن لديك فرصة للهرب سوى جزء من الثانية، فلا شك أن التعرف على هذا القدر الضئيل من أبجديات الأسلحة القتالية سيصير ذا أهمية جلية.

يضم التدريب عناصر أخرى، تتراوح بين الإثارة والبساطة، وتمنح المشارك مزيدًا من الثقة. من بين هذه الأنشطة تقييم الأفراد المسلحين الذين قد يواجههم وتحديد ما إذا كانوا ينتمون لجيوش تقليدية أم غير تقليدية. وإذا كانوا ينتمون لجيشٍ تقليديٍّ، فكيف تعرف مستوى احترافيتهم وقدراتهم؟ ومَن قائدهم؟ وكيف لا تجذب الانتباه إليك بحيث لا تبدو مصدرًا للخطر؟ ومتى ترتدي سترة واقية من الرصاص ومتى لا ترتديها؟

إن النجاة في المناطق العدائية، كما ذكرنا سلفًا، لا تقتصر بأيِّ حالٍ على تجنُّب طلقات الرصاص أو الألغام أو الاختطاف؛ فالبقاء بصحة جيدة داخل البيئات التي كثيرًا ما يعمل فيها الصحفيون لا يقل أهمية؛ فالأمراض والإصابات يمكن أن تحصد الأرواح تمامًا كالرصاص والقنابل، وعليه فإن دورة «النجاة في المناطق العدائية» التي تقدمها مجموعة إيه كيه إي تركِّز على الجوانب الطبية تركيزًا كبيرًا. وهذا القسم يُغطي ما هو أبعد من أساسيات «الإسعافات الأوَّلِيَّة» النمطية التي يُقدمها الصليب الأحمر في دوراته، فيتناول:
  • تقييم الإصابات والتعامل مع المجاري الهوائية لإبقائها مفتوحة.

  • السيطرة على حالات النزيف الحاد والجروح.

  • التعامل مع الكسور.

  • إنعاش القلب والرئتين.

  • التعامل مع الظروف المناخية: الحرارة/البرودة، داء المرتفعات.

  • الحيوانات السامة.

  • الأمراض الشائعة، وكيفية الوقاية منها.

  • طب السفر.

كما يلعب الاكتفاء الذاتي دورًا كبيرًا في الحد من المخاطر الميدانية؛ ولذلك تقدِّم الدورة لمحة عامة وافية عن كيفية زيادة المرونة والقدرة على التكيف إلى أقصى حدٍّ أثناء أداء المهام العسيرة. من أبرز ما يتضمنه هذا القسم:
  • استهلاك الغذاء، وأداء التدريبات البدنية، وارتداء الملابس الملائمة.

  • الحفاظ على الاتزان العقلي والقوة النفسية.

  • مهارات الملاحة.

  • مهارات تجنب الوقوع كرهينة.

من أهم الجوانب التي تتناولها الدورة التركيز على التخطيط؛ أي ببساطةٍ، استشراف المستقبل. تركز الدورة على النقاط التالية في هذا الصدد:
  • تحديد الغاية والمخاطر.

  • أداء العمل التحضيري: تحديد المشاركين في المهمة، ودراسة المناخ والطبيعة الجغرافية.

  • المعدَّات والمتعلقات الضرورية: تحديد الأشياء المطلوبة.

  • حالات الطوارئ: سيناريوهات ماذا لو؟

  • العمل الجماعي والمسئولية: اتخاذ إجراءات استباقية.

  • الأمور الواجب تنفيذها عند الوصول: تعديل الخطط.

من الأهمية بمكان أن نوضح أن العمل الصحفي في «منطقة عدائية» يُمثل خطورة مهما كان التدريب الذي يتلقاه الصحفي. فرغم أن دورة «النجاة من المخاطر»، التي مُدتها خمسة أيام، تمنح المراسل أو المنتج أو المصور إحساسًا جديدًا بالثقة إلى جانب مجموعة من مهارات إنقاذ الحياة، فإنها لا تجعلهم بمأمن من طلقات الرصاص. إن المعرفة المكتسبة من الدورة، لو التزم بها الصحفيون بدقة ميدانيًّا، تُعنى في المقام الأول بخلق ظروف في صالحك. وحتى لو كانت تلك المكاسب الإيجابية ضئيلة، فإن المحصلة النهائية يمكن أن تكون حاسمة: إذ قد تفصل بين المرض والصحة، وبين التعرض لإصابة والنجاة منها، وبالطبع بين الحياة والموت.

شكر وتقدير

أود أن أشكر الأفراد والجهات التالية أسماؤهم لإسهاماتهم في هذا الفصل: ويل كينج، وقناة سي إن إن إنترناشونال، وشبكة بي بي سي، وتوني مادوكس، وبرينت سادلر.

سبق أن نُشِر جزء من هذا الفصل في كتاب (كرامر ٢٠٠٢). يَودُّ المحرِّرون التقدم بالشكر للناشرين لسماحهم بإعادة نشره.

أسئلة يُجيب عنها الطالب

(١) هل أصاب كريس كرامر (وغيره ممن يُشاركونه هذا الرأي) في قوله إنه «ما من خبر يستحق التضحية بحياة صحفي»؟

(٢) هل الاستعانة بحراس مسلحين لحماية الصحفيين في مناطق الحروب كالعراق وغيره من شأنها أن تُقوِّض دور الصحفيين كمراقبين محايدين؟

(٣) هل من الصحيح أخلاقيًّا أن يُجري الصحفيون المرتدُون سترات واقية من الرصاص وخوذات مقابلات مع المدنيين الموجودين في مناطق الحروب ممن لا يتمتعون بحماية مشابهة؟

(٤) ناقِش الأسئلة التالية مع مؤسسة إخبارية تختارها:
(أ) ما هي سياستهم فيما يتعلق بتقديم دورات تدريبية معنية بالتعامل مع البيئات المعادية لكوادرها الذين قد يُكلَّفون بتنفيذ مهام صحفية في بؤر الصراع أو أي مهامَّ ذات خطورة مُحتملة؟‌
(ب) ما هي سياستهم فيما يتعلق بتقديم دورات تدريبية وتوفير معدَّات سلامة للصحفيين المحليين والمستقلين الذين قد يستعين كوادرهم بخدماتهم؟
(ﺟ) ألديهم أي برنامج مُتَّبع يُرشدهم إلى ما عليهم فعله لو تعرَّض أحد صحفييهم للاختطاف كرهينة؟ هل سيدفعون فدية؟ وما مدى تعاونهم الوثيق مع حكومتهم؟ وهل سيبذلون جهدًا مشابهًا لو تعرَّض أي معاونين محليين للاختطاف كرهائن؟

هوامش

(١) تعرَّض دانييل بيرل للاختطاف والقتل في باكستان عام ٢٠٠٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤