الفصل الرابع

الصحافة المستقلة

فون سميث

تمهيد
جون أوين

عند دخولك إلى نادي فرونتلاين للصحفيين الدوليين في لندن، سوف تمر بمجموعة كبيرة مؤطرة من الصور لثمانية صحفيين، سبعة رجال وسيدة. إذا دققت النظر في تلك الصور، فستدرك أن جميعهم رحلوا عن الحياة، وأن جميعهم كانوا صحفيين مستقلين، وأنهم كانوا يعملون يومًا ما في وكالة فرونتلاين الإخبارية التليفزيونية، وجنبًا إلى جنب مع أحد مؤسسيها، فون سميث.

طالما بذل الصحفيون المستقلون ثمنًا باهظًا لقاء مُخاطراتهم الصحفية؛ فعلى مدار عشر سنوات، بدءًا من ١٩٩٦ وحتى ٢٠٠٦، بلغ عدد الصحفيين الذين ذكر المعهد الدولي لسلامة الإعلاميين أنهم قَضوا نحبهم أثناء تغطيتهم للأخبار ألف صحفيٍّ، منهم ٩٤ صحفيًّا مستقلًّا، وهو ما يعني واحدًا من كل عشرة صحفيين تقريبًا (المعهد الدولي لسلامة الإعلاميين ٢٠٠٧).

لا يتلقى الصحفيون المستقلون أبدًا التقدير الملائم لإسهامهم في التغطية الإخبارية الدولية مقارنةً بالصحفيين المتفرغين العاملين في الوكالات الإخبارية؛ فقلَّما تمنحهم الشبكات أو الوكالات الإخبارية الإشادة اللائقة والمباشرة على ما قدَّموه من صور أو تحقيقات صحفية، ناهيك عن الاعتراف بإسهاماتهم داخل الوسط الإخباري نفسه.

جرت العادة طويلًا في بريطانيا أن يعمل الجنود السابقون كمصورين مستقلين، مستفيدين من تدريباتهم السابقة ومعرفتهم المفصَّلة بالصراعات والحروب، وهو ما يميزهم عن غيرهم ممن لا يتمتعون بتلك الخبرة. وبعد انهيار جدار برلين وما شهدناه من سنواتٍ طِوال من القتال الدموي البغيض في البلقان والاتحاد السوفيتي السابق وأمريكا الوسطى وأجزاء كثيرة من أفريقيا، كان الصحفيون المستقلون في الغالب مصدرًا للمواد الإخبارية «الحصرية» التي كانت تتطلع إليها الوكالات والشبكات الرئيسية.

ورغم إقبال الصحفيين المستقلين على قبول تلك المهام الصحفية وخوض جميع المخاطر التي امتنع الآخرون عن مواجهتها مهما كانت، فإنهم قد استاءوا من كثرة حرمانهم من التأمين اللائق أو عدم حصولهم على معدَّات واقية بنفس جودة المعدَّات الممنوحة للصحفيين المتفرغين. ولقد أدَّت وفاة أحد مؤسسي وكالة فرونتلاين الإخبارية التليفزيونية، روري بيك، في ١٩٩٣، إلى إنشاء مؤسسة خيرية تحمِل اسمه لتقديم تعويضات مالية لأسر الصحفيين المستقلين الذين لقوا حتفهم خلال أدائهم مهامهم الصحفية. إن المبالغ التي قد تبدو غير كافية بالنسبة إلى أُسَر الصحفيين المستقلين في الدول الغربية تُعتبر مبالغ هائلة بالنسبة إلى أولئك الذين عاشوا وعملوا في الدول النامية والمناطق الأقل رخاء.

حتى لو أبدى الصحفيون المستقلون استعدادهم لتغطية صراعات في بلدان — كالعراق والصومال — تزيد فيها احتمالات تعرُّضهم للقتل، بحسب ما يرى مديرو الأخبار في شبكات البث، فهل ينبغي عليهم تشجيع هؤلاء الصحفيين على خوض تلك المجازفات الخطيرة؟ يرى بعض المسئولين التنفيذيين الإخباريين أن مثل هذا السلوك لا يتسم بالمسئولية الأخلاقية؛ فإذا كانت تغطية خبر ما تُمثِّل خطورة كبيرة على موظفيهم، فلماذا يُعرِّضون الصحفيين المستقلين لمثل هذا الخطر الجسيم؟ في المقابل، يُجيب الصحفيون المستقلون على هذا الرأي بأن من حقهم خوض المجازفات التي لن يخوضها الآخرون. ويرفضون العبارة الشائعة، الواردة في الفصل العاشر من هذا الكتاب، والتي قالها الرئيس السابق لقناة سي إن إن إنترناشونال، كريس كرامر، بأنه ما من خبر يستحق التضحية بحياة صحفي.

إن الصحفيين المستقلين اليوم غالبًا ما يكونون صحفيين محليين في مناطق كالعراق وأفغانستان. وبحسب ما يشير إليه أنتوني بوردن في الفصل التاسع من هذا الكتاب، فقد تلقَّى كثير منهم تدريبًا ودعمًا ماليًّا من منظمات غربية غير حكومية، مثل معهد صحافة الحرب والسلام.

إلا أن أولئك الواقفين في طليعة حركة الصحافة المستقلة بقيادة فون سميث يرون أنه لا يزال بإمكانهم القيام بدورٍ حيويٍّ في التغطية الإخبارية الدولية، مستغلين الثورة التي أحدثتها خدمات النطاق العريض التي تجعل من نشر موادهم الإخبارية أمرًا غاية في السهولة. غير أن السؤال الذي ينبغي على سميث وغيره من الصحفيين المستقلين الإجابة عنه هو كيف سيحققون مكاسب مالية كافية في عصر اليوتيوب وصحافة المواطن، حيث يُعتبر أي شخص تقريبًا يحوز كاميرا تصوير أو هاتفًا محمولًا صحفيًّا مستقلًّا محتملًا.

إن لفون سميث تاريخًا طويلًا في إثارة حيرة الخبراء؛ فهو ضابط جيش أبًا عن جد، لكنه ودَّع حياته العسكرية في حرس رماة القنابل ليصير واحدًا من المصورين المستقلين الأكثر احترامًا. وفي حين بدا له العمل المستقل خيارًا غير قابل للتطبيق، خالف سميث جميع التوقعات وأنشأ مطعمًا وناديًا للصحفيين في لندن يضم حاليًّا أكثر من ألف عضو ويقدم أعمالًا وثائقية، ويستضيف مناقشات صحفية كل ليلة تقريبًا. وإذا لم يُفلح كل ما سبق، فإن سميث بإمكانه أن يحمل كاميراته وينطلق إلى مناطق كأفغانستان ليُقدِّم صورًا ممتازة للصراع الدائر بالإضافة إلى تحقيقات وتدوينات ثاقبة.

شكل ٤-١: فون سميث أثناء تصويره لجنود كروات في عام ١٩٩١ (نُشرت الصورة بإذن من فون سميث).

مرجع

International News Safety Institute (2007) Killing the Messenger: Report of the Global Inquiry by the International News Safety Institute into the Protection of Journalists. INSI.

إن جميع المؤسسات التي لا تهبُّ عليها رياح النقد العام العاتية (كما هو الحال في المؤسسات العلمية ومجالس الشيوخ مثلًا) تشهد نموًّا سريعًا لفساد بريء، تمامًا كنمو عيش الغراب. (فريدريك نيتشه، «إنسان مفرط في إنسانيته: كتاب إلى العقول الحرة»)

لقد لاحظتُ مبكرًا في حياتي أن الصحف لا تنقل الأحداث أبدًا على الوجه الصحيح. (جورج أورويل، «نظرة على الحرب الإسبانية»)

لو افترضنا أن الصحف تفيد في إسقاط الطغاة، فإنها لا تُحقِّق ذلك إلَّا لتؤسس طغيانها الخاص. (جيمس فينيمور كوبر، «الديمقراطي الأمريكي»)

إن العمل صحفيًّا لصالح شبكة بث أو دار نشر يعني القبول بالحلول الوسط؛ ففي مقابل الأمن الوظيفي، والمساعدة التي يقدمها الدعم المؤسسي واللوجستي، والوصول إلى الجمهور بسهولة، عليك أن تتنازل عن استقلالك الفردي وتحكُّمك في النشاط التحريري؛ إذ أصبحا حينها محلًّا للتفاوض.

يصبح العمل لصالح «منظومة» بمنزلة استثمار فيها، ولكي ينجح، ينبغي اعتناق نهجها وثقافتها الجماعيين والإسهام فيهما. وهناك فريق يحتاج إلى الدعم، ويضم هذا الفريق بدوره مجموعة من الولاءات والصداقات التي قد تُسهم في رسم معالم المسار المهني الذي سيسلكه الصحفي.

حين يوجَّه الراتب لسداد قرض عقاري، تصبح التبعية المالية قيدًا يُضاف إلى مجموعة القيود التي تحصر الصحفيين بين جدران الرضا بالوضع الراهن، والثقافة المؤسسية، وتجعلهم يتجنبون المجازفات. يحيط بالمهام الصحفية خضم من العوامل التي تبعث على الارتياح، لكنها لا تدعمها بالضرورة.

ينشأ عن تلك المنظومة منتَج يروَّج له باعتباره صحافة «مستقلة»، بصرف النظر عن ارتباطه بأسعار الأسهم، وعبوديته لمعيار «الدقة» الرائج وما يلقى استحسان المشاهدين في مجال الأخبار في الوقت الحاضر. تُوجِّه مثل هذه الصحافة سهام النقد إلى الآخرين وتنسى آفاتها.

لا شك أن المؤسسات الإخبارية تتفاوت في دقتها، لا سيما من بلد إلى آخر، وينجح كثير من الصحفيين بمرور الوقت في بسط سلطتهم وتأثيرهم داخل مؤسساتهم وأن يوجدوا لأنفسهم درجة من الاستقلالية، قد تصل إلى المشاركة في التوجيه التحريري للمنتَج الإخباري لمؤسساتهم. ورغم ذلك، لا يزال هناك عدد كبير جدير بالملاحظة من الصحفيين النابغين الذين يفقدون قدرتهم على التحليل النقدي حين يتناولون مجالهم ومهنتهم. قلائل فقط هم من يحملون همَّ هذه المهنة.

لكن هذا لا يعني أن الصحافة لم تشهد تحسُّنًا خلال القرن الماضي، إذا كانت حقًّا بذلك السوء الذي وصفه جون سوينتون، صحفي نيويورك البارز، أثناء حضوره كضيف شرف في مأدبة يُعتقَد أنها أقيمت عام ١٨٨٠ بحضور القيادات الصحفية، فقد هَمَّ شخص لا يعرف شيئًا عن الصحافة ولا عن سوينتون بالدعوة إلى احتساء نخب الصحافة المستقلة، فما كان من سوينتون إلا أن ردَّ مثيرًا غضب زملائه:

ليس هناك، في تلك المرحلة من تاريخ العالم، في الولايات المتحدة الأمريكية ما يُسمى بالصحافة المستقلة. جميعكم يعرف ذلك كما أعرفه. ما منكم من أحد يجرؤ على البوح بآرائه الحقيقية، وإذا فعلتم، فإنكم تعلمون مسبقًا أنه لن يُكتب لها النشر أبدًا. إنني أتلقَّى راتبًا أسبوعيًّا لقاء كتماني لآرائي الحقيقية وحجبها عن الصحيفة التي أنتمي إليها. يتلقى آخرون منكم رواتب مشابهة مقابل أمور مماثلة، وأي فرد منكم تصل به الحماقة إلى أن يُصرِّح بآرائه الحقيقية، فسوف يجد نفسه هائمًا في الطرقات يبحث عن وظيفة أخرى. وإذا أتحْتُ الفرصة لآرائي الحقيقية للظهور في إحدى طبعات صحيفتي، فلن يمر أربع وعشرون ساعة قبل أن أكون عاطلًا عن العمل.

إن وظيفة الصحفيين هي تدمير الحقيقة، والكذب البواح، والتحريف، والتشهير، والتمسُّح على عتبات الثروة، وبيع أوطانهم وبني جنسهم مقابل قوت يومهم. تعرفون ذلك كما أعرفه؛ فما أحمق هذه الدعوة إلى تناول نخب الصحافة المستقلة! إنما نحن أدوات في أيدي الأثرياء القابعين خلف الكواليس وأتباع لهم؛ إنما نحن دُمًى، يحركون خيوطنا فنتراقص. إن مَلَكاتنا، وإمكانياتنا، وحياتنا تقع جميعًا تحت رحمة غيرنا؛ إننا نمارس العهر الفكري. (مقتبس من كتاب بوير ومورايس ١٩٥٥)

وحديثًا، أدى إخفاق الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في إحراز النصر السريع الموعود في العراق والكشف عن أسلحة الدمار الشامل، التي كانت الذريعة الرئيسية لغزو العراق، إلى انتقاد الكثير من الصحفيين الأمريكيين للصحافة الأمريكية.

من بين التبعات الباقية التي خلفتها أحداث ١١ سبتمبر ما قامت به هذه الإدارة من تسييس للتهديدات الإرهابية داخل الولايات المتحدة الأمريكية مع تهويل الإعلام التابع للسلطة لهذه التهديدات؛ إذ عمد إلى أن يكون بوقًا للنظام لا مصفاة للحقائق، حتى في أعقاب ما قدمته الإدارة من إثبات واضح على وجود مغالطات في الوقائع … لم يزد ذلك المؤسسات الإخبارية إلا إقبالًا على التشدق بالتحذيرات الإرهابية بدلًا من دراستها بجدِّيَّة أو وضعها في سياقها السياسي الملائم. (بوليرت ٢٠٠٦: ٣٠–٣٢)

إن جميع مصادرنا الرئيسية للأخبار والمعلومات تقع فعليًّا تحت سيطرة حفنة من الإقطاعيات المؤسسية المعنية بخدمة مصالحها الخاصة؛ فشركة جنرال إلكتريك تملك حاليًّا شبكة إن بي سي، وشركة ديزني تملك شبكة إيه بي سي، وشركة فياكوم تدير شبكة سي بي إس، أما شركة نيوز كوربوريشن فتمتلك شبكة فوكس، وأخيرًا، شبكة سي إن إن تخضع لملكية شركة تايم وورنر؛ هؤلاء الخمس يُحكمون قبضتهم على الأخبار التليفزيونية … إن هؤلاء العمالقة المتعجرفين لا يتورعون عن التصريح بأن تحقيق أهدافهم الربحية هو علة وجود الآلة الإعلامية … أدلت شركة كلير تشانيل (التي تمتلك ثلث المحطات الإذاعية في الولايات المتحدة الأمريكية) برأيها في هذا الصدد قائلة: «ليست مهمتنا تقديم الأخبار والمعلومات. مهمتنا ببساطة هي بيع منتجات عملائنا.»

يمتزج هذا التركيز الحثيث على العائد المادي بعجرفة مؤسسية عامة ليؤديا في النهاية إلى تضخم في ذوات القيادات الإعلامية … فبحسب تعبير أحد المسئولين التنفيذيين في شبكة فوكس: «إن هذه المحطات التليفزيونية تكلفنا ٣ مليارات دولار … نحن الذين نحدد الأخبار. إن الأخبار هي ما نقدمه لكم.» (هايتاور ٢٠٠٤: ١٥)

أدارت جامعة كولومبيا الأمريكية على مدار تسع سنوات مشروعها الذي يحمل اسم «مشروع التميز الصحفي» على الموقع: www.stateofthenewsmedia.com. وزعمت الجامعة أنه استخدم الأساليب التجريبية لتقييم أداء الصحافة ودراسته.

ذكر القائمون على المشروع أن «الصحفيين لا يشعرون بالرضا إزاء أحوال مهنتهم هذه الأيام»، مضيفين أن «غالبية كبيرة من الصحفيين الأمريكيين أصبحوا على قناعة بأن الضغوط المتعلقة بتحقيق الربح «تُلحق ضررًا بالغًا» بجودة التغطية الإخبارية»، مشيرين إلى أن «المحطات التليفزيونية المملوكة للشركات الإعلامية الأصغر حجمًا تقدِّم في العموم نشرات إخبارية أفضل جودة» (مشروع التميز الصحفي ٢٠٠٤).

طرحت آيمي جودمان، التي وصفتها صحيفة لوس أنجلوس تايمز ﺑ «الصوت الإذاعي الممثل لليسار المحروم» (براكستون ٢٠٠٤)، سؤالها حول التغطية الصحفية الأمريكية لغزو العراق عام ٢٠٠٣ مستنكرةً: «لو كان لدينا إعلام تديره الدولة في الولايات المتحدة الأمريكية، فهل كنا سنجد أي اختلاف؟»

«أضحت الدعاية الإعلامية الواردة من الجهات الحكومية منتشرة في وسائل الإعلام الرئيسية؛ بدءًا من اختيار صحفيين من أجل كتابة مقالات تمجيدية ومرورًا باعتماد مراسلين وهميين، وانتهاءً بعرض تقارير متملِّقة للسلطة يرسلها المراسلون المرافقون للقوات الأمريكية في العراق؛ إذن، أين هو الإعلام المستقل؟» (جودمان وجودمان ٢٠٠٥).

حقًّا، أين هو؟ لقد ولَّت الأيام التي كان يحتاج الفرد فيها إلى العمل لحساب شبكة بث أو دار نشر ليطلق على نفسه صحفيًّا؛ فثمة طريق آخر، لكنه لا يصلُح لأصحاب القلوب الضعيفة؛ فالصحافة المستقلة تتطلب قدرًا كبيرًا من الشجاعة.

غالبًا ما ينتج عن العمل لدى جهةٍ ما قدرٌ أكبر من التقدير المادي والمعنوي؛ فسيكون أمامك مسار مهني واضح، ومن المفترض أن تكون المخاطر أقل، وستجد حولك زملاءَ تتعلم منهم أو تحاكيهم في طريقة عملهم.

أما العمل صحفيًّا مستقلًّا، فيُلزمك بخوض حياتك المهنية منفردًا مبحرًا ضد التيار. وعليك أن تتحلَّى بإيمان لا يتزعزع بذاتك؛ إذ نادرًا ما ستجد أحدًا يشاركك ذلك الإيمان، وفوق كل ذلك، لكي تنجح، ستحتاج عادةً إلى أداء عملك على نحوٍ أفضل من الصحفيين المعيَّنين. ومهما حققت من نجاحات، فسيحاول الآخرون إخفاءها أو انتحالها؛ فهم لا يعتبرونك واحدًا منهم.

لكن المجتمع الذي نحيا فيه لا يتغير إلا على يد أولئك الذين يخوضون المجازفات. ورغم أن مثل هذا التغيير ربما يُعَد دينامية ضرورية، فإن المؤسسات هي التي تعمل على منع ذلك التغيير أو تحجيم آثاره.

إن للصحفيين حرية الاختيار بالعمل في الصحافة المستقلة التي تُعد أرقى الأشكال الصحفية إذا مورست بمهارة ونزاهة دون قيد أو رقابة، وذلك رغم محدودية نطاقها.

(١) ما هي الصحافة المستقلة؟

يسعى الصحفي المستقل إلى كسب قوته من خلال العمل في مجال الإعلام بمعزل عن مؤسساته الرئيسية مع احتفاظه، قدر الإمكان، بحقوق النشر والتحكم في النواحي التحريرية الخاصة بعمله.

تتميز الصحافة المستقلة عن صحافة المواطن بأن ممارسيها اتخذوا من الصحافة مهنة وتقبَّلوا تمامًا جميع ما تُمليه من مسئوليات، لكن دون أن يتقبلوا سلطة شبكات البث ودور النشر وغيرها من المؤسسات العاملة في صناعة الأخبار.

غير أن ثمة صحفيين «مستقلين» لا يمتلكون حقوق النشر الخاصة بأعمالهم أو جزءًا منها؛ ومِن ثَمَّ لا يصدُق على عملهم اسم الصحافة المستقلة. إن مثل هذه الإشكالية تؤدي إلى بعض اللبس فيما يتعلق بمصطلح «المستقل»، الذي ينطبق على كلٍّ من الأفراد الذين يعملون مستقلين عن أي مؤسسة، وعلى أولئك الذين لا يعملون بموجب عقود تكفل لهم حقوقهم.

بالإضافة إلى ما سبق، يُعهَد إلى كثير من الصحفيين المستقلين أداء مهام عَرَضية أو يعملون في ظلِّ عقود لطواقم العمل المستقلة؛ ومِن ثَمَّ قد يفقدون حقوق النشر الخاصة بأعمالهم، كما أنه كثيرًا ما توجد ترتيبات يحدث بموجبها تقاسُم ملكية حقوق النشر بصورة ما.

إن للصحافة المستقلة وجودًا في جميع ميادين المهنة: الكتَّاب أو المدونون، المصورون الفوتوغرافيون، أو المصورون التليفزيونيون. كما أن كثيرًا من الصحفيين المستقلين يجمعون بين بعض هذه المهارات أو جميعها في إنتاجهم الصحفي.

استعانت الصحف، منذ نشأتها، بالصحفيين «غير المتفرغين»، والذين لا يتلقون رواتب منتظمة بل ينالون أجورهم بالقطعة، ويتخصص معظمهم في تغطية الأخبار العاجلة. ويوفر امتلاك عدد من هؤلاء الصحفيين في جميع أنحاء العالم للمؤسسات الإخبارية وسيلة غير مُكلِّفة تكفُل لها قدرًا من التغطية العالمية.

ينطوي مصطلح «غير متفرغ» على قدر من الاحترافية أو القبول، وهو ما لا نجده في مصطلح «مستقل»، وهو الأكثر شيوعًا في الأخبار التليفزيونية.

(٢) وينستون تشرتشل

يتعثر البشر في الحقيقة بين الحين والآخر، لكن أغلبهم ينهضون وينطلقون وكأن شيئًا لم يكن. (وينستون تشرتشل)

لعل الصحفيين المستقلين المعاصرين يعرفون الاتفاقات التعاقدية التي عمل بموجبها وينستون تشرتشل مع صحيفة ذا مورنينج بوست وغيرها من صحف تلك الحقبة، وذلك خلال عمله صحفيًّا قبل انخراطه في السياسة ثم توليه لرئاسة وزراء بريطانيا (١٩٤٠–١٩٤٥، ١٩٥١–١٩٥٥). اضطلع تشرتشل، في إطار تلك الترتيبات، بتغطية حرب البوير في ١٨٩٩ وبأنشطة صحفية مبكرة في كوبا والسودان والإقليم الشمالي الغربي الحدودي الهندي.

لم تختلف هذه الاتفاقات عن الاتفاقات التي أجراها فيما يتعلق بكتبه، إلا أن الفارق أن أعماله الصحفية كانت تخضع للتحرير بخلاف كتبه؛ إذن، فإن الكُتاب المستقلين يشتركون مع الصحفيين المستقلين في كثير من الأمور.

لا شك أن قَبول تشرتشل وضعه كأسير حرب في جنوب أفريقيا لن يُلائم أفكار الصحافة المستقلة المعاصرة. حين أُلقي القبض عليه، كان يحوز مسدسًا، كما جرت عادةُ المراسلين آنذاك، كما كان من أشد المدافعين عن القضية البريطانية.

(٣) وكالة ماجنم فوتوز

لا يكفي أن تمتلك الموهبة، بل لا بد أيضًا أن تكون مَجريًّا. (روبرت كابا)

تَدين الصحافة المستقلة اليوم بالفضل الأكبر في وجودها لوكالة ماجنم فوتوز التي أسسها كلٌّ من روبرت كابا، وهنري كارتييه-بريسون، وجورج رودجر وديفيد «تشيم» سيمور عام ١٩٤٧؛ أي بعد عامين من انقضاء الحرب العالمية الثانية، وكانوا جميعًا من روَّاد الصحافة المصوَّرة آنذاك.

أما روبرت كابا، قائد الوكالة النشيط وأشهر المراسلين الحربيين، فلقي حتفه إثر وطئه لِلَغمٍ أرضي في فيتنام في ٢٥ مايو ١٩٥٤.

كتب كورنيل كابا، شقيق روبرت كابا، عنه قائلًا:

لقد عاش كثيرًا وأحب كثيرًا. وُلد بلا مال ومات على نفس الحال … إن حياته تشهد بتغلُّبه على المصاعب، ونجاحه في مواجهة التحديات، وفوزه بكل الرهانات، اللهم إلا في نهايتها. لقد وُلد دون أن يملك أسباب السفر ومتحدثًا بلغة لا تفيد إلا داخل حدود دولة صغيرة، وهي المجر، لكنه تمكَّن من أن يكتشف العالم من خلال وسيلة تواصل عالمية: التصوير الفوتوغرافي؛ ولذا كان قادرًا على التحدث إلينا جميعًا، في الماضي والحاضر. (ويلن وكابا ١٩٨٥)

اعتاد كابا أن يطلق على نفسه صحفيًّا لا مصورًا فوتوغرافيًّا، حتى بعد أن عُدَّ واحدًا من أبرز المصورين الفوتوغرافيين في القرن العشرين؛ وكأنه كان رافضًا لتعلُّم أو استخدام أي تقنيات خاصة بالتصوير الفوتوغرافي تزيد عما تتطلبه مهمة نقل الأخبار؛ فهو لم يُتقن قَطُّ استعمال فلاش الكاميرات تمام الإتقان، وكثيرًا ما كان يتصرف بإهمال شديد في غرفة التحميض.

تساءل بعض محرريه عما إذا كان يدمج عمدًا شيئًا ما في كاميرته لإضافة خدوش إلى أفلامه. لقد بدا الأمر وكأنه كان يرى، بطريقة ما، أن من المشين المبالغة في تجميل صورة تعكس المعاناة البشرية.

تأثَّر روبرت كابا وصديقه هنري كارتييه-بريسون خلال وجودهما في باريس أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي بأندريه كيرتس، الذي كان من أعظم روَّاد التصوير الفوتوغرافي بعدسة ٣٥مم. تعاون الصديقان مع ثالثهما، ديفيد «تشيم» سيمور، في استحداث أسلوب جديد في التصوير الفوتوغرافي يهدف إلى التقاط ما سمَّاه كارتييه-بريسون «اللحظة الحاسمة»، وهو الأسلوب الذي ارتبط لاحقًا بوكالة ماجنم فوتوز.

لقد أُسِّست وكالة ماجنم فوتوز انطلاقًا من رغبة الثلاثة في العمل خارج إطار النماذج السائدة آنذاك في صحافة المجلات، واستطاعت أن تتحرَّر من الممارسات التقليدية بدعمها للمصورين الصحفيين التابعين لها بدلًا من توجيههم. كما نصَّت قواعد الوكالة على أن حقوق النشر مملوكة لأصحاب الصور الفوتوغرافية لا المجلات التي تتولَّى نشرها.

كان ذلك يعني أن مصوري الوكالة يستطيعون تغطية الأخبار التي يختارونها، دون تكليف، وأن الوكالة تتولَّى بيع أعمالهم لحسابهم إلى المجلات في جميع أنحاء العالم مقابل عمولة. وبموجب هذه القواعد، أمكن لمصوري الوكالة التخلص من إملاءات إصدار واحد وما تفرضه هيئة تحريره، والعمل لفترات طويلة على تغطية ما يختارون من أخبار.

تبنَّت وكالة ماجنم فوتوز التصوير بعدسات ٣٥مم وأنشأت الصحافة المصوَّرة؛ وهو ما ألهم أجيالًا من المصورين الفوتوغرافيين والصحفيين وجعلهم يُقدرون قيمة أعمالهم الخاصة. ولا يزال بالإمكان ملاحظة آثار هذا الإنجاز الفائق في سعة الحيلة التي لا يزال يتمتع بها أفضل المصورين الصحفيين اليوم، والتي تتسم بالاستقلالية، بل والانعزالية.

وكما صدح بها كارتييه-بريسون في إحدى مذكراته إلى الصحفيين الآخرين: «تحيا الثورة الدائمة» (ماجنم فوتوز ٢٠٠٧).

(٤) الصحافة المصوَّرة اليوم

منذ عام ١٩٩٧، شرع عملاقَا الصور الفوتوغرافية، جيتي وكوربس، في الاستحواذ على أغلب وكالات الصحافة المصوَّرة المستقلة. ولا شك أن أهم ما تبقَّى من تلك الوكالات المستقلة، والتي يمتلكها بالفعل المصورون الفوتوغرافيون أنفسهم، هما وكالة ماجنم فوتوز ووكالة السبعة للصحافة المصوَّرة، الأحدث عهدًا بكثير.

رغم التغيرات الهيكلية الكبيرة التي شهدتها الصحافة المصوَّرة، فلا تزال تحظى بمتابعة جماهيرية واسعة؛ فالتصوير الفوتوغرافي هواية لها شعبية كبيرة بحيث يجد أفرادها أنفسهم مدفوعين إلى ممارستها في أحلك الظروف.

لا يزال المصور الفوتوغرافي يتعرض لضغوط، فسوف يتزايد تفضيل الصحف لأولى الصور التي تصل إليها أو أقلها سعرًا لا أفضلها جودة. غير أن الصحافة المصوَّرة تظل أفضل وسيلة إعلامية بالنسبة إلى الصحفي المستقل؛ إذ تحفظ له أكبر قدر من التحكم في المسائل التحريرية، إلى جانب «الإعلام الجديد» الذي لم تُثبَّت أركانه بعدُ.

تظل الحقيقة الثابتة هي أن الصورة الفوتوغرافية الإخبارية يجب أن تُستخدَم كما التقطها مصورها. ورغم أنه يمكن من الناحية الفنية التلاعب في الصور وتعديلها، فإن هذه الممارسة غير شائعة وما زالت تلقى استهجانًا شديدًا. وقد يعمد محررو الصور إلى اقتصاص أجزاء من الصور غير أن هذا نادرًا ما يؤدي إلى تغيير رسائلها الصحفية.

خلافًا للتصوير الفوتوغرافي، عادةً ما تخضع أعمال الكُتَّاب للتحرير على يد محررين مساعدين، ومن المعتاد أن يعمل مصورو الفيديو في طواقم. كما أن النصوص التي يكتبها الصحفيون التليفزيونيون لا بد أن تلقى موافقة الإدارة أولًا، وتخضع أخبارهم كذلك لمزيد من التحرير لتلائم الجداول الزمنية للبث والسياسات التحريرية.

أما الصحافة المصوَّرة، فإن تحرُّرها يدعو إلى الدهشة.

(٥) وكالة فرونتلاين الإخبارية التليفزيونية

جمعت مجموعة صغيرة من الأفراد المغامرين يقودها جوين روبرتس كاميرات من طراز سوني فيديو ٨مم وحاولوا العمل خارج آلة الأخبار التليفزيونية بين منتصف ثمانينيات القرن الماضي وأواخره، وقد ركزوا اهتمامهم على تغطية الأخبار الأجنبية التي كان من العسير الوصول إليها، كالتي تقع في أفغانستان أو السودان.

تُعَد وكالة فرونتلاين الإخبارية التليفزيونية في لندن أول وكالة أُسِّست لمساندة صحافة الفيديو المستقلة والتي نشأت عن توفر مثل هذه الكاميرات، لا سيما كاميرات هاي ٨ الأعلى جودة.

تأسَّست هذه الوكالة على يد كلٍّ من بيتر جوفينيل، وروري بيك، ونيك ديلَّا كاسا، وكاتب هذا الفصل، وذلك خلال تغطيتنا للثورة الرومانية خلال موسم أعياد الميلاد عام ١٩٨٩. لقد أورد مراسل بي بي سي، ديفيد ليون، قصة هذه الوكالة في كتابه الذي يحمل عنوان: «فرونتلاين: القصة الحقيقية للمتمردين البريطانيين الذين غيَّروا معالم الصحافة الحربية» (٢٠٠٦).

برزت وكالات أخرى أصغر حجمًا ولا تزال باقية إلى يومنا هذا، وأكثرها تأثيرًا وكالة إنسايت الإخبارية التليفزيونية التي أنشأها المنتج التنفيذي رون ماكولاج. لقد عملنا معًا لبناء كيان موازٍ مستقل يمثل إضافة جديدة للأخبار التليفزيونية.

تعمدت فرونتلاين استلهام نموذج ماجنم فوتوز، غير أن مؤسسي ماجنم أمضوا سنوات في العمل بمجالَي الصحافة والتصوير الفوتوغرافي قبل إنشاء وكالتهم، أما نحن في فرونتلاين، فلم نكن نتمتع بمثل هذه الخبرة.

كانت الأعمال المستقلة التي أنجزتها فرونتلاين في بادئ مسيرتها تهدف إلى الدخول السريع والمجزي إلى عالم الأخبار التليفزيونية مدعومًا بشكل من أشكال الخبرة العسكرية.

كانت الأخبار التليفزيونية آنذاك تعتمد على استخدام كاميرات بيتاكام ضخمة، وهي التي كانت تتكون إلى عهد قريب من جزأين وتحتاج إلى مصورَين ومهندس صوت. كما قد يضم طاقم الأخبار منتجًا ومراسلًا، وغالبًا ما كان يصحبهم أيضًا محرر فيديو.

كان المصورون لا يزالون يتوقعون أن عليهم إتمام فترات تدريبهم المهني ونَيل فترات راحة طويلة لتناول الغداء. غير أن كل هذا كان على وشك التغير؛ إذ شهد المشهد ظهور عدد كبير من المصورين الأستراليين بمجموعة أكبر من المهارات ومنظومة مختلفة تمامًا للأخلاق المهنية.

رأينا، في فرونتلاين، أننا إذا نجحنا في التقاط مقاطع فيديو مثيرة للاهتمام، فسوف نتمكن من بيعها لأي شبكة بث بريطانية بما يعادل ٧٥٠ جنيهًا إسترلينيًّا للدقيقة الواحدة أو ما يقارب ذلك. ثم يمكن أن نحدد بعد ذلك سعرًا أعلى مقابل بيعها لشبكات البث الأخرى حول العالم.

رأينا أننا إذا تمكَّنَّا من تصوير خبر كامل وحررنا مقطعنا تحريرًا ملائمًا، فسوف يتسنَّى لنا بيع المزيد من الدقائق لأحد البرامج الإخبارية الكثيرة المنتشرة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، والمتعطشة للحصول على مادة إخبارية جيدة.

كان المصورون في بداية الأمر، وقبل تعيين باقي طواقم العمل، يتنقلون بين المناطق الخطرة حول العالم، ثم يرسلون إلينا شرائط الفيديو لأحاول أنا بيع المقاطع لشبكات البث.

بالنسبة إلى صحفي فيديو مستقل يتسم بالجرأة والذكاء، كان من الممكن تحقيق مكاسب مادية تضاهي تلك التي يحققها أي مراسل تليفزيوني ناجح، لكن بالطبع دون عناء العمل الشاق الذي يسبق تلك المكاسب. لقد كان عملنا مثيرًا، لكنه خطير.

كنا جميعًا في العقد الثالث من عمرنا، واعتقدنا أن بإمكاننا أن نجني كثيرًا من المال لننفقه سريعًا ونعيش حياة جامحة غريبة. كنا ننعم بالاستقلالية، ولا نخضع لأي قيد، نتنقل وننقل الأخبار كيفما شئنا، ونختار قواعدنا الخاصة. كان العمل متعة حقيقية؛ فحين ارتحلنا إلى أفغانستان، كنا نسعى وراء الإثارة، أما في البلقان، فقد انغمسنا في الحرب وحقيقتها.

إن محاولة استيعاب حجم المعاناة الإنسانية الناجمة عن الحرب من شأنها أن تُثقل القلب وتُبصِّره بحقيقة الحياة، تلك المعاناة التي تبخسها الإحصائيات قدرها؛ إذ تقصر هذه الإحصائيات عن نقل ولو نزرًا يسيرًا من كم الأرواح التي أُزهقت، والأطراف التي قُطعت، والمنازل التي هُدمت، والآمال التي فُقدت. كانت المعاناة تحيط بعدساتنا من كل ناحية، ولم نصبح صحفيين إلا بعد أن تعلَّمنا كيفية نقلها.

بدأنا ندرك القسوة المُتبلِّدة التي يُبديها المشاهدون غير المُبالين بما يجري لغيرهم، الذين لا يفصلهم عن الحرب سوى الجغرافيا، أو الزمن، أو ربما شجاعة أجدادهم. لقد شعرنا أنه من الواجب علينا أن يكون لنا دور؛ أن ننغمس في عملنا بالوجود في مواقع الأحداث، آملين أن تُحدِث مقاطعنا أي تأثير.

نجحنا في اكتساب الاحترافية الصحفية، وعملنا على تحسين مهاراتنا وتنمية حس بارع بنوعية الأخبار التي قد تسعى «الآلة الإخبارية» إلى شرائها منا. لم نقتصر على تغطية الصراعات، بل تَركَّز أغلب عملنا، في الواقع، على تصوير القصص الإخبارية ذات الطابع الإنساني التي تجري فصولها في المناطق النائية من العالم حيث لا توجد شبكات البث كثيرًا، أو تلك القصص الخفية التي يصعب إيجادها، من أمثال «تجار صينيين على متن القطار السريع العابر لسيبيريا» أو «جدَّات يبعن المخدرات في موسكو».

كنا ننغمس في أيِّ قصة إخبارية ننقلها، مُمضين في كثير من الأحيان أسابيع مع أبطالها، في حين أنه نادرًا ما كانت تُمنَح الطواقم الإخبارية التقليدية أكثر من بضعة أيام لتغطية الخبر الواحد، مما يضطرها إلى اتباع أسلوب تطفلي في استقاء الأخبار.

عند تغطية الصراعات، كنا كثيرًا ما نختار تلك الأخبار التي تسير عكس التيار، مثل «وقائع فساد الأمم المتحدة في سراييفو»، والتي كان يتجنبها بقية الصحفيين خشية أن تؤثر سلبًا على سهولة وصولهم إلى الأخبار في المستقبل. فمثلًا، في أثناء حرب الخليج عام ١٩٩١، حين وُضعت قيود شديدة على وجود شبكات البث والصحف في العراق، تنكرتُ في زي ضابط بريطاني للحصول على مقاطع مصوَّرة للصراع.

figure
شكل ٤-٢: نُشرت الصورة ولقطة الفيديو الثابتة بإذن من فون سميث.

حين صار بيع الأخبار أشد صعوبة، اتجه كلٌّ منا إلى الاضطلاع بمهام إضافية داخل طاقم العمل لتغطية نفقاتنا ومواصلة وجودنا في أماكن تصوير أعمالنا لأطول فترة ممكنة. مثلًا، ساهم بيتر جوفينيل، أحد أعضاء وكالتنا والخبير بالشئون الأفغانية، في ترتيب مقابلة مع أسامة بن لادن وتولَّى تصويرها لحساب شبكة سي بي إس.

حين توقفت وكالة فرونتلاين الإخبارية التليفزيونية عن تنفيذ مهام جديدة بحلول عام ٢٠٠٣، كان ثمانية صحفيين مستقلين، ممن عملوا في الوكالة، قد لقوا حتفهم. وكان اثنان منهم، وهما نيك ديلا كاسا وروري بيك، من بين مؤسسي الوكالة، بالإضافة إلى بيتر جوفينيل وكاتب هذا الفصل.

أما باقي الثمانية فهم روزانا ديلا كاسا، وتشارلي ماكسويل، وكارلوس مافروليون، ورودي سكوت، وجيمس ميلر، وريتشارد وايلد. وقد قضوا نحبهم جميعًا خلال تأدية عملهم.

تُوفي كلٌّ من نيك ديلا كاسا، وروزانا ديلا كاسا، وتشارلي ماكسويل عام ١٩٩١ في شمال العراق حيث يسيطر الأكراد، بينما تُوفي روري بيك في موسكو عام ١٩٩٣، وكارلوس مافروليون في باكستان عام ١٩٩٨، ورودي سكوت في إنجوشيا عام ٢٠٠٢، وجيمس ميلر في غزة عام ٢٠٠٣، وريتشارد وايلد في العراق عام ٢٠٠٣.

رغم أن الخسائر الفادحة التي تكبدناها في الصحفيين قد لا تشي بذلك، فإننا كنا من أوائل المعنيين بتنمية الممارسة الآمنة في صناعة الأخبار. وعملنا كمستشارين لأول دورة تدريبية عن السلامة في صناعة الأخبار عام ١٩٩٣، وبدأنا نُروِّج فيما بيننا لمنهج منضبط في خوض المخاطر التي لا تقابلها فائدة محتملة.

غير أننا واصلنا مقاومتنا للفكر التقليدي الذي قامت عليه سياسة السلامة الناشئة، وهو ما قدَّم أرواحنا على معاناة غيرنا.

عقب وفاة بيك، قررت زوجته جولييت بيك بمساعدة صديقه المصور الصحفي، جون جنستون، إنشاء مؤسسة خيرية تحمِل اسمه؛ وهو ما تحقَّق عام ١٩٩٥ بدعمٍ من وكالة فرونتلاين وغيرها الكثيرين.

سعت المؤسسة إلى تدشين جائزة لمن يُبدي شجاعة كبيرة في عمله في مجال صحافة الفيديو المستقلة، وإنشاء صندوق لمساندة أسر المصورين المستقلين الذين قُتِلوا خلال أداء عملهم. لم يكن العاملون في صحافة الفيديو المستقلة في أوائل التسعينيات يتلقون أي جوائز عن أعمالهم إلا فيما ندر جدًّا؛ وذلك لأنهم لا يعملون لحساب شبكات البث.

شهد منتصف التسعينيات تغيرات ضخمة في مجال البث؛ إذ أُنشئت مئات من القنوات التليفزيونية الخاصة الجديدة لتُنافس شبكات البث القديمة، والتي كان معظمها حكوميًّا. تقلصت الميزانيات مع اشتداد المنافسة، وتوقفت برامج المجلات، وأطلقت أسوشيتد برس ذراعها التليفزيونية تحت اسم وكالة أسوشيتد برس للأخبار التليفزيونية، وعمدت هي ورويترز إلى التوسع في إنتاجهما الإخباري الذي تبيعه لشبكات البث، مع إجراء تحسينات بارزة في نوعيته.

وانتشر استعمال الكاميرات التي تستخدم أشرطة صغيرة بحلول عام ١٩٩٧، خاصة من قِبل صُنَّاع الأفلام الوثائقية. كما ظهرت صيغة رقمية جديدة تُسمى دي في، والتي ساعدت في التقاط صور بجودة أفضل كثيرًا من كاميرات هاي ٨.

ومع انخفاض أسعار المواد الإخبارية، أبدت شبكات البث حرصًا متزايدًا على الترويج لأسمائها التجارية من خلال تزويد مراسليها بكاميرات بدلًا من شراء الأخبار من الصحفيين المستقلين. ورغم كل التوسع الذي حققته شبكات البث في إنتاجها الإخباري، كان هذا الإنتاج يتبنى نفس الأجندة الإخبارية؛ ومِن ثَمَّ لم يَعُد هناك مجال لتحقيق التميز فيه.

لم يُفلح صحفيو الفيديو المستقلون قَطُّ في أن يضمنوا نسبة مقاطعهم إليهم عند عرض شبكات البث لها، وتَبيَّن أن ذلك كان أحد أوجُه قصورنا في وكالة فرونتلاين الإخبارية التليفزيونية؛ فقد كانت المواد الإخبارية التي نبيعها لصالح صحفيي الفيديو المستقلين تحمِل صوت مراسلي شبكات البث؛ ومِن ثَمَّ كانت تقدَّم باعتبارها من إعدادهم، سواءٌ أكان هؤلاء المراسلون موجودين في موقع الحدث أم لا.

كان هذا هو النظام المعمول به فيما يتعلق بالمحتوى الإخباري الخاص برويترز ووكالة أسوشيتد برس للأخبار التليفزيونية، وهو نظام كان من شأنه أن يخفي المصدر الحقيقي للمحتوى الإخباري التليفزيوني الضخم الذي اشترته شبكات البث. ولم يكن من الممكن المحافظة على مستوًى معقول من الأسعار مقابل عملنا في مجال يجهل مقدار إسهاماتنا.

ومع تراجع عدد الصحفيين المستقلين الأوروبيين والأمريكيين الذين نجحوا في دفع مؤسسات الصحافة التليفزيونية إلى دعم أعمالهم، اتجهت مؤسسة روري بيك، بعد إخفاقها في توعية المجال بدور الوكالات المستقلة، إلى إتاحة جوائزها أمام نطاق أوسع من صحفيي الفيديو المستقلين، وقررت الاعتماد في بقائها على ما تُقدِّمه صناعة البث من تبرعات.

توقفت وكالة فرونتلاين الإخبارية التليفزيونية عام ٢٠٠٣ عن الحصول على مهام إخبارية جديدة، لكن العام نفسه شهد ميلاد نادي فرونتلاين.١

(٦) التكنولوجيا

إن كل ما أحرزته الصحافة المستقلة الحرة من تقدمٍ ملموس، على حد علمي، كان مدفوعًا بالتطورات التكنولوجية في مجال المعدَّات التي يمكن استخدامها في الحصول على الأخبار.

فمن العوامل التي مكَّنت من تأسيس وكالة ماجنم فوتوز استحداث كاميرات التصوير الفوتوغرافي المحمولة ذات العدسات ٣٥مم، وذلك قُبيل الحرب العالمية الثانية.

شهدت صحافة الفيديو المستقلة ازدهارًا في حقبة التسعينيات حين اتجه الصحفيون المستقلون إلى استخدام الكاميرات المعتمدة على أشرطة صغيرة، والتي كانت تُباع في الشوارع الرئيسية، كأدوات للحصول على الأخبار؛ إذ كانت الصور الملتقَطة بعدسة كاميرا هاي ٨، التي صنعتها سوني في البداية لتُباع في السوق الاستهلاكية، تقل في جودتها كثيرًا عن نظيراتها الملتقَطة بعدسة كاميرا بيتاكام الأكبر حجمًا والمستعملة آنذاك، غير أن كاميرا هاي ٨ كانت أفضل بما يكفي إذا قورنت بكاميرا فيديو ٨ القياسية؛ مما يعني إمكانية بيع الصور إذا كان المحتوى جاذبًا للاهتمام.

كما أن تكنولوجيا الإنترنت والكمبيوتر، رغم أنها ليست معنية بتصوير الأخبار، تُقدِّم الآن منصةً للأفراد تمكِّنهم من نشر الأخبار دون اللجوء نهائيًّا إلى المؤسسات الإخبارية التقليدية. غير أن هذه التكنولوجيا تمنح الجميع الفرصة ذاتها، سواءٌ أكانوا صحفيين محترفين أم لا.

ورغم أن الإنترنت، والاتصالات عن طريق الهواتف المحمولة، و«الإعلام الجديد» لم تُقدِّم بعدُ عائدًا ماديًّا مجزيًا يُمكِّن الصحفيين المستقلين من إعالة أسرهم وسداد قروضهم العقارية في مدينةٍ كلندن، فإنه من الواضح أنها قادرة على تحقيق ذلك بمرور الوقت.

تمكَّنتُ خلال رحلتي الأخيرة إلى جنوب أفغانستان في سبتمبر ٢٠٠٧ من تحقيق مكاسب مالية تكفي احتياجاتي الأساسية، وذلك من خلال الدمج بين استخدام الوسائل التكنولوجية السابقة وبيع بعض المواد الإخبارية. كانت هذه المرة الأولى في حياتي الصحفية التي تمكنت فيها من نشر الأخبار بنفسي خلال وجودي وسط السهول الأفغانية، ويكون لي التحكم الكامل في الجوانب التحريرية لتغطيتي (إلا فيما يخص اعتبارات «أمن العمليات» التي يحددها مرافقي وحارسي العسكري).

لقد نجحت في الاستفادة المادية من رحلتي بعد عودتي منها من خلال بيع بعض أفلامي لجهات مثل برنامج الأخبار والأحداث الجارية الرئيسي في قناة بي بي سي، «نيوزنايت». كما كتبت مدونة مرئية على موقع fromthefrontline.co.uk، ونشرت الفيديوهات على موقع اليوتيوب. بالإضافة إلى ذلك، استعنت بإحدى شبكات التواصل الاجتماعي، تويتر، لربط متابعي أعمالي المتزايدين بي وتعريفهم بأنشطتي. لم أُعِدَّ الموقع بحيث أجني منه أي عائد مادي، لكنني بدأت أبني قاعدتي الجماهيرية.

(٧) الصحافة المستقلة اليوم

تتعرض الخدمات الإخبارية التي تعرضها شبكات البث لضربات من جميع الجهات؛ فمالِكو هذه الشبكات، من ناحية، لا يُفوتون فرصة لاعتصارها لمضاعفة أرباحهم عن طريق التقتير في نفقات التغطية، والدفع باتجاه تغطية «الأخبار الصفراء»، والاستخفاف ببقية الأخبار. وتشهد نسب المشاهدة تراجعًا … من الجلي أن المستقبل لشبكات البث المحدود، كشبكة فوكس بتيارها اليميني وجون ستيوارت بأخباره التي تحمِل شعار «الأكاذيب أصدق من الحقائق». (أولترمان ٢٠٠٤: ١٢)

يحقق البث المحدود التوازن المطلوب في صناعة الأخبار ويكفل فُرصًا متساوية للجميع. فمن المتوقع أن يقوى دور الصحافة المستقلة كجزء حيوي وضروري من المجتمع الصحفي الاحترافي، ويثبت قدرتها على تتميم دور الإعلام التقليدي وتقاسُم فضاء «الإعلام الجديد» معه؛ فلا مجال لإعادة الزمن إلى الوراء.

اتسعت حدود صناعة الأخبار، في الوقت نفسه، لتتجاوز نطاق أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية؛ فالحروب المندلعة في العراق وأفغانستان دفعت بالمهارات الإعلامية إلى منطقة الشرق الأوسط، وبدأت المنظمات الإعلامية غير الحكومية تعمل على تقديم التمويل اللازم لتنمية هذه المهارات على نطاق دولي.

سيأتي الصحفيون المستقلون في المستقبل من جميع الدول بلا استثناء. وسيبقى الهواة أكثر عددًا من المحترفين، غير أنه من المؤكد أن الصحفيين المستقلين سيبذلون جهودًا لا تقل عن جهود أيِّ مؤسسة أو كيان لضمان ورعاية جميع الحريات التي ينعم بها أبناؤنا وأحفادنا، أيًّا كانت.

غير أن ثمة حتمية ملحة لتعزيز ممارسة النزاهة والإنصاف المهنيين خلال التغطيات الإخبارية على أوسع نطاق ممكن، وحماية جميع أشكال الصحافة الرشيدة من الهجوم بسبب التخبط والثرثرة العبثية اللذين قد ينتشران في الفضاء التدويني.

أسئلة يُجِيب عنها الطالب

(١) إذا أبدى الصحفيون المستقلون استعدادًا للمخاطرة بتغطية الأخبار التي تمتنع المؤسسات الإخبارية عن إرسال صحفييها المتفرغين لتغطيتها نظرًا لخطورتها الشديدة، فهل يجب تشجيعهم على خوض تلك المخاطرة؟

(٢) ما إيجابيات العمل الصحفي المستقل وسلبياته؟

(٣) هل من المبرَّر أخلاقيًّا رفض تقديم الدعم المادي لصحفي مستقل قبل خوضه تغطية إخبارية شديدة الخطورة، مع تقديم وعد له بالنظر في إمكانية شراء مواد الفيديو التي سيجلبها في حال كانت جديرة بالنشر؟

(٤) يزعم فون سميث أن الصحفيين المستقلين يمكنهم خوض التغطيات الإخبارية التي يُعرِض عنها الصحفيون المتفرغون؛ وذلك لأن الصحفيين المتفرغين ينبغي عليهم أن يفرضوا رقابة ذاتية على أنفسهم لحماية المصالح التجارية أو المؤسسية لمالكي كياناتهم الإعلامية. فهل فون محقٌّ في زعمه؟

هوامش

(١) نادي فرونتلاين (www.frontlineclub.com) معني بأولئك الذين فقدوا أرواحهم خلال تغطية الصراعات حول العالم، ويدعم حرية التعبير للصحفيين في كل مكان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤