الفصل السادس

الدبلوماسية والصحافة

بريدجت كيندال

تمهيد
جون أوين

هل الصحفيون «يمنحون فرصة للسلام»، لو جاز لنا استعارة كلمات أغنية جون لينون المناهضة للحرب؟ أيركز الاتجاه السائد في العمل الصحفي بشدة على الحروب والصراعات بحيث إنه لا يبذل سوى القليل من موارده لتغطية أخبار المدافعين عن الحلول السلمية؟ تلك هي وجهة النظر المُعتبرة التي تعتنقها إحدى مدارس الفكر الصحفي والتي يناصرها جيك لينتش، الصحفي والأكاديمي البريطاني. قدم لينتش في كتابه «التغطية الإخبارية للعالم» منهجًا يدعو إلى تعيين «مراسلي سلام» يتمتعون داخل مؤسساتهم الإخبارية بنفس المكانة التي يحظى بها «المراسلون الحربيون» المرموقون والذين تُقدَّم لهم الجوائز عادةً. يعمل لينتش حاليًّا مدربًا لصحافة السلام بكلية دراسات السلام والنزاع بجامعة سيدني، ويتولَّى خلال عمله البحث في نماذج أدَّى فيها الإعلام إلى تأجيج الصراعات.

غير أن كثيرًا ممن يؤيدون وجهة نظر لينتش النقدية المدعومة بحجج مقنعة ودراسات حالة متعددة، يرفضون ما يسميه «صحافة السلام»؛ ففكرته القائلة بأن الصحفيين ينبغي أن يحملوا على عاتقهم، بنحو أو بآخر، مسئولية المبادرة نحو إيجاد حلول لأزمات العالم تنطوي على أوجه تشابُه مع فكرة «الصحافة المدنية» التي لاقت رواجًا لفترة قصيرة في الولايات المتحدة الأمريكية.

بدلًا من تعيين «مراسلي سلام»، تحتاج الصحافة إلى المزيد من التغطية الصحفية الدبلوماسية الماهرة التي تدرس الجهود التي تبذلها الحكومات لتجنُّب الحروب؛ وذلك في مسعاها لإيجاد حلول سلمية. لاحظ أني قلت «الحكومات»؛ لأنه كثيرًا ما ترتبط الصحافة الدبلوماسية بترويج الصحفي لآراء حكومته دون مساعدة المشاهدين والقراء على أن يفهموا كيف ترى الدول الأخرى خلافًا أو صراعًا محتملًا من منظورهم الخاص. إن الصحفيين الذين يتولون تغطية أنشطة وزارات خارجيتهم وسفاراتهم كثيرًا ما تُقدَّم لهم المعلومات أو يُحرَمون منها حسب ما يُبدونه من وداعة خلال تغطيتهم الصحفية. كما أن ثمة افتراضًا بأنهم سيحترمون القواعد المرسومة لهم أثناء تغطياتهم الصحفية لعمل تلك الجهات وأنشطتها. فحينما كان هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي للرئيس نيكسون ومتحكمًا في ويليام روجيرز، الذي كان وزير الخارجية آنذاك، كان يصر على أن يُشارَ إليه في الإحاطات والتسريبات الموجهة إلى الصحفيين باعتباره «مستشارًا رفيعًا في البيت الأبيض»، ولم يُحرَم سوى جموع الشعب من الاطلاع على هذا السر المعروف لعالم الصحافة. وشهدنا مؤخرًا الحيلة ذاتها خلال تولي توني بلير للحكومة في بريطانيا العظمى؛ فقد صمَّم ألاستير كامبيل، المستشار الإعلامي ذو النفوذ لتوني بلير، على ألا يُصرَّح باسمه، وإنما يُعرَّف بأنه «مستشار رفيع في داونينج ستريت»، وذلك خلال عملية التضليل البارعة للصحفيين الذين كانوا ينقلون أخبار السياسة البريطانية وحكومة بلير.

شهدنا في العقود الأخيرة تراجعًا في «الدبلوماسية المكوكية» التي ميَّزت حقبة كيسنجر وانتشارًا فيما صار يُعرف باسم «تأثير سي إن إن». وهو ما يعني استضافة الشبكة لزعماء الدول التي تُعتبر غير صديقة للولايات المتحدة أو معادية لها، وذلك عوضًا عن مشاركة هؤلاء الزعماء في أيِّ مفاوضات هادفة مع الدبلوماسيين أو المبعوثين أو الموفدين الأمريكيين رفيعي المستوى.

ثم أصبحت الجزيرة شبكة البث الإخباري الأولى في العالم العربي، وسرعان ما حلَّت قناتها الفضائية محل سي إن إن في استضافة الزعماء الراغبين في توجيه رسالةٍ ما إلى القادة العرب أو ما يُطلق عليه «الشارع العربي».

واليوم، ونحن نعيش في عالمٍ لحظيٍّ تسُوده اتصالات الإنترنت ووصلات الشبكات التليفزيونية الفضائية ذات الطابع العالمي، يُشكِّك البعض في قيمة الدبلوماسية التقليدية. يرى جون سنو، وهو واحد من أبرز الصحفيين البريطانيين والمقدم الرئيسي للبرنامج الإخباري المؤثر الذي يُعرض مساءً على شاشة القناة الرابعة البريطانية، أن هناك «تحولًا هائلًا في النظام العالمي كله» نتيجة للآثار الاستقطابية الناجمة عن الحرب التي تقودها أمريكا ضد الإرهاب والحروب الدائرة في العراق وأفغانستان. وزعم سنو أنه عندما وقع نزاع بين إيران وبريطانيا أسفر عن احتجاز ١٥ بحارًا بريطانيًّا، لم يتحرر البحارة إلَّا بفضل المقابلة التي أجراها في برنامجه «أخبار القناة الرابعة» مع أحد كبار المسئولين الإيرانيين. جاء تعليق سنو هذا خلال مناظرة في نيويورك نظمها نادي فرونتلاين الذي مقره الرئيسي في لندن. كان من بين المشاركين في هذه المناظرة روجر كوهين، مراسل ذا نيويورك تايمز، الذي رفض الفكرة القائلة بأن الصحفيين يجب أن يعتبروا أنفسهم دبلوماسيي المستقبل.١

من القضايا ذات الأهمية المحورية في هذا الصدد تلك المتعلقة بما إذا كان على الصحفيين نقل آراء ألدِّ أعداء «بلدانهم»، بما فيهم مَن يُمارسون الإرهاب وينتمون إلى جماعات توصف بالإرهابية. تعرضت بي بي سي ومراسلها ديفيد لوين لموجة استنكار من بعض الصحفيين وكثير من المشاهدين في بريطانيا لبث آراء جماعة طالبان، وذلك كجزء من التقرير الإخباري الذي قدَّمه ليون من أحد معاقلهم في جنوب أفغانستان. خاض لوين مخاطر جمة في سبيل الوصول إلى طالبان في الوقت الذي كان يتعرَّض فيه الجنود البريطانيون لهجمات متزايدة. أثير جدل مشابه بصدد برنامج وثائقي بريطاني كان يسعى إلى تقصِّي آراء مسلمين بريطانيين كان لهم صلة بتفجيرات لندن التي وقعت في يوليو ٢٠٠٥.

بالرغم من جميع الشكوك التي تحيط بالدبلوماسية التقليدية وأهمية تغطيتها بانتظام، فلا تزال الصحف وشبكات البث الأكثر احترامًا تعتبر الصحافة الدبلوماسية جزءًا جوهريًّا من عملياتها الإخبارية. بالحديث عن بي بي سي، ظلت بريدجت كيندال أهم مراسليها الدبلوماسيين لما يُقارب عقدًا من الزمان، وقد أصبحت كذلك بعد إجراء تغطيات واسعة في بلدان أخرى، من بينها روسيا التي تُعتبر مجال خبرتها الأساسي حيث عملت لمدة خمس سنوات خلال عقد الثمانينيات. تمكنت بريدجت، بفضل إجادتها للغة الروسية، من استضافة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرتين في برنامجَين إذاعيَّين حيَّين وتفاعليَّين يسمحان بمداخلات هاتفية (ويُبَثان على الإنترنت بالتزامن مع البث الإذاعي). كما أن بريدجت ملمة جيدة بالسياسة الأمريكية بفضل عملها مراسِلة صحفية في واشنطن على مدار خمس سنوات.

تسجل بريدجت في هذا الفصل خواطرها حول التغيرات الهائلة التي طرأت على دور المراسل الدبلوماسي نتيجة الأحداث التي أعقبت الحادي عشر من سبتمبر، وثقافة «الأخبار العاجلة» المسيطرة على القنوات الإخبارية العاملة على مدار الساعة، والتكنولوجيا الحديثة.

لا ريب في أن فن فهم الدبلوماسية الدولية كثيرًا ما يتسم بالصعوبة. فعادةً ما تتعثر المفاوضات إثر تفاصيل معقدة، غير أن مهمة المراسل هي استيعاب التفاصيل الدقيقة وإجمالها في صيغة يسهل على الجمهور الحائر في الغالب فهمها، والعمل في الوقت نفسه على أن يوصل إلى هذا الجمهور عددًا لا حصر له من وجهات النظر التي يستحيل غالبًا التوفيق بينها.

إذا كان ذلك يبدو مملًّا، فلا تصدِّقه. ألقِ نظرة عن كثب وستجد أن الأساليب التي يتبعها قادتنا السياسيون في التعامل بعضهم مع بعض على الساحة الدولية مثيرة للاهتمام، بل وغريبة للغاية في بعض الأحيان.

منذ بضع سنوات تابعتُ وزير الخارجية البريطاني ونظيره الفرنسي في رحلتهما المشتركة إلى عدة بلدان أفريقية. كان الهدف المعلَن هو إظهار قوة التفاهم الودي الذي يجمع بين البلدين، غير أن ما بدا كان عمق الاختلاف بين الدبلوماسية الفرنسية ونظيرتها البريطانية.

كان المسئولون البريطانيون، كعادتهم، منشغلين بالبروتوكول: نقاط المناقشة، وتجهيزات المراسم، وقوائم الوفود، ونوعية الدعاية التي قد تُثيرها الرحلة. أما اهتمامات الفرنسيين فكانت أبعد من ذلك.

بعد وصول الوفدين إلى عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية، شكا أحد الدبلوماسيين البريطانيين قائلًا: «لقد التقينا بنظرائنا الفرنسيين لوضع اللمسات الأخيرة على قائمة المدعوين إلى حفل الحديقة في كنشاسا واستغرق الأمر ثلاث ساعات. كل ما كان يشغلهم هو الحديث عن قائمة الطعام.»

أيبدو ذلك قولبة نمطية غير عادلة قائمة على القومية؟

يشكل الطعام جزءًا أساسيًّا من الدبلوماسية الفرنسية؛ ولذلك عمد الفرنسيون إلى عزل المفاوضين من الصرب وألبان كوسوفو لمدة ثلاثة أسابيع في قصر فرنسي عام ١٩٩٩: وذلك على أمل أن يكون للمطبخ الفرنسي الراقي وأنواع الخمور الفرنسية الفاخرة تأثير على الغرماء البلقانيين، فيقبلون إبرام اتفاق سلام. غير أن أمل الفرنسيين لم يكن في محله؛ فقد استفحل الصراع ليصل إلى تدخل جوي واسع النطاق لحلف الناتو، وهو ما دل على أن الابتسامات الدبلوماسية الواهنة قد تتحول في لمح البصر ودون سابق إنذار إلى مأساة مروعة.

تتعلق الدبلوماسية بالأشخاص والأهواء الشخصية والهوس بالهويات القومية وسوء الفهم، والصدفة البحتة أحيانًا. إن الدبلوماسية، كأي جانب آخر من جوانب الحياة البشرية، تشبه المسلسلات الدرامية؛ فكل ما تحتاج إليه هو أن تزيل الحوارات الناعمة والتعليقات اللبقة لتصل إلى ما وراءها.

(١) التحديات الصحفية

(١-١) التفكير الاستباقي

أول التحديات هو أن تتعرف على ما يجري بالفعل على أرض الواقع. وحين تواجه «دبلوماسية الأبواق» — وهي لجوء المسئولين إلى الإعلام للإعلان عن مواقفهم علنًا — فلا تعد هذه مشكلة. لكن المعتاد أكثر هو أن يعقد الدبلوماسيون محادثات خلف الأبواب المغلقة ويحيطونها بقدر كبير من السرية والتكتم. إن هؤلاء الدبلوماسيين لا مصلحة لهم في الكشف عن أوراقهم، كما أنهم على درجة كبيرة من الانشغال؛ فلا يمكنك التطفل عليهم أو إزعاجهم بمكالمات هاتفية أو رسائل إلكترونية، بل يجب عليك أن تجد وسائل أخرى للحصول على المعلومات.

لقد احتجت إلى بعض الوقت حتى أدرك أن الحل يكمن في التفكير الاستباقي. غالبًا ما تنظم الحكومات، سواءٌ أكانت بريطانية أم أجنبية، لقاءات إعلامية قبل عقد الاجتماعات الهامة وذلك للترويج لتوقعات ما أو التقليل من أهميتها. فلو استطعت أن تصل لبعض المعلومات قبل هذه الاجتماعات وقبل أن يصير الموضوع «خبرًا ساخنًا»، فربما تنجح في معرفة المزيد؛ فالمسئولون في هذه المرحلة لديهم المزيد من الوقت، ويكونون أقل تحفظًا في تعليقاتهم، فيمكن أن تتمكن حينها من سؤالهم عما يأملون في تحقيقه ثم تقارن إجاباتهم بالنتيجة النهائية. غالبًا ما تُختتم المؤتمرات والقمم ببيانات مبهمة، لكن إذا أحسنت الاستعداد، فسوف تستطيع أن تقيِّم ما إذا كانت النتائج النهائية تفوق التوقعات أم لا ترقى إليها.

كما تُعد المصادر غير الحكومية والمراكز البحثية والمنظمات الخيرية والجماعات الحقوقية وجماعات الضغط الأخرى مصدرًا ثريًّا للمعلومات؛ فقد يتحدث أعضاؤها بمزيد من الصراحة وبقدر أقل من «التنميق» مقارنة بالمسئولين الحكوميين، وقد يبوحون لك بأمر قبل وقوعه ويتيحون لك الاتصال بشهود عاينوا حدثًا مفصليًّا أو أزمة حرجة، وربما تُبرِز تصريحاتهم الفجوة الواقعة بين مصالح الحكومات ومصالح الناس العاديين. وحتى لو كان لدى هذه المجموعات مصالح تدافع عنها، فإنها، في العموم، تقدِّم مقابلًا لا غناء له لعالم الدبلوماسيين المنغلق ودوائرهم النخبوية.

(١-٢) توخي الحذر

التحدي الثاني الذي يواجهك بوصفك صحفيًّا دبلوماسيًّا هو الحذر من قبول المعلومات على علاتها، لا سيما لو صدرت على «نحو غير رسمي»، بحيث لا يرغب مصدرها في الإشارة إلى هويته مباشرةً؛ فالمسئول الذي يتطوع بالحديث إليك بصراحة لكن بشرط عدم ذكر اسمه لا يُقْدِم على تلك الخطوة إلا لسبب ما؛ ربما هي رغبة صادقة منه في أن يوضح لك التعقيدات التي تواجه مفاوضات ما، أو لعلها محاولة متعمدة للثرثرة أو الإدلاء بمعلومات مغلوطة إليك. وحتى الأشخاص الذين يؤمنون إيمانًا صادقًا بأنهم يخبرونك بالحقيقة قد يكونون مخطئين؛ لذلك عليك أن تعيد تقييم مصادر معلوماتك بصفة دائمة والتحقق من مصداقيتها مقارنةً بالواقع.

ثمة داعٍ آخر لتوخي الحذر، ألا وهو أن الدبلوماسية نادرًا ما تتعامل مع حقيقة واحدة، بل غالبًا ما يكون الأمر أشبه بأحجية معقدة متعددة الأوجه. وفي بعض الأحيان تنتهي المفاوضات بسوء فهم مقصود أو غير مقصود بين مختلف الأطراف أو الدول؛ لذا فبدلًا من أن يحاول تقريرك الصحفي فك خيوط الأحجية لإجلاء الحقيقة، ربما ينبغي أن يكشف عن حالة من الفوضى المتشابكة أو مجموعة من النتائج الملفقة عمدًا والتي قد تُفضي إلى كارثة دبلوماسية. ولا بد من توضيح كل ما سبق في عبارات واضحة مبينة، يسهل على عموم الجماهير فهمها — وليس ذلك سهلًا على الإطلاق!

من الأمثلة المعبرة عن هذه الحالة ذلك النشاط الدبلوماسي الذي سبق غزو العراق عام ٢٠٠٣. شهد خريف عام ٢٠٠٢ جهود الممثلين الدبلوماسيين لأعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر الذين أمضوا أسابيع في دراسة كل كلمة وفاصلة للوصول إلى نص يوافق عليه جميع الأطراف. وتُوِّجت هذه الجهود أخيرًا في نوفمبر ٢٠٠٢ بتصويت جميع الأعضاء لصالح القرار رقم ١٤٤١، والذي ألزم صدام حسين بالسماح لمفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة بالعودة إلى العراق للبحث عن دلائل تشير إلى امتلاك بلاده لبرامج أسلحة غير مشروعة.

اعتُبِر التصويت بالإجماع آنذاك نصرًا دبلوماسيًّا، ولكن النص في الواقع كان يحتوي على إشكاليات جسيمة؛ فقد تضمَّن تحذيرًا هامًّا فحواه أن العراق إذا لم يَفِ بأيٍّ من مطالب الأمم المتحدة، فقد يواجه عواقب وخيمة وسوف يُجري مجلس الأمن مشاورات بشأن اتخاذ تدابير إضافية.

صرح السياسيون الفرنسيون في الحال أنه لا يمكن بأي حال استغلال هذا التحذير كذريعة لشن حرب؛ ذلك لأن التحذير يُشير إلى إجراء مجلس الأمن لمزيد من المشاورات. غير أن المسئولين الأمريكيين كانت لهم حجة مختلفة؛ فقد زعموا أن القرار ذكر كلمة «مشاورات» وليس تصويتًا ثانيًا، ومِن ثَمَّ فإن صدام حسين صار بالفعل يواجه تهديدًا بعمل عسكري محتمل.

أما بريطانيا، فقد اتخذت موقفًا وسطًا؛ فأدلى الدبلوماسيون البريطانيون إلينا بتصريح مفعم بالتفاؤل غير المبرَّر قائلين: «لا شك أننا نفضل الوصول إلى قرار ثانٍ قبل خوض الحرب، لكننا نأمل ألا يصل الأمر إلى هذا الحد.»

مع مرور الأشهر وكشف النقاب عن عزم الرئيس الأمريكي على غزو العراق حتى ولو لم تمنحه الأمم المتحدة موافقتها، اتضحت حساسية هذا الاختلاف في وجهات النظر؛ ففرنسا وغيرها من الدول أصرت على أن الغزو يفتقد إلى الشرعية الدولية ما لم يحظَ بقرار أممي ثانٍ، وهو ما عارضه جورج دبليو بوش، مدعومًا بتوني بلير.

إن هذه الانقسامات حول حرب العراق كان من شأنها أن تُلقِي بظلالها على العملية برمتها وأن تسبب ضررًا بالغًا للتحالف عبر الأطلسي. لكن لو عدت إلى الوراء وأمعنت النظر فيما جرى، فستدرك أن مثل هذه الانقسامات كانت متأصلة بالفعل في قرار مجلس الأمن رقم ١٤٤١، الذي حظي حينها بإشادة واسعة بوصفه نموذجًا عظيمًا لوحدة الموقف الدبلوماسي.

(١-٣) التوقعات

قد يسأل البعض: هل استشرفتِ تلك الأزمة الدبلوماسية قبل وقوعها؟ إقرارًا للحق، لم أستشرفها. لكن هكذا كان أيضًا حال أغلب الدبلوماسيين في ذلك الوقت.

من التحديات التي يُجابهها أي مراسل التنبؤ الجيد حيال حدث ما والتوقع الدقيق لما قد يقع فيه.

لكن حين تتعامل مع موقف دبلوماسي حرج فإنك نادرًا ما تحصل على معلومات كافية تُكسبك ثقة في قدرتك على وضع توقعات محددة وسريعة. وحتى لو كانت مصادرك رفيعة المستوى، فربما لا تكون الأقدر على إرشادك إلى الحقيقة.

«نحن لا نفكر في الإخفاق. وكل جهودنا مُركزة على إحراز النجاح.» كان هذا ردًّا مقتضبًا لدبلوماسي بريطاني حين سألته ذات مرة عن احتمالات إخفاق مبادرة دبلوماسية معينة.

تساهم الخبرة في صقل إدراكك بأن الأمور قد لا تسير كلها وفقًا للخطة الدبلوماسية. لكن احترس: ربما يكون من المفيد استرجاع تفاصيل الإخفاقات الدبلوماسية السابقة، لكنه قد يُنمي أيضًا داخلك حسًّا مفرطًا بالريبة والتشكك.

إن المفتاح الحقيقي لاستشراف الأحداث يكمن في تجميع معلومات أساسية والتي ربما لن تستخدمها أبدًا، لكنها ستثري حُكمك وتقديرك للمواقف؛ فإن ما تكتبه أو تقوله لا يعدو غالبًا غيضًا من فيض ما تعرف.

وإذا لم تكن مطمئنًّا إلى قدرتك على استشراف الحدث قبل وقوعه، فتجنب المخاطرة والتخمين. ولو بدا أمامك المستقبل ضبابيًّا ولم يكن لديك سوى معلومات محدودة، فاخفض سقف طموحك ليكون منتهى أملك هو إعداد تقرير صحفي لا تندم عليه فيما بعدُ وترى «أنك كنت مخطئًا فيه تمامًا».

(١-٤) المجتمعات المنغلقة

كثيرًا ما تشمل التوترات والأزمات الدولية بلدانًا ذات مجتمعات منغلقة لا تسمح بدخول الصحفيين إلا في نطاق ضيق. فإذا كنت تتولَّى تغطية مفاوضات تضم، على سبيل المثال، جمهورية كوريا الشمالية الديمقراطية المعروفة بنظامها السياسي المنغلق، فكيف تُعد تقريرًا صحفيًّا متوازنًا يعكس أيضًا آراء ذلك النظام؟

لا توجد حلول سهلة في هذا الشأن. فربما تجدر بك في البداية محاولة الاتصال بسفارة كوريا الشمالية، لكنها قد لا تجدي نفعًا. «نحن لا نتحدث إلى بي بي سي.» كان ذلك هو الرد الذي تلقيته حين هاتفتهم لأول مرة.

الخيار الثاني هو أن تحاول تكوين صورة من خلال مجموعة متنوعة من المصادر الرسمية والمصادر غير المباشرة.

من مزايا الدول ذات الرقابة الإعلامية المشددة أن التقارير الإعلامية غالبًا ما تُعطي فكرة عن الموقف الرسمي؛ فبعض التعليقات قد تكون أشكالًا دعائية متعمدة، تهدف الحكومات من خلالها إلى التأثير على الرأي العام. مرة أخرى، تتضح أهمية تجميع المعلومات العامة الأساسية والتي كلما حصلت على المزيد منها، سَهُل عليك تفسير ما قد يبدو لأول وهلة عبارات رنانة يتشدق بها المسئولون. اتصِل ببعض الشخصيات المحلية واسألهم عن تفسيرهم لما يقال، وراجع آراء الشخصيات المرموقة في المجالات الأكاديمية والدبلوماسية والعمل الإغاثي. وقارن اللهجة المستخدمة بالتقارير الأخرى الصادرة في وسائل الإعلام الرسمية. من بين الأمور التي اكتشفتها خلال عملي مراسِلة في موسكو أواخر أيام الاتحاد السوفيتي أنك إذا اعتدت تحليل البيانات الحكومية الرسمية بالقدر الكافي، فسوف تندهش من قدرتك على قراءة ما بين السطور! (من المصادر التي لا تُقدَّر بثمن في هذا الشأن، لو استطعت الوصول إليها، خدمة الرصد الإعلامي التابعة لبي بي سي، ومقرها في كافرشام بالقرب من ردنج بالمملكة المتحدة، وهي خدمة معنية برصد وترجمة التقارير الإعلامية الصادرة من مختلف أنحاء العالم.)

لكن ينبغي أن تحرص على فهم معالم المشهد الإعلامي في بلد ما قبل أن تفترض أن صحفيًّا معينًا ليس سوى بوق للحكومة. فليس بمستغرب أن تعمد دولة ما إلى فرض رقابة صارمة على قنوات تليفزيونها الوطني، لكن المستغرب أن تسمح بإجراء مناقشات فعَّالة وواسعة النطاق في الصحف أو الإذاعة أو على الإنترنت. (في هذا الإطار، يتبادر إلى الأذهان نموذجان: روسيا وإيران.)

كما هو الحال في جميع المساعي الصحفية، يلزمك أن تفهم السياق الذي تُقدم فيه المعلومات، وحينها فقط ستتمكن من تقييم جدواها.

(١-٥) فك الشفرة الدبلوماسية

إن جزءًا من براعة التغطية الدبلوماسية يكمن في اكتسابك لمهارة فك الشفرة الدبلوماسية. ينبغي أن أقر أنني لم أتلقَّ مهارة «فهم اللغة الدبلوماسية» من أحد قَطُّ. لكنك سرعان ما ستنجح في اكتسابها. إن عبارة «تبادل صريح لوجهات النظر» تعني أن خلافًا محتدمًا جرى بين الطرفين. وإذا أفضى اجتماع إلى تشكيل لجنة «لبحث المسألة» بدلًا من إبرام اتفاق كما كان مزمعًا، فإن هذا يدل دلالة واضحة على أن الاجتماع انتهى إلى طريق مسدود. تشي البيانات المشتركة أن ثمة قدرًا من التوافق، رغم أن هذا التوافق قد لا يتعدَّى في بعض الأحيان نص البيان الصحفي. كما أن غياب أي بيان مشترك أو عدم ظهور الأطراف في مؤتمر صحفي مشترك ربما يعني انعدام أي توافق بينها. لكن احترس: إذا انتهى اجتماع لعدة وزراء خارجية وغادروا جميعًا مسرعين دون أن ينبسوا ببنت شفة، فلا يشير ذلك بالضرورة إلى وقوع كارثة. لا يتعدى الأمر أحيانًا كونهم مسئولين منشغلين وعليهم أن يلحقوا بطائراتهم وتتسم علاقاتهم المتبادلة بقدرٍ كافٍ من المرونة بحيث يتركون الأمر للدولة المضيفة للتحدث باسمهم.

في بعض الأحيان، يمكن أن يمنحك محل اجتماع الأطراف أو نبرة حديثهم فكرة عن الحالة المزاجية الحقيقية التي سيطرت على الاجتماع؛ إن مؤتمرًا صحفيًّا مرتبكًا يبدو فيه أحد المتحدثين غاضبًا أو يتعمد مقاطعة متحدث آخر له دلالة تنبئ بالكثير، ثم شاهد لترى كيف يرقب كل طرف — أو ممثلوهم الجالسون في الصفوف الأمامية — كلمات الطرف الآخر بكل تمعن. في بعض الأحيان، يلقي صحفي سؤالًا جريئًا خلال مؤتمر صحفي مُتلْفَز فيكون له دور هام: إجبار المسئولين على الإجابة عن سؤال لم يُطرح ألبتة خلال الاجتماع المغلق القصير للغاية الذي انتهى لتوِّه، أو الكشف عن استعداد مسئول ما أن يعيد علانيةً تعهدًا قد قطعه سرًّا؛ فالوعود المعلنة على الملأ أمام الكاميرات يصعب نقضها فيما بعدُ.

قد تتضمن هذه الشفرة الإيماءات والكلمات على السواء. كنت من بين الصحفيين الذين نقلوا قمة ريكيافيك عام ١٩٨٦ التي جمعت الزعيم السوفيتي ميخائيل جورباتشوف والرئيس الأمريكي رونالد ريجان. كانت هذه مواجهة نادرة بين رئيس أمريكي وزعيم روسي يسيطران على أغلب ترسانة العالم من السلاح النووي، في وقت كانت توترات الحرب الباردة لا تزال تخيم على المشهد السياسي، ورغم أن جدول أعمال محادثاتهما لم يجرِ الإعلان عنه، فقد كان جليًّا أنَّ تبعات اللقاء قد تكون مصيرية. ومع طول أمد المحادثات، تضاعفت الإثارة. احتشد الصحفيون والمسئولون، الغربيون والسوفيت، في قاعة كبيرة في انتظار نتائج المحادثات، مع وجود شاشات ضخمة تعرِض صورة حية لمدخل قاعة الاجتماع الذي من المتوقع أن يبرز منه الزعيمان.

figure
شكل ٦-١: الزعيم السوفيتي ميخائيل جورباتشوف والرئيس الأمريكي رونالد ريجان في ريكيافيك، آيسلندا، في أكتوبر ١٩٨٦ (نُشرت الصورة بإذن من أسوشيتد برس).

كنت واقفة إلى جوار المتحدث باسم وزارة الخارجية السوفيتي، جينادي جيراسيموف، الذي لم يكن أقل منا انفعالًا. همس إليَّ جينادي قائلًا: «إذا خرجا وتصافحا، فقد وصلا إلى اتفاق.»

في تلك اللحظة، خرج الزعيمان، ولوَّحا للكاميرات، ثم غادرا. فأدركت على الفور، بفضل سيد جيراسيموف، أن امتناعهما عن المصافحة دلَّ على عدم توصلهما إلى اتفاق على الأرجح.

غير أن وقتًا طويلًا قد مضى قبل أن ينكشف النقاب عن المستور. تبيَّن أن الزعيم الروسي اقترح اتفاقًا مفاده تخليص العالم من جميع الأسلحة النووية، شريطة أن يتخلى الرئيس ريجان عن خطته الخاصة بمبادرة الدفاع الاستراتيجي، المعروفة إعلاميًّا باسم «حرب النجوم»، وهو ما رفضه ريجان.

(١-٦) ذكر مصادر المعلومات

كثيرًا ما تتعاطى الدبلوماسية مع مصادر «غير رسمية»، شأنها في ذلك شأن أغلب التغطيات السياسية. إننا نشهد حاليًّا شيوعًا في التعليقات العامة المنقولة عن مسئولين محددين؛ فالسفراء البريطانيون يُجرون في وقتنا الحالي مقابلات «رسمية» بانتظام. إلا أنه في المقابل يُفضِّل كثير من المسئولين الحكوميين عدم النقل عنهم مباشرة. لا يعني ذلك امتناعهم عن التحدث إليك، لكن ينبغي الاتفاق معهم على صيغة معينة لكي يتسنَّى لك استخدام المعلومات التي يمدونك بها.

الأمر نفسه يسري على المصادر الأخرى — كالسياسيين مثلًا — الذين قد يقبلون في كثير من الأحيان الكشف عن هوياتهم، لكن ربما يمنحونك معلومات أكثر إثارة للاهتمام لو أخفيتها.

إذا لم تُحدَّد القواعد صراحةً مسبقًا، فلكَ إذًا أنْ تعتبر تعليقاتهم «رسمية» بالمعنى الدقيق للكلمة بحيث يمكن نقلها عنهم مباشرةً. لكن إذا كنت عازمًا على الاستعانة بهم كمصادر للمعلومات في المستقبل، فربما سيكون عليك التفكير مرتين قبل التصريح بأسمائهم ومناصبهم دون إذنٍ صريحٍ منهم؛ لذا لعله من الأفضل في هذه الحالة الاتفاق على قواعد أساسية مسبقًا.

تختلف الصيغ المستعملة في الإشارة إلى مصادر المعلومات اختلافًا طفيفًا من دولة إلى أخرى؛ لذلك احرص على معرفة هذه الصيغ، فإذا أخبرك مسئول أمريكي أن تصريحه «يمكن استخدام المعلومات الواردة فيه مع عدم اقتباس مصدره» ولا تدري معنى ذلك على وجه التحديد، فاطلب إيضاحًا. غالبًا ما تكون هذه مسألة تقديرية.

إذا كنت في لندن وأشرت إلى «مسئول رفيع في وزارة الخارجية»، فسيكون واضحًا أن المصدر مسئول أو سياسي رفيع المستوى في وزارة الخارجية؛ ومِن ثَمَّ فلن يكون من الصعب جدًّا استنتاج هوية من تحدثت معه. قد لا يزعج ذلك المصدر أحيانًا، لكن في أحيان أخرى، ربما يفضل المصدر إحاطة هويته بمزيد من الغموض، فيطلب منك أن تشير إليه بصفته «مصدرًا في وزارة الخارجية» أو «مسئولًا بريطانيًّا». وفي حال تناولت مفاوضات تضم عدة دول (في الأمم المتحدة على سبيل المثال)، فربما يطلب منك دبلوماسي بريطاني أن تخفي هوية الدولة مصدر المعلومات وأن تستعيض عنها بمصطلح «دبلوماسيين أوروبيين».

يستخدم بعض مراسلي بي بي سي لفظ «علمتُ» كصيغة لإخفاء هوية مصدر موثوق فيه لا يرغب في الكشف عن شخصيته. وهو ما يُعتبر أسلوبًا مجديًا، لكن الأفضل عدم اللجوء إليه إلا في الحالات الاضطرارية؛ لأن أغلب الجمهور لن يستوعب المقصود منه؛ لذلك فالأفضل أن تُورد، إن استطعت، اقتباسات مباشرة من مصادر معروفة لتدعيم معلوماتك.

يقول المسئولون في بعض الأحيان إن المعلومات التي يُدلون بها أو التحليلات التي يقدمونها ليست للاقتباس المباشر؛ أي إنها مجرد «دردشة»، ولا ينبغي الكشف عن هوية صاحبها. ثمة طرق متعددة للتعامل مع هذا الموقف: إذا كانت المعلومات في سياق غير رسمي، كمقابلة إذاعية أو تليفزيونية مباشرة مثلًا، يمكنك أن تقدِّم لها بقولك: «لن أفاجأ إذا …» أو «يمكنك القول أيضًا بأن …» لكن الأمر الذي عليك أن تقيِّمه تقييمًا نقديًّا بوصفه مراسلًا صحفيًّا هو: إذا لم أورد اسم المصدر، فكيف سيؤثر ذلك على موثوقية معلوماته؟

(١-٧) تحدي المراوغة

«المراوغة الحكومية» هي مصطلح سيِّئ السمعة، صار بالنسبة إلى كثيرين مرادفًا لتحريف الحقائق أو إغفالها أو حتى اختلاق الكذب البواح لتضليل الصحفيين ومِن ثَمَّ الجمهور. وليس بمستغرب أن يواجَه هذا النمط من التلاعب المنهجي بردود أفعال عدائية؛ فبمجرد أن يدرك المرء أنه وقع فريسة لخديعة متعمدة، تتبدد كل جسور الثقة ويصعب إعادة بنائها؛ لذا، فإن المراوغة تعد لعبة خطرة بالنسبة إلى ممارسيها، وكذلك لمن يقعون ضحية لها.

إلا أنه في بعض الأحيان لا يوجد مفر منها؛ فالمسئول — أو أي مصدر آخر للمعلومات — الذي يُدلي إليك بتصريحات، مقدمًا إليك معلومات وتفسيرات، لا شك أنه يريدك أن تُولِي وجهة نظره تركيزًا إضافيًّا. ومهمتك بوصفك صحفيًّا ألا تنسى على الإطلاق أن له أجندته الخاصة.

قد تصل المراوغة على الصعيد الدبلوماسي إلى حد محاولة صرف انتباهك: من أمثلة ذلك مكالمة هاتفية من مسئول إعلامي يحاول من خلالها تحويل اهتمامك إلى حدثٍ هامشيٍّ لتنشغل عن شيء آخر، ربما يكون تقريرًا جديدًا يحوي إحصائيات مخزية أو ربما فضيحة يعرف (لكنك لا تعرف) أنها على وشك الانكشاف؛ لذلك فمن القواعد العامة الجيدة أن تسأل نفسك عن دافع هذا الشخص: لماذا يحرص إلى هذا الحد على توجيه اهتمامك نحو هذا الموضوع بعينه؟

لكن الخطورة تكمن في أن يصيبك داء الشك. سبق أن استبعدت معلومات مرة أو مرتين بدعوى أنها على الأرجح من قبيل المراوغة ومِن ثَمَّ لا قيمة لها، ثم ندمت بعدما تبيَّن أن هذه المعلومات كانت تتعلق بحدث أكثر إثارة للاهتمام بكثير مما توقعت.

في بعض الأحيان، قد تكون المراوغة السافرة أمرًا مفيدًا. فتلقِّي رسالة حكومية مباشرة يُعَد أمرًا هامًّا. فحين يُصرُّ مسئول ما على تزويدك بمعلومات دون محاولة تمويهها، فربما يساعدك ذلك غاية المساعدة؛ فهو أقل خداعًا من ذلك الدبلوماسي الأكثر حنكة الذي يصعب الكشف عن مراوغته.

من أشكال المراوغة الأخرى التسريب المبكر للأخبار السيئة للتخفيف من وطأة الإعلان عنها لاحقًا، ولتقييم تأثيرها المحتمل على الرأي العام ككل، وذلك من خلال ردود أفعال الصحفيين.

في فبراير ١٩٩٩، كانت المفاوضات المنعقدة في ضاحية رامبوييه الفرنسية بين قادة الصرب وألبان كوسوفو على وشك الانهيار. أذكر جيدًا وقوفي وسط موقف للسيارات مرصوف بالحجارة حين خرج مسئولان بريطانيان بهدوء من باب جانبي للقصر، واتجها نحوي ليبلغاني أن المحادثات باءت بالفشل لكنهما سيحاولان إحياءها في غضون أسبوعين. وأذكر أنني قلت لهما: «هذه كارثة. إذا تركتم الطرفين يغادران الآن، فلن يصلا إلى اتفاق مطلقًا.» لم يعترض المسئولان البريطانيان. وخلال أقل من شهر، مهد هذا الإخفاق الدبلوماسي الطريق أمام حملة القصف التي شنها حلف الناتو — غير المدعومة من الأمم المتحدة — والتي استغرقت حوالي ٧٠ يومًا. استنتجتُ فيما بعدُ أن الهدف الرئيسي لخروج الدبلوماسيَّين وتسريب نتائج المحادثات إلينا كان اختبار ردود الأفعال المحتملة حيال مؤتمر صحفي مزمع وذلك من خلال رؤية ردة فعلنا نحن.

ثمة نوع آخر من الإحاطات التي قد تكون خادعة، وهو عندما يُصر المسئولون على أن ما حدث في العلن يختلف اختلافًا بيِّنًا عما جرى خلف الأبواب المغلقة. لكن أنَّى لك أن تعرف أين الحقيقة؟

قُبيل غزو العراق، على سبيل المثال، عبَّر الرئيس بوتين بوضوح تام عن تحفظه حيال استخدام القوة ضد صدام حسين. وشهد خريف ٢٠٠٢ زيارة توني بلير إلى موسكو في محاولة لمغازلة الدب الروسي وثنيه عن معارضته. لكن الرئيس بوتين رفض التخلي عن موقفه، وذلك خلال مؤتمر صحفي مشترك عُقِد في المنزل الريفي للرئيس الروسي المحاط بتذكارات الصيد التي يرجع تاريخها إلى حقبة الزعيم السوفيتي الأسبق ليونيد بريجنيف. رفض الرئيس الروسي تقارير المخابرات البريطانية بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية، واصفًا إياها ﺑ «الدعاية»، ثم نظر نحو السيد بلير بحدَّة معلنًا أن روسيا ليست «سوقًا» تُباع فيه الولاءات أو تُشترى. استمعنا — نحن الصحفيين — إلى كلماته في ذهول؛ فالعلاقات بين الرجلين كانت جيدة حتى هذه المرحلة، لكن بدا أنها لم تَعُد كذلك.

بعدها جاء مسرعًا خلفي مسئول في الحكومة البريطانية كان مرتبكًا بعض الشيء ليقول لي إن السيد بوتين كان أكثر لطفًا خلف الكواليس منه أمام الإعلام. وأضاف قائلًا: «إن لهجته العدائية لم يستهدف بها سوى الصحافة الروسية. إننا، في الواقع، في غاية الرضا عن اللقاء. إنهما متفاهمان تمامًا.»

هل كان المسئول البريطاني يكذب عليَّ، أم كان الرئيس بوتين يخدعنا هو والسيد بلير؟

انضم الرئيس بوتين لاحقًا إلى فرنسا في معارضتها لغزو العراق وواصل انتقاداته للغزو منذ ذلك الحين؛ لذلك إذا نظرنا إلى الوراء، فسنجد أن تعليقاته العلنية في ذلك المؤتمر الصحفي عام ٢٠٠٢ كانت دلالة أوضح على المنحى الذي كانت تسلكه الدبلوماسية الروسية بشأن العراق (وتجاه المملكة المتحدة).

(١-٨) الحروب والدبلوماسية

لعلك تظن أن المراسلين الدبلوماسيين يتعاملون مع مسائل السلام لا الحرب. غير أن خطر الحرب غالبًا ما يقف خلف النشاط الدبلوماسي داعمًا له. والدبلوماسية تُرى أحيانًا كذريعة يُقصَد بها تمهيد الطريق أمام استعمال القوة. وحين تدور رحى الحرب، تتعرض في الغالب العلاقات بين الصحفيين والحكومات لتوترات كبيرة؛ فقد يُثير أسلوبك في تناول المعلومات التي تَرِدك بعض القضايا الخطيرة.

ازدادت أهمية الدور الذي يلعبه الإعلام فيما يُعرف باسم «معركة الفوز بالقلوب والعقول» طيلة الأعوام الماضية التي تتراوح بين عشرة وخمسة عشر عامًا. لقد أثبتت الصراعات الحديثة — في العراق ولبنان وأفغانستان — أن الطرف الذي يستعين بالهجمات الجوية، التي لا تميِّز قنابلُها بين الأهداف العسكرية والضحايا المدنيين، يخاطر بفقدان الدعم الجماهيري لأفعاله.

لا يكفي في وقتنا المعاصر أن تسحق خصمك بقوتك العسكرية، بل يلزمك أن تنتصر عليه بالحجة أيضًا؛ ففي ظل حقبة الأخبار العالمية المتواصلة التي نحياها، حيث يمكن أن تُذاع المقاطع الحية للمعارك لحظة اندلاعها وتصل إلى الناس مباشرة بينما يجلسون داخل منازلهم وعلى المقاهي وأمام شاشات أجهزة الكمبيوتر وهواتفهم المحمولة في جميع أنحاء العالم، أصبحت طريقة نقلك لما يجري ميدانيًّا من العناصر المحورية لما يُعرف باسم «الحرب المعلوماتية».

أُثيرَ جدل واسع بشأن إخفاق الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في العثور على أسلحة للدمار الشامل في العراق ولجوئها إلى المعلومات الاستخباراتية لتبرير الحرب. وتراجعت على نحو كبير منذ ذلك الحين ثقة الجماهير فيما تقوله حكوماتهم مما يعني أن أيَّ محاولة حكومية واضحة لتضليل الرأي العام قد تأتي بنتائج عكسية على الفور.

حين شن حلف الناتو حملته ضد يوغوسلافيا بشأن قضية كوسوفو عام ١٩٩٩، كانت الحالة المزاجية مختلفة كل الاختلاف. كانت الحكومة البريطانية حريصة على تبرير ما اعتبرته تدخلًا إنسانيًّا لصالح ألبان كوسوفو، الذين كان يفر مئات الآلاف منهم تاركين منازلهم ليبحثوا عن ملاذٍ لهم في أماكن أخرى. وكانت الحكومة حينها صريحة تمامًا فيما يخص رغبتها في الاستعانة بالإعلام كأداة داعمة لحملتها العسكرية.

لم أشعر أنني تعرضت لتضليل متعمد إلا في القليل النادر، غير أنني في مرة أو اثنتين حسبت أنني وقعت ضحية له.

لن أنسى أبدًا عصر ذلك اليوم الذي تلقيت فيه مكالمةً تطوع بها مسئول بريطاني رفيع، وزعم خلالها أن معلومات استخباراتية قد وصلته للتوِّ تفيد بأنه من المرجح أن الاعتداء الأخير على قافلة من اللاجئين الألبان كان من تنفيذ الجيش الصربي. سألت المسئول كيف يمكنه أن يكون متأكدًا من أن الهجوم لم يشنه طيارو حلف الناتو على سبيل الخطأ، نظرًا لأن مقر حلف الناتو كان يشهد في ذلك الوقت تحقيقًا في الحادثة. فأجابني أن المعلومات الاستخباراتية تبدو موثوقًا فيها، لكنه أسرع وأضاف أنه لا يمكنني نقل الخبر وذكر اسمه وأن البنتاجون سيعقد مؤتمرًا صحفيًّا حول الأمر خلال ساعات.

سألته ما إذا كان يتوقع أن البنتاجون سيُقر مزاعمه، فراح يراوغني؛ لذا قلت له بأنني لا أستطيع استخدام مثل هذه المعلومات المثيرة للجدل والتي لا يدعمها أي دليل وأنني سأنتظر تأكيدًا رسميًّا — لسبب وجيه، كما تبيَّن لاحقًا.

أصدر الناتو خلال أيام اعتذارًا عما وصفه بخطأ فظيع وغير مقصود.

ربما كان المسئول مدفوعًا بقناعته بأنها «حرب عادلة» وأراد أن يقنع الآخرين بذلك. وربما كان يحاول بخبث خداعي. لكن ذلك في الحالتين لا يهم؛ لأنني لم أستخدم المعلومات التي قُدمت لي. لقد علمني ذلك بأنه من الحكمة الحرص على ذكر مصادر المعلومات متى أمكن، وإلا، فينبغي التفكير مرتين قبل استخدام المعلومات.

(١-٩) حجب المعلومات

في بعض الأحيان، يبدو حجب المعلومات الخيار الأمثل. لكن ذلك قد يُثير إشكاليات عويصة.

لا يرغب أيٌّ منا في أن يفجع أُسرةً بإذاعة اسم قتيل أو جريح لهم قبل الاتصال بذويه.

في عصر التهديدات الأمنية المتصاعدة، قد يطلب منك مسئولون حكوميون أن تحجب معلومات معينة، كعدم الإعلان المسبق عن خطط الوزراء الحكوميين للسفر خارج البلاد.

لكن ثمة حالات قد يتراءى للحكومة استعمال مسألة الدعاوى الأمنية لأغراض سياسية. لا شك أن عدم الحديث عن زيارة سياسي رفيع المستوى إلى أفغانستان مقبول تمامًا، لكن ماذا عن خطاب سيُلقى في بلد قريب ويُخشى من ردة أفعال المحتجين؟ لذلك لا بد من التقييم الدقيق للموقف.

تثير مقاطع الفيديو التي يصورها المتمردون لرهائنهم ويرسلونها للشبكات الإخبارية العالمية مشكلة أخرى؛ فحين بدأت تتسرب من العراق مقاطع فيديو للرهائن البريطانيين، أثار ذلك مناقشة حامية بين شبكات البث التليفزيوني في المملكة المتحدة. وبرز السؤال التالي: إلى أي مدًى ينبغي استخدام هذه المقاطع وعرضها في البرامج الإخبارية؟

ذهب البعض إلى أن هذه قصة إخبارية مشروعة تحتاج إلى الإيضاح وأن تجاهل مقاطع الفيديو ربما يعني حرمان هؤلاء الرهائن من الدعاية اللازمة لمواصلة الضغط على الحكومات في سبيل العمل على تحريرهم. بينما رأى آخرون أن مشاهدة أولئك الرهائن وهم يتوسلون من أجل إنقاذ حياتهم قد تكون مؤلمة بل وربما مهينة للضحايا وذويهم. كما أنه كان هناك قلق من أن شبكات البث بإذاعتها لمثل هذه المقاطع قد تخدم المتمردين عن طريق الترويج لقضيتهم ودعم رسالتهم الإرهابية.

اتخذت شبكة بي بي سي قرارًا باستخدام الحد الأدنى من هذه المقاطع، والاستعانة أحيانًا بلقطات ثابتة فقط إذا كانت القصة ذات قيمة إخبارية، لكن مع محاولة عدم تكرار بث المادة بلا داعٍ. وحين انحسرت عادةُ نشر مقاطع الفيديو الخاصة بالرهائن، بدت هذه فكرة سديدة.

أثارت هذه القضية أيضًا تساؤلًا بشأن نوعية المواد الإخبارية التي يجب على الصحفي أن يستعملها في سياقات أخرى.

فإلى أي مدًى، على سبيل المثال، ينبغي علينا أن نعرض صور أسرى الحرب الآخرين أو — كما هو الحال في معتقل جوانتانامو — «المقاتلين الأعداء غير الخطرين» كما كانت تصفهم الولايات المتحدة الأمريكية؟

أين عساك أن ترسم ذلك الخط الفاصل بين مهمتك في توعية الجماهير ومسئوليتك في عدم إشعال موقف ما؟

واجهتُ منذ عدة سنوات تلك الإشكالية ذاتها في سياق آخر. كنت أعمل في موسكو لحساب شبكة بي بي سي وسافرت إلى الشيشان في رحلة قصيرة لمقابلة زعيمها الانفصالي جوهر دوداييف، الذي كان طيارًا سابقًا في الجيش السوفيتي.

لم يلبث الاتحاد السوفيتي أن انهار، وصارت الشيشان جمهورية صغيرة نصف مستقلة داخل الاتحاد الروسي. لكن الجنرال دوداييف أراد أن يظفر لشعبه بالاستقلال نفسه الذي نالته كلٌّ من أذربيجان وجورجيا. كان الوضع تسوده الفوضى والتوتر، غير أنه كان ثمة إشارة ضئيلة إلى احتمال صعود أجندة الإسلاميين في الشيشان بعد الانفصال. ورغم أن روسيا كانت على وشك خوض حربين ضد الثائرين الشيشان على مدار السنوات العشر التالية، فإن فتيل العنف لم يكن قد اشتعل بعدُ.

طلب مني الجنرال دوداييف ذات يوم في وقت متأخِّر من الليل الحضور إلى قصره مُعربًا عن رغبته في عقد مقابلة مع بي بي سي. أجريتُ معه حوارًا طويلًا تحدثنا فيه في عدة موضوعات، صرَّح خلاله أنه في حال رفضت روسيا انفصال الشيشان، فإنه سوف يختطف طائرات ويستعين بها في قصف محطات الطاقة النووية الروسية.

لم أكن متأكدة من مدى جديته؛ فقد كان رجلًا استعراضيًّا بعض الشيء، ذا شارب أسود مصقول وقبعة صغيرة سوداء، وكان ميالًا إلى استخدام الإيماءات المُبالَغ فيها. استقر بي الرأي حينها على أن ثمة احتمالًا أن يُستخدم ذلك التصريح الاستفزازي كذريعة وارتأيت أنه ينبغي ألا أسمح أن تُستغَل مقابلتي هذه كبوق لإطلاق تهديدات من هذه الشاكلة؛ ولذلك حذفت ذلك الجزء.

بعد مُضي ما يقرب من ١٥ عامًا، أتساءل عما إذا كنت قد اتخذت القرار السليم. تُعرَض الآن على مسامعنا وأنظارنا مقاطع صوتية ومرئية تحوي تهديدات إرهابية يُطلقها قادة تنظيم القاعدة، وترى الأغلبية أنه من المهم التعرف على تلك التهديدات. أكنت حذرة أكثر من اللازم عام ١٩٩١؟ أم أن الزمن قد تغيَّر وصرنا الآن أشد حصانة حيال المفهوم المقلق للتهديدات والهجمات الإرهابية، التي صارت للأسف من القضايا المهيمنة على العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؟

(١-١٠) تجنب التحيز

هل بوسعك التزام الحيادية عند تغطية القضايا الدولية؟ أم أن تغطيتك دائمًا ما ستصطبغ باهتماماتك وتجاربك الشخصية، وجنسيتك وبلدك؟ أعتقد أنه لا مناصَ من تأثُّر تغطيتك بكل ذلك.

أحيانًا، أتصور كيف ستختلف تغطيتي الإخبارية باختلاف المكان الذي أكون فيه. تتعلق المسألة بكيفية صياغتك للتغطية؛ فقد تختلف أساليبك في تقييم المواقف وتوصيف الأخبار حسب مدى قربك من الحدث أو — كما هو الحال في الميدان الدبلوماسي — المشاركين في المفاوضات. فمثلًا، إذا كنت في موسكو، فإن تقريرك الصحفي غالبًا ما سيعكس الفروق الطفيفة الكامنة في فكر الحكومة الروسية. أما إذا كنت في واشنطن، فإن ما سمعته من المسئولين الأمريكيين غالبًا ما سيلقي بظلاله على آرائك.

لا أرى بأسًا في ذلك ما دمت مدركًا لتلك الحقيقة وحريصًا على وضع وجهات النظر الأخرى في الحسبان وتنبيه الجمهور على ضرورة أن ينظروا إلى هذه الآراء باعتبارها وجهات نظر شخصية. إن الأهم هو القدرة على الاحتفاظ بقدر من الموضوعية عند تناول الأخبار وأن تحاول تنحية ميولك وأهوائك الشخصية جانبًا.

لا يعني ذلك أن تبدو باهتًا، بلا هوية ولا رأي؛ فبعض الأحداث (كالقتل الجماعي وغيره من الفظائع والأكاذيب الصارخة) تتطلب في واقع الأمر ردًّا قويًّا. لكن وجهة النظر التي أتبناها في أسلوبي الصحفي هي أنك لو تركت لنفسك حرية التعبير عن الغضب الجارف أو الانغماس الانفعالي، فإنك تخاطر بإضعاف التأثير المرجو لما تقوله.

(١-١١) التحديات التكنولوجية

ثمة جانب من جوانب الصحافة مرَّ بتغيرات جذرية منذ أوائل التسعينيات، حين استهللت عملي مراسِلة أجنبية: التكنولوجيا.

لقد يسرت التكنولوجيا حياة الصحفيين تيسيرًا كبيرًا بطرق عدة.

في تلك الرحلة ذاتها التي قمت بها في أواخر ١٩٩١ إلى الشيشان، لم يكن بإمكاني سوى إرسال تقارير إذاعية إلى لندن بطريقة معقدة تطلبت براعة تقنية عالية. كان عليَّ أن أفكِّك الهاتف الموجود في الفندق وأن أوصل أسلاكًا وماسكات إلى جهازِ تسجيلِي، ثم أستعين بعامل الهاتف التابع للفندق لكي يوصلني إلى موظف بمكتب بريد شيشاني، وقد كان دمث الخلق لدرجة أنه ظل ساهرًا إلى منتصف الليل لمساعدتي في حجز مكالمة متأخرة إلى مكتب بي بي سي في موسكو (فلم يكن هناك حينها اتصال مباشر من الشيشان) حيث أوصلني منتِجٌ ما عبْر خط هاتفي آخر إلى مكالمة كان قد حجزها لغرفة الأخبار في لندن.

أما اليوم، فيمكن للصحفيين أن يركبوا طبقًا هوائيًّا، أو يفتحوا هاتفًا محمولًا، أو كمبيوترًا محمولًا للاتصال في ثوانٍ بغرفة الأخبار في لندن من أيِّ بقعة في العالم مهما بعدت. لقد أزال هذا التطور التكنولوجي قدرًا كبيرًا من القلق والحيرة اللذين كانا يُسيطران على مهمة التغطية الإخبارية من الخارج. كما أنه يعني إمكانية الوصول إلى المعلومات على نطاق عالمي؛ فبضغطة زر واحدة يمكنك أن تُطالع الحقائق أو أحدث التطورات لكي تتمكن من وضع مادتك الإخبارية في سياقها الصحيح.

إلا أن التطورات الجارية في المجال التكنولوجي تثير أيضًا طائفة من القضايا الجديدة.

(١-١٢) تدفق الأخبار على مدار الساعة

إن الضغوط التي يشكلها «تدفق الأخبار على مدار الساعة» تفرض على الصحفيين أن يصدروا أحكامًا وقرارات سريعة؛ فقد تحتاج أحيانًا إلى نقل حدث ما نقلًا مباشرًا بينما لا يزال في طور الوقوع. فكيف لك أن تقيِّم أهمية مؤتمر صحفي للرئيس الأمريكي وأنت لم تسمع سوى نصفه؟

لكن هذه الضغوط لا تواجه الإعلام المرئي والمسموع فقط؛ فالصحفيون العاملون في الجرائد ليسوا بمنأًى عنها. وتحتاج أي غرفة أخبار عاملة على مدار الساعة خاصة بموقع على الإنترنت أن تحصل على تحديثات دائمة. ويصعب، في ظل هذه الظروف، إمعان النظر في أي موضوع بما يكفل توازن التغطية ودقتها.

لن يزداد هذا التحدي سوى صعوبة في ظل ما تشهده الاتصالات العالمية من تنامٍ في السرعة والحركية. والحل يكمن، كالعادة، في الجاهزية، على الصعيدين الصحفي واللوجيستي.

(١-١٣) مصادر جديدة للمعلومات

كيف سيصمد الصحفيون التقليديون في عالم مضطرين فيه إلى التنافس مع المدونات وما يُعرف باسم «صحافة المواطن»؟ لقد أتاحت شبكة الإنترنت للجميع كمًّا هائلًا من الفرص للتعبير عن آرائهم وللتفاعل بعضهم مع بعض.

بالنسبة إلى الصحفيين التقليديين — ومن بينهم المراسلون الدبلوماسيون — يمثل ذلك الوضع فرصة وتحديًا في آنٍ واحد.

وهو يخلق بالفعل بيئة يكتنفها مزيد من الغموض والتحديات. فثم تشكك متنامٍ لدى الرأي العام حيال المسئولين، وكذلك حيال الصحفيين الذين يعتمدون على المسئولين كمصدر لمعلوماتهم.

على الجانب الآخر، فإن الحكومات بصدد إعادة النظر في أساليب «المراوغة» ووسائل الدعاية التقليدية التي تستخدمها؛ فالرسائل الإلكترونية التي يرسلها الجنود واصفين الأوضاع الميدانية في معاركهم، عندما يمكن أن يجري تداولها إلكترونيًّا حول العالم، فإن ذلك سيسهم في زيادة الضغوط على القيادات الحكومية والعسكرية لتجنب أي مبالغات أو محاولات لإخفاء الحقائق؛ إذ غالبًا ما سيُكشَف أي تلاعب بالوقائع بمنتهى السهولة.

ينبغي التعامل بحذر مع جميع المعلومات الإلكترونية، لا سيما لو قُدِّمت دون طلب. لكن الإنترنت أيضًا من شأنه أن يجعلنا — نحن الصحفيين — في حالة تأهب دائم؛ فقد ولَّت تلك الأيام التي كنت تستطيع خلالها أن تُغطي أخبار بلد ناءٍ، مطلقًا أحكامًا جزافية عن الأوضاع هناك، مطمئنًّا إلى أنه ليس هناك غالبًا من سيقرؤها أو يسمعها. أما الآن، فربما تتلقى خلال دقائق رسالة إلكترونية تحاسبك على كلماتك وآرائك. وقد تتسبب واقعة واحدة من سوء التقدير أو الخطأ في تصعيد الأمر، بين ليلة وضحاها، لتصبح قضية رأي عام. لقد أضحى جميع الصحفيين المحليين الآن عالميين، ويسهل الوصول إليهم أينما كانوا في لمح البصر.

(١-١٤) مؤامرة أم صدفة

بالإضافة إلى ما سبق، فإن عالم الصحافة الإلكترونية الجديد يغذي بعض المفاهيم الخاطئة والمغالطات ونظريات المؤامرة. فكثيرًا ما يطفو على السطح افتراض بأن أي منعطف سياسي أو تاريخي لا بد وأنه قد خُطِّط له سلفًا وأنه نتاج تدبير معقد حاكه سرًّا شخص ذو نفوذ.

لا أبرئ نفسي من توهُّم مؤامرات لا وجود لها على الأرجح في الواقع. راقِب الدبلوماسيين والسياسيين لوهلة وسرعان ما سوف تدرك أنهم ليسوا معصومين وأنهم عرضة لارتكاب نفس الأخطاء والقيام بنفس التخمينات مثلنا جميعًا.

لذلك لا تستبعد أبدًا عامل «الصدفة» في العلاقات الدولية؛ فمن المحتمل دائمًا أن يخفق عمل دبلوماسي أو ينجح بمحض الحظ أو لأتفه الأسباب وأهونها؛ فقد يرفض سياسي بارز إبداء تعاونه لأنه مرهق من أثر السفر، أو لم تجرِ إحاطته بالمعلومات المطلوبة، أو يعاني نزلة برد. وفي المقابل، لربما ينسى سياسيان دوليان خلافاتهما فجأة لاكتشافهما ولعهما المشترك بصيد الأسماك.

(٢) لماذا ستصمد الصحافة الدبلوماسية؟

إنني على يقين بأن الصحافة الدبلوماسية سوف تصمد؛ ذلك لأنه، إلى جانب المصادر المفتوحة المتزايدة للمعلومات الإلكترونية، ستكون ثمة حاجة دائمة إلى الصحافة التخصصية المعتمدة على التواصل المباشر والتحقق الدائم من المعلومات من مصادر موثوق فيها.

يكمن التحدي في القدرة على تقديم تحليل مبتكر للأحداث، لا يكتفي بالوقوف على ما وراءها، بل ويعطي الجواب الصحيح عن ذلك التساؤل: إلى أين يتجه العالم؟

لا شك أن محاولة مسايرة التطورات العالمية يومًا بيوم مهمة شاقة للغاية. وكثيرًا ما أمزح قائلةً بأن وظيفتي أشبه بالمراجعة الدائمة استعدادًا لاختبار أعلم أنه قادم، لكنني لا أعلم في أيِّ مادة. وهو ما يشبه نصيحة أسداها إليَّ أحد زملائي القدامى حين بدأت عملي، إذ أخبرني قائلًا: «سوف تشعرين كأنك فراشة، تُحلق من زهرة إلى أخرى، لكنك نادرًا ما ستمضين ما يكفي من الوقت لتنغمسي في أيٍّ منها كما يجب.»

غير أنك في المقابل ستحظى بفرصة لتكوين نظرة عامة شاملة، وهو أمر شديد الأهمية في عصر تترابط فيه الكثير من العوامل والأحداث وتتداخل. إن أمامك فرصًا لتقصِّي المصادر وتقييم المعلومات التي لا يستطيع الكثيرون إليها سبيلًا.

والمفتاح لذلك هو الاستعداد الكافي ببذل الوقت لإجراء عملية البحث وإقامة العلاقات. عليك أن تقرأ قدرَ استطاعتك وأن تنتهز كل فرصة ممكنة للسفر والانخراط في موقف أو بلد ما؛ فالسياق التاريخي والجغرافي مهم للغاية. كما ينبغي عليك أن توسع نطاق تغطيتك. فحين تنشب أزمة هائلة فجأة وتتصدر العناوين الرئيسية، لا يوجد ما يسمى مكانًا صغيرًا جدًّا أو موضوعًا سريًّا للغاية. إن الصحافة الدبلوماسية مجال لا يبلى أبدًا ومهنة لا تفتأ تجدد نفسها على الدوام.

أسئلة يُجيب عنها الطالب

(١) ما المخاطر التي تحيط بالاعتماد المفرط على المصادر الرسمية؟ استشهد بنماذج من التغطية الحديثة، بما في ذلك تلك الخاصة بالفترة السابقة على نشوب الحرب ضد العراق.

(٢) أيعي متلقو الأخبار العاديون بوضوح كافٍ كيفية «تشفير» المعلومات المتبادلة بين المصادر والمراسلين؟ أمن المهم لهم أن يفهموا المقصود بقولنا «مصادر غير رسمية» أو «استخدام المعلومات الواردة في التصريحات مع عدم اقتباس مصدرها»؟ كيف يؤثر ذلك على فهمهم للخبر وطريقة استقائه من مصادره؟

(٣) أتتفق مع بريدجت كيندال أم تعارضها فيما يتعلق باستحالة التزام «الحيادية» عند تغطية القضايا الدولية لأن آراءك دائمًا ما «ستصطبغ باهتماماتك وتجاربك الشخصية وجنسيتك وبلدك»؟

(٤) هل جيك لينتش مصيب فيما ذهب إليه أم مخطئ؛ فهل نحن في حاجة إلى «صحافة سلام» تُبادر بالتصدي لتأثير «صحافة الحرب»؟

هوامش

(١) عُقِدت مناظرة بعنوان «الحوار مع العدو» خلال فعاليات افتتاح نادي فرونتلاين بنيويورك في السادس عشر من أبريل ٢٠٠٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤