الفصل الثامن

الرؤى العالمية للأخبار الدولية: تجاهُل العالم يكلفنا الكثير

توني بورمان

لماذا صرنا نهتم ببقية العالم أكثر من ذي قبل؟ لماذا نحتاج إلى نقل ثقافات الآخرين ووجهات نظرهم المختلفة عنا من أجل فهم ثقافاتنا ووجهات نظرنا على نحو أفضل؟ وكيف يمكننا، على أشد المستويات عمليةً، أن نجعل الأخبار «الدولية» تبدو «محلية»؟

بالنسبة إلى كثير منا، شكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتبعاتها، حتى الآن، العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. لكن ذلك لم يكن المتوقَّع لهذه المرحلة من التاريخ.

بعد أن نجا العالم من حربين عالميتَين وكثير من الحروب الأصغر، ومن ويلات الفاشية والشيوعية، ومن كارثة نووية محتملة خلال الحرب الباردة، أقبل معظم العالم على القرن الجديد المثير آملين أن تتسم بدايته بالسلام والاستقرار النسبيين. بل اعتقد الكثيرون أن هذا القرن سيكون فرصة للتعامل أخيرًا مع العديد من القضايا المُلحة التي تخص العلاقة بين الشمال والجنوب والتي تَجنَّب العالم مواجهتها طوال عقود من التوترات بين الشرق والغرب.

بدت الأوضاع سانحة؛ فبعد أن أنهكت العالم الصراعات التي شهدها خلال أغلب القرن العشرين، بدا أشد ترابطًا من أيِّ وقت مضى، وفي نفس الوقت في غاية الضعف والصغر. وشهد أغلب أجزائه انطلاق الثورة المعلوماتية والتكنولوجية التي بشَّرت بالوصول غير المسبوق إلى أماكن وأفكار كانت حتى ذلك الحين غير مطروقة. ويقع في قلب ذلك كله — أو هكذا تطلَّع كثير من الصحفيين على الأقل — انتشار لإعلام إخباري عالمي يبث أفكارًا نبيلة، وربما كذلك قدرًا من معاني الديمقراطية إلى جميع أرجاء كوكبنا.

على سبيل المثال، رغم أنه لم يكن في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي سوى ثلاث شبكات تليفزيونية كبرى متخصصة في الأخبار — سي إن إن الأمريكية، وسكاي البريطانية، وسي بي سي نيوز وورلد الكندية — فقد وُجِد ما يُقارب المائة من تلك القنوات حول العالم بعد عقد من الزمان.١ لقد رفع ذلك سقف التوقعات. إن الصحافة، كما كتب الصحفي الأمريكي المعروف والتر ليبمان عام ١٩٢٢، يجب أن تكون «كمشاعل النور التي تتنقل بلا هوادة هنا وهناك لتخرج حدثًا تلو الآخر من الخفاء إلى العلن» (١٩٢٢: ٢٢٩). أحيت الثورة المعلوماتية العالمية آمالنا، ونحن نخطو أولى خطواتنا إلى القرن الحادي والعشرين، في أن أنبل غايات الصحافة قابلة للتحقيق على أرض الواقع.

لكننا تعجَّلنا في توقعاتنا. إن الاضطرابات التي شهدها هذا العقد، لا السكينة والهدوء، هي التي شكلت ملامح هذه الفترة. لقد اتخذ الإعلام الإخباري، في كثير من الحالات، موقفًا سلبيًّا، على أفضل تقدير، أو حتى متواطئًا، وهو يرى الأحداث العالمية تتصاعد خارجة عن السيطرة: تنامي الصراع في الشرق الأوسط، وانتشار التطرف الديني والسياسي، وتزايُد القلق بشأن تغيُّر المناخ، والمخاوف بشأن الهجرة وتلاشي الحدود، وشبح صراع نووي محتمل مجددًا، وبالطبع تفاقُم حدة الفقر واليأس في كثير من الدول النامية … والقائمة تطول.

نتيجة لتلك الاضطرابات، اتجه الكثيرون في الدول الصناعية — لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية وأجزاء من أوروبا — إلى الانطواء على الذات؛ فبدلًا من الترحيب بالقرن الجديد بقلوب متفتحة ونفوس متطلعة، صاروا أكثر تحفظًا بشأن ما يملكون وأشد خوفًا من فقدانه خلال هذا المستقبل المجهول.

أما ردود فعل وسائل الإعلام الإخبارية حول العالم حيال هذه الأحداث، فكانت مختلطة، بل ومتناقضة.

  • بُذِلت جهود دءوبة في العالم النامي لتوسيع نطاق التغطية الإخبارية للعالم وتقديم أصوات بديلة للاحتكار الأنجلو-أمريكي (ممثلًا في سي إن إن، وبي بي سي، إلخ) الذي طالما هيمن على مجال الصحافة الدولية. ظهر أبرز هذه النماذج في الشرق الأوسط بتدشين شبكة الجزيرة ومنافسيها الأحدث عهدًا، وهو ما شكل تطورًا ملهمًا لمبادرات مشابهة في أفريقيا وآسيا.

  • على النقيض، أقدَمَ كثير من كبريات المؤسسات الإخبارية التجارية في العالم — شبكات البث الأمريكية الكبرى على وجه الخصوص — على اتخاذ إجراءات عكست إحساسها بما اعتُبِر مزاجًا عامًّا، وذلك بتقليص تغطيتها الدولية للأخبار. ورغم أن تلك المؤسسات لا تزال ثرية بأغلب المقاييس،٢ فقد تجاوبت مع ما مارسه مساهموها من ضغوط وما أبداه المشاهدون من لا مبالاة، وذلك بتخفيض عدد مكاتبها الدولية على نحوٍ كبيرٍ وتقليص المقدار القليل نسبيًّا من المساحة والوقت الذي تخصصه لعرض «الأخبار الأجنبية».
figure
شكل ٨-١: مصور شبكة سي بي سي سات ناندلال في أثناء مهمة صحفية في أفغانستان عام ٢٠٠٢ (نُشرت الصورة بإذن من القسم الإخباري بشبكة سي بي سي).

بإلقاء نظرة شاملة على التاريخ، يمكن القول بأنه في هذا الوقت بالتحديد يُعَد استيعاب ثقافات الآخرين شرطًا ضروريًّا لتفهم ثقافتك الخاصة فهمًا حقيقيًّا. وإذا كانت المعرفة قوة، فالجهل قد يكون خطيرًا. أُجري في يونيو ٢٠٠٧ — وهو تاريخ ليس عنا ببعيد — استطلاع قومي للرأي العام في الولايات المتحدة كشف عن أن أربعة من بين كل عشرة مواطنين أمريكيين (٤١ بالمائة) لا يزالون يعتقدون أن نظام صدام حسين كان ضالعًا بنحو مباشر في تمويل هجمات القاعدة في الحادي عشر من سبتمبر أو التخطيط لها أو تنفيذها، وذلك رغم عدم تقديم أي أدلة تدعم مثل هذه الصلة (نيوزويك ٢٠٠٧).

في معرض تبرير بعض المؤسسات الإعلامية لتقليص التغطية المكلفة للأخبار الدولية، لم تجد بُدًّا من أن تلوم الضحية — وهي الجمهور في هذه الحالة — كما في قول بعضها «إن الناس لا يبالون حقًّا بالأخبار الأجنبية.» لكن هذا زعمٌ مدفوع برغبة هذه المؤسسات في خدمة مصالحها الخاصة؛ فرغم أنه يبرئ ساحة الصحفيين والقائمين على البرامج من مسئولية التسبب في إثارة ملل جماهيرهم أو إرباكهم، فإن الكثير من الجهود البحثية في أمريكا الشمالية تشير إلى أن التغطية السطحية للأخبار العالمية هي أهم مسببات عدم الاكتراث السائد لدى الجماهير تجاهها.

كما أن هناك تجاهلًا لدور آخر حيوي منوط بالمؤسسات الإخبارية، وهو: تقديم الأخبار التي تؤمن بأن الجماهير «تحتاجها» ليصبحوا مواطنين أفضل اطلاعًا وإلمامًا بما يجري حولهم. إن مثل هذا الدور قائم على افتراض أن الصحفيين، في نهاية المطاف، يجب أن يتجاوز دورهم تقديم ما يطلبه الجمهور. لقد مضت فترة في الإعلام الأمريكي رأت خلالها المؤسسات الإعلامية الأمريكية الكبرى أنه من واجباتها العامة أن تحافظ على قوة وحداتها الإخبارية وأن تزودها بجميع الموارد اللازمة، وذلك كشكل من أشكال «رد الجميل»، وعرفانًا بوصولها إلى موجات البث العام وما تجنيه من أرباح طائلة من وراء ذلك. ربما كان أفضل تلخيص لهذه الفكرة ما عبَّر عنه بيل بيلي، مؤسس سي بي إس، في خمسينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية حين قال ما مفاده: «إنني أجني الأرباح من برنامج جاك بيني الكوميدي لأتمكن من تقديم «أفضل» الأخبار.»

إذًا ما هي «أفضل» الأخبار؟ ما هي الأخبار التي «يحتاج» الجمهور إلى معرفتها؟ حسنًا، دعنا نُعرِّف هذه الأخبار تعريفًا سلبيًّا. إن أفضل الأخبار ليست تلك التي تتبنى الدعاية الصاخبة ولا تنفك تصنف العالم إلى «أخيار، وأشرار، هؤلاء الذين معنا، وهؤلاء الذين ضدنا». لقد أشار الكثيرون في دراسات استطلاعية إلى مثل هذه الأبواق الدعائية باعتبارها إحدى أكبر مثالب التغطية الإخبارية للشئون الدولية.

يحتاج الجمهور — وربما «يريد» — أن يعرف ما هو أبعد من التصنيفات والسباب؛ أن يعرف مَن هؤلاء الزعماء وكيف وصلوا إلى السلطة. وماذا يسعنا أن نتعلم من هذا؟ لمَ أعرض الإيرانيون عن زعمائهم التقليديين وصوَّتوا لصالح محمود أحمدي نجاد ليكون رئيسًا لهم؟ أيراه الإيرانيون موفيًا بوعوده أم منشغلًا أكثر من اللازم بالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل؟ يحتاج الجمهور إلى تغطية متعمقة ومتجردة تكشف عن شخصيته والاتجاه الذي يمثله. ولمَ أزاحت حماس، في فلسطين، حركة فتح عن السلطة بعد وفاة عرفات؟ ولماذا اندهش كثيرون من فوز حماس في الانتخابات؟ ولو تجاوزنا تصنيفها كحركة «إرهابية»، فما هي دلالة شعبيتها؟ وما الذي يُفسِّر التأييد الذي يلقاه حزب الله في لبنان؟ أو الأهمية التي يتمتع بها شافيز في فنزويلا؟

أسئلة كثيرة تطرح نفسها.

ربما تبدو إدارة ظهورنا للعالم علاجًا ناجعًا بالنسبة إلى البعض، لكنه علاج قصير المدى، ومسيرة التاريخ الطويلة تُثبت لنا ذلك. إن إيلاء مزيد من الاهتمام إلى دراسة كلا الاتجاهين المختلفين للإعلام من شأنه أن يفيدنا في الوصول لاستراتيجية تفيد العالم.

(١) دروس مستفادة من خارج الحدود

تُعتبر قناة الجزيرة، التي تُبَث من دولة قطر المتناهية الصغر والواقعة في الخليج الفارسي، أكبر قناة إخبارية عربية وأشدها إثارة للجدل في الشرق الأوسط. وهي واحدة من القنوات الإخبارية الأعلى مشاهدةً على مستوى العالم؛ إذ يُقدَّر عدد مشاهديها بين ٣٠ و٥٠ مليون مشاهد (لينتش ٢٠٠٦؛ مايلز ٢٠٠٦؛ زياني وصحراوي ٢٠٠٧).

علاوة على ما أحدثته تلك القناة من جدل في واشنطن منذ بروز أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فهي تلقى متابعة حثيثة في جميع أنحاء العالم النامي — خاصة أفريقيا — باعتبارها نموذجًا يمكن الاحتذاء به عند إنشاء قنوات إخبارية دولية جديدة.

أُسِّست قناة الجزيرة عام ١٩٩٦ على يد أمير قطر لتكون قناة فضائية تعكس صورة تقدمية لدولته الصغيرة وتُقدِّم منظورًا مختلفًا عن القضايا العالمية. ومنذ ذلك الحين، أحدثت الجزيرة وغيرها من القنوات الفضائية الجديدة المنافِسة في الشرق الأوسط تحولات في وجه السياسة العربية. واستطاعت الجزيرة، بفضل تحطيمها لقبضة الدول على المعلومات وتشجيع النقاش المفتوح بين طائفة من الآراء، أن تتحول من شبكة بث إقليمية لا يعرفها سوى القليلين إلى مؤسسة دولية متعددة القنوات، واللغات، والخدمات.

أطلقت الجزيرة في ديسمبر ٢٠٠٦ قناة إخبارية منفصلة ناطقة باللغة الإنجليزية (www.english.aljazeera.net)، لكن من المفارقات المثيرة للسخرية أن هذه الخدمة متاحة على نطاق واسع في أغلب أنحاء العالم ما عدا الولايات المتحدة الأمريكية وكندا؛ إذ لا تُبَث شبكة الجزيرة باللغة الإنجليزية على أي نظام من أنظمة الأقمار الصناعية الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية رغم العدد الكبير من القنوات التي تتيحها والذي يُقدر بالمئات.

يُعزى ذلك جزئيًّا إلى سمعة خدمة الجزيرة العربية المثيرة للجدل، ولكن يرجع ذلك أيضًا إلى الهيمنة الكاسحة التي تحظى بها القنوات التجارية غير الإخبارية — كقنوات القمار والجنس — على نظام الأقمار الصناعية الأمريكي. والدليل على ذلك أن أيًّا من القنوات الإخبارية الدولية الناطقة بالإنجليزية التي أُطلِقت في ٢٠٠٦ (الجزيرة الإنجليزية، وبي بي سي وورلد نيوز، وفرانس ٢٤، وهي قناة فرنسية جديدة) لم تستطع اقتحام سوق الأقمار الصناعية الأمريكية.

تتميز الجزيرة بشبكتيها العربية والإنجليزية، بفضل صحفييها المنتشرين في جميع أنحاء العالم والذين يزيد عددهم عن ٥٠٠، بتغطياتها الموسَّعة للعالم النامي، بما في ذلك أجزاء من أمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا، وهي القارات التي نادرًا ما تجد لها مساحة في القنوات الإخبارية البريطانية والأمريكية. وفي ظل عالم مَعني بالعلاقة بين الشمال والجنوب، تبذل هاتان الشبكتان جهدًا مقصودًا لعرض وجهة نظر «الجنوب» حيال أهم الأخبار، ليست فقط التي تخص القضايا الإقليمية بل وأيضًا القضايا ذات النطاق الدولي. وهذا لا يعني أنها تنجح دائمًا في إنجاز هذا الهدف، لكنها كثيرًا ما تنجح.

من أبرز ما تُعرَف به شبكة الجزيرة العربية تلك النقاشات الساخنة التي تُذاع في برامجها الحوارية، والتي تقدِّم طيفًا من الآراء التي لم يُسمح قَطُّ بالجهر بها في العالم العربي. كان شعار الجزيرة الأصلي هو «الرأي … والرأي الآخر»، أما قناتها الناطقة بالإنجليزية، فترفع شعار «نصوغ أجندة الأخبار».

يرى المدير العام للجزيرة، وضاح خنفر، أنه ليس هناك ما يدعو إلى العجب فيما أثارته الشبكة من جدل داخل العالم العربي وخارجه؛ إذ كان ذلك مقصدها منذ البداية:

منذ بداياتها الأولى، وجدت الجزيرة نفسها في مواجهة ثنائيات متناقضة تناقضًا حادًّا: الرسمي مقابل غير الرسمي، المركز مقابل الأطراف، الرئيسي مقابل الهامشي. كان من الضروري بالنسبة إلى الجزيرة أن تتحسس طريقها عبر هذا الواقع لتصل إلى أصحاب السلطة وأولئك البعيدين عنها. كيف يسعنا استخدام الكاميرا لتسليط الضوء على جميع ما أبقته السلطة رهن الخفاء؟ … في حين كان المُشاهِد يُعتبر في نظر الإعلام العربي الرسمي مجرد متلقٍّ للدعاية السياسية الرسمية، اختارت الجزيرة منذ البداية أن تكون «منبر مَن لا منبر له»، كابحةً تلك النزعة المتأصلة لدى السلطة للتحكم في الإعلام والهيمنة عليه. (خنفر ٢٠٠٦: ١١)

أثار نجاح الجزيرة كشبكة بثٍّ دهشة أغلب مراقبي الصناعة؛ فإلى جانب ما أوجدته من فرصة جوهرية للحوار الديمقراطي في العالم العربي — وهو ما أثنت عليه الحكومة الأمريكية خلال السنوات الأولى لظهور الشبكة — فقد قدَّمت دروسًا وعبرًا لشبكات البث العاملة في مناطق أخرى من العالم النامي. فلم يَعُد من المفترض أن نجاح الشبكات الإعلامية مرهون بتقربها إلى السلطة؛ إذ إن شعبية الجزيرة لدى الكثيرين نابعة إلى حد كبير، في الواقع، من ابتعادها المقصود عن مراكز السلطة الراسخة.

نشر فيليب فيسك دي جوفيا، مدير مركز السياسة الخارجية في لندن، أحد أهم المراكز البحثية في أوروبا، ورقة بحثية عام ٢٠٠٥ تحمِل عنوان «قناة جزيرة أفريقية؟ وسائل الإعلام والنهضة الأفريقية». حث دي جوفيا، في هذه الورقة، كلًّا من الحكومة البريطانية وأعضاء الاتحادين الأفريقي والأوروبي على إيجاد طرق لخلق شبكة بث مستقلة موجَّهة إلى الدول الأفريقية، وربط ذلك بتجربة شبكة الجزيرة:

ثمة دروس يمكن استقاؤها من تجربة قناة الجزيرة الفضائية العربية المتخصصة في الأخبار التليفزيونية. ورغم أن هذه المحطة لم تبدأ بثها إلا في عام ١٩٩٦، فإنها أحدثت تأثيرًا حقيقيًّا بالفعل على عدة أصعدة، منها على سبيل المثال الارتقاء بالشفافية والمساءلة على امتداد منطقة الشرق الأوسط؛ مما اضطر الإعلام الرسمي للدول، الذي كان يميل في السابق إلى «الأخبار الرسمية» غير الناقدة، إلى تحسين تغطيته الإخبارية. ومن المرجح فيما يبدو أن إنشاء شبكة بث أفريقية سيكون له نتائج مشابهة … سيكون من الأسهل الحد من الفرص المتاحة أمام الإعلام الفئوي المتحزب للتحريض على العنف، كما كان الحال في رواندا عام ١٩٩٤ مثلًا. إن تدشين منبر إعلامي بديل عن شبكات البث الغربية القائمة يعرض على نحو أفضل صورة أفريقيا أمام نفسها سوف يعزز من ثقة القارة بذاتها. (فيسك دي جوفيا ٢٠٠٥: ١٥)

شهد عام ٢٠٠٦ إعلان أحد اتحادات الشركات الأفريقية، تحت قيادة سليم أمين رئيس مؤسسة محمد أمين،٣ عن خطط لتدشين قناة إيه ٢٤، لتكون قناة إخبارية على مدار الساعة من أفريقيا وإليها. السيد أمين هو ابن المصور والصحفي الشهير محمد أمين الذي كان أول من صوَّر المجاعة الإثيوبية عام ١٩٨٤ وتُوفِّي في حادث تحطُّم طائرة قبالة جزر القمر عام ١٩٩٦. شبَّه سليم أمين القناة الجديدة، بتركيزها المزمع على التغطية الإقليمية، بقناة تيليسور الإخبارية الجديدة التي أُنشئت في فنزويلا وتستهدف مشاهدي أمريكا اللاتينية، وشبكة الجزيرة العربية:

سوف تعرِض إيه ٢٤ للأفارقة حقيقة عالمهم، وذلك برسم صورة لأفريقيا الحقيقية، تلك القارة التي تحمِل على أرضها الخير والشر، النزاهة والفساد، الانتعاش الاقتصادي والفقر، رواد الأعمال الطموحين إلى جانب أولئك الذي لا يزالون معتمدين على المعونات الأجنبية. إن القناة الجديدة سوف تُسهم في تسليح الأفارقة بالمعرفة لمساعدتهم في اختيار قياداتهم السياسية والاجتماعية، وتحديد الأوجه الجديرة بأن يستثمروا فيها أموالهم التي جنوها بعرق جبينهم، ورسم خطة لكيفية المضي قدمًا والانطلاق في قارتهم … إن هذا، بالنسبة إليَّ، هو أعظم غاية اجتماعية يمكن أن يحققها الإعلام … إن المعرفة قوة، ولطالما افتقد الأفارقة هذه القوة. (أمين ٢٠٠٧)

يمكننا ملاحظة بعض الأوجه المشتركة بين هذه المشروعات المختلفة التي تتجاوز أهميتها حدودها الإقليمية. إنها تُصوِّر نفسها بوضوح كمبادرات تُلبِّي مصالح مشاهديها، لا مصالح المُعلِنين أو السياسيين. لا تكتفي هذه القنوات بالتعهد بتقديم تغطية إقليمية حقيقية تستمد جذورها بالفعل من الواقع الأفريقي، بل إنها تعلن أيضًا تعاطفها مع المصالح الجماهيرية دون أيِّ خجل؛ فهي لا تزعم أنها القنوات الخاصة بالأغنياء وذوي النفوذ، بل تبذل، على النقيض تمامًا، جهدًا دءوبًا لاستيعاب مشاعر قلة الحيلة المنتشرة بين عامة الشعب والتعبير عنها. إنها تحاول، ببساطة، أن تستجيب للنهم الواضح والمتزايد لدى العامة لتلقِّي الأخبار والمعلومات التي تشكِّل عالمهم.

(٢) العالم خارج بؤرة الاهتمام

إلى جانب ما شهده القرن الحادي والعشرين من أحداث سياسية مثيرة، فهو يعد إيذانًا ببدء عصر إعلامي جديد. لقد شهدنا في السنوات القليلة الماضية عددًا ضخمًا من التغيرات التي طرأت على أسلوب «إنتاج» الأخبار و«تلقِّيها» يوازي ما شهدناه على مدار تاريخ البث بأكمله. إن المشهد يتغير من حولنا؛ فكما تتحول مجتمعاتنا تدريجيًّا إثر تزايد موجات الهجرة والتعددية الثقافية، يشهد عالمنا الإعلامي تحولات مماثلة.

يقوم هذا التحول على عدة عناصر أساسية، منها التنامي الهائل للإنترنت، وبروز القنوات الإخبارية التي تُبث عبر تليفزيون الكابل والتي تُذاع على مدار الساعة، والثورة الرقمية التي تُسهم في تمكين الجماهير وإتاحة المجال للتفاعل بأساليب تعيد تشكيل وجه الصحافة.

أيتبع ذلك إذًا تغيُّر فيما يبديه الجمهور من موقف متضارب حيال فهم العالم الأوسع نطاقًا من حدودهم الإقليمية؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل متباينة، وفقًا للمنطقة التي نقصدها. فهناك مؤشرات تدل على تزايد الإقبال على الأخبار الدولية في كلٍّ من العالم النامي وأوروبا وكندا، أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فيبدو أن الإقبال لم يتزايد بعدُ، وهي مفارقة تدعو للسخرية في ظل النفوذ العالمي المُتشعب الذي تتمتع به تلك الدولة التي تُمثِّل آخر القوى العظمى المتبقية في العالم.

نشر مركز بيو لأبحاث الشعب والصحافة في أغسطس ٢٠٠٧ تحليلًا كاشفًا بعنوان «عقدان من التفضيلات الإخبارية للأمريكيين: تحليل لما يتابعه الأمريكيون من الأخبار، وما لا يتابعونه» والذي أجراه اختصاصي العلوم السياسية الأمريكي مايكل جيه روبنسون. شمل التحليل السنوات من ١٩٨٦ وحتى ٢٠٠٦ وتناول بالدراسة مؤشر بيو السنوي للاهتمام بالأخبار خلال العشرين عامًا السابقة.

كانت نتائج التحليل مثيرة للدهشة: فطوال العشرين عامًا الماضية، لم تتغير قَطُّ الاهتمامات الإخبارية للجمهور الأمريكي:

رغم التغيرات الهائلة التي طرأت على حجم الإعلام الإخباري الأمريكي ونطاقه منذ ثمانينيات القرن الماضي، فإنه من المثير للاستغراب أن اهتمامات الجمهور الإخبارية وتفضيلاته لم تتغير. فلم تُلاحَظ تغيرات كبيرة في أيٍّ من المؤشرَين الرئيسيين اللذين يركز عليهما هذا التقرير، وهما مستوى الاهتمام العام بالأخبار وتفضيلات الجمهور لمختلف أنواع الأخبار. ومثل هذه الملاحظة تصدُق على نحوٍ خاصٍّ فيما يتعلق بالمؤشر الثاني؛ فالأمريكيون مستمرون في متابعة — أو تجاهل — الأنواع ذاتها من الأخبار على مدار عقدين ماضيين وحتى وقتنا الحالي … تثير الأخبار الأجنبية — الأخبار الواردة من خارج الحدود والتي لا تمُتُّ إلى الولايات المتحدة الأمريكية بِصِلة — أدنى مستوًى من الاهتمام لدى الأمريكيين، ولم تبرح مكانها في ذيل المؤشر، أو بالقرب منه، على مدى ٢١ عامًا. (روبنسون ٢٠٠٧: ٢–٤)

ما ليس عاديًّا في هذه الدراسة هو قائمة الأخبار التي «تصدَّرت الصحف» ضمن هذه التصنيفات العامة. اتسمت هذه الفترة التي بدأت أواسط الثمانينيات وامتدت لعشرين عامًا بإثارتها الشديدة فيما يخص أهمية الأخبار التي برزت خلالها، والتي حمل كثير منها بصمات أمريكية لا يخطئها الرائي. ورغم كل ذلك، بدا الجمهور العريض في الولايات المتحدة الأمريكية غير مكترث بها:

لا يحظى بانتباه الرأي العام سوى أبرز وأهم المستجدات لدى «الدول الأخرى». أما أغلب الأخبار الدولية الهامة غير ذات الصلة بالشأن الأمريكي، فتكاد تمر مرور الكرام. والأمثلة على ذلك كثيرة: لم يتابع عن كثب اعتقال رئيس تشيلي أوجستو بينوشيه وتسليمه (١٩٩٨) سوى ٣ بالمائة من الجمهور؛ انتخاب توني بلير (١٩٩٧) في بريطانيا العظمى، الذي أنهى ١٦ عامًا من سيطرة حزب المحافظين، لم يتابعه باهتمام سوى ٥ بالمائة من الجمهور الأمريكي؛ اتفاق السلام في أيرلندا الشمالية (١٩٩٨)، الذي أنهى عقودًا من الصراع، انتزع بصعوبة متابعة ٧ بالمائة من الجمهور؛ تابع ١٣ بالمائة فقط من الجمهور باهتمامٍ التصويت لصالح إنهاء أكثر من أربعة عقود من التمييز العنصري في جنوب أفريقيا (١٩٩٢)؛ عودة هونج كونج إلى حظيرة الصين (١٩٩٧) تابعها عن كثب ١٤ بالمائة؛ بل إن المفاوضات التي أدَّت مباشرةً إلى الوحدة بين شرق ألمانيا وغربها لم تلقَ متابعة مكثفة إلا من ٢١ بالمائة فقط من الرأي العام، وهو ما يقل بخمس نقاط عن المعدل المتوسط لجميع الأخبار. (روبنسون ٢٠٠٧: ٣١)

إذًا ما الذي يحدث؟ ما الذي يجعل واحدًا من أفضل شعوب العالم تعليمًا وتقدمًا — والذي يرتبط كثير من مصالحه بقوة بتلك القضايا الدولية الكبرى — يبدو بهذا القدر من اللامبالاة حيال الشئون الدولية؟ يمكن أن نجد الجواب الواضح في دراسة أخرى نشرها مركز بيو في يونيو ٢٠٠٢؛ أي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بعام واحد. ذهبت هذه الدراسة إلى أن من عليه تحمُّل وزر هذا الوضع هو وسائل الإعلام، لا جمهورها:

تقدِّم الدراسة الاستطلاعية دلائل قوية على أن الاهتمام العام بالأخبار الدولية يثبطه إلى حدٍّ كبير افتقار الجماهير إلى المعلومات الأساسية المرتبطة بها. فبوجه عام، ذهب حوالي ثلثي مَن يعيرون اهتمامًا متوسطًا أو ضعيفًا بتلك الأخبار (٦٥ بالمائة) إلى أنهم أحيانًا ما يفقدون اهتمامهم بتلك الأخبار نتيجة لعدم إلمامهم بالمعلومات الأساسية الضرورية لمتابعة تطوراتها. كشف الاستطلاع عن أن نسبة أقل من المشاركين يَعْزون عدم اهتمامهم بالأخبار الدولية إلى تكرار عرض الأخبار الأجنبية، أو بُعدها، أو التغطية المفرطة للحروب والعنف. (مركز بيو لأبحاث الشعب والصحافة ٢٠٠٢: ٢)

أظهرت دراسة استطلاعية مشابهة أُجريت في كندا لصالح القسم الإخباري بهيئة البث الكندية (سي بي سي) عام ٢٠٠٣ نتائج مشابهة (سي بي سي ٢٠٠٣). أعرب أغلب من شملتهم الدراسة عن شعورهم بأن «الأخبار» في جميع وسائل الإعلام كثيرًا ما كانت مربكة وسطحية، وتتراوح بين كونها «مزعجة ونمطية للغاية» إلى كونها «غير قابلة للفهم» بالكلية.

تاريخيًّا، كثيرًا ما أحجم الأمريكيون، وحكوماتهم، في واقع الأمر عن الانخراط في شئون العالم الخارجي. إن «أمريكا»، بالنسبة إلى كثيرين، جزيرة قائمة بذاتها منعزلة عن غيرها، وهو ما لا يمثل مشكلة لهم؛ فعلى أيِّ حال، لا تتجاوز نسبة الأمريكيين الذين يمتلكون بالفعل جواز سفر ٢٠ بالمائة. غير أن الدراسة التي أجراها مركز بيو عام ٢٠٠٢ وغيرها من الدراسات التي تتناول هذه القضية تُشير إلى سببٍ نادرًا ما يُطرَح في غرف الأخبار حاليًّا؛ وهو أن الصحفيين ينبغي أن يتحملوا القسط الأكبر من اللوم؛ فمن خلال تهميش التغطية الدولية وتعزيز القوالب النمطية العامة — كل ذلك استنادًا إلى افتراض أن «الجمهور لا يبالي» — خلق الكثير من المؤسسات الإخبارية نبوءةً مسلَّمًا بتحقيقها تكفل ببساطةٍ استمرار الوضع على ما هو عليه؛ ولذلك لم تطرأ تغيرات على أنماط «التفضيلات» الإعلامية الأمريكية حتى بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر.

تناولت سوزان مولر الأستاذة بجامعة ميريلاند الاتجاهات التي نحاها الإعلام في تناوله للأخبار الدولية. ترى مولر أنه نظرًا لأن أغلب وسائل الإعلام تفترض أن الجمهور ليس مهتمًّا بالأخبار الدولية، «فإن ثمة حاجة ملموسة إلى المبالغة في الترويج للتغطية التي تستهدف الأحداث «الخارجية» أكثر من تلك التي تستهدف الأخبار المحلية» (مولر ١٩٩٩: ١). مولر تشغل منصب مدير المركز الدولي للإعلام والأجندة العامة بجامعة ميريلاند، وهي صاحبة عدة مؤلفات، منها «فتور التعاطف: كيف يروِّج الإعلام للأمراض، والمجاعات، والحروب، والموت؟» (١٩٩٩).

تقدِّم مولر، في ذلك الكتاب، نبذة عامة عن تصورها ﻟ «العادات الأربع لتغطية الأخبار الدولية» والتي تُسهم في تفسير المشكلة:
  • (١)

    تقديم تسلسل زمني نمطي للأحداث: «يحب الأمريكيون أن ينظروا إلى الأمور من حيث تصنيف الأشخاص إلى أخيار وأشرار» (١٩٩٩: ١).

  • (٢)

    استخدام اللغة على نحو مثير للمشاعر وقائم على التهويل: «يتطلب الأمر المزيد والمزيد من التغطية المثيرة لاستدرار نفس القدر من التعاطف الذي أثارته الكارثة الأخيرة» (١٩٩٩: ٣).

  • (٣)

    اللجوء إلى استعارات وصور مجازية معينة تَلْقَى صدًى لدى الأمريكيين: إن هذا «يمكن أن يُعتبر امتدادًا لتوجه الإعلام نحو الإثارة، لكنه قد يكون محاولة أيضًا لإحلال الأمور الكمية المعلومة محل المعاني المعقَّدة، وذلك من خلال استخدام تعبيرات مجازية مفعمة بالحياة» (١٩٩٩: ٤).

  • (٤)

    التأكيد على صلة الأخبار بالشأن الأمريكي: «لا تستطيع وسائل الإعلام (لا سيما التليفزيونية) أن تتحمل تكاليف تغطية جميع الكوارث التي تقع، وذلك في ظل الخفض العام للميزانيات الإخبارية. ومِن ثَمَّ تختار تغطياتها على أساس شوفيني … فتُهمَّش أفريقيا، وأمريكيا الجنوبية، وأغلب آسيا في تلك المعادلة» (١٩٩٩: ٥).

وفقًا لمولر، فإن تلك «العادات» التي يتبعها كثير من المؤسسات الإخبارية هي التي تفضي إلى تسطيح تغطية الأحداث الدولية المعقَّدة والمشوقة في كثير من الأحيان.

(٣) إعادة العالم إلى بؤرة الاهتمام

ثمة نمط متكرر يظهر واضحًا للعيان كلما درسنا تناول الأخبار الدولية على يد الكثير من المؤسسات الإخبارية الأمريكية، خاصة الشبكات التليفزيونية الثلاث الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها الوسيلة الإعلامية الأكثر تأثيرًا.

  • التغطية باهظة التكلفة، ومِن ثَمَّ فهي محدودة.

  • ونظرًا لمحدوديتها، فإنها سطحية، ومربكة في كثير من الأحيان.

  • نتيجة لجميع ما سبق، يُعرِض الجمهور عن متابعتها.

  • ونظرًا لانصراف الجمهور، تشهد ميزانيات التغطية مزيدًا من الانخفاض.

  • ويستمر هذا النسق الحتمي دون انقطاع.

لكن ثمة منهجيات بديلة، ليس فقط في الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا، بل إن بعضًا من هذه المنهجيات تتبناها كبرى الصحف الأمريكية، مثل ذا نيويورك تايمز أو ذا واشنطن بوست أو الإذاعة الوطنية العامة. إنها تُحاكي، بطريقتها الخاصة، الأسلوب «الجريء» الذي تبنته الجزيرة، لكنها تُمثِّل الاستثناء، لا القاعدة.

يوجد نموذج آخر مثير للاهتمام في كندا، حيث تختلف الرؤى بشأن الأخبار الدولية — والدور المحوري الذي يلعبه الإعلام في تغطيتها — اختلافًا كبيرًا عن الرؤى التي يتبناها جيرانها الجنوبيون في الولايات المتحدة الأمريكية. كما أن تجربتهم تستدعي نموذجًا مختلفًا.

أجرت شبكة سي بي سي الكندية عام ٢٠٠٣ دراسة إخبارية كبرى، هي الأوسع نطاقًا من نوعها في كندا، لبحث مواقف الكنديين تجاه «الأخبار» و«المعلومات» في هذا القرن الجديد. أعدَّ الدراسة اثنتان من الشركات البحثية المستقلة التي تحظى بالاحترام، وقد استندت الدراسة إلى آراء آلاف الكنديين من جميع أنحاء البلاد ممن ينتمون إلى كثير من البيئات والظروف. ثُم وضع معدُّو برامج الشبكة «استراتيجية إخبارية» بديلة، جرى تصميمها بحيث تستجيب لاهتمامات الجمهور.

كانت النتيجة المذهلة التي توصلت إليها الدراسة هي أنه خلافًا لما هو شائع، فقد أشار أغلبية الكنديين إلى رغبتهم في الاطلاع على «مزيد» من الأخبار الدولية، لا العكس، وإلى إيمانهم أكثر من أيِّ وقت مضى بالأهمية الكبيرة لما جرى خارج حدودهم. لكنهم أعربوا أيضًا عن رغبتهم في «عرض الأخبار الدولية بعين محلية»، بحيث تكون أوثق صلةً بواقعهم وأقرب إلى متناولهم:

إن المسافات بين الدول تزداد تضاؤلًا، وصارت قضايا العالم هي ذاتها قضايانا. وكان ذلك نمطًا فكريًّا سائدًا على امتداد بحث سي بي سي. يُعزى ذلك، في بعض الحالات، ببساطة إلى أنه لم يَعُد بإمكاننا تجنُّب العالم، وفي حالات أخرى إلى أن التكنولوجيا والتغطية الإخبارية على مدار الساعة جعلتا أحداث العالم مشوقة ويسهل الاطلاع عليها. وهناك شعور بين أغلب الناس بأن القضايا العالمية هي، في الحقيقة، قضاياهم وتخصهم. ويبدو أنهم قادرون وبسهولة على خلق صلات بين الأخبار وبين حياتهم حتى لو كانت الأخبار خارج حدود خبراتهم تمامًا. لقد صار العالم الآن يدق أبوابنا، وسواءٌ شئنا أم أبينا، أصبح التعامل مع النزاعات العالمية وغيرها من القضايا حقيقةً لا مناص منها من حقائق حياتنا اليومية في الوقت الحالي. وهو ما صعَّد من الاستجابة للأخبار الدولية وأثار شهية المتلقين إلى المزيد منها. لقد أضحى الاهتمام بالأخبار الدولية، بالنسبة إلى كثير من الكنديين، ضرورة تُعادل في أهميتها الاهتمام بالأخبار المحلية، بل ويرون أن الفروق بينهما أمر غير ذي بال. إنهم يريدون «الأخبار الدولية بعين محلية».

رصدت الدراسة أيضًا أوجه الضعف العامة في عرض الأخبار — بما في ذلك الأخبار الدولية — والمرتبطة بجميع وسائل الإعلام، لا التليفزيونية منها فحسب، وهي كالتالي:
  • كثيرًا ما توصف الأخبار الدولية وصفًا أضيق مما ينبغي، بحيث يركز الصحفيون على الأخبار «السيئة» غير ذات الصلة الكبيرة بغالبية الجمهور، بالإضافة إلى استخدامهم للغةٍ غالبًا ما تكون مربكة، كما أنهم كثيرًا ما يختارون عرض الأخبار التي تهمهم أكثر مما تهم جمهورهم.

  • غالبًا ما تُعرَض الأخبار باعتبارها فعلًا سلبيًّا بدلًا من التركيز على تلك الأخبار التي تكشف تغيرًا ذا مغزًى يمكن أن يثير استجابة ذات مغزًى؛ ومِن ثَمَّ فإن قدرًا كبيرًا جدًّا من أخبارنا الحالية لا يعدو كونه «ذا أهمية عابرة» أو مثل «الضوضاء المحيطة».

  • ينبغي على الصحفيين أن ينقلوا المزيد من الأخبار القائمة على «قضايا» معينة والتي توضح الرؤية أمام الجماهير وتمنحهم فهمًا وخلفيةً وسياقًا، مع تقليل اعتمادهم على «الأحداث» الفارغة المفتعلة.

  • كما يُصرح الجمهور برغبته في التعرف على «كل» جوانب الخبر، لا جانبين فقط. إنهم يتطلعون إلى إنهاء ذلك العالم البسيط الذي يسوده اللونان الأبيض والأسود وإلى المزيد من التعرض لآراء ووجهات نظر أكثر تباينًا.

لقد أظهرت الدراسة أن اهتمام الكثيرين بالعالم الخارجي صار يُعادل اهتمامهم بعالمهم المحلي؛ وذلك لأن أمورًا كثيرةً جدًّا قد تغيرت.

لقد تغيَّر العالم. يبدو أن الناس، في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، يُقدِّرون على نحوٍ متزايد قيمة الأخبار العالمية وتأثيرها على حياتهم. كما أنهم لا يثقون في أيِّ محاولة لتقديم تغطية ناقصة للأحداث. وتتوقع الجماهير التعرف على السياق والحصول على رواية مثيرة للأخبار، ويريدون من الصحفيين كذلك أن يجعلوا القضايا العالمية مألوفة بالنسبة إليهم تمامًا كقضايا مجتمعاتهم المحلية؛ إنهم يريدون أن يروا نقلًا واقعيًّا للأحداث كما لو أنها كانت تحدُث داخل حدود بلادهم.

لقد تغيرت المجتمعات. إنها تتحول على نحو متزايد إلى عالم متعدد الثقافات، يرتبط سكانه بوشائج في كافة أنحاء العالم؛ فالمهاجرون متلهفون لتلقِّي «أخبار عن مواطنهم الأصلية»، وكثيرًا ما تنتقل العائلات من مسقط رأسها وإليه. كما أننا غالبًا ما نرى انعكاسات الصراعات العالمية في التوترات، والتطلعات، والنزاعات المتجلية في مدننا.

كما أن الجماهير قد تغيرت. يُعبِّر الجمهور، أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، عن رغبته في التعرف على التغيرات ذات المغزى التي تجري في بلدانهم وفي العالم الخارجي. وهو يتطلع لمعرفة أفكار الشعوب في مختلف أنحاء العالم والدوافع التي تحركهم. وهو يرغب في الحصول على معرفة أكثر تعمقًا مما يُقدَّم إليه حاليًّا.

أبدت شبكة سي بي سي في ٢٠٠٧ استجابةً شاملةً لتلك الدراسة؛ إذ زادت من وقت البث المخصص للأخبار الدولية، مع تركيز خاص على تقديمها بعين محلية، وأضافت فقرة دولية ثابتة — بعنوان «عالمنا» — إلى نشرة الأخبار الوطنية المسائية. أما فيما يخص الشبكة الإخبارية المتخصصة التابعة لسي بي سي، نيوز وورلد، فقد أضيفت ساعة من الأخبار الدولية كل مساء في ساعة الذروة. كما أن كثيرًا من البرامج التي حظيت بمشاهدات عالية على شاشة نيوز وورلد كانت وثائقيات تتعلق بالقضايا الدولية.

كما زادت سي بي سي من عدد مكاتبها الدولية. فحين عملتُ في الخارج كمنتج للأخبار والوثائقيات لحساب القسم الإخباري بشبكة سي بي سي خلال عقد الثمانينيات، عملت جنبًا إلى جنب مع الشبكات التليفزيونية الأمريكية. ولطالما أثار إعجابي ما كان يبديه الصحفيون وطواقم الإنتاج الأمريكيون العاملون في الخارج من تفانٍ ومهارة، لكنني كنت أحسدهم على مواردهم؛ ففي الثمانينيات، كان عدد الصحفيين العاملين في الخارج لحساب كلٍّ من الشبكات الأمريكية الثلاث الكبرى (إن بي سي، وسي بي إس، وإيه بي سي) يفوق بنحو عشر مرات عدد نظرائهم العاملين لحساب سي بي سي، ولا غرابة في تلك النسبة باعتبار أن التعداد السكاني للولايات المتحدة الأمريكية يفوق نظيره في كندا بنحو عشر مرات.

لكن حاليًّا، وبالرغم مما شهدته شبكة سي بي سي من اقتطاعات كثيرة في ميزانيتها خلال الخمس عشرة سنة الماضية، فإن القسم الإخباري بها يملك الآن عددًا من الصحفيين الذين ينقلون الأخبار الدولية يفوق نظيره لدى كلٍّ من الشبكات الأمريكية الثلاث الكبرى. أو، بمعنًى آخر، تمتلك الشبكة ١٤ مكتبًا إخباريًّا دوليًّا، وهو ما يُعادل تقريبًا عدد المكاتب الدولية التي تمتلكها الشبكات الثلاث «مجتمعة». لا شك أن هذه حقيقة تثير الذهول لو وضعنا في اعتبارنا مدى أهمية الحضور الأمريكي في العالم مقارنةً بالحضور الكندي.

اتبعت شبكات ومؤسسات إخبارية أخرى النهج نفسه وتوسَّعت في تغطيتها الدولية، وذلك كرد فعل للتوترات التي يشهدها عالمنا اليوم؛ فشبكة بي بي سي، مثلًا، تمتلك الآن ما يقرب من ٥٠ مكتبًا دوليًّا وأكثر من ٢٥٠ مراسلًا أجنبيًّا، وهو العدد الأضخم بين جميع المؤسسات الإخبارية على مستوى العالم.

(٤) لصالح مَن؟

ونحن نستعرض العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تبرز مسألة تحتاج إلى المناقشة العاجلة: حين يتخذ الصحفيون قرارهم بشأن مقدار التغطية التي سيعرضونها على الجمهور لهذا «العالم»، ما الجهات التي ينبغي عليهم أن يخدموا مصالحها؟

بالنسبة إلى من يعتقدون منا أن هذا العالم المتضائل يجرفنا، على نحو يؤثر في الحياة اليومية لكل فرد، تُمثِّل هذه الحقبة مرحلة مُثقلة بالتحديات؛ فنحن الآن جزء من «ثقافة إخبارية» تحظى فيها أخبار المشاهير كباريس هيلتون وآنا نيكول سميث بتغطية تفوق تغطية المآسي الفادحة كمأساة دارفور. لقد حان الوقت لنُمعن النظر جميعًا في الأسباب الكامنة وراء هذا الوضع.

أدرجت الدراسة الاستطلاعية التي أجراها مركز بيو، والتي أشرت إليها سلفًا (روبنسون ٢٠٠٧)، الأخبار «الصفراء» و«الخارجية» باعتبارهما المجالين «الأقل» إثارة لاهتمام الجماهير خلال العقدين المُمتدَّين فيما بين عامي ١٩٨٦ و٢٠٠٦. لا شك أن تغطية الأخبار «الخارجية» تقلَّصت خلال السنوات الأخيرة، وهو ما لا يصدُق على الأخبار «الصفراء»، التي شهدت «زيادة» كبيرة بصفة عامة. ورغم ذلك، لا يزال الاهتمام الجماهيري بالأخبار «الصفراء» محدودًا ولم يتزايد مؤخرًا.

لماذا ازدادت التغطية إذًا؟ أفادت الدراسة بأن الدافع وراء ازدياد تغطية الأخبار الصفراء لم يكن تلبيةً لرغبة جماهيرية واسعة، وإنما كان لأسباب تجارية وتنافسية؛ بتعبير آخر، من أجل اجتذاب قطاعات جماهيرية معينة من شأنها أن ترفع نسب المشاهدات وتُرضي المُعلِنين.

تناولت الدراسة وفاة عارضة الأزياء الأمريكية الشهيرة، آنا نيكول سميث، ودفنها عام ٢٠٠٧، وهي القصة الإخبارية «الملحمية» التي دامت تغطيتها ثلاثة أسابيع. أجرى كثير من المؤسسات الإخبارية، لا سيما الشبكات الأمريكية التي تُبث عبر تليفزيون الكابل، تغطية واسعة النطاق لتلك القصة الإخبارية؛ إذ خصصت لها ٢٢ بالمائة من كامل برامجها الإخبارية. ضاعفت سي إن إن نسبة مشاهديها، يوم وفاة سميث، ثلاثة أضعاف نسبتهم اليوم السابق للوفاة، وهو ما أشاد به المسئولون التنفيذيون اللامعون للشبكات التليفزيونية باعتباره استجابة للاهتمام الجماهيري.

غير أن دراسة مركز بيو قدمت تفسيرًا مختلفًا:

ما حجم هذا التحول من منظور الجمهور الوطني؟ ازداد مشاهدو قناة سي إن إن مبدئيًّا بمعامل قدره ٣، وهو ما يُترجَم إلى زيادة تقارب المليون مشاهد؛ أي أقل من نقطة واحدة حسب تصنيفات نيلسن. يمثل ذلك التحول، من منظور علم الاجتماع، أقل من نصف بالمائة من الشعب. كل هذا يمكن أن يُفسِّر لماذا هُرعت المنظومة الإخبارية الأشد تنافسية — وعلى رأسها الشبكات التي تُبث عبر تليفزيون الكابل — للقيام بهذه التغطية المحمومة لقصة سميث، وكيف كانت المؤسسات الإخبارية «محقة» بقيامها بهذا، من وجهة نظر تجارية واستنادًا إلى نسب المشاهدة. إلا أن هذه المعادلة، استنادًا إلى المنظور التجاري ونسب المشاهدة، لا تفسر الواقع بصورته الأشمل؛ وهو أن أغلبية الجمهور الوطني، حسب استطلاعات الرأي، لم يكن مهتمًّا بتلك التغطية أو لم يكن راضيًا عنها. (روبنسون ٢٠٠٧: ٩-١٠)

دعني أعيد الفكرة الرئيسية للدراسة على سبيل التأكيد: لقد أفضت الدراسة إلى أن قصة إخبارية صفراء لم تزد نسب المشاهدة إلا بمقدار مليون مشاهد فقط — في بلد يبلغ تعداده ٣٠٠ مليون مواطن — شغلت حوالي ربع البرامج الإخبارية المعروضة على الشبكات الأمريكية التي تُبَث عبر تليفزيون الكابل خلال تلك الفترة.

السؤال الآن: لصالح من تُتَّخذ هذه القرارات التحريرية؟ هل من غرابة، إذًا، في أن الدراسات الاستطلاعية الأمريكية تُشير إلى أن المصداقية الحالية للصحفيين والمؤسسات الإخبارية لدى الجمهور أقل مما كانت من قبلُ؟٤

إن مثل هذه النتيجة لم تكن لتُعَد مفاجأة في الغالب بالنسبة إلى الراحل نيل بوستمان، الناقد الإعلامي والثقافي الأمريكي، الذي كتب في ١٩٨٦ تحليلًا مثيرًا عن التليفزيون في كتاب بعنوان «تسلية أنفسنا حتى الموت». ذهب السيد بوستمان، في ذلك الكتاب، إلى أن التليفزيون، لا سيما الأخبار التليفزيونية، يتعامل مع القضايا الجادة باعتبارها مادة للتسلية ويبتذل الخطاب السياسي بتركيز اهتمامه على الصور أكثر من الأفكار. كتب في هذا الشأن يقول: «عندما تتلهى الجماهير بسفاسف الأمور، ويُعاد تشكيل الحياة الثقافية لتصير حلقة لا نهائية من التسلية، وتصبح المناقشات العامة ذات الطابع الجاد ضربًا من ضروب الأحاديث الطفولية؛ باختصار، عندما يُضحِي الشعب جمهورًا وتصير قضاياه وشئونه العامة مسرحية هزلية، تجد الأمة نفسها في خطر: تصبح وفاة الثقافة احتمالية واضحة للعيان» (١٩٨٦: ١٦١).

حين يتأمل المؤرخون هذا العقد، بعد عدة سنوات من الآن، أعتقد أن تقييمهم للأداء الإعلامي خلال هذه السنوات سيكون قاسيًا؛ فبالنظر إلى الحالة الراهنة التي يعيشها العالم، يصعب علينا ألا نرى أن الزعماء السياسيين اتخذوا قرارات كارثية في بيئة من الجهل والغطرسة، وأن مثل هذه الكوارث تغاضى عنها جمهور اختار، في أغلبه، أن يغضَّ الطرف، وإعلام إخباري كان في حالاتٍ شتَّى إما متواطئًا أو قاصرًا.

لا ريب أن هذا لم يكن الوضع المفترض لهذا العقد. ومع ازدياد خطورة هذا العالم كمكان نعيش فيه، ينبغي أن يمنحنا ذلك كل دافع ممكن لنحاول تصحيح مساره.

أسئلة يُجيب عنها الطالب

(١) هل توني بورمان محقٌّ فيما ذهب إليه بأن دراسة بيو المعنية ﺑ «التفضيلات الإخبارية» (روبنسون ٢٠٠٧)، والتي أظهرت قصورًا في فهم الأخبار الدولية البارزة، تثبت أن القنوات الإخبارية العاملة على مدار الساعة أخفقت في استغلال فترات البث خاصتها بطريقة مسئولة؟

(٢) حين تكثف القنوات الإخبارية تغطيتها لأخبار من شاكلة محاكمة أوه جيه سيمبسون واختفاء مادلين ماكان، الطفلة البريطانية ذات الثلاث سنوات، في البرتغال عام ٢٠٠٧، هل تقدِّم بذلك ما يطلبه المشاهدون أم أن ميزان التغطية الإخبارية مالت كفَّته بشدة نحو الأخبار الصفراء؟

(٣) ما الفارق الذي أحدثته الجزيرة فيما يتعلق بتغيير أجندة الأخبار الدولية؟ وهل بإمكان قناة إخبارية أفريقية متخصصة أن تُحقق الفارق ذاته؟

(٤) اختر خبرًا جاريًا وحلِّل كيفية اختلاف تغطيته باختلاف البلدان.

هوامش

(١) مع الانتشار الهائل لشبكة الإنترنت، توجد الآن مئات، بل ربما آلاف، من مصادر الأخبار المتاحة على مستوى العالم. بالنسبة إلى الشبكات التليفزيونية المتخصصة المكرسة ﻟ «الأخبار»، توجد حوالي ٢٠ قناة عامة و٧٥ قناة خاصة في العالم. إلا أن عددًا متزايدًا من الجمهور يعتمدون حاليًّا في استقاء أخبارهم على المواقع الإلكترونية الإخبارية. تتضمن هذه المواقع مواقع إخبارية ضخمة مثل جوجل وياهو وماي سبيس، بالإضافة إلى عدد لا يُحصى من المواقع التابعة للصحف ومؤسسات البث — والتي تقدِّم غالبًا محتوًى مسموعًا، ومرئيًّا، ومقروءًا — ناهيك عن آلاف المدونات المتفاوتة النوعية والتي تركز على الأخبار.
(٢) أحد التحديات الرئيسية التي تواجه وسائل الإعلام الإخبارية الأمريكية هو سلسلة عمليات خفض الميزانيات التي تجتاح الصناعة والمؤدية لإلغاء آلاف الوظائف الصحفية. تَعزو المؤسسات الإعلامية هذا التوجه إلى وجود ضغوط مالية غير مسبوقة عليها لتحقيق أرباح، غير أن أغلب هذه المؤسسات لا تزال تُحقِّق هوامش ربح تقدَّر بحوالي ٢٠ بالمائة، وهو يمثِّل مستوًى ربحيًّا ممتازًا مقارنةً بأيِّ قطاع أعمال آخر. ما المشكلة إذًا؟ يلقي كثير من المراقبين باللائمة على «استبداد رأس المال»؛ أي التوقعات المُبالغ فيها لدى المساهمين والمستثمرين (انظر مشروع التميز الصحفي ٢٠٠٧). في فبراير ٢٠٠٧، ألقى مذيع الأخبار السابق في سي بي إس، والتر كرونكايت، الكلمة الرئيسية في مؤتمر إعلامي أقيم في كلية الدراسات العليا للصحافة التابعة لجامعة كولومبيا. وحذَّر في تلك الكلمة من أن الضغوط التي تمارسها المؤسسات الإعلامية لتحقيق أرباح لا تتوقف عن التزايد تهدد مبادئ الحرية ذاتها التي أقيمت عليها الأمة. وأضاف أن الصحفيين اليوم يواجهون تحديات أكبر من تلك التي واجهها جيله، مشيرًا إلى أنه لم يعد بإمكانهم الاعتماد على مؤسساتهم لتزويدهم بالموارد الضرورية «لإزاحة النقاب عن الحقائق التي غالبًا لم يُرِد الساسة ومجموعات المصالح الخاصة من أصحاب النفوذ الكشف عنها»، بل «إنهم يواجهون سلسلة متتابعة من تقليص عدد الوظائف وتكاليف التغطية، وهو ما يوجب عليهم أن ينجزوا المزيد بإمكانيات أقل» (كرونكايت ٢٠٠٧).
(٣) إن مؤسسة محمد أمين هي مركز تدريبي في البث التليفزيوني أنشئ عام ١٩٩٨ لتدريب مقدمي البرامج التليفزيونية الشباب في كينيا وشرق أفريقيا (http://www.moforce.com).
(٤) إن الدراسة الاستطلاعية الأمريكية التي أجراها مركز بيو للأبحاث في الفترة من ٩ إلى ٢٥ يوليو ٢٠٠٧ «أكدت على التغير الجوهري الحاصل في المواقف الأساسية تجاه الإعلام الإخباري، وهو التغير الذي بدأ منذ منتصف الثمانينيات. أظهر استطلاع الرأي المبدئي الذي أجرته مؤسسة تايمز ميرور بشأن الصحافة عام ١٩٨٥ أن الجمهور عاب على المؤسسات الإخبارية كثيرًا من ممارساتها؛ فقد أعرب أغلبهم عن اعتقاده بأن المؤسسات الإخبارية «تحاول إخفاء أخطائها»، بينما ذهبت الأغلبية العظمى إلى أن هذه المؤسسات «لا تكترث بأولئك الذين تنقل أخبارهم» وتتسم بالتحيز السياسي. لكن هذه الانتقادات شملت خلال العقد الماضي طائفة أوسع من الاتهامات التي تتعلق بدقة التغطية الإخبارية، وتأثير المؤسسات الإخبارية على الديمقراطية، بالإضافة إلى أخلاقيات هذه المؤسسات، إلى حد ما. رأى أغلب الأمريكيين (٥٥ بالمائة) عام ١٩٨٥ أن المؤسسات الإخبارية تعرِض الحقائق كما هي. لكن منذ نهاية التسعينيات، دأبت الأغلبية — ومن بينها ٥٣ بالمائة في الدراسة الحالية — على التعبير عن إيمانها بأن القصص الإخبارية كثيرًا ما تفتقر إلى الدقة؛ ومِن ثَمَّ فإن معدلات المصداقية التي تحظى بها المؤسسات الإخبارية الفردية أقل حاليًّا مما كانت عليه خلال عقدَي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي» (مركز بيو لأبحاث الشعب والصحافة ٢٠٠٧).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤