حكمة وجود الدولة

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ هكذا أفصحت الآية عمَّا كان يدور في خَلَد العرب في عهد ما قبل الرسالة. ويا لها من آية تُفصح أيَّما إفصاح عمَّا تختلج به نفوسنا، نحن العرب المعاصرين! فمن منَّا لم يحلم بإقامة دولة تُعيدنا إلى موكب الحضارة، فتجعل شأننا ذا وزن في مصير العالم؟! من منَّا لم يحلم بإقامة دولة تجمع العرب تحت راية العروبة فتُطهِّر ديارنا من دنَس الأغيار؟! ومن منَّا لم يطمح إلى شَرَف الإسهام في إقامة صرح هذه الدولة؟!

ولكن هل ما نحلم به ونطمح إلى تحقيقه نزوة عابرة، أم هو شوق يتمخَّض عنه صميم كِياننا؟ إن الإجابة عن السؤال تستلزم سبْر أغوار الإنسان وتحليل الظروف التي تكتنفنا كعرب. وها نحن نُحاول ذلك مُظهرين فيما يلي أصول الدولة ومهامَّها.

لمَّا اشتقَّ الذهن العربي كلمة إنسان من الأُنس (أنس)، دلَّ على حدسه في أن الاجتماع أصل في الطبع البشري، دلالة يلتقي بها مع أرسطو الملقَّب بالمعلِّم الأول. ألم يُعرِّف فيلسوف إغريقيا الإنسان بأنه حيوان اجتماعي بالطبع؟!

ولمَّا أنشأ الذهن العربي صيغتَين للجمع؛ صيغةً لجمع العاقل (السالم)، وأخرى لجمع الأشياء (المكسَّر)؛ أدرك أن علاقة الفرد بالجماعة تختلف عن علاقة الشيء بالكومة؛ فالأولى تقوم بذاتها، بينما الثانية تتبع موقف الذهن منها. ولمَّا اتخذت صيغة جمع العاقل صورةً مفخَّمةً للمفرد، بتحويل التنوين من المفرد المذكَّر إلى مُفخَّمه (الواو والنون) في جمع المذكَّر؛ «مؤمن-مؤمنون»، وبتحويل الفتحة والتاء في المفرد المؤنث إلى الألف والتاء الطويلة في الجمع المؤنث؛ «مؤمنة-مؤمنات»، دل هذا الاتخاذ على أن المجتمع محل نمو أعضائه، وهو منهم كالشجرة من البراعم، أي إنهم يستمدُّون منه نسغ الحياة.

وهل كانت المجتمعات القديمة لتسهو عن مدى تعلُّق الفرد بالجماعة؟ ألم تكن عندهم عقوبة الخلع من حظيرة الجماعة أشد عقوبة يُنزلها بالشُّذَّاذ من بينهم؟ ومتى انزوى الإنسان عن أقرانه أدرك مرارة العُزلة، وبدا له المجتمع كالهواء من الأحياء أو كالماء من السمك.

كذلك هو المجتمع على مثال الجسد، وسط يمد الحياة بأسباب النمو والازدهار، فإذا كان الجسد يستدرج بنموِّه الميول إلى الظهور في ساحة الشعور، فإن المجتمع بتطوُّره يستجلي الحدس الذي عليه تقوم إنسانية الإنسان.

إن تأثير المجتمع في إنماء أعضائه وفي صوغه إياهم على صورته، لأبعد مدًى ممَّا يُخيَّل لأول وهلة؛ عندما تتمثَّل أوضاع البيئة الإنسانية في الذهن؛ تنبعث معاني هذه الأوضاع من نفوس الذين تمثَّلت لهم، فمثَل الأوضاع العامة في بعث معانيها كمثَل كلام من مقال، بل كمثل أصداف تدعو بقوة سحرية الحياة التي أنشأتها إلى العودة إلى مسرح الطبيعة.

ولئن كانت أوضاع المجتمع المتمثلة في الأذهان تدعو معانيها إلى البدور في ساحة الشعور، حتى تُصبح النفوس مثقلةً ببذور الثقافة، كما تُصبح الحوامل مثقلةً بثمرات فؤادهن؛ فإن المعاني المتجلية من حيث الوضوح ومن حيث شدة النزعة للتحقُّق تختلف من نفس لأخرى.

كذلك هم أعضاء المجتمع، يرتبط بعضهم ببعض بروح مشتركة، هي معنى الأوضاع العامة، روح يتلمَّسها العوام (من عَمِيَ، عَمَه)، ويُفصح عنها النوابغ (من نب، نبغ)، بحيث يُصبح هؤلاء من أولئك بمثابة الحواس من الخلايا الأخرى في الجسد؛ ومن هنا يأتي مبدأ المشابهة بين أعضاء المجتمع وبين أعضاء الجسد. ومتى ما بزغت المعاني من تحت الشعور حملت أصحابها على الإفصاح عنها بوضع أمثل؛ ومن هنا ظهور الإصلاح بمظهر الرسالة المشرقة من علٍ، تشرئب النفوس إليها أمنية.

ذلك هو المجتمع، أوضاعه مستفاضة رموزًا في المكان، وجذور هذه الأوضاع المتبلورة في الرموز معانٍ تنبثق من أعماق الوجدان. مثَل الأوضاع العامة كمثَل النباتات المائية التي تطفو أوراقها على السطح وتمتد جذورها في الأغوار.

وإذا اشتق الذهن العربي من نفس المصدر كلمة «عقيدة»، التي هي مبدأ الثقافة، وكلمة «انعقاد الجنين في الرحم» التي هي مبدأ الحياة؛ فقد فطن للشبَه في التكوين بين المجتمع والجسد. فكما أن الحياة نظام من الوظائف في الجسد يقوم بأداء كل منها عضو معيَّن، فكذلك هي في المجتمع يقوم بأداء كل من وظائفها أحد المواطنين. وقد عبَّر الذهن العربي عن النظام في المجتمع بكلمة «عدالة»، كما عبَّر عن النظام في الجسد بكلمة «اعتدال»، وتعبيرًا عن الحدس العربي هذا اتُّخذ الميزان شعارًا للعدالة.

هناك نظام قيِّم خاص بكل مجتمع، كما أن لوظائف الحياة نظامًا خاصًّا لدى كل نوع حيواني. وإذا كان نظام وظائف الحياة يخضع تكوينه لتداخل عاملين؛ عامل الملاءمة مع البيئة الطبيعية، وعامل وجهة نظر النوع في الدنيا. فإن نظام القيم هو أيضًا يخضع تكوينه لفلسفة الجماعة من جهة، والقاعدة استقرار الجماعة في الطبيعة من جهة ثانية. إن الشريعة بناء مماثل في محاولته التوفيق بين الوسائل والغاية لِفن العمارة في توفيقه بين مقتضيات طبيعة مواد البناء وبين إلهام المعمار.

كل شعور يُفصح عن ذاته ببادرة هي منه بمثابة الجسد من النفس، والبادرات الطبيعية يشترك فيها أبناء النوع الواحد، حتى إذا ما مثلت في ذهن أحدهم؛ بعثت في نفسه الشعور الذي تُعبِّر عنه، ومن هنا نشأ التفاهم الرحماني بين الأحياء، ومن هنا بدأ التعاون بين الإخوان على تحقيق الأهداف المشتركة، وعلى رفع الحيف بعضهم عن بعض. وهل العمل إلَّا امتداد لنزوع المعنى إلى التحقُّق؟

ومن غريب الأمر أن يبدو الشعور الموحى منبعثًا من النفس من أفق غير أفق مشاعر الجسد، أي أن شعورنا بآلام إخواننا أعمق منبتًا في نفوسنا ممَّا هو في صاحب الألم، عمق يُضفي على ما بدَر في نفسه هالة من الروعة، ومن هناك كان تفوُّق الواجبات على الحاجات؛ وذلك ما يوحي بأن الإيثار أصل في الطبع البشري، لا الأنانية. وهل من غرابة في ذلك؟ ألا يُمثِّل الإيثار الحياة نفسها في فيضها، في حين أن الأنانية نزوع ظواهر الحياة إلى التفرُّد فالجمود؟

إن كلمتَي «شعور» و«واجب» تدلان بأرومتهما اللغوية «شع» و«وج» على أن الشعور ينجم في الوجدان من التجاوب الرحماني بين الإخوة، وأن الواجب إنما هو استجابة قويمة تُجيب بها النفس على وضع منحرف، تُجيب بها إجابة تتفاوت بالشدة والرفعة. فإذا اعترى كِيان الحياة عطب، بدا الواجب ملتبسًا بشعور الرحمة (من الرَّحِم). وإذا أصاب نظام المجتمع خلل، بدا الواجب ملتبسًا بشعور العدالة (من عِدْلَي الفرس). وإذا انتاب وضع المجتمع البلى، بدا الواجب ملتبسًا بشعور الدعوة إلى الإصلاح.

كذلك هو الواجب، إجابة تتجلَّى في النفس كمعرفة وعمل، إجابة ترمي إلى ترميم العطب في كِيان الحياة، وإلى رفع الحيف عن الإخوان، وإلى استبدال الواقع الجائر البالي بآخَر يتفق مع روح المرحلة التاريخية الراهنة.

إن النفس تتخطَّى بالواجب دائرة الميول وأغراضها المغلقة إلى كِيان رحماني متفتِّح نحو التسامي. وقد ترتقي النفس به حتى تبلغ العقيدة مصدر وجود النظام؛ وعندئذٍ يتجلَّى لها معنى المرحلة التاريخية حقيقةً إنسانية.

هذا، ولمَّا كان الإنسان ذا طبع مزدوج المظهر، يتردَّد أثناء العمل بين المبدأ والغرض، تارةً يبقى على حدود الواجب، وأخرى ينساق نحو الغاية. ولمَّا كان هذا التردُّد يتحوَّل إلى حرية يتعيَّن بها موقفه من المتناقضات: الصدق والكذب، الغدر والوفاء؛ فقد أصبحت علاقته بإخوانه تختلف عن علاقة الخلية بشقائقها الخلايا الأخرى في الجسد، عن العلاقة التي تُضارع في خضوعها قوانين حتميةً كالذرات الكيماوية مثلًا، وحتى عن علاقة الحيوان بالقطيع في خضوعه للغريزة، وذلك ما يجعل موقف المرء، موقف الحر، بين المصلحة والواجب، يفترق إلى دعامة تدعم إرادته في اختيارها سبيل الحق وفي تثبُّتها عليه في القول وفي العمل. وليست الدولة إلَّا تلك الدعامة التي تدعم الحق بنزعته إلى التحقُّق.

إن للحاجات فتنتها، وإن للواجبات روعتها، ولكن الإرادة بين الحاجات والواجبات كأنها بين سطح منحدر وبين شماريخ متعالية، ممَّا يُلزِم المرء الاستعانة بالجماعة كمسند يسنده في صبوته نحو الوضع الأمثل.

أرانا موضِعين لأمر غَيب
ونُسحَر بالطعام وبالشراب
امرؤ القيس
وما زلت سبَّاقًا إلى كل غاية
بها يُبتغى في الناس مجد وإجلال

إن للمجتمع وسائله في كبح جماح الأفراد، فهو يردع من تُسوِّل له نفسه تخطِّي حدود الاعتدال، وذلك بالاستهجان وبالاستهزاء، ولولا ذلك لاسترسل الناس في شهواتهم حتى أصبحوا عبيد نزواتهم. وليس القبح إلَّا المظهر المتبلور لطغيان الشهوات، مظهر يرمز إلى تقصير المرء عن غايته وهبوطه إلى ما دون البهيمة. وإذا تطاول أحد الشذَّاذ على حقوق الآخرين متخطِّيًا بهذا الاعتداء حدود العدالة، دعاه المجتمع بالقصاص إلى التأمُّل في مبدأ الحق مصدر وجود النظام. تلك دعوة ينجلي عن التأمُّل فيها مبدأ الحق في النفس، كما تنجلي السماء بعد العاصفة؛ وعندئذٍ يذكو الشعورُ بالواجب صوتَ الإنسانية الداوي في نفوس الأفراد. هكذا يستهدف المجتمع من الاعتدال والعدالة جعل أعضائه في أحسن تقويم، جعلهم وسطًا بين السماء والأرض، بين الآيات والأشياء.

ولمَّا كان الإنسان يتردَّد أثناء العمل بين الميل إلى حاجاته وبين دعوة الحق من علٍ، وكان لكل من الطورين دعامته، للميل لذَّاته التي تنبعث من ثنايا البوادر الجسمانية المرافقة لتحقُّق الغرض، وللحق بهاء رفعته، فقد أصبح المجتمع يدعم الحق بالتربية وبالاصطفاء في الوراثة.

أُشاور نفس الجود حتى تُطيعني
وأترك نفس البخل لا أستشيرها
وإني لأستحيي صحابيَ أن يروا
مكان يدي في جانب الزاد أقرعا
أُقصِّر كفي أن تنال أكفهم
إذا نحن أهوينا، وحاجاتنا معًا
«حاتم الطائي»

وصفوة القول إن الإنسان ذو بنيان رحماني مثالي من جهة، وحر في الإقبال على المثل الأعلى أو الإعراض عنه من جهة ثانية، فهو بحكم بنيانه الرحماني ينزع إلى الإيثار، وبتعبير آخر إن حقوق الإخوان تبدو واجبات منبعثةً من نفسه، وهو بحكم بنيانه المثالي ينزع إلى إبلاغ كل شيء كماله، ولكن النزعة تظهر في الوجدان صورة، والصورة تزهو إذا تبنَّتها الإرادة، وتضمر إذا أعرضت عنها، ولو رافق الإعراض التأنيب والتقريع «عذاب الوجدان».

إن الدولة هي نزعة الحق إلى إحقاق ذاته عند الناس، وليست قدسية السلطة إلَّا هالة الحق المستفاضة على رجل الدولة استفاضةَ قدسية الواجب على صاحب المروءة. وأمَّا الإمرة والطاعة فهما الميل المشترك إلى المسابقة في تحقيق الأمنية. وإذا تفاوت الناس في الإمرة والطاعة فيما بينهم، فإن التفاوت يرجع إلى الاختلاف بينهم في وضوح الرأي في الشئون الإنسانية وفي تأثير هذا الوضوح على العمل بمقتضاه.

هكذا يستمد سلطان الدولة قدسيته من مبدأ يتعدَّى بنشأته حدود دائرة القوى المغلقة في الطبيعة، وهكذا تفتقر الإرادة في موقفها موقف الحر بين الواجبات والمصالح إلى دعامة الدولة.

هناك أسباب أخرى تدعو إلى تبلور نزعتَي الإنسان إلى الإمرة والطاعة في جهاز معيَّن، منها حماية حقوق الجماعة، تراثها ومجالها الحيوي. وكلمة «سيد» تُشير بأرومتها سد «حماه» إلى تلك الحقيقة، وتُؤيِّد وجهة النظر هذه كلمتا «أسود وأسد» المشتقتان من ذات المصدر؛ فالسبع أسد إذا حمى غابته من المعتدين، والأسود هو من تخلَّف عن الاشتراك مع الآخرين بحماية حقيقة الجماعة؛ وعلى هذا فإن السيادة امتداد للأبوة تقوم على الكفاءة لقيادة الجماعة.

تلك هي السلطة، مزيج من قدسية الحق ومن الكفاءة للقيادة، وإنما الاختلاف بين الإمرة والطاعة يقوم على اختلاف في النوع فيما هو مشترك بين الجماعة.

ولمَّا يبلغ المجتمع مستوى الحرية، حرية الاشتراك مع العناية في تعيين مصيره؛ يُعيد النظر في مقوِّمات حياته العامة، فيبني على مسئوليته الوضع السياسي الأقرب للإفصاح عن وجهة نظره في الدنيا؛ وعندئذ يُضاف إلى سلطان الحق سلطان العهد. ألا تضارع الحرية الوحي في القدسية، قدسية نشأتها من فوق سلسلة الحوادث الطبيعية؟ وهل من صفة غير الحرية تسمو بالإنسان حتى يُصبح على مثال بارِئه ذاتًا مبدعة؟

هكذا تقوم الدولة في أعلى مراتبها على إقرار الإرادة.

هذا وإن الظروف التي تُحفِّزنا إلى إقامة دولة عربية تجمع شملنا، قد لخصتُ رأيي فيها في مستهلِّ حديثي عن مأساة لواء الإسكندرونة لطلاب الجامعة السورية، وهاك بعضًا من هذا الحديث:

كان العرب فيما مضى سادة العالم. كانت كلمة عربي — في عرف الأقوام — مرادفة لكلمة شرف، حتى إذا ذكر الناس محاسن امرئ قالوا عنه: جميل كالعربي، نبيل كالعربي. كان سلطان أجدادنا قد امتدَّ من سد الصين إلى جبال البيرينيه، وكانت طليعة جيشنا قد تقدَّمت حتى باريس في الغرب، كما كان خلفاؤنا قد أخضعوا لولائنا ملوك الصين في الشرق. وكُنَّا إذ ننتشر على وجه الأرض إنما كنا نبتغي إعلاء كلمة الحق.

ونحن لسنا أمةً وسطًا بمعنى الأكمل الأقرب إلى مقوِّمات الإنسان وحسب، بل إن بلادنا هي أيضًا وسط بين الغرب والشرق، على ملتقى القارات، تُشرف من جهةٍ على المحيط الأطلسي، وتُشرف من جهة أخرى على المحيط الهندي. ولكن إذا كانت أرجاء العالم من تركستان إلى فرنسا لم تزل تُدوِّي بها سنابك خيلنا، وإذا كان موقع موطننا في العالم يجعل منا الحكم في مصير الأقوام؛ فإن شأننا هذا هو السبب في تألُّب الدول الكبرى منها والصغرى على الحيلولة دون نهضتنا. وليس لسبب آخر توالت علينا المآسي: مأساة كيليكيا ومأساة إسكندرونة … إلخ. وماذا نرى لو أجَلنا الطرف إلى الوراء؛ انكفأنا عن فرنسا وإيطاليا والهند وتركستان وإيران، ومن ثَمَّ انكفأنا عن الأندلس، وأخيرًا أمست ديارنا نهبًا بين الأغيار.

ونحن نستخلص من وجهة النظر المتقدِّمة في أصول الدولة مهامَّها. ولمَّا كانت الدولة شخصية المجتمع الواعية؛ فقد أصبحت مهامُّها مهام المجتمع نفسها، وبناءً على ذلك فإن مهمَّة الدولة الأولى أن تأخذ بأيدي المواطنين فترفع بهم إلى مستوى الحرية، بحيث يتسنَّى لهم أن يشتركوا عن وعي في المصير العام، كما يسمو المجتمع بأعضائه على موج المشاعر التي تفيض من التجاوب الرحماني بينهم إلى ينبوع المكارم، سُموًّا يُصبح فيه كلٌّ من مواقفهم المبدعة لُحمةً في نسيج الحضارة. وإذا ما تدفَّقت المشاعر في الوجدان انجرفت بفيضها الحدود المرسومة من الأنانية أو بتأثير العادة، في جو كهذا ينعم الجميع بالحب والفضيلة، بموقف يُشرف منه المرء على المصير كما أشارت إلى ذلك كلمة «حب» المتضمِّنة معنى الاعتلاء، بموقف تفيض منه الحياة كما أشارت إلى ذلك كلمة «فضيلة» المشتقة من الفيض.

ومهمَّة الدولة الثانية هي أن تُنظِّم المجتمع تنظيمًا يتمكَّن به كلٌّ من المواطنين من أن يجعل الانسجام تامًّا بين حاجاته وبين حقوق الآخرين. إن الدولة حارس للنظام، ومراقب على توزيع المصالح بين الناس. ولمَّا كان المجتمع ذا نظام رتيب، وكانت كلٌّ من مراتب وظائفه تطلب مستوًى معيَّنًا من الاستعدادات والمواهب؛ فقد أصبح مبدأ تكافئ الفرص بين المواطنين أسَّ القواعد في إعداد ذوي الأهلية للقيام بالمهام المختلفة للدولة.

ولكن هل تبقى وظيفة الدولة عند مساندة المواطنين في صعودهم نحو الآفاق الرفيعة، حيث تزداد الحياة بهاءً وحرية؟ أوَلا تحثُّهم على التعاون على إخضاع ظروف البيئة لمشيئتهم، فتجعل هذه الظروف جوًّا ملائمًا لازدهار الحياة؟ إذا كان الغرض من الاجتماع هو إنماء الحياة بالتجاوب الرحماني وإخضاع ظروف البيئة؛ فإن الدولة تهدف إلى إيجاد الجو الملائم لأن يستجلي كلٌّ من المواطنين عبقريته في حدود استعداداته ومواهبه الخاصة.

هكذا يستكمل المجتمع شروط مهامِّه بالدولة، كما يستكمل الجسد شروط كِيانه بعبقرية ذات تصرُّف في مصيرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤