ما هذه مقدمة

يا سبحان الله! قلَّما خلت عادة من فائدة، فالمرحوم والدي — رحم الله موتاكم جميعًا — كان يجبرنا على الصلاة الجمهورية كل مساء، فلا ينساها ليلة، ولا يخرم منها حرفًا. أذكر أنه ساقنا كلَّنا مرة، وركعنا بجانب فراش أمي الممغوصة، وقال لها: «يا أمَّ مارون، صلي معنا تصحِّي.» حاولت المسكينة أن تضحك فكشَّرت، وقالت: «أهي فنجان بابونج أم كأس عرق؟» فضحك، وقال: «صلِّي، بعد الصلاة يكون ألذ وأطيب.»

كانت أمي — نيَّح الله نفسها — من القانتات؛ تحب الصلاة كثيرًا، كيف لا وهي بنت الخوري موسى الذي كان يتوسَّل إلى ربِّه بصلاة أطول من يوم الجوع، ليرفضَّ عنه الشباب الذين يسهرون عند بناته الكثيرات … وقد سمَّاهن كلهن على وزن واحد، وإليك اسم المرحومة الوالدة «كاترينا»؛ لتعلمه، وتقيس عليه … ولكنها — أي أمي — كانت تهوِّم متى قامت الصلاة، فتأخذ بالسجود اللاشعوري، ثم لا تنفك تفعل ذلك حتى يرفع الوالد عقيرته مرتلًا «طلبة السيدة». وكثيرًا ما كان ينكعها إذا لم توقظها أول كيرياليسون … ثم يمضي غردًا كفعل الشارب المترنم على ما في صوته من بحة وصَحِل. وإذا استعجلنا نحن أخذ يتمطط هو على هواه، فنسير الهوينا اتقاءً لشره، ثم لا نتنفس إلا حين يناجي العذراء، ويضعنا «تحت ذيل حمايتها» … ولكنه يعود فيستأنف الصلاة من جديد، فتكون كذنب الطاووس في الكبر لا في الجمال، فيقول خمس مرات: أبانا وسلام لأجل راحة نفس جدِّكم؛ ليعامله الله بالرحمة. ويفرض مثلها لجدِّنا الآخر، ولجدتنا الأخرى، ومثلها لأقاربنا أجمعين، ومثلها لجميع الموتى المؤمنين، ومثلها لأجل ارتفاع شأن الكنيسة المقدسة، ومثلها لكل من آجر في بناء كنيسة الضيعة، ثم لأجل من له علينا فضل وتعب، وأخيرًا لأجل «المنقطعين».

قد لا تكون جنابك من «شعب الله الخاص» فلا تفهم ما يراد «بالمنقطعين»، وقد لا تستطيع الوصول إلى الصديق الأستاذ الغلبوني؛ ليشرح لك من هم، فقد ورث الاهتمام بأمرهم عن المرحوم أبيه الفاضل. والأستاذ الغلبوني مفضل على أبي؛ لأنه قام مقامي، وقدس لأجل خلاص نفسه أربعين قداسًا … كان الأستاذ قد ظن أن والدي من «المنقطعين»، وعد وجودي كالعدم … فهنيئًا لوالدي. أما كافأه الله حالًا، على ذكره المنقطعين بصلاته طول العمر!

إخالك فهمت من حديثي من هم «المنقطعون»، إنهم أولئك الذين ليس لهم عقب يصلي لأجلهم ويقدِّس، أظنني أفهمتك، ولكن بعد ما فلقتك، فقل: صبر جميل، واسمع أيضًا.

ولما كبرنا أخذنا نتشاغل عن الصلاة، وأمسى والدنا يصلِّي ووالدتنا، ولما صار أرمل مثلي — ومن يشابه أبه فما ظلم إلا في الصلاة — أخذ يصلِّي وحده، وظل على ذلك حتى آخر ساعة.

ففي ليلة من ليالي صيف سنة ١٩٣٠ سهر معنا كعادته، وأطربنا بنكاته البريئة، وأخباره الطريفة، وقبل أن يتدهور الليل قال: يا الله، علينا صلاة، فشقَّ علينا ذهابه؛ لأنه برغم الخمسة والسبعين كان فتيَّ الروح، فركع على تخته قبالتنا، في بيتنا المناوح بيتي، وشرع في صلاته ينبر نبرًا، ويرسل الجمل متقطعة كأنه الحجاج يخطب في الكوفة، وظل يفعل هذا أكثر من ساعة، وضيفي الأستاذ جبرايل كان يسمع ويطرب؛ لأنه مصلٍّ كوالدي.

وأخيرًا صلَّى الوالد صلاة «المنقطعين»، وتمدَّد في فراشه وهو يقول: «حطيت راسي عافراشي، سبع صلبان فوق راسي … مار مخايل يا ملاك، تعينني وقت الهلاك … إلخ»، ثم تلحَّف، وهو يقول: يا رضا الوالدين، يا رضا الرب.

فقلت لجبرايل: انتهت المعركة بسلام، وتصالح الوالد مع الله، ونال رضاه ورضاهما، وسينام على سكين ظهره حتى الصبح.

ولما أصبحنا جاء والدنا يسأل جبرايل عن نومته، وكيف وجد مناخ عين كفاع، أهو مثل مناخ «مار ماما» أم أحسن؟ فأحسنَ جبرايل الرد، ولم يزد على الواقع، أما أنا فقلت: النومة هنيئة، لا برغش، ولا بقَّ، ولا ناموس، فقال: لا تقل ولا ناموس … فضحكت لاستدراكه، وأعجب به صديقي الأستاذ.

ثم عدت وقلت: ولكن صلاتك كانت عياطًا، كأنك تقاتل ربَّك، طوَّلتها يا شيخ بومارون! فأجاب بغلظة: اسكت يا معتوه، أصلي عني وعنك، وتقول طوَّلتها؟! يا ويلك متى مات بو مارون.

أجل، لقد بعد العهد بيننا وبين تلك الصلوات، ولكنني فطنت في هذه الأيام إلى أن الصلاة «للمنقطعين» نفعتني جدًّا، إن لم يكن في الدين ففي الأدب، وكم للدين عند العلم والأدب من يد. إني ميال جدًّا إلى «منقطعي» الأدب، وكثيرًا ما أفكر بهم، ولهذا دعوت الأمة العربية منذ خمسة عشر عامًا إلى الاحتفال بذكرى الخمسين لأحمد فارس الشدياق أعظم نوابغنا في القرن التاسع عشر، ولكن كلامي ذهب كصرخة في واد.

وها أنا ذا أعود اليوم إلى هؤلاء «المنقطعين» جميعًا، وإذا ذكرت معهم من لم يحرموا من يذكِّر الناس بهم، ويطري آثارهم، فلأن سياق الكتاب يقضي بذلك، ثم لأنهم جاهدوا جهادًا حسنًا في بناء النهضة التي نفاخر بها، وإذا طالت المدة ولم تقتلنا شدة، فسوف نكتب كتاب «رجال النهضة» أحياء وأمواتًا.

والآن ألتمس منك أيها القارئ أن تقرأ جيدًا، أو أن لا تقرأ، اترك كتابي في ذقني إذا رأيتني أقول فيه ما لا توافقني أنت عليه، فالناس تناضل اليوم لأجل حرية القول، وها أنا أهبك حرية القراءة، فهب لي من لدنك ما التمست منك.

نصيحة لا حاشية: إذا كنت لم تقرأني بعد، فنصيحتي لك ألا تفتش عن شيء، بل اقرأ كل شيء لتجد ذلك الشيء … وقد أعذر من أنذر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤