الروَّاد العتاق

شعراء نسَّاك ومتصوِّفون

بلا عنوان

لقد احترت في تبويب هذا الكتاب؛ لم أستطع فصل الشعراء عن الكتاب، لأن كل من حمل قلمًا قال شعرًا … فمن يدريني، بعدما قرأت قصيدة لفرح أنطون قال إنها «بيضة الديك»، أن ليس لكتابنا الآخرين بيوض ديكة، ولكنهم آثروا أن يكنُّوها، كما كنَّ الحجاج أهل الشام …

وإني لأخرج من هذا — بعد هذا — مصدقًا قول من زعم: أن الأندلسيين جميعًا، نساء ورجالًا، قالوا الشعر، ومؤيدًا قول الآخر: أن الشعر أسبق من النثر في آداب الشعوب. وأخيرًا خرجت من ظلمات هذه الحيرة، فأحصيت كل «رائد» حيث وجدته أبعد أثرًا، وأخطر شأنًا …

وإني أنذرك — منذ الآن — بألا تنتظر مني ذاك النقد المرَّ الصارم؛ لأن عيوب الأوائل منهم كثيرة.

وإقرارًا بفضل هؤلاء أزيد: أن الأدباء كمنارة الشاطئ، فهي تضيء أبدًا، ولا يقرُّ جيرانها بفضلها الذي يعرفه القادم من بعيد …

(١) القافلة الأولى

(١-١) المطران والخوري

المطران جرمانوس فرحات

هو أول رائد أعجبته خضرة الدمن، وإذا ما تحدثنا عن فجر النهضة الأدبية فلسنا نعني البلاغة العربية، فالعالم العربي لم يخلُ قط من الفصحاء، بل ممن هم أفصح وأبلغ من أكثر هؤلاء الذين نسميهم الرواد العتاق، فعندما يتكلمون في الأدب عن أثر النصارى في نهضتنا الأدبية فما يعنون ولا نعني نحن إلا هذا العنصر الجديد، الذي أحدثه فيها نصارى الأمس، كما أحدثه من قبل نصارى العصر العباسي، وبخاصة السريان منهم، فأوضح آثار أولئك كان بما نقلوه إلى اللغة العربية، وها إن هؤلاء ينحون نحوهم؛ فأول من ترجم كتابي هوميروس كان من أولئك، وهو تاوفيل بن توما الرهاوي الماروني رأس منجمي الخليفة المهدي، وقد كتب عنه صديقي البحاثة الأديب نور الدين بيهم.

فأولية جرمانوس فرحات — إذن — ليست في شعره؛ فقد كان في زمنه شعراء مسلمون أبلغ منه قولًا، وأصح كلامًا. ولكن كونه أول شاعر من مستعربي لبنان، قال الشعر معربًا بعدما كان زجلًا سرياني الوزن أحله هذا المحل. فالشعر ابتدأ في لبنان من حيث انتهى في الأندلس، نشأ في الأندلس شعرًا رصينًا بليغًا؛ ثم صار موشحات، وصارت الموشحات مهلهلات؛ ثم أخذت تنحط رويدًا رويدًا حتى أمست أزجالًا، بل كلامًا باردًا.

إن لهذا الأسقف المولود في القرن السابع عشر؛ فضل التأليف في النحو؛ فهو أول نصراني ألف فيه، بعدما أخذ هذا العلم عن الشيخ سليمان النحوي المسلم في حلب.١ وله أيضًا فضل أكبر وأعم؛ إذ صحح الترجمة العربية للمزامير والأناجيل، وسائر كتب الموارنة الكنائسية، فعرفت الكنيسة فصاحة العرب، وحب المطران العربية حمله على تعريب الإنجيل مسجوعًا، وهذا التعريب محفوظ حتى الآن بمكتبة حلب المارونية.
ولم يقف المطران عند حد التأليف في النحو بل تصدَّى — قبل كل رجال النهضة الحاضرة — إلى وضع معجم صغير، ولكنه صحيح، سماه: «الإعراب عن لسان الأعراب».
  • الترجمة: إن دور النصارى في الأدب العربي كان ينحصر في الترجمة، قبل أن استقام لسانهم العربي، ففي النهضة العباسية كانوا تراجمة الخلفاء، فنقلوا لهم كتب القوم، وها إن التاريخ يعيد نفسه في فجر هذه النهضة. فها هو هذا المطران يؤلف في حلب «مجمعًا علميًّا» يعنى أعضاؤه بالترجمة، ومن هنا جاء التجديد. فهم لم يتفوقوا بالكلام العربي الذي لا غبار عليه، بل بما ترجموه من كتب وغيرها. كانت هذه الترجمة أولًا دينية، ولما صدرت كتب الشدياق و«جوائبه» أصبحت أدبية وسياسية، ثم أضحت في «جنان» و«دائرة معارف» المعلم بطرس البستاني تاريخية وقصصية وعلمية، ولما أنشأ صروف المقتطف صارت علمية صرفًا؛ فكانت مجلته ولا تزال سجلًّا للاكتشافات الحديثة والمذاهب العلمية، وهكذا مشت الترجمة في مدارج زمن النهضة الأدبية، حتى بلغت اليوم ما بلغت مع أدباء وقتنا الحاضر.
    إن سير الأمور قلما يختلف، فلو لم نترجم فلسفة اليونان إلى العربية لم يكن للعرب فلاسفة كالفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن رشد، الذين استعان علماء الغرب بكتبهم على تفسير كتب أرسطو، وتفهم معانيها.٢

    إن هذا الأسقف كان المترجم والمصحح لما يترجم. شغفته اللغة العربية وكل ما يتصل بها؛ فخاطر بنفسه وأمَّ الأندلس، راكبًا البحر، يوم كان المركب لا يزال لبنانيًّا؛ ليمتع نظره بآثار العرب الخالدة فيها، ويقرأ في مكتباتها ما لا تقع عينه عليه في الأقطار العربية.

  • كتبه: له — عظَّم الله أجره — مائة وأربعة كتب، بين مؤلف ومعرب ومصحح ومختصر. بعضها أدبي ولغوي وشعري؛ وأكثرها ديني على هوى ذلك الزمان. فهو واضع أول حجر في صرح النهضة في لبنان.

    نعم قد سبقه مترجمون آخرون في القرون الوسطى، ولكن تعبيرهم كان ركيكا جدًّا، وهذا ما حمل أحمد فارس الشدياق، حين آلت إليه زعامة النهضة، على التهكم بلغة رجال الدين، والتنادر عليهم في فارياقه، ولم يحترم منهم أحدًا غير هذا الحبر فقط.

  • الشاعر: كان هذا العلامة يعرف أربع لغات على حقها: العربية، والسريانية، والطليانية، واللاتينية، فهو في تفكيره متأثر بما عرف، وقد استغل هذا في شعره حين قال:
    أحاول في عمري من الدهر راحة
    وهل تطلبنَّ العقل والظرف من زنجي
    فأصبح دهري عاجزًا عن سعادتي
    كأني حرف الحلق والدهر إفرنجي

    وتضلعه من العربية حمله على نظم «المثلثات الدرية»، فقال قصيدة طويلة من طراز مثلثات قطرب … وهاك هذين البيتين منها:

    طوباك يا رامي السلام
    وقيت من رمي السلام
    احفظ يمينك والسلام
    من حر نار الغضب
    وجدَّ يوم السبت
    وشدَّ نعل السبت
    وكل حشيش السبت
    تقشفًا للذهب

أما أغراض شعره الأخرى، ففي مدحه تعالى، والسيد المسيح، وأمه، والرسل، والرهبانية، وغير ذلك، فكأنه صوفي من طراز آخر حين يقول:

الله الله أنت الفوز والوطر
في العاشقين وأنت الفوز والوطر
هويتكم والهوى مني على صغر
يا حبذا والهٌ قد زانه الصغر
الذكر صورتكم، والقلب مركزه
والحب دائرة شعاعها الفكر
كان وجهك مغناطيس أنفسنا
فحيثما درت دارت نحوه الصور
خسرت في عشقكم دمعي وأسعدني
يا ربح قوم بكم بالربح قد خسروا
أروم رؤيتكم، والدمع يمنعني
إذا تزاحم عندي الدمع والنظر

أما في مريم، حبيبة الموارنة التي لا تخلو قرية من قراهم من كنيسة على اسمها، فيقول قصيدة غرَّاء هذا مطلعها:

لو كان للأفلاك نطقٌ أو فمٌ
لترنمت بمديحك يا مريم

ويقول في مكان آخر:

سموتِ يا بتولة في العذارى
على كل الأنام على وفقت
خلقت درَّة لا عيب فيها
كأنك مثلما شئت خلقت

وعندما انتدب رئيسًا عامًا على الرهبان وصف أعباء الرئاسة في قصيدة قال منها:

أرى أحدًا بل طور سينا ويذبلا
أدق وأخفى بل أخف ثبيرها

إن أثر التقليد بادٍ في شعر الرائد الأول، وإلا فما شأن ثبير، بل ما شأن طور سينا وأحد في جنب الجبل القاعد في أحشائه هذا الشاعر؟ والتقليد أيضًا هو الذي حمل المطران على شنِّ غارات عديدة على الأولين، ففي قصيدته «اللبنانية» وقد مرت أبيات متقطعة منها، يقول في الله:

إن تهجروني أجد في وصلكم طمعًا
كالشمس ترجى وجنح الليل معتكر

فهذا المعنى أخذه أبو تمام عن مخنث، وها هو «سيدنا» يأخذه عن آخذه، ثم لا يتورع سيادته عن أن يقول مثل الصوفيين المتطرفين فيخاطب الله بلهجتهم:

كن فيَّ حيًّا، وإني فيك أنت أنا
كالشمس ليس لها في برجها كدر

أما توبيخ الرهبان ووعظهم وإرشادهم فشائع في ديوانه الضخم، وهو لا يحرم اليهود من التقريع فيقول:

دع اليهود فلا ينفكُّ مكرهم
يبدي لدينا دخان الكفر والكذب

ولا عجب في هذا فسبُّ هؤلاء لا يزال قائمًا عند الموارنة على المذابح منذ خمسة عشر جيلًا، وخصوصًا في سبَّة الآلام.

وللشاعر هذان البيتان الطريفان، وقد حاول فيهما القول بالموجب:

قال الحبيب: رغبت، قلت: عن السوى
وعشقت، قلت: جمال وجهك في الورى
وسلوت، قلت: رغيد عيشي والهنا
وهجرت، قلت: لذيذ غمضي والكرى

وله إلى جانبهما بيتان رائعان يصور فيهما حرب «التجربة»:

إني بليت بأربع لم يخلقوا
إلا لشدة بلوتي وعنائي
إبليس، والدنيا، ونفسي، والهوى
كيف الخلاص وكلهم أعدائي!

أما ما لي على ديوانه من مآخذ فكثير، فالمطران يسكِّن، ويحرِّك، ويخفِّف، ويشدد، ويقصر ويمد، على هواه، ويشبع ويختلس ولا يبالي، ولكن شارح ديوانه، معلمنا الشيخ سعيد الشرتوني، مستعد دائمًا لتبرئة ذمة الشاعر كما فعل عند بيته هذا:

إن كنت تجهل مربعي فاعشو إلى
نار تشبُّ بزفرة الصُّعَداء

قال شيخي رحمة الله: وأثبت الواو في «اعشو» للوزن على حد قول الشاعر:

وتضحك مني شيخة عبشمية
كأن لم ترى قبلي أسيرًا يمانيا

أما الأخطاء اللغوية والجوازات فكثيرة لا تعد، وما إعجابنا به — في شعره فقط — إلا كإعجابنا بالأطفال الحديثي العهد بالنطق، أما ميله القويُّ إلى التسكين فأظن أنه جاءه من السريانية. وإذا ما غفرنا له كل هذه الهفوات فما هذا بكثير منا؛ فهو أول شاعر من ملة قيلت لأجلها هذه الكلمة: أبت العربية أن تتنصر. ولكن شاعرنا الأول نصَّرها، وجعلها سيدة في الكنيسة، أجلسها عن يمين مذبح البخور، فحلت محل السريانية التي أجهز عليها سيادته، كما قلت في «صقر لبنان».

الخوري نيقولاوس الصائغ

عندما كنا طلابًا في المدارس، وكلها إكليريكية، أو يرأسها إكليريكي، كنا نقول: ديوان المطران، وديوان الخوري. أما الخوري؛ فهو نيقولاوس الصائغ تلميذ المطران جرمانوس، ومن قافلة رواد النهضة الأولى. فذاك المطران وهذا الخوري، هما شنفرى نهضتنا ومهلهلها. ولا بأس علينا إذا عرّفنا القارئ بالرواد الذين قادهم فرحات، وهم: الفيلسوف التولاوي، وميخائيل حكيم، وعبد الله زاخر، أبو الحرف المطبعي العربي، وعبد الله قرألي، ونعمة بن الخوري توما، ومكرديج الكسيح، وأصغرهم وآخرهم في مقياس الزمن الخوري نيقولاوس الصائغ. وكل هؤلاء كهنة وشمامسة وأساقفة وبطاركة، وهذا ما دفع أستاذي خير الله خير الله إلى الإشادة بفضل الإكليروس الأدبي، في كتابه «سوريا».

ليس للخوري نيقولاوس الصائغ ما لفرحات من آثار، فأشهر ما ترك ديوانه. أصلح الشيخ إبراهيم اليازجي كثيرًا من عيوبه، حين وقف عليه، ومع ذلك لا يزال لنا فيه مرتع خصب، ولكننا لا نعنى بهذا، فما قيل في «ديوان المطران» يصح أن يقال في «ديوان الخوري»، وحسب التلميذ أن يكون مثل معلمه الذي قال في رثائه:

إمامي وذخري، بل غنائي ومغنمي
غنمت به غنمًا تجل غنائمه
وإن يكفر الإحسان من ليس شاكرًا
فأشبه بالكفران من هو كاتمه
حلبت به وسع الإناء معارفًا
يلازمني جنح الدجى وألازمه

تغلب في ديوان الخوري قصائد المديح والرثاء والتهاني والتواريخ، فهو أكثر تقليدًا في أغراضه من معلمه المطران. نظم بديعية على طراز بديعية الحموي، ومن وزنها وقافيتها، أما الموضوع فمتقارب؛ بديعية الحموي في مدح النبي الكريم وبديعية الخوري في مدح السيد المسيح — له المجد — وحوارييه سلام الله على اسمهم، ولعله نحا في بديعيته نحو أستاذه حين ألف بحث المطالب. هذاك جعل الكثير من أمثلة كتابه آيات إنجيلية مضارعًا في ذلك ألفية ابن مالك، وشارحها ابن عقيل. وهذا عارض الحموي جاعلًا موضوعه مدح سيده ورسله.

أما ما أعجبني من مواضيع المطران والخوري فهو وضعهم النقاط على الحروف، وتأنيبهم وتوبيخهم الإكليريكيين؛ علمانيين وقانونيين، وهاك شيئًا من قصيدة هي أولى قصائد ديوان الخوري قالها في بعض هؤلاء:

كثر العثار بعثرة الرؤساء
وغوى الصغار بغرة الكبراء
لما رأيت الرأس وهو مهشم
أيقنت منه تهشم الأعضاء
وإذا الطبيب تضاعفت أسقامه
أنَّى ينال أولو الضنا بشفاء

أما الروح الدينية فشائعة في ديوانه كما تشيع في ديوان فرحات، ولا بدع فكلاهما راهب يترجى أن يكون له مكان يسند إليه رأسه في ملكوت الله، ولهذا نراه يعمل بقول القديس بولس: عظ ووبِّخ بكل سلطان ولا يستهن بك أحد.

وللخوري في آخر ديوانه رسالة تأنق فيها، كتبها نثرًا وشعرًا مجيبًا بها الشماس مكرديج الكسيح أحد أفراد هذه القافلة، ونحا في أسلوبها نحو المتصنعين فملأها تشابيه واستعارات وكنايات وأفكارًا تدل على معارف ذاك الزمان وثقافته؛ فمن أمثلة الصنعة فيها قوله: «وصار عقلي تابعًا لمعناها «كالأربع التوابع»، والعقل غدا «مرتفعًا» نحو «عامل معنوي» حسنها «رفع المبتدأ»، وليس عجبًا أن يرفع التجرد والابتداء.» ثم يقول: «ومع ذلك فالفكر أبدته «بالاشتغال»، والجسم أذبته بالاشتعال.» ولعل الخوري نهج في هذا نهج معلمه المطران الذي قال قبله:

خذ حبهم «يا ضمير الرفع» ملتزمًا
«فعلًا ووصلًا» فلا يخلو ولو هجروا
كأنني «الفعل» والمحبوب «فاعله»
سيَّان «متصل» فيه «ومستتر»

وفي آخر هذا الديوان أحجيات كثيرة، أنقل لك واحدة منها، قال محاجيًا في لفظة «رحبعام»:

يا راقدًا في علمه
نبِّه سناك من السنه
ماذا اسم ملكٍ مثله
«سعة» تضاف إلى «سنه»

فسعة بمعنى رحب، وسنة بمعنى عام، فتفهم إن كنت لبيبًا، وكفى الله الناس مئونة الكلام …

والخوري أشد ميلًا إلى صناعة البديع من معلمه الذي كان يقول الشعر عفو الطبع. وها هو قرن «التاريخ» الشعري يذر في ديوان الخوري، فنقرأ فيه تواريخ للموت والولادة، والكنائس والدور، والخانات والسبل «الينابيع»، ثم يتعاظم شأن «التاريخ» في القرن التاسع عشر حتى يمسي معجزًا ومضحكًا في وقت معًا، كما سترى. إنا نسأل لهذين الرائدين الجزاء بالمد، فقد غفرت لهما، كالمجدلية، خطاياهما الكثيرة؛ لأنهما أحبا لغة الضاد كثيرًا.

(١-٢) النابلسي والحر والنحلاوي

قلنا إنه كان في لبنان والأقطار العربية شعراء، قبل فرحات وفي عهده، فإقطاعيو لبنان — وقد كانوا عربًا خلصًا — قالوا الشعر، كما قاله الخاضعون لسلطتهم مديحًا فيهم، ولكنه كان من طراز شعر القافلة الأولى، وبعضه ضعيف التركيب جدًّا.

أما أصح معاصري فرحات كلامًا فكان القطب الصوفي الشيخ عبد الغني النابلسي، وهاك شيئًا من شعره الصوفي المتطرف الذي قاله في ذاته:

وعلمي ليس يدركه
سوى من لم يزل مثلي
وعلم الجفر من علمي
وموسى رشحة البل
وإني هدهد الأخبار
للقوم الأولى قبلي
وإني لست مخلوقًا
ولا شربي ولا أكلي
ولا إني أنا الخلاق
ذو صنعٍ وذو فعل
ولا من أبناء الله
إني، أو من الرسل
وإني ما أنا عيسى
ولا المهدي إلى السبل
أنا بي حارت الأفهام
ما يدرون من أصلي
أنا الشامي، أنا الهندي
أنا الرومي، أنا الصقلي
أنا المعروف في الدنيا
وفي الأخرى بذي الفضل
وإني لست إنسانًا
ولا من ذلك النسل
وما عبد الغني اسمي
وهذا مقتضى شكلي
فيا من رام في الدنيا
يراني طالبًا وصلي
تجرد وانتزح واخرج
عن الأكوان بالعقل
وكن خمرًا بلا كأسٍ
وكن شمسًا بلا ظلِّ
وسدَّ الباب عن غيري
وعالجْ وافتتحْ قفلي

فردَّ عليه معاصره الشيخ إبراهيم الحرُّ الصوريُّ فقال:

رويدًا يا أخا الفضل
مزجت الشهد بالخل
أذعت السرَّ يا هذا
شريت الجور بالعدل
فتحت القفل يا شامي
فقدت العلم بالجهل
أيا عبد الغني مهلًا
فليس القول كالفعل
لقد أكثرت من هذرٍ
يضاهي صبوة الطفل
فما المشكاة يا رومي!
وما المصباح يا صقلي!
وما الزيتون يا هندي!
فقل يا فاتح القفل
ألا يا هدهدَ الأخبا
ر خبر بالورى واجلِ
فكم من هدهد أضحى
كفرخ اليوم يا خلِّي

وكان للشيخ عبد الغني النابلسي تلاميذ أشهرهم السيد عبد الرحمن النحلاوي، وقد ردَّد في مدحه ما قيل فيه:

لله درُّ همام جهبذ وطئت
أقدامه شرفًا هام السموات

وسيأتي ذكر هذا التلميذ الطاهر وشعره في مولاه عبد الغني، صاحب المقام الأقدس السني، حين نتكلم عن «التاريخ الشعري»، وهو إحدى الظواهر الفنية في جو هذه النهضة، كان التأريخ الشعري نجمة سديمية قبل الرواد فصيروه نجمة قطب تأتمُّ به سفينتهم الأدبية.

وكما عني المطران فرحات المتصوف المسيحي بتحليل أسرار البيعة شعرًا، ونثرًا، انصرف الشيخ النابلسي، قدس الله سره، إلى تحليل رموز الصوفية، شعرًا ونثرًا، ولكثرة ما لعبد الغني من تآليف وتصانيف شعرية ونثرية قد سمَّاه المطران يوسف الدبس في تاريخه جهبذ الجهابذة، وأستاذ الأساتذة.

ويضارع هذا الشيخ المطران في الرحلات؛ رحل المطران إلى رومة، وزار الأندلس، وارتحل الشيخ إلى دار الخلافة، وزار القدس ومصر والحجاز ولبنان، وكتب كتابًا في كل رحلة.

(٢) القافلة الثانية

(٢-١) أحمد البربير

القرن الثامن عشر في الآداب المشرقية هو «قرن السماعلة» الذين حفظوا آثار العرب القلمية. فهم الذين أذاعوا الآداب المشرقية في أوروبا، وصانوا كنوز الفلسفة في مكتبة الفاتيكان وغيرها. أما في الشرق فكان أدب هذا العصر أدب رسائل ديوانية، كما ابتدأ الأدب العربي في جميع عصوره. كان كتَّاب الدواوين هؤلاء يقولون الشعر متملقين به أسيادهم كالجزار وسواه، فمن هؤلاء الكتَّاب الأولين أبناء الصبَّاغ، وأبناء البحري، وإلياس إده.

وقام إلى جانب هؤلاء متمشرقون كثيرون، عنوا بالآداب العربية وغيرها من المشرقيات، حتى أنشئوا جمعيات سموها الأسيوية، فأفضلوا على لغة الضاد بإذاعة الكثير من كتبنا مصححة.

ثم طلع في صباح القرن التاسع عشر الشهاب الثاقب محمد علي الكبير، فمشت النهضة قدمًا بخطى ثابتة وسريعة، أنشأ مطبعة بولاق، ومدرستها، وجريدة الوقائع. وظل الإنشاء في ذلك العهد ثرثرة عامية ممزوجة بالتركية تُضحك مَن يقرؤها، حتى جاء شيخنا الشدياق، فصحح لغة «الوقائع»، وهذب عبارتها العربية، أما من يعنينا أن نقف عندهم هنيهة فشاعران: أحمد عبد اللطيف البربير، وابن الإفرنجية.

ولد الشيخ البربير سنة ١٧٤٧، ومات سنة ١٨١١، ولهذا الأديب مقامات طريفة، وبديعية نحا فيها كغيره نحو الحموي، وله أيضًا كتاب «الشرح الجلي على بيتي الموصلي»، وهو شرح استوعب كثيرًا من فنون الآداب والعلوم، وتناول تحليل الكثير من الرموز والأحوال الصوفية.

والبربير هذا شاعر بليغ إذا قسناه بشعراء عصره والذين سبقوه، وقد قال فيه مخائيل البحري — أحد رواد هذه القافلة — من قصيدة طويلة نشرتها مجلة المشرق:

أحمد البربير من أنشأ الأدب
وعلومًا بين عجم وعرب
وحوى فخرًا سما أسمى الرتب
قدره، ثم السماكين ارتقى

فرد البربير له التحية بأحسن منها، قائلًا:

كم بيان من معانيه بديع
قد رفعناه على نظم البديع
في مبان مثل أزهار الربيع
ناظرًا تسبيك أو منتشقا
فطن من بعده «العاصي» بكى
وبأصوات النواعير شكا
ودجت حمص وكانت فلكا
لمحياه فعادت غسقا

لم يبتدئ تقارض الشعراء المدح والثناء بالبحري والبربير، بل ولد مع شعراء القافلة الأولى، وبلغ أقصى مداه مع الذين أتوا بعد هؤلاء حتى صار شغل الشعراء الشاغل. ولم ينطفئ نور هذا الغرض من الشعر إلا في هذا الوقت، ولكنه أمسى يقال في حفلات التكريم — وما أكثرها عندنا — بدلًا من الرسائل.

أما شعر البربير فلم نقف إلا على نتف منه في مجلة المشرق، ولكنها تدل على مخيلة شاعر أصيل، قال — رحمه الله — يصف العنب الشامي:

دمشق حازت عنبًا
يُضرب فيه المثل
كأنه لآلئٌ
يُصان فيها العسل

وقال في الشيب:

نذير شيب منذر بالذهاب
فجدِّد التوبة قبل الحساب
واحذر سطى جارح باز هوى
من هوله طار غراب الشباب

وقال في الليل:

ليلة كالغراب قصَّ جناحا
ليس يرجو الكئيب فيه صباحا
خافها أعزل السماكين حتى
صار ذا رعدة وألقى السلاحا

وقال في الدينار، وهو من باب حسن التعليل:

لما رأى الدينار أن مقرَّه
في ملكه مقدار طرفة عين
لاحت على خديه صفرة وجهه
جزعًا وأصبح وهو ذو وجهين

وقال، وهو من التلاعب بأسماء أبواب النحو، كما فعل المطران والخوري قبله، فأجاد أكثر منهما:

وعجبت من راياته الحمر التي
شربت مرارًا من دم الأعداء
«رُفِعت» «فجُرَّت» بحر جيش خلفها
وتولَّعت «بالنصب للإغراء»

وقال ناصحًا حاضًّا على الكرم:

إن رمت نيل المعالي
فأكرم الأخيارا
فليس يكبر إلا
من صغَّر الدينارا

وقال متزهدًا:

تبًا لصورة دنيا
شبيهة بالخمره
من ذاق منها رآها
مع اللذاذة مره
إياك والسكر منها
وحسبك الموت سكره

وقال هاجيًا:

كم سبكنا الذهبان فيه مديحا
فاستحالت كمطرق الحدَّاد
والذي يغرس الثنا في سباخٍ
فكثير عليه شوك القتاد

وقال يصف مجلس أنس:

نحن والله في نعيم مقيم
بين سجع وبين صوت رخيم
لم نجد عندنا إليك رسولًا
غير ما هبَّ من لطيف النسيم
قد قضى غمُّنا فناح عليه
كل صوتٍ من الحمام نظيم

إننا نرى ديباجة البربير متماسكة وعبارته لم تشنها تلك الركاكة، وشعره يدل على شاعر يعمل فكرته ورويته؛ ليقول ما لم يقل. فالبربير خير أبناء جيله شعرًا، صحيح التركيب، فلا أثر للرطانة التي رأيناها في شعر من سبقوه، ولا بدع في هذا فهو بلا شك من حملة القرآن الكريم.

(٢-٢) ابن إفرنجية

شاعر متأثر بالقافلة الأولى، نقَّب عنه الأب شيخو فأحيا ذكره، وقد ذكر لنا في «مشرقه» إن لهذا الشاعر كتابًا خطيًّا في لندره عنوانه: «المجموع المنتظم من فرائد الكلم». في هذا الكتاب كثير من النوادر والنكت، وبعض قصائد وأبيات من نظمه، ونظم والده وبعض شعراء عصره. قال — على عادة ذلك الزمان — بيتين في وصف مجموعته هذه:

مجموعنا هذا له رونق
كرونق اللؤلؤ في عقده
كادت مجاميع الورى دونه
تنسى لديه من سنا مجده

أما الخطأ فقد كفانا الشاعر مئونة الإشارة إليه حين قال في كتابه هذا:

كتبته مجتهدًا
وليس يخلو من غلط
فقل لمن يلومني
من ذا الذي ما ساء قط

وقد بدأ هؤلاء الرواد يصنعون المعجزات الأدبية في شعرهم، وها إن ابن الإفرنجية ينظم دائرتين في المديح. أما أقواله الطريفة، فمنها أبيات قالها بلسان قهوة الخمرة تهجو قهوة البن:

سمعت لسان الحال في قهوة الطلا
تقول هلموا واسمعوا نصَّ أخباري
فباسمي تسمَّت قهوة البنِّ في الملا
ولكنها لم تحكِ بالفضل أخماري
فمن كذبها قد سوَّد الله وجهها
وعذَّبها بعد الإهانة بالنار

ومن «معجزاته» الشعرية أيضًا هذان البيتان اللذان يقرآن طردًا فيكونان مدحًا، وإذا قرئا عكسًا استحالا هجاءً. قال:

عدلوا فما ظلمتْ بهم دولٌ
سعدوا فما زلَّتْ بهم قدمُ
بذلوا فما شحَّت لهم شيمٌ
رشدوا فلا زالت لهم نعمُ

ما عكسها فهذا هو:

قدم بهم زلت فما سعدوا
دول بهم ظلمت فما عدلوا
نعم لهم زالت فلا رشدوا
شيم لهم شحَّت فما بذلوا

وإذا قالوا في أبي تمام: إنه كان في انتقاء شعر حماسته أشعر منه في ديوانه، ليدلوا على سلامة ذوقه، فمثل هذا القول يصح — أيضًا — في مجموعة ابن إفرنجية الحافلة بالطرائف، وها نحن ننقل منها شيئًا. قال شاعر في وصف ليل:

وليل بتُّه رهن اكتئاب
ألاقي فيه أنواع العذاب
إذا شرب البعوضُ دمي وغنى
فللبرغوث رقصٌ في ثيابي

وقال آخر:

ثلاث باءات بلينا بها
البقُّ والبرغوث والبرغش
ثلاثة أوحش ما في الورى
ولست أدري أيها أوحش

وقال غيره في صابغ لحيته:

قلْ للذي يطمع في صبغته
بردِّ ما قد فات من صبوته
هب أنه أنكر ما لم يكن
يكفيه أن يكذب في لحيته
١  كتاب بحث المطالب الذي طبع مرات. علق عليه أولًا المعلم بطرس البستاني، ثم الشيخ سعيد الشرتوني، فالمعلم عبد الله البستاني، فالخوري نعمة الله باخوس.
٢  شيخو: الآداب العربية في القرن ١٩ جزء ١ ص٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤