الشعراء العلماء

(١) الشيخان: الأحدب والأسير

عاشا صديقين، وكأنَّهما كانا على موعد فلحق الأحدب بصفيِّه الأسير بعد أشهر. فالشيخ إبراهيم الأحدب طرابلسي المنشأ والمربى، دب ودرج على موسيقى نهر «بو علي» الثرثار، وعلِق بنفسه أريج بساتين الفيحاء. أعطته وأعطاها فردَّ إليها الكيل كيلين، وعرف بها وعرفت به حقبة من الزمن. كان لجمال طبيعتها يد في طبعه على حب الجمال، فاستيقظت فيه قريحة الشاعر العجيبة، فأرسل الشعر عفو الطبع، وهو لو شاء أن يكون حديثه كلامًا منظومًا لاستطاع؛ كذا قالوا، ولكنه قول يصدق فيمن بلغ مجموع ما نظم ثمانين ألف بيت، وكلها من الكلام الذي لا غبار عليه.

نشأ الأحدب في وكنات الكتَّاب، وما كان أكثرها في طرابلس، وأخذ لغة الضاد عن شيوخ زمانه. حفظ كتاب الله فأولى كلامه مسحة رائعة من جمال البيان والبديع، وتبحر في العلوم الدينية واللسانية، فصار حجة جيله في الفقة والتأويل والأحاديث المسندة، وكان له القول الفصل حين تختلف الآراء في الفرائض؛ فيأخذ الميراث من يستحقه.

وكأن طرابلس قد ضاقت على الشيخ، فرحل إلى عاصمة الخلافة فأحله علماؤها صدور مجالسهم، ثم زار مصر فلقي فيها الحفاوة والاحترام، ثم قفل إلى بيروت فكان محله من الأدباء والمتأدبين محل القطب من الرحى، فخدم الوطن والآداب بمن علم وهذب وثقف، وبما ألف وأنشأ وصنف من كتب جليلة كانت زاوية ضخمة في صرح النهضة الحديثة. وإذا كان لا بد لكل قرن من ثالوث، تبعًا للتقسيم التقليدي، فالشدياق والأحدب والأسير هم ثالوث الفصحى في القرن التاسع عشر.

أخرج الأحدب ثلاثة دواوين من الشعر، وثمانين مقامة نحا فيها نحو الحريري، فلم يقصر عنه بلاغة وصحة تعبير، وبارى الزمخشريَّ في كتابه «فرائد الأطواق في أجياد محاسن الأخلاق» فبزه أو كاد، وجارى ابن مالك، ولكن في غير نظم النحو والصرف، فنظم ببيان مشرق الديباجة «أمثال الميداني» فجاء كتابه أنيق النظم والطبع، أخرجته المطبعة اليسوعية بحلة قشيبة، فكان آية من آيات الطباعة في ذاك الزمان وهذا العصر.

وكأني بثقافة الشيخ العربية قد دفعته إلى إحياء آثار السلف، فعمد إلى تحقيق وشرح رسائل بديع الزمان في كتاب سماه «كشف المعاني والبيان» فكشفت لنا حواشي الشيخ إبراهيم عن أدب وظرف فيما حشى وعلق، فصار الكتاب كتابين، وكثيرًا ما يحدث هذا حين تتقارب الشخصيتان.

لم تكن في ذلك الزمان سوق تنفق فيها بضاعة الشعراء، فحدث ما يحدث عادة في القرى النائية حين تهجم علينا الأثمار هجوم المستميت، فنحتار كيف نصرف وفودها المتدفقة فنعمد إلى تهاديها. وهذا ما أصاب أدباء القرن التاسع عشر، فمدح بعضهم بعضًا، وهكذا خلقوا نوعًا جديدًا سموه «المراسلات»، وما هو إلا مدح شاعر لشاعر، كما مر، فكان لشيخنا الأحدب في هذا الباب جولات عديدة. راسل شعراء عصره فأطراهم وأطروه، وحكَّ لهم وحكوا له. هاك ما كانوا يسمونه مراسلة، ثم قل لي بعدئذ إذا كان المتنبي وغيره قد بالغوا في المدح أكثر من هؤلاء. قال الأحدب مخاطبًا الشيخ ناصيف اليازجي حين أهدي إليه مجمع البحرين، فابتدأ بالغزل كعادة الشعراء في ذلك الزمان، إلى أن قال مقرظًا:

أبدى «الحريري» على خده
«مقامةً» تنسي «بديع الزمان»
أقلامه في الطرس تبدي لنا
أغصان روض، أو فروع القيان
فقل علاه «مبتدأ» في الورى
من غير «أخبار» ودع ذكر «كان»
«والفرق دانٍ» إنه في العلى
يقصر عن إدراكه «الفرقدان»

فانتفض ناصيف للإجابة مبتدئًا بالغزل أيضًا حتى قال:

في خدها نار المجوس التي
قام لديها الخال كالموبذان
أو «نار إبراهيم» مشبوبة
في مهج الحساد ذات الدخان
هذا «خليل الله» والناس في الد
دين وفي الدنيا فنعم القران
الشاعر الواري الزناد الذي
تحكي قوافيه عقود الجمان
ينسي جريرًا نظم أبياته
ونثره ينسي بديع الزمان
يا خير من صام وصلى ومن
قام خطيبًا وارتدى الطيلسان

وهكذا قعد شعراؤنا يتسلون بالترمس الأحلى من اللوز … ولكن الشيخ الأحدب لم يكن وكده هذا النوع من الشعر، بل كان يتطلع دائمًا إلى «الجديد» وإن لم يدركه أهل زمانه، فلأنهم كانوا يدورون على قطب واحد من أنفسهم.

كان مارون النقاش أول من ألَّف في الفن المسرحي بلغة الضاد — كما سيأتي — فأعجب ذلك أهل عصره فوقف الشعراء يتفرجون. أما إبراهيم الأحدب فأقدم ولم يقف. نظم مسرحية مدرسية مؤلفة من ثلاثة فصول ضمنها الكثير من الفوائد، وقد طبعت عام ١٢٨٥ وهي تبتدئ هكذا: يقف المؤلف ملخصًا موضوع مسرحيته، ثم يرفع الستار فيظهر اثنا عشر ولدًا يتحاورون بما يلائم سنهم، وتمشي الرواية.

ولم يقف الشيخ عند هذا الحد الأوَّليِّ، بل تجاوزه إلى تأليف مسرحية أدبية موضوعها ابن زيدون وصاحبته ولادة، وهي خليط من شعر ونثر مسجع.

أما قريحة الشيخ السيالة، فكانت كنهر بو علي الذي نشأ على ضفتيه كما قلنا. حدَّث الرواة عنه: أنه كان يملي ما يقترح عليه القول فيه بلا توقف، وكثيرًا ما كان ينظم القصيدة الطويلة، ويرتجل الرسالة أو الخطبة في أي موضوع كان، فيبرز ذلك تامًّا صحيحًا بلا تكلف.

أما كتابه النفيس «فرائد اللآل في مجمع الأمثال»، فرفعه هديةً إلى السلطان عبد الحميد، وقد افتتحه كابن مالك في ألفيته؛ قال ابن مالك:

قال محمد هو ابن مالك
أحمد ربي الله خير مالك

وقال شيخنا:

يقول إبراهيم وهو ابن علي
أسير ذنبه طليق الأمل

ثم يتخلص إلى مدح السلطان فيقول:

فالقصد فيه عزُّ كل مصر
عبد الحميد روح هذا العصر
ظلُّ الإله الوارف الظليلا
من لم نجد لعزه مثيلا

أما الكتاب فهذا نموذج منه، والذي أضعه هنا بين هلالين، قد أخرجته المطبعة بالحبر الأحمر، للدلالة على أن الأمثال — حتى في الشعر — لا تتغير عن مواردها:

دع طمعًا يوقع في مأثم
«إنّ الشقيَّ وافدُ البراجم»
وصن أمورًا ذو الحجى واراها
«إن ورا الأكمة ما وراها»
لا تخل بالمرأة، واحذر التهم
«إن النسا لحم يرى على وَضَم»
على الفتى من نفسه دليل
«إن الغنيَّ ذيله طويل»
«عن مهجتي» هذا الشقي «أجاحش»
فإنه قد جاء وهو فاحش

ثم يختم هذا الكتاب القيِّم الضخم بنبذ منظومة من حديث النبي الكريم، وكلام الخلفاء الراشدين وغيرهم.

وللشيخ أيضًا نظم فتاوى شعرية، وله ديوان مديح لم يغفل فيه عن نظم الموشحات. لقد عرفت شيئًا من شعره التعليمي، ولعلك رأيت فيه شيئًا لم تألفه؛ لأنك منه كمن يتفرَّس في متحف فيقع نظره على أزياء يستغربها أو ينفر منها؛ ولهذا أحبُّ أن تسمع شيئًا من ديوانه «النفح المسكي في الشعر البيروتي» قال متغزلًا:

من لي بعطارٍ أراني شامة
سوداء فوق الوجنة الحمراء
أمسى يبيع ويشتري أهل الهوى
في سوقه بالحبَّة السوداء

وقال في آخر:

خزنت بمالك لحظه جنَّاته
أيكون مالك خازن الجنات
كلي عيون أن تجلى وجهه
فلذا أراه من جميع جهاتي

وقال أيضًا:

عرجتُ في الحب ولهانًا على رشأ
ما شأنه بين أرباب الغرام عَرَج
نبيُّ عشق لعشاق الجمال أتى
لذاك فوق سماء الحسن منه عرج

وللشيخ أيضًا «تواريخ»، وألغاز شعرية كما كانوا ينظمون في تلك الأيام.

وكأني أسمع من يقول لي: وأين هذا من غزل اليوم؟ فإلى هذا أقول: لكل زمان رجال، ويا ويل الأمة إذا كان الأبناء والأحفاد دون الآباء والأجداد؛ فحسب الشيخ أنه أسمعنا كلامًا فصيحًا في عهد كانت العجمة فيه تسوق الناس بعصاها، لقد عمل ما عليه، فلْنعمل ما علينا.

أما الشيخ يوسف الأسير، فولد في حجر بساتين صيدا، ثم انتقل إلى دمشق حيث أتمَّ دروسه الأولية، ورحل إلى مصر للتفقه في العلوم العقلية والنقلية، وعاد من الأزهر بعد سنين فكان شاعرًا وشيخ علم أكثر منه مؤلفًا ومصنفًا. شارك في بنيان هذه النهضة بتعليم الكثيرين الفقه وغير ذلك من العلوم، أما تآليفه فأكثرها في العلوم، وقد عرفت من تصفحي ديوان الأنسي أن للشيخ مسرحية عنوانها «سيف الأفكار».

كان شيخنا خفيف الروح، يستطرف مجلسه ويستظرف، وكان شاعرًا كالأحدب وإن لم تكن له غزارة مادته. شعره رائق فصيح، أكثره مدح حتى يكاد يكون ربع ديوانه في مدح صديقه أحمد فارس. وللشيخ في النقد أشياء طريفة كتبها يوم دارت رحى المعركة الأدبية بين الشدياق واليازجي والبستاني، فجلى الشيخ يوسف في ذلك المضمار منتصرًا لحليفه الشدياق، وإن كان الشيخ ناصيف قد امتدح ديوانه «الروض الأريض» قائلًا:

أسير الحقِّ في حكم تساوى
فما يدرى الحبيب من البغيض
إمام الشعر يبتدع القوافي
ويأمنُ دونها حَوَلَ القريض
أصار ليوسفٍ بيروت مصرًا
تدفقُ بحرِ علمٍ مستفيض
يقلُّ له الثناء ولو أخذنا
قوافيه من «الروض الأريض»

وكأني بك تقول لي: والشيخ يوسف شاعر أيضًا؟ نعم يا سيدي، فقلما تجد واحدًا من هؤلاء الجهابذة لم يقل الشعر، ناهيك أن الشيخ يوسف الأسير شاعر مجيد وفي ديوانه القصائد والموشحات والمقطعات الحكمية، وهاك شيئًا مما قاله في شعراء عصره:

خليليَّ كم قد جدَّ في الناس شاعر
وليس له بيتٌ من الشعر عامرُ
وأحسن شعر ما تراه مهذَّبًا
بليغًا به يلتذ بادٍ وحاضرُ
به تطرب الأسماعُ من كل منشد
وتجري به الأمثال وهي سوائر

وللشيخ الأسير أبيات في وصف لبنان ونهضته الحديثة، بعد مذابح سنة ١٨٦٠ التي عقبها ما كان يعدُّ استقلالًا في ذلك الزمان:

ترى لبنان أهلًا للتهاني
فقد نال الأمان مع الأماني
وأضحى جنَّةً، مَن حلَّ فيه
قريرُ العين مسرور الجنان
وجدَّت للعلوم به دروس
وكانت في الدروس وفي التواني
وللأخبار قد وجدت سلوك١
كذلك طبع ذي الصحف الحسان

وللشيخ أيضًا رسائل نثرية وشعرية، وتلك خطة كان لا بد للأديب من ركوبها في ذلك الزمان.

(٢) عمر الأنسي

قال شيخو: «ولما كانت مصر تفتخر بطهطاويها، والعرق بأخرسها، كانت بيروت تأنس بأنسيها. قلدته الحكومة السنية عدة مناصب؛ كنظارة النفوس في لبنان، وعضوية مجلس بيروت، ومديرية حيفا، ونيابة صور، فتقلب فيها كلها وأظهر فيها دراية وعفة نفس وعلو همة.»٢
ويقول جامع ديوانه — وهو ابنه الدكتور عبد الرحمن — إنه جمع من ديوان أبيه ما عثر عليه، وبعد أن نقحه ما استطاع رتبه على حروف الهجاء تاركًا ما كان في الهزل إلا ما نزر من الملح جلبًا للأنس وترويحًا للنفس.٣

فليت الدكتور ترك لنا ديوان أبيه بعفشه ونفشه؛ لتبدو لنا نفس الشاعر المرحة كما خلقت. فلولا الترك والشدياق لم تَبِنْ للأدب سن في هذا العصر، حتى خلنا أن الضحك محرم على هؤلاء، إن شعر الأنسي رصين التعبير، بريء من الركاكة. قال الشعر المدحي مثل معاصريه، مهتديًا بالصناعة اللفظية التي كانت نجمة قطب الشعراء. قال كرامة قصيدته الخالية، فقال الأنسي قصيدة أطول منها، قافيتها لفظة «العين»، وهي في مدح الأمير أمين أرسلان، وهذا مطلعها:

خذي من ودادي العين يا قرَّة العينِ
ومن عبد عينٍ ما رأى منك من عينِ
ولا تبعديني عمد عينٍ، فتشمتي
وشاتي، وتغري في الملامة بي عيني

ثم يطلع الأنسي علينا بمعجزة لفظية جديدة، فيقول قصيدة من أبحرٍ متعددة، وقواف مختلفة تنقل منها مطلعها:

يا للهوى من لصبٍّ لم ينل أربا
عطفًا على مستهام رقَّ وانتحبا
ولك أن تقول في الصدر: «أملا» أو «وطرا» بدلًا من «أربا»؛ إنك تجد القوافي مهيأة أمامك طبعة للسانك، فاختر ما تريد. وهكذا تصير هذه القصيدة الطويلة مثلثة القافية متعددة الأوزان، فحكم ذوقك واقرأ … وإذا أردت حسابًا أدقَّ من حسابي هذا فراجع مشاهير القرن التاسع عشر،٤ تعلم أن هذه القصيدة تستحيل تسع عشرة قصيدة وأكثر، وتقر معي أن عصر النهضة هو عصر المعجزات.

ليس هذا ما يعنيني من الأنسي فهو في كل ذلك كغيره من الرواد، ولكن شيئًا لم يبد له أثر في شعر هؤلاء قد رأينا أثره واضحًا جليًّا في شعر الأنسي، فلو أبقاه لنا ولده لعثرنا على كنز من الهجاء جزيل؛ فالأنسي هجَّاء روَّاد هذه الحقبة، ولعله هو الذي أوحى ما قيل في الشاعر إلياس صالح، كما سيرد في حينه. قال الأنسي في قهوجي اسمه هلال:

تعس الهلال القهوجيُّ لأنه
قد قطَّع الأنفاس من «أنفاسه»٥
هذا الهلال هو الهلاك، وإنما
غلطوا ولم يضعوا العصا في رأسه

كان شيخنا يدخِّن النارجيلة كما يستدل من بيته الأول، والمولع بها يولع طبعًا بالقهوة؛ حتى يرى إساءة طبخها والبخل بالبن كفرًا لا غفران له؛ ولهذا قال الأنسي يهجو قهوة أحدهم:

سحقًا لقهوة من أمسى يجود لنا
بقهوة من سحيق الفحم سوداء
سوداء صفراء، يبدو من فواقعها
ريحٌ يهيِّج سودائي وصفرائي
ما خلت من باسط كفًّا ليشربها
إلا كباسط كفَّيه إلى الماء

وقال في أقرع:

رأيتُ أقيرعًا في الرأس منه
عجيب بات يخفيه ويبدي
يغطيه فيستر سلح هرٍ
ويكشفه فيظهر إست قرد

ومما قاله في هجو بيت وصاحبه، وهي طويلة جدًّا، مع أن ابنه يقول: حذفت منها جملة أبيات:

حتى وصلت لداره، لا حييتْ
طللًا، ولا رحبت فنًّا ومعرّسا
فنظرت بيتًا لا أشكُّ بأنه
بيت الخلاء لمن يريد تنفسًا
تتسابق الجرذان في عرصاته
زمرًا تنوَّع جيشها وتجنسا
وبه العناكب طالما قد خيَّمت
أو طنبت حتى تستر واكتسى
بيت تجاوره القبور وما به
من يستحق إذا قضى أن يرمسا
فيه الذباب تنوَّعت ألوانه
ملأ الفضا لو رام أن يتشمَّسا

وبعد أن قلب ذلك الرجل على نار هجائه حتى صار كسفُّود النابغة، ختم كلامه بقوله له:

كلفتني نظم الهجاء ولم يكن
دأبي، ولكن الأسى لا ينتسى
ولقد أتتك فريدة لو شابها
إبليس يا ابن الأرذلين تبلسا
قابلت طولك يا بليد بطولها
بل ليس موضوع هناك فيعكسا
وتعجرفت ألفاظها بمعجرف
فهي العملَّس حيث كنت غملسا
لكن معناها أرق من الصبا
لطفًا لدى من بالقريض استأنسا

لقد صدق الشيخ في وصف قصيدته، ففيها الكثير من الألفاظ الغريبة الخشنة، ولهذا قدَّم أحسن العذر بين يديها، فكأنه ابن الرومي حين اعتذر لصاحب المهرجان عن خفة الأوزان بأشرف المعاني.

ونلحق بهذا الباب من شعره بعض أبيات من قصيدة قالها في رثاء برذون:

كديش كان ذا صبر إذا ما
رماه الجوع بالأمر العسير
وكان إذا ألمَّ به اضطرار
لأجل التبن يقنع باليسير
وكان يود لو في العمر يومًا
رأى في نومه طيف الشعير
تُوفي وهْو في ضنك ينادي:
أليس لمستجيرٍ من مجير
رمته يد الخطوب فصيرته
طعامًا للوحوش وللطيور
فيا أسفي ويا كدري وحزني
على عنقٍ حكى عنق البعير
ويا أسفي على كرشٍ عريضٍ
رمته يد المجاعة بالضمور
فكم سوطٍ له صوتٌ عليه
وندب في الأصائل والبكور
وأقلام العصيِّ لها صرير
بطرس أديمه فوق السطور
لقد نشبت مخالبها المنايا
به فرأى الحياة من الغرور
وقد أوصى لصاحبه برحلٍ
وجلٍّ أخلقته يد الدهور
وأوصى بالحزام له ولكن
ليلبس كالوشاح على الخصور
وأوصى بالزمام وكان ممن
يرى حفظ الذمام إلى العشير

قلنا إن شيخنا كان يدخن النارجيلة، وها نحن نقرأ خمسة أبيات قالها بلسانها فنكتفي بثلاثة منها للدلالة على إبداعه:

قالوا تحمَّلتِ نيرانًا فقلت لهم:
النار في حبِّ من أهوى ولا العار
شُهِرتُ حتى غدت تعشو السراة إلى
ناري، ولي بمزيد الفضل آثار
فها أنا مثل «صخر» حين قيل به:
كأنه عَلم في رأسه نار

كان مجلس الشيخ الأنسي — كما أرى في شعره — مجلسًا حافلًا بالأنس، تستهوي صاحبه الطرافة فيصفها بكل طريف؛ فاقرأ هذين البيتين من قصيدة بين بين في الطول بنى «عروضها» على السين، و«ضربها» على الثاء؛ لتكون محاورة طريفة بينه وبين ألثغ اسمه سليم. قال الشاعر:

أقول له: يا بدر مالك عابسًا!
يقول دلالًا: إنني بك عابث
فقلت: وما للطرف أصبح ناعسًا!
فقال هو الفتَّان للعقل ناعث

ثم يمضي في هذه القصيدة بين قلت وقال ويقول، حتى يقول عشرين بيتًّا مطبوعة على هذا الغرار، وأظنه مبتدعًا في هذا غير متبع أحدًا، أما في الغزل فله تفنن قصصي من نوع آخر. قال:

لثَمْتُ يد المحبوب يومًا فقال لي
على خجلٍ: حوشيت يا علمَ المجد
مقامك أعلى أن أراك مقبِّلا
بجسمي غير الجيد، والثغر، والخدِّ
فقلت أرى إحياء نفسي بقبلةٍ
برجلك أولى من هلاك أخي الوجد
وما أنت إلا كعبة الحسن حيثما
لثمتك نلت الأجر يا غاية القصد
فأعجب حتى قال: سبحان من برى
لنا دولةً مولاي أضحى بها عبدي

وللشيخ أحاجي كما لشعراء زمانه، وله غير ديوانه الشعري رواية تمثيلية عنوانها «كشف الظنون عما جرى بين الأمين والمأمون» دلنا عليها ذكره لها في ديوانه.

هذا هو الرائد الأنسي الذي ابتسم معه الشعر في القرن التاسع عشر، كما ضحك مع الترك قبله.

(٣) القاسم الكستي

كل هؤلاء الرواد من الملتين إن لم يكونوا تلاميذ «مدرسة تحت السنديانة» فهم تلاميذ مدرسة تشبهها، فلا حاجة إلى التكرار والمراجعة، والشيخ الكستي، كفطاحل زمانه شاعر له ديوانان: مرآة الغريبة، وترجمان الأفكار، وله أيضًا رواية تمثيلية عنوانها: «حكمة الأفكار» يدلنا عليها تقريظ لها في ديوان الأنسي.

وللشيخ الكستي أراجيز طويلة أشهرها مقصورة كأنه يعارض بها المقصورة الدريدية في حكمها، والكستي يجاري صديقه الأنسي في مواضيعه، فيقول أرجوزة فكاهية في وصف الملوخية، منها:

خيوطها بيضاء كاللجين
تظهر كالصبح لذي عينين
لو أنها قد نبتت في اللدِّ
يشمُّها من في بلاد الهند
إن ملئت بها بطون القصعِ
تشرقها الأبصار قبل البلع
ترى عليها كثرة الملاعق
تقرع بالأسنان كالصواعق
كانت للقمان الحكيم مأكلا
وجوفه لها استقر منزلا
وكان يوصي سائر الأطبَّا
بقراطُ أن يستعملوها شربا
كذا ابن سينا قال في القانون
لا تبخلوا بها على البطون
وخصها بالذكر أفلاطونُ
وقال منها يصنع المعجون

وكما بارى الأنسيُّ ابن الرومي في الهجاء، رأينا شيخنا الكستي يباريه في وصف المآكل، ثم يتفق مع الأنسي في رثاء العجماوات، ولكنه لا يرثي كديشًا بل كنارًا، ولا يهجو صاحبه كالأنسيِّ بل يعزِّيه، وهاك بعض ما قال:

يا صاحبي عزِّيت بالكنار
فإنه من أحسن الأطيار
ما مات من جوعٍ ولا من قلَّه
لكن رماه ريشه بعلَّه
عليه لا تحزنْ وكن صبورًا
والتزم الشكر تكن مأجورا
لو كان يُفدى بالنفيس الغالي
فديته من طارق الليالي
لكن إذا ما حدثُ الموت نزلْ
لا ينفع الحزم، ولا تغني الحيل
عوَّضك الرحمن عنه طيرًا
يكون بالتغريد منه خيرا

ويصف شكل ذلك الكنار، فيقول:

ذو ذنب فاق، ولله العجب
على اللجين وهو بالحسن ذهب
مزيَّنٌ بالتاج كالطاووسِ
ملوَّن الرداء كالعروس
لله حسن ذلك المنقار
من ذهب قد صيغ لا من قار
قد كان في الدنيا من الزهاد
ملازم الخلود بانفراد
وعاش محبوسًا ولم يشك الضجر
حتى أباده القضاءُ والقدر
فإنني أُهدي إليه الفاتحة
وإن يكن من الطيور الصادحه

أشهد أنني شممت رائحة شعراء «يتيمة الدهر» في هذا القريض — رحم الله من قاله.

(٤) محمود قبادو والدحداح

رشيد الدحداح: رائد هاجر فأفاد الأدب من هجرته، كان كاتبًا شاعرًا من طراز معاصريه فصار كاتب سرِّ الأمير أمين ابن الأمير بشير، ثم هاجر فاستحال تاجرًا في مرسيلية، وأدركته حرفة الأدب كهلًا فأنشأ جريدة برجيس باريس، ونشر معجم المطران جرمانوس بعدما أصلح ما أفسدته فيه يد النساخ، ثم نشر أيضًا شرحي ديوان ابن الفارض للشيخين الصوفيين البوريني والنابلسي، وهو أول من نشر بالطبع كتاب فقه اللغة، وله كتاب قمطرة طوامير مع كتب أخرى.

ومتى ذكرت «القمطرة» تداعت الأفكار، فذكرنا اسم السيد محمود قبَّادو التونسي صديق الدحداح الذي نشر له في القمطرة تصديره وتشطيره — ارتجالًا — القصيدة المنسوبة لبشر بن عوانة: أفاطم لو شهدت ببطن خبتٍ.

لقد أحسن الكونت رشيد الدحداح تقديم صديقه الشيخ محمود إلى القراء قبل نشر التصدير والتشطير. ليست القمطرة عندي لأنقل تلك المحاورة الطريفة، ولكني أذكر العبارة التي اعتذر بها قبادو عن ركوب هذا المركب الخشن، قال قبادو: قريحتي صدئت، فأجابه الدحداح: اجْلُها بالنظم، فقال: اكتب إذن على خيرة الله، ثم كان ذاك التشطير فتكافأ الشاعران قبادو وابن عوانة، وزاد عليه رائد النهضة تصديره الجميل، والناس يذكرون عن قوة ذاكرة قبادو مثل ما ذكروا عن أبي العلاء.

ولهذا الشيخ ديوان كبير جمعه تلميذ له في جزأين، وهو من أصحاب «المعجزات التاريخية»، وقد فاتنا أن نشير إليه مع أصحاب تلك الخوارق، في مقال «التأريخ الشعري».

(٥) يوسف الشلفون

رائد متسلسل من جدٍّ حكم ساحل لبنان تحت ولاية الأمير بشير، وقد أصدر أربع صحف: الزهرة، والنحلة، والنجاح، والتقدم، بالاشتراك مع المطران الدبس، ثم إسحاق، وصابونجي، وأنشأ المطبعة الكلية.

له ديوان عنوانه «أنيس الجليس» قال أكثره في مدح ذوي السلطان، وكبار أولي الأمر في زمانه، وقد «راسل» أدباء وشعراء عصره. أما غزله فأراه يقلد فيه معاصره الشاعر خليل الخوري، فهو يقول مثله، وإن قصر عنه في الإبداع:

هي العيون وإنْ تسأل هي الأجل
لم تُبقِ صبًّا وما في قلبه وجل
يا دولة حاجبها ناظران لها
قرَّت لسطوتك الأيام والدول

ويذكر لبنان مثل خليل، ولكنه لا يبلغ شأوه في وصفه، ولا بدع في تقصيره فقد كان — أولا — عاملًا في مطبعة الخليل كمنضد حروف ومصحح مسودات.

وقد حاول كغيره من «الرواد» اجتراح العجائب البيانية فنظم قصيدة تقرأ من الكامل ومجزوئه، وله أيضًا موشحات. وقد نظم «تواريخ» من ذوات الطلق الواحد …!

١  يقصد الأسلاك التلغرافية، والجرائد.
٢  شيخو. الآداب العربية في القرن التاسع عشر ج٢ ص١١.
٣  المورد العذب ص٣.
٤  جزء ٢ ص٢٦٣، الطبعة الثالثة.
٥  يريد ما يسمونه «نفس» الأركيلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤