فجر التجديد

(١) خليل الخوري

هو أول رواد التجديد، وقد تناساه الناس كما تناسوا سواه من السلف الصالح. ليس الأدباء بأقل بأسًا من الملوك الذين اعتادوا هدم آثار من سبقوهم؛ ليبنوا بحجارتها قصورًا يحملونها اسمهم زورًا. فلو كان للشدياق والخوري أسباط لما أهملهما لبنان هذا الأهمال المخزي، ولما اسودَّت وجوه عند ذكر الأول منهما.

يقول لك بعضنا اليوم: ماذا عمل عمرو، وأي أثر يؤبه له تركه زيد؟ ماذا عمل هؤلاء الذين تعدُّهم لنعتدَّ بهم؟!

صَهٍ، أيها المغرور الأحمق، أما ترك لك أبوك وجدك بيتًا كان معدودًا في زمانه، فماذا تطلب منه أكثر؟ افتح أنت بابًا، بل شباكًا، بل طاقة في ذلك البيت، ثم عد إلى اللوم والنعي، ضع فيه على الأقل حجرًا يبقى إن كنت ذلك الرجل، زد على قامة بيت الأمة الأدبي ولو شعرة ثم قل ما شئت.

يظن من أعمى أعينهم الغرور أنه لم يفكر أحد قبلنا في إنعاش الأدب، ونفخ الروح فيه، فيرون أن كلماتهم الملفَّقة خلقت الأدب العربي خلقًا جديدًا، وأن من سبقوهم لا يستحقون أن يحلوا سير حذاء زارتوسترا — كما قال نيتشه — يوم كان مجنونًا غير مشهور …

قالوا «لكل عصر رجال» والقول حق، فالذين مرُّوا على الطريق قبلنا عملوا ما عليهم، فما علينا نحن إلا الاعتراف بذلك تشجيعًا لسواهم من العاملين اليوم، أقول هذا بمناسبة الكلام عن الشاعر خليل الخوري أبي الجريدة العربية الأهلية.

ولد خليل في الشويفات عام ١٨٣٦، وتلقى العلوم في مدارس زمانه، ثم على أساتذة خصوصيين. قال الشعر فكان طريقه إلى أبواب الولاة، فمكنوه من إصدار أول صحيفة عربية أهلية هي حديقة الأخبار، ثم أحدث إلى جانبها مطبعة تطبعها سماها المطبعة السورية.

طرب المعلم بطرس البستاني الأول لصدور هذه الجريدة ومطبعتها، فقال في خطابه «آداب العرب» الذي ألقاه عام ١٨٥٩ في الخامس عشر من شباط:
ومما لا يشوبه ريب أن الجرنالات من أكبر الوسائط لتمدن الجمهور، وزيادة عدد القراء إذا استعملت على حقها. والأمل أن هذه الفتاة — المطبعة السورية لحديقة الأخبار — التي هي أول مطبعة عربية خصِّصت بالجرنالات تتقوَّى، وأن أتعاب مالكها ومديرها العزيز خليل أفندي الخوري تكلل بالنجاح، فيخلد ذكره عند أبناء الوطن كفاتح لهذا الحصن الحصين الذي غفل المتقدِّمون عن فوائده، وكأني به واقفًا على شاطئ البحر الكبير الفاصل بين العالم القديم والعالم الجديد، يستشرف تارةً على الجديد ويلحظ أخرى إلى القديم، ولدى انتشار ديوانه الموسوم «بالعصر الجديد» الذي أفرغ فيه الشعر القديم في قالب جديد يتضح المعنى المقصود.١

أشاد البستاني بذكر خليل الخوري، ودل على فضله الأسبق في حقلي الصحافة والشعر، وترجى له خلود الذكر كفاتح أدبي، ولكن الخليل خلد في شعره لا في نثر جريدته، وقد كان في استطاعته ذلك؛ لأنه لم يكن في الشرق يومئذ إلا الصحف الحكومية، ولكن سياسة إرضاء الدولة العلية كانت أقصى أمانيه، فرتع في النعم الشاهانية، وتقلب في مناصب عديدة محترمة، ونال أوسمة كثيرة من الأستانة، وغيرها من العواصم.

لم يبرز خليل في النثر لأنه لم ينصرف إليه، فهو شاعر أولًا، بل لا يعنيه إلا الشعر الذي كان سُلمه إلى المناصب. ومن عثر على دواوينه العديدة النادرة الوجود وأجال فيها نظره رأى في: زهر الربى في شعر الصبا، والعصر الجديد، والنشائد الفؤادية، والسمير الأمين، والشاديات، والنفحات؛ مدحًا كثيرًا لرجال الدولة وغيرهم.

أما ما يعنينا نحن — اليوم — فهو التجديد الذي أشار إليه المعلم الأكبر بطرس البستاني، والذي قال ناصيف اليازجي في مدح قائله:

يا هلالًا قد أرانا
في الدجى وجهًا جميلا
سوف نلقى منك بدرًا
كاملًا يُدعي «خليلا»

وعندما بزغ فجر القرن العشرين كنا لم نزل على مقاعد المدرسة، نسمع الجديد ولا نراه إلا في شعر اثنين: خليل الخوري، وفرنسيس مراش. فالمراش، وهو المقتفي آثار خليل الخوري في ديوانه «العصر الجديد»، سوف نصف آثاره البديعة على ما فيها من ضعف لغوي، أما خليل الخوري فهو أسبق وأطرف وأمتن عبارة، وألطف أسلوبًا. إنه — بلا منازع — أول من أفرغ الشعر القديم في قالب جديد. أمده في ذلك خياله الخصب فخلق صورًا رائعة، ثم ظل السراج الوهاج يرسل نوره حتى انطفأ عام ١٩٠٧ في ٢٦ تشرين الأول.

امتدح البستاني ديوان العصر الجديد، فماذا في هذا الديوان الذي أطريناه نعتًا؟ كان يقال الشعر قبله إما حكمة، وإما زهدًا، وأكثره كان مديحًا ورثاء، فلم يترك خليل الخوري المديح، ولكنه فعل ما لم يفعله غيره من قبل، فقال القصائد الطريفة في مواضيع مستقلة، وإذا لم يبلغ فيها شأو الشعراء العظام فصاحة وبلاغة، فحسبه أنه كان رائد الجديد الأول في إبداعه.

في ديوان العصر الجديد قصائد غراء أخرجت الشعر من الصيرة التي زرب فيها أدهارًا وعصورًا، وإن كان جله في مدح السلاطين العظام، والوزراء الفخام، والوجهاء الكرام، أعجب هذا الشعر أعلام ذلك الزمان لأنه لم يكن للشعر العربي عهد به من قبل، فأثنوا على قائله، وإذا تصفحنا هذا الديوان برزت لنا قصيدة عنوانها «الغرام» ثم قصيدة «الخداع» التي منها هذا البيت:

إن ابتسام الثغر يذهب باطلًا
إن كان قلبك عابسًا لم يبسم

ثم «وداع الغرام»، ولكن الشاعر لم يودِّعه إلا ليعود إليه في قصيدة «الفجر»؛ لأن العاشقين كما قال أبو نواس:

كأهل النار إن نضجت جلودٌ
أعيدت للشقاء لهم جلود

فها هو الشاعر في قصيدة «زيارة الدجى» ينادي حبيبته:

قومي افتحي الباب غيري ليس يقرعه
فإنما خشية الإقدام تمنعه

ويظهر أن بيت هذه الفاتنة الحسناء كان على سِيف البحر، فتأمل كيف يغريها شاعرها بتلك الليلة الحلوة؛ إذ يقول لها:

فاصغي به لحنين البحر منتحبًا
كأنه يشتكي بينًا يروِّعه
والشطُّ مدَّ ذراعيه على ظمأ
يعانق البحر والأمواج تصفعه
تلقى على صخره الفضي موجته
وتنثني بعدما بالقرب تطعمه
كغادةٍ صادفت محبوبها فغدت
تدنو إليه دلالًا ثم تمنعه

ثم ينتقل إلى وصف السفينة، ويشبه شراعها بالإزار، وإلى السماء ونجومها الغمَّازة البسَّامة راجبًا أن تنشط تلك الحبيبة؛ حين تسمع وصف هذا الجمال.

ولم يحرم الشاعر لبنان من قصيدة رائعة جسَّدها خياله، وأروع ما فيها هذا البيت المبتكر في وصف الأرز:

يا صفحةً بقيت لهذي الأرض من
أصل الكتاب ترى بها الأسفار

ألا ترى مثلي أن بيت شوقي:

هذا الأديم كتاب لا كفاء له
رث الصحائف باق منه عنوان

ينظر إلى بيت الخليل؟ ثم يصف الشاعر عواصف الجبل المجنونة، ويأتي على ذكر سوريا وصور وصيدا وبعلبك التي درس الكثير من معالم مجدها ليستطرد قائلًا للبنان:

وبقيت وحدَك أنت منتصبًا على
هام العظائم تحتك الأدهار
هل حلت عن قدم الثبات مشيعًا
إذ أشغل الرومان عنك سفار
وهل ارتعدت مروعًا لما سطا
بالروم ذاك الصارم البتار

كأن شاعرنا قد نظر في الأمس إلى ما رأيناه نحن أول من أمس، وفي هذا قال رئيس لبنان الشيخ بشاره الخوري، في ختام إحدى روائع خطبه: الحكومات تزول، ويبقى لبنان.

ثم ينقلنا الشاعر إلى قصيدة عنوانها «الاشتباك» فندعه وشأنه؛ لأنَّ للمصلح ثلثي القتلة … ويدهش البخار شاعرنا؛ فيقول قصيدة عنوانها «معجزات العصر» يصف فيها قدرة العقل البشري على الخلق. أما شعراء اليوم فيرون أكثر مما رأى الخليل فما يخفُّ وقارهم كما خف وقاره، ويظلون ساكتين لأن الذهب خير من الفضة …

قيل إن المنصور عندما مات ابنه طلب من ينشده: أمن المنون وريبها تتوجَّع، فلم يجد في حاشيته من يعرفها فقال: إن مصيبتي بابني أهون عليَّ من هذه المصيبة؛ فإلى شعراء اليوم نحوِّل هذه الكلمة ليفكروا فيها.

ثم يأسف الشاعر لتأخر الشرق، ولكنه يعود إلى غزله فيقول قصيدة عنوانها «العهد»، وأخرى عنوانها «البعاد»، ثم ينظم قصيدة طيبة عنوانها «الحلم» يهديها إلى الخواجة إسكندر التويني، الذي صار فيما بعد بمقام وزير الخارجية في عهد المتصرفية. ليس في هذه القصيدة شيء من المدح، بل كلها غرام وعبرة، وما للتويني فيها غير الإهداء. وهناك قصائد أخرى من هذا الطراز المعلم لا يتسع المجال للإلمام بها. ويخص الشاعر «البدر» بقصيدة فيها التخيل والخلق الرائعان، ويتبعها بقصيدة عنوانها «المحب المغدور»، وليس هو أول سارٍ غرَّه قمر … وبعد أن تاب توبة نصوحًا في هذه القصيدة سمع صوتًا، فقال قصيدة عنوانها «اليقظة»، وهذا مطلعها:

أصوتكِ أم صدى عودٍ يعاد
وأنت أم الملاك له ارتياد

ثم ينثني فيقول قصيدة طويلة النفس كقصائد ابن الرومي يهديها إلى التويني أيضًا، ويخصه ببضعة أبيات في ختامها، ثم نظم في مدينة صور قصيدة طويلة أيضًا حتى قال بلسانها:

ما كان لي أبدًا نظير في العلى
والآن ما لي بالخراب نظير

هذا مؤسف، والثابت وجه الله، كما يقول إخواننا الدروز. ويصف ليلة في لبنان، وما قصده فيها إلا وصف لبنان الذي يذكر كل شيء من شئون الأمس إلا عباقرته.

لقد أفضت فى الكلام عن «العصر الجديد»؛ لأن فيه خيرات كثيرة، فلنترك، ولو قليلًا، لأحد دواوينه الآخر وعنوانه «الشاديات» فنخص بالذكر رائعة خالدة فاقت بخيالها العجيب «حديقة الشعر» لابن الرومي، وأرتنا أن القائل: ما ترك الأول للآخر، قد كان واهمًا؛ فمتى وجدت الإرادة كان الإبداع، وها هو الخليل يقص علينا أحسن القصص في قصيدة «الرمان والعناب»، فتضج بالحياة التي لم نر لها أثرًا في حديقة ابن الرومي. قال:

ما بالُ صاحب ذا البستانِ قد علقا
بربة الحسن يبدي الغيظ والحنقا
ما باله انقض من هول الهموم على
تلك الغزالة كالصياد وانطبقا
هيا اسرعوا لنرى ما ثار بينهما
من الخصام الذي قد أوجب القلقا
أراه مشتبكًا معها بمعمعةٍ
كطالب الثأر للغارات قد سبقًا
معلقًا برداها وهو يصرخ يا
أهل الحمية، إن الروض قد سرقا!
يا لصة غافلتني وهي مائسة
بين الغصون تناجي الزهر والورقا
سرقت ويحك رماني ومنه لنا
قوت العيال الذي ألقى به الرمقا
وقد سرقتِ لي العناب معه وذي
أيديك قد حملت من حَبهِ طبقا

وكانت معركة كلامية حامية الوطيس بينهما، وظل البستاني مصرًّا على أن الفتاة تخبئ رمانة في عبها، وعبثًا حاولت الفتاة إفهام من لا يفهم، بل ظل يصيح:

ردي عليَّ ثماري لست أتركها
أو لا فأرجع مالي كيفما اتفقا

فغضبت الحسناء غضبة مضرية، واحمرت وجنتاها من الغيظ، ثم:

قالت له: ويكَ. لا تمددْ إليَّ يدًا
إذا سرتْ نحو صدري كسرها سبقا

وبعد كدِّ الذهن اهتدت تلك الحسناء إلى برهان ذي حدين، فقالت للبستاني:

هل عندك الورد في البستان أسرقهُ
صبحًا، وأنشرُ منه للملا عبقًا؟!
فقال لا وردَ عندي والربيع مضى
وما تريدين من وردٍ إذا سرقا!

فدلته على الورد — في خدها — فشده المغرور، وفارقه ذلك العناد:

فقال ويحي لا رمَّان كان ولا
عنَّاب سبحان بارينا الذي خلقا!

أما الفتاة:

فاستضحكت ثم سارت وهي قائلة
الحسن يدهش في أنواره الحدقا
والله ما سرقت كفاي في زمني
إلا العقول وإلا القلب منسحقا

هذا هو شاعرنا واضع الحجر الأول في صرح تجديد الشعر المعاصر بعدما أقوى، وطال عليه سالف الأمد، قال أطرف شعره في منتصف القرن التاسع عشر، وظل يقول حتى مات في صبح القرن العشرين، وكيف يموت من تردِّد له الألسن مثل هذا البيت:

هاتوا المطارق إن قلب حبيبتي
أمسى حديدًا فاضربوا لِيَلين لي

(٢) فرنسيس مراش

كان فرنسيس المراش على قصر عمره زعيمًا أدبيًّا ترك دويًّا، إن لم يكن في الدنيا، كما أراده أبو الطيب المتنبي، فقد «بلغ الفرات زئيره والنيلا …» وكيف لا يسوغ لي أن أستعير له وصف المتنبي لأسده، وهو الذي اجترأ على نشد الحرية يوم كانت الأفواه مكمومة، والخزامة في الأنوف والشفاه، وسيأتيك الخبر حين نتكلم عن «غابة الحق».

قلت إنه زعيم أدبي قبل أن أعرفك به، كما هي الخطة عند من يكتبون عن الأدباء، أظن أنك تعرفني فمن طبعي أن أسير في أبحاثي كما يشاء القلم فهو الذي يسيرني ولست أنا الذي يسيره.

أما زعامة المراش الأدبية — على وهن عبارته — فبرهاني الأول على إثباتها هو هذه الذكرى التي مرَّ عليها نحو نصف قرن، وهي تستحق احتفالًا بيوبيلها الذهبي. كان ذلك عام ألف وتسعمائة، وكان أستاذ اللغة العربية يلقي علينا آخر درس من دروس ذلك العام، فقال لنا في ختامه: التلميذ كالبيت يحتاج إلى مئونة، ومئونة من كان مثلكم الكتب، فإذا أردتم رسوخ القدم في الإنشاء؛ فاقرأوا نهج البلاغة، والدرر لأديب إسحاق، وكشف المخبا، وكنز الرغائب لأحمد فارس الشدياق، ومشهد الأحوال، وغابة الحق لفرنسيس المراش. المراش يا أولادي، شاعر كاتب مجدد، ولكي يهتدي الواحد منكم إلى ذاته ويكوِّن شخصيته يجب عليه أن يقرأ هذا وهذاك، ومن قراءة الكتَّاب المختلفين تظهر الذات، وما نفع كاتب أو شاعر بلا ذاتية.

إنني أقف عند هذا الحد من كلام أستاذنا، فقد كان وقت درسه ساعتين، فودَّعنا بالكثير من الوعظ؛ لأنه كان خائفًا أن نضيَّع في الصيف اللبن، ونعود إليه وقد نسينا ما شقي هو في تلقيننا إياه من فرائد. تركنا المدرسة في العاشر من تموز، وكدت لا أصدق أنني أطللت على الضيعة. تسعة أشهر ونصف مرت، ولم أر لها صورة وجه. قل وصلنا بالسلامة، ورأيناها ما زالت حيث كانت … وكما كانت … فالقرى أشد محافظة من كل الذين يزعمون أنهم محافظون.

وكانت السهرة في بيتنا تلك الليلة، أما في الليلة التالية فكانت في بيت عمِّي لحا. فعمي هذا ذاهب إلى بيروت، ولم تكن الرحلة إلى بيروت هينة في ذلك الزمان. سوف ينام الليلة القادمة في جونيه إذا عجَّل، ويتابع في الغد سيره إلى بيروت التي لا يعود منها قبل أسبوع. فالطريق وحدها تقتضيه أربعة أيام، تلطَّف ذاك العمُّ وسأل ابن أخيه عما يتمنى من «المدينة» فأجبته على الفور: كتابين يا عمِّي: مشهد الأحوال، وغابة الحق.

وكان الوالد ينتظر أن أطلب من عمِّي شيئًا له قيمة وشأن. فهز برأسه كعادته في تلك المواقف الحرجة، وقال: غابة وحق يا صبي! الحق ضائع في العلالي والقصور فمن يجده في الأحراش! أما العمُّ فرأى أخاه غير مصيب — طبعًا لأن الطلب هين، فأنزله حالًا في دفتره ذي الغلاف الأسود اللامع، وسكت الوالد، وسكتُّ أنا، أما العم فقال: أين ألاقيه؟

– في المكتبة العمومية لإبراهيم صادر وأولاده.

فأجاب، وهو يزجُّ دفتره في عبه: عرفته.

وبعد العود الميمون من تلك الرحلة السندبادية جاء الكتابان، وغرقت فيهما إلى أذني، وقرأت لونًا جديدًا وذكرت معلمي الجليل بالخير.

ففرنسيس مراش حلبي؛ وعن حلب الشهباء أخذ لبنان لغة الضاد، وأعطاها ما عرفه في القرن السابع عشر من لغات أجنبية، وهكذا لقحت الثقافة الضادية بدم جديد منذ ذلك العهد. ذكرت هذا لأن له الأثر البارز في ما كتبه المراش.

المراش ابن بيت علم، وللبيت أثره في الأولاد عندنا، فبيت العلم يخرج العلماء، وبيت الصناع يخرج صناعًا حاذقين، ففرنسيس هذا من أسرة مثقفة، أبوه تاجر له من العلم نصيب، وأخوه عبد الله عرف بالفضل والأدب، وقد زار مكاتب أوروبا فلندن وباريس ونسخ منها آثارًا عربية أعجبته، ورأى فيها فائدة لأبناء جنسه الناطقين بالضاد. وأخته مريانا شاعرة كاتبة. ففرنسيس إذن ابن بيت يذكرنا ببيت زهير وجرير مثلًا.

ولد بمدينة حلب، واعتل بصره في الرابعة من عمره، قال الشعر وهو ابن تسع كما رووا عنه وعن أديب إسحاق وغيرهما، ولما حذق العربية شاء أن يكون طبيبًا؛ فتلمذ لطبيب إنكليزي بحلب، ثم طمح في أن يكون طبيبًا قانونيًّا؛ فرحل إلى فرنسا طالبًا هذا العلم، وقد حدثنا عن سفرته في رسالة عنوانها «رحلة باريس». وصف في هذا الكتاب الطريق التي قطعها بين حلب والإسكندرونة وصفًا دقيقًا رائعًا؛ أقول هذا لأني قطعتها بعده، في السيارة طبعًا، وهاك بعض ما قال لنستدلَّ به على قوة مخيلته وتصوره:

أوعار ملقاة في وسط الطريق كأنها أمواج البحر الجامد معدة لتمزيق سفن البر. صخور منفردة في العراص الخالية كأن الأيام نخرتها والرياح صقلتها لتكون أوتادًا لمضارب الخراب والكآبة. جبال صلعاء القمم، معممة بسحب القتام، ولا مزية لها سوى الشمخ إلى السماء، فهي كالجاهل المتكبر أو الأحمق المدعي … أوهاد فاغرة الأفواه لابتلاع السالكين على شفاهها، وهضمهم في ظلمة وظلال الموت … قناطر مقطعة الأوصال هابطة تحت ثقل الشيخوخة، ودوس أقدام الزمان.

ثم يقول:

وفي إحدى مراحل هذه الطريق انفردت مساء إلى جهة من تلك البرية الساكنة وجلست على صخرة مضطجعة في حضن الوحدة، وأخذت أتأمل هذه الفلاة الحزينة بينما كانت شمس الغروب تصبغ وجه الطبيعة بصفرة المنون، والأفق يحوك علي سراج الشفق ثوب الظلام.

ثم عاد الرائد من باريس مكفوفًا، ولم يستفد منها طبًّا. أراد هو الطب وأراد القضاء الأدب، فكتب «مشهد الأحوال» و«غابة الحق»، وكلاهما مستوحيان من باريس. وظل فرنسيس يكتب ويؤلف، ولما أصبح غير مستطيع استعان بأصحابه الذين يكتبون ما يملي، وظل على ذلك حتى مات عام ١٨٧٤ تاركًا كتبًا عديدة.

شخصيته: كان الشدياق في ذلك الزمان يملي من وراء بحرنا فرائد يجلوها خرائد، وكان اليازجي والبستاني والأسير والأحدب يؤلفون ويصنفون، أما هذا الشاب فكان يتطاول إلى إنعاش الأدب، ويحاول بثَّ دم جديد في الجسم المترهل. كان هو بلبل الشمال الصداح. أدركته حرفة الأدب فازورَّ لتجارة أبيه وأخيه الواسعة، ووقف فكره وقلبه على النظم والنثر وقفا خالصًّا لوجه الأدب والفكر، فكان كاهن الحرية الأعظم في هيكلها الذي بناه لها رفيع العماد في برية الشهباء كما سترى في «غابة الحق».

نظم الجديد من الشعر متعمدًا، وكتب الطريف من النثر قاصدًا، وقد قال عن نفسه في معرض الرد على أحدهم:

وشيخٍ مذ رأى نظمي ونثري
فقال وطبعه شر الطباع:
أرى معناك مطروقًا كثيرًا
فقلت: نعم بمطرقة اختراعي

كان مفكرًا يعنيه أن يقول شيئًا، وضالته الحكمة في كل ما كتب، فكثيرًا ما كان يخلط الغزل بالحكمة تارة، وبالنصائح الاجتماعية حينًا، والفلسفة طورًا، فبينا نراه يتطوَّح في الحب حتى يخرَّ إلى ذقنه إذا به ينهض نافضًا ما علق بأذياله من غبار التذلل، رافعًا عنقه بإباء الجواد الأصيل، ثم يحمحم:

أأذوب لا والله لست أذوب؟
إن قال: ترك. قلت: ذا المطلوب
رح يا رسول إلى الحبيب وقل له:
مات الغرام، لك البقا فتطيب
إن المحبَّ سلاك فابشر بالمنى
واذهب فأنت لمن تشاء حبيب

إن مخيلة المراش ككأس أبي نواس فأنَّى اتجهت في شعره ونثره تجدها منتصبة أمامك كالمنارة أمام السفن الضاربة في عرض البحار.

قال أكثر شعره في أغراض جديدة، وعبارته رقيقة سهلة وأحيانًا ركيكة. غزير الأفكار وكثيرًا ما يعجز عن تأديتها بعبارة صحيحة. متشعب المواضيع، تغلب اللهجة الخطابية على ما يكتب شعرًا ونثرًا. واضح الصور، واسع الوصف، تشابيهه واستعارته وصوره مؤثرة، ولكنها تفيض عذوبة وحنانًا. يغلب عليه التشاؤم حتى في غزله، وفي أشد مواطن الفرح ترى على وجهه جهومة ابتسامة حزينة إلا أنها صادقة. وإني أعزو هذا إلى الحصبة التي أصيب بها صغيرًا، فتركت تشققًا وتصدعًا في بنيان هيكله، فأدَّى ذلك إلى كفِّ بصره وموته الباكر.

وشعر المراش ونثره يدلان دلالة صارخة على حبه للعلم، فكأنَّ الطب الذي تعلمه أحاله فيلسوفًا في «مشهد الأحوال» و«غابة الحق» وكذلك أصاب أصحابنا الأندلسيين إذ استحال طبيبهم فيلسوفًا. وللغربة أثرها البيِّن في شعر المراش ونثره، كما نرى في مشهد الأحوال حين يصف لنا مشاهد باريسية. كان الشاعر أميل إلى وصف الحضارة والمدنية منه إلى وصف الطبيعة، وإنْ سمعناه يحنُّ إلى جبل أبي العلاء المعري — جبل سمعان — قائلًا:

فمتى أرى الأظعان تعدو بي على
«سمعان» حيث مطالع الشهباء
ومتى أرى جبل اللكام يمدُّ لي
باعًا يطول على حبال النائي

(٢-١) مرآة الحسناء

عنوان ديوان له يقع في ٣٤٨ صفحة، وهو لو طبع كما تطبع دواوين اليوم لفصلنا من ذلك القماش دواوين عديدة، واستقل كل من مواضيعه بديوان خاص به، ولكنه طُبع في ذلك الزمان، يوم لم يكن هذا التنظيم والترتيب الذي يكثر ورقه، ويقل كلامه …

يثور المراش في مقدمة ديوانه على القديم فيقول: إن المدح إطراء ورياء، والقدح حسد وعياء، ثم يعلن في قصيدة لامية الثورة على القديم، ولكنه لا يجهل أنه دونهم تعبيرًا، فيعلن ذلك في كل مناسبة، وحسبنا أن نذكر هذه الأبيات التي ختم بها ديوانه «مرآة الحسناء»، معيدًا الأمر كلما بدأه، قائلًا:

هفواتي كثيرة ليس تحصى
ومن الفضل ليس لي من مزيَّه
غلطي فاضح فإن سترته
فئة الفضل قلتُ نعم السجيَّه
وإذا رام كشفه ذو كمال
كان شكري له أقل هديه

وفيها يقول عن نفسه:

تأنف الرفد والجوائز مهما
كنَّ، فالذلُّ كله في العطية

ويحمل المراش على الشعراء الذين يبيعون شعرهم بالجوائز والرتب والألقاب فيقول:

لا أمدحنَّ سوى لبيب فاضل
أو صاحب حامي الذمار مؤاس
ما لي وللألقاب، فهي بأهلها
جاءت كأجراس على أفراس
كم دولة، أو رفعة، أو عزة
شريت بمال، أو برشفة كاس
كلمات تعظيم على مستحقر
لم يسو فلسًا في غلاء الناس

إن نفس المراش تحسُّ كل ما حولها، فهو يفتش عن مواضيعه تفتيشًا، بل يستلهم المكان والزمان وينتزع منهما مواضيعه، أما رأي المراش في الشعر فقد عبر عنه بيت في إحدى القصائد؛ إذ قال:

والشعر ليس يجله شيء سوى
لفظ جميل فيه معنى مطرب

وأشهد أنه لو أطال الله عمره، وأسلست له العبارة قيادها لكان شاعر عصره، ولم تعدم العروبة حظها من شاعرنا — وهو العائش في ظل الأتراك — فاسمع كيف يخاطب الفرنج، وإن كان من المعجبين بتقدمهم:

حتَّام تزرون يا إفرنج بالعرب
مهلًا فلا خير بابن قد زرى بأبِ
إن كان بالعلم جئتم تفخرون فمن
معالم العُرْب كل العلم والأدب
تذكروا ما غنمتم يوم ندرتكم
في أرض أندلس من تلكم الكتب

وهو يذم الزمان كغيره من شعرائنا، فقد شاع ذم الزمان عندنا حتى حمَّلناه، وما زلنا نحمِّله، أثقال كل تقصير، ولكن الزمان قادر على حمل الدنيا وما فيها …

ثم يلوي على شاعر اسمه ابن خياط فيقول متهكمًا بشعره:

رأينا لابن خياط قريضًا
يقرِّضنا بلا ناب وضرس
إذا ما قال في تموز شعرًا
أعاد الثلج قنطارًا بفلس

وقد نظم المراش الموشحات حتى كان ينطلق أحيانًا من قيود القافية؛ فينظم قصيدته مقاطع ذات قافية يلتزمها هو كما فعل الأندلسيون قبله، وهو لا يحرم العلم والاكتشافات الحديثة من شعره، فيلجأ إليها ليخلق معنى جديدًا لم يسبق إليه فيقول:

تكهرب القلب من برق الطلى فغدا
يجاذب العشق لكن قط ما دفعا

وتراه يترسم خطى أبي الطيب، فينحو نحوه، ولكن في معنى غير معناه:

الحسن يمنح والتدلل يمنع
والقلب يعشق، والتدلل يردع
كثرت عيون الراقبين وإنما
عندي قبالة كل عين إصبع

ثم ينحو نحو البهاء زهير في قصيدته: «رفعت رايتي على العشاق» فيقول:

أنا هو سلطان الغرام وربُّهُ
وكل فتى يرعى الهوى هو من جندي

بيد أن هذا الطموح إلى الجديد قد اندفع مع التيار العصري؛ فقال كغيره — تواريخ وألغازًا — ونظم على طريقة الحلي قصيدة يبتدئ كل بيت منها بالحروف الهجائية من الهمزة إلى الياء، كما قال أبياتا كلها من المهمل.

وفي الديوان أيضًا ما يشبه المواليا، ولكنه أفصح لغةً وأصح، وقد لاحظت في استقرائي هذا الديوان؛ أن الشاعر لم يدع حرفًا إلا قال عليه شعرًا حتى حرف الثاء والظاء وغيرهما، وقد راسل أشهر أدباء عصره ومدحهم كالشدياق، واليازجي، وغيرهما، وتلك كانت خطة متبعة في ذلك الزمان كما ذكرنا.

هذا هو ديوان مرآة الحسناء، وسأعرفك بمشهد الأحوال، وغابة الحق؛ ليس لأنهما كتابان نادران، لا تجدهما إلا على رفوف المكاتب الخاصة، بل لأنهما كتابان من نمط جديد.

(٢-٢) مشهد أحوال

على كتاب «مشهد الأحوال» و«غابة الحق» قامت شهرة المراش، فقد كان لهذين الكتابين شأن حين ظهرا؛ فأحلا مؤلفهما مقاما رفيعا في دنيا الأدب، لم يكن ذلك لبلاغتهما ولكن طرافتهما — في زمن قلَّ فيه الطريف — أنزلتهما تلك المنزلة. بنى المؤلف كتابه «مشهد الأحوال» على أحوال الحياة والمجتمع: حال الكون، حال الجماد، حال النبات، حال الحيوان، حال الإنسان. ومما قاله في هذا المخلوق الأناني العجيب: «فغدا يصارع الحاضر، ويرتعد من المستقبل، ويأسف على الدابر. فما ابتسم إلا وبكى، وما شكر إلا وشكا، إذا فرح بضعة أيام، حزن بعض أعوام، إلى أن يقول شعرًا:

إنما المرء لا يرى غير بلوا
ه فلابن الإنسان عين قصيرة

ولا تعجب إن رأيت السجع في هذا الكتاب، فما أرى صحبه إلا ناحيًا نحو أصحاب المقامات، ولكن بموضوع غير موضوعهم؛ لأن ثقافته غير ثقافة أولئك.

ثم يمر بحال الرجل وحال المرأة، فيظهر محبته العظيمة لها كالشدياق حتى يقول:

إن كل اللطف والظرف لقد
جمعا في ذلك الجنس العجيب

ويعود فيفصل الإنسان: حال الطفولية، حال الفتوة، حال الشبوبية، حال الشيخوخة فيقول فيها قولًا طيبًا. وينتقل إلى العمران فيبدأ بحال العيلة، وحال الهيئة الاجتماعية، وحال البلاد، فيتطرق هنا إلى ذكريات باريس التي فتنته أنوارها، وعاد منها بلا عينين. قال في هذا موشحًا من طراز «جادك الغيث»، ولما توغل في عاصمة النور ذهل وهتف في قصيدة أخرى:

لست أدري في أي كون مكاني
هل أنا في باريس أم في الجنان
كل ما جاء في السماع عن الجنـْ
ـنَة ألقاه ها هنا بالعيان
ها أنا وسط جنة تحتها الأنـْ
ـهَار تجري لكنْ بها كوثران
هكذا أنثني وخلفي وقدَّا
مِي مجال للحور والولدان
حينما الحسن والهوى وهما الأكـْ
ـثَر لعبًا في مسرح الإنسان
فهما للحياة أصل كما اللا
ذوت أصلٌ لبنية الإنسان

وكأنه كان مرة على ميعاد مع فاتنة، فأوحى إليه الواقع هذه القصيدة التي أنقل لك منها ما يلي، وعنوانها «في حرش بولونيا»:

من ذا ينبهني! فقالت لي: أنا
قم فالدجى ولي وصبحك قدْ دنَا
فوثبت أمسح أعيني وأجبتها:
أهلًا وسهلًا بالصباح وبالسنا
والله قد قضيت ليلي باكيًا
وإذا غفلت، فذاك مفعول الضنا
فتمايلتْ ضحِكًا وقالت طِبْ فلا
عتب على من يستخير الأحسنا
إن الخناثة للرجال سجية
وهم الذين إلى النسا نسبوا الخنا

ثم يصف ما يسميه «جسر القناطر»، فيقول في وصف حسان باريس:

وقوامٍ كأنه صنم الأسـْ
ـرار يوحي بعشقه للسرائر
هيكل الحسن واللطافة لم يحـْ
ـرق عليه سوى بخور الضمائر

ويقول في قصيدة أخرى فيبدع في الوصف:

والصبح ذو مكانس الشعاع
يسعى بكنس الظلِّ في البقاع
يرشُّ ماء الوهج اللمَّاع
فينشر الشعاع كالشراع
وتنطوي غبائرُ الديجور
من لا يرى باريس في دنياه
لم يدر ما الجنة في أخراه
ذي جنةٌ ليس لها أشباهُ
ما صاح في جوارها: ويلاه؟
سوى عديم الذوق والفقير

وينتقل إلى حال الشرق والغرب، وفي هذه الحال الأخيرة يصف لنا ليلة رقص باريسية في قصيدة طويلة، وينتقل إلى حال الزمان، وهنا يشعر الشاعر بما رماه به الدهر في باريس، فينظم موشحًا هذا مطلعه:

جئت أرض الغيث كي أطفي الظما
«فطفت» عزمي وزادت عطشي

ثم يمضي في موشحه حتى يقول:

لم أجد والله في هذي البلاد
غير داء لي وللغير دوا

وينتقل إلى حال العلم، وحال الجهل، وحال التمدن، وحال المال، فيعقد محاورة بين غني وفقير، وتأتي حال الحرب والسلم، وحال الحب فيفتتح إحدى قصائده في الحب:

ما للمليحة غضبى لا تكلمني
كأنها بي لم تسمع ولم ترني

والمراش شاعر غزل قبل كل شيء، ولهذا كثرت قصائده في «حال الحب». وتأتي حال البغض فلا يجود عليها بشيء من شعره، ولكنه يرى البغض مدمرًا كما يرى الحب معمرًا، ويختم هذه الحال بهذه العبارة: فلا ريب إن البغض آفة الكل والبعض.

ويظل ينتقل من حال إلى حال إلى أن يختم الكتاب بأحوال تجعل من المراش الأديب عالمًا وفيلسوفًا، ولا عجب أن يلمَّ بكل هذا من رحل إلى باريس في طلب العلم في ذلك الزمان الصعب القاتم.

وإذا كان لم يخطر ببالك خليل الخوري الذي تقدم ذكره، فعد إليه وقابل بين الشاعرين؛ لترى بينهما أقرب النسب. وإني أظن — وإن قيل بعض الظن إثم — أن المراش لم يقصد إلا زميله خليل الخوري، حين قال ما مرَّ بك في ذم الألقاب والرتب …

(٢-٣) غابة الحق

كتاب يكاد يكون قصة. طالب فيه مؤلفه بالحرية لجميع البشر حتى العبيد. دعا فيه إلى السلام دعوة صارخة، ولكن هل سمع العالم دعوة غيره ليسمع صوته؟ وكل ما يقال هنا هو أن الأديب قد أدى رسالته، ورفع الصوت جهرة يوم كانت أعاصير الاستبداد تجتاح الكون، وحين كان ذكر الحرية، بله المطالبة بها، جريمة لا تغتفر. ولكن الكاتب اللبق عرف كيف يرفع عقيرته مطالبًا بحرية الإنسان في عهد سلاطين بني عثمان.

فالمراش شاعر كاتب خيالي من الطراز الأول، ألف كتابه «غابة الحق» على نسق رؤيا يوحنا؛ جعل القصة حلمًا ابتدأ في مطلعها، وانتهى في ختامها، وإذا طالعت هذا الكتاب تعرف أن أسلوبه — وإن كانت عبارته كثيرة الخطأ — قد اتبع زهاء نصف قرن حتى تأثر به الكثيرون من أدباء القرن العشرين.

تخيل المراش أنه يستعرض دول الأرض منذ البدء، رآها في فجر التاريخ دولًا عمرانية، ثم استحالت دولًا غازية فاتحة تتقاتل على حطام الدنيا وتتناحر؛ فيسلب الغالب المغلوب، وبعد هذا العرض قال: «وانفتح لبصيرتي باب رحب مكتوب على قنطرته «العقل يحكم»، ومنه عاينت وراء هذا الباب برية فسيحة جدًّا، ولاح لي عن بعد بيرق يخفق متقربًا، فوضعت نظارة الاختبار، وأمعنت النظر فرأيت مكتوبًا به «العلم يغلب»، وظهرت حينئذ من ورائه جيوش التمدن الزاهر ممتطية متون الاختراعات العجيبة، والمعارف الكاملة، وهي تخطر متموجة بأنوار أسلحة الحكمة والعدل، متدرعة بدروع الحرية الإنسانية.»

ثم رأى ممالك الظلام تندحر أمام الحكمة والعدل والحرية، فمدت دولة العدل سلطانها وقوتها على كل بقعة ومكان، وعمَّ السلام أقطار المسكونة.

ثم رأى الشاعر — في نومه طبعًا — عرشين منصوبين قرب صخرة ينبثق منها غدير، على العرش الأول يجلس جبار معتقل سيفًا ذا شفرتين — كأنه ذو الفقار — وعلى رأسه تاج مكتوب على إكليله: «يعيش ملك الحرية»، وإلى جانبه على العرش الآخر امرأة على إكليلها الذهبي سطر من أحرف نارية: «تحيا ملكة الحكمة.»

ها هو ذا ملك الحرية غضبان يتوعد مملكة العبودية بالاجتياح والتخريب، وها هي ملكة الحكمة تطايب زوجها وتداوره، وفيما كان الحوار على أشده إذا بقائد «جيش التقدم» ووزير «محبة السلام» يقبلان، وقد أتم كل منهما ما عهد به إليه، قاتل «السلام» البغضَ حتى استظهر عليه بسلاح التعليم والتربية، وبعد محاورة بين الملكين وقائديهما قرَّ الرأي على هذه الكلمات الحكيمة: «الظالم يرتد وجعه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمه.» فخير سجايا الإنسان محبته للسلم، ونفوره من الحرب والخصومات؛ فبالسلامة تنمو الهيئة الاجتماعية، وتتسع دائرة تقدمها بالثروة والمعارف والآداب، وبالسلامة تخصب الحقول، وتعطي الأرض غلتها، وتجود الفلاحة ويكثر الحصاد، وبالسلم تعمر البلاد والقرى، وتتسع التجارة التي يقوم عليها مدار الاشتراك مع العالم كافة. وبالحرب تنقطع الشعوب عن مشاركة بعضها بعضًا.

ألا ترى مثلي أن كاتبنا قد دعا منذ ثمانين عامًا إلى ما تدعو إليه «الأونسكو» اليوم، وأنه قد أدرك ما قاله أشهر علماء الاجتماع اليوم: «ما من أمةٍ بعد، ولا إنسان، يستطيع أن يعيش في جزيرة، فمصير الواحد مرتبط بمصير آخر إنسان في أبعد نقطة من الأرض.»

ويحمى وطيس الجدال بين الملكة والملك، ملك الحرية يريد الشدة والعنف، وملكة الحكمة تنشد الرحمة والرأفة، فيُستدعى الفيلسوف الذي جعل المؤلف مقره في مدينة النور، فيأتي ويشرع في بسط آرائه العلمية؛ فتنكسر شوكة غضب الملك، ولكنه يسأل الفيلسوف عن «مملكة الروح» التي سمع بها، وأنه يريد تدويخها وإخضاعها؛ فينبري الفيلسوف للدفاع عنها، ويمنع ملك الحرية من مهاجمتها؛ لأنها تؤدي لعرشه معونة جلى، فهي التي تردع شرائعها الآثام الخفية التي تعجز الحكومة المدنية عن مقاومتها، فيرضخ الملك لبراهين الفيلسوف، ويذعن لحجته القوية.

ثم تتشعب المباحث بين صاحبي الجلالة والفيلسوف، فتدور حول السياسة والمملكة، فيشير الفيلسوف بنشر العلم والمعرفة؛ لتقوى دعائم الملك، وتثبت وتتآخى العناصر المختلفة المتشعبة، ثم يجري الحديث حول التمدن فيبنيه الفيلسوف على خمس دعائم:
  • (١)

    تهذيب السياسة.

  • (٢)

    تثقيف العقل.

  • (٣)

    تحسين العادات والأخلاق.

  • (٤)

    صحة المدينة.

  • (٥)

    المحبة.

ويفيض المؤلف بلسان الفيلسوف في تبسيط موضوع المحبة فيجسدها، ويجعلها تحتج على الأدمغة الكبيرة التي سمتها أسماء علمية مختلفة. قال: «صاحت المحبة بعد أن صعدت على منبر النظام الكوني: أنا التي أوثقت هذه الأجرام برباط الانضمام؛ فكانت أفلاكًا تدور حول بعضها، فلماذا دعيت التصاقًا؟!

أنا التي ألفت بين العناصر المختلفة؛ فكانت مملكات تزهو بمجد الارتباط، فلماذا لُقبت تماسكًا؟!

أنا التي قد فتحت في أجناس الحياة مسالك الميل؛ لتحافظ على أنواعها، فلماذا دعيت تناسلًا؟!

أنا التي جمعت أشتات البشر إلى هيئةٍ واحدة؛ فكانوا متعاضدين في حروب الحوادث، فلماذا سميت اغتصابًا؟!

أنا التي أقفلت مصارع البحر، وأتخمت كبرياء لججه، فلماذا أدعى جزرًا ومدًّا؟!

أنا التي حيثما نزلت عمَّرت، وحينما رحلت خربت، أنا التي اتخذني التمدن دعامة قوية، وبدوني لا يثبت له بناء، فهل يهدمني إلا كل متوحش؟»

ثم يتخطى الفيلسوف أخيرًا إلى القول: فلا يخطئ من يسمي المحبة آلهة الهيئة الاجتماعية.

وبعد أن يعدد الفيلسوف الفضائل جميعها ويشخصها يجيء دور الرذائل: الجهل، والكبرياء، والحسد، والطمع، والبخل، والحقد، والنميمة والكذب، والنفاق، ثم يحشر هؤلاء الذين جعلهم شخوصًا في مكان ما من «غابة الحق»؛ ليحاكمهم ملك الحرية. ويتكلم الفيلسوف مقبحًا العبودية بحضرة ملكها الماثل للمحاكمة، وبينما المحاكمة جارية إذا بعبد زنجي قد دخل القاعة، وشرع يقص على محكمة ملك الحرية كيف أسره وأخاه القرصانُ واسترقهما، وبعد الحكم على الرق والاستعباد بالموت تجري محاكمة الجهل والكبرياء وجميع الرذائل التي مرَّ ذكرها، فتطهر منها «غابة الحق».

وقبل أن يستيقظ المؤلف وينقطع حلمه يرى نفسه في برية الشهباء موطنه، فيراها جنة خضراء، فيتساءل من أين يأتي الخير هذه القفار المجدبة، والساقطة من أعين العناية، منذ ألف عام وأكثر؟ فيسمع صوتًا يدوي في الغمام قائلًا: «ابتهجي يا شهباء سوريا، فها العناية الملوكانية، مقبلة إليك، والمراحم السلطانية هاجمة عليك. قد وقعت تحت أنظار عناية حضرة ذي الشوكة والاقتدار السلطان عبد المجيد خان، دام ملكه مدى الدوران.»

وهكذا سلم للمؤلف رأسه، وظهر كتابه «غابة الحق»، ومشى بخطوات ثابتة في سوق الأدب، واستقر على رفوف المكاتب ولا يزال.

إن في «غابة الحق» ملامح من كتب الفلاسفة العظام كأفلاطون، ومن حذوا حذوه، ففيها يحاول المراش خلق دنيا اجتماعية يسودها السلام والاطمئنان، فجعل عمادها «المحبة» القادرة على كل شيء.

والخلاصة: أن عمل الخيال في غابة الحق يبلغ مداه الأبعد، وقد استولى فيها المؤلف على الأمد. فالعرض والسياق جيدان، والقص يمشي على رسله وإن ركَّت العبارة أحيانًا، أما الأبطال فلا سمات لهم؛ لم يستعر المؤلف لشخوصه الأجساد التي تنبثق منها أعمالهم، وآراؤهم وأفكارهم، بل ناب هو عنهم جميعًا مكتفيًا بأسمائهم، ثم راح يقول بلسانهم ما يقول.

قد يعذر على ذلك لأنهم رموز لا أشخاص، ولكنه في كل حال مسئول عنهم لأنه خلقهم. أما العبارة فخيالية سهلة، ولكنه ينقصها شيء لتخرج ناتئة بارزة؛ إنها كتلك الرسوم التي لم تفز بحظها الكامل من الألوان والخطوط، فإنشاء المراش على ما فيه من خيال وصور قلَّما نحس فيه تلك الحركة، وذلك الزخم.

ليس للمراش شقشقة تعبير أديب إسحاق ولا هديره، ولا صحة تعبير الشدياق ولا ظرفه ولا تهكمه، ولكنه أقوى مخيلة منهما، وقد ذكرت هذين؛ لأنهما كانا سيدي الموقف في الحقبة التي وجد فيها المراش، فهو ولا شك من قراء الجوائب.

والمراش يختلف عنهما جميعًا في تفكيره ومبادئه، فهو متأثر بالعلم والفلسفة أكثر من جميع كتاب عصره، نزاع إلى إصلاح المجتمع، يدعو إلى الأخذ بالحضارة الحديثة. أما ثقافته فمتأثرة بالدين، ولغته تكاد تكون لغة الكنيسة المستعربة حديثًا … ولا تنس أن المحيط الذي نشأ فيه كان محيطًا تركي اللسان؛ فحلب التي سرت منها الفصحى إلى لبنان كانت اللغة التركية تجري على ألسن معظم سكانها.

وبعد، فلست أحدثك عن الأخطاء اللغوية في كتب المراش؛ هذه لأنها كثيرة جدًّا، ولا عن الإسهاب في التعبير؛ لأن عبارته غير مرصوصة ولا متلازَّة، وهو يزجُّ في شعره ونثره الألفاظ العامية غير الفصيحة، ويتصرف كما يشاء في الاشتقاق والجموع، ولو خلا نظمه ونثره من مثل هذه العيوب لكان أكتب وأشعر أهل زمانه.

(٣) شاعرا الكلية

هما إلياس صالح وسليم عازار، وكلاهما ماتا في شرخ الشباب.

كان لهذين يد في التجديد والتوليد، ولم يقولا الشعر مقلدين. نال إلياس صالح شهادة بكلوريوس علوم سنة ١٨٨٨، ومات عام ١٨٩٥. قال زيدان فيه: «ومن غريب قريحته أنه جمع بين الشعر والإنشاء، ويندر أن يتفق ذلك لواحد؛ ولذلك استدعته جريدة المقطم، فتولى التحرير فيها حتى مات، ولو فسح في أجله لأتى بمعجزات البيان. كان متضلعًا من قواعد اللغة قابضًا على أوابدها وشواردها، وعارفًا باشتقاقات الألفاظ ومواقعها.»

وينعته زيدان بحلاوة النكتة، ولعل هذه الحلاوة هي التي أمرَّت عيش أحد معاصريه حتى استولى على بيت الأنسي؛ ليحرفه ويقول فيه:

هو طالح لا صالح لكنهم
غلطوا ولم يضعوا العصا في رأسه

أما أشهر قصائده، ولعلها هي التي أطارت صيته، فهي قصيدته التي عنوانها «الحرية»، ولها حكاية كنا نسمعها في صِبانا؛ ولهذا أحب الآن أن أمتع القارئ بها. كان ذكر الحرية يخيف السلطان عبد الحميد ورجاله، وكان خطيب حفلة الكلية — الجامعة الأميركية — تلميذها المتخرج إلياس هذا، وكانت الحفلة تحت رعاية والي بيروت، فقام إلياس ينشد:

خلِّ عنك الوقوف في دار ميَّه
واعتزل ذكر زينبٍ وأميه
رحم الله كل من قال شعرًا
في ربوع الإسلام والجاهلية
إنما دارنا بمن شرفوها
عن سليمى وعن سعاد غنيَّه
لا تلمني يا عاذلي بهواها
فأنا قيس هذه العامريَّه
وعلامَ الملامُ والقلب قلبي
ومعي فيه «حجَّةٌ شرعيه»
فإذا كنت تدعيه فقدم
«عرض حالٍ» للأعين التركيَّه

إلى هنا كان دولة الوالي منشرح الصدر، حتى إذا ما أنشد الشاعر هذا البيت:

واتخذنا سلاسل الشعر قيدًا
فنسينا المسكينة الحريَّه

تجهَّم وجه الوالي واستعد للطوارئ. ومضى الشاعر في إنشاده حتى قال:

أنت حر يا أيها المرء فاعلم
ولك العلم فيه والأسبقيه
يتمنى الإنسان لو كان عبدًا
ويُقيم الأدلة العلميه
ولكم قد رأيتُ من حيوانٍ
يقضم الحبلَ بغية الحريه
يا بني أمنا ذوي الفضل بل يا
معشر الناطقين بالعربيه
لست عبدًا أنا، ولا أنت مولى
أيها اللابس الحلى الذهبيه

انتفض الوالي لما اشتدت الأزمة، ولم يبق في استطاعته السكوت فوقف، وقال للشاعر: باسم جلالة مولانا السلطان أقول لك: قف! فهبَّ — عندها — رئيس الكلية متذكرًا الامتيازات الأجنبية، وقال: وأنا أقول لك: باسم حكومة أميركا كمِّل.

وكان الشاعر أقوى بديهة من الوالي والرئيس؛ فأتمَّ كلامه مادحًا جلالة السلطان ارتجالًا، دون أن يفلت منه خيط الموضوع، وهكذا أنقذ الموقف.

هذه هي حكاية معلقة «الحرية» في عصارى القرن التاسع عشر، وإن لشاعرها مقدرة على إرسال الكلام حلوًا مبتدعًا كما قرأت، وكما ترى في هذين البيتين:

ونحويةٍ ساءلتها أعربي لنا:
حبيبي عليه البينُ قد جار واعتدى
فقالت حبيبي مبتدا في كلامهم
فقلت لها ضُمِّيهِ إن كان مبتدا

أما سليم عازار، فكان شاعرًا له حلو الكلام، كما كان له كإلياس صالح قصر العمر، فكلاهما ماتا مسلولين، كان إلياس نحيلا كما وصفه زيدان، أما سليم — وقد عرفته شخصيًّا — فكان عملاقًا ضخمًا، ولكن الداء لا يهاب طولًا ولا عرضًا …

لم تكن شهرة سليم عازار في الكلية دون شهرة إلياس، فكلاهما تقريبًا من معدن واحد، وكلاهما طريف ظريف، وأشهر ما قرأنا لسليم هذه الأبيات الرائعة من قصيدة:

جار الزمان وصرت يا نفسي
تتقلبين تقلب الطقس
طورًا على أمل وآونة
في اليأس أو أشقى من اليأس
أين السرور، وأين ما عهدتـْ
ـهُ فيك ربَّات الهوى أمسِ
أزهدتِ في دنياك قانعةً
بالحزن، بالإنشاد، بالدرس
عودي إلى الماضي فقد عبستْ
لمَّا عبستِ معاهد الأنس
عودي فليس بما اهتممتِ له
زهو الصبا ولطافة الجنس
عودي فقد صيرتِني ظمئًا
للحب، للأشعار، للكأس
أو لا فكوني كيف شئت، وما
شئتِ افعليه، فليس من بأس
لا خير في من ليس ذا ثقةٍ
من نفسه، أسمعت يا نفسي؟!

وبما أننا في الحديث عن رائدين مسلولين، لا بأس أن نذكر بعض قصيدة قالها رائد يصف مسلولًا، ثم مات هو بعدئذ، بالداء الذي وصفه، وما هذا الشاعر إلا محمد إمام العبد أحد الرواد، قال:

عشق الموتَ مكرهًا في شبابه
ربَّ موتٍ يحار في أسبابهْ
قبل أن يدفنوه في الرمس ميتًا
دفنته الأيام في جلبابهْ
فإذا رمت أن تراه بعين
لا ترى غير أنه في ثيابهْ
لو تمنى مكانة الملك وهمًا
لاكتفى بالنحول عن حجَّابهْ
كيف تقوى كفاه في موقف العر
ضِ إذا كلفوه حمل كتابهْ
قطرته المنون في الليل قطرا
تكتفي بالنجوم من أصحابهْ
أيها الموت، لا عدمتك خلا
طالما أنقذ الفتى من عذابهْ

ولإمام العبد هذا حلاوة النكتة، ولا بدع في هذا لأنه مصري، لامه أحدهم على تركه الزواج، فأجابه ببيتين لا أذكر غير الأخير منهما، ولكنه الزبدة، قال:

أنا ليل وكل حسناءَ شمسٌ
فاجتماعي بها من المستحيل

أرأيت أنه — بعد عنترة — قد أحسن استغلال سواده، والأرض السوداء مغلال، كما قلت في كتاب «الرءوس».

(٤) انتعاش الشعر

(٤-١) البارودي وأرسلان

صدق من قال: الشعر أسبق في آداب الأمم من النثر، أليس هذا ما رأيناه نحن عند روادنا الأولين؟ أما قرزموا الشعر جميعًا فجاء عليلًا سقيمًا يسأل الله العافية والستر، وظل ركيكًا غير مصقول حتى كان له محمود سامي البارودي؛ فأقال عثرته ونهض على يديه من كبوته.

قال البارودي الشعر عباسي الديباجة، وإذا غلبت عليه الحماسة فلا عجب لأنه أحد الشعراء الفرسان الذين تغنوا بالسيف والرمح، ولِمَ لا يكون كذلك وهو بطل الثورة العرابية.

لا تعنينا هنا مواضيع الشاعر بل ديباجته التي أعاد بها إلى الشعر رونقه القديم.

وإذا سمينا هذا الرائد زعيم مدرسة فلا نقول إلا الحق، فهو الموطِّئ لإسماعيل صبري، وأرسلان، وشوقي، ومطران، وحافظ، وتامر الملاط، وتقي الدين، ووديع عقل، وغيرهم من شعرائنا الأحياء.

كان البارودي متأثرًا بفصاحة القدماء وقد أسعفته قريحته وإرادته؛ فقال شعرًا لم يسمع في عصره مثله، فذكر الناس بالبحتري وسواه من شعراء الديباجة الدمقسية، ستقرأ شيئًا من شعره بمناسبة الشيء بالشيء يذكر، أما الآن فأرجو منك أن تقرأ له هذه الأبيات الثلاثة:

هل من فتى ينشد قلبي معي
بين خدور العين بالجرع
كان معي ثم دعاه الهوى
فمرَّ بالحيِّ ولم يرجع
فهل إذا ناديته باسمه
يفيق من سكراته أو يعي؟

وكان الأمير شكيب أرسلان طريَّ العود يوم تطاول إلى مقام البارودي الرفيع، فساجله، وهو في منفاه بسيلان، ولا بأس علي إذا ما أعادني تداعي الأفكار نصف قرن إلى الوراء، وعدنا معًا إلى المعهد الذي نشأ بين جدرانه الأمير شكيب أرسلان. ففي ضحى النهضة كنا في مدرسة الحكمة، وكان لا يعنينا غير الشعر وقائليه. كنا ننظمه بلا ملل، ونتبارى فيه بلا وجل، وكان شكيب أرسلان قدوتنا، كان نجمه قد لمع، ثم طبع ديوان شوقي الأول وفي مقدمته ذكر لشكيب؛ فكبر في أعيننا حين قرأنا قول شوقي فيه:

صحبت شكيبًا برهةً لم يفز بها
سواي، على أن الصحاب كثير

وضخم أمر الأمير شكيب في أذهاننا حتى كنا نفضله على شوقي لولا قصيدة شوقي «خدعوها» التي حفظناها جميعًا، ولم نبال بتعنيف معلمنا الخوري «ص» المحافظ على طهارة أجسادنا لنظل هيكلا للروح القدس.

وأول ما أذكره من شعر شكيب هو رثاؤه للبارودي. استقبلني هذا الرثاء عام دخولي مدرسة الحكمة سنة ١٩٠٤-١٩٠٥، وقد كان الشيخ رشيد تقي الدين — إمام حلقتنا العكاظية — يتبجح بهذه القصيدة ويردد مطلعها:

يا ناظريَّ ألأيًا تذرفان دما
أهكذا عهدنا أن نحفظ الذمما

ويطغي رشيد إذ يبلغ هذا البيت، حتى تخاله الفرات، وقد زعزعته رياح الصيف:

فانعوا لنا الشعر والآداب قاطبةً
معه، وقولوا لشوقي: إنه يتما

ثم ننتقل إلى قصيدة حافظ إبراهيم في رثاء محمود البارودي أيضًا فنتمطق بمطلعها:

ردوا عليَّ بياني بعد محمود
إني عييت، وأعيا الشعر مجهودي

فترى في حافظ رشاقة كما رأينا في شكيب متانة، ونرى في «لأيًا» بمطلع قصيد الأمير ما يذكرنا بالنابغة، فتعلو كفته على كفة حافظ. تلك كانت عقليتنا … بل عقلية من علمونا. ويزداد شكيب علوًّا حين يروي لنا رشيد بصوته العريض قصيدة البارودي لشكيب:

أدَّي الرسالة يا عصفورة الوادي
وباكري الحيَّ في قولي وإنشادي
لعل نغمة ودٍّ منك شائقة
تهزُّ عطف شكيب كوكب النادي
هو الهمام الذي أحيا بمنطقه
لسان قومٍ أجادوا النطق بالضاد

ثم يهتف بنا: شباب، سمعتم هذه الشهادة! بلا طقْ حنك يا مارون. سعيد — سعيد عقل الشهيد — اسمع جواب المير شكيب:

هل تعلم العيس إذ يحدو بها الحادي
أن السرى فوق أضلاع وأكباد
تحمَّلوا ففؤادي منذ بينهمُ
في إثرهم نضو تأويب وإسآد

إلى أن يقول شكيب للبارودي، رئيس النظار — الوزراء — المعزول:

إن يحجبوك فما ضرَّ النجومَ دجى
ولا زرى السيفَ يومًا طيُّ أغماد

وننتقل إلى مساجلة ثانية، وهي قصيدة كتبها محمود سامي من منفاه، في جزيرة سيلان، إلى الأمير شكيب، فنروي جميعنا أبيات البارودي الرائعة في وصف الليل:

أرعى الكواكب في السماء كأنَّ لي
عند النجوم رهينةً لم تُدفع
زهْرٌ تَأَلَّقُ في السماء كأنها
حببٌ تردَّد في غدير مترع
والليل مرهوب الحمية قائم
في مسحه كالراهب المتلفع
متوشح بالنيرات كباسلٍ
من نسل حامٍ باللجين مدرَّع
حسب النجوم تخلفتْ عن أمره
فوحى لهنَّ من الهلال بإصبع

ويجتاح الشيخ رشيد القصيدة، هادرًا كنهر الباروك، حتى يبلغ مدح البارودي للأمير فيمشي الهوينى، وعينه عليَّ، عند هذه الآيات:

نبراس داجية، وعقلة شاردٍ
وخطيب أنديةٍ، وفارسُ مَجمع
صدق البيان أغص جرول باسمهِ
وثنى جريرًا بالجرير الأطوع
لم يتخذ بدر المقنع آية
بل جاء خاطره بآية يوشع
أحيا رميم الشعر بعد هموده
وأعاد للأيام عصر الأصمعي

وينتقل رشيد إلى إنشاد جواب الأمير، فلا يروي وصفه المجرة والليل، بل يروي لنا فخره:

الترجمة
وطلعت أعثر بالسيوف ولو درى
أهل السيوف مقامتي لم أفزع
أيغول مهجتي الكماة ومالهم
فخر سواي إذا اغتدوا في مجمع
وترى تخون الخيل فارسها وهل
يُردَى الحسين على يد المتشيِّع
أو من لهم مثلي إذا عبس الوغى
وتضاحكت أنياب ثغر المصرع
وتشاجرت سمر القنا وتجاذبت
بذوائب، والسيف شبه الأصلع
ولقد بذذت السابقين فمن لهم
بوقوف سير بالمكارم موضع
وبلغت من «سامي» الفخار وجاءني التـْ
ـتَقريظ من محمود سامي الأرفع
خنذيذ هذا الدهر، واحد أهله
مقدام حلبته الأغر الأبتع
القائل الفصحى التي عن مثلها
يثني المقفع في بنان مقفع
ونظل سكارى بهذه المذاكرة حتى يصيح بنا هادم اللذات: هوب، لا. Vous parlez l’arabe فنثرثر بعض ألفاظ فرنجية، ويتفرق العشاق …

وينقضي عامي الأول في مدرسة الحكمة فأتتلمذ في عامي الثاني والأخير للشيخ سعيد الشرتوني. ونأتي على ذكر أسلافنا الذين أخرجهم معقل الضاد، حتى إذا جاء ذكر شكيب انفتحت حدقتا شيخنا سعيد وقال: المير شكيب قُفَلة.

فقلت: وما معنى قفلة؟ فأجاب شيخنا الجليل: أي يحفظ كل ما يسمع ولا ينساه، فكأنما يضعه في صندوق ويقفل عليه، ثم طفق يطري ثروة شكيب اللغوية كل الإطراء، وقال في شعره وشاعريته كلامًا كثيرًا.

ولما أفلت من قفص المدرسة، وزاولت الصحافة صرت أقرأ للأمير شكيب شعرًا في كل مناسبة خطيرة. انقلب شعره مطية سياسته، فلم يمر حدتٌ في الشرق إلا تناولته قريحته بما حضر، فشارك في كل معضلة بقلمه ورأيه ولسانه. لم يمدح غير العظام، وقلَّما قال شعرًا في غير الحوادث الجسام، وكثيرًا ما تلاقى مع شوقي ومطران وحافظ وباراهم في خطوب الشرق. وأول مرة سمعته فيها ينشد كانت عام إعلان الدستور العثماني سنة ١٩٠٨، بيد أنه لم يعنف، ولم يَلُمْ ولم يهاجم مثلنا. عدَّ الدستور منةً من جلالة السلطان، وأوصى بالتعلق بالعرش، فلم ترق قصيدته للمتطرفين منا.

وظل الأمير — على توالي المحن — صديقًا للدولة العلية يشد أزرها، ويرى فيها العروة الوثقى، فبينما كان أفذاذ العرب يمثلون في الأستانة رواية صلاح الدين الأيوبي قبل الحرب العامة بسنة، وكلهم ساخط حانق، وفي مقدمتهم مبعوثوهم — نوابهم — كالزهراوي وفارس الخوري، وغيرهم إذا بالأمير شكيب يقول للحفل من قصيدة:

فمن كصلاح الدين تعنو لذكره
رءوس أعاديهِ ومن ذا يعادله

إلى أن يقول:

وكيد على الأتراك قِيل مصوب
ولكن لصيد الأمتين حبائلهْ
تذكرْ قديم الأمر تعلمْ حديثه
فكلُّ أخيرٍ قد نمته أوائله
إذا غالت الجلى أخاك فإنه
لقد غالك الأمر الذي هو غائله
فليست بغير الاتحاد وسيلة
لمن عاف أن تغشى عليه منازله
وليس لنا غير الهلال مظلَّة
ينال لديها العز من هو آمله
ولو لم يفدنا عبرةً خطب غيرنا
لهان ولكن عندنا من نسائله
سيعلم قومي أنني لا أغشُّهم
ومهما استطال الليل فالصبح واصله

وللأمير قصيدة رائعة هي بالملاحم أشبه. قالها في وصف وقعة حطين، وهي أبلغ قصائده إن لم تكن خير ما قيل في موضوع كهذا.

أما الرأي في شعر الأمير فقد قاله خليل مطران: «حضريُّ المعنى، بدويُّ اللفظ، يحب الجزالة حتى يستسهل الوعورة. نبغ منذ طفولته وكان أبكر الفتيان في نشر ديوان له. وجاء ديوانه في وقته آية، غير أنه لم يلبث أن ترك الشعر وانصرف إلى الترسل فحبس فيه ما أوتيه من العبقرية، على أنه قد يدعوه داع من النفس فينظم. ينظم كما ينثر، فياض الفكر غير تعب، ولكن نظمه يحمل في عهده الأخير أثرًا من نثره.» هذا رأي مطران في شعر شكيب، وقد أثبته الأمير في صدر ديوانه، أما رأي الأمير شكيب في الشعر فهو هذا، كما جاء في كتابه: «شوقي أو صداقة أربعين سنة»:

ولو كانت القدمة مما يهجِّن الشعر لوجب أن يكون هومير منبوذا؛ فإنه أقدم شاعر، ونحن نقول لهؤلاء الذين لا يفتأون يتكلمون في القديم والجديد من الشعر، ويزعمون أن لكل عصر مدرسة: إن هذه المدرسة تكون في كل شيء إلا في الشعر، فإن مدرسته هي القلب، وإن طريقته هي النفس، وإن النفس البشرية لم تتغير ولن تتغير، فهي هي في أذواقها ومشاربها ومواردها في الحياة ومصادرها.

هذا من جهة الشعر على العموم، أما من جهة الشعر العربي الذي تريدون أن تفرنجوه، فالشعر العربي لا يكون شعرًا إلا إذا وافق ذوق العرب ولاءم مشارب أنفسهم، وجانس مذاهب لغتهم، واتصل بمناحي حياتهم، فإذا باين الشعر العربي أساليب العرب في بيانها؛ ربما لم يفهموه أصلا، على حد ما قال الأستاذ محب الدين الخطيب: إن الواحد من هؤلاء يظل يومه يسطو على منظومات الإفرنج يستل منها معانيها الغريبة عن الأذواق العربية، فيصوغها بألفاظ وتراكيب يلعن بعضها بعضًا، فلا يفهم منها القارئ العربي إلا بقدر ما أفهم أنا من الصيني.

ثم يعقب الأمير على هذا الكلام بقوله: «وأنا أيضًا أعترف بأني لا أفهم هذه اللغة التي يكتبون بها.»

هذه آراء الأمير وغير الأمير في الشعر، أما أنا فأرى أن الأمير متأثر بأستاذه الشيخ عبد الله البستاني. والشيخ عبد الله كان معجمًا ناطقًا قلما فاتته شاردة أو واردة. يقول الشعر كطرفة وعنترة، وإليك مطلع قصيدته التي هنأ بها الحويك بالبطركية:

حي القطين وناسم عني الدارا
ودر مع اليمن فيها كيفما دارا

وهو متأثر كشابٍّ في أول حياته الأدبية، بأحمد فارس الشدياق، علم اللغة المفرد، فلا تعجب إن رأيت في الأمير نفحة جاهلية، وثروة لغوية، فشعره الأول — وخصوصًا نقائضه مع البارودي — هو أصفى شعره وأنقاه، مع أنه لم يكن اجتمع أشده.

أما ترسله، وخصوصًا في كتابه «أناتول فرانس في مباذله» ففيه شبه — لفظًا وسردًا — بأسلوب الشدياق الذي أثنى عليه الأمير حين ذكر رثاء له، فقال عنه: «إمام اللغة وفارس ميدان الإنشاء؛ الذي عرفته بآثاره وقطفت من نوَّاره.»

وبكلمة مجملة أقول: لو لم ينصرف الأمير شكيب أرسلان إلى خوض غمار السياسة التي تتطلب الترسل أكثر من النظم لكان هو أمير الشعراء لا شوقي، وسبحان مقسم الأرزاق.

(٥) بشار الرواد

(٥-١) شاكر بك الخوري

قال لي موسى صفير صاحب مكتبة المعارف: كلفني شاكر بك الخوري أن أفتش له عن واحد يقرأ عليه كتابه «مجمع المسرَّات» فيصحِّح له الخطأ النحوي والصرفي فخطرت أنت ببالي، فما رأيك؟

وكنت قد فصلت من الكلية اليسوعية ومدرسة الفرير؛ لأنني محرر جريدة «النصير» المطالبة بتأليف «مجلس ملي» لأبرشية بيروت المارونية، فأجبت: نعم.

فقال موسى: يدفع لك البيك عشر ذهبات عثمانية عند النهاية.

فوجمت ثم أجبت: لا بأس.

وبلغ الخبر أحد أصحابي فقال لي شاكر بك «عملته رديَّة»، وهو هجَّاء قلما سلم من لسانه أحد، كبيرًا كان أم صغيرًا، فلا تعرض نفسك.

فقلت له: وأنا عندي ما عنده. أتخاف علي!

واجتمعنا أول يوم في دار البيك وشرعنا نقرأ، فمرت كلمة «التقنيص» فقلت له: «التقمُّص»، فتفكر قليلًا وقال: التقنيص مفهومة أكثر، وبعد قراءة جملة أو جملتين، مرت كلمة «تقاصصه» فقلت له: تفاصَّه. فقال: وهذي أضرب من هاتيك.

فقلت له: إذن ماذا تريد مني؟ قال: إبداء الرأي، وأنا أرى الموافق.

ثم جاء دور الشعر، فعرض عليَّ أبياتًا نظمها؛ لتكتب تحت رسمه، كما جرت العادة في ذلك الوقت، قال الدكتور:

لا بد من وبَّخته
لقباحةٍ يبدي الغضب
أو من مدحت قريبه
بزيادة عنه انورب

فهززت رأسي، فقال: مالك انوربت أنت أيضًا؟ فقلت: لو غيَّرنا هذا الشطر الأخير، فأومأ برأسه أن لا، وأنشد:

مهما فعلت فإنني
ما بين قومي في عتب
لي أسوة بمسيحنا
فأقام ميتًا وانصلب

وهنا وقعت الواقعة، فأصررت أنا على القول: أحيا لعازر وانصلب، وأصر هو. وأخيرًا صاح بي:

أفضِّل كسر الشعر مع حسن سمعه
على نظم موزونٍ لسامعه قتل

ثم كانت الكلمة الأخير له، فعلمت أن لا طبَّ مع هذا الطبيب، وإني شاهد زور لا أكثر ولا أقل. وكان البيك مصابًا بالسكري، فكان يبول بلا حياء فيذكرني ببشار … ورآني امتعضت؛ فقال لي: مارون أنت مثل أولادي، لا تؤاخذني، أنا ملازم سريري، وفي روحتي ورجعتي — كل نصف ساعة — تضييع وقت كثير.

وكان الظهر فقمت، فقال: اقعد. خبزي أسود ولكنه صحي أكثر من خبز السوق الأبيض. وأنا جبلي مثلك. تتغدى معي كل يوم، وتأخذ أجرتك وحبة مسك …

فضحكت والتفت إلى «الكوميدينا» فأدرك حالًا وقال: يظهر أنك أخو رأسي …

ومضينا في عملنا، فأنستني نظافة طعامه كل ما عداها. كان على المائدة يشرح لي أمورًا كثيرة، ويحدثني عن كتابه: «صحة المتزوج وزواج العازب»، ويصارحني بما يتعلق بي من موضوع الكتاب، ويقول: هذه دفعة. قيِّدها. فيدقُّ قلبي وأتذكر قول صديقي «في عملته»، ثم حدثني عما ينفعني من كتابيه الآخرين «نائب الطبيب» و«صحة العين» وأفاض، ولما انتهى قال: هذه دفعة ثانية. قيدها معك.

فقلت له: أنا لا أقبض «عملة حكي» هذي بضاعتي، ولو كانت تجوز كنت أغنى البشر.

فقال: قال لي صاحبنا موسى إنهم خوفوك مني، لا تخف يا ابني، أنت لستَ ممن أطمع فيهم، كلْ ملوخيا، كل لا تستح.

فقلت: أخاف أن «تملخ» رقبة حسابي، فضحك وقال: خطيتك في رقبتي. احرق دين «الجاط». كله كلّه. حسابك رقبته غليظة لا تنملخ …

وكان شاكر يتنادر حتى على أولاده، فلما دخل علينا ابن له طويل قال لي: تعرف ماذا انتقيت له وظيفة؟ فبهت. فقال: أن يضوِّي قناديل البلدية لأنه لا يحتاج إلى سُلَّم. طول بلا غلة …

وظللنا شهرين ثلاثة نقرأ ونتغدَّى، وقبضنا أجرتنا علاوة.

هو ذا حق خبزاتك أيها الرائد الذي لم يكذب أهله. فكتاب «مجمع المسرات» فارياق من طراز آخر. كشكول طريف، وصاحبه مطبوع على النكتة القارصة. كان يشتريها بالثمن الموجع كل من يتعرض له؛ ولذلك هابه معاصروه كما هابوا بشار بن برد. كان هجاء محترفًا لا هاويًا كالحاج عمر الأنسي، وقد أبقى هجاءه السخن لديوان سماه «مجمع الحشرات»، ولكنه لم يظهره في حياته، ولست أدري إذا كان «قبض» ممن هجاهم حين فتح باب الاشتراك بكتابه «مجمع المسرات» فعدل عن ذاك كما حذف الكثير من هذا. لقد كان الاشتراك بكتابه جزيةً أو ضريبة أداها الأغنياء عن يدٍ، ليسلموا من لسانه …

فكتاب «مجمع المسرات» ترجمة حياة، ومذكرات مكتوبة بأسلوب طرافته في بساطته. ليس يسأل صاحبه عن الخليل ولا الفرَّاء، فيه صفحات من تاريخ لبنان ووصف للحياة في عصر مؤلفه، وفيه أشياء عن مصر وغيرها من الأمكنة التي حلتها ركابه. فالرجل بشَّاري فارياقي، ولو كان في عصر الشدياق، وقرأ ركاكته ورطانته ولحنه لشمَّرت الحرب عن ساقها. فهو من هذه الناحية فقير جدًّا جدًّا، وأما من ناحية الشخصية فغنيٌّ. إلا أنه يظل في الحالين هجَّاء عصر النهضة، ولونًا طريفًا من ألوانه، فكل كتابه نكات ونوادر. والذي لابسه كما لابسته، ورآه في مباذله كما رأيته، يقول مثلي: إنه نكتة النكت.

والآن فلنعرض عليك نماذج بضاعته؛ لتحكم أنت بنفسك. وصف شاكر بك حياته من أولها إلى آخرها كما تذكرَّها، فهو يزعم لنا أنه لم يدوِّن شيئًا منها قبل أن فكَّر بتأليف كتابه هذا الذي يقع في سبعمائه صفحة من القطع الكبير والحرف الوسط. حدثنا شاكر عن «درسه العربي» في «المدرسة الوطنية» للمعلم بطرس قال: كان معلمنا الشيخ ناصيف الشهير، فكان يقول لنا — في الصف — أول موَّال عمله، ويبتدئ يعمل «مطلع» على المعنى، وكان يقول إنه هو الذي علَّم ذاته، وإن المعلم بطرس البستاني يعرض عليه تأليفه القاموس محيط المحيط، وكان يعطيني الكرَّاس المصلح، لأعطيه إلى المعلم بطرس، وكان يقول لي عند ذلك: أنا «القاموس السيَّار».

وعند غيابه كان يوكل ولده الشيخ إبراهيم بالدرس. وكان لابسًا — أي الشيخ ناصيف — عمامة سوداء مع قفطان وجبة وصرماية حمراء، يحلق لحيته وهو بسن الشيخوخة، وكان بيته قريبًا من المدرسة وهو من المولعين بشرب القهوة والتدخين، وقد كان يعهد إلى بإشعال سيكارته أو غليونه، فكنت أذهب إلى خارج الدرس وأشعل له الغليون بعد أن أدخن فيه قليلًا … وكثيرًا ما كنت أهمل دروسي، ولا أجيب على السؤالات، فكان يلتفت إلي المرحوم أخي خليل ويقول له:

أخوك أخو مكاسلةٍ وجهل
فقل لي يا خليلي كيف أنتَ
وكان له صوت جرش، ولسانه غير فصيح لا تفهم كلامه إلا بصعوبة، وهو مولع بفن الموسيقى وصوته لا يطابق النغمات، وكان معنا أحد التلامذة له صوت جميل، كان الشيخ يغني أمامه بعض تواشيح يتعلمها.٢

ويخبرنا شاكر أيضًا أنه أسس مدرسة لما أيس من الوظيفة، ثم تركها عندما وفق إلى عمل، ألا يدلنا هذا على أن مهنة التعليم كانت — كما هي اليوم — عمل من ليس له عمل!

ويحدثنا عن الخوري موسى الذي علمه الهجو، ويقول: «إن الخوري موسى آية في الفصاحة والعلوم والعفة والاستقامة، ولكنه مصاب بداء البخل فكان يجمع كثيرًا ولا يصرف شيئًا. ما أضاف أحدًا بزمانه إلا لغاية أو لخدمة أو لجرِّ مغنم.»

ووقعت العداوة بين الخوري موسى والدكتور بسبب امرأة فقيرة عالجها هو، وكتب إلى الخوري موسى «لإعطائها كم رطل من الطحين، فمزق الخوري الورقة، ولم يعطها شيئًا»؛ فاشتد الخصام بينهما فصار الخوري موسى يشيع أن الدكتور: «كافر بلا دين»، فكتب شاكر «قانون إيمان» جديد هذا هو:

أؤمن بخوري واحد ضابط كل وقف الموارنة، ما يرى ولا يرى، وبشماس واحد ابنه الوحيد، لا ينقص ولا يزيد في بيع، ونؤمن بطانيوس بو ناضر المنبثق من الخوري والشماس، وبكنيسة واحدة بسكنتاوية، وبخوري واحد يبقى لدهر الداهرين، ليكفِّر الأحياء والأموات آمين.

ثم قال في المحترم شعرًا، كان باكورة الهجاء:

لا تعجبوا أن رأيتم بعضَ طائفةٍ
في البخل قد شهروا سرًّا وإعلانا
لأنهم قبَّلوا عند السلام يدًا
للأب موسى فأعداهم كما كانا
لو مسَّ حاتم طيٍّ كفَّ حضرته
لكان أبخل خلق الله إنسانا
ولو حوت داره ماء الفرات وقد
تملَّك النيل إكرامًا وإحسانا
وفي الصليب أتى يسوع سيده
وقال يا ابني موسى، بتُّ عطشانا
ما جاد عن كرم في بلِّ إصبعه
وقال: مت. إن فضل الموت ظمآنا
قد سنَّ موسى عهودًا في شريعته
وقبَّةَ العهد للإيمان أعطانا
من جسها كان منقادًا إلى عدم
يموت في الحال محرومًا ومنهانا
فقبة الأب موسى بيت مونتهِ
رغيفها بات كالأقداس منصانا
عزريل يحرسها من كل ناحية
إن حضرة الأب عنها بات غفلانا

هكذا شق شاكر طريقه، وراح يهجو الأصدقاء والأعداء، فالنكتة عنده أقوى من المحبة، وإن قيل أن المحبة أقوى من الموت؛ ولهذا قال يهجو لحية صديقه الدكتور سليمان مشاقة، معارضًا قول المتنبي: نشرت ثلاثة ذوائب:

ذو لحية دكتورُ ابنُ مشاقةٍ
قصد الغديرَ بعصر يوم الأربعا
خلع الثيابَ وغاص قصدَ سباحةٍ
فأرانيَ «الذقنين» في وقتٍ معا

وقال في أمير كان يلزم السكوت، ولكنه نطق حين قابل الدكتور:

أميرٌ حافظٌ أبدًا سكوتًا
وقد عدُّوه من بُكم الزمان
وقد أنطقته لما رآني
فظنوا أنني بلعام ثاني

وقال يهجو قسيسًا لم يعجبه؛ لسعيه بين الناس:

وقسٍّ للفساد غدا إمامًا
ولم يقضِ الصلاة ولا الصيامًا
ولم يحفظ من الإنجيل إلا
سوى: ما جئت كي ألقي سلامًا …

وقال كابن الرومي في صاحب لحية:

لحية أبشع منها
وجه حاويها المؤرِّخ
بقماط أرَّخوها
فاستحقت قلب أرخ

وقال في طبيب كبير الشاربين:

في شخص جرجس مارون قد اجتمعت
حاجات طبٍ حوت كل العقاقير
رؤياه مسهلةٌ، أيديهِ قابضةٌ
وشارباهُ رباطٌ للبواسير

وقال يهجو قاضيًا:

إذا قاضي بلادك صار يبطي
فذاك دليل «أبجد ثم حطي»

وقال في أناس أرادوا لعب الورق راغبين عن سماع شعره:

ولقد حفظت عن المسيح وصيةً
وهي التي لا تحقدوا بل اصفحوا
وعصيته في طرح شعري بينكم
يا ليتني قد طعت في لا تطرحوا …

أي: لا تطرحوا جواهركم أمام الخنازير.

وحضر رواية الوردتين للمعلم عبد الله البستاني، فكثر المقرظون حتى لم يبق وقت لاستماع الرواية، ففض هو المشكل بقوله:

رواية الوردتين اليوم قد ظهرت
فقُرِّظتْ كلَّ تقريظ كتلبيخ
لا شك في أن ذا التقريظ ينفعها
لا بدَّ للورد من زبل لتسبيخ

قال: وقلت في جريدة استغنم صاحبها فرصة نفوذه، فكان يطرحها للاشتراك حتى اشترك ثلاثمائة شخص لا يعرفون القراءة:

هذي الجريدة في البلاد جرادة
أمسى بها «لبنان» أصلع أجردا
مأكولها من أبيضٍ أو أصفرٍ
وبرازها أبدًا تراه أسودا

ومرَّ على دير رهبان لم يعجبهم ولم يعجبوه، فقال مختتمًا قوله فيهم:

لم يشبهوا يسوع في تاريخهم
إلا بميلاد لهم بين البقر

وامتدت لشاكر الخوري شهرة حتى صار كالحطيئة وأكثر، ويا ويل من لا يكرمه؛ ولهذا تراه يصب جام غضبه على هؤلاء، فقال في كاهنين كانا «يقدِّسان» معًا:

لما رأيت صليبًا فوق مذبحه
ما بين حنَّا وجبرائيل قسَّينِ
حسبته واقفًا من فوق جلجلةٍ
وأنه لم يزل ما بين لصين

ودخل على رجل مقامر فقال له: ألهيتني. فقال:

ألهيتني يا شاكرًا
ما هكذا فعل الصديق
فأجبته أني الذي
يلهي الحمار عن العَلِيق

وقال في دراهم بخيل:

لا لذة لبخيل في دراهمه
إلا برؤيتها في الجيب كالهرم
دراهم البخل كالأسنان في رجل
تأتي وتذهب بالأكدار والألم

وقال في كاهن اعترف له:

من بعد تعداد ذنبي والقرار به
قد «حلني» كاهني من كل تقصير
ناديته: يا أبي، أرجوك مغفرة
نسيت ذنبًا. فإني شاكر الخوري

ونظم للبطرك إلياس الشهير أبيات مديح، وقعها هكذا:

قديمًا شاكر الخوري
جديدًا شاكر البطرك
وأحيانًا لمطرانٍ
إذا قاسمني شكرك

ودخل على هذا البطرك بعد سنة، فسأله إذا كان لا يزال شاكر البطرك، فقال رجل اسمه سليم بك: إن شاكرًا يظل شاكرًا ما دام ذنبه محفوظًا، فقال الدكتور له: صدقت، والذنب ذنبهم إذا لم يبقوا لي ذنبي «سليم».

فالرجل في أجوبته المسكتة لا يقصر عن بشار: قالت له مرة سيدة تدَّعي الجمال: يا دكتور، لماذا كل أهل الجبل وجوههم ملخبطة، فأجابها على الفور: لأنهم لا يغيرون البدار …

وقال في رجل ضخم انكسر «الديوان» تحته:

ثقيل قد علا ديوان داري
وكسر جحشهُ وبغى اعتذارًا
وقال بخور جحشك. قلت كلا
فإن الجحش لم يحمل حمارًا

والشاعر مخترع في كل غرض من أغراض الشعر، ولا يعنيه إلا تصيد النكتة، فاسمع كيف يخاطب عباس حلمي خديو مصر:

أتيت لمصر منقادًا لأمر
من الله المحيط بكل علم
يقول لخلقه هيا إليها
بأمن وارتعوا بديار سلم
ديار للفراعنة ادخلوها
ولا تخشوا أذى رقٍّ وظلم
لئن أرسلت مع فرعون سخطي
فقد أرسلت مع عباس حلمي

وظل في مصر حتى عيد الأضحى، فمر أمام فخامته مع وفود المعيدين، فناداه عباس باسمه واستقدمه، وأعطاه يده، فقال له مرتجلًا:

حلمتُ إن زرت مصرًا
أنال جاهًا لعلمي
فالحلم أضحى يقينًا
ما عشت أشكر «حلمي»

وفي الوصف لا يقصر شاعرنا عن الإبداع، قال في مرملة:

ومرملة تمرمرها حشاها
تعزَّي مَن بغمٍّ قد يراها
إذا سكب اليراع دموع حزن
تنشفها برفق مقلتاها

وقال في «نديا وإيزا» بنتي أخت مظفر باشا متصرف جبل لبنان:

كأنَّ عيون نديا ثم إيزا
أصابت قلب «مركوني» بفتك
تحرك قلبه لحراك عين
فنبه فكره من دون شك
لسير الجاذبية دون وصل
فأنشا التِّلْغِراف بدون سلك

وآخر دليل على قوة بديهته تعطيك إياه هذه الحادثة التي رواها. ترك شاكر بك بيروت عام ١٩٠٧ قبل الميعاد، فسألت عنه المركيزة مدام فريج، فقالوا لها أنه جنَّ لتعطيل شغله … وعاد شاكر، وراح ليهنيها بأحد الأعياد، فشهقت لما رأته وقالت: خبروني أنك جننت … فأجابها: لو كنت معرضًا لهذا المرض لكنت «جننت» يوم رأيتك أول مرة، فضحكت وضحك المركيز!

هذا هو شاكر الخوري؛ أخاف الناسَ هجوه ربع قرن وأكثر، وهو اليوم لا يخطر لأحد ببال، إلا عند ذكر بعض ما يؤثر عنه من نوادر. لقد نقلت منها ما يقبل، أما الحامضة كثيرًا فظلت في كتابه.

إن شاكر الخوري يقتبس من الكتب الدينية أكثر نكته، فهو في هذا كأبي نواس، وإن كان في غيره كابن الرومي وبشار.

ورب قائل قال: لم يذكر شاكر الخوري إلا ليخبِّرنا أنه أصلح كتابه — عفوًا سيدي — فالكتاب مشحون كفلك نوح بالغلط، فلا فخر لي في هذا، ولكن الرجل يستحق أن يقف مع كبار هجائي العرب، لو صحت عبارته، فما أصح قول مثلنا العامي فيه: يا حَينَهُ لولا عينه.

(٥-٢) أسعد رستم

أما الشعر الهزلي الانتقادي فكان رائده أسعد رستم، وقصائده مشهورة يدور الكثير منها على الألسن، وهذا الشاعر مثل شاكر بك؛ فقلما يبالي بالفصاحة، عاد من أميركا عام ١٩٠٨ فكان إذا مشى في بيروت تغوص رجلاه بالوحل، فقال قصيدة هذا مطلعها:

بلدية بيروت انتحست
قد بطرت من كثرة ما لحست

وعلى هذا الغرار طبع أكثر شعره، فلذَّت للناس مطالعته؛ لأن هزله كهزل أبي نواس يضحك ولا يؤلم، في حين أن نكتة شاكر الخوري توجع، بل تقطع الظهر ألمًا وضحكًا …

وإذا لم أتعرض كثيرًا لأسعد رستم فلأنه لا يزال حيًّا، وليس هو من «المنقطعين» …

١  مجالي الغرر ليوسف صفير طبعة ١٨٩٨ ص٤٠.
٢  مجمع المسرات ص١١٦ و١١٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤