روَّاد الصحافة

(١) الشدياق

لم نسمِّ أحمد فارس الشدياق «صقر لبنان» عبثًا واعتباطًا، ولكنه استحق هذا الاسم؛ لأنه فرَّ كما فر صقر قريش. هذاك شيَّد دولة عربية غربية، وهذا شاد دولة أدبية وبنى النهضة الحديثة على أسس راسخة. أقرت له بذلك مصر، فوضعت جائزة سنيَّة لمن يكتب عنه — من الكتاب المصريين — كتابًا موضوعه: «أحمد فارس الشدياق وأثره في اللغة والأدب، ووضع المصطلحات الحديثة».

كيف لي أن أحدثك عن أحمد فارس في فصل صغير، بعد أن كتبت عنه كتابًا، ولم أحط فيه بجميع نواحي تلك الشخصية الجامعة التي يصح فيها قول الشاعر:

وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر

فهو امرؤ قيس عصره، وجاحظ زمانه، وفولتير جيله، وخليل القرن التاسع عشر. أبو الجريدة العربية المثلى الجامعة للأدب والسياسة والعلم، وأبو الكتاب في هذه النهضة التي نتحدث عن روادها.

ذهب أحمد رائدًا فأصبح مستعمرًا وباني دولة أدبية شرقية غربية. وإذا ظل المنهاج اللبناني متنكرًا له، فعبثًا يحاول اللبنانيون البحث عن مجد أدبي صحيح في صبح عصر الانبعاث، إنهم لن يجدوه.

إن أدبنا ككل آداب الأمم المعاصرة نشأ أولًا صحفيًّا، كما قلنا، والشدياق هو أول من كتب المقالة لجوائبه، فهي الجريدة العربية الأدبية السياسية الأولى، وإن كان نشأ قبلها صحيفتان، فمن الظلم أن نحصيه مع الرواد وهو أبو الكتاب الأدبي في الفارياق وكشف المخبا. وهو أول من وضع لنا المصطلحات الحديثة. فإذا شئت أن تعرف شيخ العربية المعاصر، فاقرأ «صقر لبنان» لِتلمَّ بكل نواحيه إلمامًا، أما هنا فسأريك نموذجًا من إنشائه لترى الأسلوب الذي مشى فيه على أثره كتاب زمانه، وكتاب العصر الحاضر.

إن الشدياق من كتَّاب النضال، وهو نصير المرأة قبل أن يهبَّ شرقيٌّ لنصرتها، وهو المطالب بحريتها قبل قاسم أمين.١ كان الرجل مغرمًا بالحرية حتى طالب بها للعبيد في زمن الرق والاستعباد، وإذا كنت لا تصدقني فافتح الصفحة الخامسة والثمانين من الجزء الأول من مختارات الجوائب، فلا بدع إذًا أن طالب بحرية المرأة في ذلك العصر، أليس هو القائل في مقدمة فارياقه أنه بناه على أساسين: المرأة، واللغة.
وإذا نشرتُ لك نموذجًا فليس قصدي أن أدلك على نزعته الفكرية فقط، بل لأريك بعض ما ابتكر في المقالة التي كان أبًا لكتابها جميعًا، تأمَّل كيف أخرج «جملته الأدبية» — هكذا سمى المقالة أولًا — فعلَّم بذلك معاصريه، ومن جاءوا بعدهم. ليس لهذه المقالة عنوان، ولكني أنا عنونتها «حرية المرأة». قال الشدياق بعد مقدمة لا يتسع كتابنا هذا لذكرها:

أما سن الزوجين وقت الزواج، فليس فيه قول فاصل مبني على الاحتجاج، ففي بلاد أوروبا لا تتزوج المرأة رجلًا إلا إذا كان تِربًا لها، وإلا فزيادة بضع سنين، وما زاد على ذلك فهو من الشذوذ الذي يشين؛ وذلك كأن يتزوج شيخ فانٍ، وهو شريف النسب، بفتاة لا أصل لها ولا حسب، فهي إنما تتزوجه لكي ترث منه اللقب، لا لكي ترأمه رأم من أحبَّ. وفي بلاد الشرق قد يتزوج الرجل من لم تبلغ نصف عمره، ولا يرى في هذا الفرق سببًا يحملها على تركه وهجره، لأنه يعتقد أن الذكر خير من الأنثى، وأفضل منها قنسًا، وأكرم جنثًا.

وعلى هذا فله أن يغيرها بضرائر شتى، وأن يألت حقها ألتًا، ولا يمحضها الوداد محضًا، ولا يُعنى بشأنها إذا امتحنت، ولا يرثي لها إذا امتهنت، وما ذلك إلا لأن الذكر خير من الأنثى، وأنه أفضل منها قنسًا، وأكرم جنثًا.

وإن له أن يسهر الليالي مع أحبابه، وهي مقصورة على حجرتها، ولا ترى إلا وجه ضرَّتها، وأنْ يغيب عنها دهرًا، ويغادرها مقيدة باسمه كرهًا وجبرًا، ويجعل عليها من ترقبها، فتقصوها وتحجبها، فلا تخرج إلى الشارع، ولا تبرز إلى المصانع، ولا تستنشق الهواء إلا من خروق الشباك، ولا تلمح بشرًا إلا على وجل من الهلاك، وإيجاس من الانتهاك. وما ذلك إلا لأن الذكر خير من الأنثى، وأنه أفضل منها قنسًا، وأكرم جنثًا.

وإن له أن يدَّعي الولاية والكرامات، والمقام الذي يختص بالصالحين ذوي الرياضات، فيختلي بالنساء ويقرأ عليهن، ليحمل أزواجهنَّ على ودادهن، ويصرفهم عن إبعادهن، فيقبلن عليه زمرًا، ويصرف أوقاته معهن مستهترًا؛ وزوجته إذ ذاك تتململ من الكمد، وتنقلب في النكد، فليس لها من تشكو إليه، ومن تعوِّل عليه، ولا من ينقذها منه، أو يصرفها عنه، وليس لها أن تماري في ولايته، وتتطلع على حبالته. وما ذلك إلا لأن الذكر خير من الأنثى، وأنه أفضل منها قنسًا، وأكرم جنثًا.

وإن له أن يدعي العلم فيجمع لديه غلمانًا يتلمذون له، فيأتي منازلهم ويأتون منزله، ويتلو عليهم الخزعبلات، والنوادر المستميلات، فيلازمون حضرته، ويكرمون طلعته، ويؤثرون مودته، وينوِّهون بفضائله، ويعجبون بشمائله، حتى تتمكن محبته في قلوب أهلهم، ومن اتصل بهم، فيودوا أن يصل نسبه إلى نسبهم، ويعرضوا عليه عوانسهم، ويستزيرونه ليوانسهم؛ وزوجته إذ ذاك، تسمع وتتأسف، وتدمع وتتلهف، وما ذلك إلا لأن الذكر خير من الأنثى، وأنه أفضل منها قنسًا، وأكرم جنثًا.

وإن له أن يصر على ما اكتسبه من المال، ويخفيه عنها كخفائها عن الرجال، فلا ينصُّ لها منه، إلا ما لا محيد عنه، وهو قوت من لا يموت، ولباس من لم يودع بعد في الأرماس، وهو على نفس أكرم الناس. فإن قالت له: إن فلانة ذات حلى، وإني ذات عطَل، وما لي غير هذا الثوب من بَدَل، قام على منبر الوعظ والإنذار، وقال لها: إن المرأة الصالحة تكتفي بالإدام والأطمار، وقد طالما عهدتك من الصالحات، فكيف صرت من المسرفات الطالحات. قال الله تعالى … قال النبي … قال زيد … قال عمرو … أنبأنا … حدَّثنا … فيسكنها ويخجلها، وعلى كيده يحملها، إذ هي تعلم أن الشرع الشريف لم يحرِّم على النساء الزينة، وإنما هو سفاهة من الرجل وسوء كينه. وأقبح من ذلك إذا كان الرجل يحرمها على عرسه ويستحلها لنفسه، وما ذلك إلا لأن الذكر خير من الأنثى، وأفضل منها قنسًا، وأكرم جنثًا.

ثم إذا قالت له: إن جارتي تخرج إلى المنازه، وبين حالتي وحالتها مشابه، فدعني أخرج معها، وأرتع مرتعها، وأجري مجراها، وأسري مسراها، قال لها: إن شأن الحرة أن تكون ملازمةً للزوايا، مداومة على الخبايا، لا تتفرَّج، ولا تتبرَّج، ولا تتلوَّج، ولا تتلعَّج، ولا تفكر في منتديات النساء، ولا تصبو إلى الكساء. وكل أنثى خرجت من دارها، فقد باءت بأوزارها، وترجمت عن شنارها، ثم اندفع يقول: قال الله … قال الرسول … وما ذلك إلا لأن الذكر خير من الأنثى، وأفضل منها قنسًا، وأكرم جنثًا.

وإذا قالت له تلاطفه، إذ ترى الهم يواكفه، والغم يرادفه، وهو ينفخ متضجرًا، ويتلهف متوغرًا: ما لي أراك اليوم مهتمًّا، فكدت تذوب أسى وغمًّا، فلا تجيد خطابًا ولا تحير جوابًا، ولا تهتم بما أهمَّنا من عوز الطعام، وفقد الائتدام، بَلْهَ اللباس الفاخر، والحلى والجواهر، فقد أنسانيها عدم القوت، وما بعد ذلك إلا الأجل الموقوت. قال لها: كأنك تنبشين أسراري حتى تبعثريها، وتنبشين أطواري حتى تغوِّريها، فهل يوم ربقني الاحتياج في ربقة هذا الزواج، اشترطتِ عليَّ أن أبثك مكتومي، فضلًا عن أن أطعمك مأدومي؟ فهلا تنتهين عن هذا اللجاج والخصام المؤدِّي إلى الثجاج واللكام؛ وما ذلك إلا لأن الذكر خير من الأنثى، وأفضل منها قنسًا، وأكرم جنثًا.

وهكذا يعيش الرجل والمرأة كالضدين المتعاندين، والقرنين المتناكدين، فيبيت كل منهما والاحتيال شاغله، والاغتيال شاعله، إلى أن يصلح بينهما الطلاق، ونعم المُصْلح الفراق.

ولكي يبدو لك جليًّا أثر هذا الأسلوب اقرأ الكثيرين من الكتاب بعده، بل اقرأ بعضًا من مقال للدكتور شبلي الشميل نُشر في هذا الكتاب. إن مثل هذه الفصول هي التي وجهت كتاب النهضة فيجب أن يذكر صاحبها مع الجاحظ وغيره، وإذا قال واضعو المنهاج اللبناني: إن في كتب أبي النهضة أحماضًا، قلنا لهم: وعند الجاحظ وأبي نواس وابن الرومي ما يُستحى من ذكره. أفلأجل هذا صار الشدياق لا يستحق الذكر!

قيل: محبة الآباء تتصل مع البنين. ولعل الآية معكوسة عند من يستشارون «سرًّا» حين تعديل المنهاج، فيطبخونه لنا على نار حسَدهم، وبغضهم الموروث، فيجيء مأدومًا بما استسمنوه من ذوي الورم.

(٢) بطرس البستاني وولده

يقول المثل: عاشر القوم أربعين «يوم» فإما أن تصير منهم، أو ترحل عنهم. وأستاذ الجميع المعلم بطرس البستاني عاشر العلماء الأميركان زمنًا فصار منهم. وحسب النهضة من هذا المصير أنها غنمت ما غنمت من تآليف علمية ولغوية، ومدرسة وطنية، ومجلات ثقافية، ودائرة معارف، إن لم تكن كالدائرة الإنكليزية فحسبها أنها أول موسوعة عربية، ومحيط المحيط الذي ضمَّ تعريفات حديثة لم تكن في المعاجم القديمة.

يذكرني أسلوب المعلم بطرس بتراجمة العصر العباسيِّ الذين أغنوا النهضة الأولى علمًا ومعرفة. ليس للمعلم بطرس بلاغة الكتاب الكبار، ولا إبداعهم، ولا صحة عباراتهم … فهو مترجم وناقل، وقد أصاب فيما فعل، لأن البلاغة، وإن كانت تنقصنا في ذلك العصر، فقد كنا أحوج إلى الفنون الحديثة وعلوم العصر الجديدة؛ فالروَّاد الأول لم يترجموا إلى العربية إلا ما احتاجوا إليه من الكتب لخدمة الدين. فمن يقرأ آثار المعلم بطرس، جرائده ومجلاته، وتآليفه يجد أن هذا الرجل العظيم القدر، الفذ الهمة، كان يهمه أن ينقل إلى لسان العرب ما ينفع ويفيد، وأن يجدد طريقة التصنيف. وحبه التسهيل في كل ميدان حمله على الكتابة بالأسلوب الذي اعتمده التراجمة النصارى، في عهد هارون والمأمون وغيرهما، وها أنا أجول وإياك في «جنانه» دون كتبه الأخرى التي يعرفها كل قارئ، فشعار الجنان: حب الوطن من الإيمان، ولعل هذا كان من أسباب تمسك المعلم بزيه اللبناني، فهو وطني صميم، وفردٌ قام بأعمال تعجز عنها الجماعات، وإن لم نبالغ قلنا كما قالت فيه المقتطف: «وإذا أعملنا النظر في الأعمال التي اصطنعها لوازنت أعماله أو فاقت أعمال ثلاثة رجال من فضلاء الناس بعيدي الهمة، ماضي العزيمة، غزيري العلم والمعارف.»٢

يبدأ الجزء الأول من الجنان — كانون الثاني ١٨٧٠ — بمقال مترجم لم يوقع، ويختم برواية «الهيام في جنان الشام» كتبها ابنه سليم، ونشرت متسلسلة في أجزاء السنة الأولى فانتهت بانتهائها. أما جميع المقالات الأولى بعد العدد الأول فكتبها كلها سليم، وسليم ذو ملكة إنشائية ليس لأبيه بيانها، فتنقل من موضوع إلى موضوع، وفي السنة الثالثة جعل سليم عنوان مقالته الدائم «جملة سياسية» كما سماها الشدياق في جوائبه من قبل.

وظلت البساطة، بل الركاكة، مرافقة قلم الجنان حتى دخلت سنتها الثانية، وعلت صيحة صاحب الجوائب، فأعلن المعلم بطرس: «إنه لما كان الجنان قد تجنب استعمال الألفاظ اللغوية في السنة الأولي من سنوات نشره، وكان من المفيد أن لا يتجنب ذلك بعد أن يكون جمهور القراء راغبًا في توسيع دائرة اللغة باستعمال الألفاظ الكثيرة … كان لا بد لنا من القيام بحق ذلك الأمر المهم. فنسأل الله التوفيق، ونطلب إلى حضرة قرائه أن يعذرونا، إذا أتعبناهم بتكرار مراجعة القواميس.»٣
أما ولده سليم فودَّع قراء الجنان في آخر سنتها الأولى بقوله عن روايته المتسلسلة: «وقد اعتنيت بجمعها من صفات الفضلاء والرذلاء والعقلاء والجهلاء، ولم أترجمها عن عجمي ولا نقلتها عن عربي»٤ ووعد أن يقدم للقراء رواية حبية تاريخية في العام المقبل، وقد برَّ بوعده فألف رواية «زنوبيا ملكة تدمر» ونشرها متسلسلة، ثم استمر على ذلك فنشر في السنين التالية رواية «بدور»، ثم رواية «أسما» التي لم تكف فأنشأ لآخر عدد أقصوصة عنوانها «غانم وأمينة» فسدَّ بها ذلك الفراغ، ثم نشر عام ١٨٧٤ قصة «الهيام في فتوح الشام»، وقد أكثر في هذه القصة من الترصيع بالشعر القديم، لأنها عربية تاريخية كما يفهم من عنوانها، ولعل سليمًا هو أول من كتب رواية تاريخية، ولست أقول إنها أوحت الموضوع إلى زيدان بعده؛ لأن زيدان عارف مثله بما عند القوم من هذه البضاعة.

وبقي سليم يموِّن الجنان بروايته سنة كاملة، أما في نهاية هذه السنة فأعلن عدوله عن التموين الكلي. وفي سنة ١٨٧٥ كتب للجنان رواية «بنت العصر» فقام بكفايته نصف سنة، وكأنه ملَّ التأليف فشرع يترجم بدلًا من أن يؤلف، فنشر بالتتابع روايات: «كاملة»، و«الغرام والاختراع»، و«الصواعق»، و«الحب الدائم»، و«ماذا رأت مس درانكتون»، و«السعد في النحس»، و«جرجينه» التي ختمت بها السنة ١٨٧٥.

وترجم لسنة ١٨٧٦ «حلم المصور» و«سم الأفاعي» و«سر الحب» و«حيلة غرامية» و«حكاية الغرام» و«زوجة جون كارفار».

وفي عام ١٨٧٧ عاد فألف رواية «فاتنة» وملأ العددين ٢٣ و٢٤ بأقصوصتين مترجمتين «لا تنسني» و«قمرية».

أما في السنة ٨٨ و٨٩ فما عرفت ما ألف وما ترجم؛ لأن هذين المجلدين ليسا عندي. وفي سنة ١٨٧٠ لم يذع روايات له بل لغيره، وكذلك فعل عام ١٨٨١ الذي جرى في نهايته «اتحاد الجنان والجنة ولسان الحال»، وبعد هذا انصرف سليم إلى تعريب «تاريخ عام قديم» أحله محل رواياته.

ثم عاد فكتب رواية «سامية» ونشرها في النصف الأخير من مجلد عام ١٨٨٢ ولكنها لم تنته في هذا المجلد، وفي مجلد ١٨٨٣ لا أثر للروايات قط، وفي عام ١٨٨٤ مات سليم لاحقًا بأبيه. فأصدر الجنان بستاني آخر اسمه نجيب، ولكن اليتيمة لم تعش بعد أبويها غير عام.

هذا ما كتبه سليم من قصص، ولعله رائد القصة الأول، وإن لم يجلَّ في مضمارها. والذي يدلك على أن سليمًا كان صحفيًّا كما يكون الصحافي، هو أنه كان ينشر رواياته مزينة بالصور، وهو في هذا أيضًا من السابقين.

ولنعد الآن إلى أسلوب سليم محرر الجنان التي لم يخل عدد من مجلداتها من مقالة أولى له. فإنشاء سليم أسمى درجة من أبيه، وأسلوبه بياني أكثر، وإليك نماذج من تعابيره المحلَّاه بالاستعارات والتشابيه:
يا أيها الشرقيون، تسابقكم بنات الدهر في ميادين آداب هذه الحقب، فلا تتركوا مركباتها تسبقكم وتترك مركباتكم مرطومة في حمأة التأخر، فإن نور هذا الجهر قد رفع اللثام عن محيا ليل الظلام فبانَ لكل ذي بصيرة بدر المبادئ الصحيحة فعرفنا بما وقع علينا من الأشعة التي انحدرت إلينا في أحدور القرن التاسع عشر ما يقودنا إلى أرياف النجاح والتقدم.٥
وافتتح مقالًا عنوانه الإصلاح بقوله: «هل نقول لقد راهت طوالع سعد الأمة فلا تعود إلى أفقها، وقد لبط بها فلا تنهض؛ لأن صدر الدهر قد وغر عليها وأيادي الزمان قد تخللتها بذوابل النوائب، وقد لشت فلا تقدر أن تأتي بما يمهجها بعد أن خدشت ناعم وجنتيها جيوش الرزايا والآفات.»٦
وقال مفتتحًا مقالًا سياسيًّا: «أطال الزمان بلايا فرنسا وحلت عليها أيادي الدهور، وأمست تعتل إلى الشر وتقاد بعنان الويل والهوان من ذمائر إلى ذمائر، فكأن الشر قد أناخ ناقته في وسط مركز التمدن والمعارف.»٧
وقال في صدر مقال «أعجب العجب»: «علامَ الغنج والدلال، والهرم قد هدم صفوف تلك الأسنان، وقد بيَّض الشيب سوادًا كان أبيض الخصال؟ فليس أقبح في عيني من عجوز تهتز تيهًا وغنجًا إلا عرجاء ترقص وتميد عجبًا ودلالًا، وأقبح منهما الذي يعاير الأواقي، ولا يعاير الأرطال.»٨

ثم يتكلم بعد هذه المقدمة عن الحسد فالنميمة حتى يقول: «إنه من واجبات الكتاب أن يصلحوا العادات القبيحة، فما أقبحهم إذا سلكوا سبيلها! وأحب إليَّ أن أخسر ما أقدر أن أخسره من أن أرى بنات أقلامي ترقص في مراسح النميمة والفساد، فإن للقلم عرضًا وناموسًا، وحكمه حكم الفتاة.»

ويلي هذا المقال «تذييل» رد به على من انتقد أسلوبه الذي أريتك نماذج منه، وما أظنه إلا الشدياق لأن الحرب القلمية كانت قد أعلنت، ودارت رحاها على الجبهتين الغربية والشرقية — الأستانة وبيروت، ولكن الملاحظة النقدية التي أبداها الكاتب الذي لم يذكر اسمه سليم قد حملته على ترك مواضيعه الأدبية واستعاراته، فعاد إلى الأسلوب الطبيعي وصار يصدِّر الجنان بجملة سياسية، بدلًا من تلك المقالات الأدبية.

تلك كانت موضة الكتابة في ذلك الوقت، كما قال سليم في رده على ناقده، فالمراش وإسحاق، ثم الحداد بعدهم، كانوا جميعًا يحوكون على ذلك النول.

لم ينح سليم نحو والده؛ لأن نشأته غير نشأة أبيه، أما أسلوب المعلم بطرس فاتبعه زيدان وغيره ممن كتبوا ليقرروا لا ليتخيلوا، وإذا كان المعلم بطرس قد مات ولمَّا يصقل أسلوبه، فقد تم لغيره بعده ما لم يتم له.

لقد كان أحرى بواضع منهاج البكالوريا الأدبي، أن يكلف المدارس تدريس سليم البستاني لا المعلم بطرس، ولكن حكمه «الواضع» شاءت فحشرت المعلم بطرس مع الجاحظ، وغيره من أصحاب الدروس الأخلاقية والاجتماعية، وليس للرجل في «الإنشاء» غير خطابي تعليم النساء وآداب العرب، فإذا كانت حكمة الواضع تعنيهما فقد ضلت، ولم تصب لنقول: قد أصابا كما شاء جرير.

إن للمعلم بطرس في نهضتنا دورًا علميًّا عظيمًا، وإننا لظالموه إذا حشرناه مع الأدباء والكتاب، وإذا كان لا بد من ذكر بستانيٍّ في كل مجال، فلنذكر الابن المؤلف، لا أباه المترجم والناقل.

(٣) الشيخ إبراهيم اليازجي

هو أحد جنود تلك الكتيبة المناضلة تحت علم الضاد في عصارى القرن التاسع عشر. خاض المعمعة مع قائدها المغوار فارس ميدان الفصحى المستولي على الأمد — فأكسبه ذلك الشوط — وإن لم يجلَّ فيه، شهرة أحلَّته المحل الأرفع بعدما مضى أولئك الجهابذة وعاش هو بعدهم ليتوغل في المسلك الوعر الذي شقُّوه ومهَّدوه.

فالشدياق والأسير والأحدب واليازجي الأب كانوا أبطال تلك الساحة يصولون ويجولون حتى طلع إبراهيم فكان صنو أبيه في الإنشاء، ولكنه فاقه علمًا وتدقيقًا بأسرار اللغة. نزل إلى الميدان، بعد موت والده، وهو ثنيان رخص فدافع عنه في تلك الهبوة التي أثارها كبش الكتيبة العاسي والجواد القارح أحمد فارس.

فاليازجي كاتب عالم صنع نفسه يوم لم تكن طرق التعليم معبدة. جاور أباه وأخذ من علمه ما حضر، ثم تعمق فاكتسب برغبته وجدِّه لغات أجنبية وآدابًا وعلومًا حتى أحصي بين علماء الهيئة — الفلك — وتطاول إلى مناقشة العلامة فلامريون الفرنسي إمام ذلك العلم، فسمع صوته وأهدى إليك ملك أسوج ونروج نوط العلوم والفنون.

إلى هنا أوصل الجد والكد الشيخ إبراهيم اليازجي الذي لم يعل رأسه سقف مدرسة. كان معوِّلًا على نفسه معتمدًا عليها فخلقت منه تلك الثقة المقرونة بذكاء حادٍّ رجلًا وقف حارسًا أمينًا على باب لغة العرب زهاء ربع قرن. لقد صدق لما أجاب من سأله عن أستاذه حين قال أستاذي الشدياق. فهذا البحر المحيط بجبال اللغة وسهولها وأوديتها وكهوفها جرَّ اليازجي إلى خوض غمارها وعبابها خوفًا من الطوفان الذي طغا من لدن صاحب «سر الليال» و«الجاسوس على القاموس».

كان إبراهيم في طلعته الأدبية يقول الشعر كأبيه، فأكثر من نظم «التواريخ» كما مر بنا. ولسنا نعني أن هذا كل شعره، فلإبراهيم شعر حماسي قومي أهاب فيه ببني العرب يوم كانوا يعملون لاسترداد الملك المفقود. نظم قصيدتين شهيرتين نشرتا غفلًا في بيروت، فأقضَّتا مضجع الوالي فبث جلاوزته، ورجال شرطته؛ لينتزعوهما عن الجدران، وهذا مطلع كل منهما:

تنبَّهوا واستفيقوا أيها العرب
فقد طما الخطب حتى غاصت الركب

•••

دع مجلس الغيد الأوانس
وهوى لواحظها النواعس

وله قصائد أخرى منها واحدة في وصف الزهرة التي وصفها في مقال من النثر الفني المنمق كان خيرًا من شعره المنظوم. ويقول من ترجموا لإبراهيم إنه عاف الشعر إذ «وجد أن استمرار تلك الحال سيفضي به إلى الانقطاع للشعر وإهمال ما سواه؛ فترك النظم بتة وعكف على الاشتغال باللغة وسائر فنون الأدب والعلوم العقلية.»

فماذا فعل إذن؟ انصرف إلى الكتابة فكانت جريدة «النجاح» عام ١٨٧٢ ميدانًا لقلمه، بعد أن جربه في مجلة «الجنان» مساورًا شيخ العصر صاحب الجوائب، ولكنه لم يحرر جريدة النجاح غير بضعة أشهر؛ لأنها احتجبت «لأن دخلها لم يكف خرجها». فانتدبه الآباء اليسوعيون؛ ليعرب التوراة، فانكب على عمله الجليل تسع سنوات «فجاءت هذه النسخة من أصح ما عرف إلى الآن من نسخ هذا الكتاب، فضلًا عما اشتهرت به من فصاحة العبارة وجزالة الأسلوب.»

ثم طلق الآباء اليسوعيين الثلاث وراح يعلم البيان في المدرسة البطريركية بيروت، وله في ذلك الوقت خطاب نفيس عنوانه «آداب الدارس بعد المدارس» أفاض فيه نصحًا وتأديبًا للنشء وغيرهم من أرباب صناعة القلم ورجال الفكر، فجاء من طراز رسالة عبد الحميد الكاتب إلى زملائه. ولما كان الشيخ من المطبوعين على المناقشة والجدل والمطارحة، ومجال هذا في الصحافة أوسع، أصدر مجلة الطبيب مع الدكتورين زلزل وسعادة، فكتب فيها أبحاثًا في اللغة وغيرها، فعادت شهرته إلى الظهور، وطار صيته، ولكن هذه المجلة أيضًا كانت قصيرة العمر، فماتت كالنجاح في المهد، وكما انتقلت أخت لها من قبل إلى رحمته تعالى.

ورأى الشيخ ما صادفه الذين نزحوا من الأدباء إلى مصر مثل صروف ونمر وزيدان وغيرهم فتغرب مثلهم، وهناك أنشأ مع زميله زلزل مجلة البيان فلم يطل عمرها أكثر من عام. وأنشأ الشيخ، وحده، مجلة «الضياء» الشهيرة فعاشت ما عاش، وماتت بموته بعد أن أدت للغة أجل خدمة، وفجع اللسان العربي المبين بالاثنين.

وقف الشيخ في الضياء رصدًا على الكتَّاب يتتبع خطواتهم اللغوية في باب «لغة الجرائد»، كان يرشدهم ويسدد خطواتهم، فسلم اللفظ من الأخطاء الفاشية، وصحت عبارة الكتاب، وكان له في ذلك أبيض يد عند حملة الأقلام، كفاهم مئونة التنقير في المعاجم، وأقرَّ الحروف في مواضعها، وهذه التعدية بالحروف قوام الكتابة عند البلغاء، ولهذا كانت قبلة أنظار الشيخ، ومما روي عنه — ولعلها مبالغة — أنه أبرق مرة من الإسكندرية إلى مدير مجلته — الضياء — يطلب منه أن يعيد طبع أحد كراريس عدد المجلة إن لم يستطع إبدال الباء بفي في عبارة ما.

أما شخصية الشيخ فقوامها إباء وعزة نفس، وحرص على الكرامة، وأنفة كأنها الكبرياء، لذاع النقد قارصه، ولكنه «لا يحتمل الرد برحابة صدر، وهذا ما أدَّى به أحيانًا إلى كتابة مقالات كان في غنى عنها، وليته نزَّه قلمه عن تحبيرها.»

كان نقد اللغة أحب المواضيع إليه، وقليلًا ما كان يعالج النقد من نواحيه الأخرى، ولكنه أجاد في الدراسة التي ذيل بها ديوان المتنبي المنسوب شرحه إلى والده. فإبراهيم لم يصحح من تصانيف أبيه شرح ديوان المتنبي فقط، بل أعاد النظر فيها جميعها؛ لأن اليازجي الكبير لم يكن باللغوي المحقق. أما الفضل في هذا التنقيح والتصحيح فيعود إلى الشدياق الذي اضطر الابن إلى جبر عثرات أبيه، فكان من وراء ذلك خير جزيل.

ليس إنشاء الشيخ إبراهيم بالإنشاء المنمق العالي، إذا استثنينا صدر مقالتي الزهرة والقمر، حيث أظهر لنا الشيخ أنه ناثر فني من الطراز الأول؛ فخياله فيهما طريف، وسجعه أنيق ظريف، كأنه الشعر أو فوق الكثير من الشعر، وسوف نعرض عليك نموذجًا منه.

أما في جل نثره الآخر فيكتب بأسلوب العلماء والمؤرخين، والكتاب الاجتماعيين، وهو أكثر ميلًا إلى هذه المواضيع، التي تتطلبها المجلة ليكون فيها مرعى لكل مرتاد. فتضلع إبراهيم من اللغة وإدراكه أسرارها أدى به إلى العدول عن المجاز.

فلليازجي فضل على النهضة بتعابيره الصحيحة لا بطلاوة أسلوبه وطرافة شخصيته، فهو على علمه الواسع لم يترك بعده أثرًا يخلده، وهذا برهان على أن الشيخ كان لغويًّا لا يحيد عن الطريق المعبدة مقدار فتر حتى كأنه يمشي على الصراط، فكأنه كان يحب الرفق بالألفاظ فلا يريد أن يحملها أكثر من محمولها؛ ولهذا تأنى وتمنى حتى أصدر كتابه «نجعة الرائد في المترادف والمتوارد»، وما هذا الكتاب غير صورة ثانية عن كتاب «الألفاظ الكتابية» الذي يعلم الناس كيف يعبرون عن أفكارهم وخواطرهم كما نلقن نحن طفلًا حديث العهد بالكلام، وما قتل الأدب العربي غير هذه التعابير «الجاهزة» المعدَّة.

ثم يبدو لنا التقليد أكثر وضوحًا وجلاء حين نقرأ رسائله فنراه ينحو فيها نحو الخوارزمي والبديع، وما أعزو ذلك إلا إلى المربى الأدبي والنشأة في ظل الوالد، فهي التي وجهته هذا التوجيه، فنحن لا نرى في آثار اليازجيين ما يدلنا على أنهما عاشا في زماننا، مع أن الشيخ كان بخلاف والده يضيف إلى إدراكه أسرار اللغة اطلاعًا على الآداب الأجنبية.

ولم يكن الشيخ كاتبًا وشاعرًا وعالمًا فقط، بل كان يضرب في كل فن بسهم، يحسن الرسم والتصوير والحفر، وهذا الأخير هو الذي دفعه إلى خلق هذه الحروف الجميلة التي تطبع بها كتبنا اليوم، فمن نظر إلى الحرف المطبعي القديم وقابله بحرف اليوم يسأل للشيخ حسن الجزاء والأجر، فهو ذو الفضل الأول «في صنع الحروف لعمل الأمهات التي تسبك عليها الحروف المطابع، ناهيك أنه عني باختصار قاعدة الحروف المعروفة إلى يومنا هذا، فرد عدد الأمهات إلى خٌمس ما هي عليه، بأن حصرها في نحو ستين أمًّا، حال كون عددها في المألوف لا يقل عن ثلاثمائة.»

هذا ما كتبه زعيم الطباعة الأهلية المرحوم خليل سركيس في جريدته لسان الحال البيروتية يوم مات صاحبه إبراهيم اليازجي؛ لأن هذا العمل كان بإرشاد الخليل ومؤازرته، وهو الذي أبرز هذا المشروع إلى حيز الوجود في مسبكه.

وقد اطلعت على رسالة بخط يد الشيخ إبراهيم بتاريخ سنة ١٨٧٠ وجَّهَها إلى صديقه خليل سركيس في مطلع هذا العام مهنئًا، فإذا به يستعمل «رؤياكم» بدلًا من «رؤيتكم»، ويستعير «غرة» من الشهر القمري فاستنوق الجمل … لقد دلني ذلك على ما أصاب من الخير العميم حين انبرى لمناظرة الشدياق، ونشبت بينهما تلك الحرب القلمية في عام ١٨٧١، وها نحن ننشر هنا رسم تلك الرسالة لتقرأها:

إن الوفاء لخدام العلم والأدب يقضي علينا أن نذكر للرجل فضله الجزيل على كل من حمل قلمًا، فهو وإن لم يترك أثرًا بديعًا فقد كان له أبعد الأثر في توجيه كتاب النهضة نحو الكلام الصحيح السليم. ولئن كان في إنشائه جفاف أساليب العلماء فلا تنس أن فيه صحة وشدة أسر، وهو قبل كل شيء عربي لا غبار عليه، لم يكن يتعمد المحسنات البديعية، أما إذا جاءته عبارة جميلة على الهينة فأهلًا ومرحبًا، وإلا فهو لا يشد بأذيالها لتجيء صوبه غصبًا عنها. يؤخذ على الشيخ ترديده بعض عبارات وكلمات بعينها فيزرعها في كل مقال مثل: لا جرم وغيرها، فتجيء غالبًا مثل تلك العبارات التي يكثر الناس من ترديدها في حديثهم، كقولهم بعد كل جملة: نعم، أو فهمت، أو سمعت يا سيدي، إلخ.

ويؤخذ عليه أيضًا تشدده وتقعره في معاني المفردات وغيرها حتى عدَّ غلطًا ما ليس بالغلط ولا بالخطأ، إذا حكمنا عقلنا في اللغة، فكأنه في أحكامه تلك يريد أن يسد على الكتاب باب المجاز، بل يريد أن يطيِّن النوافذ؛ ليمنع تجدد الهواء في حصن اللغة، مع أن فتح الأبواب والشبابيك ضروري خوفًا من الاختناق، فالألفاظ كائنات حية تقدر أن تتوالد وتتكاثر إذا نفَّسنا عنها … واللغة كالمخلوقات يجب أن يكون فيها وفيات ومواليد، وإلا صارت مومياءات ومتحجرات …

وأخيرًا هاك من نثره الفني ذاك النموذج الذي وعدناك به. قال في وصف الزُهَرَة:

هي ملك جند الدجى بل قائد معسكر الأنوار، بل إلاهة الجمال قد استوت على عرش من النضار. إذا بردت في ثوب بهائها اكفهرت لها الشمس من الحسد، بل غشيتها حمرة الخجل بعد ما علتها صفرة الكمد، فأقبل الهلال وقد انحنى بين يديها وسجد، وأطافت بها حور الكواكب كأنهن أتراب كواعب، فوقفن لخدمتها متضائلات أمام عظمة جلالها، وقد أرخين شعورهن من حولها فشببن من جمالها، فما كادت تتجلى لهن حينًا حتى توارت عنهن بالحجاب، وسرن في أثرها متتابعات حتى برقعهن الصبح بأبيض الجلباب.

إلى أن قال خاتمًا النثر الفني:

تلك إلاهة الجمال التي عبدها الأوائل، وأقاموا لها المساجد والهياكل، ورفعوا إليها الأبصار والقلوب، في أخريات الليل وقبيل الغروب. فكانت مناط الآمال، ومصعد الابتهال.

أماني تخترق الفضاء، وتسافر بين الأرض والسماء، فتنزل مكانها طمأنينة الاتكال، بين حرارة الرغبة وبرد الآمال.

وقال في وصف القمر:

هو بعد الشمس أبهى الأجرام السماوية على العموم، ونكتة الفلك الأرضي بل أقرب ما يرى الناظر في عالم النجوم. إذا استقل في فلكه يسبح فوق الوهاد والآكام، ورأيته يتراجع مع النجم وهو مُجدٌّ في وجهه إلى الأمام، فتخطى الأبراج وكأنه واقف لا يحس له الناظرون انتقالًا، وظهر بأشكاله من الهلال إلى البدر حتى يعود هلالًا، فكان قيد الأبصار تراه أبدًا جديدًا على تقادم عهده، وتتوهمه على قيد أميال منها وهو الشاسع في بعده، على أنه أدنى العوالم من الأرض مقيلًا، وأعقلهن بها حبلًا وأقربهن تمثيلًا. فهو صورة الأرض في السماء، ورفيق طيَّتها إلى حيث لا تدري في أجواز الفضاء، وشريك بختها فيما أرصد لها من أحكام القضاء، بل هو وليدها وإن تقضَّى قبلها شبابه، وشابت دونها أترابه، وقد دفعته عنها منذ فصاله فمر إلى حيث لا مطمع في إيابه، ثم عز عليها إلا أن يكون بحيالها، فأخذت عليه طريق انسيابه. فهو أبدًا يدور من حولها مُقطع النياط، ويقطع معها أضعاف ما تقطع من الأشواط.

كون جامد، وقفر هامد، وسكوت سائد، وحطام خُلق بائد، لا يخلوا هنالك غادٍ ولا رائح، ولا يُسمع صوت باغم ولا صادح، ولا يسبح طائر في السماء، ولا يدبُّ حيوان على العراء، ولا يخضرُّ وادٍ ولا أكمة، ولا تسحب أذيالها نسمة، ولا ينتشر سحاب ولا ضباب، ولا يترقرق ماء ولا سراب، ولكن جملة ما هنالك طلل داثر، وعالم من عوالم الدهر الغابر، بل جنازة يطاف بها حول الأرض، وإن لم تحملها المناكب، وقد صلت عليها السيارات فترحمت عليها الكواكب.

لا بل هو خلَفُ الشمس ومصباح الظلم، ومقياس الأزمان، وموقت الأمم، عنه أخذ حساب الأسابيع والشهور، وبحركته حددت الآجال والتواريخ من أقدم الدهور، فكان السجل الذي يرجع إليه في المعاملات، والإمام الذي ينزل على حكمه في توقيت العبادات، بل طالما عبده المتقدمون؛ لأنهم رأوا في فعله ما يشبه أفعال العاقل، وأنِسوا في صورته ما يقرب من هيئة الناطق، وشاهدوا من بقائه ما نزَّله عندهم منزلة الخالق، فكان له الحكم في السعادة والشقاء، وصلاح الغرس والزرع، وصحة الجنى والقطع. وعلى الجملة فقد كان الحكم في الأحوال والأعمال، والمستشار في العزائم والآمال، بما يبدو عليها من نقص أو تمام، أو يتفق له من اقتران بغيره من أجرام، مع اعتبار ما يقع ذلك فيه من الأيام، شئون ساق إليها ضعف الأحلام، واستيلاء الأوهام، والله وراء ما يفعلون، وهو العزيز العلام …

ثم يمضي على رسله في بحثه العلمي بنثر مرسل، فلا يعنيه إذ ذاك شيء من الخيال.

(٤) صروف وزيدان وتقلا وسركيس

أدرك زيدان البستاني وتأثر بأسلوبه، فكان في هلاله من الروَّاد الأركان. أراد أن يكون طبيب أجساد وشاء القدر أن يكون طبيب أفكار، فنشر رواياته التاريخية التي صادفت رواجًا عظيمًا فطبعت مرات، وترجمت إلى لغات عديدة. لقد سبق إلى مثلها سليم البستاني، ولكنها لم تكن كروايات زيدان فنًّا، وإن لم تكن هذه في المستوى القصصي الرفيع. ولزيدان كتاب تاريخ الأدب العربي الحديث، فهو أول من فصله على هنداز الكتب الأوروبية، وقسَّم عصوره على غرار تاريخ الأدب الإنكليزي. وله أيضًا كتب عديدة أخرى في التاريخ وغيره، «كتاريخ التمدن الإسلامي»، و«العرب قبل الإسلام»، و«الفلسفة اللغوية»، و«علم الفراسة»، وغير ذلك.

إن لزيدان فضلًا جزيلًا على النهضة الحديثة، فهو من أركانها الكبار، قد علَّم الناس تاريخهم، وسلاهم في وقت معًا.

أما الدكتور صروف، فأنشأ مجلته المقتطف، بعد صدور الجنان بثلاثة أعوام، فكانت منذ نشأتها علمية، وهي لا تزال حتى اليوم محافظة على صبغتها تلك وزيِّها الأول. لا تزال لابسة فسطانها الطويل غير متشبهة برصيفتها الهلال التي قُصَّ شعرها وقُصِّر فسطانها لتماشي الزمن. فالمقتطف موسوعة تتضمن تاريخ تطور العلم منذ نشأتها عام ١٨٧٣ حتى الساعة، ومن اجتمعت له جميع مجلداتها فقد وقع على كنز ثمين.

وأهم ما يلفت النظر في المقتطف أن منشئها الدكتور صروف كتب فيها روايات ذات لون محلي — روايتي أمير لبنان وعروسة النيل — ولعل رواياته هذه، وروايات فرح أنطون، أقرب ما كتب، في تلك الحقبة، إلى أصول الرواية الحديثة وفنِّها.

وفي بدء الربع الأخير من القرن التاسع عشر أنشأ سليم تقلا جريدته الأهرام. وسليم من تلاميذ المدرسة الوطنية التي أنشأها المعلم بطرس، ثم صار فيها معلمًا. ولما ضاق عنه لبنان قصد مصر حاملًا إلى سمو الخديو إسماعيل قصيدة رنانة، فمهدت له سبيل الحصول على امتياز جريدة الأهرام عام ١٨٧٥.

لا حاجة إلى وصف الأهرام، وإنما يحسن بنا أن نقدِّم نموذجًا من إنشاء تقلا؛ لأن أسلوبه أشبه بأسلوب المنشئين في زمنه، إنه يقول الشعر كما عرفت، وليس البستاني وزيدان وصروف بشعراء ليكتبوا بهذا الأسلوب المنمق، قال سليم تقلا من مقال عنوانه: «الجامعة العثمانية»:

جوزيتِ يا صُروف الزمن خيرًا عن الشرق، ولئن بلغ سيلك فيه الربى، وفاض منه الوطاب؛ لأنك أمطت لثام الجهل والغرور عن البصر والبصيرة، فشاهد الصور وأدرك مادتها … أعدت له ذكرى ماضيه أيام كان يجرُّ ذيل العجب والتيه، ويتعثر بالبسط السندسية، ويرفل بمطارف الإجلال، ويزدان بحلى الفضل، ويعتضد بجامعة الكلمة، ويشنف السمع بنغمات الاتفاق، ثم نقلت به إلى أيام أخذ يجر فيها ذيل الفقر ويتعثر بشوك القتاد، ويرفل بعباءة التحقير، ويزدان بحلى الجهل، ويعتضد بتفريق الكلمة، ويشنف السمع بنغمات الاختلاف، فتبين بالمقابلة ما هنالك، وبضدها تتبين الأشياء.

هذا هو الأسلوب الذي عنَّف الشدياق سليم البستاني لأجله، ولكنه ساد بعد موت الشدياق …

أما خليل سركيس فأنشأ مطبعته، أولًا، باسم مطبعة المعارف عام ١٨٦٨ بشراكة حميه المعلم بطرس البستاني، وظلا شريكين مدة سبعة أعوام، ثم كان الانفصال عام ١٨٧٥، فأنشأ سركيس المطبعة الأدبية، ثم أصدر بعد عامين جريدته «لسان الحال» فعرَّض بها سليم البستاني بقوله: صدرت في بيروت جريدة آخر زمانها، فرد سركيس على ابن حميه بلسان الحال قائلًا:

وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآتٍ بما لا تستطعه الأوائل

وثبت خليل سركيس في الميدان وكانت صحيفته مثال الرصانة والاعتدال، فلم ترو قط خبرًا لم تستوثق منه، وأقبل على مناصرتها حملة الأقلام فكانت ميدانًا للروَّاد ومنبتًا للكتاب والشعراء الذين كان لهم أجلُّ شأن في تاريخ النهضة.

لم يكن خليل سركيس ذلك الكاتب الأنيق العبارة ولكنه كان رجلًا واقعي التعبير يسمي الأشياء بأسمائها. وإذا لم يُعدَّ من رءوس الكتاب فهو بدون شك، من رءوس الصحافيين الذي عرفوا بالصدق وقول الحق، فلم يسجلوا في صحيفتهم غير الصحيح من أخبار، ولم يحملوا حملات غواشم، بل كان تأنيبه نصحًا وتوبيخه مشورة.

كانت أول معرفتي به في آخر عام ١٩٠٦، عرفني به المرحوم خليل طنوس باخوس صاحب جريدة الروضة وزرناه معًا في سوق أياس حيث كانت مطبعته وإدارة جريدته، فرأيت في ذلك الوجه سيماء اللبنانيين العتاق.

وكما كان لجريدته لسان الحال فضل على الأدب والسياسة كذلك كانت لمطبعته يد في نشر الكتب وإخراجها بحلل قشيبة. انتشر حرف سركيس الأنيق في كل قطر ينطق بالضاد، وعرف الناس له وللشيخ إبراهيم اليازجي هذا الفضل على العين والرأس. ومُنِيَ سركيس باحتراق مطبعته فكان طبيعيًّا أن يكون الشيخ إبراهيم أشد الناس شعورًا بهذا الخطب الجسيم فكتب إلى صديقه يؤاسيه، وهذه صورة تلك الرسالة التي تفضل علينا بها خليل سركيس الثاني:

وإنه يسرني جدًّا أن يظهر كتابي هذا في الوقت الذي بلغت فيه جريدة لسان الحال يوبيلها الألماسي بجهد الابن والحفيد.

(٥) رواد الثقافة

(٥-١) المبشران فان ديك وشيخو

كرنيلوس فان ديك

منذ مائة وعشر سنوات ونيف، جاء بيروت شابٌ أميركي، ثم قضى هذا الشاب حياته كلها في الربوع الشامية طبيبًا للأرواح والأجساد، وعونًا للفقراء والمساكين.

وبعد خمسين عامًا شعرت نخبة من الرجال بفضل الدكتور فان ديك الغامر فاحتفلوا بيوبيل مجيئه الذهبي، وسجلوا الإقرار بفضله على رقِّ غزال مقدرين ما صنف وألف من كتب مفيدة، أدبية وعلمية وطبية، وبما شيد من مدارس وصروح علم ونوادي خير، وتعليم فقراء ومعالجة مرضى، وما أعد للبلاد من رجال.

احتال — رحمه الله — للعلم فاقتنصه من بين مخالب الفقر وأنياب الفاقة، تعلم رغم فقر أبيه فصار الطبيب النطاسي، والعالم الناطق بعشرة ألسن، ومستشرقًا كالأصيل. بل فلنقل مستعربًا لأنه يعرف أسرار لغتنا كعلمائنا، وأخيرًا عادى قومه وارفض عنهم لأجلها، يوم اقترح أن يكون التعليم باللغة العربية لا باللغة الإنكليزية.

جاءنا مبشرًا بالفضيلة والعلم ومعلمًا مؤلفًا المفيد النافع، فكان في سيرته النقية سفرًا جليلًا حيًّا، قرأ أسلافنا في سريرته سطور الشرق وجوامع النبل ومكارم الأخلاق، ومتى عرفت من عاشر وأحب أدركتَ سمو أخلاقه. كان عشيره ورفيق صباه المعلم بطرس البستاني، فوضع وإياه حجارة ضخمة في أساس نهضتنا العلمية، كانا شريكين، كل يعمل لحسابه، أو فرسين كريمين يكران مع الجديدين، بلا كلل ولا ملل.

فأينما تطلب الدكتور فان ديك كنت تجده. إن طلبته في البرية فهو كالسيد مولع بالنبات وزهور الحقل يصنفها وينظمها، فكانت له منبتة شرقية أعجب بها كبار علماء النبات. وإن تطلبه في السماء تجده يسبح بين الكواكب والنجوم في مرصد الكلية الذي أنشأه بماله؛ ليرى ويُري الناس محاسن «القبة الزرقاء»، ويعلمهم أصول علم الفلك. وإن طلبته في الجبال كنت تراه بين المسطحات والمثلثات. وإن فتشت عنه بين الناشئة رأيته بينهم أبًا ومعلمًا، يكتب لهم كتابه الشهير «النقش في الحجر»؛ لينوِّر أذهانهم، ويؤسس لهم المدرسة الكبرى ليعلمهم، والمستشفيات ليعالجهم، ويؤدي ثمن الدواء من كيسه. كان جوادًا في الإحسان حتى التبذير؛ ولذلك اشترط عليه تلاميذه ألا ينفق هديتهم المالية في سبيل البر كعادته.

وكان حلو الحديث ظريفًا، ولكنه لا يتبذل. تمثل بأمثالنا، وعلم أسلافنا الحياة العملية. فكثيرًا ما كان يردد: الحلاقة بالفاس ولا جميلة الناس، وكم من نكتة وملحة نادرة وفكاهة تروى عنه، فتملأ المجالس والأفواه طربًا ونشاطًا.

جاء فان ديك دِيارَنا لا يملك فلسًا، ومات لا يملك إلا المآثر الطيبة، وأروعها تأسيسه الكلية الأميركية، وتأليفه أكثر من عشرين مجلدًا كلها نافعة. وفان ديك — بعد البطريركية المارونية — هو أول من اختار الأرزة، فكانت شعارًا للجامعة منذ نشأتها، وكان ذلك الفال مليحًا، فصارت الجامعة أرزة طارت منها نسور النبوغ.

لست أذكر من قال: الرجل المثقف هو الذي يعرف شيئًا عن كل شيء، وكل شيء عن شيء. بيد أني أعرف حقًّا أن الدكتور فان ديك كان ذلك الرجل، وهو من كبار رواد نهضتنا وأحد بُناتها على الطراز الحديث.

الأب لويس شيخو

أذكر أن أول كتاب أقامني وأقعدني سرورًا هو الجزء الثالث من مجاني الأدب. استحضره لي والدي من بيروت فعكفت على مطالعته برغبة ولذة، ثم جرت عجلة الأيام مسرعة، فإذا أنا في مدرسة ماريوحنا مارون أتلقى «علم الأدب» في كتاب ألفه الأب شيخو، مصنف «المجاني» في ٦ أجزاء وشارحه في ثلاثة أخر.

لم يعلمنا أستاذنا من كتاب علم الأدب، غير علم المعاني والبيان والبديع المنقولة عن القدماء، أما ما بقي من الكتاب فلم يعنه أمره. وسمعنا بكتاب «شعراء النصرانية» فاستقدمناه فإذا هو لهذا العلامة الجليل، وإذا كل ما عرفناهم من شعراء جاهليين قد خرجوا من تحت سن قلمه نصارى. كان «التعميد» بالماء، فإذا به قد صار بالحبر، ولكن هذا ليس يعنينا الآن؛ فكل ما يهمني من الأب شيخو هو خطواته الواسعة الجبارة في طريق النهضة.

ثم ظهرت مجلة اسمها «المشرق» وإذا هي للأب شيخوا أيضًا، فكان هذا الرجل يكبر في عيني يومًا بعد يوم حتى عرفته في بيروت، أيام علمت في كلية القديس يوسف أقل من ثلاثة أشهر، وأُخرجت منها بأمر نيافة القاصد الرسولي؛ لأنني خطر على الطائفة المارونية والدين الكاثوليكي …

ها أنا ذا في غرفة الأب لويس نتحدث ونتضاحك … كانت ضحكته كأنها سوداء، وكأنه إنما كان يضحك غصبًا عنه. فهو ذو نفسٍ لا تمل، ويد لا تكل. أرسلت إليه من مدرسة الحكمة، يوم كانت تلميذًا، قصيدة عنوانها «المرائي» فلم ينشرها، وكان عذره غير مقبول عندي في حينه؛ لأني لم أكن أبحث عن المفردات في معجم لاروس …

للأب شيخوا أجلُّ فضل على النهضة الحاضرة، فهو الذي عبَّد لنا الطريق في كتبه التي يضيق المقام عن عدها؛ فكتابه «علم الأدب» تناول كل حديث من ألوان الأدب، وهو يعلم الطالب الأصول من فن القصة والرواية والتاريخ إلى النقد، وكل ما استحدث من ضروب. وفي مجلته المشرق التي تعد حجة في المشرقيات، عرَّفنا على الروايات الأصولية والأبحاث الدقيقة، ودلنا على ما في بلادنا من آثار، ثم لم يقف عند هذا الحد بل علمنا أيضًا تاريخنا، وطبقات أرضنا، وأحيا ذكر نوابغنا على اختلاف الملل والنحل، وهكذا أحسن الرجل إلى الأدب العربي كل الإحسان بما بعث وحفظ من كتب. وغيرته على الكتب الخطية القديمة التي كانت مبعثرة في هذا الدير وذاك البيت، حيث لا يعرف قيمتها أصحابها، أوحت إليه إنشاء المكتبة الشرقية، وهي من أشهر مكتبات الشرق به بل هى أغناها في المخطوطات.

ليس الأب شيخو ذلك المنشئ المنمقة عبارته ولكنه الباحث المدقق، والمناضل العنيف عما تجند للدفاع عنه. بحاثة جريء حمل على الماسونية حملات غواشم، يوم كان اسم «الفرمسون» يخيف ويرعب، ولكن «الماسون الكبار» حملوه على أكتافهم إلى القبر تعظيمًا لعلمه، وإجلالًا لحرية الفكر والقول، فكان ذلك أبلغ رد على كل ما ألصقه بهم من تشنيع وتزييف. وها أنا أحد أولئك أنحني الآن احترامًا لآثار شيخو، وأقرُّ أنه كان المجلي في الحقبة الأخيرة من القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، ولولا تعصبه لدينه ذلك التعصب العنيف لأجمع الناس عل تقديره، ولم يختلف في تقديمه أحد، على كل من تقدموه من الأحياء في نشر كل جديد وجَّه النشء أصدق توجيه فني.

ومن مقدمة «المشرق» التي كتبها شيخو في غرة عام ١٨٩٨ يتضح لنا أنها لم تنشأ إلا لخدمة الشرق أولًا «لئلا يقال أن الغريب أدرى بما في البيت من أهله، لا سيما ولا نزال نرى كثيرين من الأجانب يعكفون على تتبع أخبار بلادنا واستبطان أحوالها وكشف مكنون أسرارها فدعوا لذلك بالمستشرقين.»

وبعد أن وعد القراء بأخبار الاكتشافات والاختراعات الحديثة، قال: ولما كانت غايتنا أن نجمع في هذه المجلة بين الأمور المفيدة والمبهجة معًا، أحببنا أن نفرد بعض صفحات لروايات خيالية نتخذها وسيلة لتفكيه المخيلة، وطريقة لتمثيل عوائد الأمم المختلفة في أحوالها وتواريخها، ورسم تخومها ووصف آثارها.٩

وهكذا فعل خادم الآداب الأمين، فجاءت روايات المشرق مؤلفة وفقًا للأصول الفنية لأن كتابها عارفون بذلك، وليسوا حديثي العهد كروادنا. كتب الأب لامنس بالفرنسية رواية خريدة لبنان، ورواية حبيس بحيرة قدس، وعربهما نجيب حبيقة ورشيد الشرتوني. وكتب الأب س. ت. اليسوعي يمين العلي، وعرَّبها شيخو، وكتب الأب ليفنكستون زوار الليل، وعربها الخوري إسطفان البشعلاني.

وهكذا ساهم اليسوعيون في نشأة الرواية عندنا، بهمة الأب شيخو الذي يستحق شكرنا الجزيل في العام القادم، بمناسبة ذكرى وفاته الخامسة والعشرين، فعسى أن لا يفوتنا هذا الواجب، كما فاتنا غيره من واجبات أخرى.

(٦) المعلمون الرواد

(٦-١) البستاني والحوراني والأزهري

إن أكثر الرواد كانوا معلمين وكتابًا وشعراء في وقت معًا، وقد أطلقت عليهم جميعًا كلمة المعلم، قبل أن «تأستذ» جميع الناس حتى الأمِّيون منا …

فبطرس البستاني وولده، سليم، والمشايخ الأحدب، والأسير، وناصيف اليازجي وابنه إبراهيم، وجبر ضومط وغيرهم كانوا جميعًا ممن علموا، ونفعنا الله بعلمهم.

والشرتونيَّان الشيخ سعيد صاحب أقرب الموارد، وأخوه رشيد صاحب مبادئ اللغة العربية، التي تُعْرف، حتى الآن بالشرتونية، ونجيب حبيقه وأنطوان الجميل جلسوا على كرسي التعليم زمانا. وهناك كثيرون من المعلمين الرواد كالخوري يوسف الحداد، وغيره من أصحاب الآثار الأدبية الذين لا محل لذكرهم في هذا الكتاب لحداثة عهدهم، فما يعنينا هنا إلا ثلاثة منهم كانوا أبعدهم وأعمقهم أثرًا في رجال النهضة.

فالشيخ عبد الله، كما لقب أخيرًا، كان معجمًا حيًّا يمشي على الأرض. وهو أبصر أهل زمانه بنحو اللغة العربية وصرفها، وألفاظها. كان شاعرًا تفوح رائحة القطران من أردان «بنات أفكاره»، فكأنه عاش في الصحاري مع تأبَّط شرًّا والشنفرى، ولهذا يبني قصيدته أعرابية ساعة يشاء.

لقد مر ذكر معجزته «التاريخية»، أما الآن فأريد أن أعرفك بمعجزته الأخرى، وهي «تشطيره» معلقة عنترة وتحويلها مدحًا للمطران يوسف الدبس، فهاك شيئًا مما قال:

«هل غادر الشعراء من متردَّم»
فتسد ثلمته برأس المرقمِ
أم هل وددت ظباء منعرج اللوى
«أم هل عرفت الدار بعد توهُّم»
«حيِّيتَ من طلل تقادم عهده»
حتى التوت عنه نهى المترسَّم
يبكي به غدق الرباب لأنه
«أقوى وأقفر بعد أمِّ الهيثم»
«إن تُغْدفي دوني القناع فإنني»
أدَعُ القنوعَ ومدح يوسف مغنمي
حبر إذا هزَّ اليراع فإنه
«طبٌّ بأخذ الفارس المستلئم»
«وإذا ظلمت فإن ظلمي باسل»
في الجاحدين عطاءه للمعدم
فكم اجتداه المملقون ودهرهم
«مرٌّ مذاقتهُ كطعم العلقم»

أما في وصف الناقة فانظر كيف التقى البطلان كأنَّهما جبلان:

«وكأن ربًّا أو كحيلًا معقدًا»
سالا غداة ذميلها كالحنتم
فأديرها مثل المجس ودفها
«حش الوقود به جوانب قمقم»
«ينباع من ذفرى غضوب جسرة»
تحكي إذا وخدت زفيف الزهدم
أكرمْ بها من بازلٍ عيهامة
«زيَّافة مثل الفتيق المكدم»

وأخيرًا يقول في التذييل:

وإليكها بدوية عبسية
تسدي إليك ثناء عنترة الكمي
نسجت لها كف الحضارة مطرفا
يزري إذا خطرت بكل مسهم

وأظن أنني أشهد وتشهد أنت معي أن قصيدة شيخنا هذه لم تسمع بالحضارة قط، بل ولم تر لها وجهًا. كان التشطير والتخميس والتضمين من بضاعة عصر الانحطاط، وقد أكثر «روَّادنا» من عرض هذه البضاعة في سوق الأدب، وكثيرًا ما كان معلمونا حتى الكهنة الأجلاء منهم يقترحون علينا «فروضًا» شعرية، وجلها من الغزل الدسم مثل:

لو أن لي في من أحب عواذلًا
لسعيت في تشتيتهم وتوصلي
لكن محبوبي تعشق نفسه
وغدًا العذول فما يكون تحيلي

ومثل:

وأمَرُّ ما لا قيت من ألم الهوى
قرب الحبيب وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمول

ولهذا عدَّ الأدباء تشطير معلقة عنترة فتحًا مبينًا، وتحديًّا عنيفًا للشعر الجاهلي، فطارت شهرة المعلم فيها وإن كان قد نظم التمثيليات كما مر، والحكايات الروائية مثل قصيدته «الفرصاد» التي مطلعها:

وذات صيانة عقدت يمينًا
على حب امرئٍ عقدًا متينًا

ففتح باب الشعر القصصي لتلامذته وغيرهم، فقال تلميذاه شبلي الملاط وأمين تقي الدين قصيدتيهما: الجمال والكبرياء، والجمال والتواضع. أما المعلم الشاعر الآخر، فهو إبراهيم الحوراني، وقد كان لغويًّا أيضًا، كما كان معلِّمو ذلك العصر، وهاك شيئًا من قصيدة له عنوانها، حال العالم في الشرق:

ذو العلم بين الطرس والمرقم
كالثبت بين العضب واللهذم
كلاهما يبغي علاء ولا
يناله إلا بسفك الدم
والأوَّل الأولى بغنمٍ لما
في سعيه من شامل المغنم
طورًا تراه في جوار السهى
وتارة في جيرة المرزم
وكم جرى في صحصحان الفلا
يشكو الوجى في الغاسق الأهيم
يبحث عن آثار عادٍ وما
وارى تراب الأرض من جُرْهم

ثم يتطرق إلى وصف شقاء العالم فيقول:

يجلس في أعراس إخوانه
كثاكلٍ تجلس في مأتم
تستلزم الدينار أبحاثه
وليس في الهميان من درهم
وعرسه الثكلي على جلة
ألقى بها التمَّار للمعدم
ذي حالة العالم في موطنٍ
يُكوى به ذو الفضل بالميسم
يركبه الجاهل من حلمهِ
والممتطي صنو لذي المحزم
لو أنصف الدهر امتطى كل ذي
علمٍ أخا جهلٍ فلم يظلم

وخير ما تقرأ للحوراني من شعر هو قصيدته التي قالها في رثاء صديقه إبراهيم اليازجي، ولعل الحوراني القوَّال أشعر منه الحوراني الشاعر الفصيح.

أما الشيخ أحمد عباس الأزهري، فكانت تجلله أبهة الشيوخ المحترمين، ومهابة رجال السمت، فتخال، متى وقعت عينك عليه، أنك أمام رجل من السلف الصالح. نذكره هنا وإن لم نذكر سواه من مؤسسي المدارس الوطنية؛ لأنه كان منشئ مدرسة ومعلمًا فيها في وقت معًا.

وقف بقية عمره على تأدية رسالته فأدَّاها على حقها. كان رجلًا فعَّالًا أكثر منه قوَّالًا. لم يترك آثارًا أدبية، ولا قصائد كغيره من شيوخ العلم، ولكنه كوَّن وأنشأ رجالًا كانوا من أركان النهضتين الأدبية والقومية.

كان الشيخ متمكنًا من لغة الضاد عارفًا أسرار بلاغتها فأخرج إلى العالم العربي كتَّابًا وشعراء يؤدون أفكارهم بأصح تعبير وأفصح عبارة، ناهيك بما بث فيهم من روح وثَّابة، وعزة قومية فطارت شهرة كليته العثمانية التي أنشأها وتعهدها بنفسه طول الحياة فأخذ عنها النشءُ العربي أسمى المبادئ وأنبلها.

١  راجع زيدان في مشاهير القرن التاسع عشر جزء ١ ص٣١٢.
٢  أعلام المقتطف ص١٢٢.
٣  الجنان سنة ١٨٧١ ص١٧٧.
٤  الجنان سنة ١٨٧٠ ص٧٣٥.
٥  الجنان سنة ١٨٧١ ص٢١٣.
٦  ص٢٤٩.
٧  ص٢٢١.
٨  ص٦٠٩.
٩  المشرق. السنة الأولى ص٣ و٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤