الكتاب الأول

على ضِفاف لافلي كريك

١

فتح كلود ويلر عينَيه قبل أن ترتفع الشمس في كبد السماء، وهزَّ شقيقَه الأصغر بقوة؛ إذ كان يُناصِفه السرير الذي ينام عليه.

«رالف، رالف، استيقِظ! قُم وساعِدْني في غَسلِ السيارة.»

«ولماذا تغسل السيارة؟»

«عجبًا، ألن نذهب إلى السِّيرك اليوم؟»

«السيارة نظيفة. دَعْني وشأني.» أدار الفتى جسدَه وسحب اللحاف حتى غطَّى به وجهه كي يحجب الضوء الذي بدأ يتسرَّب من خلال النوافذ الخالية من الستائر.

نهض كلود وارتدى ملابسه، وهو عملٌ بسيط لم يستغرق كثيرًا من الوقت. نزل سُلَّمًا يتكون من مجموعتَين من الدرجات، وتحسَّس طريقه في الظلام وشعره الأحمر واقفٌ مُنتصِب مِثل عُرْف الديك. عبَر من المطبخ إلى الحمَّام المُتاخِم له الذي به حوضان من البورسلين بصنبورَين من المياه الجارية. من الواضح أن الجميع اغتسل قبل الخلود إلى النوم، وكان الحوضان بهما رواسب داكنة لم يُذِبها الماء العَسِر والقلوي. ولما أغلق الباب على هذه الفوضى عاد إلى المطبخ وأخذ حوضًا من القصدير يخصُّ ماهيلي، وغمس وجهه ورأسه في الماء البارد، وبدأ يُسرِّح شعره المُبلَّل.

أتت ماهيلي العجوز من الفِناء ومِئزرُها مليء بقُلوب أكواز الذرة لتُشعل فرن المطبخ. رمَتْه بابتسامةِ مُحبٍّ أبله؛ إذ كثيرًا ما كانت ترميه بتلك الابتسامات عندما يكونان بمفردهما.

«ما الذي أيقظَك بهذا النشاط أيها الفتى؟ هل ستذهب إلى السيرك قبل الإفطار؟ لا تُحدِث ضوضاء، وإلا ستجدهم كلهم هنا قبل أن أُشعل النار.»

«حسنًا يا ماهيلي.» ارتدى كلود قُبَّعته واتجه للخارج راكضًا، ونزل إلى جانب التل باتجاه الحظيرة. أطلَّت الشمس فوق حافَة المرج كأنها وجهٌ ترتسم عليه ابتسامةٌ عريضة، تدفَّق الضوء على مَراعي شهر أغسطس المحصودة وعلى ثنيَّات نُهَير لافلي كريك ذات التعرُّجات المُتحدِّرة التي تَحُوطها الأشجار، وهذا النُّهَير كان عبارة عن جدولٍ صغير صافٍ ذي قعرٍ رملي يتعرَّج ويستدير مُبتهِجًا عند القسم الجنوبي من مزرعة ويلر الشاسعة. كان يومًا رائعًا للذَّهاب إلى السيرك في فرانكفورت، كان يومًا رائعًا للقيام بأي نشاط؛ ويومٌ كهذا لا مناصَ من أن يسير كما خُطِّط له بنحو أو بآخَر.

أخرج كلود السيارةَ الفورد الصغيرة من مكان انتظارها، وقادها إلى حوض شُرب الخيول، وبدأ في إلقاء المياه فوق الطين المُلتصِق بالعجلات والزجاج الأمامي. بينما كان يعمل، رأى الأجيرَين — دان وجيري — يأتيان بخُطًى مُتثاقلة من أعلى التل كي يُطعِما الماشية. جيري كان يتذمَّر ويُقسِم على شيءٍ ما، ولكن كلود عصَر الخِرَق المُبلَّلة الخاصة به ولم يهتمَّ لأمرهما فيما عدا إيماءة. وبطريقةٍ ما، دائمًا ما كان والده يتمكن من استئجار أكثر الرجال في الريف فظاظةً وقذارة كي يعملوا عنده. كان كلود حينها غاضبًا من جيري بسبب معاملته لأحد الخيول.

كانت مولي فرسةً عجوزًا وفيَّة، وهي أمٌّ للعديد من المهور؛ تعلَّم كلود وشقيقُه الأصغر ركوب الخيل عليها. وعندما أخذها ذاك الرجل جيري من أجل العمل في صباح أحد الأيام، تركها تخطو على لوح خشب به مسمار. انتزَع المسمار من حافرها ولم يَقُل شيئًا لأي أحد، وقادها إلى العمل في الحِراثة طَوالَ اليوم. إنها كانت الآن تقف في مكانها في الحظيرة منذ أسابيع وهي تتألَّم صابرةً، وقد هزل جسدها حتى أصبحت جلدًا على عظم، وتورَّمت ساقها حتى أصبحت تُشبِه ساق الفيل. قال الطبيب البيطري إن عليها ألا تخرج للعمل حتى يسقط حافرُها ذاك وينموَ مكانَه حافرٌ جديد، وبعدها ستكون لديها مشكلةٌ دائمة في الحركة. لم يُسرح جيري من العمل، وكان يتحدث عن الفرسة المسكينة كأنه أنقذَها.

خرَجَت ماهيلي إلى قمة التل ودقَّت جرس الإفطار. وبعدما صَعِد الأجيران إلى المنزل، انسلَّ كلود إلى الحظيرة كي يطمئنَّ أن مولي حصلَت على قسمتها من الشوفان. رآها تأكل في هدوء مُنكِّسةً رأسَها ورافعةً قدمها قليلًا عن الأرض؛ إذ كان جلدها جافًّا وكأنها ماتت دون بقيَّة جسدها. عندما ربَّت على رقبتها وتحدَّث إليها، توقَّفت عن مضغ الطعام وحملقَت فيه حزينة. لقد كانت تعرفه؛ ومن ثَم جعَّدَت أنفها وسحبت شفتَها العُليا كي تُظهِر أسنانها المُتآكِلة؛ كي تقول له إنها تُحبُّ أن يُداعبها. تركته يَلمِس قدمها ويفحص ساقها.

عندما وصل كلود إلى المطبخ، كانت والدته تجلس عند أحد طرَفَي مائدة الإفطار وتسكب قهوةً خفيفة، وكان شقيقه ودان وجيري يجلسون في مقاعدهم، وماهيلي تخبز فطير الصاج في الفرن. بعد لحظة، نزل السيد ويلر على السُّلَّم المُسيَّج ومشى بطول المائدة حتى وصل إلى مكانه. كان الرجل يتَّصف بضخامة الجسم الشديدة؛ إذ كان أطولَ وأعرض من أي أحد من الجيران. ونادرًا ما كان يرتدي مِعطفًا في الصيف، وكان يُخرج قميصه المُجعَّد من فوق حزام سرواله من دون أن يأبهَ لذلك. وكان وجهه المُشرَب بالحُمرة حليقًا تمامًا، وكثيرًا ما كان يظهر على فمه آثارُ تبغ، وكان وجهه يوحي بكلٍّ من الطِّيبة وروح الفكاهة الفظَّة، وكذلك بالرزانة الشديدة. لم يرَ أحدٌ في المقاطعة البتةَ نات ويلر قلِقًا بشأن أي شيء، ولم يسمعه أحدٌ البتةَ وهو يتحدث بنبرةٍ جادَّة بالكلية. لقد كان يُحافِظ على لينِه ودَماثة أخلاقه المازحة حتى مع عائلته.

بمجرد أن جلس، مدَّ يده إلى وعاء السكر الذي كان يسَعُ ربع كيلو، وبدأ في إضافة السكر إلى القهوة. سأله رالف إن كان سيذهب إلى السيرك. غمز السيد ويلر بعينه.

«ربما لو حدث أنْ كنتُ في المدينة قبل أن ينتهيَ عرض الفِيَلة.» تحدَّث بتأنٍّ شديد، بلهجةِ سكانِ ولاية مين، وكانت كلماته سلسةً ومفهومة. «ولكن من الأفضل أيها الفِتية أن تذهبوا في وقتٍ مُبكِّر. يمكنكم أخذُ العربة والبغال، ونقلُ جلود البقر. فقد وافَق الجزَّار على أخذها.»

وضع كلود سكينه جانبًا. «ألن نأخذ السيارة؟ لقد غسلتُها من أجل ذلك.»

«وماذا عن دان وجيري؟ إنهما يريدان مشاهدةَ السيرك كما تريدان تمامًا، وأريد أن أبعث بالجلود؛ فأسعارُها جيدةٌ الآن. لا مانع لديَّ من غَسلِك للسيارة؛ يقولون إن الطين يُحافظ على الدِّهان، ولكن لا بأس هذه المرة يا كلود.»

ضحكَ الأجيران ضحكةً خفيفة وقَهْقه رالف. واشتعل وجه كلود المليء بالنمش غضبًا. وتيبَّسَت قطعة الفطير، وأصبحت ثقيلةً في فمه واستصعبَ ابتلاعَها. كان يعلم والدُه كرهه لقيادة البِغال إلى المدينة، ويعلم مدى كُرهه للذَّهاب إلى أي مكان بصحبة دان وجيري. بالنسبة إلى الجلود، فقد كانت لأربعة عجول مخصيَّة هلكَت بسبب العاصفة الثلجية في الشتاء الماضي نتيجةً لإهمالٍ مستهتَر من نفس هذَين الأجيرين، وما كان الثمن الذي تجلبه يبلغ نصفَ مُقابل الوقت الذي قضاه والدُه في سلخها ودباغتها. كانت تلك الجلود توجد في سقيفةٍ عُلوية طَوالَ الصيف، وذهبت العربة إلى المدينة عشَرات المرَّات. ولكن لما أراد أن يذهب إلى فرانكفورت اليوم مُهندمًا ومن دون مسئوليات، بات لِزامًا عليه أن يأخذ هذه الجلودَ ذاتَ الرائحة الكريهة ورجلَين بلسانٍ بذيء، ويقودَ زوجًا من البغال لا يكفَّان عن النهيق والوقوفِ فجأةً والتصرفِ بحماقةٍ وسط حشود الناس. على الأرجح، نظر والده من النافذة ورآه يغسل السيارة؛ ومن ثَم قرَّر أن يُوكِل إليه هذه المَهمَّة لما كان يرتدي ملابسه. هكذا كان مفهوم المزحة بالنسبة إلى والده.

نظرت السيدة ويلر إلى كلود مُتعاطفةً، وشعرت أن خيبة الأمل تملَّكَت منه. ربما ساورَها الشكُّ هي أيضًا بأن هذه مزحة. إنها تعلم أن الفكاهة يمكن أن تأخذ أي شكل.

بينما كان كلود في طريقه إلى الحظيرة بعد الإفطار، ذهبت تُهرول إلى الممر ونادَته بصوتٍ خافت؛ دائمًا ما تجعلها الهرولة تلهث. لما وصلَت إليه، رفعت بصرها إليه بحرص، واضعةً يدها على جبهتها بلطفٍ كي تُظلِّل على عينَيها. وقالت بنبرةٍ حزينة: «إذا أردت، فسأُجهِّز مِعطفك الكَتَّاني يا كلود، إذ يمكنني كيُّه ريثما تنتهي من ربط العربة.»

وقف كلود يركل كومةً من الريش المُنقَّط الذي كان يومًا ما دجاجةً صغيرة. رأت والدتُه أن كتفَيه كانتا غيرَ محنيَّتَين، وكان يوحي شكله بأنه مُفعَم بالحيوية ولديه تحكمٌ راسخ بالنفس.

«لا عليكِ يا أمي.» تحدَّثَ بسرعة مُتمتِمًا بالكلمات. «الأفضل أن أرتديَ ملابسي القديمة ما دمتُ سآخذ الجلود. إنها مليئة بالدهون، وستُصبح رائحتها أسوأ من رائحة السماد عندما تتعرَّض للشمس.»

«أظن أن الرجلين سيَهتمَّان بأمر الجلود. ألا تشعر بأنه من الأفضل أن ترتديَ ملابسَ تليق بالمدينة؟» كانت لا تزال تنظر لأعلى نحوه.

«لا تَشغَلي بالك. جهِّزي لي قميصًا ملونًا نظيفًا إذا أردتِ. سيكون هذا مناسبًا.»

استدار متَّجهًا إلى الحظيرة، وعادت والدته أدراجَها عبر الممر إلى المنزل بخُطًى بطيئة. كانت جسورةً ومحنيَّة الظهر جدًّا، تلك الأم العزيزة! قال في باله إنها ما دامت تتحمل هؤلاء الرجال وتطهو وتغسل لهم، فلا ضَيْر من أن يأخذهم إلى المدينة!

بعدما غادرت العربةُ بنصف الساعة، ارتدى نات ويلر مِعطفًا من صوف الألبكة، وانطلق في عربته ذاتِ الجرَس التي كان يستخدمها للتجول في أنحاء البلدة على الرغم من أن لديه سيارتَين. لم يَقُل شيئًا لزوجته؛ فمن شأنها أن تُخمِّن هل سيعود إلى المنزل على العَشاء أم لا. كان أمامها هي وماهيلي وقتٌ كافٍ للتنظيف والكنس طَوال اليوم؛ إذ لا يوجد رجالٌ حولهما يُعطِّلون عملهما.

السنة كانت تتخلَّلها بضعةُ أيام لا يذهب فيها ويلر بعربته إلى أي مكان، لا إلى مزادات البيع أو المؤتمرات السياسية أو اجتماع مُديري شركة فارمرز تليفون، وحينها كان يتفقَّد الجيران ويرى مدى تقدُّمهم في عملهم، إن لم يكن لديه شيءٌ آخر يقوم به. كان يُفضِّل عربته على السيارة لأنها خفيفة، ويَسهُل التنقلُ بها على الطُّرق غير المُستوية أو المُزدحمة، ومُتهالكة جدًّا لدرجة أنه لم يفكر قطُّ في أن يقترح على زوجته أن تُرافِقه فيها. بالإضافة إلى ذلك، كان يستطيع أن يرى الأنحاء أفضلَ عندما لا يكون على ذهنه الانشغال بالطريق. أتى إلى هذا الجزء من نبراسكا عندما كان الهنود الحُمْر والجواميس لا يزالون يتجوَّلون بحُرية في المكان، وكان يتذكر عامَ غزو الجراد والإعصار الكبير، ورأى المَزارع وهي تظهر واحدةً تِلو الأخرى بعد أن كان المكان مُقفِرًا، وكانت الريح وحدها تسكنه. شجَّع مُستوطِنين جُددًا على أخذ مساكن لهم في المكان، وحثَّهم على الود فيما بينهم، وأقرض الشبابَ الأموال من أجل الزواج، ورأى العائلات وهي تكبر، حتى شعر بأن هذا كله مشروعُه الخاص. كانت تُثير اهتمامَه التغييراتُ التي كان يراها، ولم تُهمَّه التغييرات التي أحدثتها السِّنونَ فحسب، بل أيضًا تلك التي كانت تُحدِثها الفصول.

كان الناس يتعرَّفون على نات ويلر وعربته وهي على بُعدِ ميل. كان يجلس مُرتاحًا بجسده الضخم، ويتثاقل على أحدِ طرَفَي المقعد المائل، ويده التي تقود العربة موضوعةٌ على ركبته. حتى جيرانه الألمان — آل يودر — الذين كانوا يكرهون التوقف عن العمل لمدة ربع ساعة لأي سبب من الأسباب، كانوا يَسعَدون برؤيته قادمًا. كان يفتقده التُّجَّار في البلدات الصغيرة المُنتشرة في المُقاطَعة إذا لم يَزُرهم مرةً على الأقل في الأسبوع أو نحو ذلك. لقد كان ناشطًا في مجال السياسية، ورغم أنه لم يسبق له الترشح لمنصبٍ ما، فإنه كان غالبًا ما يُناصر أي صديق له يفعل ذلك ويقود له حملته.

يتجسد المثل الفرنسي «فرحة الشارع حزن المنزل» في السيد ويلر، وإن لم يكن بالطريقة الفرنسية على الإطلاق. كانت شئونه الخاصة ذاتَ أهميةٍ ثانوية بالنسبة إليه. في بداية حياته، استوطن واشترى وأجَّر أراضيَ كثيرة بالقدر الكافي، وكان هذا سببًا في ثرائه. والآن، كان عليه ألا يُؤجِّر تلك الأراضيَ لغير المُزارِعين الجيِّدين الذين يُحبُّون العمل، ولكنه لم يفعل ذلك، ولم يُخفِ ذلك. ولما كان يمكث في المنزل، فعادةً ما كان يمكث في غُرفة المعيشة بالطابق العُلوي ويقرأ الجرائد. كان لديه اشتراك في ١٢ جريدة أو نحو ذلك — تضمَّنت القائمة جريدةً أسبوعية مُخصَّصة للفضائح — وكان على اطلاعٍ واسع بما يجري في العالم. لقد كان يتمتع بصحةٍ جيدة، ويأخذ المرض الذي يُصيبه أو يُصيب غيره على سبيل المزاح. ومن المُؤكَّد أنه لم يُعانِ البتةَ من أي مرض صعب أكثرَ من ألم الأسنان أو الدمامل أو نوبة صفراوية عرَضية.

كان ويلر يجود بما لديه للكنائس والجمعيات الخيرية، ولا يَبرَح يُقرِض الأموالَ أو الآلات لجارٍ يفتقر إلى أي شيء. كان يُحب أن يُضايِق الأشخاص الخجولين ويصدمهم، ولا تخلو جَعبتُه من القصص المُضحِكة. كان يندهش الجميع من حُسن العلاقة بينه وبين ابنه الأكبر بايليس ويلر. لم يكن بايليس خجولًا بالمعنى الحَرفي للكلمة، ولكنه كان غير مُتفتِّح؛ من نوع الشباب الحذِر الذي لا يُتوقَّع أن يُحبَّه نات ويلر.

كان بايليس يمتلك متجرًا خاصًّا بتجهيزات المزارع في فرانكفورت، وعلى الرغم من أنه لم يبلغ الثلاثين بعد، فقد أحرز نجاحًا ماليًّا كبيرًا. على الأرجح، كان يفخر ويلر بفِطنة ولده في العمل. على أي حال، كان يذهب إلى المدينة عدةَ مرَّات في الأسبوع كي يرى بايليس، ويذهب إلى أسواق السِّلع والماشية معه، ويجلس في مَتجره ساعاتٍ مُتواصلةً دون أن يفعل شيئًا سوى المزاح مع المُزارِعين الذين يأتون إليه. كان يُعاقِر ويلر الخمر في النهار بشراهة، ويأكل كَمِّياتٍ كبيرة. كان يتَّصف بايليس بالنحافة ويُعاني عُسْر الهضم، كما أنه كان من أنصار تحريم الخمر المُتزمِّتين؛ كان يودُّ لو أنه يُنظِّم لكل فرد نظامه الغذائيَّ حسَب قانونه الواهن. حتى السيدة ويلر — التي ترضى بما قسَمه الله لها فيما يتعلق بنصيبها من الرجال — كانت تتعجَّب من انسجام العلاقة بينه وبين والده، وكيف يذهبان إلى المؤتمرات معًا ويستمتعان بوقتهما، رغم أن كلًّا منهما كان لديه مفهومٌ مختلف عن الاستمتاع بالوقت.

مرةً كل بضع سنوات، كان السيد ويلر يشتري بدلةً جديدة ودُزينةَ قُمصانٍ خشنة، ويذهب إلى ولاية مين لزيارة أشقَّائه وشقيقاته الذين كانوا أفرادًا هادئين وتقليديِّين للغاية. ولكنه دائمًا ما كان يسعد بالعودة إلى المنزل، وإلى ملابسه القديمة، ومزرعته الكبيرة، وعرَبته وابنه بايليس.

جاءت السيدة ويلر من ولاية فيرمونت لتُصبح مديرة مدرسة ثانوية لما كانت فرانكفورت بلدةً حدودية، وكان نات ويلر عازبًا ثريًّا. لا بد أنه أُعجب بها للسبب نفسِه الذي أحبَّ ابنه بايليس من أجله؛ إذ كانت مختلفةً عنه تمام الاختلاف. يُقال عن نات ويلر إنه يُحب كلَّ أصناف البشر؛ يُحب الطيِّبين والمُخلِصين، ويُحب الأوغاد والمُنافِقين، ولكنه كان يحب الصنف الأخير أكثر. إذا سمع أنَّ أحد الجيران دبَّر مكيدةً مُفجِعة أو ارتكب فعلًا لا يُنكِر أحدٌ وضاعتَه، فإنه يَحرص على أن يذهب إليه كي يراه على الفور كأنه لم يَقدُره قَدْره قبل ذلك.

كان يحظى والد كلود بوقارٍ كبير بين رُبوع البلاد. كان يُحب أن يستفزَّ الآخرين لإثارةِ ضحكٍ شديد، ولكنه لم يضحك البتةَ على نحوٍ صاخب. عندما يروي الناس القصص عنه، غالبًا ما كانوا يُحاولون تقليد صوته المَهيب الناعم الذي كان قويًّا، ولكنه لم يَعلُ قَط. وحتى عندما يدخل إلى قلبه فرحٌ كبير من أي شيء — مِثل الوقت الذي تخلع فيه ماهيلي المسكينة ملابسَها في ليلة من ليالي الصيف المُظلِمة، وتجلس على ورقٍ لاصق لإبادة الحشرات — فإنه لا يُحدِث صخبًا. إنه أبٌ مرح وسهل الإرضاء حقًّا بالنسبة إلى فتًى لم يكن مُرهَف الحس جدًّا.

٢

وصل كلود وبَغلاه إلى فرانكفورت في الوقت الذي بدأت فيه آلة الكاليوبي العزفَ في الشارع الرئيسي عند مدخل السيرك. وبمجرد أن تخلَّص من الحمولة البغيضة والرفيقَين غير المُلائمَين، شقَّ طريقه وسط الزحام على الرصيف، وأخذ يبحث عن بعض فِتيان الجيران. كان السيد ويلر يقف على ناصية بنك المزارعين، وقد كان أطولَ من الجميع، وقد أخذ يمزح مع رجل أحدبَ نحيلٍ كان يُجهِّز لعبة من ألعاب الحظ. وكي يتحاشى كلود والدَه، انعطف ودخل إلى متجر أخيه. اكتظَّت نافذتا العرض الكبيرتان بأطفال البلدة، وكانت أمَّهاتهم يقفنَ خلفهم لمشاهدة العرض. كان بايليس يجلس في صومعته الزجاجية الصغيرة عاكفًا على الكتابة وإمساك الحسابات. أومأ إلى كلود وهو جالسٌ على مكتبه.

دخل كلود مُهروِلًا وكأنه في عَجلةٍ شديدة من أمره، وقال: «مرحبًا. هل رأيت إرنست هافل؟ ظننتُ أنني قد أجده هنا.»

استدار بايليس بكرسيِّه الدوَّار كي يُعيد كتالوج المحاريث إلى الرف. «ما الذي سيأتي به إلى هنا؟ الأفضل أن تبحث عنه في الحانة.» لا أحد يستطيع أن يرميَ تلميحاتٍ وضيعةً ضِمن ملاحظات غامضة ومُملَّة أكثرَ من بايليس.

استشاط كلود غضبًا. وبينما كان يستدير ليذهب، لاحَظ شيئًا غيرَ عادي في وجه أخيه، ولكنه ما كان ليُبلِغه مُراده بسؤاله عن سبب الكدمة الموجودة حول إحدى عينَيه. إرنست هافل كان بوهيميًّا، وعادةً ما كان يحتسي كأسًا من الجِعة عندما يأتي إلى المدينة، ولكنه كان يتَّسم بالرزانة وبُعدِ التفكير أكثرَ من أقرانه الشباب. وانطلاقًا من تعليق بايليس، قد يعتقد المرء أن الفتى كان يتسكَّع ويُعاقِر الخمر.

في تلك اللحظة، رأى كلود صديقَه على الجانب الآخر من الشارع خلف عربة من الكلاب المُدرَّبة كانت تلحق بمؤخرة الموكب. ركَض بين حشدٍ من الفِتية الذين كانوا يتحدَّثون بأصواتٍ عالية، وأمسك إرنست من ذراعه.

«مرحبًا، إلى أين أنت ذاهب؟»

«ذاهبٌ لتناوُل غَدائي قبل أن يبدأ العرض. تركتُ عربتي بجانب محطة الضخ عند النُّهَير. ماذا عنك؟»

«ليس عندي بَرنامَج مُعيَّن. هل لي أن أذهب معك؟»

ابتسَم إرنست. «توقَّعت ذلك. لذا، لديَّ غداءٌ يكفي فردَين.»

«نعم، أعرف. إنك دائمًا ما تفعل ذلك. سألحق بك بعد قليل.»

أحبَّ كلود أن يأخذ إرنست إلى الفندق ليتناول العشاء معه. كان لديه مالٌ كثير في جيوبه؛ فوالده مُزارِعٌ ثري. في عائلة ويلر، كان لا يُناقش أمر شراء آلة درس حبوب أو سيارة جديدة، ولكن يعتبر الذَّهاب إلى الفندق لتناوُل العشاء إسرافًا. إنْ سمع والده أو بايليس أنه ذهب إلى هناك وعرَف بايليس كل شيء، فسيَقولان إنه يتصرَّف بغرور وسيُعاقبانه. حاوَل أن يُبرِّر جُبْنه بقوله إنه كان متَّسخًا وإن رائحة الجلود طالته، ولكنه كان يعلم في أعماق قلبه أنه لم يطلب من إرنست الذهابَ إلى الفندق معه لأن طريقة تربيته تُصعِّب عليه القيامَ بهذا الأمر البسيط. اشترى بعض الأشياء من متجر الفاكهة وكُشْك السيجار، ثم أسرع على طول الطريق المُترَّب باتجاه محطة الضخ. كانت عربة إرنست تقف في ظل بعض أشجار الصفصاف، على قاعٍ رملي صغير محاطٍ نصفُه بجانب من النهير مُنْحنٍ مثل حدوة الحِصان. رمى كلود نفسه على الرمال بجانب النهير، ونفَض الغبار عن وجهه المُتعرِّق. شعر الآن كأنه طوى صفحة ذلك الصباح البغيض.

أخرج إرنست سلَّة غدائه.

قال: «لقد وضعتُ زجاجتَي جِعة في النُّهَير كي أُبردهما. أعلم أنك لن ترغب في دخول أي حانة.»

«أوه، انسَ الأمر!» تَمتَم كلود بتلك الكلمات وهو يرفع غطاء جَرَّة من المُخلَّلات. لقد كان يبلغ عمره تسعةَ عشر عامًا، ويخشى الذهاب إلى الحانات، ويعلم صديقُه أنه يخشى ذلك.

بعد الغداء، أخرج كلود بعضَ السيجار الجيد التي سبق أنْ أحضرَها من كشك السيجار. وابتهج إرنست؛ إذ لم يكن بإمكانه شراء هذا النوع من السيجار. أشعل واحدةً وظل وهو يُدخنها ينظر إليها بشيء من العُجب ويلفُّها بين أصابعه.

وقفَت الخيول ورأسها أعلى صندوق العربة، وأخذت تَمضغ الشوفان. تدفَّق ماء النُّهير تحت جذور شجر الصفصاف مُحدِثًا خريرًا هادئًا يبعث على التأمل. استلقى كلود وإرنست في الظل ووضعا مِعطفَيهما تحت رأسَيهما وتحدَّثا قليلًا جدًّا. ومن حين لآخر، كانت تمرُّ سيارة في الطريق باتجاه المدينة وتنفجر سحابةٌ من الغبار، وتنتشر رائحة الوقود فوق قاع النهير، ولكن لم ينقطع — معظمَ الوقت — الصمتُ الذي كان يسودُ في وقت الظهيرة في هذا اليوم من أيام الصيف الدافئة والهادئة. عادةً ما يكون بإمكان كلود نسيانُ أسباب انزعاجه وامتعاضه عندما يكون بصحبة إرنست. لم يكن الفتى البوهيميُّ مُترددًا على الإطلاق، ولم يتحيَّر بين طريقَين أو ثلاثة في الوقت نفسه. كان بسيطًا ومُباشرًا. كان لديه عددٌ من الاهتمامات غير الشخصية؛ إذ كان مُهتمًّا بالسياسة والتاريخ والاختراعات الجديدة. شعرَ كلود أن صديقه يعيش في جوٍّ يُوفِّر له حرية الفكر، لم يحلُم هو قطُّ أن يحظى بمِثله. بعدما تحدَّث مع إرنست بعضَ الوقت، بدَت الأشياء التي لم تَسِر على ما يُرام في المزرعة أقلَّ أهميةً بالنسبة إليه. تكاد والدة كلود تُحب إرنست مثلما يُحبه ابنها. لما كان الفتيان في المدرسة الثانوية، غالبًا ما كان إرنست يأتي في المساء كي يُذاكر مع كلود؛ وفي أثناء المذاكرة على طاولة المطبخ الطويلة، كانت السيدة ويلر تُحضِّر الأشياء التي تَرْفوها، وتجلس بجوارهما وتُساعدهما في دراسة اللغة اللاتينية والجبر. حتى ماهيلي العجوز كانت تتعلَّم من عبارات الحكمة التي يدرسونها.

قالت السيدة ويلر إنها لن تنسى أبدًا الليلة التي وصل فيها إرنست من بلده الأم. ذهب أخوه جو هافل إلى فرانكفورت كي يُقابله، وحينها كان عليه أن يتوقف في طريق عودته إلى المنزل ويترك بعض أغراض البِقالة لعائلة ويلر. تأخَّر القطار القادم من الشرق؛ أعلنت الساعةُ عن العاشرة مساءً عندما كانت السيدة ويلر تنتظر في المطبخ في تلك الليلة، وسمعت صوتَ عربة هافل وهي تُحدِث صوتًا على الجسر الصغير الذي يمرُّ من فوق نُهَير لافلي كريك. فتحت الباب الخارجي ودخل جو من فوره وفي يده سلةٌ تحوي بعض الأسماك المُملَّحة وجِوالًا من الدقيق على كتفه. وبينما كان يُنزل السمكَ إلى القبو، ظهَر شخصٌ آخر في المدخل؛ فتًى صغيرٌ قصير ومحنيُّ الظهر ويرتدي قبعةً مُسطَّحة على رأسه، ويحمل على ظهره حقيبةً كبيرة من القماش الزيتي مثل التي يحملها الباعة الجائلون. غطَّ في النوم في العربة، ولما استيقظ ووجد أن أخاه قد ذهب، ظنَّ أنهما في المنزل واندفع يبحث عن حقيبته. وقف في المدخل يرمش بعينَيه لما رأى النور، وبدا مُندهشًا، ولكنه كان مُستعدًّا لإنجاز ما هو مطلوب منه أيًّا كان. نظرَت السيدة ويلر إليه واعتبرَته أحدَ أولادها. ثم ذهبت إليه وحاوطَته بذراعها، وابتسمَت وقالت بصوتها الهادئ وكأن بإمكانه أن يفهمها: «عجبًا، لا تزال فتًى صغيرًا على أي حال، أليس كذلك؟»

قال إرنست بعدئذٍ إن هذه كانت هي المرة الأولى التي يُرحَّب فيها به في هذا البلد، على الرغم من تَرْحاله مسافةً بعيدة، وقد دُفِع وصِيحَ في وجهه أيامًا لا يَعلم عِدَّتها. في تلك الليلة، تصافح مع كلود ونظر بعضُهما إلى بعض بارتياب، ولكنهما أصبحا صديقَين حميمَين منذ ذلك الوقت.

بعد النزهة، ذهب الفتَيان إلى السيرك والسعادةُ تغمرهما. في خيمة الحيوانات، قابَلا ليونارد دوسن الضخم — الابن الأكبر لأحد جيران عائلة ويلر المُقرَّبين — وجلس ثلاثتُهم من أجل مشاهدة العرض. قال ليونارد إنه أتى إلى المدينة بمفرده في سيارته، وسأل كلود إن كان يُريد الركوب معه. ابتهج كلود كثيرًا لتركِ مسألة قيادة البغلَين إلى رالف؛ حيث إن اصطحاب الأجيرَين ليس مشكلة بالنسبة إليه مِثل كلود.

كان ليونارد يبلغ من العمر خمسةً وعشرين عامًا وهو فتًى يتَّصف بضخامة الجسم وميول البشرة إلى اللون البُنِّي، وكانت له يَدان كبيرتان، وقدَمان كبيرتان، وأسنانٌ بيضاء، وعينان لامعتان مليئتان بالحيوية. كان لا يعمل هو ووالده وأخواه في مزرعتهما الكبيرة فحسب، بل كانوا يستأجرون قطعةَ أرض مساحتُها ١٦٠ فدَّانًا من نات ويلر. لقد كانوا مُزارِعين بارعين. وإذا مرَّ صيف جافٌّ من دون محصول جيد، فما يكون من ليونارد إلا أن يضحك ويبسط ذراعَيه الطويلتَين ويبذل جهدًا كبيرًا حتى يحصل على محصولٍ أكبر في السنة التالية. ودائمًا ما كان كلود مُتحفظًا قليلًا تجاه ليونارد؛ إذ يشعر بأن الشاب كان يكره الطريقة العشوائية التي تسير بها الأمور في مزرعة ويلر، ويظنُّ أن الالتحاق بالجامعة مَضيعة للوقت. لم يلتحق ليونارد حتى بالمدرسة الثانوية في فرانكفورت، ولكنه حقَّق بالفعل نجاحًا أكثرَ من النجاح الذي يمكن أن يُحقِّقه كلود يومًا ما. يعتقد ليونارد أن تلك الأشياء مُتساوية في نظره، ولكنه كان يُحب كلود.

عند غروب الشمس، كانت السيارة تُسرِع فوق طريقٍ عريض ومُعبَّد يمتدُّ عبر الأرض المُستوية التي تقع بين فرانكفورت والأرض الوَعرة الأكثر التي تمتدُّ بطول نُهَير لافلي كريك. أظهر ليونارد إعجابًا شديدًا بأداء مُحرِّك سيَّارته الذي لا يتعطَّل. وفي ذلك الوقت، ضحك في نفسه والْتفتَ إلى كلود.

«هل تنزعج لو قلت مزحةً عن بايليس؟»

«أظن أنني سأنزعج.» لم تنمَّ نبرة كلود عن أي حماسة لديه.

«هل رأيتَ بايليس اليوم؟ هل لاحظتَ فيه شيئًا غريبًا، مثل كدمة صغيرة حول إحدى عينَيه؟ هل أُخبرك بالسبب؟»

«كلَّا. لم أسأله.»

«حسنٌ إذَن. ولكن سأله كثيرون وقال إنه كان يبحث عن شيء في مَتجره في الظلام، واصطدم بآلة حصاد. حسنًا، أنا آلة الحصاد!»

نظر كلود باهتمام. «هل تريد القول إن بايليس دخل في شِجار؟»

ضحك ليونارد. «يا إلهي، كلا! ألا تعرف بايليس؟ ذهبتُ إلى هناك البارحة كي أدفع فاتورة، ثم أتت سوزي جراي وفتاةٌ أخرى كي تبيعا التذاكر من أجل عشاء رجال الإطفاء. كان مُروِّج للسيرك يتسكَّع في المكان، وبدأ يتحدث بنبرةٍ جريئة بعضَ الشيء، لم يتفوَّه بحديثٍ فظ، بل تحدَّث بالطريقة المُعتادة لدى هؤلاء الأشخاص. ردَّت عليه الفتاتان بالطريقة نفسِها، وباعَتا له ثلاث تذاكر وقطَعا الحديث معه. لم أفهم كيف فكَّرت سوزي بسرعة فيما قالته. وفي اللحظة التي خرَجَت فيها الفتاتان، بدأ بايليس في انتقادهما؛ وقال إن كل فتَيات الريف يُصبحن وقحاتٍ جدًّا في التعامل مع الآخرين، ويعرفن أكثرَ مما ينبغي فيما يتعلق بالتعامل مع الرجال العابثين، وفي هذه اللحظة ذهبتُ إليه ولكَمتُه. وصلَت اللكمة بقوةٍ أكبر مما قصَدت. قصدتُ أن أصفعه، لا أن أضربَه بقوة على عينه. ولكن لا تسير الأمور كما خُطِّط لها دائمًا، وعندها أصبحتُ مُتحفِّزًا بشِدَّة. انتظرتُ أن يردَّ لي الضربة. أنا أضخَمُ منه، ورغبتُ أن أُرضيَه. ولكنه ظلَّ في مكانه ولم يتحرك. وقف هناك ولم يتوقَّف وجهُه عن الاحمرار، ودمعَت عيناه. لا أقول إنه بكى، ولكن دمعت عيناه. قلت: «حسنًا يا بايليس. احفظ يدَيك عن الرد إذا كان هذا مَبدأك، ولكن احفظ لسانك أيضًا، خاصةً إذا كانت الأطراف المعنيَّة غير موجودة.»»

لم يُعلِّق كلود إلا بقوله: «لن يتجاوز بايليس هذا الأمرَ مُطلَقًا.»

حرَّك ليونارد رأسه إلى أعلى. «ليس عليه أن يفعل ذلك! أنا عميلٌ جيِّد، يمكن أن يتقبَّل الأمر أو لا، ولكني لن أتزعزع عن موقفي!»

في البضع الدقائق التالية، كان الشابُّ مُنشغلًا بمحاولة صعودِ تلٍّ وَعْر بسرعةٍ عالية. كان يستطيع فعل هذا في بعض الأحيان، ولا يستطيع ذلك أحيانًا أخرى، ولكنه لم يستطع تَبيُّن السبب. بعد أن حرَّك ناقل الحركة إلى النقلة الثانية ببعض الاشمئزاز، وترك السيارة تسير ببطء كما تشاء، لاحظ الارتباك على رفيقه.

تحدَّث كلود بصوتٍ مُتوتِّر: «أتعرِف، يا ليونارد، أعتقد أن العدل يقتضي أن ننزل هنا من السيارة وتمنحني فرصةً كي ألكُمَك؟»

لفَّ ليونارد عَجلة القيادة بحِدَّة كي يتفادى عربةً على الجانب السفلي من التل. «ما هذا الهُراء الذي تتفوَّه به يا فتى؟»

«تظن أنك تستطيع هزيمتَنا دون شك، ولكن عليك أن تُعطيَني فرصة أولًا.»

نظر ليونارد مُندهشًا إلى يدَيه الكبيرتين ذاتَي اللون البُنِّي المستقرَّتَين على عَجلة القيادة. «أيها الأحمق الهالك، لماذا كنتُ سأخبرك بكل هذا لو لم أعلم تمامَ العلم أنك جبانٌ آخَر؟ لم أظنَّ قطُّ أنك على وِفاقٍ تام مع بايليس.»

«لستُ على وفاق معه، ولكن لا تظنَّ أنه يُمكنك أن تصفع أيَّ أحد من عائلتي وقتَما تشاء.» علم كلود أن تفسيره بدا أحمق، وكان صوته ضعيفًا وغاضبًا، على الرغم من الجهود التي بذلها كي يُخفيَ ذلك.

علم الشابُّ ليونارد دوسن أنه جرح مشاعر الفتى. «يا إلهي، أعلم أنك مُقاتِل يا كلود. بايليس لم يكن كذلك قَط. كنت في المدرسة نفسها معه.»

انتهَت الرحلة بسلام، ولكن كلود ما كان سيَترك ليونارد يوصله إلى المنزل. لذا، نزل من السيارة بسرعةٍ شديدة ورمى عليه تحيةَ المساء بنبرةٍ فظَّة، وركَض عبر الحقول المُظلِمة باتجاه الضوء الساطع من المنزل أعلى التل. وعلى الجسر الصغير على النُّهير، توقَّف كي يلتقط أنفاسه ويحرص على أن يظهر بمظهرٍ هادئ قبل أن يدخل المنزل ويرى أُمَّه.

تمتمَ بصوت عالٍ وأغلق قبضتَه: «اصطدم بآلة حصاد في الظلام!»

لما استمع إلى نقيق الضفادع العميق، وإلى نُباح الكلاب البعيدة في المنزل، بدا هادئًا أكثر. مع ذلك، تساءل في نفسه ما الذي يجعل المرءَ مسئولًا في بعض الأحيان عن سلوك أشخاص لهم طبيعةٌ مُخالِفة لطبيعته كليًّا.

٣

أقيم عرضُ السيرك يوم السبت. وفي الصباح التالي، كان كلود يقفُ عند التسريحة وأخذ يَحلق. طال شعرُ ذقنه، وكان أغمقَ من شعر رأسه قليلًا، ولكنه ليس بنفس حُمرة بَشرته. حاجباه ورموشه الطويلة كان لها لونٌ أصفرُ فاتح؛ مما جعل عينَيه الزرقاوَين تبدوانِ أفتحَ مما هي عليه في الحقيقة، وبحسبِ ظنِّه كان الجزء العُلوي من وجهه يوحي بأنه خَجول وضعيف. كان مَظهره ليس بالمظهر الذي يُريده على الإطلاق. كان يكره رأسَه على وجه الخصوص؛ إذ كان له رأسٌ كبير على نحوٍ جعله يُواجِه صعوبة في شراء القبعات، وكان رأسه يتَّخذ شكلًا مُربَّعًا واضحًا؛ وهو ما جعله يبدو كشخصٍ أبله على نحوٍ مثالي. كان يحمل اسمُه مصدرًا آخر للشعور بالخزي. كلود اسمٌ يعني «الأبله» مثل إلمر وروي، وهو اسمٌ يعني الريفيَّ الذي يُحاول أن يرتقي. في مدارس الريف، كان هناك دائمًا صبيٌّ أحمرُ الشعر ذو يدَين مُغطَّاتَين بالبُثور وأنفٍ لا ينفكُّ عن السيلان يُسمى كلود. منحه الله جسمًا قويًّا؛ ذراعاه وساقاه مُتناسقتان ويكتنزان بالعضلات، وكتفاه قويَّتان، وهي الصفات الجسمانية التي تليق بفتًى مُزارِع. مع الأسف، لم يتَّصف بالرزانة التي كان يتمتع بها والده، وغالبًا ما تَبرُز قوتُه من تِلقاء نفسها على نحوٍ غير مُلائم. في بعض الأحيان، تتسبَّب العواصف التي تُدوِّي في رأسه في نهوضه أو جلوسه أو رفعِ شيء بقوةٍ أكبر مما تستدعيه الأسباب التي دفعته إلى القيام بذلك.

نام أهل البيت حتى وقتٍ مُتأخِّر في صباح يوم السبت، حتى ماهيلي لم تستيقظ حتى الساعة السابعة. الإشارة العامة إلى موعد الإفطار كانت رائحةَ قَليِ كعك الدونت. في هذا الصباح، نزل رالف عن سريره في اللحظة الأخيرة، وارتدى ملابسَ داخليةً نظيفة على عَجلٍ من دون استحمام. لم يأبَهْ لذلك على الإطلاق، على الرغم من أنه استغرقَ بعض الوقت في تلميع حذائه الجديد المُلوَّن بِلَون دم الثَّور بلطف باستخدام منديل جيب. وصل إلى المائدة بعدما أكَل الآخَرون نِصف وجبتهم، وعبَّر عن اعتذاره بسؤال والدته بنبرةٍ لطيفة إن كانت لا تُريده أن يُوصِّلها بالسيارة إلى الكنيسة.

نظرَت إلى الساعة مُتشكِّكةً وقالت: «أودُّ الذَّهاب معك إن كان لي أن أُنجز أعمال المنزل في وقتها.»

«ألا تستطيع ماهيلي إنجازها بدلًا منك هذا الصباح؟»

تردَّدت السيدة ويلر. «يمكنها إنجازُ الأعمال كافةً ما عدا استخدام فرَّازة اللبن. ولكنها لا تستطيع تجميع كل الأجزاء بعضها مع بعض. إنه قدرٌ كبير من العمل، كما تعلم.»

بينما كان يُفرِغ رالف محتوياتِ إبريق الشراب السكَّري على كعكاته، قال بخفةِ دم: «والآن يا أمي، أنت مُتعصِّبة لرأيك. لا أحد يُفكر في خضِّ اللبن هذه الأيام. المُزارِعون المُسايرون للزمن يستخدمون الفرَّازة.»

رمشَت عينا السيدة ويلر الشاحبتان. وقالت: «لن أكون أنا وماهيلي قطُّ مُسايِرتَين للزمن يا رالف. إننا لا نعلم غيرَ الطُّرق القديمة، ولا أريد سوى أن تدَعنا كذلك. أستطيع تبيُّن مِيزاتِ الفرَّازة إذا كنا نحلب ستَّ بقرات. إنها ماكينةٌ عبقرية للغاية. ولكن تنظيفها بالماء الساخن وتركيبها يحتاج إلى جهدٍ أكبر بكثير مما يتطلَّبه التعاملُ مع اللبن بالطريقة القديمة.»

طَمْأنها رالف: «لن يكون الأمر كذلك عندما تعتادين عليها.» رالف هو كبير الميكانيكيِّين في مزرعة ويلر، وعندما لا يجدُ ما يفعله مع أدوات المزرعة والسيارات، كان يذهب إلى المدينة ويشتري آلاتٍ من أجل المنزل. وبمجرد أن تعتاد ماهيلي على استخدام غسَّالة أو مِمخضةٍ ما، كان يُحضِر رالف إلى المنزل واحدةً أخرى أحدث كي يُواكِب مسيرة الاختراعات المُتسارعة. لم تتمكَّن قطُّ من استخدام غسَّالة الأطباق الميكانيكية، والمَكاوي المُسطَّحة والأفران التي تعمل بالزيت ذات العلامات التِّجارية كانت تدفعها للجنون.

طلب كلود من والدته أن تصعد إلى الطابق العُلوي وترتديَ ملابسها؛ كان سيُنظِّف الفرَّازة ريثما يُجهِّز رالف السيَّارة. كان لا يزال يعمل على ذلك عندما أتى أخاه من المرآب كي يغسل يدَيه.

صاح غاضبًا: «يجب ألا تُثقِل كاهل والدتك بأعمالٍ مِثل تلك يا رالف. هل جرَّبت من قبلُ أن تغسل هذه الآلة اللعينة بنفسك؟»

«بالطبع فعلت ذلك من قبل. إذا كان بإمكان السيدة دوسن فِعل ذلك، فأعتقد أن أمي تستطيع.»

«السيدة دوسن أصغَرُ في السن. على أي حال، لا جدوى من تدريب ماهيلي وأمِّنا على استخدام الآلات.»

رفع رالف حاجبَيه ردًّا على فظاظة كلود. وقال مُحاولًا الإقناع: «اسمعني، لا تُشجِّعها أنت على الاعتقاد بعدم إمكانية تغييرها لطُرقِها. بإمكان والدتنا التعامل مع كل ما نُحضِره من أجهزةٍ مُوفِّرة للجهد والوقت.»

ضرَب كلود الأقماع المَعدِنية المُتدرِّجة التي يَزيد عددها عن الثلاثين، التي كان يُحاوِل تركيبها بتسلسلها الصحيح. «لا بأس، إن كان هذا سيُوفِّر الجهد والوقت حقًّا.»

قهقهَ الفتى الأصغر وركض إلى الطابق العُلوي كي يجلب قبعةَ بنما الخاصة به. لم يتشاجر مع أخيه البتَّة. في بعض الأحيان، كانت تتعجَّب السيدة ويلر من تحمُّل رالف لكلود.

بعدما انطلقَ رالف ووالدته بالسيارة، ذهب السيد ويلر كي يرى جارَه الألماني جاس يودر الذي اشترى لتوِّه ثورًا غير مُهجَّن. كان دان وجيري يلعبان لعبةَ رميِ حدوات الخيول على أحد الأوتاد خلفَ الحظيرة. كلود أخبر ماهيلي أنه ذاهب إلى القبو لوضعِ الرفِّ المُعلَّق الذي كانت تريده؛ حتى لا تستطيع الفئران الوصول إلى خَضراواتها.

«شكرًا لك سيِّد كلود. لا أعلم ما الذي يجعل الفئران بهذا السوء. إن القطط تُمسك تقريبًا بواحدٍ كلَّ يوم.»

«أظن أنها تأتي من الحظيرة. لديَّ لوحٌ عريض ومتين في المرآب ينفع لعمل الرف.» القبو كان مُغطًّى بالأسمنت ورطبًا وجافًّا، ويحتوي على خزَّاناتٍ عميقة لتخزين الفاكهة المُعلَّبة والدقيق وأغراض البقالة، وصناديق للفحم وأكواز الذرة، وغُرفةٍ مُظلِمة مليئة بمُعدَّات التصوير الفوتوغرافي. أخذ كلود مكانه على مِنضدة النِّجارة تحت إحدى النوافذ المُربَّعة. أشياء غامضة كانت منثورةً من حوله في الشفَق الرمادي؛ بطاريات كهربائية، درَّاجات قديمة وآلات كاتبة، ماكينة لصناعة أعمدة السياج الخرَسانية، فرن لتصليد المطاط، ستريوبتكون بعدسةٍ مكسورة. كانت تُخزَّن في هذا المكان الألعابُ الميكانيكية التي لا ينجح رالف في تشغيلها، وكذلك تلك التي سَئِم منها. إذا تُرِكت هذه الألعاب في الحظيرة، كان يراها السيد ويلر كثيرًا، وفي بعض الأحيان كان يُبدي عليها تعليقاتٍ ساخرةً إن اعترضَت طريقه. توسَّل كلود إلى والدته كي تسمح له أن يجمع هذه الأشياء المُبعثَرة في عربة ويدفنها في حفرةٍ عميقة على امتداد النهير، ولكن السيدة ويلر نهَرَته وقالت له إنه يجب ألا يُفكر في ذلك؛ لأنه بهذا كان سيُؤذي مشاعرَ رالف. وتقريبًا في كل مرة كان يذهب فيها كلود إلى القبو، كان يأخذ قرارًا مُنفعِلًا بأن يُخليَ المكان في يومٍ ما، ويقول في نفسه بمرارة بأن الأموال التي تُنفَق على هذا الحطام كان يمكن أن تكفيَ مصاريف الجامعة لأي فتًى.

لما كان كلود يُسوي بالفأرة اللوح الذي أراد أن يُدلِّيَه من الروافد، تركَت ماهيلي عملَها ونزلت كي تُشاهدَه. تظاهرَت قليلًا بأنها أتت لتأخذ بعض البصل المُخلَّل، ثم جلسَت على صندوق بسكويت، وعلى مَقربة منها كانت توجد «أرجوحةٌ بزنبرك» مُنجَّدة بنسيج قطيفة ومكسورةٌ منها إحدى ذراعَيها، ولكنها لم تظنَّ أنه من الأدب أن تجلس عليها. كان في عينَيها شيء من الرضا الناعس بينما كانت تتبع حركات كلود. راقَبَته كأنه طفلٌ صغير يلعب. استقرَّت يداها على نحوٍ مُريح على حجرها.

«لم يَزُرنا السيد إرنست منذ مدةٍ طويلة. لا أظنُّه مُتضايقًا من شيء، أليس كذلك؟»

«أوه، كلَّا! إنه مشغول للغاية هذا الصيف. رأيتُه في المدينة أمس. ذهبنا إلى السيرك معًا.»

ابتسمَت ماهيلي وأومأت. «جميل. يُسعِدني أن تحظَيا بوقتٍ طيب معًا. السيد إرنست فتًى طيِّب، طالما أحببتُه بشِدَّة. إنه فتًى صغير مع ذلك. إنه ليس كبيرًا مِثلك، أليس كذلك؟ أظن أنه لا يبلغ حتى السيد رالف في طول القامة.»

قال كلود بين ضربات تثبيت الرف: «هذا صحيح. ولكنه قويٌّ ويُنجز قدرًا كبيرًا من العمل.»

«أوه، أعلم! أعلم أنه كذلك. أعلم أنه يعمل بجِد. كل الأجانب يعملون بجِد، أليس كذلك يا سيد كلود؟ أعتقد أنه أحبَّ السيرك. ربما ليس لديهم سيرك مثلُ الذي عندنا، في المكان الذي أتى منه.»

بدأ كلود يُخبرها عن الفيل الذي يقوم بحركاتٍ كوميدية والكلاب المُدرَّبة، وجلسَت تستمع إليه وقد ارتسمَت على شفتَيها ابتسامةٌ سعيدة بَلْهاء، وكان يوجد أيضًا وراءَ ابتسامتها شيءٌ ينمُّ عن حكمة وبُعدِ نظر.

أتت ماهيلي للعمل لديهم منذ وقتٍ طويل، وحينها لم يكن يتجاوز عمرُ كلود أكثرَ من بضعة أشهُر. أتت إلى الغرب مع عائلة من فيرجينيا لا تُحسِن التدبير؛ ومن ثَم تشتَّت وتفرَّق أفرادها تحت وطأة حياة المزارع الجديدة. وعندما ماتت الأمُّ في تلك العائلة، لم تجد ماهيلي أي مكان تذهب إليه؛ ومن ثَم استأجرَتها السيدة ويلر. لم يكن لدى ماهيلي أحدٌ يعتني بها، ولم يكن لدى السيدة ويلر أحدٌ يُساعدها في العمل؛ ولذا لقيَ العونَ بعضُهما في بعض.

عاشت ماهيلي أيامًا صعبة في شبابها؛ إذ تزوَّجَت من إنسانٍ همجي يعيش في منطقةٍ جبَلية، أساء معاملتَها في أغلب الأحيان، ولم يُنفق عليها على الإطلاق. كان بإمكانها أن تتذكَّر أوقاتًا كانت فيها تجلس في الكوخ وبجانبها برميلُ وجبات فارغٌ ووعاءٌ حديدي بارد تنتظر «إياه» كي يُحضِر سنجابًا اصطاده أو دجاجةً سرَقها. وفي كثير من الأحيان كان لا يدخل إلا بإبريقٍ من ويسكي جبَلي وقبضتَين وحشيَّتَين يضربها بهما. الآن، كانت تعتقد أنها في رغَد من العيش؛ إذ لا تتوسَّل من أجل الطعام ولا تُضطرُّ إلى التوغل في الغابات من أجلِ جمع الحطب؛ ومن ثَم فهي تضمنُ الحصول على سريرٍ دافئ وحذاء وملابسَ جيدة. كانت ماهيلي ابنةً لأبوَين أنجبا ثمانيةَ عشر ابنًا، نشأ معظمُهم بإعاقةٍ ذهنية أو في حياة الجريمة، وأنهى اثنان من إخوتها — مثل زوجها — حياتَهما في السجن. لم تلتحق بالمدرسة البتَّة؛ ولذا فهي لا تستطيع القراءة والكتابة. ولما كان كلود فتًى صغيرًا، حاوَل أن يُعلِّمها القراءة، ولكن ما تتعلَّمه في ليلةٍ كانت تنساه في الليلة التي تَليها. كان يُمكنها العدُّ ومعرفة الوقت من الساعة، كما أنها تفخر بشِدَّة بمعرفتها الحروفَ الأبجدية، وبقدرتها على تهجِّي الحروف المكتوبة على جِوالات الدقيق وعبوَّات القهوة. كانت تُتمتِم: «هذا حرف A كبير، وذاك حرف a صغير.»

كانت ماهيلي تتمتع بفِطنة في تقدير الناس، وكان يعلم كلود أنها تُصدِر أحكامًا مُلائمة بشأن الكثير من الأشياء. واتَّضح له أنها تُدرِك جميع أطياف المشاعر الشخصية، ومَواطن الاتفاق والاختلاف بين أفراد المنزل، تمامًا كما كان يفعل، وما أحبَّ أن يفوتَه رأيُها السديد. لقد كانت تستشيره في جميع الصعوبات الصغيرة التي كانت تُواجهها. فإذا تعرَّضَت ساقُ طاولة المطبخ إلى الخلخلة، فإنها كانت تعلم أنه سيُثبتها لها ببراغيَّ جديدة. وعندما كُسِرت يدُ مِرقاق العجين، وضع له يدًا أخرى، وركَّب مِقبضًا لسِكِّين تقطيع اللحم التي تُفضِّلها بعد أن قال الجميع إنه يجب رميُها. حَظيَت تلك الأشياء بقيمةٍ جديدة في نظرها بعد إصلاحها؛ ومن ثَم أحبَّت العمل بها. وعندما كان يُساعدها كلود في رفع شيء أو حملِه، فإنه كان لا يتحاشى قطُّ مُلامستها، وكانت تشعر بذلك في أعماقها. كانت تشكُّ بأن رالف ربما لا يُحبها، وأنه يُفضِّل أن تتولَّى المطبخَ امرأةٌ شابَّة ونشيطة.

في مثلِ الأيام هذه التي لا يوجَد فيها الآخرون في المكان، كانت ماهيلي تُحب أن تتحدَّث مع كلود عن الأشياء التي فعَلاها معًا عندما كان صغيرًا؛ عن تجوُّلهما بالقرب من النهير يوم الأحد، حيث كانا يقطفان العنب البرِّي ويُراقبان السناجب الحمراء، أو يتسكَّعان معًا عبر المراعي العالية حتى يَصِلا إلى أجَمةٍ من البرقوق البرِّي في الطرَف الشمالي من مزرعة ويلر. بإمكان كلود أن يتذكر أيام الربيع الدافئة لما كانت أشجار البرقوق مُزهِرةً كلُّها، وكانت ماهيلي مُعتادةً على الاستلقاء تحت ظلها والغِناء لنفسها، وكأنَّ حلاوة العسل الشهية للبرقوق جعلَتها تشعر بالنُّعاس؛ أغانيُّ من دون كلمات في معظمها، ولكنه كان يتذكر أغنيةً رثائية جبَلية لم تنفكَّ عن التغنِّي بها تقول: «وأدخلوا جيسي جيمس إلى قبره.»

٤

كان يقترب وقتُ رجوع كلود إلى الكلِّية الدينية المُتشدِّدة، الواقعة على أطراف عاصمة الولاية التي قضى فيها شتاءَين مُوحِشين وغيرَ مُثمِرين.

لما سنَحَت له الفرصة أن يتحدث مع والدته بمفردهما في صباح أحد الأيام، قال: «أمي، ليتك تسمحين لي بتركِ كلية تمبل والانتقال إلى جامعة الولاية.»

انتقلَت ببصرِها إليه من كُتلة العجين التي كانت عاكفةً على عجنها.

«ولكن لماذا يا كلود؟»

«حسنًا، أحد الأسباب أن بإمكاني تعلُّم المزيد. كما أن الأساتذة في تمبل ليسوا جيِّدين. ومعظمهم واعظون لا يكفيهم الوعظ بصفته مصدرَ دخلٍ لهم.»

ارتسمَت ملامح الألم التي دائمًا ما كانت تجعل كلود يَلين على وجه والدته على الفور. «يا ولدي، لا تَقُل هذا الكلام. لا أُصدِّق سوى أن اهتمام المُعلِّمين بطُلَّابهم يَزيد عندما ينشغلون بتلبية احتياجاتهم الروحية والعقلية على حدٍّ سواء. يقول القسُّ ويلدون إن العديد من الأساتذة في جامعة الولاية ليسوا مسيحيِّين، حتى إنهم يتباهَون بذلك في بعض الأحيان.»

«أوه، أظنُّ أن معظمهم أناسٌ جيِّدون دون شك؛ على أي حال، إنهم مُتمكِّنون من مادتهم العِلمية. هؤلاء الواعظون الصِّغار الحَمقى من أمثال ويلدون يتسبَّبون في كثير من الأذى؛ إذ لا يفعلون شيئًا سوى التجوُّل في البلاد والحديث. إن مَهمَّته جذبُ الطلاب إلى كُلِّيته. وإذا لم يأتِ بهم، فسيَخسَر وظيفته. لَيتَه لم يصل إليَّ قَط. ومعظم الطلاب المطرودين من جامعة الولاية يأتون إلينا، تمامًا كما فعل.»

«ولكن من أين يُمكن أن تأتيَ الدراسة الجادَّة إن كانوا يُخصِّصون وقتًا كبيرًا من أجل الألعاب الرياضية والمُلهِيات؟ إنهم يدفعون لمُدرِّب كرة القدم لديهم راتبًا أعلى من رئيس الجامعة. كما أن مساكن الطلبة تلك أماكنُ يتعلم فيها الفِتيان كل أنواع الشرور. لقد سمعتُ عن بعض الأشياء المريعة التي تَحدُث داخلها في بعض الأحيان. وبجانب هذا كله، إنها تتكلَّف أموالًا أكثر، ولا يُمكنك العيش بقليلٍ من المال كما هو الحال في منزل آل تشابين.»

لم يردَّ كلود بشيء. وقف أمامها عابسًا، وأخذ يفركُ بقعةً خشنة في راحة يده. نظرَت إليه السيدة ويلر بحُزن. وقالت: «أنا متأكدة من أنك ستستطيع الدراسة على نحوٍ أفضل إذا كانت البيئة المحيطة بك هادئةً وجادَّة.»

تنهَّد وابتعَد عنها. لو كانت والدته مُداهِنة ولو بقدرٍ أقلَّ من القسِّ ويلدون، لاستطاعَ إخبارَها بحقائق عديدة تُوضِّح لها الأمور. ولكنها كانت تركنُ إلى حُسن الظن والبساطة، وكانت مُستقيمةً بشدة بطبيعتها، ولا تعلم شيئًا عن الحياة كما عَلِمها هو؛ ولذا كان لا فائدة من النقاش معها. كان بإمكانه أن يصدمها ويجعلها تخشى العالم حتى أكثرَ مما كانت تخشاه الآن، ولكنه لم يستطع أن يُفهمها ذلك قَط.

كانت والدتُه غيرَ مُسايِرة للعصر. كانت تظنُّ أن الرقص ولعبَ الأوراق من المُسلِّيات الخطيرة — إذ لم يَقُم بتلك الأشياء سوى الأشقياء وهي فتاة في فيرمونت — وأن «أهل الدنيا» ما هو إلا مُرادف للأشرار. ووَفقًا لمفهومها عن التعليم، يجب على المرء أن يتعلم، لا أن يُفكر؛ وفوق كل هذا، ما ينبغي للمرء أن يسأل. تاريخ البشرية لا يخفى على أحد — حيث إنه السببُ في وجودهم — ومصيرها كذلك لا يخفى على أحد؛ لأنه محتومٌ أمامهم. كما يجب ألا يَحيد العقلُ عن المفهوم اللاهوتي للتاريخ.

نات ويلر لم يكن يَشغله أيُّ مؤسسةٍ تعليمية يتعلَّم فيها ولده، ولكنه — هو الآخَر — كان يُسلِّم بأن الكلية الدينية أرخص من جامعة الولاية، ويُسلِّم بأنه نظرًا إلى أن الطلاب هناك يبدون أقلَّ هندامًا، فإنه يقلُّ احتمال أن يعرفوا الكثير وأن يُمارسوا ذكاءهم بطريقةٍ بَغيضة في المنزل. وعلى الرغم من ذلك، أخبر بايليس عن تلك المسألة لما كان في المدينة في أحد الأيام.

«يريد كلود أن ينتقل إلى جامعة الولاية هذا الشتاء.»

وعلى الفور، أظهر بايليس على وجهه ذلك التعبيرَ الحكيم الذي يبدو منه أنه مستعدٌّ للأسوأ، الذي جعله يبدو حصيفًا ومُتمرسًا منذ طفولته. «لا أرى أيَّ فائدة من التغيير ما لم تكن لديه أسبابٌ وجيهة.»

«حسنًا، يعتقد أنَّ مجموعة القساوسة الموجودة في تمبل لا يُعدُّون أساتذةً مُميزين.»

«أعتقد أنَّ بإمكانهم مع ذلك تعليم كلود الكثير. وإذا الْتحَق بفريق كرة القدم الفاجر هذا في جامعة الولاية، فلن يستطيع أحدٌ السيطرة عليه.» كان يمقتُ بايليس كرة القدم الأمريكية لسبب أو لآخَر. «وهذا النشاط الرياضيُّ عمل مُضرٌّ بشدة. وإذا أراد كلود التدريب فيُمكنه زراعة القمح في فصل الخريف.»

في تلك الليلة، فتح السيد ويلر الموضوع على العَشاء وسأل كلود، وحاوَل أن يعرف سببَ سخطه. كان أسلوبه مازحًا كالعادة، ولكن كلود كان يكره أي مناقشة لأموره الشخصية على الملأ. خشيَ فُكاهة والده عندما كانت تقتربُ بشدة منه.

ربما كان سيَستمتع كلود بالعروض الهزلية الكبيرة والوقحة إلى حدٍّ ما التي يُثري بها السيد ويلر الحياة اليومية، لو لم يكن هو مُؤلِّفها. ولكنه رغِب من أعماق أعماقه أن يكون والدُه هو الأكثر احترامًا، كما هو بلا شكٍّ الأوسمُ والأذكى في المجتمع. إضافةً إلى ذلك، كان كلود لا يتحمَّل التهكُّم كثيرًا. إنه كان يُحس به قبل أن يُصيبه؛ أي إنه عندما كان يراه قادمًا كان يَستبقه. لاحَظ السيد ويلر هذه السِّمة فيه لما كان صبيًّا يافعًا، ونعتَها بالفخر الزائف، وتعمَّد أن يُثير حفيظةَ مشاعر كلود كي يُقوي قلبه، كما فعل مع والدته التي كانت تخشى كل شيء إلا الكتبَ المدرسية ولقاءاتِ الصلاة لما تزوَّجها في البداية. كانت لا تزال مُتحيِّرة بنحو أو بآخَر، ولكنها تغلَّبَت على أي مشاعر خوف منه، أو من العيش معه منذ زمنٍ بعيد. لقد تقبَّلَت كل شيء في زوجها باعتبارها جزءًا من ذكوريته الخشنة، وكانت تفخر بذلك بأسلوبها الهادئ.

لم يغفر كلود لوالده قطُّ بعضًا من مُداعَباته السمجة. ففي يومٍ حارٍّ من أيام الربيع حينما كان صبيًّا مُشاغبًا في الخامسة من عمره، وكان يلعب داخل المنزل وخارجه، سمع والدته تتوسَّل إلى السيد ويلر أن ينزل إلى البستان ويقطف عناقيد الكُرز من شجرةٍ مُحمَّلة بالثمار. تذكَّر كلود أنها استمرَّت في التذمُّر قائلةً إن عناقيد الكُرز عالية ولا تستطيع الوصول إليها، وحتى لو حصلَت على سُلَّم فسيُؤلم ظهرَها استخدامُه. كان السيد ويلر ينزعج دائمًا إن أشارت زوجتُه إلى أي ضعف جسدي تُعاني منه، خاصةً إذا اشتكت من ظهرها. نهَض وخرج. ثم عاد بعد بُرهة. نادى مُبتهجًا وهو يمرُّ من المطبخ: «كل شيء على ما يُرام الآن يا إيفانجلين. لن يُسبِّب لك الكرزُ أيَّ مشكلات. يُمكنك أنت وكلود الذَّهابُ وجمعُ ثماره بمنتهى السهولة.»

ارتدَت السيدة ويلر قبعتها الشمسية واثقةً، وأعطت كلود دلوًا صغيرًا، وأخذت هي واحدًا كبيرًا، ثم ذهبا إلى البستان عبر تل المراعي، وكان هذا البستان مُسيَّجًا في الأرض المُنخفضة بجانب النهير. لقد حُرثت الأرض في ذلك الربيع كي تحتفظ بالرطوبة، وظل كلود يركض سعيدًا في أحد الأخاديد عندما نظر إلى أعلى، ورأى مشهدًا لن يستطيع أن ينساه أبدًا. رأى شجرة الكُرز الجميلة ذاتَ القمة الدائرية المليئة بالأوراق الخضراء والثمار الحمراء، وقد قطعَها والده بالمنشار! كانت تقبعُ على الأرض بجانب جذعها النازف. وبصرخةٍ واحدة، تحوَّل كلود إلى شيطانٍ صغير. رمى دلْوَه المصنوع من القصدير بعيدًا، وأخذ يقفز في المكان وهو يصرخ ويضرب الأرض الرِّخوة بحذائه ذي المقدمة النُّحاسية، حتى قلقت والدتُه عليه أكثرَ من قلقها على الشجرة.

صاحت: «يا ولدي، يا ولدي، إنها شجرةُ والدك. له الحقُّ الكامل في قطعها إن أراد. وكثيرًا ما قال إن الأشجار كثيفةٌ هنا. ربما هذا أفضلُ للأشجار الأخرى.»

صاح كلود: «إنها ليست كذلك! إنه أحمقُ لَعِين، أحمقُ لَعِين!» وزمجرَ وظلَّ يقفز ويركل، وكاد أن يخنقَه الغضب والكراهية.

جثَت والدته على ركبتَيها بجانبه. «كلود، توقَّف! أُفضِّل أن تُقطع كلُّ أشجار البستان على أن أسمعَ منك هذه الكلمات.»

بعد أن هدَّأتْه، جمَعا الكُرز وعادا إلى المنزل. وعَدها كلود بألا يتفوَّه بكلمة، ولكن لا بد أن والده لاحَظ نظراتِ الغضب التي كان يُوجِّهها الصبي الصغير تجاهَه طوالَ العشاء، وكذلك تعبير الاحتقار البادي على وجهه. وحتى ذلك الحين، كان يعرف كيف يكبحُ شفَتَيه المرِنتَين عن التعبير عن الصورة المكنونة بداخله. لعِدَّة أيام بعد ذلك، كان يذهب كلود إلى البستان ويُشاهد الشجرة وهي تضعف أكثرَ وتذبل وتموت. قال في نفسه لا بد أن الله سيُعاقِب من تجرَّأ وفعل بها ذلك.

المِزاج الحادُّ والاضطراب الجسدي كانا من أبرز الصفات في كلود عندما كان صبيًّا صغيرًا. كان رالف مُطيعًا، وبدَت حُنكتُه في الابتعاد عن المشكلات في وقتٍ مُبكِّر. وحيث إنه كان هادئًا في أسلوبه، فقد كان بارعًا في إثارة المتاعب، ولا يصعب عليه إقناعُ أخيه الأكبر — الذي كان لا يتوقف عن البحث عن شيءٍ يفعله — لتنفيذ خُطَطه. وعادةً ما كان يُمسَك كلود لا غيره مُتلبِّسًا بالجُرم. ولما كان رالف يجلس على بِساطه على الأرض هادئًا ومُتأملًا، كان يهمس إلى كلود بأنه ربما يكون من المُبهِج الصعودُ وأخذُ الساعة من فوق الرف، أو تشغيلُ ماكينة الخياطة. ولما كَبِرا وبدآ يلعبان خارج المنزل، كان يكفيه أن يُلمِّح إلى كلود أنه خائف كي يُحرِّضه على لمسِ فأسٍ مُغطَّاة بالثلج بلسانه، أو القفز من أعلى سطح السَّقيفة.

لم تكُن متاعب الطفولة المُعتادة في الريف كافيةً بالنسبة إلى كلود؛ فكان يفرض على نفسه عقوباتٍ واختباراتٍ جسدية. فكُلَّما أحرق إصبعَه اتبع نصيحة ماهيلي وقرَّب يده من الموقد حتى «يُخرج النار من إصبعه». وفي أحد الأعوام، ذهب إلى المدرسة طوال الشتاء بسُترته بُغيةَ أن يشدَّ من عضده. كانت أمُّه تُحكِم أزرار مِعطفه، وتضعُ وعاء العَشاء في يده وتجعله ينطلقُ في طريقه إلى المدرسة. وبمجرد أن يبعد عن أنظارِ من في المنزل، كان يخلع مِعطفه ويلفُّه تحت إبطه، وينطلق مُسرعًا بطول حافَة الحقول المُغطَّاة بالثلوج حتى يَصِل إلى سور المدرسة لاهثًا ومُرتجِفًا، ولكنه كان سعيدًا بنفسه بشِدَّة.

٥

انتظَر كلود من الكِبار أن يُغيِّروا رأيهم بشأن المكان الذي يجب أن يذهب إليه للدراسة، ولكن يبدو أن لا أحد اهتمَّ كثيرًا بالأمر، حتى والدته.

منذ عامَين، أتى الشابُّ الذي تدعوه السيدة ويلر بِاسم «القس ويلدون» من لينكن، وعمل في الوعظ في المدن الصغيرة والكنائس الريفيَّة، وسعى لجذب الطلاب إلى المؤسسة التي كان يُدرِّس بها في فصل الشتاء. أقنعَ السيدة ويلر أن الكلية التي يعمل بها هي آمَنُ مكان يمكن أن يذهب إليه فتًى يُغادر المنزل للمرة الأولى.

لم تكن والدة كلود تُضمِر تحاملًا ضدَّ الواعظين. كانت تعتقد أن جميعهم مُختارون وطاهرون، وأسعَدُ لحظات حياتها كانت عندما أتى أحدهم إلى منزلها وأخذَت تطهو له وتعمل على خدمته. لقد وفَّرَت كل سُبل الراحة للسيد ويلدون الشاب؛ مما دفعه إلى البقاء في منزلها عدة أسابيع، شاغلًا الغُرفة الشاغرة حيث كان يقضي وقت الصباح في الدراسة والتأمُّل. لم يتخلَّف عن مواعيد الوجبات، وحينها كان يطلب البَركة على الطعام ويجلس، وترتسم على عينَيه ملامح الورع والخجل أثناء تقطيع الدجاج تمهيدًا لتوزيعه. كان رأسه المُدبَّب من الأعلى مائلًا إلى أحد الجانبَين قليلًا، وكان شعره الخفيف مفروقًا بالضبط فوق جبهته البارزة، ومُمشَّطًا بتموجاتٍ بسيطة. كان ليِّن القول ومُتواضعًا في تعامله، وكان لا يَشغل مكانًا كبيرًا عندما يجلس. حِلمه أثار إعجاب السيد ويلر الذي كان يحبُّ أن يُغدق عليه بالطعام، ولا ينفكُّ يسأله بجِدِّية: «ما الجزء الذي تُفضِّله في الدجاجة؟» كي يسمعه وهو يُتمتِم: «قليلٌ من لحم الصدر إذا سمحتَ»، وحينَها كان يسحب مِرفقَيه بالقرب منه، وكأنه ينزلق ببراعة من فوق مكان خطير. فيما بعد الظهيرة، اعتاد القسُّ ويلدون أن يرتديَ ربطة عنق جديدة مصنوعة من قماشٍ رقيق، وقبعةً خشنة ولامعة من القش كانت تترك خطًّا أحمر على جبهته، ويُمسِك الكتاب المُقدَّس الخاصَّ به تحت ذراعه ويخرج داعيًا للناس. وإذا ذهب إلى مكانٍ بعيد، كان يأخذه إليه رالف بالسيارة.

كَرِه كلود هذا الشابَّ منذ اللحظة الأولى التي رآه فيها، ونادرًا ما كان يردُّ عليه بطريقةٍ مُهذَّبة. السيدة ويلر التي كانت شاردةَ الذهن دائمًا، والتي كانت حينها مشغولة بشِدَّة بواجب الضيافة للزائر، لم تُلاحظ صمتَ كلود النابع من الازدراء حتى همسَت إليها ماهيلي — إذ لا تفوتها هذه الأشياء مُطلَقًا — فوق المَوقد يومًا ما قائلةً: «السيد كلود لا يحبُّ الواعظ. إنه فقط لا يحترمه، ولكن لا تقولي لأحد.»

بسبب المدة التي أقامها القسُّ ويلدون في المزرعة، أُرسل كلود إلى كلية تمبل. بدأ كلود يعتقد أن أبغضَ الأشياء والأشخاص إلى قلبه هم من سيُحدِّدون له مصيره.

لما اقترب الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر، وضع بعض الملابس والكتب في صندوقه وودَّع والدته وماهيلي. أوصله رالف إلى فرانكفورت كي يلحق بالقطار المتَّجِه إلى لينكن. وبعدما جلس كلود في عربة القطار العاديَّة القذرة، أخذ يُفكر في مستقبله. كانت هناك عربةٌ فاخرة في القطار، ولكن الركوب في العربة الفاخرة في رحلةٍ نهارية لم يكن من الأشياء التي يفعلها أحدٌ من آل ويلر.

كان كلود يعلم أنه عائد إلى الكلية الخطأ، وأنه كان يُهدِر الوقتَ والمال معًا. سَخِر من نفسه بسبب ضعف عزمه. قال لنفسه ما دمتُ مُضطرًّا إلى التعامل مع الغُرَباء، فبإمكاني أن أُحدِّد ما أريده وأُحارِب من أجله. ربما لم يكن باستطاعته مواجهة والده أو والدته، ولكنه كان يستطيع أن يتحلَّى بالجرأة مع بقية الخلق. ولكن إذا كان هذا صحيحًا، فلماذا استمرَّ في العيش مع آل تشابين المُزعِجين؟ بيت آل تشابين كان يعيش فيه أخ وأخت. كان إدوارد تشابين رجلًا في السادسة والعشرين من عمره ذا وجهِ رجلٍ عجوز مُنهَك، وكان لا يزال يدرس كي يُصبح قسيسًا. أخته أنابيل كانت تعتني بشئون المنزل؛ هذا يعني أنها كانت تقوم بواجبات المنزل كلها. كان الأخُ يحصل على قوت يومه له ولأخته من العمل في وظائف غريبة في الكنائس والجمعيات الدينية؛ فقد كان يُلقي «الخطبة» وقتَ مرض القس، ويقوم بأعمال السكرتارية في الكلية وجمعية الشُّبَّان المسيحيين. وعلى الرغم من قلة المَبلغ الذي كان يدفعه كلود للإقامة والوجبات في هذا البيت، فإن هذا المبلغ كان يُسهِم كثيرًا في راحتَيهما.

الْتحقَ تشابين بكلية تمبل منذ أربع سنوات، وربما كان سيستمرُّ سنتَين أُخريَين حتى يُكمِل دراسته. اعتاد أن يُذاكر دروسه في عربات الترولي، وفي أوقات الانتظار بجانب السِّكك الحديدية في الأماكن الخالية، وكان يُذاكر حتى وقت مُتأخر من الليل. لا بد أن غباءه الفطريَّ كان خارجًا عن المألوف؛ فبعد سنواتٍ من الدراسة المهيبة لم يستطع قراءة العهد الجديد باللغة اليونانية من دون معجم وكتابِ قواعد. لقد كان يُخصِّص وقتًا كبيرًا من أجل التدريب على الخطابة والإلقاء. وفي بعض الأوقات، كان بيتُهم القديم — المبنيُّ من جدرانٍ رفيعة من أجل الطلاب الفقراء، والمستقرُّ على كُتلٍ خرسانية بدلًا من الأساس — يُردِّد صدى صوته الأجشِّ والمُنهَك أثناء تدريبه على خُطبة من إعداده أو إعداد ويندل فيليبس.

أنابيل تشابين كانت من زملاء كلود في الفصل. لم تكن غبيةً مثلَ أخيها؛ فلم يصعب عليها تعلُّم تصريف الأفعال والتعرف على أشكالها عندما تردُ عليها مرةً أخرى. ولكنها كانت فتاةً سخيفة وذاتَ عواطف فيَّاضة، تتشكَّك في جمال كل شيء في حياتهم الوضيعة، كما أنها كانت مُغرَمة بكلود للأسف. كانت تتغنَّى أنابيل بدروسها مِرارًا وتَكرارًا لنفسها وقتَ الطهي والتنظيف. وكانت ممن يجعلون أفضلَ الأشياء تبدو مُملَّة فقط بالإشارة إليها. في الشتاء الماضي، ظلَّت تتلو قصائد هوراس الغنائية في أنحاء المنزل — إذ كانت هذه هي فِكرتَها بالضبط عن الأشياء التي يجب أن يفعلها الطلاب — حتى خشيَ كلود أن يربط على الدوام ذلك الشاعرَ بسوء وجبات الغداء المعَدَّة على عَجل.

أحبَّت السيدة ويلر فكرةَ أن كلود كان يُساعِد هذَين الأخوَين المستحقَّين للمساعدة في كفاحهما من أجل إكمال رحلة تعلُّمهما، ولكنه رأى منذ أمدٍ بعيد أنه ما دامت لم تُثمِر أيٌّ من جهود الأخوَين عن نتائج كبيرة، فقد يكون من الأفضل أن يتخلَّيا عن هذا الكفاح منذ البداية. لقد كان يعتني بغُرفته الخاصة إذ يُحافظ على نظافتها وصلاحيَّتها للسكن وخُلوِّها من محاولات التودُّد من جانب أنابيل. ولكنه كان يمقتُ بشدةٍ الادعاءاتِ الواهيةَ بالتدبر الخفيف لشئون المنزل. فقد وُلِد وهو يحبُّ النظام، تمامًا مثلما وُلد بشعرٍ أحمر. إنها سِمةٌ شخصية فيه.

كان يشعر الفتى بالمرارة من الطريقة التي رُبِّي بها، وحيالَ شعره والنمش الموجود في وجهه وارتباكه. وعندما كان يذهب إلى المسرح في لينكن، كان يأخذ مقعدًا في البلكون؛ لأنه كان يعلم بأنه يبدو كفتًى ريفي ساذَج. لم يرتدِ ملابس مناسبةً البتَّة. لقد اشترى ياقاتٍ طويلة جدًّا وربطات عنق برَّاقةً للغاية، وأخفاها في صندوق ملابسه. ولم تنجح تَجرِبته الوحيدة في الاستعانة بخيَّاط. لاحظ الخيَّاط من فوره أن زبونه المُتلعثِم لم يكن يعرف ما يريد؛ ومن ثَم قال له ما دام أنه في فصل الربيع، فإنه بحاجة إلى سروالٍ فاتح بمُربَّعات، وصدرية ومِعطف أزرقَين من قماش السيرج. وعندما ارتدى كلود ملابسَه الجديدة للمرة الأولى وهو ذاهب إلى كنيسة سانت بول في صباح يوم الأحد، أخذ كلُّ إنسان يُقابله ينظر إلى سرواله المُميَّز. وفي الأسبوع التالي، ظلَّ ينظر إلى سيقان الرجال والشباب، وعلم أنه لا يوجد سروالٌ بمُربَّعات في لينكن غير الذي يرتديه. ولذلك علَّق ملابسه الجديدة في دولابه ولم يرتدِها مُطلَقًا مرةً أخرى، على الرغم من نظرة أنابيل تشابين الحزينة إليها. وعلى الرغم من ذلك، ظنَّ كلود أن بإمكانه تمييز الرجل الأنيق عندما يراه. حتى إنه ظنَّ أن بإمكانه فِعل الشيء نفسه مع النساء. وإذا ركبَت امرأةٌ جذَّابة عربةَ الترام وهو في طريقه إلى الجامعة ذَهابًا أو إيابًا، كان يتشتَّت ما بين الرغبة في النظر إليها والرغبة في أن يبدوَ غير مُبالٍ.

كلود الآن في طريق عودته إلى لينكن، ومعه مصروفٌ كبير إلى حدٍّ ما، لكنه لن يُسهِم كثيرًا في راحته أو سعادته. إنه ليس لديه أصدقاء أو أساتذة يمكن أن ينظر إليهم نظرةَ إعجاب، على الرغم من أن الحاجة إلى الإعجاب هي الحاجة الأهم بالنسبة إليه الآن. إنه مُقتنِع بأن الأشخاص الذين يمكن أن يَعنُوا له شيئًا دومًا سيُخطئون في الحكم عليه ولن يأبَهوا له. إنه لا يخشى كثيرًا الوحدة بقدرِ ما يخشى قَبول البدائل الرخيصة؛ كأنْ يختلق أعذارًا لنفسه بشأن أستاذ يتزلَّف إليه، أو يستيقظ في صباحِ يومٍ ما ويجد نفسه مُعجَبًا بفتاة لمجرد أن الوصول إليها سهل. إنه يخاف بشدة من البدائل السهلة، ويخاف كثيرًا من أن ينخدع.

٦

بعد ثلاثة أشهُر وفي يومٍ غائم من أيام ديسمبر، كان كلود جالسًا في عربة الرُّكَّاب بقطار شحن به عربات للرُّكَّاب، عائدًا إلى المنزل لقضاء الإجازة. كان يضع كومةً من كتبه على المقعد المُجاوِر له، وكان مُستغرِقًا في القراءة عندما توقَّف القطار بهِزَّة قوية تسبَّبت في سقوط تلك المجلدات على الأرض. رفعها من الأرض ونظر في الساعة. كان الوقت وقتَ الظهيرة. وكان قطار الشحن سيتوقَّف هنا ساعةً أو أكثر حتى يمرَّ قطار الرُّكاب المتجِه إلى الشرق. نزل كلود من العربة ومشى ببطءٍ على الرصيف باتجاه المحطة. وُضِعت مجموعةٌ من شجر التنوب الصغير بالقرب من مكتب الشحن، وأرسلت عبَق عيد الميلاد بين ذرَّات الهواء البارد. كانت تَقِف بعض عربات الجر بالقرب من المكتب، وكانت الخيول مُغطَّاة لحمايتها من البرد. تَصاعدَ بخارٌ بنفسَجي قاتمٌ من القطار، وانتشر في السماء المُلبَّدة بالغيوم.

ذهب كلود إلى مطعم في الجهة المقابلة من الشارع، وطلب يخني محار. ومن رحلة إلى أخرى، دائمًا ما كانت تتذكَّره مالكة المطعم، وهي امرأةٌ ألمانية قصيرة بَدينة، ذات قُصة مُتغضِّنة مُنسدِلة على الجبين. ولما كان يأكل المحار، أخبرَته أنها انتهت لتوِّها من شواء دجاجة مع البطاطا، وإذا أحبَّ فيُمكنه الحصول على أول قطعة مشوية من الصدر قبل أن يأتيَ قائدو القطار من أجل الغداء. وبعدما طلب منها إحضارها على الفور، جلس مُنتظرًا على مقعدٍ عالٍ، وحذاؤه على مسند القدمَين المصنوع من الرَّصاص، ومِرفقاه على طاولة البيع البُنِّية اللامعة، وأخذ يُحملِق في هرم السندوتشات التي تبدو صُلبةً تحت كرةٍ زجاجية.

لما أحضرت السيدة فوكت الطبق، قالت له: «أنا أبحث عنك كلَّ يوم. لقد وضعت قدرًا كبيرًا من المرَق الجيد على البطاطا.»

«شكرًا لك. لا بدَّ أن رُوَّاد مطعمك يُحبونكِ.»

قهقهَت. وقالت: «نعم، كل قائدي القطارات أصدقاء لي. في بعض الأحيان، يُحضِرون لي قليلًا من الجُبن السويسري من أحد المتاجر الكبرى في أوماها التي يتردَّد عليها الألمان. ليس لديَّ أطفال؛ ومن ثَم اعتدتُ أن أُعدَّ بعض الأشياء من أجل أطفالهم، أليس هذا جيدًا؟»

وقفَت تُنظِّف يدَيها القصيرتين والبدينتين تحت مِئزرها، وتُراقِب كلَّ لُقمة يأكلها بشغف وكأنها تتذوَّقها هي. دخل قائدو القطار ونادَوا عليها وسألوها ماذا أعدَّت من أجل الغداء، وركضت إليهم مثلَ دجاجة صغيرة مُبتهِجة، وأخذت تضحك وتُثرثر معهم. تساءل كلود هل العُمال لُطفاء مع النساء العجائز في جميع أنحاء العالم كما هو الوضع هنا. لم يكن يظنُّ ذلك. أحبَّ أن يعتقد أن هذا اللطف لا يَشيع إلا بين من يُسميهم ﺑ «أهل الغرب». اشترى سيجارًا كبيرًا وظل يتجوَّل على الرصيف ذَهابًا وإيابًا مُستمتعًا بالهواء المُنعِش حتى انطلقَت صافرة قطار الرُّكاب.

بعدما انطلق قطار الشحن باعثًا كومة من البخار، لم يفتح كتبه مرةً أخرى، ولكن جلس ينظر إلى المنازل القاتمة وهي تمرُّ أمامه ومن حولِها حقول الذرة الجافَّة والمحصودة، وقطع الأراضي المحروثة الكبيرة حيث يستقرُّ القمح الشتوي. كان يمتدُّ بعض الجليد اللامع مثل بلُّورات الصقيع بطول الحواف العالية الهشَّة بين الأخاديد.

اعتقد كلود أنه يعرف تقريبًا كلَّ مزرعة تقع على الطريق من فرانكفورت إلى لينكن؛ فهو يقوم بتلك الرحلة كثيرًا مُستخدمًا القطارات السريعة والبطيئة. كان يقضي كل الإجازات في المنزل، كما أنه كان يعود مِرارًا وتَكرارًا إليه لأسبابٍ مختلفة؛ في وقتِ مرض أمه، أو عندما انقلب رالف بالسيارة وكُسِرت كتفُه، أو عندما رفس والدَه حِصانٌ شرِس. ولم يكن من عادة آل ويلر أن يأتوا بمُمرضة؛ فإذا مرِض أيُّ فرد في المنزل، فمعروفٌ أن فردًا آخر في المنزل كان سيتولَّى المَهمَّة.

جلس كلود يتفكَّر في حقيقة أنه لم يسبق له قطُّ أن عاد إلى المنزل بتلك المعنويات المُرتفعة. حدث له شيئان مُبهِجان من وقتِ أن ذهب في هذا الطريق منذ ثلاثة أشهُر.

بمجرد أن وصل إلى لينكن في سبتمبر، سجَّل في جامعة الولاية من أجل بَرنامج دراسي خاص في التاريخ الأوروبي. في العام السابق، سمع محاضرةً ألقاها رئيس هذا القسم أمام إحدى الجمعيات الخيرية، وقرَّر وقتئذٍ أن يَدرُس تحت إشراف ذلك الرجل حتى لو لم يتمكَّن من تغيير الجامعة. البرنامج الدراسي الذي اختاره كلود كان من البرامج الدراسية التي يُمكن للطالب أن يُخصِّص لها الوقت الذي يختاره. وكان يعتمد على قراءة المصادر التاريخية، وكان الأستاذ معروفًا بشرَهه إلى دفاتر الملاحظات المُمتلئة بالكتابة. وكان دفتر كلود واحدًا من تلك الدفاتر. كان كلود يظلُّ يدرس في مكتبة الجامعة أوقاتًا طويلة، وغالبًا ما كان يتناول عَشاءه في المدينة ويعود للقراءة حتى وقتِ إغلاق المكتبة. للمرة الأولى كان يدرس موضوعًا بدا حيويًّا بالنسبة إليه؛ إذ يتعلق بالأحداث والأفكار بدلًا من المعاجم وكتب القواعد. كم تمنَّى أن يُقابل إرنست في المحاضرات! كان يستطيع أن يرى إرنست وهو يستوعب كاملَ محتوى تلك المحاضرات، ويتفقُ معه أو يُعارضه بطريقته المستقلَّة. كان عدد الطلاب كبيرًا للغاية، وكان يتحدث الأستاذ من دون ملاحظاتٍ أمامه؛ كان يتحدث بسرعةٍ كبيرة وكأنه يتحدث مع مُكافئين له، ولا يتخلَّل العرضَ طريقةُ الإقناع المُتزلِّفة التي كان مُعتادًا عليها طلاب كلية تمبل. كانت محاضراته مُكثَّفة وكأنها مذكرةٌ قانونية، غير أن صوته كانت تتخلَّله حماسةٌ واهنة، وعندما كان يُقاطع عرضه من حين لآخر لإبداء تعليق شخصي بَحت، كان يبدو أنه تعليقٌ قيِّم ومهم.

عادةً ما كان يخرج كلود من هذه المحاضرات بشعور أن العالم مليءٌ بالمُحفِّزات، وأنه محظوظ لأنه حيٌّ وبإمكانه العثور على تلك المُحفِّزات. وبفضل القراءة في ذلك الخريف، بدا المستقبلُ بالفعل أكثرَ إشراقًا في عينَيه؛ إذ بدا أنه يُبشِّره بشيء. من الصعوبات الأساسية التي كانت تُواجهه دومًا أنه لم يستطع أن يجعل نفسه يؤمن بأهميةِ كسب المال أو إنفاقه. كان يرى أنه إن كانت تلك هي الحياة، فإنها لا تستحقُّ العناء.

الشيء الجيد الثاني الذي حدَث له هو أنه تسنَّى له التعرف على بعض الأشخاص الذين أحبَّهم. حدث هذا التعارف من غير ترتيب، بعد مباراة كرة قدم أمريكية بين فريق كلية تمبل وفريق جامعة الولاية؛ كانت مجردَ مباراة تجريبية للفريق الأخير. كان كلود يلعب في مركز الظهير المُساعِد في فريق كلية تمبل. وقُرْب نهاية نصف الشوط الأول من المباراة، أتمَّ تدخُّلَه في الطرف الأيمن بسلام، وأوقف هجمةً كادت أن تُنهيَ اللعبة، وانفرد بالكرة مسافةَ تسعين ياردة، وأخذ يَعْدو حتى وصل إلى منطقة الجزاء. واستطاع أن يُساعد فريقه على تقديم عرض جيد في المباراة. هنَّأه أعضاء فريق جامعة الولاية بحرارة، حتى إن مُدرِّبهم لمح له بأنه لو أراد يومًا تغيير فريقه، فسيَجد مكانًا له ضمن فريق جامعة الولاية.

حظيَ كلود بلحظةِ فخر، ولكن حتى وقت حديثه مع المُدرِّب بالينجر، اندفع طلابُ كلية تمبل من المدرج وهم يصيحون، ورمَت أنابيل تشابين — التي كانت تظهر بمظهرٍ مُضحِك لما ارتدَت بدلةً رياضية من تصميمها، كانت مُزيَّنة بألوان كلية تمبل، وأخذت تنفخ في بوق لعبة — بنفسِها في أحضان كلود. خلَّص نفسه ولكن ليس بلطفٍ بالغ، ومشى بعيدًا مُكتئبًا إلى غرفة تغيير الملابس؛ فما الفائدة إذا كنت دائمًا مع الأشخاص الخطأ؟

أخذه جانبًا يوليوس إرليش — الذي لعب نِصف شوط مع فريق جامعة الولاية — وتحدَّث إليه بودٍّ قائلًا: «تعالَ إلى المنزل كي تتعشَّى معي هذا المساء يا ويلر وتُقابِل أمي. تعالَ معنا وارتدِ ملابسك في المبنى العسكري. لديك ملابس في حقيبتك، أليس كذلك؟»

ردَّ كلود مُترددًا: «إنها ملابس لا تكاد تصلح للزيارة.»

«أوه، هذا لا يُهم! إننا جميعًا فِتية في المنزل. لن تُمانع أمي إن أتيتَ بملابسك الرياضية.»

وافَق كلود قبل أن يتوفَّر له الوقت كي يُخيف نفسه بالتفكير في الصعوبات. كثيرًا ما كان يجلس بجواره الفتى إرليش في محاضرة التاريخ، وكان قد تحدَّث بعضُهما إلى بعضٍ عدة مرَّات. حتى ذلك الحين، كان يشعر كلود أنه «لا يستطيع فَهْم إرليش»، ولكن لما كان يرتديان ملابسَهما بعد الاستحمام بعد ظُهرِ ذلك اليوم، أصبحا صديقَين مُقرَّبين في غضون بضع دقائق. على الأرجح، لم يشعر كلود بالتقييد في تفكيره وحركاته مِثلما هو مُعتاد. وذُهِل بشِدَّة لما وجد نفسَه على وِفاق وعلاقةٍ وُدية مع إرليش، حتى إنه لم يَشغل باله بقميصه الذي كان يرتديه لليوم الثاني على التوالي، وبياقته ذاتِ الحافة المُتهالِكة؛ وهي من الأمور البائسة التي اعتاد أن يَشغل باله بها.

لم يمشيا أكثرَ من مُربَّعين سكَنيَّين بعد المبنى العسكري حتى دخل يوليوس إلى منزلٍ خشبي كبير غير مخطَّط جيدًا يضمُّ حديقة غيرَ مسيَّجة ومُدرَّجة. قاد كلود إلى الجَناح ودخَلا من بابٍ زجاجي إلى غُرفةٍ كبيرة، كانت ثلاثةُ جُدران منها عبارةً عن نوافذ بأعلى المنجور. وجد الغُرفة مُمتلئة بالفِتيان والشباب الذين كانوا جالسين على أرائك، أو جاثمين على أذرُع مَقاعد كبيرة مُنجَّدة، ويتحدثون جميعًا في وقتٍ واحد. وعلى واحدة من تلك المقاعد، كان يضطجعُ شابٌّ يرتدي سُترة تدخين، ويقرأ بهدوء كما لو كان بمفرده.

قال المُضيف: «خمسةٌ من هؤلاء إخوتي، والباقون أصدقاء.»

تعرَّف الجمع على كلود وأشرَكوه في الحديث معهم عن المباراة. ولما ذهَب الضيوف، قدَّم يوليوس إخوتَه إليه. اعتقد كلود أن جميعهم فِتيانٌ لُطفاء، وأنهم مُؤدَّبون ومرِحون. كان الثلاثة الكبار يعملون، ولكنهم أيضًا ذهبوا إلى المباراة التي أُقيمت بعد ظهر ذلك اليوم. لم يسبق لكلود أن قابَل إخوةً يتحدثون هكذا بصراحة وانفتاح شديدَين بعضهم مع بعض. لقد وجدهم ودودين جدًّا؛ تقدَّم إليه الأخ المضطجع كي يُصافحه، وحافَظ على المكان الذي توقَّف عنده في الكتاب بإصبعه.

كان يوجد على طاولة في منتصف الغُرفة غلايينُ وصناديقُ تبغ، وسيجار في جَرَّة زجاجية، ووعاءٌ صيني كبير ممتلئ بالسجائر. بدا هذا الأمر هو الأبرزَ بالنسبة إلى كلود؛ لأنه في منزله كان يُضطرُّ إلى التدخين في حظيرة الأبقار. أذهله عددُ الكتب تقريبًا بالقدر نفسِه؛ فجميع المنجورات في الغُرفة كانت مُصمَّمة بحيث تكون أرفُفَ كتبٍ مفتوحة، وكانت مُمتلئة بالمُجلَّدات الكبيرة والصغيرة، التي بدَت جميعُها مُثيرةً للاهتمام ومُستخدَمةً بكثرة. كان أحدُ الإخوة في حفلٍ الليلةَ الماضية، ولما عاد إلى المنزل وضعَ ربطة عنقه حول رقبة تمثال صغير من الجصِّ للشاعر بايرون الذي كان يقبع على رفِّ الموقد. لم ينجذب انتباه كلود إلى شيء في الغُرفة أكثرَ من ذلك الرأس، وربطة العنق تلك الموضوعة على نحوٍ جذَّاب، ولسببٍ ما جعلاه على الفور يتمنَّى لو كان يعيش هناك.

أحضر يوليوس والدته، وعندما ذهبوا لتناوُل العشاء أُجلِس كلود بجانبها على أحد طرَفَي الطاولة الطويلة. بدَت السيدة إرليش صغيرة السِّن جدًّا على أن تكون على رأس تلك العائلة. لم يفقد شعرُها البُنِّي لونَه، وكان ينساب على أُذنَيها ويلتفُّ في ضفيرتَين صغيرتين مثل السيدات التي تظهر في الصور الداجيرية القديمة. وجهُها كذلك كان يُوحي بأنها سيدةٌ من عصر تلك الصور؛ إذ كان به شيءٌ غريب وعتيق الطِّراز. بَشرتها كانت بيضاءَ ناعمةً مثل الزهور البيضاء التي بلَّلها المطر. كانت تتحدث بإيماءاتٍ سريعة، وكانت إيماءتها البسيطة المقصودة غريبةً وغيرَ مفهومٍ كُنهُها. كانت تنظر بترقُّب بعينَيها ذاتِ اللون البندقي من فوق النظَّارة المُستقرَّة على أنفها، وتُراقِب دائمًا الأمور حتى تتأكد من سيرها على نحوٍ جيد، وتبحث دائمًا عن جنِّية ألمانية طيِّبة في الخِزانة أو وعاء الكعك، أو في البخار الصاعد في يوم الغسيل.

كان الأولاد يُناقشون أمر خِطبة أُعلنَ عنها للتَّو، وبدأت السيدة إرليش تحكي لكلود قصةً طويلة عن الطريقة التي أتى بها ذلك الشابُّ الألمعي إلى لينكن وقابَل تلك الفتاة الجميلة التي كانت مخطوبة بالفعل لشابٍّ مُتبلِّد المشاعر وتقليدي، وكيف فسخَت الفتاة خِطبتها من الرجل الخطأ بعد عديد من الخلافات الشديدة، وخُطِبت إلى الرجل المُناسِب، وباتت السعادة تغمرُهما الآن، وطلبَت من كلود أن يُصدقها في أن الجميع كانوا سُعداء بالقدر نفسه! في منتصف القصة، ذكَّرها يوليوس مُبتسِمًا أنه ما دام كلود لا يعرف هذين الشخصَين، فلا يُرجى اهتمامه بقصتهما الرومانسية، ولكنها نظرَت إليه من فوق نظَّارتها الأنفيَّة، وقالت: «هكذا إذَن، يا سيد يوليوس!» لا ريب أنها كانت نِدًّا لهم.

أخذ الحوار ينتقل من موضوع إلى آخَر. وبدأ النقاش يحتدُّ بين الأولاد حول فتاةٍ جديدة كانت تزور المدينة؛ هل هي جميلة، وما مقدار جمالها، وهل هي ساذجة؟ رأى كلود الحديث وكأنه مشهد في مسرحية. إذ لم يسبق له من قبلُ أن سمِع إنسانًا يتمُّ تناوله وتحليله بتلك الطريقة. لم يسبق أن سمِع حوارًا عائليًّا بهذا القدر، أو بهذا القدر من الحماسة. هنا اختفى كلُّ التحفُّظ البغيض الذي دائمًا ما كان يكتنفُه في التجمُّعات العائلية، ولم يكن هناك حرجٌ من أن يجلس أفراد العائلة واضعين أيديَهم في حجرهم، وينظر بعضُهم إلى بعض، ولا يحاول أيٌّ منهم أن يُخفيَ مكنونات قلبه، سواء من سرٍّ أو شك، مع السعي إلى الانتقال إلى موضوع لا يُثير البلبلة. ذُهِل أيضًا من وفرة الكلام؛ فكيف لأُناسٍ أن يجدوا هذا الكمَّ من الكلام عن فتاةٍ واحدة؟ لا ريب أنَّ قدرًا كبيرًا منه بدا بعيد الاحتمال بالنسبة إليه، ولكنه اعترف آسفًا أنه ليس حَكمًا في تلك المسائل. ولما عادوا إلى غُرفة المعيشة، بدأ يوليوس في العزف على الجيتار، وبدأ أخوه المُلتحي في القراءة. ولما رأى أوتو — الأخ الأصغر — مجموعة من الطلاب يمرُّون من جانب المنزل، هُرِع إلى الحديقة ونادى عليهم كي يدخلوا؛ كانوا فتَيَين وفتاةً مُتورِّدة الخدَّين ترتدي شالًا من الفرو. عمدَ كلود إلى زاوية، وكان سعيدًا بشدة بأن يكون في موقف المشاهد، ولكن سُرعان ما أتت السيدة إرليش وجلسَت بجانبه. ولما فُتحت الأبواب المؤدية إلى الصالة، لاحظَت أن عينَيه كانت تشردان إلى صورةٍ منقوشة مُعلَّقة أعلى البيانو لنابليون، ودفعته إلى الذَّهاب عندها والنظر إليها. أخبرته أنها صورةٌ منقوشة نادرة، وأرَتْه بورتريه لجَدِّها الأكبر الذي كان ضابطًا في جيش نابليون. أما عن قصة كيفية الحصول على هذه الصورة، فيطول شرحها.

بينما كانت تتحدَّث السيدة إرليش إلى كلود، اكتشفت أن عينَيه ليستا شاحبتَين في حقيقة الأمر، ولكنهما كانتا تبدُوان كذلك بسبب رموشه ذات اللون الفاتح. كان بإمكانهما قول الكثير عندما كانتا تنظران مباشرةً إلى عينَيها، وهي أحبَّت ما كانتا تقولانه. وسرعان ما اكتشفَت تعاسته؛ مدى كُرهه لكلية تمبل، ولماذا رغبت والدته في أن يلتحق بها.

لما غادَر الطلاب الثلاثة الذين دُعوا إلى الدخول وهم يمرُّون من جانب المنزل، نهض كلود هو الآخَر. من الواضح أنهم كانوا مُعتادين على ارتيادِ المنزل، وخروجهم غير المُكترِث وأسلوبهم المرح لما قالوا «ليلة سعيدة على الجميع!» لم يُعطياه أيَّ اقتراحات عملية بشأن ما ينبغي له قوله الآن أو الطريقة المثلى للخروج. يوليوس صعَّب الأمور أكثر لما طلب منه أن يجلس لأنه لم يحِنْ وقت الذَّهاب بعد. ولكن السيدة إرليش أخبرته أن هذا الوقت قد حان لأن المسافة إلى كلية تمبل بعيدة.

كان الأمر في الواقع غايةً في البساطة. مشَت معه إلى الباب، وأعطَته قُبَّعته وربَّتَت على ذراعه على نحو مُودِّع. وقالت: «ستأتي كثيرًا لزيارتنا. وسنُصبح أصدقاء.» اقتربَت جَبْهتها التي تنسدل عليها خصلات شعرها البُنِّي المُنمَّق من أسفل ذقن كلود، وحدَّقَت فيه وفي عينَيها هذا التعبيرُ الغريب المُفعَم بالأمل، وكأن … وكأنه قد يُحقِّق نجاحًا في حياته! بالتأكيد، لا أحدَ رمَقه بنظرة كتِلكَ من قبل.

تمتمَ إليها من دون حرج تمامًا: «كانت أُمسيةً جميلة»، وفي سعادةٍ لفَّ مَقبِض الباب الزجاجي وخرج منه.

بينما كان قطار الشحن يمشي مُتباطئًا في الريف ذي الجو الشتوي، مُخلِّفًا وراءه خطًّا أسوَد مُعلَّقًا في الهواء الساكن، استرجع كلود تلك التجرِبة بكل ما فيها، وكأنه كان يخشى أن ينسى شيئًا منها عندما يصل إلى منزله. كان بإمكانه أن يتذكر بدقةٍ كيف عامَلتْه السيدة إرليش والأولاد في تلك الليلة الأولى، وأن يُكرِّر تقريبًا كل كلمة ورَدَت في الحوار الذي كان يُعَد جديدًا للغاية بالنسبة إليه. ظنَّ حينها أن آل إرليش أثرياء، ولكنه اكتشف بعد ذلك أنهم فقراء. لقد تُوفي الأب، واضطُرَّ كل الأولاد إلى العمل، حتى الذين لا يزالون في المدرسة. اكتشف أنهم كانوا يعرفون كيف يكسبون عيشهم، وأنهم كانوا يُنفقون أموالهم على أنفُسهم بدلًا من الآلات التي تُنجِز الأعمال والآلات التي تُروِّح عن الناس. كان يرى كلود أن الآلات لا تستطيع أن تصنع السعادة مَهْما كانت الأمور التي كانت تُنجزها. كما أنها لا تستطيع خلقَ أناسٍ لُطفاء. وبحسبِ ما كان يرى، فإن الأمر الأخير يتحقَّق من خلال الممارسة الحصيفة تقريبًا لكل شيء تعلَّم أن يتجنب الخوض فيه.

منذ الزيارة الأولى تلك، بالتأكيد لم يذهب كلود إلى منزل آل إرليش بالقدر الذي تمنَّاه، وإنما ذهب بالقدر الذي كانت تسمح به جرْأته. يبدو أن بعضًا من طلاب الجامعة كانوا يذهبون هناك في الوقت الذي يُريدونه وكأنهم أفراد من العائلة، ولكن مَظهرهم كان أفضلَ من مظهره، وصُحْبتهم أفضل من صُحْبته. بالتأكيد كان باومجارتنر الطويل القامة صديقًا مُقرَّبًا من تلك العائلة، وقد كان فتًى أخرَق ذا يدَين حمراوين كبيرتين ويَلبَس حذاءً به بُقعٌ مُلوَّنة، ولكنه على الأقل كان يستطيع التحدث بالألمانية مع الأم، ويعرف كيفية العزف على البيانو، ويبدو أنه كان يعرف الكثير عن الموسيقى.

لم يُرِد كلود أن يبدوَ مُملًّا. فعندما كان يُغادِر المكتبة في بعض الأحيان في المساء كي يُدخِّن سيجارًا، كان يمشي مُتباطئًا بالقرب من منزل آل إرليش، وينظر إلى النوافذ المُضيئة لغُرفة الجلوس، ويتساءل عمَّا يدور بالداخل. وقبل أن يذهب إلى هناك لزيارتهم، كان يُفكر في أشياء يتحدث عنها. وبالطبع كان يُساعِده في ذلك إذا كانت هناك مباراةُ كرة قدم أو مسرحية جيِّدة في المسرح.

تقريبًا من دون أن يُدرِك ما كان يفعله، حاوَل أن يُفكر مليًّا في الأشياء ويُبرِّر آراءه لنفسه؛ حتى يجدَ ما يقوله عندما يسأله أولاد إرليش عنها. لقد نشأ على قناعة أنه ليس من مَقامه أن يُبرِّر آراءه، تمامًا كما يجب عليه الاهتمام بمَلبسه أو ألَّا يَضبطه أحدٌ وهو يُحاوِل جاهدًا فِعل شيءٍ ما. كان إرنست هو الشخص الوحيد الذي يعرفه، والذي كان يُحاوِل أن يذكر بوضوحٍ سبب اعتقاده بشأن هذا أو ذاك؛ ولذا كان يعتقد الناسُ في المكان الذي يعيش فيه أنه مغرورٌ وغريب جدًّا. لم يكن من طابع الأمريكيِّين أن يُبرِّروا آراءهم؛ ليس عليك أن تفعل ذلك! في المزرعة، يمكن أن تُعبِّر عن رأيك بشأن أي شيء؛ تقول مثلًا إن روزفلت مُحقٌّ أو مجنون. لكن لا يُفترض أن تقول المزيد ما لم تكن خطيبًا سياسيًّا؛ أي إذا حاولتَ أن تقول المزيد، فهذا لأنك تحب أن تسمع نفسك وأنت تتحدَّث. وما دمتَ لم تقل شيئًا قَط، فأنت لم تُنمِّ عادة التفكير لَدَيك. وإذا أحسستَ بقدرٍ كبير من المَلل، كان عليك أن تذهب إلى المدينة وتشتريَ شيئًا جديدًا.

لكن كل الناس الذين قابَلهم في منزل إرليش كان يُمكِنهم التحدث. إذا سألوه عن مسرحية أو كتاب وقال إنه «ليس جيدًا»، فسيَسألونه على الفور عن السبب. ظنَّ أفراد آل إرليش أنه شخصٌ هادئ، ولكن كلود يظنُّ نفسه مُذهلًا في بعض الأحيان. هل يمكن لكلود أن يُعبِّر عن آرائه بهذا الأسلوب الفَظ؟ لاحَظ في نفسه أنه كان يستخدم كلمات لم تمرَّ من بين شفتَيه من قبل، ولم يُصادِفها عقلُه في غير الأعمال المطبوعة. عندما كان يُدرِك فجأةً أنه يستخدم كلمةً ما للمرة الأولى، وربما يُخطئ في نطقها، كان يرتبكُ بشدة وكأنه يُحاوِل أن يشتريَ بعملةٍ مُزيَّفة من الرَّصاص؛ إذ كان يحمرُّ وجهه ويتلعثم، ويترك أحدًا غيرَه يُكمِل الجملة له.

لم يستطِع كلود في بعض الأحيان مُقاوَمةَ الذَّهاب إلى منزل آل إرليش فيما بعد الظهيرة؛ وفي ذلك الوقت كان لا يوجد الأبناء في المنزل، ويُمكِن أن يجلس مع السيدة إرليش بمُفرَدهما لمدة نِصف الساعة. عندما كانت تتحدَّث معه، كانت تُعلِّمه الكثير جدًّا عن الحياة. أحبَّ أن يسمعها وهي تُغنِّي أغانيَّ ألمانية عاطفية وهي تعمل، مثل «اغزِلي، اغزِلي، يا ابنتي العزيزة». لم يعرف السبب، ولكنه ببساطةٍ أحبَّ الأمر بشدة! في كل مرة كان يخرج من عندها، كان يشعر بالسعادة وتغمره الطِّيبة، وكان يُفكر في الغابات التي تنتشر بها أشجارُ الزان والمدن المُسيَّجة أو في كارل شورز والثورة الرومانسية.

ذهب كي يرى السيدة إرليش قبل أن يذهب إلى المنزل لقضاء الإجازة، ووجدها تُعِد كعك عيد الميلاد الألماني. أخَذَته إلى المطبخ وشرحَت له التقاليدَ شِبه المُقدَّسة التي تحكم طريقة تحضير هذه الأكلة المُعقَّدة. رأى كلود أنَّ حماستها وجِدِّيتها وهي تخفق المُكوِّنات وتُقلبها كانتا رائعتَين بشدة. عدَّدَت له على أصابعها المكوناتِ الكثيرةَ للكعك، ولكنه اعتقد أن هناك مكوناتٍ لم تذكرها؛ وهي رائحة الصداقات القديمة، ووهج الذكريات الأولى، والإيمان بالقصائد والأغاني القادرة على فعل العجائب. لا ريب أن هذه أشياءُ جيدة تستحقُّ أن تُوضَع في الكعك الصغير! بعدما تركها كلود، فعل شيئًا لم يفعله أحدٌ من عائلة ويلر؛ ذهب إلى شارع أوه وأرسل إليها باقةً من أكثر الزهور حُمرة. وكان يحتفظ في جيبه برسالة الشكر القصيرة التي كتبَتها من أجله.

٧

أوشك الظلام أن يُرخِيَ أستارَه عندما وصل كلود إلى المزرعة. وبينما توقَّف رالف كي يَركن السيارة، مشى هو بمفرده إلى المنزل. لم يسبق أنْ عاد من دون أن تَسكُنه العواطف، رغم أنه حاوَل مِرارًا وتَكرارًا أن يتغاضى عن مرَّات المغادرة والرجوع هذه التي كانت جميعُها مُعتادةً بالنسبة إليه. عندما كان يصعد إلى التل بتلك الهيئة مُتجهًا إلى البيت العالي ذي النوافذ المُضيئة، دائمًا ما كان ينقبض قلبُه. كان يُحب العودة إلى المنزل ويكرهها في الوقت نفسِه. كان مُحبَطًا على الدوام، ولكن دائمًا ما كان يستشعر صوابَ العودة إلى منزله. وحتى عندما كان يُثبِّط معنوياته ويُحطِّم كبرياءه، كان يشعر أن الصواب في أن يظلَّ مُتواضِعًا هكذا. لم يشكَّ في أن أسوأ الحالات المزاجية هي أصدقُها، وأنه كُلَّما نأى الإنسان عن التفكير في نفسِه، زاد احتمالُ أن يكون مُصيبًا في تقديره.

لما اقترب كلود من الباب، توقَّف لحظةً ونظر إلى الداخل من نافذة المطبخ. رأى الطاولة مُعَدَّة للعشاء وماهيلي واقفة عند المَوقد تُقلِّب شيئًا في قِدرٍ حديدي كبير؛ على الأرجح عصيدة دقيق الذُّرة؛ فهي كثيرًا ما تطهو هذه الأكلة لنفسها؛ لأن أسنانها بدأت في السقوط. لقد كانت تقفُ مَحنيَّة تُمسِك بإحدى يدَيها القِدر، وتضرب باليد الأخرى المُكوِّناتِ الصُّلبة، وتومئ برأسها بنفس إيقاع هذه الحركة الدوَّارة. تصاعدت عواطف مُضطرِبةٌ داخل كلود. ودخل مُسرعًا واحتضنها بقوة.

تجعَّد وجهها وهي تبتسمُ الابتسامةَ الساذَجة التي كان يعرفها جيدًا. وقالت: «يا إلهي، كم أرعبتَني يا سيد كلود! لو زدتَ قليلًا لسقطَت مني العصيدة كلُّها على الأرض. تبدو بخير، أيها الفتى اللطيف!»

كان يعرف أن ماهيلي تَسعدُ بعودته إلى المنزل أكثرَ من أي أحد آخَر عدا والدته. ولما سَمِع وقْعَ خُطوات والدته المُتنقِّلة وغير الواثقة على السُّلَّم المُسيَّج، فتح الباب وجرى كي يُقابِلها في منتصف السُّلَّم واحتضنها بقوة بعضَ الشيء، ولكن بحنانٍ كان يشعر به دومًا، ولكن نادرًا ما كان يستطيع إظهارَه. مدَّت كِلتا يدَيها باتجاهه وربَّتَت على شعره للحظة، وأخذت تضحك كما يفعل المرء مع الصبي الصغير، وتُخبره بأنها تظنُّ أنَّ حُمرة شعره تزداد في كل مرة يعود فيها.

«هل حصَدْنا كلَّ الذُّرة يا أمي؟»

«كلَّا يا كلود، لم نفعل. تعلم أننا دائمًا مُتأخِّرون. كان الطقس جيدًا، ومُناسبًا للتقشير أيضًا. ولكننا على الأقل تخلَّصنا من هذا البائس الذي يُدعى جيري، وهذا شيءٌ محمود. ما حدث أنه لما كان في المدينة في أحد الأيام، دخل في نوبة غضب شديدة وهو عائد إلى المنزل، ورآه ليونارد دوسن وهو يضربُ أحد خيولنا بمقرن الرقبة. أخبر ليونارد والدَك وعبَّر عن رأيه بصراحة، وعليه طردَ والدُك جيري. لو أخبرتَه أنت أو رالف بالأمر، فعلى الأرجح ما كان يُرجى أن يتَّخذ أيَّ إجراء. ولكني أظنُّ أن كل الآباء على هذا المِنوال.» انطلقَت منها ضحكةٌ خافتة على نحوٍ واثق، وأخذت تتَّكئ على ذراع كلود وهما ينزلان على السُّلَّم.

«أظن ذلك. هل تأذَّى الفَرس كثيرًا؟ أي فرس كان يضربه؟»

«الفرس الصغير الأسوَد، بومبي. أعتقد أنه فَرسٌ سيِّئ بعضَ الشيء. يقول الناس إن إحدى العظام الموجودة فوق عينه قد كُسِرت، ولكنه على الأرجح سيَتعافى ويُصبح بحالٍ جيدة.»

«بومبي ليس سيئًا؛ إنه عصبي. كل الخيل يكره جيري، ولديهم الحقُّ في ذلك.» هزَّ كلود كتفه كي يطردَ صور هذا النَّذل المُثيرة للاشمئزاز التي استرجعَها عقلُه. سبَق أنْ رأى أشياء تَحدُث في الحظيرة ولم يستطع أن يُخبِر والده عنها على الإطلاق. دخل السيد ويلر إلى المطبخ، وتوقَّف في طريقه وهو صاعدٌ إلى الطابق العُلوي بعضَ الوقت ليقول: «مرحبًا يا كلود. تبدو بصحةٍ جيدة جدًّا.»

«نعم يا أبي. أنا بخير، شكرًا لك.»

«أخبرَني بايليس أنك كنتَ تلعب كرة القدم كثيرًا.»

«ليس أكثرَ من المُعتاد. لعِبْنا ستَّ مباريات، واستطعنا الفوز فيها بوجهٍ عام. ولكن جامعة الولاية لديها فريقٌ رائع.»

ردَّ السيد ويلر مُتشدِّقًا وهو يصعد السُّلم: «توقَّعتُ ذلك.»

مرَّ العَشاء كالمُعتاد. ظلَّ دان يبتسم ابتسامةً عريضة ويغمز إلى كلود؛ إذ كان يُحاوِل أن يعرف إن كان قد عَلِم بالفعل بما آل إليه مصيرُ جيري أم لا. أخبرَه رالف بما جرى في الجوار؛ جارهم الألماني جاس يودر رفَع قضية ضدَّ مُزارِع أطلَق النارَ على كلبه. كما أن ليونارد دوسن كان يعتزم الزواج من سوزي جراي. تذكَّر كلود أنها الفتاة التي صفع ليونارد بايليس بسببها.

بعد العشاء، خرج رالف والسيد ويلر بالسيارة لحضور احتفال بعِيد الميلاد في مبنى مدرسة البلدة. جلس كلود وأمُّه كي يَحظَيا بحديثٍ هادئ بجانب المِدفأة التي تعمل بالفحم الصُّلب في غُرفة المعيشة بالطابَق العُلوي. كان كلود يُحبُّ هذه الغُرفة، خاصةً عندما يغيب والده عن المنزل. السجَّادة القديمة والكراسيُّ الباهتة اللون وطاولة الكتابة والنقش المُهترئ البادي على الأريكة، والمستمَدَّة كافَّة المشاهد البادية عليه من كتاب «رحلة الحاج»؛ كانت تُشعره هذه الأشياءُ بالراحة الشديدة. كثيرًا ما كان رالف يقترح إعادة تأثيث الغُرفة باستخدام خشب البلُّوط، وأسلوب التصميم القائم على البساطة وقلة الزخرفة، ولكنَّ كلود ووالدته حافَظا عليها بشكلها الحالي حتى ذلك الحين.

جلس كلود على كرسيِّه المفضَّل وبدأ يُخبِر والدته عن أولاد إرليش وأمهم. استمعت إليه ولكنه لاحَظ أنها كانت مُهتمةً أكثر بأحوال آل تشابين، وهل تحسَّن حَلقُ إدوارد أم لا، وأين يعظُ هذا الخريف. كانت تلك واحدةً من الأشياء التي كانت تُثبِّط رغبته في العودة إلى المنزل؛ كان لا يُمكنه قطُّ أن يُثير اهتمام والدته بأي أشياء جديدة أو أشخاصٍ جُدُد إلا إذا كانوا مُرتبِطين بالكنيسة بنحو أو بآخَر. كان يَعلم أيضًا أنها دائمًا ما تَتمنَّى أن تسمع أنه في النهاية شعَر بالحاجة إلى أن يكون قريبًا أكثر من الكنيسة. إنها لم تكن تُلحُّ عليه فيما يتعلق بهذه الأشياء، ولكنها أخبرَته مرَّةً أو مرَّتَين أنْ لا شيء يمكن أن يَحدُث في العالم ويُسعِدها أكثر من أن تراه قريبًا من الرَّب. ولما تحدَّث معها عن آل إرليش، أدرَك أنها كانت تتساءل عمَّا إذا كانوا من «أهل الدنيا» بشدة أم لا، وخشيَت من تأثيرهم عليه. لم تَسِر الأمسيةُ على النحو المطلوب؛ ومن ثَم ذهب إلى الفِراش مُبكِّرًا.

كان كلود يمرُّ بوقتٍ عصيب؛ إذ كان يعتصره الشكُّ والخوف عندما يُفكر كثيرًا في الدين. ظلَّ عدةَ سنوات — من سنِّ الرابعة عشرة إلى الثامنة عشرة — يعتقد أنه سيَضيع إذا لم يَتُب ويخضع لهذا التغيير الغامض المُسمَّى بالهداية. ولكن كان بداخله شيءٌ عنيد يَحول دون استفادته من هذا العفو المُقدَّم. كان يشعر بالذنب، ولكنه كان لا يريد أن يزهد في عالَم لا يعرف عنه شيئًا حتى الآن. كان يريد أن يخوض غِمار الحياة بكل قوَّته، مُطلِقًا العِنان لكل ملَكاته. لم يُرِد أن يكون مِثل الشباب الصغير الذين يقولون في اجتماعات الصلاة إنهم يعتمدون على مُخلِّصهم. لقد كان يكرهُ طريقتهم في القَبول الخانع للمُتَع المُباحة.

في تلك الأيام، كان لديه خوفٌ جسدي شديد من الموت. كانت أيُّ جنازة — مَشهد أحد الجيران وهو راقدٌ مُتيبِّس في نعشه الأسود — يملأ أوصاله بالرُّعب. اعتاد أن يستلقيَ مُستيقظًا في الظلام ويُفكر في الموت، ويُحاوِل أن يضعَ خُطة للهروب منه، ويَتمنَّى غاضبًا لو لم يُولَد من الأساس. ألا تُوجَد طريقة للخروج من العالَم غير تلك؟ عندما كان يُفكر في ملايين المخلوقات الوحيدة المُتحلِّلة تحت الأرض، لا يرى الحياة سوى فخٍّ يَصيد الناس ويُنهي حياتهم نهايةً مُروِّعة. لم يظهر على الأرض إنسانٌ مهما بلَغ من القوة والصلاح استطاع الهروبَ من الموت. ولكنه كان يتسلل إليه شعورٌ أكيد في بعض الأحيان بأنه هو — كلود ويلر — سيستطيع الهروبَ من الموت؛ كان يعتقد في واقع الأمر أنه سيَبتكر تحولًا ذكيًّا ما كي يُنقذ نفسه من التحلل. وعندما يعثر عليه فلن يُخبِر أحدًا؛ سيَكون ماكرًا وسيُبقي الأمر طيَّ الكتمان. التعفُّن، التحلُّل … كان لا يستطيع أن يُسلِّم جسده الجميل الذي ينبض بالحياة إلى هذا الفساد! ما الذي تَعنيه تلك الآيةُ الواردة في الكتاب المُقدَّس التي تقول: «لن تدَع تقيَّك يرى فسادًا»؟

إن كان هناك شيء يمكن أن يَشفيَ صدر فتًى ذكي من المخاوف الدينية المرَضيَّة، فإنه كُلِّية دينية مِثل تلك التي أُرسلَ إليها كلود. لقد نبَذ الآن كلَّ اللاهوت المسيحي لأنه يراه مليئًا بالمُراوَغات والمُغالَطات، بحيث يصعب الاعتماد عليه. كان مُتأكدًا أن مَن وضعوه لا يختلفون عمَّن يُدرِّسونه. ووَفقًا لنظريتهم، يمكن أن يذهب للجحيم أنبَلُ الناس، في حينِ يمكن أن يُنقَذ أي إنسان وضيع الأخلاق بسبب إيمانه. «الإيمان» — كما رآه يتجسَّد في أعضاء هيئة التدريس بكلية تمبل — يُستعاض به عن معظم الصفات الإنسانية التي يُعجَب بها. كان يريد الشباب أن يُصبحوا قساوسةً لأن الخجل أو الكسل دَرْبهم، ويريدون للمجتمع أن يقوم على رعايتهم، ولأنهم يريدون أن تُدلِّلهم نساءٌ لطيفات وبريئات، مثل والدته.

على الرغم من أن كلود لم يهتمَّ باللاهوت وعلماء اللاهوت، فإنه كان سيقول إنه مسيحي. إنه كان يؤمن بالرب وبقدسيَّة الأناجيل الأربعة وبعِظة الجبل. اعتاد أن يتوقف ويتأمَّل آية «طوبى للودعاء»، حتى إنه فكَّر في أحد الأيام أن تلك الآية نزلَت تحديدًا في أناسٍ مثل ماهيلي، ولا ريب أنها كانت مُبارَكة!

٨

في يوم الأحد الذي تلا عيدَ الميلاد، كان كلود وإرنست يتمشَّيان على ضِفاف نُهَير لافلي كريك. مشَيَا إلى نهاية أرض الغابة التي كانت تتبعُ السيد ويلر وعادا. بدا الوقت وكأنه عصرُ يومِ خريف؛ إذ كان الجوُّ دافئًا جدًّا لدرجة أنهما ترَكا مِعطفَيهما على أحد الأغصان الكبيرة لشجرةِ دردارٍ مُلتوية بجوار سياج المراعي. بدَت الحقول وقِمم الأشجار العارية وكأنها تَسبح في الضوء. كانت لا تزال بعض الأوراق الذابلة مُعلَّقة في الأشجار الكثيفة على طول النُّهير. في المرعى العُلوي الذي يقع على مسافةٍ تَزيد على ميلٍ من المنزل، وجد الفتَيان كَرْمةً ثمارها ذاتُ مذاقٍ حُلو ولاذع، تلتفُّ حول شجرة قرانيا صغيرة وتُغطيها بالتوت القِرمزي. كان الأمر أشبَه بإيجاد شجرة عيد ميلاد تنبت على نحوٍ طبيعي خارج المنزل. كانا يتحدثان عن بعض الكتب التي أحضَرها كلود إلى المنزل، وعن مُقرَّر التاريخ الذي يَدرُسه. لم يستطِع كلود أن يُخبِر إرنست عن المحاضرات بالقدر الذي أراده، وشعَر أن الجزء الأكبر من الخطأ في هذا الشأن يقع على عاتق إرنست؛ إذ لم يكن ذا عقليةٍ واسعة الخيال. وعندما وصلا إلى الكَرمة التي ثمارها ذات مذاق حُلو ولاذع في الوقت نفسِه، نَسِيا مناقشتَهما واندفعا إلى الضفَّة كي يتأمَّلا العناقيد الحمراء المُتدلِّية من شجرة الكرم ذات اللون الرمادي وأوراقها الذهبية الذابلة التي لا تحتاج إلى أكثر من لمسةٍ كي تسقط على الأرض. كانت تختفي الكرمة والشجرة الصغيرة التي تُظلِّلها في شقِّ وادٍ؛ ومن ثَم نجَتا من الرياح العاتية ومن أعيُن التلاميذ الذين كانوا يأخذون طريقًا مُختصَرًا إلى المنزل عبر المراعي في بعض الأحيان. وعند جذورها، كان النُّهير يتَهادى ببطء وقد تحوَّل ماؤه للَّون الأسوَد بين طبقتَين مُتعرِّجتَين من الجليد الذائب.

لمَّا غادَرا المكان وصَعِدا مرَّةً أخرى وأصبحا على الأرض المُستوية، شعَر كلود مرَّةً أخرى بضرورةِ أن يُخرِج إرنست من مِزاجه المُعتدِل والعقلاني.

«ما الذي ستفعله بعد ذلك يا إرنست؟ هل ستبقى مُزارِعًا طَوال حياتك؟»

«هذا طبيعي. لو كنتُ قد تعلَّمتُ مهنةً أخرى لسَبقتُ إليها منذ زمن. ما الذي جعلك تسألُ عن ذلك؟»

«أوه، لا أعلم! أعتقد أن المرء يجب أن يُفكر في المستقبل أحيانًا. وأنت عمليٌّ للغاية.»

«أتتحدَّث عن المستقبل؟» وأغلَق إرنست إحدى عينَيه وابتسَم. «هذه كلمةٌ كبيرة. بعدما أمتلك مكانًا خاصًّا بي وأبدأ بدايةً جديدة، سأعود إلى دياري كي أرى أهلي يومًا ما. ربما سأتزوَّج فتاةً جميلة وأعود بها إلى هنا.»

«هل هذا كل شيء؟»

«هذا كافٍ، إذا تمَّ ذلك على خير، أليس كذلك؟»

«ربما. قد يختلف الأمر بالنسبة إليَّ. لا أظن أنني يمكن أن أستقرَّ يومًا على أي شيء. ألا تشعرُ على هذا النحو أنه لا يوجد الكثير فيها؟»

«في ماذا؟»

«في الحياة بوجهٍ عام، التي تجري على النحو الذي نعيشه. ما الذي نخرج به منها؟ لِأضرِبْ لك مثلًا بهذا اليوم؛ إنك تستيقظ في الصباح سعيدًا لأنك على قيد الحياة، إنه يومٌ مُناسِب للقيام بأي شيء وأنت مُتأكِّد من أن شيئًا سيَحدُث. وسواءٌ كان اليوم يومَ عمل أو إجازة، فالأمر سيَّانِ في النهاية. تَخلُد إلى النوم في الليل، ولم يَحدُث أي شيء.»

«ولكن ما الذي تنتظره؟ ما الذي يمكن أن يَحدُث لك إلا ما يدور في عقلك؟ إذا انتهيتُ من عملي، وفي العصر ذهبتُ كي أزور أصدقائي كما هو الآن، فهذا كافٍ بالنسبة إليَّ.»

«حقًّا؟ ما دُمْنا نعيش الحياة مرَّةً واحدة، فيبدو أنه من المُفترَض أن يكون هناك شيء … حسنًا، شيءٌ رائع في الحياة، أحيانًا.»

أصبح إرنست مُتجاوِبًا معه الآن. اقترَب من كلود أكثر وهما يتمشَّيان، ونظر إليه من طرَف عينَيه باهتمام. وقال: «أنتم، الأمريكيِّين، دائمًا ما تبحثون عن شيءٍ خارج أنفُسكم كي يمنحكم السعادة، ولكن لا سبيل إلى ذلك. في البُلدان القديمة حيث لا يمكن أن يحدث لنا الكثير، نحن نعلم ذلك … ونتعلم كيف نخرج بأقصى استفادة من الأشياء البسيطة.»

«لا بد أن الشهداء عثَروا على شيءٍ خارج أنفُسهم. وإلا لكان بإمكانهم الاكتفاء بالأشياء البسيطة.»

«عجبًا، يمكنني القول إنهم هم الأشخاص الذين لا يمتلكون شيئًا إلا فِكرتهم! من السُّخف أن يُعدَم المرء حرقًا من أجل فكرة. أعتقد أحيانًا أن الشهداء كان لديهم أيضًا قدرٌ كبير من الغرور ليُساعدهم في المُضيِّ قُدمًا في طريقهم.»

اعتقد كلود أنه لم يسبق أنْ رأى إرنست مُملًّا هكذا. نظر بعينَين نِصف مُغمَضتَين في شيء برَّاق عبر الحقول، وقال بنبرةٍ حادَّة: «إرنست، الحقيقة هي أنك تعتقد أن الإنسان ينبغي أن يرضى عن سكَنه ومَلبسه وإجازات الأحد، أليس كذلك؟»

ارتسمَت على وجه إرنست ضحكةٌ حزينة. «فِكرتي عن الحياة لا تُهمُّ كثيرًا؛ الأشياء لا تتغيَّر. أعتقد أنه لن ينزل شيء من السماء ويعلو بإنسان إليها.»

تمتمَ كلود بشيء لنفسه ولوى ذقنه من فوق ياقته وكأنَّ في فمه لِجامًا.

غابت الشمس، ولما رأت السيدة ويلر الفتَيَين من نافذة المطبخ، بدَوَا وكأنهما يمشيان بجانبِ حريقٍ كبير في أحد المُروج. ابتسمَت لما رأت خيالهما يتحرك بطول قمَّة التل تحت السماء الذهبيَّة؛ حتى من تلك المسافة بدا أحدهما مُتكيِّفًا جدًّا والآخر مُتمرِّدًا جدًّا. كانا يتجادلان على الأرجح، وعلى الأرجح أخذ كلود الجانب الخطأ.

٩

بعد الإجازة، عاد كلود مرَّةً أخرى إلى القراءة في مكتبة الجامعة. لقد كان يجلس على طاولة بجوار الكوَّة الموجودة في الجدار التي توجد فيها الكتبُ الخاصة بالرسم والنحت. كانت طالبات الفنون الجميلة — إذ كان كلُّ طلاب هذا القسم من الفتَيات — يَقرَأن ويَهمسن بعضهن مع بعض في هذا المكان، وكان هو يستمتع بصحبتهنَّ من دون أن يكون عليه التحدث إليهن. كانت هؤلاء الفتَيات يتمتَّعن بالحيوية واللطف؛ وغالبًا ما كنَّ يطلبن منه أن يرفع لهنَّ الكتبَ والمجلدات الثقيلة من الرفوف، ويُبادِلْنه التحية بمرحٍ عندما يُقابِلنه في الشارع أو في الحرَم الجامعي، وكنَّ يتحدَّثن معه بالأسلوب الودِّي المُعتاد بين الأولاد والفتَيات في مؤسسةٍ تعليمية مشتركة. واحدةٌ من هؤلاء الفتَيات، وهي الآنسة بيتشي ميلمور، كانت مختلفة عن الأُخرَيات؛ كانت مختلفة عن أي فتاة أخرى عرَفها كلود من قبل. كانت من جورجيا، وكانت تقضي الشتاء مع عمَّتها القاطنة في شارع بي.

على الرغم من أن الآنسة ميلمور كانت قصيرةً وبَدينة، فإنها كانت تمشي بخطواتٍ رشيقة، وكانت تتمتَّع بأدب وتحفُّظ أكثرَ من الفتَيات الغربيَّات. كان شَعرها أصفَر ومُجعَّدًا؛ الخصلات القصيرة القريبة من أذُنَيها كانت بلون الفَرْخ الصغير. كانت عيناها الزرقاوان البرَّاقتان جاحظتَين قليلًا، وخدَّاها مُتورِّدَين بشدة. بدا أن خدَّيها كانا ينبضان بالحيوية لدرجةٍ تدفع المرءَ إلى الرغبة في لمسهما؛ كي يرى هل هما ساخنان أم لا. كان يُطلِق عليها أبناءُ إرليش وأصدقاؤهم اسمَ «خوخة جورجيا». كانت الفتاة تُعَد غايةً في الجمال، وقد لفتَت أنظار فِتيان الجامعة عندما أتت إلى المدينة للمرة الأولى. ولكن منذ ذلك الحين، قلَّت شعبيَّتها بعضَ الشيء.

كثيرًا ما كانت الآنسة ميلمور تتلكَّأ في مغادرة الحرم الجامعي كي تذهبَ مع كلود إلى المدينة. ومهما حاوَل أن يضبط طريقةَ مشيه التي كانت بخطوات طويلة مع مشيتها الرشيقة، فكان لا بد لها أن تلهثَ وهي تُحاوِل اللَّحاق به. دائمًا ما كانت تُسقط قفَّازها أو كراسة الرسم خاصتها أو حقيبة يدها، وأحبَّ هو أن يلتقطها لها وأن يُساعدها في لُبْس الجُرمُوق المطَّاطي الذي كان ينزلق من عند الكعب. كان يعتقد أنها كانت طيبة جدًّا بحيث تخصُّه بالاهتمام وتكون ودودة جدًّا معه. أقنعَتْه حتى أنْ ترسمه بملابسه الرياضية كعارضٍ في محاضرة الرسم المُخصَّصة لذلك صباح يوم السبت، وأخبرَته أنه يمتلك «جسدًا رائعًا»، وهي مجامَلة أربكَته تمامًا. ولكنه فعل بالطبع ما أرادَته.

كان كلود يتطلَّع دائمًا لرؤية بيتشي ميلمور، وكان يفتقدها إذا لم يجدها في المكان الخاص بطالبات الرسم في المكتبة، ولا يرى غضاضةً في ضرورة أن تشرح له سببَ غيابها، وتُخبره كم مرةً كانت تغسل شَعرها وطوله عندما كانت تفكُّه.

في أحد أيام الجمعة من شهر فبراير، قابَل يوليوس إرليش كلود في الحرم الجامعي، واقترح عليه أن يذهَبا للتزلُّج في اليوم التالي.

رد كلود: «حسنًا، سأذهب. لقد وعدت الآنسة ميلمور أن أُعلِّمها التزلُّج. ألن تأتيَ كي تُساعدني؟»

ضحكَ يوليوس بلطف. «أوه، كلَّا! في وقتٍ آخر. لا أريد أن أُقحِم نفسي في ذلك.»

«هُراء! يمكنك أن تُعلِّمها أفضل مني.»

«أوه، لا أمتلك الشجاعة!»

«ما الذي تقصده؟»

«أنت تعرف قصدي.»

«كلا، لا أعرف. على أي حال، لماذا دائمًا ما تضحك عندما ترى تلك الفتاة؟»

عبَس يوليوس قليلًا. «لقد كتبتُ بعض الرسائل العاطفية إلى فيل بوين، وقرأها هو بصوتٍ عالٍ في مساكن الطلاب في إحدى الليالي.»

سأل كلود بعدما استشاط غضبًا: «ألمْ تصفعه؟»

رد يوليوس مُبتسمًا: «حسنًا، فكَّرتُ أن أصفعَه، ولكني لم أفعل. كانت الرسائل سخيفة جدًّا لدرجةٍ جعلَتني لا أودُّ إثارة ضجَّة حولها. أصبحتُ مُتحفِّظًا تجاه خوخة جورجيا منذ ذلك الحين. وإذا تعاملت برقةٍ مع هذا النوع من الشخصيات، فربما يبقى مُلتصِقًا بك.»

رد كلود بغرور: «لا أعتقد ذلك. كل ما هنالك أنَّها طيبة القلب.»

ردَّ يوليوس مُعترِفًا: «ربما أنت على حق. ولكني أخاف كثيرًا من الفتَيات الطيِّبات القلب بشدة.» لقد أراد أن يُحذِّر كلود بشأنها منذ وقتٍ طويل.

لم يقطع كلود علاقته بالآنسة ميلمور. أخذها إلى بِركة التزلُّج عدةَ مرَّات، رغم أنه عبَّر لها في البداية عن خوفه من أن يكون كاحلاها ضعيفَين للغاية. قضيا نُزهتهما الأخيرة في ضوء القمر، وبعد ذلك المساء تَحاشى كلود مقابلةَ الآنسة ميلمور قَدْر الإمكان من دون أن يكون فظًّا معها. لم تعد جذَّابة بالنسبة إليه. كانت طريقتها في إخضاع أي شخص تتمثَّل في التقرب منه وجعلِه يتعلَّق بها. يَكاد أن نُسمِّيَ هذا تخطيطًا، ولكنه درجةٌ أقلُّ من ذلك. سبَق أن أوقعَت بهذه الطريقة ابنَ عم لها شاحبَ البشرة في أتلانتا؛ ولهذا السبب أُرسلَت إلى الشمال. اعترف كلود غاضبًا بأن لا يوجد تحفُّظ لديها، على الرغم من أن مَظهرها كان يوحي بأنها تتمتع بقدرٍ كبير منه عند رؤيتها للمرة الأولى. لم يُغرِه فَرْط المشاعر لديها ولو بأقل قدر. لقد كان فتًى لديه غرائز قوية، وكان يمقت فكرة العبث بها. حكايات والده التي لا تنضبُ عن الرجال ذوي السمعة السيئة لم تُفسده، وإنما جعلَته يمقت بشدةٍ الشهوانية. في الحقيقة، كان لديه فخرٌ شديد بالعفة.

١٠

كان آل إرليش يُحبُّون حفلات الذكرى السنوية وأعياد الميلاد والمناسبات. في ذلك الربيع، أتت ابنةُ عم السيدة إرليش — فيلهلمينا شرودر شاتس — التي كانت تُغنِّي لصالح شركة شيكاجو أوبرا إلى لينكن لتُقدم عرضًا غنائيًّا مُنفردًا في مهرجان مايو. ولما كان قد اقترب مَوعد حفلها، بدأ أقاربها الترتيب من أجل الاحتفاء بها. خُطِّط أن تُقدِّم فِرقة ماتينيه ميوزيكال حفلَ استقبال رسميًّا لها؛ ومن ثَم قرَّر آل إرليش إقامة مأدبة عَشاء لها. دعا كل فرد في العائلة ضيفًا واحدًا؛ ولذا واجَهوا صعوبةً كبيرة في تحديد الصديق الذي يستحقُّ أن يحظى بهذا الشرف. كان الرجال سيُصبحون أكثرَ من النساء؛ إذ تذكَّرَت السيدة إرليش أن ابنة عمها فيلهلمينا لم تكن قطُّ تميل إلى صُحبة مَن هنَّ من نفس جنسها.

لما كان أولادها يُراجعون القائمة في إحدى الأمسيات، ذكَّرتْهم السيدة إرليش أنها لم تُسمِّ ضيفَها بعد. قالت بحسم: «أما عن ضيفي، فيُمكنكم كتابة اسم كلود ويلر.»

قُوبِل هذا القول بتذمُّر وضحك.

احتجَّ الابن الأكبر قائلًا: «أنتِ لا تقصدين ذلك يا أمي. كلود الطويل البائس لن يعرف الغرض من كل ما يدور حوله، ويمكن أن يُفسِد شخصٌ مُملٌّ واحدٌ مأدبةَ العشاء.»

أشارت السيدة إرليش إليه بإصبعها باقتناع. «سترى؛ ستهتمُّ ابنةُ عمك فيلهلمينا بذلك الفتى أكثر من أيٍّ من الآخرين!»

فكَّر يوليوس أنها لو عارَضها أحد بشدة، فلربما تنازلَت عن رأيها. تمتمَ: «أحد الأسباب يا أمي أن كلود لا يمتلك ملابس تُناسب حفلات العشاء.» أومأتْ إليه. وقالت: «بل لديه، سيد يوليوس. إنه يَخيط بعضَ الملابس. وعندما تحدَّثتُ معه، أخبرَني أنْ لا صعوبة لديه في هذا الشأن.»

قال الأولاد ما دامت الأمور قد وصلَت إلى هذا الحد، فعليهم تقبُّل الأمر والتعامل معه على أفضلِ نحوٍ مُتاح، وكتب كبيرُهم «كلود ويلر» مُتحمِّسًا.

إذا كان أولاد إرليش مُتخوِّفين، فقلقُهم لم يُضاهِ قلقَ كلود. كان عليه أن يأخذ السيدة إرليش إلى الحفل الغنائي الخاص بالسيدة شرودر شاتس، وفي مساء يوم الحفل جَرْجره الأولاد إلى الداخل وقتَ ظهوره عند الباب كي يرَوا مظهره. أضاء أوتو الأنوار كافةً، ودخلَت السيدة إرليش — بحزامها الأسوَد الجديد فوق الفستان المصنوع من الستان الأبيض — إلى الصالة كي ترى مظهر رفيقها.

خلع كلود مِعطفه كما أُمِر، وظهَر بملابسَ سوداء جديدة مصنوعة من قماش الجوخ. نظرَت السيدة إرليش إلى ساقَيه الطويلتين، وكتفَيه الناعمتَين، وأخيرًا رأسه المُربَّع ذي الشعر الأحمر، المائل باتجاهها بتودُّد. ثم ضحكت وصفَّقت.

«ستلتفُّ جميع الفتَيات وهنَّ في مَقاعدهن كي يَنظُرن ويتساءلن من أين جئت به!»

بدأ كلود يضعُ مُتعلِّقاتها في جيبَي مِعطفه؛ مِنظار الأوبرا في جيب، ومِروحة يد في الجيب الآخَر. وضعت نظارة الأوبرا في حقيبتها الصغيرة إلى جانب عبوة مسحوق تجميل ومِنديل ونشادر، حتى إنها وضعَت عبوةً فضِّية صغيرة من قطرات النَّعناع الفُلفلي تحسبًا أن تُصاب بالسُّعال. لبسَت قفَّازها الطويل وهندمَت وِشاح دانتيل على شَعرها، وفي النهاية أصبحَت جاهزةً أن ترتديَ مِعطف السهرة الذي كان يضعُه كلود على كتفَيها. عندما مدَّت يدها وأمسكَت بذراعه وانحنَت إلى أولادها، ضحكوا وأحبُّوا كلود أكثر. كانت طريقته المُنظَّمة الحامية تُمثِّل إطارًا للصورة الصغيرة المُبهِجة التي كانت ترسمها.

أُقيمت مأدبة العشاء في مساء اليوم التالي. ضيفة الشرف — السيدة فيلهلمينا شرودر شاتس — أصغَرُ ببضعة أعوام من ابنة عمها أوجوستا إرليش. كانت قصيرةً وقوية البِنْية وذات صدر مُمتلئ وشَعرٍ جميل وحضورٍ قوي. صَوْتها الأنثوي الرنَّان القوي الذي لا تتحفَّظ في استخدامه رائعٌ حقًّا، ويمنح الناس متعةً كبيرة لا تقلُّ عن متعة الطعام والشراب. ولمَّا أتى العشاء، جلسَت عن يمين الابن الأكبر. جلس كلود بجانب السيدة إرليش على الطرَف الآخر من المائدة، وأخذ يُراقب باهتمامٍ السيدةَ التي تَلبَس ملابس مُخمَليةً خضراء، وأحجارًا لامعة شبيهةً بالماس.

بعد العشاء، وبينما كانت السيدة شرودر شاتس تخرج من غُرفة الطعام، أفلتَت ذراعها من ذراع ابن عمها وتوقَّفَت أمام كلود الذي وقف مُنتبِهًا خلف كرسيه.

قالت: «أرجو أن تسمح ابنة عمي أوجوستا لي بمحادثةٍ قصيرة معك. كانت هناك مسافةٌ كبيرة بيننا.»

أخذت كلود إلى مَقعد بجانب النافذة في غُرفة المعيشة، ومن فورها اشتكَت من وجود تيَّار هواء، فأرسلَته كي يأتيَ لها بوشاحها الأخضر. أحضر الوشاح ووضعه برفقٍ حول كتفَيها، ولكن بعد بضع لحظات أنزلَته وعلى وجهها لمسةُ انزعاج وكأنها لم تُرِده مُطلَقًا. ذكَّرَها كلود بقلق بأمر تيَّار الهواء.

رفعت ذقنها وقالت: «تيار الهواء؟ لا يوجد تيار هواء هنا.»

سألت كلود عن المكان الذي أتى منه ومساحة الأرض التي يمتلكها والده، والمحاصيل التي يزرعونها، والطيور والماشية التي يُربُّونها. في صِغرها، عاشت في مَزرعة في منطقة بافاريا، وبدا أنها كانت تعرف الكثير عن الزراعة والماشية. استنكرَت لما أخبرها كلود أنهم يُؤجِّرون نِصف أرضهم لمُزارِعين آخَرين. قالت: «لو كنتُ في شبابي لبدأتُ في امتلاك الأراضي وما توقَّفتُ حتى أمتلكَ مُقاطَعةً كاملة.» قالت إنها عندما كانت تُقابِل أُناسًا جُددًا، فإنها تحبُّ أن تعرف شيئًا عن طُرقِ عيشهم؛ فطريقتها في العيش صعبة.

في وقتٍ لاحق من الأمسية، تكرَّمَت السيدة شرودر شاتس ووافقَت أن تُغنِّي لأبناء عمومتها. عندما جلست على البيانو أشارت إلى كلود وطلبت منه أن يلتفت إليها. هزَّ رأسه وابتسم بحزن.

«آسف، ولكني جاهل ولا أعرف النغمات الموسيقية بعضها من بعض.»

ربَّتَت على كُمِّه. «حسنًا، لا تقلق. قد أرغب في تحريك البيانو؛ يمكنك أن تفعل ذلك من أجلي، أليس كذلك؟»

لما دخلت السيدة شرودر شاتس إلى غُرفة نوم السيدة إرليش، ووضعت مسحوق تجميل على أنفها قبل أن ترتديَ دِثارها، أشارت قائلةً: «يا للأسف، يا أوجوستا، ليس لديك ابنةٌ لتزويجها من كلود ميلنوت هذا. كان سيصبح زوجَ ابنة صالحًا.»

تنهَّدَت السيدة إرليش قائلةً: «آه، لو كانت لديَّ واحدة!»

أردفَت السيدة شرودر شاتس وهي تَلبَس بنشاطٍ حذاءَ سفر كبيرًا: «أو لو أنك أصغَرُ ببضع سنوات، فلربما لم يكن الوقتُ قد تأخَّر كثيرًا. أوه، لا تكوني حَمقاء يا أوجوستا! لقد حدثَت هذه الأشياء من قبل، وستَحدُث مرَّةً أخرى. ولكن أفضَلُ لي أن أبقى أرملةً على أن أرتبط برجلٍ مريض، وكأنه غُصَّة في حَلقي! إن زوجي مريض وأنا امرأةٌ بكامل قوَّتي. [ثم أضافت بالألمانية] جاس هو العِبء الذي يجب أن أتحمَّله!» وضربت صدرها، على الجانب الأيسر.

لما لبسَت السيدة شرودر شاتس مِعطفًا مُخمَليًّا ثم عباءةً من الفرو، مشَت وكأنها سفينةٌ شراعية كبيرة إلى غُرفة المعيشة، وقبَّلَت جميع أبناء عمومتها وكذلك كلود ويلر، وتمنَّت لهم ليلةً سعيدة.

١١

في عصرِ يومٍ دافئ في شهر مايو، جلس كلود في غُرفته بالطابَق العُلوي في منزل تشابين، وعكَف على كتابة بحثه الذي كان سيَحلُّ محلَّ عقد اختبار في التاريخ. كان البحث عبارةً عن نقد لشهادة جان دارك في جلسات التحقيق الخاصة التسعة خاصتها والمحاكمة في المحكمة. أعطاه الأستاذ هذا الموضوع بمرح. وعلى الرغم من كثرة الأقلام التي تناولت هذا الموضوع منذ القرن الخامس عشر، من أصحاب الكتابات المُحايِدة والمُهاجِمة وأصحاب الملاحم والمُتشكِّكين، فإنه شعَر أن ويلر لن يبخس الأمر حقَّه.

في الحقيقة، بَذل كلود قدرًا كبيرًا من الوقت والجهد في هذا الموضوع، وبدا بالنسبة إليه في ذلك الوقت أهمَّ شيء في حياته. عمل من ترجمةٍ إنجليزية لوقائع التحقيق والمحاكمة، ولكنه أبقى بجواره النصَّ الفرنسي، ولكن بعض الردود صَعُب عليه فَهمُها باللغة التي لُفِظت بها. بدا له أن تلك العبارات كانت تُشبِه كلام القِديسين الذين قالت عنهم جان «الصوت جميل وعذب ومُنخفِض، ويتحدث باللغة الفرنسية». أقنع كلود نفسَه أن دراسته مُجرَّدة من أهوائه وميوله؛ وبذلك فهي تقييمٌ مُحايِد لدوافع الفتاة وشخصيتها حسبما تُشير مَواطن الاتساق والتضارب في رُدودها، وكذلك للتغيير الذي أحدَثه فيها السجن و«الخوف من الحرق».

عندما انتهى من كتابة الصفحة الأخيرة في بحثه وجلس يتأمَّل كومة الأوراق المكتوبة، أحسَّ بعدما انكبَّ على هذه الدراسة أنَّ معلوماته في حقيقة الأمر عن عذراء أورليان زادت فقط بقدرٍ ضئيل عن تلك التي سَمِعها من والدته عنها لما كان صبيًّا صغيرًا. تذكَّر أنه حينها لَزِم البيت بسبب نزلة برد، وعثر على صورة لها بملابسَ عسكرية في كتابٍ قديم، فأخذها ونزل إلى المطبخ حيث كانت تُعِد والدتُه فطائر تفاح. نظرت إلى الصورة، ولما كانت تبسط العجين كي تضعه في المقالي، أخبرَته بالقصة. نسيَ ما قالته — إذ لا بد أن القصة كانت مُجتزأة جدًّا — ولكن منذ ذلك الحين، عَلِم الوقائع الأساسية عن جان دارك، وظلَّت شخصيةً راسخة في عقله. بدَت له حينها واضحةً مِثل الآن، ورآها أعجوبةً الآن مِثلما رآها في ذلك الوقت.

فكَّر مُتعجِّبًا من قدرة هذه الشخصية على الرسوخ في العقل على هذا النحو؛ فبصورة أو كلمة أو عبارة، بإمكانها أن تظلَّ مُتجدِّدة في عقول كل جيل وتَعْلق مِرارًا وتَكرارًا بأذهان الأطفال. في ذلك الوقت، كان لم يسبق له أن رأى خريطة لفرنسا، وكان لديه نفورٌ شديد جدًّا من أي مكان أبعدَ من شيكاجو، ولكنه كان مُستعدًّا بشدة لتقبُّل أسطورة جان دارك، وكثيرًا ما كان يُفكر فيها عندما يدخل خيوله في المساء، أو عندما يُرسل إلى طاحونة الهواء من أجل إحضار الماء، ويقف يرتجف في البرد بينما ترفعها المِضخَّة الباردة ببطء. ظل يتخيَّلها كثيرًا في ذلك الوقت كما كان يفعل الآن؛ تجمَّعَت حول هيئتها في مُخيِّلته سحابةٌ مُضيئة تُشبِه الغبار، وبداخلها جنود … وراية بها زَنابق … وكنيسةٌ عظيمة … ومدن لها أسوار.

في ذلك العصر الربيعي الجميل، شعَر كلود أنه في تناغم وتوافق مع العالَم. أسِف على إنهاء عمله مثل إدوارد جيبن، ولم يستطع رؤية أي شيء آخر مُثير للاهتمام يمكنه فِعله في الآونة القادمة. كان لا بد أن يعود إلى المنزل بعد مدة وجيزة. كان سيَخضع لبضعة اختبارات في كلية تمبل، وسيُمضي بضع أُمسيَّات أخرى مع آل إرليش، وسيَذهب في رحلات إلى المكتبة كي يُعيدَ الكتب التي كان يستخدمها؛ وبعد ذلك سيُفاجَأ بأنه لن يبقى أمامه سوى أخذِ القطار إلى فرانكفورت.

قام مُتنهدًا وبدأ تجليد أوراق بحثه التاريخي. ولما نظر من النافذة، قرَّر أن يذهب إلى المدينة مشيًا ومعه بحثُه الذي يجب تسليمه اليوم؛ كان الجو لطيفًا لدرجةٍ تصعب معه الجلوس والتعرض للاهتزاز في عربة ترام. الحقيقة هي أنه رغِب في إطالة الاحتفاظ ببحثه أطولَ مدةٍ مُمكِنة.

مضى في طريقه، الذي يمكن تسميته بصعوبة شارعًا؛ إذ يمرُّ من وسط أرض البراري المفتوحة حيث تُزهِر ثمار البرقوق. مشى كلود بوتيرةٍ أبطأ من المُعتاد، واندفعت قُبَّعته المصنوعة من القش إلى خلف رأسه، وامتلأ وجهُه بوهج الشمس. شعَر جسده بأنه خفيفٌ وسط الريح المُعطَّر، واستمع على نحوٍ ناعس إلى زقزقة عصافير القنبر على الأعشاب الجافَّة وسيقان دوار الشمس. في هذا الفصل، تكاد ألحانُها توجع سامعها من عذوبتها الشديدة. كان يتذكَّر أحيانًا هذه المسيرة بعد ذلك بمدةٍ طويلة؛ فهو لم ينسَها على الرغم من أنه لم يكن يعرف السبب في ذلك.

لما وصل إلى الجامعة، ذهب مباشرةً إلى قسم التاريخ الأوروبي كي يترك بحثَه على طاولةٍ طويلة كانت توجد عليها كومة من الأبحاث الأخرى. خشيَ فِعل ذلك بشدة، وسعد لمَّا دخل ووجد الأستاذ يخرج من مكتبه الخاص ويأخذ بحثه المجلد في يدَيه، ويُومئ له بود.

«هل هذا بحثك؟ أوه نعم، جان دارك. إجراءات المحاكمة. لقد نسيت. إنه موضوعٌ مُثير للاهتمام، أليس كذلك؟» فتح الغِلاف وتصفَّح الصفحات. «أظن أنك برَّأتها بِناءً على الوقائع؟»

تورَّدت وَجْنتا كلود. «نعم يا سيدي.»

«والآن، قد تحتاج إلى قراءةِ ما قاله عنها ميشليه. توجد ترجمةٌ قديمة لعمَله في المكتبة. هل استمتعتَ بالبحث؟»

«استمتعتُ كثيرًا.» تَمنَّى كلود من أعماقه لو أسعَفه الكلام.

«لقد تعلمتَ الكثير والكثير من هذا البرنامج الدراسي، بوجهٍ عام، أليس كذلك؟ سأحرص على أن أرى ما ستفعله في العام القادم. سُرِرتُ ببحثك كثيرًا.» عاد الأستاذ إلى غُرفته، وسُر كلود لما رآه يأخذ بحثه معه ولم يتركه على الطاولة مع الأبحاث الأخرى.

١٢

في الآونة ما بين الحصاد وتجهيز الدريس في ذلك الصيف، ذهب السيد ويلر ورالف إلى دنفر بالسيارة الكبيرة، وترَكا كلود ودان من أجل زراعة الذُّرة. ولما عادا، قال السيد ويلر إن لديه سرًّا. وبعد عدة أيام من التكتُّم التي لَزِم فيها غُرفة الجلوس يكتب خطابات، وكان يرمي فيها بكلمات وغمزاتٍ غامضة إلى رالف على الطاولة، أعلَن عن مشروعٍ أطاح بكلِّ خُطَط كلود وأهدافه.

في رحلة العودة من دنفر، عرج السيد ويلر إلى مُقاطَعة يوكا بولاية كولورادو كي يزور صديقًا قديمًا يُعاني من بعض المشكلات. كان توم ويستد من أهل ولاية مين، ومن بلدة السيد ويلر. فقدَ الرجلُ زوجته منذ عدة سنوات. وتدهورَت صحتُه، وقال الأطباء في دنفر إنه يجب أن يتقاعد عن العمل ويعيش في مكان على ارتفاعٍ مُنخفِض. أراد أن يعود إلى ولاية مين ويعيش بين أحبَّائه، ولكنه كان لديه يأس وخوف شديدان من أن تسوء حالته لدرجةٍ جعلَته لم يسعَ حتى لبيعِ مزرعته وماشيته. استطاع السيد ويلر أن يُساعِد صديقه، وفي الوقت نفسِه عقَد صفقة أعمال جيدة لنفسه. إنه كان يمتلك مزرعةً في ولاية مين — وهي نصيبه من إرث والده — وظل يُؤجِّرها سنواتٍ مُقابِل أُجرة زهيدة لا تكاد تزيد على تكاليف صيانتها. نقل السيد ويلر مِلكية هذه الأرض للرجل مع أخذِ قرضٍ عقاري قابل للتحويل إلى طرَف ثالث، وحصل في المُقابل على مزرعة ويستد الرائعة التي تُروى على نحوٍ جيد. دفع له مَبلغًا جيدًا مُقابل الماشية، ووعد بأخذ الرجل المريض إلى مين مرةً أخرى والحرص على استقراره هناك. شرح السيد ويلر كلَّ هذه الأمور لعائلته عندما دعاهم إلى غُرفة المعيشة في ليلةٍ شديدة الحرارة بعد العشاء. نادرًا ما تَشغل السيدة ويلر بالها بشئون أعمال زوجها، ولكنها سألت غيرَ مُبالية عن سبب شراء المزيد من الأراضي، وهم يمتلكون بالفعل مساحاتٍ كبيرةً ولا يستطيعون حتى زراعةَ نِصفها.

ردَّ السيد ويلر دون غضب: «شأنك شأن كل النساء يا إيفانجلين، شأنك شأن كل النساء!» كان يجلس في الوهج الكامل للمِصباح الأسيتيليني وطوقُ عُنق قميصه مفتوح، وياقته وربطة عنقه بجانبه على الطاولة، ويهوي على نفسه بمروحة من سعف النخل. «ربما ستسألينني أيضًا لماذا أسعى إلى كسب مزيد من المال ما دمتُ لم أنفق كلَّ ما لديَّ.»

قال إنه ينوي أن يترك مزرعة كولورادو تحت إمرة رالف و«يُعطي الفتى بعض المسئوليات». رالف كان سيُساعده رئيس العمال الذي يعمل لدى ويستد؛ حيث إن له باعًا كبيرًا في أعمال خدمة الماشية، وأبدى موافقته على البقاء في العمل مع صاحب المزرعة الجديد. طَمْأن السيد ويلر زوجتَه بأنه لم يستغلَّ ظروف ويستد البائسة؛ الأشجار في مزرعة مين تستحقُّ بالفعل مَبلغًا كبيرًا، ولكن لأن والده كان دائمًا يتفاخر بشدة بأشجار الصَّنَوبر الكبيرة الخاصة به، فإنه — على حدِّ قوله — لم يشعر قطُّ بالرغبة في العبث بتلك الأشجار وإتلافها. والآن، كان يُقايِض مزرعةً قديمة خِصبة لم تكن تُدرُّ أي ربح بمزرعة من عشب الجراما من المُفترَض أن تُدرَّ ربحًا لا يقلُّ عن عشرة أو اثنَي عشر ألفَ دولار في سنوات الرعي الجيدة، ولا تتسبَّب في خسائرَ كبيرة في سنوات الرعي السيئة. توقَّع أن يقضيَ نِصف وقته في تلك المزرعة مع رالف. ثم علَّق بمرح: «عندما أكون هناك، فلن تكون هناك أعمالٌ كثيرة أمامك أنت وماهيلي. ويُمكنكما تكريسُ وقتكما للتطريز، إن جاز القول.»

تمتمَت السيدة ويلر وهي لا تزال في الظلام قائلةً: «إذا كان رالف سيَعيش في كولورادو وأنت لن تكون هنا نِصف الوقت، فلا أعلم ماذا سيَحلُّ بذلك المكان.»

ردَّ زوجها وهو يُمدِّد جسده الكبير حتى طقطقَ الكرسيُّ الهزَّاز من تحته: «لا يُهمُّ أن تعلمي يا إيفانجلين. سيتولَّى كلود مسئولية الاعتناء بالمكان.»

«كلود؟» مرَّرَت السيدة ويلر يدَها على خصلة من شعرها، وأزاحَتها عن جبهتها الرطبة في فزعٍ غريب.

«بالطبع.» نظر بعينَين لامعتين إلى هيئة ولده الصامتة والواقفة في ركن الغُرفة. «أظن أنك تعلَّمتَ ما يكفي عن علم اللاهوت، أليس كذلك؟ أنت لا تطمح إلى أن تُصبح واعظًا؟ في هذا الشتاء، أنوي تسليمَ زِمام المزرعة لك وإعطاءك الفرصةَ كي تُصوِّب الأمور فيها. لم تكن راضيًا عن طريقة إدارة المكان في وقتٍ ما، أليس كذلك؟ انطلِق وطوِّره. يُمكنك تطبيق أفكار جديدة إذا أردت، لا اعتراض لديَّ. إنها مُكلِّفة ولكن لا بأس. يمكنك طردُ دان إذا أردت والحصول على المساعدة التي تريدها.»

شعَر كلود وكأنَّ فخًّا يلتفُّ من حوله. ظلَّل عينَيه بيده. وقال بنبرةٍ مُتردِّدة: «لا أظن أنني أتمتَّع بالكفاءة كي أُدير المكان على النحو الصحيح.»

«حسنًا، أنت لا تظنُّ أنني أيضًا أتمتَّع بتلك الكفاءة يا كلود؛ ولذا نحن في موقفٍ صعب. دائمًا ما كنت أعتقد أن الأرض خُلِقت من أجل الإنسان، على عكس دوسن العجوز الذي يرى أن الإنسان خُلِق كي يُعمِّر الأرض. لا أُمانِع تحيُّزك إلى آل دوسن في اختلاف الآراء ذاك، إذا استطعت الحصول على نتائجهم.»

نهضَت السيدة ويلر وخرجَت مُسرِعةً من الغُرفة، وأخذَت تتحسَّس طريقها عبر السلَّم المُظلِم إلى المطبخ. كان المكان مُظلِمًا وهادئًا هناك. جلسَت ماهيلي في ركن هناك تَخيط حواشيَ مناشف الأطباق على ضوء مِصباح نُحاسي قديم متَّسخ كانت تُفضل الجلوس على ضوئه. ظلَّت السيدة ويلر تسيرُ جيئةً وذَهابًا في الغُرفة الطويلة في انفعالٍ هادئ وصامت، وتضغط بكلتا يدَيها بقوة على صدرها الذي كانت تشعر بألم فيه بسبب التعاطف مع كلود.

تذكَّرتُ توم ويستد الطيب. سبَق أنْ بات معهم في المنزل عدةَ مرَّات، وأتى من أجل أن يُواسوه بعد موت زوجته. بدا لها أنَّ تدهور حالته الصحية وفقدانه الشغفَ، ورحلة السيد ويلر غير المُتوقَّعة إلى دنفر، ومزرعة أشجار الصنوبر في ولاية مين؛ عناصرُ تجمَّعَت بعضها مع بعض، وشكَّلَت شبكةً كي تُحيط بابنها غيرِ المحظوظ. كانت تعلم أنه كان ينتظر بنفادِ صبرٍ قدومَ الخريف، وأنه للمرة الأولى كان يتطلَّع بشدة للعودة إلى الكلية. كان يشعر بالاشتياق إلى أصدقائه — آل إرليش — وانشغل عقله طَوال الوقت بمُقرَّر التاريخ الذي كان ينوي دراسته.

لكن كل ذلك ما كان ليَزِن شيئًا في اجتماعات الأسرة؛ ولذا على الأرجح لن ينطق حتى بأيٍّ منه، كما أنه لم يكن لديه اعتراضٌ واحد جوهري يُبديه على رغبات والده. لذا سيكون إحباطه مريرًا. تمتمَت بصوتٍ عالٍ: «يا إلهي، هذا سيَجعل قلبه ينفطر.» ماهيلي كانت ضعيفةَ السمع ولم تسمع شيئًا. جلست رافعةً عملها أمام الضوء، وأخذت تدفع إبرتها بكُشتُبان نُحاسي كبير، وتُومئ برأسها ناعسةً بين الغُرَز. وعلى الرغم من أن السيدة ويلر لا تكاد تكون واعيةً بوجود المرأة العجوز، فإن هذا الوجود كان يُريحها وهي تمشي ذَهابًا وإيابًا بخطواتٍ عشوائية وغير واثقة.

غادرَت غُرفة الجلوس خشيةَ أن يغضب كلود ويَتفوَّه بكلامٍ فظٍّ أمام والده، ولأنها لا تتحمل رؤيته على هذا الوضع. دائمًا ما كان كلود يجد الحياةَ صعبة العيش؛ كان يُعاني بشدة حتى فيما يتعلق بالأشياء البسيطة، وكانت هي تُعاني معه. من جهتها، لم تشعر بأي إحباط من قبل. لم تنزعج من قرارات زوجها المُتهوِّرة. وإن قال إنه لن يزرع الحديقة على الإطلاق هذا العام، فما كانت لتعترض. ماهيلي هي التي كانت تتذمَّر. إذا أراد أكْل لحم عِجل مشوي وذهب وذبَح عجلًا، فستفعل ما بوُسعها كي تُجيد طَهْي اللحم جيدًا، وستُحاوِل ألا تقلق إن أفسدَت بعضه. عندما لا تستغرق في التأمُّل الديني، فربما تُفكر في أحد الكتب القديمة التي قرأتها مِرارًا وتَكرارًا. حياتها الشخصية كانت مُنفصِلة تمامًا عن أنشطتها اليومية، لدرجة أن الرجال المُندفِعين والعنيفين لا يمكن أن يقتحموها. ولكن فيما يتعلَّق بكلود، فقد عاشت في مستوًى آخر ينحدر إلى درجةٍ أدنى يشوبها الانفعال البشري، وتنبض بالمشاعر الإنسانية البائسة والعشوائية والغاضبة.

هكذا كانت الحال دومًا. والآن رغم تقدُّمها في العمر وجسدها الذي لم يَعُد يهتمُّ بالألم أو المتعة مِثل صور الشمع المُذاب في الكنائس القديمة، فإنها كانت لا تزال تهتزُّ لمشاعره وتُصبح سريعة الانفعال مرةً أخرى من أجله. أحزانه أوهنَت قُواها. وكانت تتألم من داخلها عندما يتأذَّى أو يُعاني. وعلى العكس، عندما يكون سعيدًا، تَسْري موجةٌ من الرضا في جسدها. وإذا استيقظَت في الليل وتَصادَف أن اعتقدَت بأنه كان سعيدًا في الأوقات الأخيرة، فستنام في هدوء وسكينة في سريرها الدافئ.

عندما كانت تستيقظ على هذا الوضع وتُفكر فيه، كانت في بعض الأحيان تهمس له في عقلها: «استرِح، استرِح، حبيبي القلِق.» كانت عيناه تلمعان بضوءٍ فريد عندما يبتسم إليها في أحد أيامه الطيبة، وكأنه يُخبرها أن الأمور على ما يُرام في مملكته الداخلية. سبَق أن رأت هذه النظرة مِرارًا وتَكرارًا، وكانت دائمًا تستطيع تذكُّرها في الظلام؛ توهُّج سريع أزرق، رقيق وجامح بعضَ الشيء، وكأنه رأى رؤيةً أو لمح طموحًا غير مُحدَّد.

١٣

كَثُر العمل في المزرعة في بضعة الأسابيع التالية. وقبل الانتهاء من حصاد القمح، حزَم نات ويلر صندوقه المصنوع من الجلد، وارتدى «ملابسه الجاهزة»، وانطلق كي يعودَ بتوم ويستد إلى مين. في المدة التي غاب فيها، بدأ رالف يتهيَّأ للعيش في مقاطعة يوكا. أحبَّ رالف أن يكون رجلًا ذا شأن بين تجار فرانكفورت، ولم تَسنَح له من قبلُ فرصةٌ كتلك. اشترى بندقيةً جديدة، وسروجًا وألجِمة، وأحذيةً عالية الرقبة، ومِعطفَين أحدهما طويل والآخَر قصير؛ للوقاية من العواصف، وقِطعًا من الأثاث لغُرفته، ووعاءً حافظًا للحرارة، وآلةَ فونوجراف، وشحَن تلك الأغراض إلى كولورادو. لا تحبُّ والدته موسيقى الفونوجراف، وتكره مونولوجات الفونوجراف؛ ولذا توسَّلَت إليه أن يأخذ آلة الفونوجراف الموجودة في المنزل، ولكنه أكَّد لها أن المنزل سيكون مُملًّا من دونها في أمسيات الشتاء. أراد شراء واحدة ذات أحدث العلامات التِّجارية الموسومة بِاسم مُخترِع أمريكي كبير.

بعض المَزارع القريبة من مزرعة ويستد كان يمتلكها أناسٌ من نيويورك أتَوا مع عائلاتهم إلى هناك في الصيف. سَمِع رالف عن حفلات الرقص التي يُقدِّمونها، وكان يُعوِّل على أن يكون واحدًا من ضيوفهم. طلب من كلود أن يُعطيَه بدلة السهرة الخاصة به؛ لأنه لن يحتاج إليها بعد الآن.

قال كلود غيرَ مُبالٍ: «يمكنك أخذُها إن أردت. ولكنها لن تكون على مقاسك.»

ردَّ أخوه بهدوء: «سآخذها إلى فريتس وأُقصِّر السروال قليلًا وأُضيِّق الكتفَين.»

لم يُبالِ كلود. «خُذها. ولكن إن قصَّ هذا العجوز الألماني شيئًا منها، فسيصبح شكلها قبيحًا.»

«أظنني سأجعله يُحاوِل. لن يقول أبي شيئًا عمَّا طلبتُه من أجل المنزل، ولكنه لا يُحبذ ملابس المناسبات الخاصة، كما تعلم.» من دون مزيد من اللغَط، رمى ملابس كلود السوداء في المقعد الخلفي للسيارة الفورد، وانطلق إلى المدينة كي يذهب إلى الخيَّاط الألماني.

لما عاد السيد ويلر، ظن أن رالف أطلَق يدَه في الصرف، ولكنَّ رالف أخبره أنه لا يستقيم أن يتولَّوا مسئولية المكان الجديد بإمكانياتٍ مُتواضِعة. «أصحاب المَزارع هناك كلُّهم يعيشون حياة مُرفَّهة. وإذا أمسَكْنا أيديَنا، فسيَعتقدون أننا لا نريد العمل.»

الجيران في البلدة، الذين كانوا دائمًا ما يُعجَبون بما يفعله آل ويلر، سُرُّوا بشدة ببذخ رالف بقدرِ ما سُرَّ هو به. قال أحدهم إنَّ رالف أرسل بيانو جديدًا إلى مقاطعة يوكا، وسَمِع آخَر أنه طلب طاولة بلياردو. سأل جارُهم الألماني الثريُّ أوجست يودر مُتجهِّمًا إن كان بإمكانه استئجار قطعة أرض في المزرعة التي سيُديرها رالف. ليونارد دوسن — المُزمَع زواجه في شهر أكتوبر — نادى على كلود في المدينة ذات يوم، وقال له:

«يا إلهي، يا كلود، لم يتبقَّ شيء في مَتجر الأثاث كي أشتريَه أنا وسوزي! اشترى رالف كلَّ شيءٍ ما عدا النعوش. لا بد أنه سيَعيش عيشة الأُمراء هناك.»

أجاب كلود بهدوء: «لا أعلم شيئًا عن ذلك. كل ذلك لا يخصُّني.»

«كلَّا، أعتقد أن عليك أن تبقى في المكان القديم وتُصلِحه من أجل سداد الديون.» وقفز ليونارد إلى سيارته؛ ومن ثَم لم تَسنح الفرصة أمام كلود كي يرد.

لما لاحظَت السيدة ويلر أيضًا حجم هذه التجهيزات، بدأتْ تشعر أن الترتيب الجديد لم يكن عادلًا بالنسبة إلى كلود الذي يُعَد هو الابنَ الأكبر والأعقل بكثير. دائمًا ما كان كلود يعمل بجِد عندما يكون في المنزل، وكانت يده في العمل أكثر من رالف الذي لم يكن يفعل شيئًا سوى العبث بالآلات، والقيام بمشاوير بالسيارة. لم تستطع فَهْم لماذا وقع عليه الاختيار لإدارة مشروع استُثمر فيه مَبلغٌ كبير جدًّا من المال.

في أحد الأيام، قالت على نحوٍ حالم: «عَجبًا يا كلود، لو كان أبوك أكبر في العمر، لظننتُ أنه بدأ يفقد عقله. ألن نَغرق في بحرٍ عميق من الديون لو استمرَّ الأمر بهذه الوتيرة؟»

«لا تقولي شيئًا يا أمي. إنها أموال أبي. لن يعتقد أني أريد أيًّا منها.»

«ليتني أستطيع التحدث إلى بايليس. هل قال أي شيء؟»

«لم يقُل لي شيئًا.»

سافَر رالف والسيد ويلر مرةً أخرى في رحلةٍ سريعة إلى كولورادو، ولما عادا بدأ رالف يحثُّ والدته كي تُعطيَه غطاءَ سرير ومِفرَش طاولة. قال إنه لن يعيش عيشة البرابرة، حتى في مناطق التِّلال الرملية. غضبَت ماهيلي لما رأت المِفرش الذي ظلَّت تغسله وتكويه وتعتني به عدة سنوات يُؤخَذ في الصناديق المسافرة. كانت كثيرًا ما تغضب الآن، وذهبت وهي تتفوَّه ببضع كلمات لنفسها.

لم تُحضِر ماهيلي معها أيَّ أغراض لما أتت كي تعيش مع آل ويلر سوى مرتبةٍ محشوَّة بالريش وثلاثةِ ألحفة مُرقَّعة ومُبطَّنة بصوف من ظهور شياه فرجينيا، ومغسولة ومُمشَّطة يدويًّا. الألحفة صنعتْها أمُّها العجوز وأعطَتها لها مهرًا. كل لحاف كان له تصميمُ ترقيعٍ مختلفٌ عن الآخَر؛ الأول بنمط «الكوخ» الشهير، والثاني بنمط «ورقة نبات الغار»، والثالث بنمط «النجم المُتوهِّج». اعتقدت ماهيلي أن اللحاف الأخير رائعٌ جدًّا بحيث لا يجب استخدامه، وأخبرَت السيدة ويلر أنها تُحافِظ عليه «كي تُعطيَه للسيد كلود عندما يتزوَّج».

كانت تنام على مَرتبتها المحشوَّة بالريش في الشتاء، وفي الصيف تضعُها في العُلِّية. يمكن الوصول إلى العُلِّية عن طريق سُلَّم، نادرًا جدًّا ما كانت تصعد عليه السيدة ويلر بسبب ضَعف ظهرها. كانت ماهيلي تُرتِّب الأشياء بطريقتها الخاصة في العُليَّة، وكثيرًا ما تصعد إلى هناك من أجل تهوية أغطية السرير المُخزَّن فيها، أو للنظر إلى الصور الموجودة في أكوام المجلات القديمة. كان يمزح رالف ويُطلِق على العُلِّية «مكتبة ماهيلي».

ذات يوم بينما كانت الأغراض تُحزَم إلى المزرعة الموجودة في الغرب، ذهبت السيدة ويلر إلى بداية السُّلم لتُناديَ على ماهيلي، ونجَت من أن يُصاب رأسها بسبب سقوط مرتبة كبيرة محشوَّة بالريش من باب العُلية. وبعد لحظات، نزلت ماهيلي وهي تُمسِك بدرجات السُّلم بإحدى يدَيها، وتُمسِك بالألحفة الخاصة بها في اليد الأخرى.

قالت السيدة ويلر لاهثةً: «عَجبًا يا ماهيلي. لم يَحِن الشتاء بعد، فلماذا تُحضِرين مَرتبتك وألحفتك؟»

ردَّت: «أنا سأستلقي على مرتبتي، وإلا فلن يتبقَّى لي شيء لأنام عليه. لن أدعَ السيد رالف يحمل ألحفتي التي حاكَتْها أمي من أجلي.»

حاولَت السيدة ويلر أن تتفاهم معها، ولكن المرأة العجوز حملَت أغراضها بين ذِراعَيها ومشَت بتعثُّر وهي تحملها في الصالة، وظلَّت تُتمتِم وتُحرِّك رأسها مِثل حِصان في وقت انتشار الذباب.

في عصر ذلك اليوم، أحضر رالف برميلًا وحُزمة من القش إلى المطبخ، وطلب من ماهيلي إحضار بعض الفاكهة المحفوظة والمُعلَّبة لأنه سيَحزمها. أطاعَته وذهبَت إلى القبو، وخلَع رالف مِعطفه، وبدأ في تبطين البرميل بالقش. استغرَق بعض الوقت في فعل ذلك، ولكن لم تَعُد ماهيلي. ذهب إلى رأس سُلَّم القبو وصفَّر لها ليَستدعيَها.

«أنا آتية، يا سيد رالف، أنا آتية! لا تستعجِلْني، لا أريد أن أكسر شيئًا.»

انتظَر رالف بضع دقائق. ثم قال غاضبًا: «ما الذي تفعلينه عندك يا ماهيلي؟ لو كنتُ أنا لأفرَغتُ القبو بالكامل في ذلك الوقت. أظن أنني سأحضرها بنفسي.»

«أنا آتية. سيُغطَّى جسدك بالغبار إذا نزلتَ إلى هنا.» أتَت إلى رأس السُّلم لاهثةً وهي تحمل سلَّةً كبيرة مليئة بالجِرار، ويداها ووجهُها مُلطَّخان بالسواد.

زمجر رالف: «حسنًا، لا بد أنه مُترَّب! عليكِ تنظيفُ خِزانة الفاكهة كلَّ آونة يا ماهيلي. ينبغي أن تتعلَّمي من السيدة دوسن كيف تعتني بخِزانتها. والآن، لنَرَ.» فرَز الجِرار على الطاولة. «أرجِعي مربَّى العنب. إن كان هناك طعامٌ لا أُحبُّه، فهو مربَّى العنب. أعلم أن لديك الكثير منها، ولكن لا يمكنك التخلص منها من خلالي. وعندما تصعدين، لا تنسي الخوخ المُخلَّل. قلت لك، على وجه التحديد، الخوخ المُخلَّل!»

«ليس لدينا أي خوخ مُخلَّل.» وقفَت ماهيلي بالقرب من باب القبو مُمسِكةً بطرَف مِئزرها إلى ذقنها، وارتسمَت على وجهها نظرةُ عناد غريبة ومُخيفة.

«لا يوجد خوخ مُخلَّل؟ يا له من هُراء يا ماهيلي! رأيتكِ وأنتِ تُحضِرينه هنا، منذ بضعة أسابيع فقط.»

«أعلم أنك رأيتَني يا سيد رالف، ولكن لا يوجد أيٌّ منه الآن. لا حظَّ لديَّ مع الخوخ هذه السنة. كان يجب أن أُهوِّيه. ولكني أخطأت، واضطُررتُ إلى رميه.»

انزعج رالف بشدة. «لم أسمع عن شيء كهذا من قبلُ يا ماهيلي! إهمالك يزيد كلَّ سنة عن سابقتِها. فكِّري في إهدارك لكل تلك الفاكهة والسكَّر! هل أمي على علم بذلك؟»

اكفهرَّ وجه ماهيلي. وتمتمَت: «أظن أنها تعرف. أنا لا أُهدر سكَّر والدتك. ولم أُهدِر أي شيء قَط.» كانت تَزيد غرابةُ حديثها عن المُعتاد عندما تغضب.

نزل رالف على سلَّم القبو وأضاء المصباح، وفتَّش خِزانة الفاكهة. بات مُتأكدًا من عدم وجود خوخ مُخلَّل. لما عاد وبدأ يحزم فاكهته، وقفَت ماهيلي تُراقِبه بعينٍ ماكرة تُشبِه كثيرًا نظرةَ ذئب براري مُقيَّد بالسلاسل يعرضه صبيٌّ لزائريه ويقول إنه لن يهربَ منه حتى لو سَنحَت له الفرصة.

زمجر رالف: «اذهبي إلى عملك. لا تقفي تُراقبينني هكذا!»

في ذلك المساء، كان يجلس كلود على مِنصَّة طاحونة الهواء بالقرب من الحظيرة، بعد يوم عمل شاقٍّ في الحرث من أجل القمح الشتوي. كان يُواسي نفسه بتدخين غليونه. وبغضِّ النظر عن مقدار حب والدته له أو مقدار أسفها عليه، فإنها لم يكن بإمكانها قطُّ أن تُخبِره أن بإمكانه التدخين في المنزل. كانت تلمع الأضواء من غُرَف الطابق العُلوي في المنزل على التل، وتخرج أصواتُ الغناء الصاخبة من الفونوجراف من النوافذ. كان هناك شخصٌ يسير بخُطًى حذرةٍ أسفل المَمر. ولما كانت الخطوات بطيئةً وخفيَّة عرَف أن القادم ماهيلي؛ إذ كان مِئزرها مرفوعًا على رأسها. أتت إليه ولمستْه على كتفِه بطريقةٍ تعني أنها ستَبُوح له بسِر.

«سيد كلود، حزم السيد رالف برميلًا من مربى والدتك ومُخلَّلاتها كي يأخذها معه.»

«لا بأس يا ماهيلي. السيد ويستد أرمل، ولا أظنُّ أنَّ مزرعته بها أيُّ شيء من تلك الأطعمة.»

تردَّدَت ومالت باتجاهه أكثر. «طلب مني الخوخ المُخلَّل الذي أعددتُه لك، ولكني لم أُعطِه شيئًا. أخفيتُه في مَوقدي القديم الذي وضعناه في القبو عندما أحضر السيد رالف موقدًا جديدًا. كذلك لم أُعطِه فاكهة والدتك المحفوظة الجديدة. أعطيتُه ما تبقَّى من منتجات العام الماضي، وهكذا أصبح لديك أنت ووالدتك الكثير.» ضحك كلود. «أوه، لا يُهمُّني إن أخَذ رالف كلَّ الفاكهة الموجودة في المكان، يا ماهيلي!»

تراجعت قليلًا وقالت مُرتبِكةً: «كلَّا، أعلم أنك لا تهتمُّ يا سيد كلود. أعلم أنك لا تهتم.»

لما لمس كلود الإحباط في صوتها، قال في نفسه: «ما كان لي أن أُعامِلها بذلك الأسلوب الفظ.» نهض وربَّت على ظهرها. «لا بأس يا ماهيلي. على أي حال، أشكرك على الاحتفاظ بالخوخ لي.»

أشارت إليه بإصبعها مُحذِّرةً. «لا تُخبرْ أحدًا!»

وعَدَها، وراقَبها وهي تعود أدراجها على الممر المُتعرِّج أعلى التل.

١٤

انتقَل رالف ووالده إلى المزرعة الجديدة في آخر أيام شهر أغسطس، وأرسل السيد ويلر خطابًا يقول إنه في أواخر فصل الخريف سيُرسِل حمولة سيارة من العجول التي تتغذَّى على الحشائش إلى المنزل من أجل تسمينها في فصل الشتاء. بذلك، عَلِم كلود أنه ستكون هناك حاجةٌ إلى العلف. كان لديهم حقل بمساحة خمسين فدَّانًا من الذُّرة غربيَّ النُّهَير؛ على مَرمى البصر عندما ينظر المرء من النوافذ الغربية للمنزل. قرَّر كلود أن يزرع هذا الحقل بالقمح الشتوي، وفي بداية شهر سبتمبر بدأ يحصد الذُّرة المزروعة ويحزمها من أجل العلف. وبمجرد جمع الذُّرة، حرَث الأرض وبَذَر القمح في وقت زراعة القمح في الحقول الأخرى.

كان هذا أولَ ابتكار من كلود، ولكنه لم يلقَ استحسانًا. لما جاء بايليس ليَقضيَ يوم الأحد مع والدته، سألها عمَّا يظن كلود أنه يفعله على أي حال. إذا كان يريد تغيير المحصول في ذلك الحقل، فلماذا لا يزرع الشُّوفان في الربيع ثم يزرع القمح في الخريف التالي؟ كان يرى أن حصاد العلف وإعداد الأرض في ذلك الوقت لن يُؤدِّي إلا إلى تعطيله عن عمله. وعندما أتى السيد ويلر إلى المنزل في زيارةٍ قصيرة، أشار إلى تلك القطعة مازحًا باسم «حقل قمح كلود».

شرَع كلود فيما نوى فِعله، ولكنه ظلَّ قلِقًا وخائفًا طَوال شهر سبتمبر من الطقس. إن هطلَت أمطارٌ غزيرة فستجعله يتأخَّر في زراعة القمح، وبالتأكيد سيَلقى انتقادًا على ذلك. في الحقيقة لم يأبه أحدٌ لتأخُّر مَوعد الزراعة ولا لتقدُّمه، ولكن كلود كان يظنُّ أنهم يأبَهون، وكان يستيقظ في بعض الأحيان مذعورًا من تباطؤ تقدُّمه. جعل دان وواحدٌ من أبناء أوجست يودر الأربعة يُساعِدونه، وظل يعمل ليلَ نهار. حرث الحقل الجديد وبذَر البذور فيه بنفسه. ووضع فيه قدرًا كبيرًا من طاقة الشباب، ودفن قدرًا كبيرًا من السخط في أخاديده المُظلِمة. ويومًا بعد يوم، كان يرمي بنفسه في أحضان الأرض ويزرعها بما يختمرُ في نفسه، ويسعد بالتعب الشديد في الليل لأنه يمنعُه عن التفكير.

عاد رالف إلى المنزل كي يَحضُر زفاف ليونارد دوسن في الأول من أكتوبر. حضرت كلُّ عائلة ويلر حفل الزفاف، حتى ماهيلي، وحضر جمعٌ غفير من أهل البلدة وأهل المدينة.

بعدما غادَر رالف، امتلك كلود زِمام المكان مرةً أخرى، وسار العملُ كالمعتاد. الماشية كانت ترعى على ما يُرام، ويخلو العمل من المُعوِّقات المُزعِجة. استمرَّ الطقس المُعتدِل، وفي كل صباح يستيقظ فيه كلود كان يرى يومًا جديدًا تتناثر فيه أشعة الشمس الذهبية وكأنها سجادةٌ مُتلألئة. ولما كان يصعقه السؤال عمَّا تطويه له الأيام على طرَف سريره كان يُسرِع كي يرتديَ ملابسه وينزل في الوقت المُناسِب؛ كي يُحضِر الخشب والفحم من أجل ماهيلي. غالبًا ما كانا يَصِلان إلى المطبخ في وقتٍ واحد، وتُشير هي إليه بإصبعها قائلةً: «لقد نزلتَ كي تُساعدني، أيها الفتى الطيب!» على الأقل، كان يُقدم لماهيلي بعض المساعدة. بإمكان والده أن يُوظِّف أحدَ أبناء يودر كي يعتنيَ بالمكان، ولكنها لن تدعَ أي أحد آخر يُساعدها.

استمتعَت السيدة ويلر، كما هو الحال بالنسبة إلى ماهيلي، بذلك الخريف. كانت تنام حتى وقتٍ مُتأخِّر في الصباح، وتقرأ وتأخذ بعض الراحة فيما بعد الظهيرة. حاكَت لنفسها بعض الملابس المنزلية الجديدة من قماشٍ رمادي اختاره كلود. كانت تقول أحيانًا: «يبدو الأمر وكأنَّ عَروسًا ترعى المنزل من أجلك أنت يا كلود.»

سُرعانَ ما ابتهج كلود لما رأى الخُضرة تنمو في حقول القمح البُنِّية الخاصة به؛ إذ رآها أولَ ما رآها في النُّقَر والتجاويف الصغيرة، ثم بدَت تتلألأُ فوق الأجزاء البارزة والأجزاء المُستوية وكأنها ابتسامةٌ سريعة. شاهَد الأنصال الخضراء وهي تنمو كلَّ يوم لما كان يذهب مع دان إلى الحقل ومعهما العرباتُ من أجل جمع الذُّرة. كلود أرسَل دان كي يُقشِّر الأكواز في القطعة الشمالية، وعمل هو في القطعة الجنوبية. كان دائمًا يُحضر حمولةً إضافية فوق ما يُحضِره دان، وكان هذا مُتوقَّعًا. بحسب ظن كلود، وضَّح دان السبب في ذلك على نحوٍ منطقي جدًّا في عصر أحد الأيام لما كانا يربطان حيوانات الجر في عربتَيهما.

«لا عَجَب في أنك تَنقُض على حقل الذُّرة وكأنك تَنقُض سجادة يا كلود؛ فهو في النهاية حقلك، أو تحت إمرتك على أي حال. ستحول تلك الحقول دائمًا بينك وبين المتاعب. ولكن الأجير لا يملك إلا صحته، وعليه أن يُحافِظ عليها. أظن أنه لم يتبقَّ لي سوى قدرٍ صغير من الصحة، ولن أُضيِّعها في نقل حمولات ذُرة تخصُّ شخصًا آخر.»

«ما الأمر؟ لم أُلمِّح إلى ضرورة أن تجدَّ أكثر في نقل الذُّرة، أليس كذلك؟»

«نعم أنت لم تفعل، ولكني أردتُ فقط أن تَعلَم أن لكل شيء سببًا.» وحينها، رَكِب دان عرَبتَه وغادَر. وعلى الأرجح ظل يتفكر فيما قاله بعض الوقت.

بعد ظُهر ذلك اليوم، توقَّف كلود فجأةً عن طرح الأكواز البيضاء داخل العربة التي بجانبه. كانت الساعة الخامسة تقريبًا، وهي تُعَد أصفى ساعة في نهار أيام الخريف. وقف تائهًا وسط غابة من أوراق الذُّرة الخفيفة والجافَّة، التي يَصدُر منها صوتُ خشخشة، مُنزوِيًا تمامًا عن العالَم. ولما خلع قفَّازات التقشير مسح العرَق من جبينه، وصَعِد إلى صندوق العربة واستلقى على الذُّرة ذات اللون العاجي. تقدَّمَت الخيول بحذر خطوةً أو خطوتَين، وقضَمَت برِضًا كبير أكوازَ الذُّرة التي قطعتها من السيقان بأسنانها.

استلقى كلود ساكنًا واضعًا ذراعَيه تحت رأسه، وأخَذ يَنظُر إلى السماء الزرقاء اللامعة المُتماسِكة، ويُراقِب أسراب الغِربان وهي تمرُّ من فوق الحقول حيث تتغذَّى على الحبوب المُتناثِرة، ثم تَعُود إلى أعشاشها فوق الأشجار النامية بطول نُهَير لافلي كريك. كان يُفكِّر فيما قاله دان وهما يرتبطان حيوانات الجر إلى عرَبتَيهما. لا شك أن كلامه ينطوي على قدرٍ كبير من الحقيقة. ولكن بالنسبة إليه، كثيرًا ما كان يَشعُر أنَّ السفر وكَسْب لُقمة العيش بين الأغراب خيرٌ له من الكدِّ في ظل تلك المسئولية الجزئية عن حقول ومحاصيل ليست مِلكًا له. كان يعلم أن سكان البلدة يُطلِقون على والده في بعض الأحيان اسمَ «خنزير أراضٍ»، وهو نفسه بدأ يشعر أنه ليس من الصواب أن يمتلكوا هذه المساحة الكبيرة من الأراضي؛ سواءً من أجل الزراعة أو الإيجار أو تركها مُهمَلة حسبما يختارون. الغريب أنه على مرِّ القرون والعصور، لم تتغيَّر مسألة امتلاك الثروات إلى الأفضل. الثروة تَستعبد أصحابها، وأصحابها يَستعبدون من هم أفقَرُ منهم.

نزل من العربة كي يُكمِل حمولتها تحت أشعة الشمس الذهبية. خيَّم صمتٌ دافئ على حقل الذُّرة. كان يهبُّ للحظاتٍ نسيمٌ خفيف في بعض الأحيان، ويذرُّ أوراق الذُّرة اليابسة والجافَّة، وهو نفسه كان يُحدِث صوتَ خشخشة وقرقعة عاليًا وهو ينزع القشر من الأكواز.

كانت لا تزال الغِربان الجائعة تَحُوم فوق الحقول قبل أن تعود إلى أعشاشها. عندما خرج إلى الطريق السريع، كانت الشمس تُشرِف على المَغِيب، وكان يُمكِنه أن يرى كلَّ ما هو قريب وبعيد من مَقعده فوق الحمولة. رأى من بعيدٍ العربة التي كان يقودها دان، والتي كانت آتيةً من القطعة الشمالية؛ ويظهر من ورائها سقفُ منزل ليونارد دوسن الجديد وطاحونةُ الهواء الخاصة به؛ إذ تقف بلَونها الأسوَد في يومٍ أوشَك على الانتهاء. وكانت أمامه مُنحدراتُ المراعي والأشجار الصغيرة ذات الأغصان شِبه العارية التي يراها مُتجمِّعةً في ظلٍّ بنَفسَجي على طول النُّهير، ومنزل مزرعة ويلر على التل بنوافذه التي كلُّها مُتوهِّجة بفعل آخِر أشعَّة حمراء تُرسِلها الشمس.

١٥

كان يخشى كلود من هدوء الشتاء الذي عادةً ما يتطلَّع إليه المُزارعون مُبتهِجين. تذرَّع بمباراة كُرة القدم التي تُقام في عيد الشكر كي يذهب إلى لينكن؛ ذهب وهو ينوي المُكوث ثلاثة أيام، ولكنه مكث عشرة. في الليلة الأولى، عندما طرَق الباب الزجاجي في غُرفة المعيشة لمنزل آل إرليش وفاجأهم، ظنَّ أنه لن يستطيع العودة إلى المزرعة مرةً أخرى. ولمَّا اقترب من المنزل في ذلك المساء الخريفي الصافي والبارد، وعبَر المرج المُمتلئ بالأوراق الجافَّة التي يَصدُر عنها صوتُ خشخشة، قال لنفسه إنه يجب ألا يأمُل في أن يجد الأشياء على حالها. ولكنه وجدها على حالها. وجد الأولاد يتمدَّدون ويُدخِّنون حول المائدة المُربَّعة التي عليها المصباح، والسيدة إرليش تجلس على البيانو تعزف واحدةً من معزوفات مندلسون التي بعنوان «أغاني من دون كلمات». ولمَّا طرَق الباب، فتح له أوتو وصاح قائلًا:

«مُفاجأة لكِ يا أمي! خمِّني من الطارق.»

يا له من ترحيبٍ حارٍّ ذلك الذي استقبلَته به! ويا لكثرة ما كان لديها لتَقُوله له! وبينما كان الجميع يتحدَّثون في وقتٍ واحد، نزل هنري — الابن الأكبر — إلى الطابق السفلي مُرتديًا ملابس مناسبة لحفلة رقص خاص بالقرن الثامن عشر؛ حيث تتضمَّن سروالًا من الستان وجوربًا وسيفًا. بدأ إخوته في الإشارة إلى مَواطن عدم التناسق في زيِّه؛ إذ أخبَروه أنه ربما لا يُمكِنه أن يُطلِق على نفسه مُهاجِرًا فرنسيًّا حتى يَلبَس شَعرًا مُستعارًا باللون الأبيض. أخذ هنري كتاب سِير من الرفِّ كي يُثبِت لهم أنه في وقت قُدوم المُهاجِرين الفرنسيين إلى فيلادلفيا، كانت موضة الشَّعر المُستعار الأبيض في طريقها للاندثار.

في أثناء المناقشة، أخذت السيدة إرليش كلود جانبًا، وهمسَت إليه بحماسة قائلةً إن ابنة عمها المُطرِبة فيلهلمينا أعلنَت أخيرًا عن انفصالها عن زوجها المريض الذي ظلَّت تدعمه سنواتٍ عديدة، وأنها ستتزوَّج الآن من العازف المُرافِق لها؛ وهو رَجلٌ أصغرُ منها بكثير.

بعدما انطلق المُهاجِر الفرنسي إلى حفلته أتى مُحاضِران من الجامعة، وقدَّمَت السيدة إرليش كلود على أنه من «أصحاب الأراضي» الذي يُدير مزرعةً كبيرة في إحدى المُقاطَعات الغربية. غادَر المُحاضِران مُبكِّرًا، ولكن كلود مكَث. ما الذي كان يجعل الحياة تبدو هنا أمتَع وأروَع بكثير من أي مكان آخَر؟ لا يوجد شيءٌ رائع بشأن تلك الغُرفة؛ هناك كُتبٌ كثيرة، ومِصباح، وأثاثٌ مُريح لكنه مُستعمَل، وبضعة أُناس ليست حياتهم مُميَّزة بأي صورة من الصور؛ وعلى الرغم من ذلك، كان يشعر بأنه يوجد في جوٍّ دافئ ولطيف، جو مُفعَم بحماسةٍ قوية، ويسمو بسبب الصداقات الحميمة. سَرَّه أن يرى الصور ذاتها على الحائط، وأن يجد قاطع الخشب السويسري على رفِّ المَوقِد؛ إذ يقبع مُقوَّسًا تحت عِبء حمولة حُزَم الأخشاب خاصته، وأن يُمسِك مرةً أخرى بقطَّاعة الورق النحاسية الثقيلة التي في زمنها قطَّعت الكثير من الصفحات المُثيرة للاهتمام. أخذها من غِلافِ كتابٍ أحمر موضوع هناك، كان أحد مُجلَّدات تريفيليان التي تتحدَّث عن جاريبالدي، وقد أخبَره يوليوس بضرورة الاطلاع عليه قبل أن يمرَّ أسبوعٌ آخَر من عمره.

في اليوم التالي فيما بعد الظهيرة، أخَذ كلود السيدة إرليش إلى مباراة كرة القدم، ورجع إلى المنزل مع العائلة من أجل العشاء. ظلَّ يتلكَّأ في الرحيل يومًا بعد الآخَر، ولكن بعد مرور أول بضع أُمسيَّات، بدأ الحزن يُثقِل قلبَه بعض الشيء طَوال الوقت. فأولاد إرليش كان لديهم العديد من الاهتمامات الجديدة التي لم يستطع التماشيَ معها؛ إنهم كانوا يتقدمون وهو لا يزال واقفًا في مَحلِّه. لم يكن ذكيًّا بالقدر الذي يجعله ينتبه لهذا. الشيء المُؤلِم كان هو الشعورَ بعدم الانتماء إلى هذا العالم؛ الشعور بالضياع في عالَم آخَر لا تُسهِم الأفكارُ فيه بقدرٍ كبير. كان غريبًا دخل وجلس هناك، ولكنه كان ينتمي إلى الريف الكبير المُنعزِل الذي يجدُّ أُناسه في العمل حتى يكلُّوا ويتعبوا مثل الخيول، ويناموا بسرعة في الليل دون أن يُفكروا في شيء ليتحدَّثوا بشأنه. إذا صنعَت له السيدة إرليش والمرأة المجَرية التي تعمل لديها حَساء العدس وفطائر البطاطس وطبق الفينر شنيتسل، فهذا يجعل الوجبات البسيطة في المزرعة تبدو أثقل.

لما أتت الجمعة التالية، ذهب كي يُودِّع أصدقاءه ويُوضِّح لهم أنه يجب أن يعود إلى المنزل في اليوم التالي. ولما غادَر المنزل في تلك الليلة، نظر مرةً أخرى إلى النوافذ الضاربة إلى الحُمرة، وقال لنفسه إنه كان بالفعل وداعًا، وليس مَوعِدًا باللقاء كما قالت السيدة إرليش بلطف. لم يَزِده المجيء إلى هذا المكان إلا سخطًا من قدره، لقد توقَّفَت رغبته في الانتماء لهذا النوع من الحياة. كان لا بد أن يستقرَّ في عالَم مُناسِب له، ويتمسَّك به بكل قوة، بغضِّ النظر عن مدى بؤسه. في اليوم التالي، في أثناء رحلته في الريف في الشتاء البارد، شعَر أنه يتعمَّق أكثر وأكثر داخل الواقع.

لم يُرسِل كلود خطابًا يُحدِّد فيه وقت عودته، ولكن كانت المدينة لا تخلو من بعض الجيران في يوم السبت. عاد مع واحد من أبناء يودر، ومشى بقيَّة الطريق من منزلهما حتى منزله. أخبر والدته أنه سعيد بعودته. كان يشعر في بعض الأحيان بأنه غير مُخلِص تجاه أُمه بسبب السعادة التي تغمره عندما يكون مع السيدة إرليش. لقد انزوَت والدته في المزرعة وانعزلت عن العالم لسنواتٍ عديدة؛ وحتى قبل ذلك لم تكن فيرمونت بحسب ظنِّه مكانًا جيدًا للتنشئة. لم تتوفَّر لها الفرصة — كما لم تتوفَّر له — لتَجرِبة الأشياء التي تَزيد من مُرونة التفكير وحيوية المشاعر.

في صباح اليوم التالي الذي صادَف يوم الأحد، كانت الثلوج تَهطِل بالخارج وحظُوا بإفطارٍ طويل ومُبهِج. قالت السيدة ويلر إنهم لن يذهبوا إلى الكنيسة اليوم؛ لأن كلود لا بد أنه مُتعَب. ظل يعمل في المكان حتى الظهيرة، وقام بشئون الماشية، وأنجز الأعمال التي تركها دان في غيابه. بعد العشاء، جلس في المكتب وكتب خطابًا طويلًا لأصدقائه في لينكن. ومتى كان يرفع عينَيه للحظات، كان يرى مُنحدرات المراعي والثلوج المُتساقِطة بخِفَّة. كان يرى جمالًا في انقياد البلدة وهي تستقبل الشتاء. وكان هذا يُشعر المرءَ بالسعادة، والحزن أيضًا. أغلق الخطاب واستلقى على الأريكة كي يقرأ الجريدة، ولكنه سُرعانَ ما نام.

لما استيقظ، اكتشف أنه فات على ما بعد الظهيرة وقتٌ طويل. كان المُنبِّه الموجود على الرف يدقُّ بصوتٍ عالٍ في الغُرفة الساكنة، ويبعث مَوقدُ الفحم وهجًا دافئًا. بدَت النباتاتُ المُزهِرة في النافذة البارزة الجنوبية أينعَ وأنضَر من المُعتاد بسبب الضوء الأبيض الناعم الذي يأتي من الثلوج المُتساقِطة. كانت السيدة ويلر تقرأ بالقرب من النافذة الغربية، وتحيد بنظرها بعيدًا عن كتابها بين الفَينة والأخرى كي تُحملِق في السماء المُلبَّدة بالغيوم والحقول الكئيبة. صنع النُّهير فجوة بنَفسَجية مُتعرِّجة عبر المراعي ومن بعده الأشجار في أجَمة سوداء كانت يعلوها طبقةٌ غريبة من الثلوج. استلقى كلود بعض الوقت من دون أن يتحدث وهو يُشاهِد مَظهر أُمه المُنعكِس في الزجاج، ويُفكِّر في كيف سيكون تَساقُط الثلج الخفيف هذا الذي يتشبَّث بالأشياء جيدًا بالنسبة إلى حقول القمح الخاصة به.

سأل من فوره: «ماذا تقرئين يا أمي؟»

التفتَت برأسها إليه. «لا شيء جديد جدًّا. بدأتُ لتوِّي في قراءة قصيدة «الفردوس المفقود» مرةً أخرى. لم أقرأها منذ مدة طويلة.»

«هلَّا قرأتِها بصوتٍ عالٍ؟ من مكانك. أُحبُّ أن أسمعها.»

كانت تتأنَّى السيدة ويلر في القراءة دومًا بحيث تُعطي لكلِّ مَقطع حقَّه. صوتها الذي كان بطبيعته ناعمًا وحزينًا بعضَ الشيء كان يَتناغم مع الأوزان الشعرية الطويلة وأسماء الشخصيات الشِّريرة المأخوذة من الكتاب المُقدَّس، التي كانت كلُّها مألوفةً لها وزاخرة بالمعاني.

«قبوٌ مُوحِشٌ مُخيف، من كل الجهات،
وفرنٌ عظيم يلتهب، ومع ذلك فإن اللهب
لا يُضيء، بل ظلامٌ واضح
لا يفيد إلا في اكتشاف مناظر الكرب.»
[ترجمة حنا عبود]

اضطرب صوتها وكأنها كانت تُحاوِل أن تفهم شيئًا. أخذت الغُرفة تُظلِم أكثر وأكثر وهي تتوغَّل أكثر وأكثر في الاستعراض المُنمَّق للآلهة الوثنية الذي يزخر بالقصص والصور المَهِيبة لأسبابٍ غير معلومة. اختفى النور في النهاية، وأغلقت السيدة ويلر الكتاب.

علَّق كلود وهو على الأريكة: «هذا رائع. ولكن لا يستطيع ميلتون الاستغناءَ عن التحدث عن الأشرار في أعماله، أليس كذلك؟»

نظرَت إليه السيدة ويلر. وسألته بمكر: «أهذه مزحة؟»

«أوه، كلَّا على الإطلاق! ما أدهشني فقط أن هذا الجزء مُثير للاهتمام أكثر بكثير من الأجزاء التي تتحدَّث عن السعادة التامة في الجنة.»

قالت السيدة ويلر ببطء وكأنَّ الشك دخَلها: «ومع ذلك، أعتقد أنه لا ينبغي أن يكون الأمر كذلك.»

ضحك ولدُها ونهض، وأخذ يُملِّس على شَعره المُجعَّد. «تَبْقى الحقيقة أنه كذلك يا أمي العزيزة. وإذا حذفنا كل مُرتكِبي الكبائر من الكتاب المُقدَّس، فستُحذَف كل الشخصيات المُثيرة للاهتمام، أليس كذلك؟»

تمتمَت قائلةً: «باستثناء المسيح.»

«نعم باستثناء المسيح. ولكن أظنُّ أن اليهود كانوا على حقٍّ لما اعتقدوا أنه من أخطر المُجرِمين.»

سألته والدته بنبرة فيها عتابٌ ودعابة: «هل تُحاوِل توريطي؟»

مشى كلود إلى النافذة التي كانت تجلس عندها ونظر إلى الحقول التي يَهطِل عليها الثلج، والتي بدأ لونها يتحوَّل إلى اللون الأزرق وتُصبح مُوحِشة مع زيادة الظلال. «أقصد فقط أنه حتى في الكتاب المُقدَّس الناسُ غير المُذنِبين ليسوا كثيرين.»

ضحكت السيدة ويلر ضحكةً خافتة برِقَّة: «آه، فهمت! أنت تُحاول أن تعود بي إلى قضية الإيمان والعمل. هذا هو الموضوع الذي كنتَ دائمًا ما تعترض عليه عندما كنت طفلًا صغيرًا. اسمعني يا كلود، لا أعلم الكثير عن تلك المسألة كما كنت حينذاك. كلما تقدَّمتُ في العمر، لا أفكر في أشياء أخرى أكثر وأتركها للرب. أعتقد أن الرب يريد أن يُنقِذ أي شيء نفيس في هذا العالم، وأنه أعلم مني بكيفية فِعل ذلك.» نهضت ومسحت خدَّها في كُم قميصه المصنوع من الفانيلا وتمتمَت قائلةً: «أعتقد أن الرب أحيانًا ينزل في الأماكن التي لا نتوقَّع نزوله فيها، حتى في القلوب المُتمرِّدة والمُتكبِّرة.»

تعانقا للحظاتٍ أمام النافذة الغربية المُربَّعة ذاتِ الزجاج الشاحب والنظيف، مِثلَما أحيانًا تَتلاقى طبيعتان في شخصٍ واحد وتتعانقان في ساعةٍ مُقدَّرة.

١٦

عاد رالف ووالده إلى المنزل لقضاء الإجازات، وفي عيد الميلاد أتى بايليس من المدينة من أجل العشاء. وصَل مُبكِّرًا، وبعد تحيَّة والدته في المطبخ، صَعِد إلى غُرفة الجلوس المُتأنِّقة بتجهيزات الإجازة التي بدَت له هذه المرَّةَ دافئةً بالقدر الكافي؛ حيث إنه كان يشعر دائمًا بالبرد بسبب تباطؤ الدورة الدموية لديه. ظل يروح ويجيء والمفاتيح تُصلصِل في جيوبه، وكان مُعجَبًا بزهور الأقحوان الشتوية التي زرعَتها والدتُه التي لا تزال يانعة. توقَّف عدة مرَّات أمام غُرفة المكتب العتيقة الطراز، وأخذ ينظر من الباب الزجاجي إلى المُجلَّدات الموجودة بالداخل. رؤية بعض هذه الكتب أيقظَت فيه ذكرياتٍ بغيضة. عندما كان صبيًّا في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، كانت الغَيرة المريرة تتَّقد بداخله لما يسمع والدته تحثُّ كلود على أن يقرأ عليها بصوتٍ عالٍ. لم يُحب بايليس الكتبَ مُطلَقًا. حتى من قبل أن يتعلم القراءة لما كانت والدته تحكي له القصص، كان يُحاوِل من فوره أن يُثبِت لها إلى أيِّ مدًى قد تكون غير صحيحة. في وقتٍ لاحق، اكتشف أن الحساب والجغرافيا كانا يستهويانه أكثر من رواية «روبنسون كروزو». وإن جلس ومعه كتاب، فإنه كان يريد أن يشعر أنه يتعلَّم شيئًا. دائمًا ما كانت تتحدث والدتُه مع كلود عن شخصيات في الكتب والقصص لا يعرف عنها شيئًا.

على الرغم من حب بايليس للمجيء إلى المنزل، فإنه كان يرى أنه عاش طفولةً مُنعزِلة. في مدرسة البلدة، لم يكن سعيدًا؛ كان دائمًا ما يستطيع حلَّ مسائل الاختبارات في الوقت الذي لا يستطيع الآخَرون فيه فِعل ذلك، وكان يحتفظ بأوراق اختبارات الحساب في جيب مِعطفه الصغير الداخلي حتى يُسلمها بتواضع للمُعلم، ولم يمنح الفرصة قَط لأي أحد من الجيران كي يستفيد من ذكائه. ليونارد دوسن والفِتيان الأقوياء الآخَرون من نفس عمره بذَلوا ما في وُسعهم كي يُحوِّلوا حياته إلى جحيم. اعتادوا في الشتاء أن يرموه في ركامٍ ثلجي ثم يذهبوا ويتركوه وحيدًا. وفي الصيف، كانوا يُرغِمونه على أكل جراد حي خَلْف مبنى المدرسة، ويضعون ثعابينَ ثورٍ كبيرة في وعاء العشاء الخاص به كي يُفاجئوه. وحتى في الوقت الحالي، كان يحب أن يرى أي أحد من هؤلاء الفتية واقعًا في مشكلات لا يمكن لأحدٍ مهما بلغَت قوته أن يُخرِجه منها.

السبب في ذلك أن بايليس كان سريعًا في التعامل مع الأعداد، وصغير الحجم بالنسبة إلى مُزارِع؛ ولذا أرسله والده إلى المدينة كي يتعلَّم مجال تجهيزات المزارع. ومنذ اليوم الذي ذهب فيه إلى العمل، تمكَّن من العيش براتبه الصغير. كان يحتفظ في جيب صدريته بدفتر يومية صغير يُسجِّل فيه كل النفقات — مثل المليونير الذي لم يملَّ الواعظون المعمدانيون قَط من الحديث عنه — وقد كان إسهامه في صندوق التبرعات يبدو كبيرًا في حسابه الأسبوعي.

كان صوت بايليس تتخلَّله نبرةٌ حزينة بعضَ الشيء حتى عندما يستخدم أسلوبه التلميحي الماكر ويتلفَّظ بكلماتٍ بغيضة؛ إن هذا تعبير عن إحساسٍ عميق بالألم. كان يشعر دائمًا بأن الآخرين يُسيئون فهمه ويُقللون من قَدْره. وبعدما أصبح له لاحقًا عملُه الخاص، لم يطلب منه شبابُ فرانكفورت قَط أن يُشاركهم في مَسرَّاتهم. لم يطلب منه أحدٌ الالتحاقَ بنادي التنس أو نادي لعبة الويست. كان يحسد كلود على بِنْيته القوية وحيويته المُندفِعة والمُتهوِّرة وكأنهما أُعطِيا لأخيه جَورًا، وكان الأجدرُ أن يُعطَيا له.

بينما كان بايليس ووالده يتحدَّثان معًا قبل العشاء، دخل كلود وفتح باندفاعٍ إحدى النوافذ، على الرغم من عِلمه أن أخاه يكره التعرض لتيَّارات الهواء. خاطَبه بايليس من فوره من دون أن ينظر إليه:

«علمت أن أصدقاءك، آل إرليش، اشترَوا شركة جينكينسون في لينكن؛ على الأقل كتبوا كمبيالات.»

قطع كلود وعدًا لأمه بألا يتعصَّب ذلك اليوم؛ لذا قال: «نعم، قرأت ذلك في الجريدة. أتمنَّى لهم النجاح.»

هزَّ بايليس رأسه وعلى وجهه مَظهرُ التعقُّل: «أشكُّ في ذلك. علمت أنهم رهَنوا منزلهم. تلك العجوز ستجد نفسها من دون مأوًى يومًا ما.»

«لا أعتقد ذلك. طالما كان يريد الأولادُ التشاركَ في عمل منذ مدة طويلة. يتمتَّع جميعهم بالذكاء والجِد في العمل؛ فلماذا لا ينجحون في عملهم؟» أُعجبَ كلود بنفسه لأنه تحدَّث بطريقةٍ مُتأنِّية وواثقة.

أغمض بايليس عينَيه نِصف إغماضة. «أظنُّ أنهم مُغرَمون بطِيب الحياة. سيدفعون الفائدة التي عليهم ويُنفِقون ما تبقَّى على إبهاج أصدقائهم. لم أرَ اسم ذلك الفتى في عقد التأسيس، يوليوس، أليس هذا هو اسمَه؟»

«يوليوس مُسافر إلى الخارج من أجل الدراسة هذا الخريف. إنه يريد أن يُصبح أستاذًا بالجامعة.»

«ماذا به؟ أيُعاني من اعتلال في صحته؟»

في تلك اللحظة، دقَّ جرس العشاء وأسرَع رالف إلى الطابق السُّفلي من غُرفته التي كان يرتدي بها ملابسَه، ونزل الجميعُ إلى المطبخ كي ينظروا إلى الديك الرومي الذي سيأكلونه. مرَّ العشاء على ما يُرام. تحدَّث بايليس ووالده في السياسة، وحكى رالف قصصًا عن الجيران في مُقاطَعة يوكا. سُرَّ بايليس لأن والدته تذكَّرَت أنه يُحبُّ حشو المحار، وأثنى على فطائر اللحم المفروم التي أعدَّتها. لما رآها تصبُّ كوبًا آخَر من القهوة لنفسها ولكلود في نهاية العشاء، قال بنبرةٍ لطيفة وحزينة: «أخشى أن يُصيبك ضررٌ من احتساء كوبَين من القهوة يا أمي.»

نظرَت إليه والدتُه من فوق وعاء القهوة بابتسامةٍ لطيفة تنمُّ عن الشعور بالذنب. «لا أظنُّ القهوة تضرُّني بأي نحو يا بايليس.»

«إنها مُضرَّة بالطبع؛ فهي من المواد المُنبِّهة.» كانت توحي نبرتُه بأنه يقصد: أي شيء أسوأ منها! عندما ينعت المرء أيَّ شيء بأنه «مادة مُنبِّهة»، فهو يُهاجِمه بلا ريب؛ إذ لا يوجد وصفٌ أمقَتُ من ذلك.

كان كلود في الصالة بالطابق العُلوي يرتدي مِعطفه كي ينزل إلى الحظيرة ويُدخن سيجاره، عندما خرج بايليس من غُرفة الجلوس واعترضه بملاحظةٍ مُبهَمة.

«أعتقد أنه سيُقام عرضٌ موسيقي في هاستنجز ليلةَ السبت.»

قال كلود إنه سمع شيئًا من هذا القبيل.

تصنَّع بايليس نبرةَ عدم مُبالاة وكأنه يُفكر في تلك الأشياء كلَّ يوم: «كنت أفكرُ في الذَّهاب معًا إلى هناك ونأخذ معنا جلاديس وإنيد. حالة الطرق جيدةٌ للغاية.»

احتجَّ كلود قائلًا: «القيادة إلى المنزل ستكون صعبة، في ذلك الوقت المُتأخِّر من الليل.» بالطبع قصد بايليس أن يقود كلود الجَمْع في سيارة السيد ويلر الكبيرة ذَهابًا وإيابًا. لم يستخدم بايليس سيارته الكاديلاك اللامعة مطلقًا على الطُّرق الوعرة وفي الرِّحلات الطويلة.

«أظن أن أمِّي ستُوفِّر لنا مكانًا نَبِيت فيه، ولا حاجة إلى العودة بالفتاتَين إلى منزلهما حتى صباح الأحد. سأحصل على التذاكر.»

«الأفضل أن تُرتِّب الأمر مع الفتاتين. بالطبع سأُوصِّلك بالسيارة إذا أردتَ الذَّهاب.»

تملَّص منه كلود وخرج مُتمنِّيًا أن يهتمَّ بايليس بشأن أمر تودُّده بنفسه ولا يُقحِمه فيه. كان بايليس لا يستطيع التمييز بين النغمات المُختلِفة، ولا شك أنه كان لا يرغب في الذَّهاب إلى الحفل، وكان لا يُعرَف هل إنيد رويس ستهتمُّ بالذهاب إليه أم لا. جلاديس فارمر كانت أفضلَ موسيقية في فرانكفورت، وعلى الأرجح كانت سترغب في الذَّهاب إلى الحفل.

كان كلود وجلاديس صديقَين قديمين — منذ أيام المدرسة الثانوية — على الرغم من أنهما لم يرَ أحدُهما الآخرَ كثيرًا لما كان يذهب إلى الكلية. وفي هذا الخريف، طلب بايليس من كلود عدة مرَّات أن يذهب معه إلى مكانٍ ما في يوم الأحد ثم كان يتوقَّف كي يأخذ جلاديس. لم يُحب كلود ذلك. وعلى أي حال، اشمأزَّ لما علم بنيَّة بايليس في الزواج من جلاديس. كانت تعيش جلاديس ووالدتها في فقرٍ مُدقِع؛ ولذلك كان بايليس على الأرجح سينجح في إتمام مشروع الزواج في النهاية، رغم أنه يبدو حتى الآن أنها لا تُبدي ترحيبًا كبيرًا بذلك. كان يرى أن الزواج من بايليس لن يكون أمرًا سهلًا بالنسبة إلى أي امرأة، ولكن جلاديس كانت الفتاة الوحيدة في المدينة التي ما كان ينبغي له الزواجُ منها. إنها شديدة التبذير رغم فقرها الشديد. وعلى الرغم من أنها كانت تُدرِّس في مدرسة فرانكفورت الثانوية مُقابِل ألف ومائتَي دولار في العام، كانت تلبس ملابس أجمل من الفتَيات الأُخريات فيما عدا إنيد رويس التي كان والدها ثريًّا. كانت المناقشات والانتقادات تُوجَّه إلى قُبَّعاتها وأحذيتها المصنوعة من الجِلد المدبوغ الجديدة عامًا بعد الآخر. قال الناس إنها إن تزوَّجت من بايليس ويلر، فسُرعانَ ما ستُصدَم من الواقع المُر. تمنَّى البعض لها التعرُّض لتلك الصدمة، في حين لم يتمنَّ البعضُ الآخر ذلك. بالنسبة إلى كلود، توقَّف عن زيارة منزل السيدة فارمر المُبهِج منذ أن بدأ بايليس الذَّهاب إلى هناك. لقد أُصيبَ بخيبة أمل في جلاديس. وعندما كان يستاء من شخص، نادرًا ما كان يتوقف كي يُفكر في شعوره. لقد كان يتحاشى الشخص والتفكير في الشخص، وكأنه مَصدر إزعاج بالنسبة إليه.

١٧

نوى السيد ويلر أن يبقى في المنزل حتى الربيع، ولكن أرسَل رالف خطابًا يقول فيه إنه يُواجِه مشكلات مع رئيس العمال؛ ولذا اضطُرَّ والده إلى أن يعود إلى المزرعة في شهر فبراير. بعد مُغادَرته بأيامٍ قلائل، هبَّت عاصفةٌ جعلت يتحدَّث الناس عنها لمدة عام قادم.

بدأ الثلج يَهطِل قُرْب الظهيرة في يوم عيد الحب؛ إذ كان ثلجًا ناعمًا وكثيفًا ورطبًا يتدفَّق على هيئة موجات، ويَعلَق بكل ما يُقابِله. في وقتٍ لاحق من العصر، هبَّت الرياح وبدأت تيَّارات الهواء في اقتلاع كل سقيفة أو شجرة أو سِياج أو حتى أجَمة من الأعشاب الطويلة. ولما نظرت السيدة ويلر بقلق من خلف نوافذ غُرفة الجلوس، لم ترَ غير موجات من الثلج الأبيض الناعم التي حجبَت المنزل المُرتفع عن بقيَّة العالم.

وجد كلود ودان، اللذان كانا في الحظيرة يقومان ببعض التدابير لحماية الماشية من سوء الأحوال الجوية، الهواءَ كثيفًا جدًّا لدرجةٍ يصعب معها التنفس، وامتلأت آذانهما وفاهاهما وأنفاهما بالثلج، الذي التصقَ أيضًا بوجهَيهما. كان الثلج يذوب باستمرار على ملابسهما، ولكنه كان يَغمرهما من أخمص قدمَيهما إلى رأسَيهما بينما كانا يعملان؛ فلم ينفضاه من عليهما. لم يكن الهواء باردًا، بل بلَغ درجةً أقلَّ قليلًا من التجمد. عندما دخلا من أجل العشاء، تدافعت تيَّارات الثلج على المنزل حتى غطَّت الإطارات السفلية لنوافذ المطبخ؛ وبينما كانا يفتحان الباب، سقط حائطٌ هشٌّ من الثلج من خلفهما. هُرِعت ماهيلي ومعها المِقشَّة والدلو كي تكنسه.

«أهي عاصفةٌ مُروِّعة يا سيد كلود؟ أعتقد أن السيد إرنست المسكين لن يأتيَ الليلة، أليس كذلك؟ لا تَشغَل بالك يا عزيزي؛ سأنزح تلك المياه. أَسرِع وارتدِ ملابس جافَّة واستحِمَّ، وإلا ستُصاب بنزلة برد. خزَّان السخَّان مليء بالمياه الساخنة من أجلك.» دائمًا ما كانت تبتهج ماهيلي بالأحوال الجوية الاستثنائية.

قابلت السيدة ويلر كلود أعلى السُّلم. سألت قلِقةً: «أثَمَّة خطر من تعرُّض العجول الموجودة بطول النهير للتجمد؟»

«لا، فكَّرت في ذلك. سُقناها جميعًا إلى الحظيرة مباشرةً وأغلقنا البوَّابات. لا أعلم ما يجري عند النُّهير الآن. ملابسي كلها مُبتلَّة. أظن أنني سأتبع نصيحة ماهيلي وأستحمُّ إذا أمكنَ تأخيرُ العشاء قليلًا من أجلي.»

«ضع ملابسك أمام باب الحمَّام وسأُحاول أن أُجفِّفها لك.»

«نعم، من فضلك. سأحتاج إليها غدًا. لا أريد أن أُتلِف سروالي المصنوع من القماش المُضلَّع. عليكِ كذلك، يا أمي، أن تطلبي من دان تغييرَ ملابسه. فملابسه مُبتلَّة ومُشبَّعة بالبخار بشدة، ولا تصلح للجلوس على الطاولة بها. أخبريه إن اضطُرَّ أحد إلى الخروج بعد العشاء، فسأخرج أنا.»

أسرعَت السيدة ويلر في النزول على السلَّم. كانت تعلم أن دان يُفضِّل الجلوس في ملابس مُبتلَّة طَوال المساء على أن يتكبَّد عَناء تغيير ملابسه. حاوَل التسلل من خلفها إلى مَسكنه خلف غرفة الغسيل، وبدا حزينًا عندما سمع ما أرادته منه.

قال مُعترِضًا: «ليس لديَّ ملابس خروج أخرى غير التي أرتديها في يوم الأحد.»

«حسنًا، يقول كلود إنه سيخرج إن اضطُرَّ أحد إلى الخروج. أظن أن عليك تغييرَ ملابسك على الفور يا دان، وإلا ستنام من غير عشاء.» ضحكت بهدوء من الحزن الذي بدا على وجهه وهو ينسلُّ بعيدًا.

همست ماهيلي قائلةً: «سيدة ويلر، هلَّا أنزل إلى القبو وأُحضِر لهما بعضَ الفراولة المحفوظة الجميلة؟ السيد كلود يُحبها مع البسكويت الساخن. لم يَعُد يأكل العسل لأنه سئم منه.»

«حسن جدًّا. سأُحضر قهوةً حُلوة ومُركَّزة؛ فتلك القهوة ستُبهِجه أكثر من أي شيء.»

نزل كلود وهو يشعر بأنه نظيفٌ ودافئ وجائع. وبينما كان يفتح باب السلَّم، اشتمَّ رائحة القهوة ولحم الخنزير المقلي؛ ولمَّا فتحت ماهيلي الفرن، اندفعَت منه الرائحةُ الدافئة للبسكويت البنِّي مع الدخان. بدَّدت هذه الروائحُ جميعها، بعضَ الشيء، حزنَ دان لما عاد في حذاء يوم الأحد الخاص به الذي كان يُصدِر صريرًا، ومِعطفٍ طويلِ الذَّيل وواسع. لم يَلزَمه ارتداء المِعطف، ولكنه ارتداه انتقامًا.

في أثناء العشاء، أخبرتهما السيدة ويلر مرةً أخرى كيف أنه لم تكن هناك طرقٌ أو سياجات في غرب فرانكفورت في بداية زواجها. وحكَت أنها، في إحدى ليالي الشتاء، جلسَت على سطح أولِ مَخبأ لهما طَوال الليل تقريبًا، وهي تُمسِك مِصباحًا مُعلَّقًا في عمود كي تُرشِد السيد ويلر إلى المنزل في عاصفةٍ ثلجية مِثل تلك.

بينما كانت ماهيلي تتحرَّك بالقرب من الموقد، راقبَت الجالسين على الطاولة. وأحبَّت أن ترى الرَّجلَين وهما يملآن بطنَيهما بالطعام — على الرغم من أنها كانت لا تَعدُّ دان رَجلًا بأي حال من الأحوال — وركَّزت انتباهها كي تتأكد من أن السيدة ويلر لم تغفل عن الأكل؛ إذ إنها كانت مُعتادةً على ذلك وقتَما تتذكر الأشياء التي حدثت منذ وقت طويل. كانت ماهيلي في حالة مِزاجية سعيدة؛ لأن توقعاتها بشأن الأحوال الجوية تحقَّقت؛ فبالأمس فقط أخبرت السيدة ويلر أن الثلج سيَهطل؛ لأنها رأت طيور الثلج. كانت تعتبر العشاء ذا أهمية غير عادية عندما ترى كلود يرتدي «بنطاله المخملي»، كما تُطلِق على سرواله البنِّي المصنوع من القماش المُضلَّع.

بعد العشاء، استلقى كلود على الأريكة في غُرفة الجلوس، وجلسَت والدته تقرأ عليه بصوتٍ عالٍ من رواية «البيت المُوحِش»؛ حيث إنها من الروايات المُفضَّلة لديها. كان جو البائسُ يقترب من نهايته لما انتصَب كلود فجأةً جالسًا. «أمي، أعتقد أنني أشعر بالنعاس بشدة. سأخلد إلى النوم. هل تعتقدين أن الثلوج لا تزال تهطل بشدة؟»

نهض وذهب كي ينظر للخارج، ولكن النوافذ الغربية كانت مُغطَّاة بشدة بالثلوج لدرجةِ أنه كان لا يُرى ما خلفها. لم يستطع أن يرى شيئًا للحظة حتى من النافذة الجنوبية، ولكن لا بد أن ماهيلي حملَت مِصباحها أمام نافذة المطبخ بالأسفل؛ إذ أضاء من فوره شعاعًا أصفر عريضًا في الهواء الخانق، وعبْرَه كانت تسير بسرعةٍ ملايينُ ندف الثلج مثل الجيوش في حركة بلا توقُّف، وأخذت تتجمَّع قَدْر إمكانها من دون أن تُشكِّل كتلةً صُلبة. ضرب كلود عِضادة النافذة المُجمَّدة بقبضته، ورفع الإطار السفلي، وأخرج رأسه وحاوَل النظر إلى الخارج في الليل المُدلهمِّ. كان هناك نوعٌ من الجلال في عاصفة بهذا الحجم؛ إذ تُعطي المرء شعورًا باللانهاية. بدا أن الجُزيئات البيضاء التي لا حصر لها، والتي كانت تَعبُر أشعة ضوء المِصباح لها هدفٌ مُحدَّد؛ وهو التحرك السريع إلى نهايةٍ مُحدَّدة. نقاء خافت، مِثل رائحة عطر تُدغدِغ أحاسيس الإنسان، كان ينبعث منها وهي تتجمَّع حول رأسه وكتفَيه. ولما نظرت والدته من تحت ذراعه المرفوعة، حاولت بصعوبةٍ النظرَ وسط تلك الحركة الحاشدة، وتمتمَت بصوتٍ هادئ ومُرتعِش قائلةً:

«أكثر فأكثر، أخذ يَزيد تجمُّد سطح البحيرة والنهر؛ وأكثر فأكثر، أخذ سُمك الثلج على كافة الأنحاء.»

١٨

كانت غُرفة نوم كلود تُواجِه جهة الشرق. في صباح اليوم التالي، عندما نظر من نوافذه، لم يرَ إلا قِمم أشجار الأرز في الساحة الأمامية. ارتدى ملابسه على عجَل وجرى إلى النافذة الغربية في نهاية الصالة؛ لقد اختفى نُهَير لافلي كريك والوادي العميق الذي يتدفَّق فيه وكأنَّهما لم يكونا موجودَين. تحوَّلت المراعي الوعرة إلى وادٍ مُنبسِط، باستثناء الروابي والتِّلال التي أصبحت تُشبِه أكوام القش، حيث كان ينجرف الثلجُ فوق أحد الأعمدة أو أجَمات الأشجار.

على سُلَّم المطبخ، قابلته ماهيلي في حالةِ انفعالٍ كبير. «لِيَرحمْنا الربُّ يا سيد كلود، لا أستطيع فتح باب العواصف. الثلج يُحيط بنا ويَمنعُنا من الخروج من المنزل.» بدَت كأنها امرأةٌ مُتشرِّدة إذ كانت سُتْرتها مُرقَّعة برُقَع ذات ألوان كثيرة، وعلى رأسها وشاحٌ خفيف أسوَد قديم، تَتدلَّى منه خيوط على وجهها وكأنها خصلات شَعر جامحة. كانت تحتفظ بهذا الزيِّ للمناسبات المأساوية؛ كانت ترتديه عندما تتجمد أنابيب المياه وتنفجر، أو عندما تغمر عواصفُ الربيع المحاصيلَ وتُغرِق أفراخها.

كان باب العواصف ينفتح للخارج. دفعه كلود بكتفه وفتحه قليلًا. ثم باستخدام مِجرفة مِدفأة أحضرَتها ماهيلي، أزاح كَمِّيةً كافية من الثلج تُمكِّنه من دفع الباب وفتحِه. أتى دان يتهادى لابسًا جوربَه عبر المطبخ حتى وصل إلى حذائه العالي الرقبة، الذي كان لا يزال يجفُّ خلف المَوقِد. علَّق وهو يرمش بعينَيه: «إنها حقًّا عاصفةٌ شديدة يا كلود.»

«نعم، أظن أننا لن نُحاوِل الخروجَ إلا بعد الإفطار. سنُضطرُّ إلى شقِّ طريقنا إلى الحظيرة، ولم يَخطُر ببالي أن أُحضِر المجارف ليلةَ أمس.»

«مجارف الثلج في القبو. سأُحضِرها.»

«ليس الآن يا ماهيلي. أحضِري لنا الإفطار قبل القيام بأي شيء آخر.»

نزلت السيدة ويلر واضعةً شالها الصغير حول كتفَيها ومُغلِقةً إياه بدبوس، وكتفاها محنيَّتان أكثرَ من المُعتاد. قالت في خوف: «كلود، أشجار الأرز في الساحة الأمامية غطَّتها الثلوج بالكامل. هل تظنُّ أن الماشية يمكن أن تُدفَن تحت الثلج؟»

ضَحِك. «كلَّا يا أمي. أعتقد أن الماشية كانت تتحرك في المكان طَوال الليل.»

عندما بدأ الرجلان في إزاحة الثلج بمجاريف الثلج الخشبية، وقفت السيدة ويلر وماهيلي في المدخل تُراقبهما. على مسافةٍ قصيرة من المنزل، أصبح الممرُّ الذي حفَراه أشبَه بنفق، وكانت الجُدران البيضاء على الجانبَين أعلى من رأسَيهما. في بداية التل، لم يكن الثلجُ عميقًا، وحقَّقا تقدمًا أفضل. كان عليهما المُجاهَدة أكثر مع ركامٍ ثلجي آخَر كبير قبل أن يكون بإمكانهما الوصول إلى الحظيرة؛ ولما وصَلَا أدفآ أنفُسهما بين الخيول والأبقار. وذهب دان إلى جوار بقرة دافئة وبدأ في حلبها.

كلود: «ليس بعد. أريد أن أُلقيَ نظرةً على الخنازير قبل أن نفعل أي شيء.»

بُنِيت حظيرةُ الخنازير في وادٍ ضيِّق خلف الحظيرة. لما وصل كلود إلى حافة الوادي الضيِّق ووجده مكشوفًا تقريبًا، استطاع أن ينظر فيه. كان الوادي مليئًا بالثلج الناعم إلا في المنتصف، حيث كانت توجد حفرةٌ وعرة تُشبِه كومةً كبيرة من أغطية السرير المُتساقِطة.

شهق دان. «يا إلهي! لقد سقط السقف يا كلود! ستختنق الخنازير.»

«ستختنق إن لم نلحقها بسرعة. أَسرِع إلى المنزل وأَخبِر والدتي. ستقوم ماهيلي بالحلب هذا الصباح، وعُد إلى هنا بأسرعِ ما يُمكِنك.»

كان السقف مصنوعًا من القش المُنبسِط، وضغطُ الثلج عليه كان ثقيلًا جدًّا. تساءل كلود في نفسه هل كان من الواجب عليه وضعُ قشٍّ جديد هذا الخريفَ أم لا، ولكن القش القديم لم تكن به فجوات، وبدا قويًّا للغاية.

لما عاد دان تبادَلا الأدوار؛ كان أحدهما يتقدَّم ويرمي أكبر قدر ممكن من الثلج، والآخَر يتعامل مع الثلج المُتبقِّي. بعد ساعة أو أكثر من هذا العمل، اتَّكأ دان على مِجرفته.

«لن ننجح أبدًا يا كلود. لا يستطيع رجلان جرْفَ كلِّ هذا الثلج حتى في أسبوع. أنا شِبهُ مُنهَك.»

صاح كلود بحِدَّة: «حسنًا، يمكنك العودةُ إلى المنزل والجلوس بجانب المِدفأة.» خلَع مِعطفه، وكان يعمل لابسًا قميصه وسُتْرته. كان العرَق ينحدر من وجهه، وآلَمه ظهرُه وذراعاه، وتقرَّحَت يداه إذ لم يُحافِظ على جفافهما. كان يوجد في حظيرة الخنازير سبعةٌ وثلاثون خنزيرًا.

جلس دان في الحفرة. وقال مُغتمًّا: «ربما إن حصلتُ على بعض الماء أستطِع إكمال عملي.»

استطاعا الدخول إلى الحظيرة بعد الظُّهر، وارتفعت سحابةٌ من البخار، وسَمِعا خَنخَنة الخنازير. وجدا الخنازير مُتكوِّمةً بعضها على بعض في أحد أطراف الحظيرة؛ ومن ثَم سحبا الخنازير الموجودة بالأعلى وهي تصرخ. اختنق اثنا عشر خنزيرًا كانت في قاع الكومة. كانت أجسامها مُبتلَّة وسوداء في الثلج؛ وعلى الرغم من دفئها وخروج البخار منها، فإنها بلا شك كانت ميتة.

لَبِست السيدة ويلر حذاءَ زوجها المطَّاطيَّ العالي الرقبة ومِعطفًا قديمًا، ثم نزلَت مع ماهيلي كي ترى تلك الكارثة.

صاحت ماهيلي في الرَّجلَين: «يجب عليكما البدءُ فورًا في ذبحها وتقطيع لحمها اليوم.» كانت تقف على حافة الوادي الضيِّق لابسةً سُتْرتها المُرقَّعة وغطاءَ رأسها ذا الخيوط المُنسلة. كلود، الذي كان في الحفرة، مسح وجهه الذي يتصبَّب عَرقًا في كُمِّ سُتْرته. وصاح غاضبًا: «أذبحها؟ لن أذبحها حتى وإن لم أرَ اللحم مرَّةً أخرى.»

ردَّت ماهيلي مُتوسِّلةً: «لن تترك كل لحم الخنازير الطيب هذا يذهب هباءً، أليس كذلك يا سيد كلود؟ إنها غير مُصابة بمرض أو ما شابَه. ما عليك سوى أن تبدأ من فورك في ذبحها، وإلا لن يكون لحمها صحيًّا.»

«لن يكون صحيًّا بالنسبة إليَّ على أي حال. لا أعلم ما سأفعل بها، ولكني واثقٌ تمام الثقة بأنني لن أذبحها.»

حذَّرَتها السيدة ويلر قائلةً: «لا تُزعجيه يا ماهيلي. إنه مُتعَب، وعليه أن يُهيِّئ مكانًا صالحًا من أجل الخنازير الحية.»

«أعلم أنه كذلك يا سيدتي، ولكني أستطيع ذبحَ أيٍّ من تلك الخنازير بنفسي. فقد ذبحتُ خنزيرًا صغيرًا لديَّ عندما كنت في فيرجينيا. على أي حال، أستطيع حِفظ لحم الأفخاذ والضلوع. لن يكون لدينا لحمٌ من ضلوع الخنازير لمدةٍ طويلة.»

كان كلود يشعر ببؤسٍ شديد بسبب ألم ظَهْره واغتمامه من فقدان الخنازير. صاح: «أمي، إن لم تأخذي ماهيلي إلى المنزل فسيُجَنُّ جنوني!»

في مساء ذلك اليوم، سألته والدته عن القيمة المالية لتلك الخنازير الاثنَي عشر. بدا مُتحيِّرًا قليلًا.

«أوه، لا أعلم بالضبط؛ ربما ثلاثمائة دولار.»

«هل تُساوي هذا المَبلغ حقًّا؟ لا أعلم كيف كان بإمكاننا منعُ تلك المُصيبة، هل تعلم أنت؟» بدَت الحَيرة على وجهها.

خلَد كلود إلى النوم بعد العشاء مباشرةً، ولكن لم يكد يُمدِّد جسده المُتألِّم تحت الغطاء حتى بدأ يستيقظ. شعَر بالخزي من فقدان الخنازير لأنها تُرِكت في عُهْدته؛ ولكن لم يبدُ أنه كان يأبَهُ لخَسارة المال؛ وهو الأمر الذي حزنت عليه حتى والدته. تساءل في نفسه عما إذا كان طوال هذا الشتاء لم يُنمِّ لديه ازدراءً طفوليًّا تجاه القيم المالية.

لما كان رالف في المنزل وقت عيد الميلاد، كان يرتدي خاتمًا ذهبيًّا ثقيلًا في خِنصره، وكانت في فصِّه ماسةٌ بحجم البازلَّاء، مُحاطةٌ بنقوشٍ لامعة. أخبر كلود أنه رَبِحه في لُعبة بوكر. لم تَخلُ يدا رالف قَط من شحم السيارة — لقد كانتا من النوع المُتورِّد المُكتنِز الذي لا يمكن الحفاظ على نظافته. تذكَّر كلود صورته وهو يحلب في الحظيرة على ضوء الفانوس، وجوهرته ترمي بشعاعٍ برَّاق، وأصابعه تُشبِه حلمات البقرة إلى حدٍّ كبير. ظهرَت تلك الصورة أمامه الآن باعتبارها رمزًا على النجاح في مجال المزارع.

كان يستيقظ المزارع ويأخذ إلى السوق الأشياء ذات القيمة العالية؛ يأخذ القمح والذُّرة اللذَين بجودةٍ يمكن أن تُضاهيَ نظيرهما على مستوى العالم، وأخذ أفضل الخنازير والماشية. في طريق العودة، كان يشتري بعض الأغراض المُصنَّعة ذات الجودة الرديئة؛ قِطع أثاث برَّاقة مُكسَّرة، سجاجيد وستائر بهَت لونُها، ملابس تجعل الوسيم الذي يرتديها مِثل المُهرِّج. وكان يُنفِق معظم أمواله على الآلات — وهذه أيضًا تحطَّمَت. لم تكن تصمد آلةُ الدرس البخارية مدةً طويلة، ويعيش أحد الأحصنة مدةً تجاوزت العمر الافتراضيَّ لثلاث سيَّارات.

أحسَّ كلود لما كان صغيرًا، وكان جميعُ الجيران فقراء، أنهم ومنازلهم ومزارعهم حَظُوا بشخصيةٍ فريدة أكثر. كان المُزارِعون حينها يستغرقون وقتًا أطوَل في زراعة بساتين أشجار الحور القُطني البديعة في مزارعهم، وفي عمل سياجات بزراعة أشجار برتقال أو ساج بطول حدود حقولهم. قُطِعت كلُّ هذه الأشجار الآن واقتُلِعت من أماكنها. لم يكن أحدٌ يعلم السبب؛ تسبَّبوا في انخفاض خُصوبة الأرض، تسبَّبوا في الرُّكامات الثلجية، لم تَعُد توجد لدى أحدٍ أيٌّ من هذه الأشجار. تولَّد نوعٌ من قسوة القلب من رَحِم الرخاء؛ إذ يريد كلُّ امرئ أن يُدمِّر الأشياء القديمة التي اعتاد أن يفخر بها. البساتين التي رُعِيَت وحُوفِظ عليها طيلةَ عشرين سنةً باتت متروكةً الآن كي تموت من الإهمال. بات الذَّهاب إلى المدينة بالسيارة لشراء الفاكهة أسهَل من زراعتها.

تغيَّر الناس أنفُسُهم. إنه يتذكَّر وقتَ أن كان جميع المُزارِعين في هذه البلدة يُكنُّون الودَّ بعضهم تجاه بعض، أما الآن فلا تنتهي المُنازَعات القضائية فيما بينهم. أبناؤهم إما يتَّصفون بالبخل والجشَع أو الإسراف والكسل، ولا ينفكُّون عن إثارة المشاكل. من الواضح أن إنفاق المال يحتاج إلى فِطنة أكبرَ من كَسْبه.

عندما تأمَّل كلود هذا الاستنتاج، فكَّر في آل إرليش. بإمكان يوليوس أن يُسافر إلى الخارج ويدرس كي يحصل على درجة الدكتوراه، ويعيش على دخلٍ أقلَّ مما يُنفِقه رالف في العام. لن يكون أبدًا لرالف مهنةٌ أو تجارة، ولن يقوم أبدًا بشيءٍ يحتاج إليه العالم.

لم يجد حاله أفضلَ من حال أخيه. كان يبلغ واحدًا وعشرين عامًا ولا يمتلك مهاراتٍ ولا تدريبًا، ولا قدرةً على الوجود وسط الناس الذين يُحب أن يكون بينهم. إنه فتًى مُزارع أخرَق وغبي، وحتى بدا أن السيدة إرليش كانت تعتقد أن المزرعة أفضل مكان بالنسبة إليه. ربما كان هذا صحيحًا؛ ورغم ذلك لم يجد تلك الحياةَ تستحقُّ عناء الاستيقاظ كلَّ صباح. إنه لا يستطيع رؤية فائدة العمل من أجل المال ما دام المال لا يُحقِّق له ما يريد. كانت تقول السيدة إرليش إن المال يجلب الأمن. كان يظنُّ أحيانًا أن هذا الأمن هو سبب تعاسة الجميع؛ فالأمان التامُّ لا يؤدي إلا إلى قتلِ أفضلِ الصفات لدى الناس وإظهار أسوأ ما فيهم.

إرنست أيضًا كان يقول: «إنها الحياة الأفضلُ على وجه الأرض يا كلود.»

لكن إن ذهبتَ إلى السرير مهزومًا كلَّ ليلة وخشيتَ الاستيقاظَ في الصباح، فمن الواضح أنها ليست الحياة المُثلى بالنسبة إليك. بالنسبة إلى شخص في عمره، عدم الخوف من فوات ثلاث وجبات في اليوم والنوم لمدةٍ كافية لا يقلُّ عن الاطمئنان إلى الحظوة بمَدفنٍ لائق. الأمان، الأمن؛ إذا اتبع المرءُ هذا المنطق، فالذين لم يُولَدوا بعدُ والذين لن يُولدوا مُطلَقًا يَحظَون بأكبر أمان؛ إذ لا يمكن أن يَحدُث لهم شيء.

بدا أن كلود كان يعلم — كما كان يعلم الجميع — أن هناك شيئًا خطأً فيه. لم يستطع إخفاءَ شعوره بالسخط. كان يخشى السيد ويلر أن يكون من أصحاب الرؤى الحالمة الذين يتسبَّبون في متاعبَ غير ضرورية لأنفُسهم ولغيرهم. كانت تظنُّ السيدة ويلر أن مشكلة ابنها تَكمُن في عدم قربه من الربِّ حتى الآن. كان بايليس مُقتنِعًا أن أخاه مُتمرِّدٌ أخلاقي، وأنه خَلْف تَحفُّظه وحذَره كان يُخفي أخطر الآراء. الجيران كانوا يُحبُّون كلود، ولكنهم كانوا يسخرون منه، ويقولون إن ثراء والده أتى في صالحه. كان يُدرك كلود أنه بدلًا من أن يستفيد من طاقته في تحقيق شيء، فإنه يُبدِّدها في مقاومة ظروف لا تتغير، وفي محاولاتٍ لا تُجدي نفعًا لقمع طبيعته. عندما كان يظن أنه استطاع التحكُّم في نفسه في النهاية، فلحظةٌ كفيلةٌ بأن تُبدِّد جهود أيام كاملة؛ كان يتحوَّل في لَمْح البصر من عمودٍ خشبي إلى فتًى مُفعَم بالحيوية. كان ينهض على قدمَيه، أو يتقلَّب بسرعة على السرير، أو يتوقَّف عن المشي؛ لأن الاعتقاد القديم يتَّقد في عقله، ويُشعِل الأمل والألم فيه؛ إنه الاعتقاد بوجود شيء جميل في الحياة، لو يستطيع فقط العثور عليه.

١٩

بعد العاصفة الشديدة، حدَثَت تقلُّبات في الأحوال الجوية. حدث ذوبانٌ جزئي أنذَر بحدوث طوفان، ثم تجمَّد الثلج مرَّةً أخرى. تلألأَت البلدة بكاملها بطبقة من الثلج، وتجوَّل الناس على أرضيةٍ من الثلج المُتجمِّد، كانت في مستوًى أعلى بكثير من مستوى الحياة العادية. أخرج كلود مركبةَ الجليد الزوجية القديمة الخاصة بالسيد ويلر من بين كومة من الأشياء غير المُتجانِسة التي ظلَّت قابعةً فوقها لسنوات، وأحضر الأجراس الصدئة الخاصة بها إلى المنزل كي تُلمِّعها ماهيلي باستخدام غبار الطوب. نظرًا إلى أن معظم المُزارِعين أصبح لديهم سياراتٌ الآن، فقد تركوا مَركبات الجليد الخاصة بهم حتى تحطَّمَت. ولكن آل ويلر كانوا دائمًا ما يُحافِظون على أشيائهم.

أخبر كلود والدته أنه ينوي أخذ إنيد رويس في جولة بمركبة الجليد. إنيد كانت ابنةَ تاجر الحبوب الذي يُدعى جايسون رويس، الذي يُعَد من أوائل مُستوطِني المنطقة، والذي ظل عدةَ سنوات يُدير طاحونة الحبوب الوحيدةَ في مُقاطَعة فرانكفورت. إنها وكلود كانا رفيقَين قديمين؛ كان يقوم بزيارةٍ رسمية إلى منزلها الذي كان يُسمَّى بالطاحونة في كل صيف أثناء إجازته، وكثيرًا ما كان يذهب لزيارة السيد رويس في مكتبه في المدينة.

بعد العشاء مباشرةً، ربط كلود الحِصانَين الأسوَدَين الصغيرين القويَّين — بومبي وساتان — في مَركبة الجليد. في ذلك اليوم، ظهَر القمر قبل أن تغيب الشمس بوقتٍ طويل، وبقيَ في السماء شاحبًا معظمَ وقتِ ما بعد الظهيرة، وبات الآن يغمر الأرض المُغطَّاة بالثلج بنوره الفِضِّي. لقد كانت إحدى ليالي الشتاء المُنيرة التي يُحسُّ فيها الفتى أن العالم لا يَسعُه على الرغم من كِبَره؛ أنه لا يوجد تحت قبة السماء الزرقاء المُتلألئة أحدٌ سعيد ومُرهَف الحسِّ مِثله، وأن كل هذه العظَمة مخلوقة من أجله. دوَّت أجراس مَركبة الجليد بموسيقى مُبهِجة، وكأنها سَعِدت بالعمل مرَّةً أخرى بعدما ظلَّت صدِئة ومُختنِقة بالغبار عِدَّة فصول من الشتاء.

إن الطريق إلى الطاحونة الذي يمكن الوصول إليه من الطريق السريع ويمتدُّ إلى النهر كانت له ذكرياتٌ سعيدة مع كلود. لما كان فتًى صغيرًا، كان يتوسل إلى والده كي يأخذه معه في كل مرة يذهب فيها إلى الطاحونة. كان يُحب الطاحونة وصاحبها وابنة صاحبها الصغيرة. لكنه لم يُحب منزل صاحب الطاحونة مُطلَقًا، وكان يخاف من والدة إنيد. حتى الآن، بينما كان يربط فرَسَيه في الحاجز الطويل بجوار غُرفة المُحرِّكات، قرَّر ألا يسمحَ لأحد بأن يحمله على الدخول إلى غُرفة الاستقبال الرسمية، تلك المليئة بالأثاث الحديث والغالي؛ إذ في تلك الغُرفة كانت تتخلَّى عنه دائمًا شجاعتُه، ولا يستطيع التفكير في أي شيء يتحدَّث فيه. وإذا تحرَّك، كان يَصدُر من حذائه صريرٌ وسط الصمت، وكانت السيدة رويس تجلس وتطرف بعينَيها الصغيرتين الحادَّتَين تجاهه؛ وكلَّما طالت مدة جلوسه، زادت صعوبة خروجه.

أتَت إنيد بنفسها إلى الباب.

صاحت مُتعجِّبةً: «عَجبًا، إنه كلود! ألن تدخل؟»

«كلَّا، أريد أن تخرجي معي في جولة. أخرجتُ مركبة الجليد القديمة. هيا، الطقس جميلٌ هذه الليلة!»

«أظن أنني سمعتُ الأجراس. ألن تدخل وترى والدتي ريثما أتجهَّز؟»

قال كلود إنه يجب عليه البقاءُ مع الفرَسَين، وعاد مُهرِولًا إلى الحاجز. لم تتأخَّر عليه إنيد؛ إذ لم تكن من هذا النوع من الأشخاص. أتَت بسرعةٍ عبر المَمر وعبَرَت البوَّابة الأمامية لابسةً مِعطفَ قيادة عليه شعارُ ولاية مين الذي كانت تلبسه عندما تقود سيَّارتها الكوبيه في الطقس البارد.

لما اندفع الفرَسان إلى الأمام، وبدأت الأجراس تُجلجِل، سأل كلود: «والآن، أي طريق سنسلكه؟»

«أي طريق. يا لها من ليلةٍ جميلة! وأنا أحبُّ أجراسك يا كلود. لم أسمع أجراس مَركبة جليد منذ الوقت الذي اعتدت فيه أن تأخذَني أنا وجلاديس من المدرسة إلى المنزل في الجو العاصف. ما رأيك أن نمرَّ عليها ونأخذَها معنا الليلة؟ لديها، كم تعلم، أكثر من فِراءٍ الآن.» وهنا، ضحكت إنيد. «كل النساء العجائز مُتحيِّرات بشدة بشأنها؛ إنهن لا يعرفن هل أعطاها أخوك لها في عيد الميلاد أم لا. إن كنَّ مُتأكِّدات من أنها اشترتها بنفسها، فأعتقد أنهن سيَعقدن اجتماعًا عامًّا.»

ضرَب كلود الحصانَين الصغيرين المُتحمِّسين بالسوط. «ألا تَسْأمين من الطريقة التي يتحدَّثون بها على جلاديس دومًا؟»

«سأفعل إذا كانت تُبالي هي. ولكني أَعجَب من هدوئها! لا بد أن هناك شيئًا يتحدَّثون بشأنه، وبالطبع تتراكمُ الضرائب المُتأخِّرة على السيدة فارمر المِسكينة. بالتأكيد أشكُّ في أن بايليس هو الذي اشتراها لها.»

لم يَعُد كلود مُتحمِّسًا للمرور على جلاديس، وأخذَها معهما كما كان منذ بضع لحظات. لقد كانا يقتربان من المدينة الآن، وكانت النوافذ المُنيرة تُشعُّ بنورٍ خافت عبْرَ بياض الثلج المُنعكِس باللون الأزرق. حتى في فرانكفورت المُتقدمة، كانت مصابيح الشوارع تُطفَأ في ليلةٍ مُنيرة كتلك الليلة. كانت السيدة فارمر وابنتها تعيشان في كوخٍ أبيَض صغير في الجزء الجنوبي من المدينة، حيث لا يعيش سوى أصحابِ الدَّخْل المُتواضِع. لما اقتربا أمام السياج، قالت إنيد: «يجب أن نتوقَّف لنرى والدة جلاديس ولو حتى لدقيقة. إنها تُحبُّ الصحبة كثيرًا.» ربط كلود فرَسَيه في شجرة وصَعِدا إلى المدخل الضيِّق والمنحدر الذي تُحيط به نباتاتٌ مُتسلِّقة مُغطَّاة بالثلج المُتجمِّد.

قابلتْهما السيدة فارمر؛ إنها امرأةٌ ضخمة مُتورِّدةُ الوجه في الخمسين من عمرها، ولها صوتٌ جميل مثل أهل ولاية كنتاكي. أمسكَت بذراع إنيد بودٍّ واصطحبَتها للداخل، وتبِعهما كلود إلى غُرفة الجلوس الطويلة ذات السقف المُنخفِض وذات الأرضية غير المُستوية التي بها مِصباحان، واحد في كل طرَف، وبها بضع قِطع أثاث مُتهالِك من خشب الماهوجني. هناك، بجانب مِدفأة الفحم الصُّلب، كان يجلس بايليس ويلر. لم ينهض عندما دخَلا، ولكنه قال: «مَرحبًا يا رفاق»، بصوتٍ يتخلَّله بعض الإحراج. على طاولةٍ صغيرة، وبجانب سلة أدوات الخياطة الخاصة بالسيدة فارمر، كان يوجد صندوق الحلوى الذي أخرجه من جيب مِعطفه قبل قليل، والذي كان لا يزال مربوطًا بشريطٍ ذهبي. كان يوجد مِصباحٌ طويل بجانب البيانو الذي من الواضح أن جلاديس كانت تتمرَّن عليه. تساءل كلود في نفسه هل بايليس يزعم أنه مُهتمٌّ بالموسيقى حقًّا! في تلك اللحظة، قالت السيدة فارمر إن جلاديس في المطبخ تبحث عن نظَّارة والدتها التي نسيَت أين وضعَتها لما كانت تكتب وصفة طهي خاصة بسوفليه الجبن.

سألَتها إنيد: «أما زلتِ تحصلين على وصفاتِ طهيٍ جديدة يا سيدة فارمر؟ أظن أنَّ بإمكانك طهْيَ كل الأكلات في العالَم.»

«أوه، هذا ليس صحيحًا تمامًا!» ضحكَت السيدة فارمر بتواضُع، وأظهرَت أنها تُحب المُجامَلات. وقالت للشخص المُتصلِّب عند الباب: «تفضَّلْ بالجلوس يا كلود. ستأتي ابنتي خلال لحظات.»

في تلك اللحظة، ظهرَت جلاديس فارمر.

قالت وهي تُرحِّب بالموجودين: «عَجبًا، لم أعلم أنَّ لديكِ رفقةً يا أمي.»

في ظن كلود، كان كلامُها يعني أن بايليس لم يكن رفيقًا. لم يكَد ينظر إلى جلاديس وهو يُصافح يدها التي مدَّتها إليه.

أتى أحد أجداد جلاديس من مدينة أنتويرب، وكانت جلاديس لديها الهيئةُ الرَّزينة والشفتان الحمراوان المُمتلئتان والعينان البُنِّيتان واليدان البيضاوان التي بها نُقرٌ تظهر غالبًا في الصور الفلمنكية للفتَيات. يعتقد البعض أنها بَدينة قليلًا، وناضجة وواثقة جدًّا من نفسها، بحيث لا يمكن أن تُوصَف بأنها جميلة، على الرغم من أنهم يُعجَبون ببشرتها الجميلة المُشرَبة بالحُمرة التي يُشبِه لونها لونَ زهرة التوليب. لم يبدُ قَط أن جلاديس على دراية بأن مَظهرها وفقرها وبذَخها موضعُ جدال دائم، بل إنها كانت تذهب إلى المدرسة وتعود منها كلَّ يوم وكأنها شخصٌ له مكانة لا تهتز. تعلُّمها للموسيقى منَحها ثقلًا في فرانكفورت.

شرحَت إنيد الغرض من زيارتهما. «أخرَج كلود مَركبة الجليد القديمة الخاصة به وأتَينا كي نأخذك معنا في جولة. أظن أن بايليس سيأتي معنا، أليس كذلك؟»

قال بايليس إنه يظن ذلك، على الرغم من أن كلود كان يعلم أنه لا يكره شيئًا أكثرَ من أن يخرج في البرد. هرولَت جلاديس إلى الطابق العُلوي كي تلبس ملابسَ ثقيلة، ورافقَتها إنيد، وتركَتا السيدة فارمر كي تُجريَ مُحادَثةً ودِّية مع ضيفَيها غيرِ المُتوافِقَين.

قالت مُتعاطِفةً: «أخبَرني بايليس لتوِّه كيف فقدتَ الخنازير في العاصفة يا كلود. يا له من حدثٍ مؤسف!»

قال كلود في نفسه إن بايليس لن يتكتَّم على تلك الحادثة على الإطلاق!

كانت السيدة فارمر تتمتَّع بصوتٍ مُنخفِض وهادئ مِثل ابنتها، وهو مُختلف عن صوت أهل الغرب العالي والعصبي؛ ولذا قالت بأسلوبها المُؤدَّب: «أظنُّ أنه لم تَكُن هناك أيُّ طريقة لإنقاذها. لذا، أرجو ألا تتضايق بشأن تلك الحادثة.»

ردَّ كلود بجرأة: «لا، أنا لا أُزعِج نفسي بأي شيء مات مِثل تلك الخنازير. فما الفائدة من ذلك؟»

تأرجحَت السيدة فارمر في كرسيِّها قليلًا، وتمتمَت قائلةً: «صحيح. تقع تلك الأمور أحيانًا، وما ينبغي لنا أن ننزعج بشأنها بشدة. إنها ليست مُهمةً مِثل إصابة إنسان بسوء، أليس كذلك؟»

اهتزَّ كلود في كرسيِّه، وحاوَل أن يردَّ على كلامها الطيب، ويتكيَّف مع الراحة البسيطة التي تُوفِّرها غُرفة الاستقبال الطويلة خاصتها، التي كان من الواضح أنها تُحاوِل جاهدةً أن تكون جذَّابة لأصدقائها. لم توجد أربعُ أرجُل ثابتة في أيٍّ من الكراسي المُنجَّدة أو الطاولات الصغيرة القابلة للطي التي أحضرَتها من الجنوب، والأُطر الذهبية الثقيلة كانت نِصف مكسورة في صورة والدها القاضي الزيتية. لكنها لم تَكُن تهتمُّ بمسألة الفقر — كدأب أهل الجنوب بعد الحرب الأهلية — ولا تَشغل بالها كثيرًا بالضرائب المُتأخِّرة كما يفعل جيرانُها. حاوَل كلود أن يكون وَدودًا في الحديث معها، ولكن شتَّتَه صوتُ الضحك المكبوت الذي كان يأتي من الطابق العُلوي. على الأرجح كانت جلاديس وإنيد تتمازحان بشأن وجود بايليس هناك. يا لهما من فتاتَين وقِحتَين!

عندما كانت مَركبة الجليد تنطلق مُسرِعةً وأجراسها تُجلجِل في شوارع القرية ذَهابًا وإيابًا، أتى الناس إلى النوافذ الأمامية لمَنازلهم لإلقاء نظرة عليها. عندما غادروا المدينة، اقترَح بايليس أن يذهبوا إلى ما هو أبعدُ من منزل تريفور. بدأت الفتاتان تتحدثان عن الشابَّين اللذين كانا من نيو إنجلاند — تريفور وبرويستر — اللذين كانا يعيشان هناك لما كانت فرانكفورت لا تزال مُستوطَنةً حدودية صغيرة ووَعْرة. كان الجميع يتحدثون عنهما الآن؛ إذ منذ بضعة أيام وصَل خبرُ أن أحد الشريكَين، وهو أموس برويستر، سقط ميتًا في مكتب المُحاماة الخاص به الكائن في هارتفورد. مرَّ ثلاثون عامًا منذ أن حاوَل هو وصديقه بروس تريفور أن يُصبِحا من أكبر مُربِّي الماشية بمُقاطَعة فرانكفورت، وبنَيا المنزل فوق التل الدائري الموجود شرقيَّ المدينة، وأنفقا عليه مَبلغًا كبيرًا بسعادةٍ كبيرة. كان والد كلود يقول دائمًا إن المبلغ الذي يُبدِّدانه على الشراب ضئيلٌ مقارنةً بخسائرهما بسبب مَساعيهما المحمودة في مجال الأعمال. قال السيد ويلر إن البلدة لم تبقَ قَط على حالها بعدما غادَرها هذان الشابَّان. سرَّه أن يُخبِرهم عن الوقت حينما دخل تريفور وبرويستر في مجال تربية الأغنام. استورَدا كبشًا للتكاثر من اسكتلندا بتكلفةٍ كبيرة؛ ولما وصل لم يصبرا وأرادا الاستفادة منه؛ ومن ثَم أطلَقاه مع النِّعاج بمُجرَّد أن خرَج من قفصه. وكانت النتيجة أنْ وُلِد كل الحُمْلان في الفصل الخطأ؛ إذ وُلدَت في بداية شهر مارس — في عاصفةٍ ثلجيةٍ شديدة — وماتت كلُّ الأمهات من البرد. امتطى تريفور المِغوار حِصانه وطاف بجميع أرجاء المُقاطَعة، بين كل المُستوطَنات الصغيرة؛ كي يشتريَ زجاجات وحلماتِ إرضاع من أجل إطعام الحُملان التي ماتت أمهاتها.

استُؤجرَت الأرض الفيضية الخِصبة القريبة من منزل تريفور من قِبل مُزارِع كان يزرعها من أجل بيع محصولها منذ سنوات حتى الآن، أما عن المنزل المُريح المُلحَق به مبنًى فرعي للعب البلياردو — وهو شيء لم يَكُن مألوفًا في ذلك الجزء من الريف حينذاك — فقد ظلَّ مُغلَقًا ونوافذه مُغطَّاة بألواحٍ خشبية. كان يقع المنزل أعلى تلٍّ صغير مُستدير، وكان يوجد خلفه بستانٌ جميل من أشجار الحور القطني. ولما اتجه كلود نحوه في تلك الليلة، بدا التل بأشجاره الطويلة المُستقيمة وكأنه قُبَّعةٌ كبيرة مصنوعة من الفِراء موضوعة على الثلج.

علَّقَت إنيد: «لماذا لم يَشترِ أحدٌ هذا المنزل منذ مدةٍ طويلة ويُصلِحه؟ لا يوجد مكان في تلك الأنحاء يمكن أن يُقارَن به. يبدو أنه المكان الذي يجب أن يعيش فيه أكابر المدينة.»

قال بايليس بنبرةٍ مُتحفِّظة: «سرَّني أنه أعجبك يا إنيد. طالما كنتُ أُضمِر إعجابًا لهذا المكان. لكن لم يرغب هذان الشخصان في بيعه مُطلَقًا. ولكنَّ هذا الأمر انتهى الآن. فقد اشتريته بالأمس. والعقد في طريقه إلى هارتفورد من أجل التوقيع.»

الْتفتَت إنيد إليه وهي في مَقعدها. «يا إلهي، يا بايليس، هل أنت جادٌّ؟ لقد اشتريت منزل تريفور على الفور وكأنه عقارٌ عادي! هل ستُنهي إجراءات تملُّكه وتعيش فيه يومًا ما؟»

«لا أدري هل سأعيش فيه أم لا. إنه بعيد جدًّا بحيث لا يمكن أن أذهب منه إلى مكان عملي سيرًا على الأقدام، والطريق المارُّ عبر هذه الأرض يغمره الطينُ بشدة في الربيع بحيث يصعب أن تسير عليه السيارة.»

«ولكنه ليس بعيدًا، تبلغ المسافة أقلَّ من ميل. لو امتلكتُ هذا المكان، فبالتأكيد لن أدعَ أحدًا آخَر يعيش فيه. حتى إن كاري تتذكَّره. وكثيرًا ما تسأل في خِطاباتها هل اشترى أحدٌ منزل تريفور حتى الآن أم لا.»

كاري رويس — أخت إنيد الكبرى — في بَعثةٍ تبشيريَّة بالصين.

اعترف بايليس قائلًا: «حسنًا، أنا لم أشترِه من أجل الاستثمار. دفعتُ قيمته بالكامل.»

الْتفتَت إنيد إلى جلاديس؛ إذ بدا واضحًا أنها لم تَكُن تُنصِت إليهما. «أنتِ الشخص الذي يستطيع التخطيط لبناءِ قصرٍ على تل تريفور يا جلاديس. لا يخلو عقلُك من مثل هذه الأفكار المُبتكَرة عن المَنازل.»

قالت جلاديس بهدوء: «نعم، فمَن لا يملكون المنازل يبدو في الغالب أنَّ لديهم أفكارًا مُبتكَرة عن البناء. ولكني أُحبُّ منزل تريفور على وضعه الحالي. وأحزن عندما أُفكِّر في أنَّ أحدهما قد مات. يقول الناس إنهما أمضَيا أوقاتًا طيبة في هذا المكان.»

نخر بايليس. «أُسمِّيها أوقاتًا طيبة إن أحببت. لما أتيت لأول مرة إلى المدينة، كان الأطفال يسعَون لسرقة زجاجات الويسكي من القبو. وبالطبع إذا قرَّرت العيش في هذا المنزل، فسأهدم ذلك الفخَّ القديم وأُشيِّد شيئًا حديثًا.» كثيرًا ما كان يتحدث بتلك النبرة الفظَّة مع جلاديس أمام الناس.

حاولَت إنيد أن تُشرِك السائقَ في الحديث. «يبدو أن هناك اختلافًا في الآراء هنا يا كلود.»

قالت جلاديس غيرَ آبهة: «أوه، إنه ملك بايليس، أو سيُصبح كذلك قريبًا. سيَبْني ما يريد. كنت أعرف دائمًا أن أحدًا سيأخذ هذا المكان مني يومًا ما؛ ولذا فأنا مُستعِدَّة.»

تمتمَ بايليس باندهاش: «يأخذه منك؟»

«نعم. ما دام لم يَشترِه أحدٌ ويُغيِّر ملامحه، فهو ملكٌ لي ولأي أحد آخَر.»

قالت إنيد مازحةً: «كلود، أصبح لكل واحد من أخوَيك منزل. فأين سيكون منزلك؟»

ردَّ ساخرًا: «لا أعرف إن كنتُ سأمتلك واحدًا يومًا ما أم لا. أظن أنني سأرتحل حول العالم قليلًا قبل أن أُحدِّد ما سأفعله.»

قالت جلاديس بنبرةٍ تنمُّ عن ضجرٍ مُفاجئ: «خُذني معك يا كلود!» من تلك التمتمة الحزينة، شكَّت إنيد أن بايليس أمسك بيدِ جلاديس تحت غِطاء جِلد الجاموس الذي كانا يَضعانه على أرجُلهما.

خيَّمَت الكآبة على رحلة التجول بمَركبة الجليد. حتى إنيد التي لا تتمتَّع بحساسيةٍ كبيرة تجاه العواطف المكبوتة، رأت أن هناك كبحًا غير مُريح للعواطف. هبَّت ريحٌ شديدة. اقترَح بايليس مرَّتَين أن يعودوا، ولكنَّ أخاه ردَّ عليه قائلًا: «سنعود قريبًا جدًّا»، وتابَع طريقه. قصَد أن يحصل بايليس على ما يكفي من الأمر. وإلى أن همسَت إليه إنيد مُوبِّخةً: «أعتقد حقًّا أنه ينبغي أن نعود؛ بدأت بُرودة الجو تَقرِسنا»، أدرك أنه حوَّل رحلة التجول بمَركبة الجليد إلى عقاب! لم ترتكب إنيد بالتأكيد فعلًا تُعاقَب عليه؛ فقد فعلَت ما بوُسعها، وحاولت أن تُغطي على أسلوبه السيِّئ. تخبَّط في اعتذاره إليها حينما ساعَدها في الخروج من مَركبة الجليد عند الطاحونة. وفي طريق عودته الطويل إلى المنزل، راوَدته أفكارٌ مريرة عن الصحبة.

كان غاضبًا بشدة من جلاديس لدرجة أنه لم يودِّعها. اغتاظ من كل كلمة قالَتها في تلك الجولة. إن كانت تنوي الزواج من بايليس، فلا بد أن تنفضَ عنها هذا التظاهر بالحرية والاستقلال. وإن كانت لا تنوي الزواج منه، فلماذا تَقبَل المُجامَلات منه، وتتركُه يعتاد على الذَّهاب إلى منزلها، ويضع عُلبة الحلوى الخاصة به على الطاولة، مِثلما يفعل كلُّ أهل فرانكفورت عندما يُحاوِلون التودُّد لشخصٍ ما؟ بالتأكيد لم تستطع أن تُقنِع نفسها بأنها تُحب مُجتمَعه!

لما كانا زميلَين في مدرسة فرانكفورت الثانوية، كانت جلاديس بمنزلة مرآة لمَظهر كلود الجمالي. لم تَجرِ العادة أن يتحلَّى أي فتًى بالنظافة الشديدة والاهتمام البالغ بمَلبسهم وأسلوبهم. ولكن إذا اختار فتاةً لا تشوبها شائبةٌ في هذه النواحي، وكان يحضر دروس اللغة اللاتينية والأنشطة المعمليَّة معها، فكلُّ عوامل الجذب الشخصية فيها تُحسَب له. بدا أن جلاديس كانت تُقدِّر الشرف الذي منحَه لها كلود، وما كانت هي السبب بالكامل في أن تلبس تلك الفساتين الجميلة المكويَّة المَخِيطة من الموسلين عندما كانا يذهبان في رِحلاتٍ استكشافية عن النباتات.

في طريق العودة من هذه الجولة التعيسة بمَركبة الجليد، قال كلود لنفسه إنه فيما يتعلَّق بجلاديس يستطيع أن يعتقد أنه تعرَّض «للخداع» طَوال الوقت. لقد صدَّق مشاعرها الراقية؛ صدَّقها ضِمنيًّا. لكنه بات الآن يعلم أنها ليست لديها مشاعرُ راقية يمكن أن تُخفيَها إن كان هناك ما يمكن أن تَجنيَه من ذلك. وحتى بينما كان يقول في نفسه هذه الأشياء مرارًا وتَكرارًا، ظلَّت فِكرته القديمة الكامنة في أعماق عقله عن جلاديس راسخةً لا تتغيَّر. ولكنَّ ذلك ما زاد مشاعرَه إلا تألُّمًا. لقد بلَغ جُرحه مَبلغًا عميقًا؛ ولسببٍ ما، يُحبُّ الشابُّ أن يشعر أنه تعرَّض للخيانة عندما يَجرحه أحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤