الفصل الأول

قضية آثار الأقدام البيضاء

قال صديقي فوكستون مُواصِلًا الحديث في موضوعٍ مألوف يبدو أنه لا يَنضب أبدًا: «حسنًا، كنتُ أُحبِّذ أن أَحظى بوظيفتك بدلًا من وظيفتي.»

فأجبته بلا تعاطُف: «لا أشكُّ في أنك كنت تُحبِّذ ذلك. فأنا لم أقابل في حياتي رجلًا لا يُحبِّذ ذلك. فجميعُنا يَميل إلى النظر إلى وظائف الآخرين من منظور مزاياها، والنظر إلى وظائفنا من منظور مساوئها: تلك هي الطبيعة البشرية.»

ردَّ فوكستون قائلًا: «آه، من السهل عليك أن تكون فيلسوفًا شديد الفظاظة، لكنك ما كنت لتكون كذلك لو كنت مكاني. فهُنا، في مارجيت، لا نرى سوى الحَصبة والجُدري والحُمَّى القِرمزية طوال الصيف، والْتهاب الشُّعب الهوائية ونزلات البرد والروماتيزم طوال الشتاء. هذه رتابةٌ مُهلِكة. أما أنت وثورندايك فتجلسان هناك في مكتبَيكما، بينما يُشبعكما زبائنكما رومانسيةً خالصة. عَجبًا! إن حياتكما أشبه بدراما أبدية كالتي تُعرَض على مسرح أديلفي.»

قلت له: «إنك تُبالغ يا فوكستون؛ فنحن أيضًا نواجه بعض الرتابة في عملنا مِثلك تمامًا، لكنها لا تظهر أبدًا خارج قاعات المحاكم، ولا بد أنك، كأي طبيب آخر، تُعايش بعض الغموض والرومانسية في عملك من حين إلى آخر.»

هزَّ فوكستون رأسه بينما يُقدِّم إليَّ الفنجان بيده، وقال: «كلَّا، أنا لا أحصد من مهنتي سوى رتابةٍ مُملَّة لا تنتهي.»

فور أن انتهى من قوله هذا، دخلت الخادمة إلى الغرفة مندفعةً باهتياجٍ عجزت عن إخفائه، وكأنما جاء دخولها بهذه الطريقة تعقيبًا على جملته الأخيرة، وصاحت قائلةً:

«إذا سمحتَ يا سيدي، خادم نُزُل السيدة بيدينجفيلد يقول إنهم وجدوا سيدةً ميتة في فراشها، ويطلب منك الذهاب إلى هناك فورًا.»

فقال فوكستون: «حسنًا يا جين.» وبينما خرجت الخادمة، غرف لنفسه بيضةً مقليةً أخرى وراح يتناولها بتمهُّل، وصاح مُحدِّقًا إليَّ عبر الطاولة: «أليس هذا ما يحدث دائمًا؟ تعالَ فورًا — الآن — حالًا، مع أن المريض ربما يظلُّ يُفكِّر طوال يوم أو يومين فيما إذا كان سيُرسل في طلبك أم لا، لكنَّه يُقرِّر فورًا أنك يجب أن تَثِب من الفراش، أو تهبَّ تاركًا فُطورك، وتركض إليه.»

وافقته الرأي قائلًا: «هذا صحيح جدًّا، لكن هذه تبدو حالةً عاجلة حقًّا.»

فسأل فوكستون: «وما وجه العجلة؟ لقد ماتت المرأة بالفعل. قد يظنُّ من يسمع ذلك أنها مهدَّدة بخطرٍ وشيك سيُعيدها إلى الحياة مجددًا، وأن وُصولي الفوري هو الشيء الوحيد الذي سيمنع هذه الكارثة.»

فقلت له: «ليس لديك سوى معلومة من طرَفٍ ثالث بأنها ماتت. من الممكن ببساطةٍ ألَّا تكون قد ماتت، وحتى إذا ماتت حقًّا فسوف تضطرُّ إلى الإدلاء بأقوالك في التحقيق، ولا أظنُّ أنك تريد أن تصل الشرطة إلى هناك أولًا وتقلب الغرفة رأسًا على عقب قبل أن تفحص الجثة بنفسك.»

فصاح فوكستون: «سُحقًا! لم أُفكِّر في ذلك. نعم. أنت مُحِق. سأهبُّ إلى هناك حالًا.»

ابتلع ما تبقَّى من البيضة بلعةً واحدة وهو ينهض من أمام المائدة، ثم توقَّف وراح ينظر إليَّ بتردُّد لبضع ثوانٍ.

تحدَّث بعد ذلك قائلًا: «أتساءل يا جِرفيس عمَّا إذا كان بوسعك القدوم معي؛ فأنت أدرى مني بشِعاب الطب الشرعي. ما رأيك؟»

وافقت فورًا؛ إذ إنني كنت سأقترح ذلك بنفسي في واقع الأمر، وما منعني سوى التأدب. أحضرتُ من غرفتي كاميرا الجيب والحامل الثلاثي القوائم، وانطلقنا معًا دون مَزيد من التأخير.

لم يكُن نُزُل السيدة بيدينجفيلد يَبعد عن مَسكن فوكستون سوى بضع دقائق سيرًا على الأقدام؛ إذ كان يقع بالقرب من منتصَف شارع «إثيلريد رود» الهادئ الشبيه بالضَّواحي، والذي يقع في منطقة كليفتونفيل، ويكتظُّ بمبانٍ سكنية مُشابهة لاحظتُ أن العديد منها يخضع لحملات تنظيف وتجديد استعدادًا لفصل الربيع المُقبِل قريبًا.

قال فوكستون: «ها هو النُّزل، حيث تقف هذه المرأة عند الباب الأمامي. انظر إلى النُّزلاء مجتمعين عند نافذة غرفة الطعام. أؤكِّد أن ثَمة فوضى نادرة المثال تعمُّ في هذا النُّزل.»

حينئذٍ صعد العتبات الخارجية راكضًا بعدما وصل إلى النُّزل، وخاطَب المرأة المُسنَّة التي كانت تقف عند الباب الأمامي المفتوح بنبرةٍ مُتعاطفة.

تحدَّث إليها قائلًا: «يا له من خَطبٍ فظيع يا سيدة بيدينجفيلد! أمرٌ مُروِّع! ما أشدَّ وقْعَه إيلامًا على نفسك!»

ردَّت قائلةً: «آه، أنت مُحِق يا دكتور فوكستون. إنه خَطبٌ شنيع وفظيع، ثم إن تأثيره سيئ للغاية في هذا المشروع التجاري. آمل وأتمنَّى ألَّا تحدث أيُّ فضيحة.»

قال فوكستون: «وأنا أيضًا أتمنَّى ذلك بكل تأكيد. لن تحدث أيُّ فضيحة ما دمتُ قادرًا على تجنُّب ذلك. ولأن صديقي الدكتور جِرفيس، الذي يَمكث معي بضعة أيام، مُحامٍ وطبيب، فسنَحظى بأفضل مشورة. متى اكتُشفت الواقعة؟»

«قُبيل أن أستدعيك مباشرةً يا دكتور فوكستون. لقد لاحظت الخادمة أن السيدة توسان — وهذا اسم المسكينة — لم تأخذ ماءها الساخن المتروك عند باب الغرفة؛ فقرَعَت الباب. وحين لم تتلقَّ أيَّ رد، جرَّبت فتح الباب بنفسها، لكنها وجدته موصدًا من الداخل؛ فجاءت وأخبرتني بذلك. صعدتُ إلى الأعلى وقرعت الباب قرعًا صاخبًا. وبعدها، حين لم أتلقَّ أيَّ رد، طلبت من صبيِّنا جيمس، أن يفتح الباب عَنوةً بفتَّاحة صناديق، ففعل ذلك بسهولةٍ كبيرة لأن المزلاج كان صغيرًا. دخلتُ الغرفة مُنتفضةً من شدة القلق؛ إذ كان يُراودني هاجس بوجود خَطب ما، ووجدتها جثةً هامدة مُستلقيةً بجُحوظٍ مُرعِب في عينيها، وقِنينةٍ فارغة في يدها.»

فقال فوكستون: «قنينة!»

«نعم. لقد انتحرَت، شيءٌ مُثير للشفقة، وكلُّ ذلك بسبب علاقة غرامية سخيفة، بل إنها لم ترقَ حتى إلى هذه الدرجة.»

قال فوكستون: «آه، ذلك هو المعتاد. يجب أن تُحدِّثينا عن ذلك لاحقًا. أما الآن، فمن الأفضل أن نصعد ونرى المريضة، أو بالأحرى اﻟ… حسنًا، فلتُرينا الغرفة يا سيدة بيدينجفيلد.»

استدارت صاحبة النُّزل وسبقتنا على الدَّرَج إلى الجزء الخلفي من الطابق الأول حيث توقفَت، وفتحت باب إحدى الغُرف بهدوء، وحدَّقت إلى داخلها بتوتُّر شديد. وحين تخطَّيناها ودخلنا، بدَت كأنها تهمُّ بالدخول وراءنا، لكن بعد نظرة ذات مغزًى مني، أقنعها فوكستون بالرحيل وأغلق الباب. وقفنا بعد ذلك صامتين لبُرهة ورُحنا ننظر فيما حولنا.

كان مَظهر الغرفة يتَّسم بتنافرٍ غريب مع المأساة التي وقعت داخل جدرانها، وكأنما هو مزيج بين الابتذال والفظاعة أدَّى إلى إحباط النهاية. فمن خلال النافذة المفتوحة على مِصراعَيها، كانت أشعَّة الشمس الربيعية الساطعة تتدفَّق إلى داخل الغرفة لتنساب على ورق الحائط المبهرج والأثاث الرخيص، وفي الشارع بالأسفل انطلقَت الصيحات المتكرِّرة التي يصيح بها رجلٌ يبيع «سمك موسى وماكريل!» لتتداخل مع نغماتٍ متقطِّعة رشيقة قد صدرت من أرغن يدوي. امتزج كلا الصوتين بصوتٍ صاخبٍ قريب كان صاحبه يشدو مبتهجًا بأغنيةٍ شعبية، وقد عرفنا مصدر هذا الصوت حين رأينا مِرفقًا مُكتسيًا بكُمٍّ كتَّاني كان يتحرَّك إلى أعلى وإلى أسفل أمام النافذة من الخارج، ومن الواضح أنه كان مرفق دهَّان يقف على سُلَّم متنقِّل مُجاور.

كان كلُّ شيء عاديًّا ومألوفًا ومُتنافرًا للغاية مع هيئة الجثَّة المتصلِّبة التي استلقَت على الفراش كتمثالٍ شمعيٍّ يرمز للمأساة، دون أن يُرى عليه أيٌّ من ملامح النُّعاس الكريم الذي غالبًا ما يوحي بأنَّ الموت راحةٌ أبدية. لقد كانت هذه المرأة مَيتةً، وبدَت مِيتتها شنعاء عُدوانية. كان وجهُها النحيل الشاحب جامدًا كالحجر، وعيناها الداكنتان تُحدِّقان إلى الفراغ اللامُتناهي بنظرةٍ جامدة مُروِّعة كان النظر إليها مُزعِجًا للغاية. ومع ذلك، لم تكن وضعية الجثَّة توحي بالاضطراب، بل الحق أنها كانت مُتناظِرة تناظرًا غريبًا بعض الشيء؛ إذ كانت كلتا الذراعين ممدَّدتين خارج أغطية الفراش، وكلتا اليدين مُقفلتَين، بينما أمسكت اليد اليُمنى بقِنينةٍ فارغة، مِثلما قالت السيدة بيدينجفيلد.

قال فوكستون وهو يقف ناظرًا إلى جثة المرأة: «حسنًا، تبدو قضيةً شديدة الوضوح؛ إذ يبدو أنها أزهقت رُوحها وظلَّت مُمسكةً بالقنينة كي لا يُخطئ أحدٌ في استنتاج ما حدث. متى ماتت هذه السيدة حسب تقديرك يا جِرفيس؟»

تحسَّستُ أطرافها المتيبِّسة وقِستُ درجة حرارة سطح جسدها.

ثم قلت له: «لقد ماتَت منذ ما لا يقلُّ عن ست ساعات، وربما أكثر. أعتقد أنها ماتَت في حوالَي الساعة الثانية من فجر اليوم.»

قال فوكستون: «هذا كل ما يُمكننا قوله حتى إجراء تشريح الجثة. كل شيء يبدو واضحًا تمامًا. لا توجد أمارات صراع ولا علامات عنف. وربما يعود السبب في هذا الدم الموجود على فمها إلى أنها قضمَت شفتها وهي تشرب من القنينة. نعم، يوجد هنا جرحٌ صغير داخل الشفة يتوافق مع السِّنتين القاطعتين العُلويتين. أتساءل بالمناسبة عمَّا إذا كانت القنينة تحتوي على أي ثُمالة مُتبقية.»

وبينما كان يتكلم، سَحب القنينة الزجاجية الصغيرة الخضراء، والتي لم تكن تحمل أي مُلصَق، من اليد المُغلَقة؛ فانفلتت منها بسهولة، ورفعها نحو الضوء.

صاح بعد ذلك قائلًا: «أجَل، لا يزال بالقنينة أكثر من درهمٍ سائلي، وهذه كميةٌ كافية لتحليل ذلك السائل، لكني لا أستطيع تمييز الرائحة. هل تستطيع معرفتها؟»

فتشمَّمت القنينة وأدركت وجود رائحة نباتية خافتة غير مألوفة.

أجبت قائلًا: «كلَّا. يبدو محلولًا مائيًّا من نوعٍ ما، لكني لا أستطيع تسميته. أين سدَّادة القنينة؟»

أجاب قائلًا: «لم أرَها. ربما تكون على الأرض في مكانٍ ما.»

انحنينا بحثًا عن السدَّادة المفقودة، وسُرعان ما وجدناها مُلقاةً في الظل أسفل المِنضدة الصغيرة بجوار السرير، غير أنني وجدت في أثناء هذا البحث السريع شيئًا آخر كان موجودًا في مَرمى بصرنا الواضح طوال الوقت؛ عود ثقاب شمعي. وصحيحٌ أن وجود عود ثقاب شمعي هو شيءٌ عادي للغاية، وربما لا تكون له أي علاقة بالأمر، لكن ظهور هذا العود جعلني أقف مع نفسي وأفكر مليًّا. ففي المقام الأول، لا تستخدم النساء في المُعتاد، أعواد الثقاب الشمعية، غير أن ذلك لم يكن أمرًا كبير الأهمية. ما كان مهمًّا في الأمر هو أن الشمعدان الموجود فوق المنضدة الموجودة بجوار السرير كان يحوي علبةً من أعواد الثقاب العادية، وأن هذه الأعواد العادية هي التي استُخدمت على ما يبدو لإضاءة الشمعة؛ إذ كان الجزء المُحترِق المتبقِّي من أحدها موجودًا في صينية الشمعدان. فما سر وجود عود الثقاب الشمعي إذن؟

وبينما كنت أفكِّر في هذه الأُحجية، سدَّ فوكستون القنينة الزجاجية بالسدادة، ولفَّها بعناية في ورقةٍ أخذها من منضدة الزينة، ثم وضعها في جيبه.

تحدَّث قائلًا: «حسنًا يا جِرفيس، أظنُّ أننا قد رأينا كل شيء، وسوف يُكمل التحليل وتشريح الجثة هذه القضية. فهلَّا نزلنا واستمعنا إلى ما ستقوله السيدة بيدينجفيلد؟»

غير أن ذلك العود الشمعي الذي كان ضئيلًا كدلالته، وحده دونًا عن التفاصيل الأخرى، قد تراءى لذهني على أنه آخر حلقة في سلسلة من الظواهر التي يحتمل كلٌّ منها تأويلًا خبيثًا، وبدأ التأثير التراكمي لهذه الإيحاءات الطفيفة يؤثِّر فيَّ تأثيرًا شديدًا بعض الشيء.

قلت له: «تمهَّلْ يا فوكستون. دعنا لا نفترض أن أي شيء هو حقيقةٌ مُسلَّم بها. نحن هنا لجمع الأدلة، وعلينا أن نفعل ذلك بحذر؛ إذ توجد جرائم قتل بالتسميم، كما تعلم.»

أجاب قائلًا: «نعم بالطبع، لكن لا يوجد ما يُوحي بذلك في هذه القضية. لست أرى شيئًا من هذا القبيل على الأقل. فهل ترى أنت؟»

قلت: «لم أرَ شيئًا قاطعًا للغاية، لكن توجد بعض الحقائق التي تستدعي التفكير. دعنا نستعرض ما رأيناه بتمعُّن. سوف نجد في البداية هذا التناقض الواضح في مظهر الجثة؛ فالوضعية العامة المُسترخية المتناظِرة، والتي تُشبِه وضعية جثة هامدة في قبرها، تُشير إلى تأثيرِ سمٍّ بطيء غير مؤلِم، لكن انظر إلى الوجه؛ إنه لا يُشير إلى أي ارتياح على الإطلاق، بل يوحي إيحاءً قويًّا بالألم أو الذُّعر أو كليهما.»

قال فوكستون: «نعم، إنه كذلك، لكن لا يُمكنك استخلاص أي استنتاجات مُقنِعة من تعابير وجه الجُثث. كثيرًا ما تبدو تعبيرات بعض الرجال الذين يُشنَقون، أو يُطعَنون حتى، وديعةً كالأطفال الرُّضَّع.»

فأصررتُ قائلًا: «لكنها ما تزال حقيقةً جديرة بالملاحظة، ثم إن لدينا ذلك الجرح في الشفة؛ ربما يكون قد حدث بالطريقة التي خمَّنتَها، لكنه يُمكن أيضًا أن يكون قد نجم عن ضغط على الفم.»

لم يُعلِّق فوكستون على ذلك إلا بهزةٍ طفيفة من كتفَيه، بينما واصلت أنا كلامي قائلًا: «ثم إليك حالة اليد. لقد كانت مُقفَلة، لكنها لم تكن تقبض حقًّا على الشيء الذي كانت تَحويه؛ فأنت قد سحبت منها القنينة بلا أي مقاومة؛ أي إنها كانت ترقد في اليد المُقفلة ليس غير، وليس ذلك بالوضع الطبيعي؛ فأنت تعلم أنه حين يموت شخصٌ ما وهو مُمسِك بأي شيء، إما أن ترتخي اليد وتدع هذا الشيء يسقط، أو يتحول النشاط العضلي تدريجيًّا إلى تشنُّجٍ جُثِّي فتقبض اليد على الشيء بإحكام. وأخيرًا، يوجد عود الثقاب الشمعي هذا؛ فمن أين أتى؟ من الواضح أن المرأة الميتة قد أضاءت شمعتها بأحد أعواد الثِّقاب العادية من العُلبة. صحيحٌ أن هذه تفصيلةٌ بسيطة، لكنها تستلزم توضيحًا.»

رفع فوكستون حاجبَيه مُعترضًا. وقال: «أنت ككل المتخصِّصين يا جِرفيس؛ ترى تخصُّصك في كل شيء. وبينما تعتصر هذه الإيحاءات الواهية لتُحوِّل انتحارًا بسيطًا إلى جريمة قتل، تتجاهَل الحقيقة القاطعة حقًّا، وهي أن ذلك الباب كان مُوصَدًا من الداخل، وكان لا بد من فتحه عَنوةً قبل أن يدخل أيُّ أحدٍ الغرفة.»

تحدَّثت قائلًا: «لعلك لا تنسى أن النافذة كانت مفتوحة على مِصراعَيها، وأنه كان يوجد دهَّانون بالقرب منها، وربما تُرِك سُلَّم منصوبًا أمام النُّزل.»

قال فوكستون: «بخصوص السُّلم فهذا محض افتراض، لكننا نستطيع حسم هذه المسألة بسؤال ذلك الرجل الموجود خارجًا عمَّا إذا كان قد ترك السُّلم منصوبًا في الليلة الماضية أم لا.»

وهنا تحرَّكنا معًا نحو النافذة، لكن كِلينا قد توقَّف فجأةً في مُنتصَف الطريق؛ إذ إن السؤال عن السُّلم سرعان ما صار بلا قيمة؛ فقد كانت تُحدِّق إلينا من البساط المُشمَّع الذي كان يُغطِّي الأرضية آثارُ قدمين حافيتَين مطبوعة بِطلاءٍ أبيض وذات بُروز شديد كأنها منحوتة على الخشب. ولم يكن ثَمة داعٍ إلى السؤال عمَّا إذا كانت تلك الآثار ناجمة عن قدمَي المرأة الميتة؛ لأنها كانت آثار قدمَي رجل بلا أي شك، بل قدمَين كبيرتين أيضًا. ولم يكن هناك من شك كذلك في الجهة التي أتَت منها هاتان القدمان؛ إذ كانت الآثار تبدأ من أسفل النافذة ببروزٍ صارخ، ثم تتضاءل شدتها سريعًا حتى تصل إلى الجزء المُغطَّى بالسجاد من الغرفة، حيث تتلاشى فجأةً، ولم تُرَ بقية الآثار الخافتة لخطوات المسير المُتلاشية تدريجيًّا على ذلك الجزء إلا بأقرب تدقيق مُمكِن.

وقفت أنا وفوكستون بضع لحظات نُحدِّق في صمت إلى هذه العلامات البيضاء المُوحية بالشر، ثم نظر أحدنا إلى الآخر.

تحدَّث فوكستون قائلًا: «لقد أنقذتني من خطأٍ شديد الفداحة يا جِرفيس؛ فسواء أكان السُّلم موجودًا أم لا فإنَّ هذا الرجل قد دخل عبر النافذة، وكان ذلك في الليلة الماضية؛ لأنني رأيتهم يَطلُون عتبات هذه النافذة عصر البارحة، ولكن من أي جهة أتى يا تُرى؟»

ذهبنا إلى النافذة وتفحَّصنا العتبة، فوجدنا على الطلاء الجديد مجموعةً من آثار الأقدام الواضحة، وإن كانت مُلطَّخةً بعض الشيء. أعطتنا هذه الآثار تأكيدًا لم نكن حتى نحتاج إليه، وأظهرت أن الشخص الدخيل قد وصل إلى النافذة من الجهة اليسرى التي كانت قريبةً من أنبوب تصريف رئيسي مصنوع من الحديد الزهر، كان مَطليًّا آنذاك بطلاءٍ أخضر جديد.

قال فوكستون: «إذن، فوجود السُّلم من عدمه ليس مهمًّا. لقد دخل الرجل عبر النافذة بطريقة أو بأخرى، وهذا كل ما يُهم.»

قلت له: «بالعكس، ربما تكون هذه التفصيلة مهمة جدًّا في تحديد هُوية القاتل؛ فليس أي شخص يستطيع تسلُّق أنبوب تصريف رئيسي، في حين أن معظم الناس يستطيعون تسلُّق سُلَّم، حتى وإن كان مزوَّدًا بعارضةٍ خشبية تُعيق غير المسموح لهم باستخدامه، لكن حقيقةَ أن الرجل قد خلع حذاءه وجواربه تشير إلى أنه جاء عن طريق الأنبوب؛ لأنه لو كان يريد كتم صوت قدميه فحسبٍ لَخلع حذاءه فقط على الأرجح.»

تركنا النافذة والتفتنا لفحص آثار الأقدام على الأرض من كثب، وبينما أخذت مجموعةً من القياسات بشريط القياس الزنبركي خاصتي، كان فوكستون يُسجِّلها في دفتر ملاحظاتي.

وقال لي: «ألا تتعجب يا جِرفيس من أن كلا الإصبعين الأصغرين في القدمين لم يترك أي أثر؟»

رددت قائلًا: «هذا صحيح. إن شكل الآثار يُشير إلى عدم وجود الإصبعين الأصغرين، لكني لم أصادف حالة كهذه من قبل. هل صادفتها أنت؟»

«بتاتًا. صحيحٌ أنني أعرف بعيب زيادة أصابع القدم الخِلقي، لكني لم أسمع قط عن عيب نقص أصابع القدم الخِلقي.»

تفحَّصنا آثار الأقدام مرةً أخرى، وفحصنا أيضًا تلك الموجودة على عتبة النافذة، والتي طُبعت على الطلاء الجديد بشيء من الضبابية، لكنها كانت واضحة تمامًا كتلك المطبوعة على البساط المشمع، وقد ظهرت فيها كل التجاعيد وأدق علامات الجلد، دون ظهور أدنى أثرٍ للإصبع الأصغر في أيٍّ من القدمين.

قال فوكستون: «إن هذا استثنائيٌّ للغاية. لا شك أنه قد فقد إصبعَيه الأصغرين، إن كان قد وُلِد بهما أصلًا؛ فمن المستحيل ألا يتركا أيَّ أثر هكذا، لكنها حالةٌ غريبة، وهي هِبةٌ مُفاجئة من السماء إلى الشرطة؛ أقصد إمكانية الاستفادة منها في تحديد هوية القاتل.»

وافقته الرأي قائلًا: «نعم، ونظرًا إلى أهمية آثار الأقدام، أظنُّ أنه من الأفضل أن نلتقط صورةً لها.»

قال فوكستون: «حسنًا، ستتكفَّل الشرطة بذلك، ثم إننا لا نمتلك كاميرا، إلا إذا كنت تفكِّر في استخدام تلك اللعبة الصغيرة التي تُسميها أنت بالكاميرا.»

ولأن فوكستون لم يكن مُصوِّرًا، فلم أكلِّف نفسي عناءَ أن أشرح له أن تلك الكاميرا التي أملكها، قد صُنعت خصوصًا لأغراضٍ علمية بالرغم من صِغرها.

قلت له: «أيُّ صورةٍ أفضل من لا شيء.» ثم فتحت الحامل الثلاثي القوائم ووضعته على أحد أبرز آثار الأقدام، وثبَّت الكاميرا في الفتحة المخصَّصة لها، وركَّزت إطار العدسة بعناية على أثر القدمين، وضبطت التركيز البؤري، وعرَّضت الفيلم الفوتوغرافي للضوء أخيرًا بإطلاق مصراع الكاميرا. كرَّرت هذه العملية أربع مرات؛ مرتين على أثر القدم اليمنى، ومرتين على أثر القدم اليسرى.

علَّق فوكستون قائلًا: «حسنًا، بفضل توافُر كل هذه الصور، يجب أن تتمكَّن الشرطة من تتبُّعِ خيطٍ يقودها إلى القاتل.»

«نعم، لقد صار لديهم خيطٌ يُمكنهم تتبُّعه، ولكن سيتوجَّب عليهم الإمساك بأرنبهم السريع قبل أن يطهوه؛ فهو لن يمشي في الشوارع حافي القدمين، كما تعلم.»

«كلَّا بالطبع؛ ومن ثَم فهذا دليلٌ ضعيف. والآن، ها نحن قد أنهينا دورنا على الأرجح بعدما رأينا كل ما يُمكن رؤيته. أظن أننا لن نحتاج إلى قول الكثير للسيدة بيدينجفيلد؛ فهذه قضية من اختصاص الشرطة، وكلما قلَّت مشاركتي فيها كان ذلك أفضل لمهنتي.»

وجدت في حيطة فوكستون ما يدعو إلى التفكه بعض الشيء؛ إذ قارنتها بما قاله على مائدة الفطور؛ فمن الواضح أن شهيته للغموض والرومانسية كانت قنوعة للغاية، لكن ذلك لم يكن من شأني على أية حال. انتظرتُ على عتبة الباب بينما كان يقول لصاحبة النُّزل بضع كلمات مُواربة على الأرجح، ثم سِرنا معًا نحو مقر الشرطة، وحينها بدأت في تقليب أبرز ملامح القضية في رأسي. مشينا صامتين بعض الوقت، كنا ولا بد نفكِّر في أثنائه تفكيرًا مُتشابهًا؛ ذلك أنه حين تحدَّث أخيرًا صاغ أفكاري نفسها تقريبًا بكلماته.

تحدَّث قائلًا: «أتعلَم يا جِرفيس، لا بد أن آثار الأقدام تلك تحوي دليلًا ما. أعرف أن المرء لا يُمكنه معرفة عدد أصابع قدم شخص ما وهو ينتعل حذاءً، لكن هذه الآثار الاستثنائية يجب أن تُعطي الخبراء المتخصصين تلميحًا ما إلى الشخص المطلوب إيجاده. ألا تنقل إليك أي تلميح معيَّن؟»

شعرتُ بأن فوكستون مُحقٌّ، وبأنه لو كان زميلي البارع ثورندايك مكاني لَاستخلص من تلك الآثار حقيقةً مهمة كانت ستُعطي الشرطة خيطًا محددًا ليبنوا التحقيق على أساسه. وهذا الاعتقاد الذي خطر ببالي، مصحوبًا بالتحدي الذي واجهني به فوكستون، وضعني في امتحانٍ صعب لقدراتي.

قلت له: «إنها لا توحي إليَّ بأي شيء معيَّن حتى الآن، لكني أعتقد أننا إذا فكَّرنا فيها تفكيرًا منهجيًّا، فسنستخلص منها بعض الاستنتاجات المفيدة.»

قال فوكستون: «حسنًا جدًّا، إذن فلنُفكر فيها تفكيرًا منهجيًّا. هاتِ ما عندك؛ فأنا أودُّ أن أعرف الكيفية التي تحلُّ بها مثل هذه الأحاجي.»

كان موقف المتفرِّج الصريح الذي اتخذه فوكستون مُربكًا بعض الشيء، لا سيما أنه بدا يُلزمني بنتيجة لم أكن مُتيقنًا من تحقيقها بأي حال من الأحوال؛ لذا فقد بدأت الحديث متهيِّبًا الأمر بعض الشيء.

قلت له: «لقد افترضنا أن القدمين اللتين طبعتا هذه الآثار خاليتان من الإصبعين الأصغرين لسببٍ ما. ونحن نُنزل هذا الافتراض الذي يُعَد شِبه صحيح بالتأكيد منزلةَ الحقيقة. ونظرًا إلى أنه بمثابة نُقطة الانطلاق التي سنبدأ منها، فأُولى خطوات التحقيق أن نجد له تفسيرًا ما. والآن، لدينا ثلاثة تفسيرات محتملة لا رابع لها: عيب خِلقي أو إصابة أو مرض. أي إن الإصبعين ربما يكونان غير موجودَين منذ الولادة، أو ربما فُقدا نتيجة إصابة ميكانيكية، أو ربما فُقدا بسببِ مرضٍ ما. فلنستعرض إذن هذه الاحتمالات بالترتيب.»

«سنستبعد احتمال العيب الخِلقي لأننا لا نعرف عيبًا خلقيًّا من هذا القبيل.»

«ويبدو احتمال الإصابة الميكانيكية مستبعَدًا أيضًا؛ لأن الإصبعين الأصغرين يقعان على جانبين متعاكسَين من الجسم، ومن المُستحيل أن يتضرَّرا من أي حادث عنيف دون تضرُّر الأصابع الأخرى الواقعة بينهما. ويبدو أن هذا يُضيِّق دائرة الاحتمالات ويجعلها مُقتصرةً على المرض، والسؤال الذي يتبادر إلينا الآن هو: ما الأمراض التي قد تؤدِّي إلى فقدان كلا الإصبعين الأصغرين؟»

نظرت إلى فوكستون مستفهِمًا وأنا أقول هذا السؤال، لكنه اكتفى بإيماءةٍ تشجيعية؛ إذ كان يؤدي دور المستمِع ليس غير.

فواصلت كلامي قائلًا: «حسنًا، يبدو أن فقدان كلا الإصبعين الأصغرين يستبعد احتمال المرض الموضعي، تمامًا كما استبعد احتمال الإصابة الموضعية، وبخصوص الأمراض العامة فأنا لا يسعني التفكير إلا في ثلاثة أمراض قد تُسبِّب هذه الحالة؛ وهي مرض رينود، والتسمُّم الإرجوتي، وقضمة الصقيع.»

اعترض فوكستون قائلًا: «لا تقُل إنك تُسمِّي قضمة الصقيع مرضًا عامًّا!»

فقلت له: «بل أُسمِّيها كذلك في حالتنا هذه. صحيحٌ أن تأثيراتها موضعية، لكن سببها المتمثِّل في انخفاض درجة الحرارة الخارجية يؤثِّر في الجسم كله ويُعَد سببًا عامًّا. حسنًا، والآن، لنستعرض الأمراض المحتملة بالترتيب. أظنُّ أننا نستطيع استبعاد مرض رينود. صحيحٌ أنه أحيانًا ما يُسبِّب اضمحلال أصابع اليدين أو أصابع القدمين وتضاؤلها، وأن أصابع القدم الصغرى بالأخص ستكون أكثر عُرضةً للتأثر به لأنها الأبعد عن القلب، لكن في مثل هذه الحالة الحادَّة التي صادفناها، كانت أصابع القدم الأخرى أيضًا ستتأثر؛ إذ كان من المُفترَض أن تكون ذابلةً نحيلة، وأظنُّ أنك تتذكَّر أن أصابع هاتين القدمين كانت سمينةً ممتلئة، مثلما اتَّضح من الآثار الكبيرة التي خلَّفتها؛ لذا أظنُّ أننا نستطيع استبعاد مرض رينود بكل ثقة. وبذلك يتبقَّى التسمُّم الإرجوتي وقضمة الصقيع، وترجيح كفة أحدهما على الآخر هي مسألة شيوع نِسبي ليس غير؛ فقضمة الصقيع أكثر شيوعًا؛ لذا فاحتمال قضمة الصقيع هو الأرجح.»

سأل فوكستون: «هل يؤثِّران في أصابع القدم الصغرى بالدرجة نفسها؟»

قلت له: «أجل، هذا صحيح على الأرجح؛ إذ يُسبِّب سمُّ الإرجوت الذي يؤثِّر من الداخل، والبرد القارس الذي يؤثِّر من الخارج، تقلُّصَ الأوعية الدموية الصغيرة وإيقاف الدورة الدموية؛ ومن ثَم تكون القدمان، اللتان تُمثِّلان أبعد الأعضاء عن القلب، أول ما يتأثَّر بتلك التأثيرات، ويصبح الإصبعان الأصغران، اللذان يُمثِّلان أبعد أجزاء القدمين عن القلب، أكثر عُرضةً من بقية الأصابع لتلك التأثيرات.»

فكَّر فوكستون بُرهةً، ثم قال:

«كل هذا يبدو منطقيًّا جدًّا يا جِرفيس، لكني لا أرى أنك أحرزت تقدُّمًا كبيرًا؛ فهذا الرجل قد فقد كِلا إصبعيه الأصغرين، وبناءً على استدلالك فإن الاحتمالات التي يُمكِن أن نعزوَ إليها السبب في ذلك هي التسمُّم الإرجوتي المُزمِن أو قضمة الصقيع، مع ترجيح كفَّة احتمال قضمة الصقيع. وهذا كل ما لدينا؛ أي لا دليل، ولا وسيلة للتحقق من صحة الافتراض. لا شيء سوى تطبيق قانون الاحتمالات على حالةٍ معيَّنة، وهذا دائمًا ما يكون غير كافٍ؛ فربما فقد إصبعيه بطريقةٍ مختلفة تمامًا. وحتى إذا أسفرت الاحتمالات عن استنتاجٍ صحيح، فلست أرى الفائدة التي قد تحصدها الشرطة من استنتاجاتك؛ فهذه الاستنتاجات لن تُخبِر الشرطة بمواصَفات الرجل المطلوب إيجاده.»

كان اعتراض فوكستون ينطوي على قدرٍ كبير من الحقيقة؛ فالرجل المُصاب بالتسمُّم الإرجوتي أو قضمة الصقيع لا يختلف من الخارج عن أي رجل آخر، لكنَّنا لم نكن قد استنفدنا الحُجة بعد، مِثلما هممت بإخباره.

قلت له: «لا تستبق الأحداث يا فوكستون. دعنا نُواصِل استعراض بضعة تفاصيل إضافية في حُجتنا. لقد أقررنا باحتمالية إصابة ذاك الرجل المجهول إما بالتسمُّم الإرجوتي أو قضمة الصقيع. وهذا، كما قلت أنت، ليس مُجدِيًا في حد ذاته، لكن إذا افترضنا أننا نستطيع توضيح أن هذين المرضين غالبًا ما يُصيبان فئةً معيَّنة من الناس، فسوف نُثبت حقيقةً تدلُّنا على خيطٍ معيَّن يسير فيه التحقيق. وأعتقد أننا نستطيع القيام بذلك؛ فلنستعرض حالة التسمُّم الإرجوتي أولًا.»

«الآن، كيف يحدث التسمُّم الإرجوتي المُزمِن؟ إنه لا يحدث بسبب الاستخدام الطبي للأدوية التي تحوي مادة الإرجوت، بل بسبب تناول الجاودار المُصاب بفطر الإرجوت؛ لذا فهذا المرض مُقتصِر على البُلدان التي يُستخدم فيها الجاودار بكثرة في الطعام، وهي دول شمال شرق أوروبا بوجهٍ عام، وروسيا وبولندا بوجهٍ خاص.»

«ولنستعرض الآن حالة قضمة الصقيع. من الواضح أن الأشخاص الأكثر عُرضةً للإصابة بقضمة الصقيع هم سكان الدول ذات المناخ البارد. وأكثر الدول التي يسكنها ذوو البشرة البيضاء برودةً هي دول أمريكا الشمالية وشمال شرق أوروبا، لا سيَّما روسيا وبولندا؛ ومن ثَم، فكما ترى، تتداخل المناطق المرتبطة بالتسمُّم الإرجوتي وقضمة الصقيع نوعًا ما، بل يُمكن وصف ذلك في واقع الأمر بأنه أكثر من مجرَّد تداخُل؛ ذلك أن المُصاب بالتسمُّم الإرجوتي، ولو بدرجةٍ طفيفة، سيكون أكثر عُرضةً لقضمة الصقيع؛ بسبب ضعف دورته الدموية. الخلاصة أنه في كلتا الحالتين، التسمُّم الإرجوتي وقضمة الصقيع، سنجد أن الاحتمالات تُرجِّح من المنظور العِرقي أن هذا الشخص روسي أو بولندي أو اسكندنافي.

وفي حالة قضمة الصقيع سنرى أن عامل المهنة مؤثِّر؛ فأي فئة من الرجال أكثر عُرضةً للإصابة بقضمة الصقيع؟ حسنًا، الأكثر عُرضةً للإصابة بقضمة الصقيع هم البحَّارة بلا أدنى شك، لا سيَّما أولئك الذين يُبحِرون على سُفنٍ شراعية، وعلى السُّفن التي تقوم بعمليات التجارة مع دول المنطقة القطبية الشمالية والدول المُجاورة لها. غير أن غالبية هذه السُّفن الشراعية هي تلك التي تشترك في عمليات التجارة مع دول البلطيق ومدينة أرخانجل، وكل أفراد أطقُم هذه السُّفن تقريبًا من الاسكندنافيين والفنلدنيين والروس والبولنديين؛ لذا فإنَّ الاحتمالات تُشير مرةً أخرى إلى مُواطن من شمال شرق أوروبا، ويُمكننا أن نقول إنها تُشير إجمالًا بفعل تداخل العوامل إلى مُواطنٍ روسي أو بولندي أو اسكندنافي.»

ابتسم فوكستون ابتسامةً تهكُّمية، وقال: «عبقريٌّ جدًّا يا جِرفيس. عبقريٌّ للغاية. إن تحليلك هذا ممتاز للغاية إذا اعتبرناه عرضًا أكاديميًّا للاحتمالات، لكنه لا يقدِّم أي جدوى من الناحية العملية. على أي حال، ها نحن قد وصلنا إلى مركز الشرطة. سأدخل سريعًا وأخبرهم بالحقائق، ثم نذهب إلى مكتب قاضي التحقيق في أسباب الوفاة.»

قلت له: «أظنُّ أن الأفضل ألَّا أدخل معك، أليس كذلك؟»

أجاب قائلًا: «حسنًا، بلى. فكما ترى، ليس لك صلةٌ رسمية بالقضية، وقد لا يستحسنون تدخُّلك فيها. من الأفضل أن تذهب وتستمتع بوقتك بينما أنجز زيارات الصباح الرسمية. ويُمكننا النقاش باستفاضة على الغداء.»

تَوارى بعد ذلك داخل مقر الشرطة، بينما استدرتُ لأمشي بعيدًا بابتسامة تندُّر متجهِّمة. إن التجربة الحياتية غالبًا ما تجعلنا قساةً تافهين، وقد علَّمتني أن هؤلاء الذين يُعبِّرون عن بالغ الاستهزاء بالاستدلال الأكاديمي لا يترفَّعون في العادة عن إعادة سرده مع بعض التصرُّف في تأليفه الأصلي؛ لذا فقد راوَدني حدس بأن فوكستون كان في هذه اللحظة نفسها يتقيَّأ «عرضي الأكاديمي للاحتمالات»، الذي احتقره، أمام مُفتِّش شُرطي مُعجَب بما يسمعه.

كان طريقي إلى البحر يمرُّ بشارع «إثيلريد رود»، وكنتُ قد قطعت ما يقرب من نصفه مُقتربًا من النُّزل الذي وقعت فيه المأساة، وحينها رأيت السيدة بيدينجفيلد عند المشربية. ومن الواضح أنها تعرَّفت عليَّ إذ ظهرَت بعد بضع لحظات على العتبة الخارجية وهي ترتدي ملابس الخروج، وتقدَّمت نحوي لمقابلتي.

سألتني حين تقابلنا: «هل ذهبت إلى مركز الشرطة؟»

فأجبتها بأن الدكتور فوكستون كان موجودًا آنذاك في مركز الشرطة.

قالت: «آه، إنها قضية مُروِّعة، بل مشئومة جدًّا أيضًا؛ إذ وقعت في بداية الموسم بالضبط. فالنُّزل إذا طالته فضيحة يُخيِّم عليه خرابٌ تام. ما رأيك في القضية؟ هل يُمكن التكتُّم عليها؟ أظنُّ أن الطبيب فوكستون قال إنك مُحامٍ يا دكتور جِرفيس، أليس كذلك؟»

«بلى، أنا مُحامٍ، لكني في الواقع لا أعرف شيئًا عن ملابسات هذه القضية. لقد فهمت أنها تتعلَّق بعلاقةٍ غرامية أو ما شابه، أليس كذلك؟»

قالت: «بلى — أو بالأحرى — حسنًا، ربما كان يجب ألا أقول ذلك. أليس من الأفضل أن أخبرك بالقصة كلها؟ هذا إن لم أكُن سآخذ منك وقتًا أطول من اللازم.»

قلت لها: «بل أنا مهتمٌّ بسماع ما أدَّى إلى هذه الكارثة.»

قالت: «إذن، سأُخبرك بكل شيء عنها. هلَّا تدخل معي النُّزل أم أتمشَّى معك قليلًا؟»

ولأنني خمَّنت أن رجال الشرطة كانوا في طريقهم إلى النُّزل آنذاك، فقد اخترت الخيار الثاني، وقُدتها بعيدًا نحو البحر بخطواتٍ سريعة جدًّا.

سألتها ونحن نقطع الشارع بخُطًى واثبة: «هل كانت هذه السيدة المسكينة أرملة؟»

أجابت السيدة بيدينجفيلد: «كلَّا، لم تكن كذلك، وقد كانت هذه هي المشكلة؛ إذ يعيش زوجها في الخارج، أو بالأحرى كان يعيش في الخارج، وهو يُوشِك أن يعود إلى الوطن. يا لَلمُفاجأة الرائعة التي تنتظر هذا المسكين عند عودته! إنه ضابط في الشرطة المدنية في سيراليون، لكنه لم يقضِ هناك فترةً طويلة. لقد ذهب إلى هناك لأسبابٍ صحية.»

صِحت متعجِّبًا: «ماذا! إلى سيراليون!» فقد بدا من الغريب أن تكون «مقبرة الرجال البِيض» ملاذًا صحيًّا.

قالت: «نعم. أصغِ إليَّ، السيد توسان كنديٌّ فرنسي، ويبدو أنه دائمًا ما كان كثير الترحال نوعًا ما. لقد مكث في كلوندايك فترةً، لكنه عانى فيها كثيرًا بسبب بردها القارس، حتى إنه اضطرَّ إلى المغادَرة؛ إذ ألحق البرد بصحَّته ضررًا شديدًا. لم أعرف ماهية هذا الضرر بالضبط، لكني أعرف أنه قد ظلَّ أعرجَ فترةً. وحين تحسَّنت صحته بحث عن وظيفة في مناخٍ دافئ إلى أن عُيِّن مفتِّشًا لدى الشرطة المدنية في سيراليون. كان ذلك قبل حوالَي عشرة أشهر، وحين سافر إلى أفريقيا بحرًا جاءتني زوجته لتمكث معي، وظلَّت هنا منذ ذلك الحين.»

«وهل هذه هي العلاقة الغرامية التي تحدَّثتِ عنها؟»

«نعم، ولكن كان يجب عليَّ ألا أُسمِّيها هكذا. سوف أشرح لك ما حدث. قبل حوالَي ثلاثة أشهر، جاء رجلٌ سويدي مُهذَّب — اسمه السيد بيرجسون — ليمكث هنا، وبدا أنه مفتون جدًّا بالسيدة توسان.»

«وماذا عنها هي؟»

«آه، لقد أُعجِبت به إلى حدٍّ ما؛ فهو طويل القامة ووسيم، لكنه كذلك ليس بأطول من زوجها ولا أوسم منه إطلاقًا. كِلا الرجلين أطول من ست أقدام. لم يكن في ذلك ضرر عليها حتى ذلك الوقت، غير أنها لم تدرك حقيقة الوضع في الوقت المناسب. لم تكن متحفظةً في تصرُّفاتها، حتى إنني قد رأيت في الواقع أنني يجب أن أُسْدي إليها بعض النصح. على أي حال، رحل السيد بيرجسون عن هنا، وذهب للعيش في رامسجيت ليُشرِف على تفريغ حمولة السُّفن المخصَّصة للإبحار في المياه الجليدية (وكان قد جاء من السويد على متن إحداها). ظننت أن المشكلة انتهت، لكنها لم تنتهِ؛ فقد بدأ يأتي لزيارة السيدة توسان، ولم أكن أقبل بذلك بالطبع؛ لذا فقد اضطررت أخيرًا إلى إخباره بألا يأتي إلى النُّزل مرةً أخرى. وقد كان ذلك مؤسِفًا جدًّا؛ لأنه كان في تلك المرة «شاربًا»، كما يقولون في اسكتلندا. صحيحٌ أنه لم يكن ثملًا، لكنه كان سريع الانفعال وصاخبًا، وحين أخبرته بأنه يجب ألا يأتي مرةً أخرى أحدث ضجةً شديدة، حتى إن اثنين من النُّزلاء المُهذَّبين، وهما السيد وُرديل والسيد ماكولي، قد اضطرَّا إلى التدخُّل. وانهال هو عليهما سبًّا وشتمًا، لا سيما السيد ماكولي، وهو رجلٌ ملوَّن؛ إذ وصفه بأنه «زنجيٌّ دنيء للغاية»، وبكل الصفات المُهينة.»

«وكيف كان ردُّ الرجل الملوَّن على ذلك؟»

«يؤسفني القول إن رده لم يكن لائقًا، بالنظر إلى أنه رجلٌ مهذَّب؛ فهو طالبٌ يدرس القانون ولديه غرفة في حي «تمبل». الحق أنه قد ردَّ بلهجةٍ بغيضة للغاية، حتى إن السيد ورديل أصرَّ على أن أطرده فورًا، لكني استطعت نقله إلى غرفة بجوار الغرفة المُجاورة. لقد كان السيد ورديل مفوِّضًا شُرطيًّا في سيراليون — وبفضله، نال السيد توسان وظيفته هناك — لذا أظنُّ أنه يُعامل الملوَّنين بطريقةٍ تتطلَّب احترام حضرته.»

«وهل كان هذا آخر ما عرفتِه عن السيد بيرجسون؟»

«لم يأتِ إلى هنا مرةً أخرى، لكنه بعث إلى السيدة توسان بعدة رسائل يطلب منها فيها لقاءه. وأخيرًا، منذ بضعة أيام فقط، بعثت إليه برسالة وأخبرته بأن العلاقة القائمة بينهما يجب أن تنتهي.»

«وهل انتهت؟»

«نعم، على حد علمي.»

قلت لها: «إذن، يا سيدة بيدينجفيلد، ما الذي يجعلك تربطين هذه العلاقة ﺑ… بما حدث؟»

فأوضحت قائلةً: «حسنًا، الزوج طرفٌ في المسألة بالطبع. لقد كان على وشك العودة إلى الوطن، وربما وصل إلى إنجلترا بالفعل.»

قلت لها: «حقًّا!»

فواصلت حديثها قائلةً: «نعم. لقد سافر إلى هذا البلد المُوحِش للقبض على بعض مُواطنيه الأصليِّين المُنتمِين إلى إحدى عصابات القتَلة — أظنُّ أن اسمها «ليوبارد سوسايتيز» — وأُصيبَ بجروحٍ خطرة، ثم بعث إلى زوجته برسالة من المستشفى قائلًا إنه سيُعاد إلى الوطن حالَما تسمح حالته الصحية بالسفر، ومنذ حوالَي عشرة أيام تلقَّت منه رسالةً يقول فيها إنه سيعود على متن السفينة التالية.»

لقد لاحظت أنها كانت تبدو في غاية التوتر والانزعاج حين كانت تتلقَّى تلك الرسائل التي كان يبعث بها من المستشفى، بل بدت أشدَّ توترًا وانزعاجًا حين أتتها الرسالة الأخيرة. لا أعرف بالطبع ما قاله لها في تلك الرسائل. ربما قد سمع شيئًا عن السيد بيرجسون، وهدَّدها بالإقدام على فعلةٍ ما. بالطبع لا أستطيع الجزم بذلك. كل ما أعرفه أنها كانت شديدة التوتر والقلق. وحين رأينا في الصحيفة من أربعة أيام أن السفينة التي سيأتي على مَتنها وصلت إلى ليفربول، بدت مرتبكةً للغاية، وظلَّت حالتها تتحوَّل من سيئ إلى أسوأ حتى — حسنًا — حتى الليلة الماضية.»

سألتها قائلًا: «هل من خبرٍ عن الزوج منذ وصول السفينة؟»

فأجابت السيدة بيدينجفيلد بنظرةٍ ذات مغزًى لم أجد صعوبةً في فهمه: «كلَّا على الإطلاق، لا رسالة ولا برقية ولا كلمة، ثم إنه إذا لم يكن قد أتى على متن هذه السفينة، لكان قد بعث إليها برسالة بالتأكيد؛ لذا فلا بد أنه وصل إلى إنجلترا، لكن لماذا لم يأتِ أو يبعث ببرقية على الأقل؟ ماذا يفعل؟ ولماذا يظلُّ بعيدًا عن هنا؟ أيكون قد سمع شيئًا؟ وما الذي ينوي فعله؟ هذا ما أبقى المسكينة في غاية التوتر والقلق. وأنا متيقِّنة من أن هذا أيضًا هو ما دفعها إلى إنهاء حياتها.»

لم أكن مهتمًّا بالطعن في صحة الاستنتاجات الخاطئة التي استخلصتْها السيدة بيدينجفيلد؛ فلم أكن أبغي سوى الحصول على معلومات، وقد بدا أنني استنفدت كل ما لديها من معلومات تقريبًا. نقطةٌ واحدة فقط هي التي كانت تحتاج إلى توضيح.

فتابعت حديثي قائلًا: «لنَعُد إلى الحديث عن السيد بيرجسون يا سيدة بيدينجفيلد. لقد فهمتُ أنه يعمل على متن السُّفن والقوارب، أليس كذلك؟»

قالت: «لقد كان كذلك، لكنه استقرَّ الآن في رامسجيت حيث يعمل مديرًا لشركة في مجال تجارة الثلج، لكنه كان بحَّارًا في الماضي. لقد سمعته يقول إنه كان أحد أفراد طاقم سفينة استكشافية أبحرت بحثًا عن القطب الشمالي، وإنه ظلَّ عالقًا وسط الثلج شهورًا عديدة. كنت أظنُّ أنه سيكون قد اكتفى من الثلج بعد ذلك بالتأكيد.»

وهنا أعربتُ عن اتفاقي الشديد مع هذا الرأي. وبعدما صارت لديَّ كل المعلومات المُتاحة آنذاك على ما يبدو، شرعتُ في إنهاء المقابلة.

قلت لها: «حسنًا يا سيدة بيدينجفيلد. إنها قضيةٌ غامضةٌ بعض الشيء. ربما يتَّضح المزيد من تفاصيلها في أثناء التحقيق. وحتى ذلك الحين أظنُّ أنه من الأفضل أن تلتزمي السِّرية، وألا تُطلعي مَن ليست له علاقة بالقضية على أي تفاصيل.»

بعد ذلك، قضيتُ ما تبقَّى من الصباح أمشي بخُطًى مُسرِعة على شريطٍ مُمتد من الرمال الناعمة يقع شرق الرصيف البحري، وأفكِّر في القرائن التي جمَعتها عن هذه الجريمة الفريدة. من الجليِّ أن القضية لم تكن تفتقر إلى مفاتيح لحل اللغز، بل كان بها خطَّان واضحان يُمكن أن تسير فيهما التحقيقات؛ ذلك أن كلًّا من السويدي والزوج المفقود يتطابقان مع شخصية القاتل الافتراضي؛ إذ تعرَّض كلاهما للظروف التي من المرجَّح أن تُسبِّب قضمة الصقيع، وكان أحدهما مُعتادًا تناول الأطعمة الغنية بالجادوار على الأرجح، ويُمكن القول إنَّ كليهما لديه دافع لارتكاب الجريمة، وإن كان غير كافٍ بالتأكيد. غير أن القرائن في كلتا الحالتين تخمينية فحسب؛ فقد اقترحَت مسارًا معيَّنًا للتحقيق، لكنها لم تُقدِّم أكثر من ذلك.

حين التقيتُ فوكستون على الغداء، شعرتُ بتغيُّرٍ غريب في أسلوبه؛ إذ تبدَّل انفتاحه السابق وحلَّ محلَّه تحفظٌ ملحوظ وتكتمٌ رسمي مؤكَّد.

قال لي حين فتحتُ الموضوع: «أتعلَم يا جِرفيس؟ أظنُّ أنه من الأفضل ألَّا نتحدث عن هذه القضية؛ فأنت تعلم أنني الشاهد الرئيس، وبينما ينظر القضاء في القضية … حسنًا، الواقع أن الشرطة لا تريد أن يتحدث أحد عن القضية.»

«لكني شاهدٌ أيضًا بالتأكيد، بل شاهدٌ خبير، وفضلًا عن ذلك …»

«لكن الشرطة لا تُشاطرك هذا الرأي؛ فهم يرونك هاويًا بالرغم من كل شيء. ولمَّا لم تكن لك أي صلة رسمية بالقضية، فلا أظنُّ أنهم يعتزمون استدعاءك للإدلاء بالشهادة، ثم إن المُشرِف بلات، المسئول عن القضية، لم يسعد بأنني اصطحبتك إلى النُّزل؛ إذ قال إن ذلك مُخالف تمامًا للقواعد. آه، وبالمناسبة، هو يقول أيضًا إنك يجب أن تُسلِّم تلك الصور.»

فاعترضت قائلًا: «لكن ألن يطلب بلات من أحد مرءوسيه تصوير آثار الأقدام كي يستخدمها؟»

«سيفعل ذلك بالطبع. سيحصل على مجموعة من الصور اللائقة التي التقطها مُصوِّر خبير. لقد تفكَّه كثيرًا حين سمع بحكاية التقاطك للصور بتلك الكاميرا الصغيرة. آه، يُمكنك أن تثق ببلات. إنه رجلٌ قدير. لقد تلقَّى دورةً تعليمية في قِسم البصمات المركزي في لندن.»

«لا أفهم كيف سيُساعده ذلك؛ إذ لا توجد أي بصمات في هذه القضية.»

كان هذا مجرد استدراج خفيف مني، لكن فوكستون قد ابتلع مني هذا الطُّعم الذي أعددته بغير إتقان.

صاح مُتعجبًا: «وي، لا توجد بصمات؟! لقد تصادف أنك لم تجدها، لكنها كانت موجودة؛ فقد أخذ بلات بصمات يد يمنى كاملة.» ثم أضاف بحذرٍ متأخر نوعًا ما: «هذا سِريٌّ للغاية كما تعلم.»

منعني تحفُّظ فوكستون المُفاجئ من قول التعليق البديهي على إنجاز المُشرِف؛ لذا عُدتُ إلى مسألة الصور.

قلت له: «ماذا لو رفضت تسليم فيلمي الفوتوغرافي؟»

فقال لي: «لكنني آملُ ألا تفعل ذلك، وما ينبغي لك في حقيقة الأمر. إنني ذو صلة رسمية بالقضية، وأنا مُضطرٌّ إلى التعامل مع هؤلاء الأشخاص. وبصفتي طبيب الشرطة، فأنا مسئول عن الأدلة الطبية، وبلات يتوقع مني أن أحصل على هذه الصور منك. لا يُمكنك الاحتفاظ بها بالتأكيد؛ إذ سيكون ذلك مُخالفًا تمامًا للقوانين.»

لم يكن ثَمة جدوى في الجدال معه؛ فمن الواضح أن الشرطة لم تكن تريد أن أتدخَّل في القضية. وقد كان من صلاحيات المُشرِف بالرغم من كل شيء، أن يعتبرني غير ذي صلة بالقضية، ويطلب تسليم الفيلم الفوتوغرافي.

غير أنني لم أكن راغبًا في تسليم الصور، ليس قبل أن أتفحَّصها بعناية على الأقل؛ فقد كانت القضية ضِمن اختصاصي المِهني، وكانت غريبة ومُثيرة للاهتمام. وفضلًا عن ذلك، بدا أن القضية في أيدٍ غير بارعة، بِناءً على واقعة رفع بصمة اليد، ثم إن الخبرة قد علَّمتني أن أحتفظ ببقايا صغيرة من الأدلة التي أصادفها؛ فالواحد منا لا يعرف أبدًا متى قد يُدعى إلى المشاركة في قضيةٍ ما بصفته المهنية؛ ولهذا قرَّرت عدم تسليم الصور، مع أن هذا القرار قد ألزمني بحيلةٍ خادعة لم أكن أرغب إطلاقًا في استخدامها؛ إذ كنت أحبِّذ أن أتصرَّف باستقامة.

قلت له: «حسنًا، ما دُمت مُصرًّا يا فوكستون، فسأسلِّم الفيلم، أو أُتلِفه أمامك إذا أردت.»

فقال: «أظنُّ أن بلات يُفضِّل الحصول على الفيلم سليمًا.» وأضاف بابتسامةٍ خبيثة: «حينها فقط سيتيقَّن، كما تعرف.»

شكرتُ فوكستون في قرارة نفسي على تلك الابتسامة؛ إذ جعلت حيلتي الخبيثة أسهل بكثير؛ ذلك أن الرجل الشكَّاك يُغْريك بأن تتفوَّق عليه إن استطعت.

صعدت بعد الغداء إلى غرفتي، وأغلقت الباب، وأخرجت الكاميرا الصغيرة من جيبي. وبعدما أتممت لفَّ الفيلم، أخرجته ولففته بعناية ودسسته في جيب سترتي الداخلي، ثم أدخلت فيلمًا جديدًا، وتوجَّهت ناحية النافذة المفتوحة، والتقطت أربع لقطات مُتتالية للسماء. وبعد ذلك، أغلقت الكاميرا ووضعتها سريعًا في جيبي ونزلت إلى الطابق السُّفلي. كان فوكستون في الصالة يُنظِّف قبعته بالفرشاة، وبينما كنت أنزل الدَّرَج كرَّر طلبه على الفور.

قال: «بخصوص تلك الصور يا جِرفيس، سأذهب إلى مركز الشرطة حالًا؛ لذا فإذا لم يكن لديك مانع …»

فقلت له: «بالطبع، سأُعطيك الفيلم الآن إذا أردت.»

أخرجت الكاميرا من جيبي، ولففت الجزء المتبقِّي من الفيلم بجِدية، ثم أخرجته ولففت طرفه المتدلِّي بعنايةٍ استعراضية باهرة، وأعطيته إيَّاه.

ولكي أُحكِم نسج خيوط الحيلة تمامًا، قلت له: «من الأفضل ألا تُعرِّضه للضوء، وإلا ستصبح الصور ضبابية.»

أخذ فوكستون بكرة الفيلم كما لو كانت ساخنة — فهو لم يكن مُصوِّرًا — ودسَّها في حقيبة يده، ثم ظلَّ ينهال عليَّ بشكرٍ غزير إلى أن رنَّ جرس الباب الأمامي.

كان الزائر، الذي اتضحت هيئته حين فتح فوكستون الباب، رجلًا مُهذَّبًا قصيرًا نحيلًا ذا بشرةٍ مُكتسية بلونٍ بُنِّي ورقيٍّ مميَّز يُشير إلى أنه قد مكث طويلًا في المناطق الاستوائية. دخل إلى المنزل بسرعة، وعرَّف نفسه، وذكر سبب مجيئه بلا مقدماتٍ تمهيدية.

قال: «اسمي وُرديل، وأنا نزيل في نُزُل بيدينجفيلد. لقد أتيت بخصوص الحادث المأساوي الذي …»

وهنا قاطعه فوكستون بأبرد نبراته الرسمية، قائلًا: «يؤسفني القول يا سيد وُرديل إنني لا أستطيع إعطاءك أي معلومات عن القضية حاليًّا.»

فأضاف السيد وُرديل: «رأيتكما أيها السيدان في النُّزل صباح اليوم …» لكن فوكستون قاطعه مرةً أخرى.

وقال: «نعم بالطبع. كنا هناك — أو بالأحرى كنتُ هناك — بصفتي مُمثلًا للشرطة، وبينما تُنظَر القضية أمام القضاء …»

فقاطعه وُرديل: «إنها لم تُصبح قيد نظر القضاء بعد.»

«حسنًا، لا أستطيع الانخراط في أي نقاش عن ذلك …»

قال وُرديل بشيء من نفاد الصبر: «أنا لا أطلب منك ذلك، لكنني فهمت أن أحدكما هو الدكتور جِرفيس.»

فقلت له: «أنا.»

قال له فوكستون مرةً أخرى: «يجب أن أحذِّرك …» لكن وُرديل قاطعه بحِدة ونفاد صبر، قائلًا:

«يا سيدي العزيز، أنا مُحامٍ وقاضٍ، وأدرك جيدًا ما يجوز وما لا يجوز. وما أتيت إلا لأُجري عملًا مهنيًّا مع الدكتور جِرفيس.»

فسألته: «كيف يُمكنني أن أخدمك؟»

قال السيد وُرديل: «سأخبرك. لقد كانت هذه السيدة المسكينة التي ماتت ميتةً غامضة جدًّا، زوجة رجل كان موظَّفًا مثلي لدى حكومة سيراليون. وقد كنت صديقهما، وفي ظل غياب الزوج أودُّ الاستعانة بمُحامٍ كفء لديه الدراية الخاصة اللازمة بالأدلة الطبية ليُشرِف على التحقيق في ملابسات وفاة هذه السيدة. فهل يُمكنك أنت أو زميلك، الدكتور ثورندايك، التكفُّل بمتابعة سير هذه القضية من أجلي؟»

وقد كنتُ على أتم استعداد بالطبع لتولِّي هذه القضية، وأخبرته بذلك.

فقال السيد وُرديل: «إذن، فسوف أطلب من مُحاميِّ أن يبعث إليك برسالة ويُوكِّلك لتُتابع القضية بصفةٍ رسمية. إليك بطاقتي. ستجد اسمي في سِجل «ذا كولونيال أوفيس ليست»، وأنت تعرف عنواني هنا.»

أعطاني بطاقته، وتمنَّى لنا مساءً طيِّبًا، ثم التفت بعد انحناءة جامدة بسيطة، وغادَر المنزل.

قلت حينئذٍ: «أظن أنه من الأفضل أن أذهب سريعًا إلى المدينة وأتشاور مع ثورندايك. ما مواعيد القطارات المتاحة؟»

رد فوكستون: «ثَمة قطارٌ مُناسب سيُغادر في غضون ساعة إلا ربعًا.»

«إذن، سأذهب به، لكني سوف أعود غدًا أو بعد غد، وربما يأتي ثورندايك معي.»

«حسنًا، أحضِرْه معك إلى المنزل ليتناول الغداء أو العشاء، لكن يؤسفني القول إنني لا أستطيع أن أسمح له بالمَبيت في المنزل.»

فقلت له: «أجل، من الأفضل ألا يحدث هذا؛ فصديقك بلات لن يُحب ذلك. لن يرغب في وجود ثورندايك، بل إنه لن يرغب في وجودي أيضًا. لكن ماذا عن تلك الصور؟ سيرغب ثورندايك في رؤيتها كما تعلم.»

فقال فوكستون بعناد: «لا يُمكنه الحصول عليها، إلا إذا كان بلات مستعدًّا لإعادتها، ولا أظنُّه سيكون كذلك.»

كانت لديَّ أسبابي الخاصة التي تجعلني أعتقد العكس، غير أنني قد أسررتها في نفسي، وحين خرج فوكستون للقيام بجولته المسائية، عُدتُ إلى الطابق العُلوي لحزم حقيبتي، وكتابة برقية إلى ثورندايك أخبره فيها بذَهابي إليه.

كانت الساعة الخامسة والربع بالضبط حين دخلتُ إلى مقر عملنا وسكننا أيضًا في شارع كينجز بينش ووك، وارتاح بالي حين وجدت زميلي هناك، ومعه مُساعدنا المختبري، بولتون، يُعِد الشاي لشخصَين.

قال ثورندايك ونحن نتصافح: «أظنُّ أن أخي العلَّامة جلب معه معلوماتٍ نافعة، أليس كذلك؟»

قلت له: «بلى. لقد جلبت مذكرة مُتابعة رسمية، لكنني أظنُّ أنك ستتَّفق معي في أنها قضيةٌ تستدعي تحقيقًا مُستقلًّا.»

فتساءل بولتون، الذي كان يتشوَّق دائمًا عند سماع كلمة «تحقيق»، قائلًا: «أسيكون فيها أي شيء يدخل ضِمن نطاق عملي يا سيدي؟»

«يوجد فيلم فوتوغرافي يحتاج إلى تحميض. أربع لقطات لآثار أقدام بيضاء على أرضيةٍ داكنة.»

علَّق بولتون قائلًا: «وي! ستحتاج إلى صورٍ سالبة جيدة قوية، ويجب تكبيرها إذا كانت قد التُقطت بالكاميرا الصغيرة. هل يُمكنك أن تُعطيني الأبعاد؟»

كتبت له القياسات من دفتر ملاحظاتي، وأعطيته الورقة مع بكرة الفيلم، فأخذهما وذهب بهما مُبتهجًا إلى المختبر.

قال ثورندايك: «والآن يا جِرفيس، بينما يعمل بولتون على تحميض الفيلم، دعنا نضع مخططًا عامًّا للقضية ونحن نحتسي الشاي.»

أعطيته أكثر من مجرَّد مخطط عام؛ لأن الأحداث كانت حديثة، ولأنني كنت قد رتَّبت الحقائق بعناية في أثناء رحلتي إلى المدينة، مُستخلِصًا منها ملاحظاتٍ تقريبية، كنت أناقشها معه آنذاك. وقد أصغى إلى روايتي الطويلة بعض الشيء باهتمامه المُعتاد، دون أي تعليق، إلا على الحيلة التي نسجتها للاحتفاظ بالصور.

فقال: «من المؤسف أنك لم ترفض؛ فما كان بإمكانهم إجبارك على تنفيذ طلبهم، وأرى أنه من الأليق والأكرم أن يتجنَّب المرء الغشَّ المباشر ما لم يضطر إلى ذلك، لكنك ربما حسبتَ أنك كنت مضطرًّا إليه.»

والحق أن هذا هو ما كنت أحسبه بالفعل آنذاك، لكنني توصَّلت إلى وجهة نظر ثورندايك نفسها بعد ذلك. كنت أشعر بأن حيلتي البسيطة ستؤرِّقني قريبًا.

قال ثورندايك حين أنهيت روايتي لأحداث القضية: «حسنًا، أظنُّ أننا يُمكن أن نستنتج أن نظرية الشرطة، في الأساس، هي نفسها نظريتك المستمَدَّة من فوكستون.»

«أظنُّ ذلك، باستثناء أني علمت من فوكستون أن المُشرِف بلات قد أخذ بصماتٍ كاملةً ليدٍ يمنى.»

رفع ثورندايك حاجبَيه، وصاح مُتعجبًا: «بصمات!» ثم أضاف قائلًا: «لا بد أن هذا الرجل مُغفَّل. ومع ذلك، يبدو أن الجميع — سواءٌ الشرطة أو المُحامون أو القضاة أو حتى جالتون نفسه — يفقدون كل ما لديهم من حسٍّ منطقي سليم حالَما تُطرَح مسألة البصمات في قضية كهذه. سيكون من المُثير للاهتمام أن نعرف الكيفية التي حصل بها على هذه البصمات وماهية شكلها. علينا أن نُحاوِل معرفة ذلك. لكن لنَعُد الآن إلى حُجَّتك، فنظرًا إلى أن نظريتك ونظرية الشرطة مُتماثلتان على الأرجح، يجدر بنا أن ننظر في قيمة استدلالاتك.

إننا نتعامل مع القضية حتى الآن تعاملًا نظريًّا؛ فمعظم المعطيات الموجودة لدينا قائمة على افتراضات، ومعظم استنتاجاتنا مستمَدة من تطبيق قوانين الاحتمالات الرياضية؛ ومن ثَم فنحن نفترض وقوع جريمة قتل، بينما قد يتبيَّن أنها واقعة انتحار. ونفترض أن مُرتكِب الجريمة هو الشخص الذي خلَّف آثار الأقدام، وأنه لا يمتلك في قدمَيه إصبعين أصغرين، بينما قد يكون لديه إصبعان أصغران مرفوعان طبيعيًّا عن الأرض؛ فلا يتركان أي أثر. وفي حالة افتراض أن إصبعيه الأصغرين غير موجودين، فنحن نفسِّر سبب عدم وجودهما بالتفكير في الأسباب المعروفة وفقًا لترتيب احتمالية حدوثها. وبعدما استثنينا مرض رينود — وهو استثناءٌ منطقي تمامًا في رأيي — وصلنا إلى قضمة الصقيع والتسمُّم الإرجوتي.

لكن يوجد شخصان، كلاهما ذو قامة تتماشى مع حجم آثار الأقدام، وربما كان لديهما دافع لارتكاب الجريمة، وإن كان غير كافٍ، وكلاهما أيضًا قد تعرَّض لظروف من المحتمَل أن تُسفِر عن قضمة الصقيع، وربما تعرَّض أحدهما لظروف قد تُسبِّب التسمم الإرجوتي؛ ومن ثَم فإن قوانين الاحتمالات تُشير إلى هذين الرجلين، وما يُرجِّح كفة توجيه الاتهام إلى السويدي وليس الكندي هو العامل المشترك، أي قضمة الصقيع، مضروبًا في العامل الإضافي، أي التسمُّم الإرجوتي، لكن كل ذلك محض تخمين حتى الآن؛ فما من دليل على أن أيًّا من الرجلين قد أُصيبَ بقضمة الصقيع أو تناول الجاودار المُصاب بالإرجوت من قبل. ومع ذلك، فهذا النهج سليم تمامًا في هذه المرحلة؛ إذ يدلُّنا على مسارٍ نتَّخذه في التحقيق. وإذا اتضح أن أيًّا من الرجلين مُصاب بقضمة الصقيع أو التسمم الإرجوتي، فسوف نكون بذلك قد أحرزنا تقدمًا مؤكَّدًا، لكن ها هو بولتون قد أتى ومعه صورتان مطبوعتان تامَّتان. كيف أنجزت ذلك سريعًا بحقِّ السماء يا بولتون؟»

أجاب بولتون: «حسنًا، مثلما ترى يا سيدي، لقد جفَّفت الفيلم بالكحول، وقد وفَّر هذا كثيرًا من الوقت. سأُحضِر إليك نسختين مُكبَّرتين في غضون ربع ساعة.»

وبعدما أعطانا الصورتين المطبوعتين المبتلَّتين، وقد ألصق كلًّا منهما على لوحٍ زجاجي، ذهب إلى المختبر، وشرعت أنا وثورندايك في تفحُّص الصورتين كلٌّ بعدسة الجيب التي يملكها. ولم تكن النسخة المُكبَّرة التي وعدنا بها ضروريةً في الواقع إلا من أجل الحصول على القياسات النسبية؛ فقد كانت صورة آثار الأقدام البيضاء، والتي بلغ طولها بوصتَين كاملتين، واضحة بدقة، حتى إننا استطعنا رؤية أدق التفاصيل باستخدام العدسة فحسب.

علَّق ثورندايك قائلًا: «لا يوجد أي أثر للإصبعين الأصغرين بكل تأكيد، وهذا المظهر السمين الممتلئ الذي تتخذه الأصابع الأخرى يؤيِّد استبعادك لمرض رينود. أيُوحي إليك مظهر آثار القدمين بأي انطباع آخر يا جِرفيس؟»

فقلت له: «إنه يُعطيني انطباعًا بأن الرجل كان معتادًا السير حافيَ القدمين في بدايات حياته، ولم يبدأ في انتعال الأحذية إلا في وقتٍ حديث نسبيًّا؛ إذ توحي حالة الإصبع الأكبر بذلك. ويبدو أن وجود عدد من النُّدوب الصغيرة على الأصابع ومقدمة باطن القدم يؤكِّد ذلك؛ فحافي القدمين عادةً ما يُعاني جروحًا صغيرة لا تُعَد ولا تُحصى من وطئه أشياء حادَّة صغيرة.»

بدا ثورندايك غير مُقتنِع، وقال: «أتفق معك بشأن ما توحي به حالة الإصبعين الأكبرين غير المشوَّهة، لكن تلك التجاويف الصغيرة لا تُعطيني انطباعًا بأنها ندوبٌ قد نتجت بالطريقة التي اقترحتها، لكن ربما تكون مُحقًّا.»

وعندها قطع حديثَنا قرعٌ على الباب الخارجي المصنوع من خشب البلوط؛ فخرج ثورندايك إلى الردهة، وسمعته يفتح الباب. وبعد حوالَي لحظة أو اثنتين، دخل مجدَّدًا بمرافقة رجل مهذَّب قصير ذي وجهٍ بُنيٍّ عرفتُ أنه السيد وُرديل حالَما رأيته.

قال وهو يُصافحني: «لا بد أنني أتيتُ بالقطار نفسه الذي أقلَّك إلى هنا، وبخصوص المهمة نفسها تقريبًا، حسب ما أظن؛ فقد رأيت أنني أرغب في أن أرسيَ اتفاقنا على أساسٍ مهني؛ لأنني غريبٌ لكليكما.»

سأله ثورندايك: «ما الذي تريده منَّا؟»

«أريدكما أن تُتابعا القضية، وأن تتقصَّيا الحقائق تقصِّيًا مستقلًّا إذا لزم الأمر.»

«هل يُمكنك أن تُعطينا أي معلومات قد تُساعدنا؟»

فكَّر السيد وُرديل مليًّا، ثم قال بعد برهة: «لا أظنُّ أنني أستطيع؛ فأنا لا أعرف حقائق لا تعرفونها، وأي افتراضات من تخميني قد تكون مُضلِّلة. وأنا أُفضِّل أن تظل آفاق عقليكما منفتحة لكل شيء، لكن ربما يُمكننا التحدُّث بشأن الأجر.»

كان هذا صعبًا بعض الشيء بالطبع، لكن ثورندايك حاول توضيح الالتزامات المالية التي قد يتطلبها العمل ليُرضيَ السيد وُرديل.

وبينما هو ينهض للمغادرة، قال وُرديل: «ثَمة خَطبٌ آخر بسيط، وهو أن بحوزتي هنا حقيبة سفر أقرضتني إيَّاها السيدة بيدينجفيلد لأحمل فيها بعض الأشياء إلى المدينة. إنها حقيبةٌ تركها السيد ماكولي في النُّزل حين غادره. وقد اقترحت السيدة بيدينجفيلد أن أتركها في مكتبه حين أنتهي من استخدامها، لكنني لا أعرف من عنوانه سوى أنه في مكانٍ ما في حي «تمبل»، وأنا لا أريد أن ألتقي هذا الرجل إذا تصادف وكان في المدينة.»

سأله ثورندايك: «أهي فارغة؟»

فتح وُرديل الحقيبة وهو يتكلَّم، وعرض محتوياتها وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة، وقال: «ليس فيها سوى رداء نوم ونعلَين مكشوفين قديمين للغاية.»

ثم أضاف: «محتوياتٌ لا يَملكها إلا زنجي، أليس كذلك؟ رداء نوم حريري وردي، ونعل مكشوف مقاسه أصغر من اللازم بمقدار ثلاث درجات.»

قال ثورندايك: «حسنًا، سأطلب من زميلي أن يعرف العنوان ويتركها هناك.»

ومع خروج السيد وُرديل، دخل بولتون حاملًا الصور المُكبَّرة التي أظهرت آثار الأقدام بحجمها الطبيعي. أعطاني ثورندايك إيَّاها. وبينما جلست لأتفحَّصها، تَبِع هو مساعده إلى المختبر، ثم عاد في غضون بضع دقائق، وبعدها فحص الصور سريعًا، وقال:

«لا يظهر فيها أي شيء آخر غير ما نفهمه بالفعل، لكنها قد تنفعنا لاحقًا؛ لذا ليس لدينا الآن سوى ما في جعبتك من حقائق لنُواصل تحرِّياتنا بناءً عليه. هل ستذهب إلى المنزل الليلة؟»

«نعم، فأنا سأعود إلى مارجيت غدًا.»

«إذن، ربما يُمكننا المشي معًا حتى محطة «تشارينج كروس»؛ لأنني يجب أن أذهب إلى سكوتلانديارد.»

وبينما كنا نتمشَّى في شارع «ستراند»، ثرثرنا في مواضيع عامة، لكن ثورندايك قد تطرَّق مجددًا إلى القضية قبل أن نفترق عند «تشارينج كروس».

قال لي: «سأنتظر أن تُخبرني بتاريخ التحقيق، ولتُحاول معرفة ماهية السم، هذا إن كان سمًّا حقًّا.»

قلت له: «لقد بدا السائل الذي تبقَّى في الزجاجة محلولًا مائيًّا من نوعٍ ما، كما ذكرت لك على ما أظن.»

قال ثورندايك: «نعم. ربما كان بقية ماء نُقِعت فيه بذور الستروفانثوس.»

سألته: «لمَ الستروفانثوس تحديدًا؟»

فسألني: «ولمَ لا؟» ثم ابتسم ابتسامةً غامضة، واستدار ومشى في شارع وايتهول.

وبعد ذلك بثلاثة أيام، وجدت نفسي في مارجيت جالسًا بجوار ثورندايك في غرفةٍ مُجاورة لمبنى البلدية كان من المقرر أن يُجرى فيها التحقيق في وفاة السيدة توسان. كان قاضي التحقيق في أسباب الوفاة قد جلس على كرسيه بالفعل، وكان أعضاء هيئة المُحلِّفين على مقاعدهم، فيما جلس الشهود على مجموعة من الكراسي المتفرِّقة. وكان من بين الشهود الدكتور فوكستون، ورجلٌ غريب جالس بجواره — بدا أنه الشاهد الطبي الآخر على الأرجح — والسيدة بيدينجفيلد، والسيد وُرديل، ومُشرف الشرطة، ورجلٌ ملوَّن حسن الهندام، افترضت صوابًا أنه السيد ماكولي.

وبينما كنت جالسًا بجوار زميلي الذي بدا أشبه بأبي الهول، عاد ذهني للمرة المائة إلى التفكير في قدرته الاستثنائية على التوليف الذهني؛ فتلك الملحوظة التي ذكرها عند افتراقنا عن طبيعة السم المحتمَلة جعلتني أُدرِك في لمح البصر أن لديه نظريةً محدَّدة بالفعل عن هذه الجريمة، وأن نظريته مختلفة عن نظريتي ونظرية الشرطة. صحيحٌ أن السم قد لا يكون هو الستروفانثوس في نهاية المطاف، لكن ذلك لن يغيِّر حقيقة الموقف. لقد كوَّن نظريةً عن الجريمة، مع أنه لم يكن يعرف أي حقائق سوى تلك التي أعطيته إيَّاها؛ أي إن هذه الحقائق كانت تنطوي على إمكانية تكوين نظرية منها، في حين أنني لم أستنتج منها سوى الاحتمالات الرياضية الغامضة المجرَّدة.

كان الشاهد الأول الذي استُدعي بالطبع هو الدكتور فوكستون، والذي ذكر الملابسات التي أعرفها بالفعل، ثم أضاف أنه حضر تشريح الجثة، وأنه وجد على عنق المتوفَّاة وأطرافها كدماتٍ تُشير إلى أنها خاضت صراعًا وتعرَّضت لخنقٍ عنيف قبل وفاتها. وقال إن السبب المباشر للوفاة هو توقُّف القلب، لكنه لم يستطع أن يجزم بما إذا كان هذا التوقُّف ناجمًا عن سكتة أم ذُعرٍ أم تأثير سُم.

وكان الشاهد التالي هو الطبيب الآخر، الذي يُدعى بريسكوت، وهو متخصِّص خبير في علم الأمراض والسموم. كان هو الذي شرَّح الجثة، وأيَّد كلام الدكتور فوكستون بخصوص سبب الوفاة؛ إذ فحص السائل المتبقِّي في القنينة المأخوذة من يد المتوفَّاة، ووجد أنه ماءٌ منقوع فيه بذور الستروفانثوس أو مستخلَص من غَلْيها. وحلَّل السائل الموجود في معدة المتوفَّاة، ووجد أنه يتكوَّن في الغالب من السائل نفسه الذي وُجِد في القنينة.

فسأله قاضي التحقيق: «هل يُستخدم الماء المنقوعة فيه بذور الستروفانثوس في الأدوية؟»

رد عليه: «لا، بل يتناوله المرضى في صورة صبغة أو في صورة الستروفانثين.»

«هل تعتقد أن الستروفانثوس سبَّب الوفاة أو أسهم فيها؟»

رد الدكتور بريسكوت: «من الصعب الجزمُ بذلك؛ فالستروفانثوس سمٌّ يُهاجم القلب، وقد كان السائل يحتوي على جرعةٍ سامَّة كبيرة جدًّا منه، لكن الجسم لم يمتصَّ منها سوى كمية ضئيلة جدًّا. والشواهد الظاهرية لا تتعارض مع الوفاة بالسكتة.»

فسأله قاضي التحقيق: «هل من المُمكن أن تكون المتوفَّاة قد انتحرت بتناول السُّم طوعًا؟»

«لا أعتقد ذلك على الإطلاق؛ فدلائل الدكتور فوكستون تُشير إلى أن القنينة قد وُضعت في يد المتوفاة بعد الوفاة على الأرجح، وهذا يتماشى تمامًا مع جُرعة السم الكبيرة التي وُضعت والكمية الضئيلة التي دخلت إلى الجسم.»

«هل ترى أن الشواهد الظاهرية تُشير إلى محاوَلة انتحار بالسم أم محاولة قتل بالسم؟»

«أرى أنها تُشير إلى محاولة قتل بالسم، لكن سبب الوفاة الرئيسي هو السكتة على الأرجح.»

كانت هذه نهاية شهادة الخبير. وقد أعقبتها شهادة السيدة بيدينجفيلد، التي لم تذكر شيئًا جديدًا لا أعرفه سوى أن صندوقًا قد فُتِح عَنوةً وسُرقت منه حقيبة أوراق صغيرة خاصة بالمتوفاة.

سألها القاضي: «هل تعرفين ما كانت المتوفَّاة تحتفظ به في هذه الحقيبة؟»

«لقد رأيتها تضع فيها رسائل زوجها؛ إذ كان لديها عددٌ كبير منها. ولا أعرف ما كانت تحتفظ به في تلك الحقيبة أيضًا، باستثناء دفتر شيكاتها بالطبع.»

«هل كان لديها رصيدٌ كبير في البنك؟»

«نعم، حسب ما أعتقد؛ إذ اعتاد زوجها إرسال معظم راتبه إلى الوطن، وعادةً ما كانت هي تُودِع هذه الأموال في البنك. ربما تمتلك في رصيدها مائتَي جنيه أو ثلاثمائة.»

وبينما أنهت السيدة بيدينجفيلد شهادتها، استُدعي السيد وُرديل، وأعقبه السيد ماكولي. كانت شهادة كليهما موجَزة، وركَّزت كلها على البلبلة التي أحدثها بيرجسون الذي كنتُ قد لاحظت غيابه عن الجلسة بالفعل.

كان الشاهد الأخير هو مُشرف الشرطة الذي كان مُتحفِّظًا تمامًا كما توقَّعت؛ إذ تحدَّث بالفعل عن آثار الأقدام، لكنه — مثله مثل فوكستون الذي أعتقد أنه كان ملزَمًا بتعليماته — لم يذكر خصائصها المميزة. ولم يقُل أيضًا أي شيء عن بصمات الأصابع. وبخصوص هوية المجرم، قال إنه يتوجَّب إجراء مزيد من التحرِّيات عنها؛ فقد ذكر أن الشكوك قد سُلِّطت في البداية على بيرجسون، لكن تبيَّن بعد ذلك أن السويدي أبحر من رامسجيت على متن سفينة جليدية قبل وقوع المأساة بيومين؛ ثم أشارت الشكوك إلى الزوج، الذي كان معروفًا أنه رسا في ليفربول قبل وفاة زوجته بأربعة أيام ثم اختفى اختفاءً غامضًا. غير أنه (أي المُشرِف) قد تلقَّى في صباح ذلك اليوم برقيةً من شرطة ليفربول تُخبِره بأن جثة توسان قد وُجِدت طافيةً في نهر ميرسي، وأنها تحمل عدة جروح تبدو ذات طابع يُرجِّح أنها ناجمة عن جريمة قتل؛ لذا فمن الواضح أنه قُتِل ثم أُلقيت جثته في النهر.

قال القاضي تعليقًا على ذلك: «هذا في غاية الفظاعة. هل تكشف هذه الجريمة الثانية أيًّا من غموض القضية التي نُحقِّق فيها؟»

أجاب الضابط دون اقتناع كبير: «أظن ذلك، لكن يُستحسَن ألا نخوض في التفاصيل.»

فاتَّفق معه القاضي قائلًا: «بالتأكيد؛ فهذا غير مُلائم إطلاقًا، لكن هل نفهم من ذلك أنك تمتلك أيَّ قرائن تُشير إلى هُوية مُرتكِب هذه الجريمة، هذا بافتراض أن جريمة قد ارتُكبت؟»

أجاب بلات: «نعم، لدينا عدة قرائن مهمة.»

«وهل تشير إلى فردٍ معيَّن؟»

تردَّد المشرف، ثم قال ببعض الحرج: «حسنًا …» لكن المحقِّق قاطعه قائلًا:

«قد لا يكون من الحكمة أن نطرح هذا السؤال؛ إذ يجب علينا ألا نُعيق عمل الشرطة أيها السادة، وهذه المسألة ليست مهمَّة لتحقيقنا في واقع الأمر. أتُفضِّل الامتناع عن إجابة هذا السؤال أيها المشرف؟»

فجاءه الرد القاطع: «نعم يا سيدي، إذا سمحت.»

«هل قُدِّمت أي شيكات من دفتر شيكات المتوفَّاة إلى البنك؟»

«لم يحدث ذلك منذ وفاتها. لقد استفسرت في البنك صباح اليوم.»

وبهذه العبارة اختتم المُشرف شهادته. وبعدما ألقى القاضي سردًا موجَزًا ومحكَمًا لوقائع القضية، حكَمت هيئة المحلِّفين بتقييد القضية على أنها «جريمة قتل عمد ضد مجهول».

ومع انتهاء الجلسة، قام ثورندايك واستدار، ثم دُهشت حين رأيت المُشرف الشرطي ميلر التابع لإدارة التحقيقات الجنائية، والذي دخل القاعة دون أن أُلاحظه، وكان يجلس خلفنا مباشرةً.

قال مُخاطِبًا ثورندايك: «لقد اتبعت تعليماتك يا سيدي، لكنني أودُّ أن أُجري معك محادثةً قصيرة قبل أن نتَّخذ أي إجراء محدَّد.»

قادنا إلى غرفةٍ مُجاورة، وحين دخلناها تبعنا المشرف بلات والدكتور فوكستون.

قال ميلر وهو يُغلق الباب بحرص: «والآن، لقد نفَّذت اقتراحاتك أيها الطبيب. السيد ماكولي محتجَز، لكن قبل أن نعتقله رسميًّا يجب أن يكون لدينا حجة نَبني عليها قرار الاعتقال؛ لذا فأنا أسألك أن تُقدِّم دليلًا واضحًا.»

فقال ثورندايك وهو يضع على الطاولة حقيبة السفر الخضراء الصغيرة التي كانت بمثابة رفيقه الدائم: «حسنًا جدًّا.»

فعلَّق ميلر مُبتسمًا بينما كان ثورندايك يفتحها ويُخرِج منها ظرفًا كبيرًا: «لقد رأيتُ هذا الدليل من قبل. والآن، ما الذي تحمله في هذا الظرف؟»

وحينما أخرج ثورندايك من الظرف نُسَخ بولتون المُكبَّرة من صوري الصغيرة، بدَت عينا بلات جاحظتَين، فيما رمقني فوكستون بنظرة لوم سريعة.

قال ثورندايك: «هذه صور بالحجم الطبيعي لآثار قدمَي القاتل المُشتبَه به. وربما يستطيع المشرف بلات تأكيد صحتها.»

على مضض، أخرج بلات من جيبه صورتين مطبوعتين على لوحين فوتوغرافيين، ووضعهما بجوار الصور المُكبَّرة.

قال ميلر بعدما قارن بين الصور: «نعم، إنها آثار القدمين نفسها، لكنك تقول أيها الطبيب إنها آثار قدمَي ماكولي، فما دليلك على ذلك؟»

ومرةً أخرى، لجأ ثورندايك إلى الحقيبة الخضراء، وأخرج منها لوحين نحاسيَّين مُثبَّتين على لوحٍ خشبي ومُغطيَّين بحبر طباعة.

ثم قال وهو ينزع اللوحين عن إطارهما الواقي: «أقترح أن نأخذ بصمات قدمَي ماكولي ونُقارنها بالصور.»

فقال بلات: «نعم. ولدينا بصمات أصابع اليد التي أخذناها. يُمكننا أن نُقارنها ببصماته أيضًا.»

قال ميلر مُعترضًا: «لن تحتاج إلى بصمات أصابع اليد إذا كانت لديك مجموعة من بصمات أصابع القدمين.»

قال ثورندايك: «بخصوص بصمات أصابع اليد هذه، هل لي أن أسأل عمَّا إذا كانت قد رُفعت من على القنينة؟»

أقرَّ بلات قائلًا: «نعم، هذا صحيح.»

«وهل كانت توجد أي بصمات أصابع أخرى؟»

أجاب بلات: «لا. كانت هذه هي البصمات الوحيدة.»

وبينما كان يتكلم، وضع على الطاولة صورةً تُظهِر إبهام يد يمنى وبقية أصابعها.

فألقى ثورندايك نظرةً خاطفة على الصورة، والتفت إلى ميلر قائلًا:

«أظنُّ أن هذه بصمات أصابع الدكتور فوكستون.»

فصاح بلات مُتعجبًا: «مستحيل!» وسكت فجأةً بعد ذلك.

قال ثورندايك وهو يُخرِج من الحقيبة ورقةً بيضاء: «يُمكننا أن نتيقَّن من ذلك حالًا. إذا وضع الدكتور فوكستون أطراف أصابع يده اليمنى أولًا على هذا اللوح المُغطَّى بالحبر ثم وضعها على الورقة، فسنستطيع مقارنة البصمات بالصورة.»

وبالفعل، وضع فوكستون أصابعه على اللوح المغطَّى بالحبر الأسود، ثم ضغط بها على الورقة تاركًا عليها أربع بصمات سوداء واضحة وضوحًا يسرُّ الناظرين، فتفحَّصها المشرف بلات بلهفة. وبينما كان ينتقل بعينيه بين الصورة والبصمات المطبوعة على الورقة، ارتسمت على وجهه ابتسامة حرج.

ثم تَمتم قائلًا: «خُدعتُ مجددًا! إنها البصمات نفسها.»

قال له ميلر بنبرة اشمئزاز: «حسنًا، لا بد أنك مُغفَّل لأنك لم تفكر في ذلك حين عرفت أن الدكتور فوكستون قد أمسك القنينة.»

قال ثورندايك: «إنها حقيقةٌ مهمَّة بالرغم من ذلك؛ فعدم وجود أي بصمات سوى بصمات الدكتور فوكستون لا يُشير إلى أن القاتل قد اتخذ احتياطاته اللازمة وارتدى قفَّازات فحسب، بل يُثبت على وجه الخصوص أن المتوفَّاة لم تُمسك القنينة وهي على قيد الحياة؛ فعادةً ما تكون يدا المُنتحِر رطبتين للغاية، وتتركان بصمات ظاهرة، إن لم تكن شديدة الوضوح.»

اتفق ميلر معه قائلًا: «نعم، هذا صحيح تمامًا. ولكن بخصوص آثار الأقدام، لا يُمكننا إجبار ذلك الرجل على السماح لنا بتفحُّص قدميه دون أن نعتقله أولًا. لا تتصوَّر يا دكتور ثورندايك أنني أظنُّك تنسج تخمينات من وحي خيالك؛ فأنا أعرفك منذ أمد بعيد للغاية يمنعني من أن أظن بك ذلك. لا أشكُّ في أن لديك حقائق صحيحة تمامًا، لكن يجب أن تُطلِعنا على قدرٍ كافٍ منها لتبرير إلقاء القبض عليه.»

كان ردُّ ثورندايك هو الغوص مرةً أخرى في الحقيبة الخضراء التي لا تَنضب، والتي أخرج منها شيئين ملفوفين بمنديل. وبعدما أزال المنديل، ظهر ما بدا أشبه بنموذجَي فردتَي حذاء بُنِّي شديد البِلى.

قال ثورندايك وهو يعرض «النموذجين» للمُشرف ميلر الذي نظر إليهما بابتسامةٍ واضحة: «هذان نموذجان جِصيَّان للجزء الداخلي من فردتَي خُف — قديم جدًّا وضيِّق للغاية — خاص بالسيد ماكولي. لقد كان اسمه مكتوبًا داخلهما. لقد عُولِج النموذجان بالشمع وطُلِيا بصبغةٍ ترابية بُنِّية محمرة، ثم فُركت هذه الصبغة من عليهما برفق فأبرزت النتوءات والانخفاضات. ستُلاحظ هنا أن بصمات أصابع القدم على باطنَي الخف وبصمات «مفاصل الأصابع» على الجزأين العُلويين منهما تظهر في صورة نتوءات على النموذجين؛ ومن ثَم فهذان النموذجان يُمثِّلان في واقع الأمر نسخةً تقريبية عامة من القدمين الفعليتين.

والآن، لنتحدَّث عن الأبعاد أولًا. يَبلغ الطول الأقصى في قياسات الدكتور جِرفيس لآثار الأقدام عشر بوصات وثلاثة أرباع من البوصة، ويبلغ العرض الأقصى فيها أربع بوصات وخمسة أثمان من البوصة عند رءوس مشطَي القدمين. وفي هذين النموذجين، كما ترى، يبلغ الطول الأقصى عشر بوصات وخمسة أثمان من البوصة؛ إذ يرجع فقدان هذا الثُّمن الناقص عن الطول الأصلي إلى منحنى باطن الخف، ويبلغ العرض الأقصى أربع بوصات وربعًا من البوصة؛ إذ يرجع نقص ثلاثة أثمان من البوصة عن العرض الأصلي إلى الانضغاط الجانبي في الخُف الضيق؛ أي إن التوافق بين الأبعاد مُذهِل، نظرًا إلى حجم القدم غير المعتاد. والآن، لننتقل إلى سمات القدمين المميزة.

تُلاحظ هنا أن كل إصبع في القدمين ترك بصمةً بارزة تمامًا على باطن الخف، باستثناء الإصبعين الأصغرين اللذين لم يُخلِّفا أي أثر في كلا النموذجين. وإذا نظرت إلى الجزأين العُلويين من الخف، فستُلاحظ أن آثار مفاصل الأصابع تبدو واضحة وبارزة تمامًا، باستثناء مفصلَي الإصبعين الأصغرين أيضًا، واللذين لم يُخلِّفا أي بصمة إطلاقًا؛ ومن ثَم فهذه ليست حالة ارتفاع الإصبعين الأصغرين عن سطح الأرض؛ لأنهما كانا سيتركان نتوءًا أشد من الطبيعي على الجزء العلوي لو كانا كذلك. وإذا نظرنا إلى القدم ككلٍّ يتضح أن الإصبعين الأصغرين غير موجودين؛ لأن ثَمة فراغًا منخفضًا حيث كان يجب أن يوجد نتوء.»

قال ميلر بتردد: «امم نعم، هذا كله ممتاز جدًّا، ولكن ألا يُعَد محض تخمين؟»

اعترض ثورندايك قائلًا: «آه، كُنْ منطقيًّا يا ميلر، كل ما عليك هو أن تتأمل الحقائق. لدينا هنا قاتلٌ مُشتبَه به ومعروفٌ أن لديه قدمين ذواتَي حجمٍ غير عادي ومُصابتين بتشوهٍ نادر جدًّا، وهما قدما رجل كان يمكثُ بالفعل في النُّزل نفسه الذي كانت تسكنه القتيلة، بل وكان يسكن على بعد غرفتين فقط منها وقت وقوع الجريمة. فما القرائن التي قد تتوفَّر لديك أكثر من ذلك؟»

قال ميلر مُعترضًا: «حسنًا، تتبقَّى مسألة الدافع.»

قال ثورندايك: «هذا أمر لا يمتُّ بصلة إلى مسألة الدليل الواضح، لكن حتى إن كان متصِلًا بها، أفلا يوجد الكثير من الشواهد التي تجعلنا نشكُّ في وجود دافع لديه؟ فلتتذكَّر هوية القتيلة، ومهنة زوجها، وماهية هذا الرجل السيراليوني.»

قال ميلر بشيءٍ من التعجل، إما لأنه فهم مغزى حُجة ثورندايك (الذي لم أفهمه)، أو لأنه لم يكن راغبًا في الاعتراف بأنه لا يفهمه: «نعم، نعم، هذا صحيح. سنُدخِل الرجل ونحصل على بصمات قدميه الفعلية.»

اتجه نحو الباب، وأخرج رأسه منه وأومأ بإشارةٍ معينة، فتبعها صوتُ وطْءِ قدمَين، ودخل ماكولي الغرفة ومن ورائه شُرطيان ضخمان يرتديان ثيابًا مدنية. كان واضحًا أن الزنجي مُنزعِج؛ لأنه نظر حوله بنظراتٍ مسعورة كأنه حيوان قد وقَع في شِراك الصيد، غير أن سلوكه كان عدوانيًّا وشرسًا.

سأل بصوتٍ عميق فيه طنين لا يصدُر إلا عن زنجي: «لماذا تحتجزونني بهذه الطريقة الوقحة؟»

قال ميلر: «نريد أن نُلقيَ نظرةً على قدمَيك أيها السيد ماكولي، فهلَّا تتفضَّل بخلع حذائك وجوربَيك؟»

صاح ماكولي مُدويًّا: «لا، لن أفعل ذلك إلا على جثَّتك!»

قال ميلر: «إذن، فأنا أُلقي القبض عليك بتُهمة قتل …»

تلاشَت بقية الجملة وسط ضجيج مُفاجئ؛ ذلك أن الزنجي الطويل القوي، والذي كان يخور كثورٍ هائج، قد استلَّ سكينًا كبيرًا غريب الشكل، واندفع بغضبٍ نحو المُشرف، لكن الرجلين ذوَي الثياب المدنية كانا يُراقبانه من الخلف، فانقضَّا عليه وأمسك كلٌّ منهما إحدى ذراعَيه. وبعد صوت صلصلة معدنية حادَّة قد صدر لمرتَين مُتتاليتَين، واصطدامٍ مُدوٍّ وصراخٍ يصمُّ الآذان، صار الرجل الهمجي القوي راقدًا على الأرض، بينما كان أحد الشرطيَّين يجلس فوق صدره، والآخر فوق ركبتَيه.

قال ميلر: «والآن حانت فرصتك أيها الطبيب، سأخلع حذاءه وجوربَيه.»

وبينما أعاد ثورندايك تحبير لوحيه، خلع ميلر والمُشرف المحلِّي الحذاء الجلدي اللامع والجوربَين الحريريَّين الأخضرين ببراعةٍ من قدمَي الزنجي الذي كان يتلوَّى ويخور كالثور، ثم ضغط ثورندايك اللوحين المُحبَّرين بسرعة وبراعة على باطنَي القدمين — اللتين كنتُ قد ثبَّتُّهما لهذا الغرض — قبل أن يضغط الورقة البيضاء بإتقان على إحداهما، ثم نزعها عنها بعدما طُبعت عليها البصمة، وضغط ورقةً أخرى على باطن القدم الأخرى. وبالرغم من الصعوبات التي شكَّلتها مُقاوَمة ماكولي، أظهرت كلتا الورقتين بصمةً واضحة وحادَّة تمامًا لباطن القدم، حتى إن أنماط نتوءات الأصابع ومقدمة باطن القدم كانت شديدة الوضوح. وضع ثورندايك كلا البصمتين الجديدتين على الطاولة بجانب الصور الكبيرة المُناظِرة لها، ودعا المُشرفَين إلى المقارنة بينهما.

قال ميلر: «نعم، صحيح.» فيما أومأ المُشرف بلات بالموافقة قائلًا: «لا يوجد أدنى شك. البصمات المأخوذة بالحبر مُتطابقة مع البصمات الظاهرة في الصور في كل خط وعلامة من علامات الجلد. لقد أثبتَّ حُجَّتك أيها الطبيب، كدأبك دائمًا.»

قال لي ثورندايك بينما كنا نُدخِّن غليونَينا المسائيين على الرصيف البحري الحجري القديم: «إذن، لقد كانت طريقتك سليمةً تمامًا، لكن كل ما هنالك أنك لم تُطبقها كما ينبغي؛ فمثل الكثير من علماء الرياضيات، بدأتَ في إجراء حساباتك قبل أن تحصُل على البيانات كاملة. ولئن كنتَ قد طبَّقت قوانين الاحتمالات البسيطة على البيانات الحقيقية، لأشارت مباشرةً إلى ماكولي.»

فسألته: «كيف افترضتَّ أنه فقد إصبعيه الأصغرين؟»

«أنا لا أفترض إطلاقًا. كان من الجلي أنها حالة آينوم (انحلال الأصابع التلقائي) واضحة في كلتا القدمين.»

صِحتُ بينما لمع وميض التذكُّر المُفاجئ في ذهني: «آينوم!»

«نعم، هذا ما غفلتَ عنه. لقد قارنتَ بين احتمالات الإصابة بثلاثة أمراض لا يُسبِّب أيٌّ منها فقدان ولو إصبعٍ أصغر واحد إلا نادرًا، ولا يُسبِّب فقدان كليهما إلا في أندر الأحوال، ولا يقتصر أيٌّ منها على فئة معيَّنة من البشر، بينما تجاهلتَ مرض آينوم الذي يُهاجم الإصبع الأصغر فقط تقريبًا، ويُسبِّب انحلاله، وغالبًا ما يَفتك بكلا الإصبعين الأصغرين، فضلًا عن أن ظهوره ينحصر في سُلالات ذوي البشرة السوداء. صحيحٌ أن الآينوم غير معروف في المجال الطبي في أوروبا، لكنه شائع جدًّا في أفريقيا، وأقل شيوعًا في الهند.

إنك إذا جمعتَ كل رجال العالم الذين فقدوا إصبعيهم الأصغرين، فستجد أن أكثر من تسعة أعشارهم مُصاب بالآينوم؛ ومن ثَم فوفقًا لقوانين الاحتمالات كان من المحتمَل بنسبة تسعة إلى واحد أن آثار الأقدام التي وجدتها كانت خاصة برجلٍ مُصاب بالآينوم، وبالتبعية رجلٍ أسود البشرة. وحالَما تسلِّم بأن القاتل المرجَّح رجلٌ أسود البشرة، تنفتح أمامك جعبةٌ جديدة من الأدلة المؤيِّدة؛ إذ كان يوجد رجلٌ أسود في مكان وقوع الجريمة. وهذا الرجل كان مُواطنًا من سيراليون، ومن شِبه المؤكَّد أنه كان رجلًا ذا شأن هناك. غير أن زوج الضحية كان لديه أعداء مُهلِكون في عصاباتٍ سِرية محلية في سيراليون، وربما كانت الرسائل التي بعث بها الزوج إلى زوجته تحوي مضمونًا يُجرِّم مُواطنين سيراليونين مُحدَّدين. وهكذا قد أصبحت الأدلة تراكمية كما ترى. وعند النظر إليها ككلٍّ فإنها تشير بكل وضوح إلى ماكولي، هذا بخلاف الحقيقة الجديدة المتمثِّلة في مَقتل توسان في مدينة ليفربول، والتي يقطنها عددٌ كبير من السكان المتنقِّلين الوافدين من غرب أفريقيا.»

«وأحسب أنك قد قرَّرتَ أن ماكولي هو القاتل حالَما أعطيتك مخطَّطًا عامًّا للقضية؛ إذ أشرت إلى سم الستروفانثوس الأفريقي، أليس كذلك؟»

«بلى، لا سيما حين رأيتُ صور آثار الأقدام التي التقطتَها بلا إصبعين أصغرين، وتظهر فيها على بقية الأصابع تلك الندبات المُميَّزة الناجمة عن لدغات البق، غير أن الحظ وحده هو ما مكَّنني من وضع القطعة الرئيسية في مكانها داخل الأحجية، وتحويل ما هو محض احتمال إلى حقيقةٍ شبه مؤكَّدة؛ لذا كنتُ سأُعانق الساحر وُرديل حين أحضر لنا الخُف السِّحري. غير أن هذا لم يُصبِح يقينًا مُطلقًا حتى الآن، وإن كنت أتوقَّع أنه سيصير هكذا غدًا.»

وقد كان ثورندايك مُحقًّا. ففي المساء نفسه، داهمت الشرطة مكتب ماكولي في مبنى «تانفيلد كورت»، حيث عثرت على حقيبة الأوراق الصغيرة الخاصة بالقتيلة. كانت رسائل توسان إلى زوجته ما تزال موجودة في الحقيبة، وقد ورد في إحداها أسماء العديد من الرجال السيراليونيين البارزين، بصفتهم أعضاءً في عصابةٍ سِرية خطرة، وكان من بينهم المتهَم ديفيد ماكولي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤