الفصل الثاني

الجعران الأزرق

يهتمُّ الطب الشرعي عمومًا بالجرائم التي تُرتكب ضد الأشخاص، والتي غالبًا ما تكون تفاصيلها قذرةً شنيعة بغيضة؛ ولهذا كانت قضية «الجعران الأزرق» الغريبة الرومانسية بمثابة مُتنفَّس بعضَ الشيء، وإن كانت تقع خارج مجال تخصُّصنا في حقيقة الأمر، غير أنَّ ما أثار اهتمامي بها بصفةٍ أساسية هو أنها قد أوضحت اثنتين من المواهب الفذَّة التي جعلت من صديقي ثورندايك مُحقِّقًا فريدًا من نوعه، وهما قدرته الخارقة على اكتشاف الحقيقة الأساسية الوحيدة في لمح البصر، ومقدرته على إخراج مخزون لا يَنضب من المعرفة غير المتوقَّعة بأغرب الموضوعات، عند الحاجة.

كنا في وقتٍ متأخر من فترة العصر حين وصل السيد جيمس بلوجريف، وفقًا لموعده، إلى مقر مكتبنا بمرافقة ابنته، والتي كانت فتاةً في غاية الجمال تبلغ من العمر حوالَي اثنين وعشرين عامًا. وبعد أن تبادلنا التعريف بأنفسنا، بدأت الاستشارة بلا مقدمات.

قال السيد بلوجريف: «لم أذكر أيَّ تفاصيل في رسالتي إليكم؛ إذ ظننت أن ذلك من الأفضل خشية أن ترفضا القضية. صحيحٌ أنها قضية سرقة، لكنها ليست سرقةً عادية على الإطلاق؛ إذ إنها تنطوي على شواهد غير عادية وغامضة بعض الشيء. ولأن الشرطة ليس لديها سوى أمل ضئيل جدًّا في حل القضية، فقد جئت لأطلب مشورتكما بشأنها، والتحقيق فيها لحسابي إن أمكن، لكن أولًا من الأفضل أن أُخبركما بوقائع القضية.

وقعت السرقة منذ أسبوعين بالضبط، في حوالَي التاسعة والنصف مساءً. كنت جالسًا في غرفة المكتب مع ابنتي نتفحَّص بعض الأشياء التي أخرجتها من صندوق مستندات معدني صغير، حين اندفع خادم إلى داخل الغرفة ليُخبرنا بأن أحد المباني الخارجية المُلحَقة بالبيت يحترق. جديرٌ بالذِّكر هنا أن مكتبي يُطِل على الحديقة الخلفية عبر نافذة فرنسية. ولأن المبنى الخارجي كان في مرج على جانب الحديقة، خرجت إلى الحديقة عبر تلك النافذة، تاركًا إياها مفتوحة، لكنني أعدت الأشياء في عُجالة إلى الصندوق المعدني وأقفلته قبل أن أخرج.

كان المبنى — الذي كنت أستخدم جزءًا منه مخزنًا للخشب المنشور والجزء الآخر منه ورشةً لصنعها — مُشتعلًا على بَكرة أبيه، وكان أهل البيت كلهم في مكان الحريق؛ إذ كان الصبي يُشغِّل مضخَّة الماء، فيما كانت الخادمتان تحملان الدِّلاء وتُلقيان المياه على النيران؛ فانضممت أنا وابنتي إليهم، وساعدنا في حمل الدِّلاء وإخراج ما استطعنا إدراكه من الأشياء من المبنى المشتعل. استغرق منا الانتهاء من إخماد الحريق نصف ساعة تقريبًا، ثم ذهبت أنا وابنتي إلى غرفتَينا لنغتسل ونُهندِم أنفسنا. عُدنا إلى غرفة المكتب معًا، وحين أغلقت النافذة الفرنسية اقترحَت ابنتي أن نستكمل عملنا الذي قاطَعه الحريق، وعندئذٍ أخرجت من جيبي مفتاح الصندوق المعدني، والتفتُّ نحو الخِزانة التي كان الصندوق موضوعًا عليها.

غير أنه لم يكن موجودًا هناك.

ظننت لوهلةٍ أنني قد نقلته ولا بد إلى مكانٍ آخر، فطُفتُ أرجاء الغرفة بعينيَّ بحثًا عنه، غير أني لم أرَه في أي مكان، وفكَّرت لحظةً فتذكَّرت أنني تركته في مكانه المُعتاد؛ لذا فقد كان الاستنتاج المحتمل الوحيد هو أن شخصًا ما قد دخل ولا بد عبر النافذة، مُستغلًّا غيابنا وانشغالنا بإطفاء الحريق، وبدا كما لو أن شخصًا ما قد أضرم النيران عمدًا في المبنى الخارجي من أجل غاية واضحة، وهي أن يستدرجنا جميعًا إلى خارج البيت.»

اتفق معه ثورندايك قائلًا: «هذا ما تُشير إليه الشواهد الظاهرية. هل نافذة غرفة المكتب مزوَّدة بشيش حصيرة أم ستارة؟»

أجاب بلوجريف: «ستارة، لكنها لم تكن مُسدَلة على النافذة؛ لذا فقد كان من الممكن لأي شخص في الحديقة أن يرى ما بداخل الغرفة، وبإمكان أي شخص خفيف الحركة قادر على تسلُّق جدار مُنخفِض أن يصل إلى الحديقة بسهولة.»

قال ثورندايك: «إذن، فحتى الآن قد تكون السرقة من تنفيذِ مُتسلِّلٍ عابرٍ دخل الحديقة وراقَبك من خلال النافذة، وافترض أن الأشياء التي أخرجتها من الصندوق ثمينةٌ قيِّمة، فانتهز فرصةً سهلة ليسرقها ويهرب بها. هل كانت الأشياء ذات قيمة كبيرة؟»

«لم تكن ذات أي قيمة على الإطلاق لأي لص؛ فكل ما كان هناك هو عددٌ من شهادات ملكية الأسهُم، وعقد إيجار، وميثاق أو اثنان، وبعض الصور العائلية، وعلبةٌ صغيرة بها رسالةٌ قديمة وجعران. لا شيء فيها يستحق السرقة كما ترى؛ لأن الشهادات كانت مُبرَمة بِاسمي؛ ولذا لم تكن قابلة للتداول.»

«والجعران؟»

«ربما كان سيبدو مصنوعًا من اللازورد، لكن الأرجح أنه جعرانٌ مُقلَّد مصنوع من الزجاج الأزرق. لم يكن ذا قيمة كبيرة على أي حال؛ فطوله حوالَي بوصة ونصف بوصة. بالرغم من ذلك، فمن الأفضل أن أُنهي القصة قبل أن تستخلص أي استنتاجات. لقد وقعت السرقة يوم الثلاثاء المُوافِق للسابع من يونيو، وقدَّمتُ للشرطة المعلومات اللازمة وأوصاف المُمتلكات المفقودة، غير أن شيئًا لم يحدث حتى يوم الأربعاء المُوافِق للخامس عشر من الشهر، حين تلقَّيت طردًا مُسجَّلًا يحمل طابع ساوثهامبتون البريدي. وما أدهشني أنني حين فتحته وجدت محتويات الصندوق المفقودة بأكملها عدا الجعران، وهذه الرسالة التي يكتنفها بعض الغموض.»

أخرَج من جيبه ظرفًا عاديًّا قد كُتِب عليه العنوان بالآلة الكاتبة، ومُهِر بختمٍ بيضاوي كبير نُقِشت عليه كتابةٌ هيروغليفية بالغة الصِّغر، وسلَّمه إلى ثورندايك.

قال ثورندايك: «أظنُّ أن هذه بصمة الجعران، وهي بصمةٌ دقيقة جدًّا بالمناسبة.»

رد بلوجريف قائلًا: «أجل، لا أشكُّ في أنه الجعران؛ فهو بالحجم نفسه تقريبًا.»

وسريعًا نظر ثورندايك إلى عميلنا بتعبير من الدهشة، ثم سأله: «لكن، ألا تعرف الكتابة الهيروغليفية المنقوشة عليه؟»

فابتسم بلوجريف بشيء من الحرج، وقال: «الحقيقة أنني لا أفقه أي شيء عن الكتابة الهيروغليفية، لكنِّي أرى أنها تبدو الكتابة نفسها، على حدِّ اعتقادي. ما رأيكِ يا نيلِّي؟»

نظرت الآنسة بلوجريف إلى الختم في حيرة، وأجابت: «الأمر نفسه ينطبق عليَّ؛ فأنا أرى الهيروغليفية محض رموز غريبة لا تعني شيئًا، غير أن هذه النقوش تبدو لي مطابِقةً للنقوش المكتوبة على جعراننا، وإن كنتُ أتوقَّع أن أي نقوش هيروغليفية أخرى سينطبق عليها الأمر نفسه أيضًا.»

لم يُعلِّق ثورندايك على هذا الرد، لكنه فحص الختم بتمعُّن من خلال عدسته، ثم أخرج محتويات الظرف التي تمثَّلت في رسالتَين؛ إحداهما مكتوبة بالآلة الكاتبة، والأخرى مكتوبة بخطٍّ يدوي بُنِّي باهت. قرأ ثورندايك الرسالة الأولى سريعًا، ثم تفحَّص الورقة من كثب رافعًا إياها نحو الضوء ليرى العلامة المائية.

قال وهو يُعطيني الورقة: «يبدو أن الورقة بلجيكية الصُّنع.» فأكَّدتُ هذه الملاحظة، ثم قرأت الرسالة التي كانت موجَّهة إلى عنوان في «ساوثهامبتون»، وجاء فيها ما يأي:

صديقي القديم العزيز

أُعيدُ إليك بعض الأشياء التافهة التي أُخذت بالخطأ. الوثائق القديمة مُرفَقة بهذا الطرد، لكن التُّحفة قد صارت الآن في عهدة عمي المُبجَّل. أتمنَّى ألا يُضايقك فقدانها المؤقَّت، وأن أستطيع إعادتها إليك لاحقًا. وحتى يحين ذلك الوقت، إليك صادق مودتي.

المُحِب لك دومًا،
رودولفو

فسألت قائلًا: «ومَن رودولفو؟»

أجاب السيد بلوجريف: «الرب وحده يعلم. أظنُّه اسمًا مُستعارًا لصديقنا الغائب. يبدو أنه شخصٌ هزلي.»

اتَّفق معه ثورندايك قائلًا: «هذا صحيح؛ فهذه الرسالة وهذا الختم شبيهان بما يُسميه التلاميذ خدعةً فكاهية، غير أن هذا كله طبيعيٌّ تمامًا. لقد أعاد إليك الأشياء العديمة القيمة، واحتفظ بالشيء الوحيد الذي قد يكون قيِّمًا ويُمكن تداوله. هل أنت مُتيقِّن تمامًا من أن الجعران ليس أغلى قيمةً ممَّا تظن؟»

قال السيد بلوجريف: «حسنًا، لقد أخذت رأيَ خبيرٍ متخصِّص بشأنه؛ فقد عرضته على السيد فوكيه، عالِم المصريات الفرنسي، حين جاء إلى هنا من بروكسل منذ بضعة أشهر، وقال إنه جعران مُقلَّد عديم القيمة. ليس ذلك فحسب، بل قال أيضًا إن الكتابة المنقوشة عليه مُصطنَعة أيضًا؛ فهي محض رموز هيروغليفية مجتمعة معًا دون معنًى أو مغزًى.»

قال ثورندايك وهو يُلقِي نظرةً أخرى على الختم من خلال عدسته: «إذن، يبدو أن رودولفو، أو عمَّ رودولفو، قد حاز على صفقةٍ خاسرة. وهذا لا يفسِّر كثيرًا من الأمر.»

حينئذٍ تدخَّلت الآنسة بلوجريف وقالت: «أظنُّ يا أبي أنك لم تُعطِ الدكتور ثورندايك كل الحقائق المتعلِّقة بالجعران، ويجب أن تُخبره عن علاقة الجعران بالعمِّ روبن.»

وبينما كانت الفتاة تتحدَّث، نظر إليها ثورندايك نظرةً فضولية تنمُّ عن اهتمام قد تيقَّظ فيه فجأةً. فهمتُ مَغزى تلك النظرة لاحقًا، غير أنني لم أجد في كلامها ما يلفتُ انتباهي آنذاك.

قال السيد بلوجريف باستنكار: «هذا مجرَّد تراث عائلي، ربما يكون كل هذا محض هراء.»

قال ثورندايك: «حسنًا، دعنا نعرفه على أي حال؛ فربما نستوضح منه شيئًا.»

وتحت وَقْع هذا الإلحاح، تلعثم السيد بلوجريف بقليل من الخجل، وقال:

«تتعلَّق القصة بجَدِّ والدي، سيلاس بلوجريف، وأفعاله في أثناء الحرب ضد فرنسا؛ إذ يبدو أنه كان يقود سفينة قرصنة كان يملكها مع شقيقه روبن، وأنهما حصلا على مجموعة من الجواهر الرائعة النفيسة جدًّا في آخر رحلاتهما البحرية. لا أحد يدري كيف حصلا عليها، لكني أظنُّ أنهما لم يحصلا عليها بنزاهة؛ إذ كانا يبدوان نذلَين للغاية. ذُكِرت أقاويل عن أنها سُرِقت من كنيسة أو كاتدرائية في أمريكا الجنوبية، دون معلومات مؤكَّدة عن الأمر. ولا توجد أي وثائق أو مستندات، بل مجرد تراث شفهي غامض سطحي جدًّا. تقول القصة إنهما حين باعا السفينة، نزلا للعيش في ضيعة «شوستيد» بمقاطعة «هيردفوردشاير»، حيث سكن سيلاس بيت صاحب الضيعة — الذي أعيش فيه حاليًّا — وسكن روبن في مزرعةٍ مُجاورة. تقاسما جُل الغنيمة المنهوبة في نهاية رحلتهما البحرية، لكنهما أبقيا الجواهر على حدة ليتصرَّفا فيها لاحقًا، ربما حين تُنسى ظروف حصولهما عليها، غير أن كليهما كان مُدمنًا للعب القمار، ويبدو — وَفق شهادة خادمة روبن التي سمعتهما بالصدفة — أنهما، في إحدى الليالي التي كانا يَلعبان فيها القمار بانهماكٍ شديد، قرَّرا إنهاء اللعب بالمُراهنة على الجواهر كلها دفعةً واحدة. وشُوهِد سيلاس، الذي كان يحتفظ بالجواهر عنده، وهو يذهب إلى بيت صاحب الضيعة ويعود إلى بيت روبن وهو يحمل صندوقًا حديديًّا صغيرًا.

ومن الواضح أنهما لعبا في وقتٍ متأخر من الليل، بعدما خلد الجميع إلى النوم عدا الخادمة، وقد كان الحظ حليف روبن، وإن كان قد قدَّم للحظ بعض المساعدة كما يبدو على الأرجح. على أي حال، حين انتهى اللعب وأخذ روبن الصندوق، اتَّهمه سيلاس بالغش، ويمكننا أن نُسلِّم بوقوعِ شجارٍ حادٍّ للغاية حينئذٍ، غير أن أحدًا لا يعرف ما حدث بالضبط؛ فحين بدأ الشجار صرف روبن الخادمة التي تركتهما وذهبت إلى غرفة نومها التي تقع في جزءٍ بعيد من البيت، وفي الصباح اتَّضح اختفاء روبن وصندوق الجواهر، واكتُشفت أيضًا آثار دماء واضحة في الغرفة التي لعب فيها الرجلان. زعم سيلاس أنه لا يعرف شيئًا عن اختفائهما، غير أن شكوكًا قوية — ربما تكون صائبة — قد ظهرت بشأن قتله لأخيه وهروبه بالجواهر. وكانت النتيجة أن سيلاس قد اختفى هو أيضًا، وظلَّ على مدار فترة طويلة لا يعرف مكانَه أحد، حتى زوجته.

اتَّضح لاحقًا أنه استقرَّ في مصر باسمٍ مُستعار، وأنه صار شَغِفًا بعلم المصريات الذي كان حديثًا آنذاك؛ إذ كانت رموز حجر رشيد قد فُكَّت قبل ذلك الحين ببضع سنوات فقط. استكمل التواصل مع زوجته بعد فترة، لكنه لم يذكر أي شيء عن اختفاء أخيه. وقبل وفاته ببضعة أشهر زار منزله متخفِّيًا، وأعطى زوجته طردًا صغيرًا مُغلقًا، وأوصى بتسليمه إلى ابنه الوحيد، ويليام، عند بلوغه الحادية والعشرين من عمره. وكان ذلك الطرد يحوي الجعران والرسالة التي أخذتَها من الظرف.»

سأله ثورندايك: «هل لي أن أقرأها؟»

ردَّ عليه بلوجريف: «بالتأكيد، إذا كنتَ تظنُّ أنها تستحق وقتك.» فتح ثورندايك الورقة الصفراء، ونظر إلى الكتابة البُنِّية الباهتة، وقرأ مُحتواها بصوتٍ عالٍ، قائلًا:

القاهرة، ٤ مارس ١٨٣٣
ابني العزيز

أبعثُ إليك بهديةٍ أخيرة هي جعرانٌ نفيس وبضع وصايا أدعوك إلى التأمل فيها. صدِّقني حين أقول لك إن معارف مصر القديمة تنطوي على قدرٍ كبير من الحكمة. حُزْها لنفسك. صُنِ الجعران كإرثٍ ثمين. تأمَّلْه كثيرًا، لكن لا تُرِ أحدًا إياه. ادفن عمَّك روبن دفنةً مسيحية. هذا واجبك، وستُكافأ عليه. لقد سرق أباك، لكنه سيعوَّض عن ذلك.

وداعًا!

أبوك المُحِب،
سيلاس بلوجريف

وبينما وضع ثورندايك الرسالة من يده، نظر مُستفهمًا إلى عميلنا.

وقال: «حسنًا، لدينا هنا بعض التعليمات الواضحة، فكيف نُفِّذت؟»

أجاب السيد بلوجريف: «لم تُنفَّذ إطلاقًا؛ فابنه ويليام، أي جدِّي، لم يكن راغبًا في التدخل في الأمر؛ إذ بدا ذلك اعترافًا صريحًا بأن سيلاس قد قتل أخاه وأخفى الجثة، وويليام لم يرغب في إعادة فتح هذه الفضيحة. وفوق ذلك، فالتعليمات ليست واضحةً جدًّا؛ فمن السهل للغاية أن تقول: «ادفن عمَّك روبن دفنةً مسيحية.» لكن أين هو العم روبن بحقِّ السماء؟»

قال ثورندايك: «إن الرسالة تُلمِّح بوضوح إلى أن أيًّا مَن يدفن الجثة دفنةً مسيحية سيَستفيد، ويبدو أن كلمة «تعويض» تُشير إلى مفتاح لغز مكان الجواهر. ألم يخطر ببالِ أحدٍ أن التوصل إلى مكان حفظ الجثة يستحق العناء؟»

تساءل بلوجريف: «وأنَّى لهم أن يفعلوا ذلك؟ فهو لا يَذكُر أي إشارة، بل يتحدَّث كأن ابنه يعرف مكان الجثة. وحتى لو افترضنا أن سيلاس لم يأخذ الجواهر معه، فسوف يَبقى السؤال عمَّن كان يملكها في الأصل؛ فمن شِبه المؤكَّد أنها كانت ممتلكاتٍ مسروقةً من بادئ الأمر، وإن كان مصدرها مجهولًا. ومن الواضح أن روبن قد أخذها من سيلاس بالاحتيال، واستردَّها سيلاس منه بالسرقة والقتل؛ ومن ثَم لو كان ويليام قد عثر عليها، لكان سيضطرُّ إلى تسليمها إلى أبناء روبن، غير أنها لم تكن من ممتلكات روبن على وجه التحديد؛ لذا لا يُمكِن لأحدٍ أن يدَّعي أحقيةً أكيدةً غير قابلة للنكران بامتلاكها، حتى إن كان بإمكانه العثور عليها.»

قالت الآنسة بلوجريف: «لكن الوضع قد تغيَّر الآن.»

قال السيد بلوجريف ردًّا على نظرة ثورندايك الاستفهامية: «أجل، لقد تغيَّر الوضع، وأصبح الآن في تمام الوضوح. لقد تُوفِّي مؤخرًا حفيد روبن، ابن عمِّي آرثر، ولمَّا لم يكن لديه أبناء فقد وزَّع تركته. ترك البيت القديم ذا المزرعة والجزء الأكبر من مُمتلكاته لأحد أبناء أخيه، لكنه ورَّث ابنتي جزءًا صغيرًا، وأوصى بنقل ما تبقَّى من التركة إليها؛ ومن ثَم فأيُّ ما كان لروبن من حقوق في الجواهر فقد صارت مِلكها الآن، وعند وفاتي ستكون وريثةَ سيلاس أيضًا.» ثم أضاف: «في الواقع، كنا نُناقش هذه المسألة تحديدًا ليلة السرقة. وبوسعي أن أُخبرك أيضًا بأن ابنتي ستُترَك بلا أي أملاك أو أموال عند وفاتي؛ فأراضينا عليها رهنٌ عقاري باهظ، وليس لدينا سوى رأس مال زهيد للغاية. كانت جواهر العم روبن ستضمن بقاء البيت القديم لها لو كنا قد استطعنا وضع أيادينا عليها. على أي حال، يجب ألا أشغل وقتك بشئوننا العائلية.»

قال ثورندايك: «شئونكم العائلية ليست عديمة الصلة تمامًا بموضوعنا، لكن ما الذي تريده منِّي في هذه القضية؟»

قال بلوجريف: «حسنًا، لقد سُرِق منزلي وأُضرمت النيران في مبناي المُلحَق الخارجي، ومن الواضح أن الشرطة لا تستطيع فِعل أي شيء؛ فهي تقول إنه لا يوجد دليل إطلاقًا إلا إذا كان السارق واحدًا من أهل البيت، وهذا غير معقول؛ نظرًا إلى أن الخدم كلهم كانوا مُنهمِكين في إطفاء الحريق، لكنِّي أريد معرفة السارق ومُعاقبته، وأريد استعادة الجعران. ربما يكون بلا قيمة في حد ذاته، كما قال السيد فوكيه، لكن يبدو أن وصية سيلاس تُشير إلى أنه يحمل بعض القيمة. على أي حال، إنه إرثٌ عائلي، وأكره فقدانه. قد يبدو من الوقاحة أن أطلب منك التحقيق في قضية سرقة تافهة، لكنني سأعتبره لطفًا كبيرًا منك أن تُوافِق على التحقيق فيها.»

ردَّ ثورندايك قائلًا: «صحيحٌ أن قضايا السرقة الخالصة البسيطة غريبةٌ بعض الشيء عن ممارستي الاعتيادية، لكن هذه القضية تنطوي على بعض السمات الغريبة التي يبدو أنها تجعل التحقيق فيها يستحق العناء. أنا مُوافقٌ يا سيد بلوجريف، سأحقِّق في القضية، ولديَّ بصيصٌ من الأمل في أننا قد نتوصَّل إلى السارق، بالرغم من الافتقار الواضح إلى مفاتيح حل اللغز. سأطلب منك أن تترك هاتين الرسالتين معي لأتفحَّصهما بمزيدٍ من الدقة، وسأحتاج إلى فحص المبنى المُحترق على الأرجح ربما غدًا.»

قال بلوجريف: «تفضَّل بالمجيء متى شئت. تُسعدني موافقتك على التحقيق في القضية. لقد سمعت الكثير عنك من صديقي ستوكر، الذي يعمل في شركة «جريفين لايف أشُّورانس» للتأمين، وكان قد وكَّلك عدَّة مرات.»

قال ثورندايك: «قبل أن تُغادر، تتبقَّى نقطةٌ واحدة يجب توضيحها. مَن سواكما يعرف بوجود الجعران وهذه الرسالة والحكاية القديمة المتعلقة بهما؟»

أجاب بلوجريف: «لا أستطيع الجزمَ بذلك في حقيقة الأمر. لم يرَهما أحدٌ سوى ابن عمي آرثر. لقد أريته إياهما ذات مرة، وربما يكون قد تحدَّث عنهما أمام العائلة. لم أكن أعتبر الأمر سرًّا.»

غادَر زائرانا، وجلسنا نُناقش جوانب القضية.

قلت لثورندايك: «إنها قصةٌ رومانسية جدًّا، والسرقة تنطوي على نقاطٍ مُثيرة للاهتمام، لكني أميل إلى الاتفاق مع رأي الشرطة في عدم وجود سوى خيوط قليلة للغاية يُمكِن الانطلاق منها.»

قال ثورندايك: «كانت لتُصبِح أقل لو لم يكن صاحبُنا المُغامِر مُختالًا بنفسه؛ فتلك الرسالة المكتوبة بالآلة الكاتبة نموذجٌ للوقاحة غير المسوَّغة. لقد بالَغ رجُلنا في الاعتقاد بأنه آمنٌ من العقوبة، وتبجَّح بصخبٍ مُبالَغ فيه.»

قلت له: «ومع ذلك، فلستُ أرى أن هناك الكثير مما يُمكِن أن نَجنيه من هذه الرسالة.»

قال مُتعجِّبًا: «يؤسفني سماع هذا منك يا جِرفيس؛ فقد كنت أعتزم إعطاءك الرسالة لتتفحَّصها وتُبلغني بتقرير عنها.»

قلت على عجَل: «كنتُ أقصد الشواهد الظاهرية ليس غير. لا شكَّ أن الفحص التفصيلي سيكشف لنا عن أمورٍ أهم.»

قال: «أنا مُتيقِّن من ذلك، ونظرًا لوجود أسباب تدفعنا إلى الشروع في التحقيق بأسرع ما يمكن، أقترح أن تبدأ العمل حالًا، وأنا سأتولَّى تفحُّص الرسالة القديمة والظرف.»

وعلى هذا بدأتُ الفحص فورًا دون تأخير، واستهللته بأخذ نسخة فوتوغرافية للرسالة بوضعها في إطار طباعة كبير مع لوحٍ حسَّاس ولوحٍ من الزجاج الشفَّاف. ولم تُظهِر الصورة السالبة الناتجة الأحرُف المكتوبة بالآلة الكاتبة فحسب، بل أظهرت كذلك العلامة المائية والخطوط المُتوازية الناجمة عن الشبكة السلكية المُستخدَمة في صناعة الورق، وبقعةً دهنية باهتة. ركَّزتُ بعد ذلك على الأحرُف نفسها، وسرعان ما بدأت حينها في ملاحظة عدد كبير من الخصائص المُميزة؛ فقد اتَّضح لي أن الآلة الكاتبة من طراز «كورونا»، وأنها مزوَّدة بخط «إيلايت» الصغير، وأن مُحاذاة الكتابة بها عيوبٌ ملحوظة؛ إذ كانت حروف «إيه» الصغيرة تقع أسفل الأسطر بكثير، مع أن حروف «إيه» الكبيرة كانت واقعةً في مواضعها الصحيحة على الأسطر، وكانت حروف «يو» تقع أعلى من الأسطر قليلًا، فيما كانت فتحات حروف «إم» الصغيرة قد انسدَّت انسدادًا جزئيًّا بالوسَخ.

كنتُ حريصًا حتى هذه اللحظة على التعامل مع الرسالة بالملقط (مع أنني أعرف أن ثلاثة أشخاص على الأقل قد أمسكوها قبلي)، وحينها شرعت في فحصها بحثًا عن بصمات الأصابع. ولأنني لم أستطع اكتشاف أي شيء من خلال الفحص وحده، غبَّرتُ ظهر الورقة بمسحوقِ فوشين ناعم، ونثرت المسحوق بنَقر الورقة برفق؛ فظهر عددٌ لا بأس به من بصمات الأصابع، لا سيَّما حول حواف الرسالة. وبالرغم من أن مُعظمها كان باهتًا ومبهَمًا للغاية، كان من المُمكِن تحديد نمط نتوءات البصمات بما يكفي لغرضنا. وبعدما نفخت الفائضَ من المسحوق في الهواء، أخذت الرسالة إلى الغرفة التي أُعِدَّت فيها الكاميرا الناسخة الكبيرة لأُصوِّرها قبل أن أحاول إظهار البصمات الموجودة على وجهها، لكنني وجدتُ مُساعدنا المُختبري، بولتون، مُستحوذًا عليها، فيما كان الظرف المختوم مثبَّتًا على حامل لوح النَّسخ، وحينها قال لي: «أمهلْني دقيقةً يا سيدي؛ فالطبيب يريد صورةً مُكبَّرة من هذا الختم. وقد وضعت اللوح داخل الجهاز بالفعل.»

انتظرته حتى التقط الصورة، ثم شرعتُ في التقاط صورة للرسالة، أو بالأحرى بصمات الأصابع المطبوعة على ظهرها. وحين حمَّضت الصورة السالبة لوجه الرسالة، نثرت المسحوق عليها، وكشفتُ عدة بصمات أصابع أخرى؛ بصماتِ إبهام هذه المرة. كان من الصعب رؤية البصمات في المواضع التي طُبعت فيها على الكتابة، ولكن لأن الكتابة كانت بلونٍ أزرق ساطع، ومسحوق الفوشين كان أحمر؛ فقد اختفى هذا الالتباس في الصورة التي بدت فيها الكتابة شِبه مخفية بينما كانت البصمات أوضح ممَّا كانت تبدو للعين المجرَّدة. أنهيتُ فحصي بذلك، وحين تيقَّنت من صحة طراز الآلة الكاتبة بالرجوع إلى سِجلِّنا الذي نحتفظ فيه بعيِّناتٍ مكتوبة بآلاتٍ مختلفة، تركتُ الصور السالبة لبولتون كي يُجفِّفها ويطبعها، وذهبت إلى حجرة الجلوس لكتابة تقريري الصغير. كنت قد أنهيته للتَّو، وكنت أحاول تخيُّل ما توصَّل إليه ثورندايك حين سمعت خُطاه السريعة على الدَّرج، ثم دخل الغرفة بعد بضع لحظات مُمسِكًا ورقةً ملفوفة في يده. بسط هذه الورقة على الطاولة، مُثبِّتًا إياها بواحدة أو اثنتين من ثقالات الورق الرصاصية، واقتربتُ لأفحصها، فوجدتها ورقةً لخريطة هيئة المساحة ذات مقياس يبلغ خمسًا وعشرين بوصة للميل الواحد.

قال ثورندايك: «ها هي أرض آل بلوجريف في وسط الورقة تقريبًا. هذا بيته — قصرُ ضيعة شوستيد — ولعل ذلك هو المبنى الخارجي الذي اشتعلت فيه النيران. وأظنُّ أن ذاك البيت الموسوم باسم «دينجل فارم» هو البيت الذي كان العمُّ روبن يسكنه.»

اتفقت معه قائلًا: «هذا صحيحٌ على الأرجح، لكني لا أفهم لمَ أردت الحصول على هذه الخريطة ما دُمت ستذهب إلى المكان نفسه غدًا.»

قال ثورندايك: «ميزة الخريطة أنك تستطيع رؤيتها كلها دفعةً واحدة، وتحفظ شكلَ الأرض جيدًا في ذهنك، وأنك تستطيع قياس جميع المسافات بدقة وسرعة بمسطرة وفرجارَين؛ لذا فحين نذهب إلى هناك غدًا، سنكون على دراية بطريقنا مثل بلوجريف نفسه.»

سألته: «وما فائدة ذلك؟ ما علاقة الطبوغرافيا بالقضية؟»

أجاب قائلًا: «حسنًا يا جِرفيس، لدينا هنا السارق، على سبيل المثال، لقد جاء من مكانٍ ما وذهب إلى مكانٍ ما؛ ومن ثَم فقد تمنحنا دراسة الخريطة إشارة إلى تحرُّكاته، لكن ها هو بولتون قد جاء «حاملًا الوثائق»، وها أنا أقول مثلما كانت الآنسة المسكينة فلايت ستقول: ماذا أحضرتَ لنا يا بولتون؟»

قال بولتون وهو يضع على الطاولة أربع صور مطبوعة على ورق بروميد: «إنها لم تجفَّ تمامًا بعدُ يا سيدي. ها هي صورة الختم المُكبرة — بُعداها عشرة في ثمانية ومُثبَّتة على لوحٍ خلفي — وثلاث صور مطبوعة غير مثبَّتة طلبها الدكتور جِرفيس.»

نظر ثورندايك إلى صوري بعينٍ نقدية، وقال: «إنها ممتازةٌ يا جِرفيس. من السهل جدًّا رؤية تفاصيل بصمات الأصابع، مع أنها باهتة. كل ما أتمنَّاه أن تكون البصمات المطلوبة موجودةً بينها. هذه بصمة إبهامي الأيسر، ولا أرى بصماتك، وأظنُّ أن هذا الإبهام الصغير هو إبهام الآنسة بلوجريف. يجب أن نأخذ بصماتها غدًا، وبصمات أبيها أيضًا. وعندها سنعرف ما إذا كانت الرسالة تتضمَّن أيًّا من بصمات السارق أم لا.» ثم ألقى نظرةً سريعة على تقريري، وأومأ بالاستحسان، وقال: «توجد هنا معلوماتٌ كثيرة قد تُساعدنا في التعرُّف على الآلة الكاتبة إذا استطعنا العثور عليها، والورقة أيضًا مميزة للغاية.» ثم أضاف وهو يضع أمامي الصورة المُكبَّرة: «ما رأيك في الختم؟»

أجبته بابتسامة: «إنه رائع، وذو طابعٍ أثري جدًّا.»

فسألني: «لماذا تبتسم؟»

قلت: «كنتُ أفكِّر في أنك تُحصِي دجاجاتك مُبكِّرًا جدًّا على ما يبدو؛ فأنت تضع استعداداتٍ دقيقةً مُفصَّلة للتعرُّف على الجعران، لكنك تتجاهل النصيحة المأثورة للسيدة جلاس الحكيمة.»

قال: «حَدْسي يُخبرني بأننا سنعثر على هذا الجعران. على أي حال، يجب أن نكون مُستعدِّين للتعرُّف عليه فورًا ويقينًا إذا استطعنا رؤيته.»

قلت: «من المستبعَد أن نجده. ومع ذلك، لا ضرر في أن نأخذ احتياطنا تحسُّبًا للأحداث المستبعَدة.»

من الواضح أن هذا كان رأيَ ثورندايك، وقد أخذ احتياطاتٍ وافرةً بالطبع لهذا الاحتمال المستبعَد للغاية؛ ذلك أنه بعدما أحضر لوحَ رسم وورقة استشفاف، ثبَّت الورقة على الصورة ووضعهما على اللوح، وبدأ بكل حرص ودقَّة يرسم من النقوش الهيروغليفية المُعقَّدة المُحيِّرة المكتوبة على الختم، نسخةً استشفافية، مُستخدمًا في ذلك قلمًا ذا سن رفيعة وحبرِ هكتوغراف. وحين أنهى تلك الرسمة نقلها إلى آلة النَّسخ، ونسخ منها ستَّ نُسَخ، ثم أعطاني إحداها؛ فنظرت إليها بارتياب، وقلت: «تقول إن المُحامي المُتخصص في الطب الشرعي يجب أن يعرف كل شيء في اختصاصه. فهل يتوجَّب عليه أن يكون عالِم مصريات أيضًا؟»

أجابني قائلًا: «سيكون مُحاميًا قانونيًّا طبيًّا أفضل إذا أصبح كذلك.» وقد حفظتُ هذه الإجابة في ذهني لأسترشد بها في المستقبل. لكنني لم أكن أفهم تصرُّفات ثورندايك على الإطلاق آنذاك، فما غايته من رسم هذه الرسمة الاستشفافية الدقيقة؟ لقد كان الختم نفسه كافيًا للتعرُّف على الجعران عند رؤيته. أطَلتُ المُقام عنده على أمل أن تُوضِّح بعضُ تصرُّفاته الجديدة هذا الغموض، لكن تصرُّفه التالي زادني حيرةً على حيرتي؛ فقد رأيته يتوجَّه نحو أرفف الكتب ويأخذ منها كتابًا. وبينما كان يضعه على المنضدة، ألقيت نظرةً خاطفة على العنوان، وحين رأيت أنه كتاب «نافيجيشن تيبلز» للمؤلِّف هنري رابر، تسلَّلت بهدوء إلى الردهة، واعتمرت قبَّعتي وذهبت لأتمشَّى.

وعندما عُدتُ، كان ثورندايك قد أنهى استقصاءه على ما يبدو؛ إذ كان جالسًا على كُرسيِّه المُريح يقرأ كتاب «ذا كومبليت أنجلر» بهدوء. ووجدت على المنضدة منقلةً دائريةً كبيرة، ومسطرةً مُستقيمة، ومسطرة مقياس، وورقةً استشفافية مرسومًا عليها بحبر الهكتوغراف رسمةٌ استشفافية لقصرِ ضيعة «شوستيد».

سألته: «لماذا رسمت هذه الرسمة الاستشفافية؟ لماذا لا تأخذ الخريطة نفسها؟»

أجاب قائلًا: «لا نُريدها كلها، وأنا لا أحبُّ قصقصة الخرائط.»

وبعدما تناولنا غداءً بسيطًا في القطار، وصلنا إلى قصر ضيعة «شوستيد» في الثانية والنصف. ومن الواضح أن أحدًا قد لاحظ اقترابنا من مدخل القصر؛ إذ كان بلوجريف وابنته ينتظرانا في الرواق لاستقبالنا. تقدَّم الأول باسطًا يده للسلام، بالرغم من البؤس البادي في قسَماته، وقال:

«إنه لطفٌ بالغٌ منكما أنكما جئتما، لكن الأوان قد فات مع الأسف!»

سأله ثورندايك: «فات الأوان على ماذا؟»

أجابه بلوجريف: «سأُريك.» وأخذ بزميلي من ذراعه، ثم هروَل مُهتاجًا نحو بوَّابة صغيرة على جانب البيت، وبعدما مرَّ من خلالها هرع على طول زقاق ضيِّق يمتدُّ بمُحاذاة سور الحديقة وينتهي بمرج كبير، حيث تقف عند أحد طرفيه طاحونةٌ هوائية مُتهالكة، فسار مُسرِعًا عبر هذا المَرج ساحبًا زميلي وراءه، حتى وصل إلى كومة من التراب قد قُلِبت حديثًا، حيث توقَّف وأشار بتعبيراتٍ مأساوية إلى بقعةٍ كان من الواضح أن عُشْبها قد رُفِع وأُعيدَ إلى موضعه بعشوائية.

صاح قائلًا: «انظر هنا!» وانحنى يرفع طبقة العُشب المُهلهلة، كاشفًا ما بدا بوضوحٍ أنه كان حفرةً كبيرة رُدِمت حديثًا على عجَل، ثم قال: «لقد حدَث هذا في الليلة الماضية أو في وقتٍ مبكِّر من صباح اليوم؛ لأنني مشيت على هذا المرج مساء أمس ولم تكن توجد أي علامة على اختلال انتظام التربة آنذاك.»

وقف ثورندايك ينظر إلى الحفرة وقد ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ طفيفة، ثم سأله: «وماذا تستنتج من ذلك؟»

صاح بلوجريف: «أستنتج! حسنًا، أستنتج أن أيًّا مَن حفر هذه الحفرة كان يبحث عن العم روبن والجواهر المفقودة!»

قال ثورندايك بهدوء: «أميل إلى الاتفاق معك. لقد تصادَف أنه بحث في المكان الخطأ، لكن هذا شأنه.»

صاح بلوجريف وابنته معًا: «المكان الخطأ! كيف تعرف أنه المكان الخطأ؟»

أجاب ثورندايك: «لأنني أعتقد أنني أعرف المكان الصحيح، وهو ليس هذا المكان، لكننا نستطيع اختبار صحة هذا الأمر، ويَجدر بنا أن نفعل ذلك. أيُمكنك إحضار رجلَين بمَعاول ومَجارف، أم نستعمل الأدوات بأيادينا؟»

قال بلوجريف الذي كان يرتجف من الاهتياج: «أظنُّ أن ذلك سيكون أفضل. لا نريد أن نُشرِك أي أحد في سِرِّنا ما دام بإمكاننا تجنُّب ذلك.»

اتفق معه ثورندايك قائلًا: «بالطبع لا. إذن أقترح عليك إحضارَ الأدوات بينما أحدِّد أنا الموقع.»

وافَق بلوجريف بلهفة، وذهب مُهرولًا بسرعة، بينما ظلَّت الشابَّة معنا وكانت تُحدِّق إلى ثورندايك بفضولٍ شديد.

قالت له: «أعتذر عن مقاطَعتك بالأسئلة، لكني لا أستطيع أن أتخيَّل كيف عرفت مكان دفن العم روبن.»

فأجابها قائلًا: «سنخوض في ذلك بالتفصيل لاحقًا، لكن علينا أولًا أن نجد مكان العم روبن.» وضع حقيبة أبحاثه على الأرض، وفتحها وأخرج منها ثلاث أوراق كلٌّ منها يحمل نسخةً طِبق الأصل من الرسمة الاستشفافية التي رسمها للخريطة، ويتضمَّن علامةً على بقعةٍ معيَّنة في هذا المرج تتشعَّب منها عدة خيوط كالقُضبان الواصلة بين مركز عجلة وإطارها الخارجي.»

قال وهو يُريني إياها: «ها أنت ترى ميزة الخريطة يا جِرفيس. لقد استطعتُ تسطير هذه المجموعات من الاتجاهات الزاوية بصرف النظر عن العوائق، مثل هذه الأشجار الصغيرة، التي نمَت منذ زمن سيلاس. وقد مكَّنتني أيضًا من وضع علامة على البقعة المُرادة في مكانها الصحيح. وإذا منعتنا العوائق الحديثة من أخذ قياسات الاتجاهات الزاوية، فما يزال بوسعنا إيجاد البقعة بأخذ قياسات باستخدام الجنزير أو شريط القياس.»

فسألته: «ولماذا أحضرت ثلاث خرائط؟»

«لأن هناك ثلاثة أماكن يُمكن تخيُّل أنها الموقع المراد؛ الأول هو الأرجح، والثاني أقل احتمالًا لكنه مُمكن، والثالث مستحيل. وهذا هو الذي جرَّبه صديقنا الليلة الماضية. يقع المكان الأول بين هذه الأشجار الصغيرة، وسنرى الآن ما إذا كنا سنستطيع أخذ الاتجاهات الزاوية رغم وجودها، أم لا.»

توجَّهنا إلى مجموعة الأشجار الصغيرة، حيث أخرج ثورندايك من حقيبة أدوات الاستقصاء حامل كاميرا ثلاثيَّ القوائم طويلًا قابلًا للطَّي، وبوصلة منشورية كبيرة ذات عقرب مصنوع من الألومنيوم، وقاس بالبوصلة اتجاهَين زاويَّين تجريبيَّين، ثم نصب الحامل الثلاثي، وثبَّتها عليه. ظللت أنا والآنسة بلوجريف نُراقبه بضع دقائق وهو ينقل الحامل من بقعة إلى أخرى، مُحدِّقًا عبر ريشة الرؤية الدوَّارة في البوصلة، ويُلقي بنظراتٍ خاطفة على الخريطة من حين إلى آخر. التفتَ إلينا أخيرًا، وقال: «نحن محظوظون. لا يتداخل أيٌّ من هذه الأشجار مع اتجاهاتنا الزاوية.» أخرج من حقيبته سهمَ المسح، وأضاف وهو يغرزه في الأرض أسفل الحامل: «هذه هي البقعة، لكننا قد نضطرُّ إلى حفر مساحة كبيرة حولها؛ إذ إن البوصلة أداةٌ تقريبية فحسب.»

في هذه اللحظة، جاء السيد بلوجريف مترنِّحًا لاهثًا، وألقى على الأرض بثلاثة مَعاول ومجرفتَين ومسحاة، وقال: «لن أُعطِّلك بالسؤال عن تفسيراتٍ أيُّها الطبيب، لكني مُتحيرٌ للغاية. يجب أن تُخبرنا بما يعنيه كلُّ هذا حين نُنهي عملنا.»

وعَده ثورندايك بذلك، لكنه في الوقت نفسه خلع مِعطفه وشمَّر كُمَّي قميصه عن ساعدَيه، ثم أمسك المسحاة وبدأ يُجرِّف قطعةً مربَّعة كبيرة من العُشب. وحالَما انكشفت التربة بعد إزالة العشب من فوقها، انقضضت عليها أنا وبلوجريف بالمعولَين، فيما كانت الآنسة بلوجريف تَجرف التربة المُهلهلة الناجمة عن الحفر بعيدًا.

سألت ثورندايك: «هل تعرف العمق الذي يجب أن نصل إليه؟»

أجاب قائلًا: «تقع الجثَّة على عمق ست أقدام تحت سطح الأرض.» وفي أثناء كلامه، ألقى المسحاة، وأخرج تليسكوبًا من حقيبته، ومشَّط به الأرجاء المُحيطة بالمَرج إلى أن وجَّهه أخيرًا نحو بيت ريفي ذي مزرعة على بُعدِ حوالَي ستمائة ياردة ظلَّ يتفحَّصه وقتًا طويلًا بعض الشيء، ثم أخذ المعول المتبقِّي وبدأ يعمل في الرُّكن المُقابل من القطعة المُربَّعة التي جرَّفها من الأرض.

ظللنا نعمل بكدٍّ على مدار نصف ساعة نشقُّ فيها طريقنا تدريجيًّا نحو الأسفل، ونستخدم المَعاول والمَجارف بالتناوب، بينما كانت الآنسة بلوجريف تَجرف مُخلَّفات الحفر بعيدًا عن حوافِّ الحفرة التي تزداد عمقًا. أخذنا استراحةً وصعدنا إلى سطح الأرض ونحن نمسح وجوهنا.

قال بلوجريف وهو يخلع صِداره: «أظنُّ يا نيلِّي أننا نحتاج إلى إبريق من عصير الليمون وأربعة أكواب، إلا إذا كان زائرانا يُفضِّلان الجعة.»

اختار كِلانا عصير الليمون، وسارت الآنسة نيلِّي بخُطواتٍ سريعة رشيقة نحو البيت، بينما أمسك ثورندايك تليسكوبه، وتفقَّد المنزل الريفي مرةً أخرى.

قلت له: «تبدو مُهتمًّا جدًّا بهذا المنزل.»

أجابني وهو يُعطيني التليسكوب: «أجل، إنني مُهتمٌّ به. ألقِ نظرة على النافذة الواقعة في الجمَلون الأيمن، لكن ابقَ تحت الشجرة.»

وجَّهتُ التليسكوب نحو الجمَلون، ورأيت هناك نافذةً مفتوحة يجلس عندها رجل. كان يضع مِنظارًا على عينَيه، وقد بدا أنه موجَّه نحوَنا.

قلت وأنا أُمرِّر التليسكوب إلى بلوجريف: «هناك مَن يتجسَّس علينا، لكني لا أظن أن ذلك يهم؛ فهذه أرضك، أليست كذلك؟»

أجاب بلوجريف: «بلى، لكننا لا نُريد أيَّ مُتفرِّجين.» ثم أضاف وهو يُثبِّت التليسكوب على إحدى الأشجار: «هذا هارولد بوكر، ابن شقيق ابن عمِّي آرثر، الذي قلت لكما إنه ورث البيت الريفي. يبدو مُهتمًّا جدًّا بنا، لكن صغائر الأمور تجتذب اهتمامَ المرء في الريف.»

وحينها، ظهرت الآنسة نيلِّي وهي تخطو نحوَنا عبر المرج بسلَّةٍ مُغرِية المَظهر؛ فصرف ذلك انتباهنا عن مُراقِبنا الفُضولي، وظلَّت ست أعيُن ظَمْأى تُحدِّق إلى هذه السلَّة حتى دنت منَّا، وأفرغت من جعبتها إبريقًا زجاجيًّا كبيرًا وأربعة أكواب، فتجرَّع كلٌّ منَّا جرعةً طويلةً لذيذة، ثم قفزنا إلى الأسفل داخل الحفرة لاستكمال عملنا.

مرَّت نصف ساعة أخرى، وكنَّا قد حفرنا في بعض الأماكن حتى آخر العمق المطلوب تقريبًا، وبينما كنا نتناقش فيما إذا كان من الأفضل أن نأخذ استراحةً قصيرةً أخرى أم لا، أطلق بلوجريف، الذي كان يعمل في أحد الأركان، صرخةً عالية، ووقف مُنتصبًا فجأةً وهو يُمسِك شيئًا بين أصابعه، وبنظرةٍ خاطفة على هذا الشيء تبيَّن أنه عظْمة. صحيحٌ أنها كانت بُنِّية ومُلطَّخة بالتربة، لكن كان من الواضح أنها عظمة، بل عظمة بشرية أيضًا، مِثلما قرَّر ثورندايك ذلك حين أعطاه بلوجريف إيَّاها مُبتهجًا بإنجازه.

قال ثورندايك: «من حُسْن حظنا الشديد أننا اقتربنا جدًّا من مُرادنا من المحاوَلة الأولى. هذه العظْمة من الإصبع الأكبر في القدم اليُمنى؛ لذا يُمكننا افتراض أن الهيكل العظمي يقع جانب هذه الحفرة مباشَرةً، لكن من الأفضل أن نَحفر بحرص في رُكنك، ونرى وضعية العظام بالضبط.» وقد شرع هو في فعل ذلك بنفسه؛ فظلَّ يتحسَّس بالمسحاة بحذر ويجرف التربة من الرُّكن. وسرعان ما ظهرت العظام المُتبقية من القدم اليُمنى ثم طرَفَي عظمتَي الساقين، وجزء من عظام القدم اليُسرى.

قال: «ها نحن نرى وضعية الهيكل العظمي، وكل ما علينا الآن أن نُوسِّع الحفر في هذا الاتجاه، لكن سعة المكان هنا بالأسفل لا تسمح بالعمل إلا لشخصٍ واحد؛ لذا أظنُّ أنه من الأفضل أن تحفر أنت والسيد بلوجريف من السطح.»

حينئذٍ تسلَّقت خارجًا من الحفرة، وتبِعني على مضضٍ بلوجريف، الذي كان ما يزال يُمسك العظمة البُنية الصغيرة، وكان في حالة من الإثارة الجامحة والبهجة الشديدة قد أثارَت استياء ابنته.

وعلَّقت على سلوكه قائلةً: «من الشنيع أن تَشمت بجثَّة العم روبن المسكين هكذا.»

قال لها: «أعرف، هذا ليس تصرُّفًا مُوقَّرًا، لكني لم أقتل العم روبن، كما تعرفين، في حين أن … حسنًا لقد مضى وقتٌ طويل على ذلك. ومع هذه الخاتمة غير المُترابطة، ارتشف جرعةً من عصير الليمون، وأمسك بمعوله، وبدأ العمل بهمَّة. انغمست أنا أيضًا في جرعةٍ من عصير الليمون، وناوَلت ثورندايك في الأسفل كوبًا كاملًا من العصير. وقبل أن أستكمل عملي، أمسكت التليسكوب وتفقَّدت المنزل الريفي مرةً أخرى. كانت النافذة ما تزال مفتوحةً، لكن يبدو أن المتفرِّج قد ملَّ من المشهد غير المُثير. وكان قد اختفى على أي حال.

ومنذ هذه اللحظة فصاعدًا، كانت كل دقائق قليلة تُسفِر عن اكتشافٍ ما؛ أولًا: إبزيما حذاءٍ فُولاذيان صدئان للغاية، ثم زرٌّ واحد أو اثنان، والآن ساعةٌ ذهبية فاخرة، وسلسلةٌ لتعليقها في الجيب، ومجموعة من الأختام تبدو جديدة وحديثة على نحوٍ شديد الغرابة، كما أنها قد بدت مُثقَلة بالمأساة أكثر من العظام نفسها. كان ثورندايك، في حَفره الحذِر، حريصًا على عدم الإخلال بوضعية الهيكل العظمى، وحين نظرت إلى الأسفل في الخندق الضيِّق الذي كان يتنامى من رُكنِ الحفرة، رأيت كلتا الساقين بارزةً من الجرف الصغير جدًّا، باستثناء القدم اليُمنى. وفي هذه الأثناء، كان عمق خندقنا يزداد سريعًا؛ لذا حذَّرَنا ثورندايك وأمرَنا بإيقاف الحفر، وطلب منَّا أن ننزل ونجرف التراب المُتساقط الذي يَفصله من حول الهيكل بعيدًا.

وأخيرًا ظهر الهيكل العظمي كلُّه خلا الجمجمة، مع أنه كان راقدًا في وضعيةٍ منتظمة بالطريقة التي كان سيُوضَع في نعشه على الأرجح. وبينما كان ثورندايك يُزيل التربة من حول الجمجمة، رأيناها حينذاك مُسنَدةً إلى الأمام كأنها ترتكز على وسادةٍ عالية. وبإجراء قليل من تنقيبٍ أكثر حذرًا برأس المعول، اتَّضح لنا تفسير هذا المنظر؛ ذلك أنه حالَما تساقطت التربة وكشفت عن الجمجمة التي بدت وكأنها تبتسم ابتسامةً عريضة بأسنانها الظاهرة، ظهرت حافَّة صندوق صغير وأركانه المُحاطة بقوائم حديدية.

لقد كان مشهدًا مُدهشًا؛ مشهدًا غريبًا ومهيبًا ومروِّعًا بعض الشيء؛ فهنا كان المُقامر التعيس يرقد منذ أكثر من قرن، ورأسه المُتحلِّل يتوسَّد غنيمة الجريمة الخسيسة غير المُسجَّلة، غنيمةً رُبِحت بالاحتيال واستُعيدت بالعنف، وأخفاها الرابح النهائي أخيرًا مع الشاهد على جريمته.

قال ثورندايك: «ها هو موضوعٌ مُناسب لخطبة داعية أخلاقي يُريد أن يَعِظ عن غرور الأثرياء.»

وقفنا جميعًا صامتين بُرهةً نُحدِّق، دون هَلع، إلى الهيكل الجامد الذي يرقد حارسًا الكنز الحرام. اقتربت الآنسة بلوجريف — التي ساعدناها على النزول حين نزلنا — رُويدًا من أبيها، وهمست قائلةً إن هذا «شنيع». أما بلوجريف نفسه، فقد أبدى مزيجًا غريبًا من الابتهاج والنفور الذي ترتجف له الأبدان.

وفجأةً قطع الصمت صوتًا من فوقنا، فنظرنا جميعًا إلى الأعلى وقد جفلنا. كان ثَمة رجلٌ شابٌّ بعض الشيء يقف على حافَّة الحفرة ناظرًا إلينا باستنكارٍ جلي للغاية.

علَّق هذا الوافد الجديد قائلًا: «يبدو أنني أتيت في الوقت المناسب تمامًا. أظنُّ أنني سأضطرُّ إلى أخذ هذا الصندوق، كما تعلمون، وكذلك الرفات. هذا جدِّي روبن بلوجريف.»

قال بلوجريف: «حسنًا يا هارولد، يُمكنك أن تأخذ العمَّ روبن إذا كنتَ تُريده، لكن الصندوق من حق نيلِّي.»

وحينئذٍ قفز السيد هارولد — الذي عرفت من شكله آنذاك أنه الشخص الذي كان يُراقبنا من النافذة — إلى الحفرة، وتقدَّم نحونا بشيء من الاختيال.

قال: «أنا وريثُ روبن، عبر عمِّي آرثر، ومن حقِّي الحصول على هذه المِلكية والرفات.»

قال بلوجريف: «مَعذرةً يا هارولد، لكن نيلِّي هي الوريثة الشرعية لما تبقَّى من ترِكة آرثر، وهذا من بقايا التركة.»

صاح بوكر: «هُراء! بالمناسبة، كيف عرفتَ مكان دفنه؟»

أجاب ثورندايك بلُطفٍ غير متوقَّع: «آه، كان هذا بسيطًا جدًّا. سأُريك الخريطة.» ثم صعد إلى السطح وعاد في غُضون بضع لحظات مع الرسمات الاستشفافية الثلاث وحقيبة الرسائل الخاصة به، وقال: «هكذا حدَّدنا المكان.» وأعطى الخريطة «الثالثة» إلى بوكر، الذي أخذها منه ووقف ينظر إليها بعبوس مُتحيِّر.

قال بوكر أخيرًا: «لكن ليس هذا هو المكان الذي تُشير إليه الخريطة.»

تساءل ثورندايك: «أليس هو؟ بلى بالطبع، لقد أعطيتك الخريطة الخاطئة. ها هي الخريطة.» وهنا أعطى الخريطة «الأولى» إلى بوكر وأخذ منه الأخرى، ووضعها بالأسفل على كومةٍ من التراب. وبعد ذلك، بينما كان بوكر يتأمَّل الخريطة «الأولى» بعبوس، أخرج ثورندايك سكينًا وقلمَ رصاص من جيبه، ثم أدار ظهره إلى زائرنا وكشط سنَّ القلم الرصاصي، تاركًا المسحوق الرصاصي الأسود يسقط على الخريطة التي وضعها بالأسفل للتَّو. كنت أُشاهده بشيءٍ من الفضول، وحين لاحظت أن المسحوق الناجم عن الكشط سقط على موضعَين بالقرب من حوافِّ الورقة، ومَض ظنٌّ مُفاجئ في ذهني تيقَّنت منه حين رأيت ثورندايك ينقر بقلمه على الورقة برفق، وينفخ المسحوق برفق، ويُخرِج من حقيبته نسختي الفوتوغرافية من الرسالة المكتوبة بالآلة الكاتبة بسرعة، ويُمسكها لوهلة بجانب الخريطة.

وهنا قال بوكر وهو يرفع عينَيه من على الخريطة: «كلُّ هذا ممتاز، لكن كيف عرفت هذه الاتجاهات؟»

فأعاد ثورندايك الرسالة بسرعة إلى حقيبته، واستدار إليه قائلًا: «يؤسفني القول إنني لا أستطيع إعطاءك أي معلومة أخرى.»

فصاح بوكر بوقاحة: «لا تستطيع، حقًّا! ربما سأُجبِرك على ذلك، لكنني على أي حال أنهاكم جميعًا عن لمس ممتلَكاتي.»

نظر ثورندايك إليه برباطة جأش، وقال بنبرةٍ هادئة مُنذِرة بسوء: «أنصِتْ إليَّ الآن يا سيد بوكر. دَعنا ننتهي من هذا الهُراء. لقد لعبتَ لعبةً محفوفة بالمخاطر وخسرت، لكنني لا أستطيع تحديد مقدار خسارتك حتى أعرف ما إذا كان السيد بلوجريف يعتزم مُقاضاتك.»

فصاح بوكر: «المقاضاة! ما الذي تقصده بالمقاضاة بحق السماء؟»

قال ثورندايك: «أقصد أنك في السابع من يونيو بعد الساعة التاسعة ليلًا، دخلت مَسكن السيد بلوجريف وسرقت بعض متاعه وممتلَكاته. صحيحٌ أنك أعدتَ جزءًا منها، لكنك ما زِلت تحوز بعض الممتلَكات المسروقة، أو بالأحرى جعرانًا وصندوقَ أوراق معدنيًّا.»

وبينما أفصح ثورندايك عن هذا البيان بنبرته الهادئة الرزينة، اعتلى وجهَ بوكر شحوبٌ شديد البياض كبياض الودَك، ووقف مُحدِّقًا إلى زميلي في حالة من الذهول الهائل والفزع الشديد، لكنَّه أطلق صيحةً أخيرة.

وصاح بصوتٍ مبحوح: «ما هذا إلا نوبة من الجنون، وأنت تعرف ذلك.»

فالتفت ثورندايك إلى مُضيفنا، وقال: «القرار قرارك يا سيد بلوجريف. لديَّ دليلٌ قاطع على أن السيد بوكر سرق صندوق أوراقك المعدني. وإذا قرَّرت مقاضاته، فسأُقدِّم هذا الدليل في المحكمة، وسيُدان بالتأكيد.»

نظر بلوجريف وابنته إلى المتهَم بإحراجٍ يكاد أن يُضاهي إحراجه.

ثم قال الأول أخيرًا بعد صمتٍ طويل: «أنا مصعوق، لكني لا أريد أن أكون انتقاميًّا. أصغِ إليَّ يا هارولد، أعطِنا الجعران، ولن نَنبس ببنت شفة عن ذلك.»

قال ثورندايك: «لا يحقُّ لك ذلك؛ فالقانون لا يسمح بالمساوَمة على التصالح في جريمة سرقة. يُمكنه أن يُعيد إليك ممتلكاتك إذا شاء، ويُمكنك أن تتَّخذ الخيار الذي تراه أفضل في مسألة المقاضاة، لكن لا يُمكنك وضع شروط.»

خيَّم الصمت بضع ثوانٍ، ودون أي كلمة أخرى، استدار المُغامِر المُحبَط بعد ذلك وتسلَّق الحفرة بسرعة، وغادَر مُتعجلًا.

وبعد مرور حوالَي ساعتين، اغتسلنا فيهما على مهل، وتناولنا وجبةً عادية سريعة، حملنا الصندوق الصغير من غرفة الطعام إلى غرفة المكتب. وهنا، بعدما أغلق السيد بلوجريف النافذة الفرنسية وأسدل الستارة، أحضر بعض الأدوات وبدأنا العمل على خلع القضبان الحديدية المُحيطة بالصندوق. لم تكن تلك بالمهمة السهلة، مع أن الصدأ الذي ظلَّ يعتلي القضبان المتينة طوال قرن كامل قد أوهنها. وأخيرًا، رضخ غطاء الصندوق لضربة من فتَّاحة صناديق طويلة، وارتفع مُحدِثًا صريرًا احتجاجيًّا. كان الصندوق مُبطَّنًا بطبقةٍ مزدوَجة من الكتَّان، بدا أنها كانت جزءًا من شِراع، وكانت تحتوي على عدد من الصُّرَر الجِلدية الصغيرة، التي بدت، ونحن نرفعها واحدةً تِلو الأخرى، كأنها مليئة بالحصى؛ غير أننا حين حللنا رباط إحداها وأفرغنا محتوياتها في وعاءٍ خشبي، تنهَّد بلوجريف تنهيدةَ نشوة، وأطلقت الآنسة نيلِّي صيحةً قصيرة تدلُّ على الابتهاج. كانت المحتويات كلها أحجارًا مصقولة: ياقوتٌ وزمرُّد وياقوت أزرق وبضع ماسات، وكان معظمها ذا حجمٍ استثنائي. أما بخصوص قيمتها، فلم يكن بوسعنا إلا أن نُصدِر تخمينات جُزافية، لكن ثورندايك الذي كان على درايةٍ جيدة بالأحجار الكريمة، قال إنها عيِّناتٌ رائعة من نوعها، مع أنها مصقولة بلا إتقان، وقال أيضًا إنها ربما كانت موضوعةً في أحد الأضرحة لتزيينه.

قال بلوجريف الذي كان يُحدِّق في وعاء الجواهر المُتلألئة بفخر: «السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ماذا سنفعل بها؟»

فقال ثورندايك: «أقترح أن يَبيت الدكتور جِرفيس هنا الليلة ليُساعدك في حراستها، وأن تأخذها صباحًا إلى لندن وتُودعها في مَصرفك.»

أبدى بلوجريف موافقته بكل حماسة على هذا الاقتراح، الذي أيَّدتُه، ثم قال: «لكن هذا الصندوق سيَلفت الأنظار بمَظهره الغريب إذا خرجنا به من البيت. ليت صندوق الأوراق المعدني الصغير ظلَّ لدينا …»

فقال ثورندايك: «يوجد صندوق أوراق معدني صغير على الخِزانة وراءك.»

استدار بلوجريف بسرعة، ثم صاح قائلًا: «فليحفظنا الله! لقد عاد بالطريقة التي اختفى بها. لا بد أن هارولد تسلَّل إلى الداخل عبر النافذة حين كنا نشرب الشاي. حسنًا، يُسعدني أنه ردَّ الحق إلى أصحابه. حين أنظر إلى هذا الوعاء، وأفكِّر فيما كاد ينجح في الحصول عليه، أشعر بأني لا أريد أن أكون قاسيًا عليه. أظنُّ أن الجعران داخل الصندوق، لكنه ما عاد يهمُّ كثيرًا الآن.»

كان الجعران داخل الصندوق في ظرف، وبينما كان ثورندايك يُقلِّبه في يده ويتفحَّص الكتابة الهيروغليفية المدوَّنة عليه عبر عدسته، سألته الآنسة بلوجريف: «أله أي قيمة يا دكتور ثورندايك؟ من المستحيل أن يكون له علاقة بسرِّ المخبأ؛ لأنك وجدتَ الجواهر من دونه.»

بالمناسبة، يا دكتور، لا أعرف ما إذا كان يجوز لي أن أسأل عن ذلك أم لا، لكن كيف عرفت مخبأ الجواهر بحقِّ السماء؟ إن الأمر يبدو لي وكأنه ضرب من ضروب السحر الأسود.»

ضحك ثورندايك ضحكةً هادئة مكتومة، وقال: «لا شيء سحريًّا في ذلك، بل كانت مشكلةً بسيطة ومُباشِرة للغاية، غير أن الآنسة نيلِّي مُخطِئة؛ إذ كان الجعران لدينا، أو بالأحرى كان لدينا بصمته الشمعية، التي تُماثله تمامًا. وقد كان الجعران مفتاح اللغز.» ثم أضاف: «حسنًا، لقد كانت رسالة سيلاس والجعران معًا بمثابة اختبار ذكاء.»

فقال بلوجريف: «حقًّا؟ لهذا كان يعود بخُفَّي حُنين في كل محاولة.»

ضحك ثورندايك ضحكةً خافتة، ثم أقرَّ قائلًا: «من المؤكَّد أن ذرِّيته كانوا يَفتقرون قليلًا إلى سعة الحيلة. كانت تعليمات سيلاس واضحة وصريحة تمامًا: يجب على أي من يُريد العثور على الكنز أن يجني بعض الدراية بعلم المصريات، وأن يدرس الجعران بتمعُّن. كان ذلك أوضح التلميحات، لكن يبدو أن أحدًا لم يكترث به على الإطلاق، ما عدا هارولد بوكر الذي سمع عن الجعران من عمه آرثر.

والآن، يتصادَف أنني على درايةٍ أوَّلية بالرموز الهيروغليفية تكفي لتُمكِّنني من تهجِّيها حين تُستخدم على غِرار الحروف الأبجدية، وحالَما رأيتُ الختم استطعت أن أرى أن هذه الحروف تُشكِّل كلماتٍ إنجليزية. وكان أول ما جذب انتباهي هو المجموعة الثانية من العلامات، التي تعني كلمة «روبن»، ثم رأيت أن المجموعة الأولى تعني «العم». وبالطبع حالَما سمعت الآنسة نيلِّي تتحدَّث عن العلاقة بين الجعران والعم روبن، زال الغموض. وسرعان ما رأيت بلمحةٍ خاطفةٍ أن الجعران يحمل كل المعلومات المطلوبة. وفي الليلة الماضية، رسمت الحروف الهيروغليفية رسمًا استشفافيًّا بعناية، ثم ترجمتها إلى أبجديتنا الإنجليزية. وهذه هي النتيجة.

أخرج من حقيبة الرسائل الخاصة به نسخةً من الرسمة الاستشفافية التي رأيته يرسمها، والتي أعطاني منها نسخة، وبَسطها على المنضدة، لكنها كانت تحمل إضافةً جديدة إلى ما رأيتها عليه آخر مرة؛ فأسفلَ كل مجموعة من العلامات، كُتِبت الكلمات المُكافئة بخطٍّ «رومان» عصري، فكوَّنت هذه العبارة:

العم روبين موجود في حقل طاحونة عُمق سيت قَدَم قمة برج كنيسة شمالًا عشرة ثلاثون شرقًا دينجل جنوبًا جَمَلون شمالًا ثمانون أربعون خمس غربًا ليحفز الربَّ الملك جرج.

حدَّق صديقانا إلى ترجمة ثورندايك باندهاشٍ تام وفمَين فاغرَين، ثم قال بلوجريف أخيرًا: «ولكن لا بد أن هذه الترجمة تطلَّبت معرفةً عميقة جدًّا بالكتابة المصرية.»

أجاب ثورندايك: «لا إطلاقًا؛ فأيُّ شخص ذكي يستطيع أن يُتقِن معرفة الأبجدية المصرية في غضون ساعة، لكنَّ إتقان اللغة نفسها مسألةٌ مختلفة تمامًا بالطبع. وصحيحٌ أن هذه الكلمات مكتوبة بقليل من الركاكة، لكنها مفهومة تمامًا، وتجعل سيلاس جديرًا جدًّا بالمديح؛ نظرًا إلى قلَّة ما كان معروفًا في زمنه.»

فسأله بلوجريف: «كيف أغفل السيد فوكيه ذلك في رأيك؟»

كان الرد: «كان هذا طبيعيًّا تمامًا؛ فقد كان يبحث عن كتابةٍ مصرية، وهذه ليست كتابةً مصرية. هل يتكلَّم الإنجليزية؟»

«قليلًا جدًّا. هو لا يتكلَّمها تقريبًا.»

«إذن، فلأنَّ الكلمات كلماتٌ إنجليزية ومكتوبة بركاكة، لا بد أن الحروف الهيروغليفية بدت له محض هراء. وقد كان مُحقًّا في قوله بأن الجعران مُقلَّد.»

قال بلوجريف: «توجد نقطةٌ أخرى؛ كيف ارتكب هذا المدعو هارولد ذلك الخطأ العجيب في تحديد المكان؟ فالاتجاهات واضحة جدًّا، وكلُّ ما كان على المرء فعله أن يخرج إلى هناك ببوصلة ويقيس الاتجاهات الزاوية كما ذُكِرت في الرسالة فحسب.»

قال ثورندايك: «لكن هذا هو ما فعله بالضبط، وهنا يكمُن الخطأ؛ إذ يبدو أنه لم يكن على دراية بالظاهرة المعروفة باسم تبايُن البوصلة القرني؛ فكما تعرف، لا تُشير البوصلة — عادةً — إلى الشمال الحقيقي، بل إلى الشمال المغناطيسي، وموقع الشمال المغناطيسي يتغيَّر باستمرار. وحين دُفِن روبن في عام ١٨١٠ تقريبًا كان الشمال المغناطيسي يقع غرب الشمال الحقيقي بأربع وعشرين درجة وست وعشرين دقيقة، لكنه صار يقع في الوقت الحاضر غرب الشمال الحقيقي بأربع عشرة درجة وثمانٍ وأربعين دقيقة؛ لذا فلا بد أن اتجاهات هارولد الزاوية كانت مُنحرفة عن الاتجاهات الحقيقية بما لا يقلُّ عن عشر درجات، وقد قادَه ذلك بالطبع إلى موقعٍ خاطئ تمامًا، لكنَّ سيلاس كان رُبَّانًا وملَّاحًا، ولا شك بأنه كان يعرف كل شيء عن تقلُّبات البوصلة، ولأن توجيهاته كانت مُعَدَّة للاستخدام في عصرٍ مجهول له، افترضت أن الاتجاهات الزاوية التي ذكرها كانت اتجاهاتٍ زاويةً حقيقية، وأنه، حين قال «شَمال»، كان يقصد الشمال الحقيقي، الذي لا يتغير أبدًا، وقد اتَّضح أن هذا صحيح، لكنِّي أعددتُ كذلك خريطةً باتجاهاتٍ زاوية مغناطيسية مُصحَّحة وَفق الوقت الحاضر. ها هي الخرائط الثلاث: الخريطة «الأولى» — التي استخدمناها — تُظهِر الاتجاهات الزاوية الحقيقية، والخريطة «الثانية» تُظهِر الاتجاهات الزاوية المغناطيسية المُصحَّحة، التي ربما كانت ستُعطينا الموقع الصحيح، والخريطة «الثالثة»، التي تحمل الاتجاهات الزاوية المغناطيسية غير المُصحَّحة، تُعطينا الموقع الذي حفر فيه هارولد، والذي لم يكن مُمكنًا أن يكون هو الموقع الصحيح.»

وفي صباح اليوم التالي، رافقتُ الصندوق المعدني الصغير، الذي كان مُمتلئًا بالغنيمة ومربوطًا بالجعران وموصدًا به، إلى مصرف السيد بلوجريف، وكانت هذه نهاية علاقتنا بالقضية، غير أننا بعد شهر أو اثنين، حضرنا في ساحة كنيسة «شوستيد» مراسمَ إزاحة الستار عن تمثالٍ تذكاري فخم لروبن بلوجريف؛ وذلك بناءً على دعوةٍ تلقَّيناها. كان التمثال ذا مظهرٍ غير لائق أشبه قليلًا بمسلة، ونُقِش عليه الاسم وتواريخ تقريبية، مع الآية القائلة: «ارْمِ خُبْزَكَ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ بَعْدَ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ.» وقد علَّق عليها ثورندايك بنبرةٍ جادَّة ذات مغزًى فُكاهي ساخر، قائلًا إنه يظنُّ أن هذه العِظة تنطبق كذلك حتى لو كان الخبز مِلكَ شخصٍ آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤