الفصل الثالث

العرب قبل ظهور محمد

(١) الوهم في همجية العرب قبل ظهور محمد

رأى الكثيرون أنه لا تاريخ للعرب قبل ظهور محمد، وحجتُهم في ذلك أن العرب قبل ظهور محمد، إذ كانوا مؤلَّفين من قبائل متنقلةٍ عاطلة من العَنْعَنات، كانوا من الأجلاف الذين لم تَعِ ذاكرة الإنسان شيئًا عنهم.

وإلى مثل هذا الرأي ذهب بعض الأذكياء المعاصرين، ومنهم مؤلف تاريخ اللغات السامية الشهير، رينان، الذي قال: «لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسيِّ والثقافي والديني قبل ذلك الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الذي صار به العرب أمةً فاتحةً مبدعةً، ولم يكن لجزيرة العرب شأنٌ في القرون الأولى من الميلاد حين كانت غارقة في دياجير ما قبل التاريخ، ولم يظهر بأسُها وبسالتها إلا بعد القرن السادس من الميلاد.»

وعندنا أن هذا الرأي فاسدٌ أول وهلة، ولو لم نعلم شيئًا عن ماضي العرب، فإن أمكن ظهور حضارة أمةٍ ولغتِها بغتةً على مسرح التاريخ لا يكون هذا إلا نتيجة نُضجٍ بطيء، فلا يتم تطور الأشخاص والأمم والنظم والمعتقدات إلا بالتدريج، ولا تُبْلَغ درجة التطور العالية التي تبدو للعِيان إلا بعد الصمود في درجات أخرى.

وإذا ما ظهرت أمةٌ ذاتُ حضارةٍ راقية على مسرح التاريخ قلنا إن هذه الحضارة ثمرة ماض طويل، ولا يعني جهلُنا لهذا الماضي الطويل عدم وجوده، وتؤدي مباحثُ العلم في الغالب إلى عرض هذا الماضي للناظرين.

ولم يكن أمر حضارة العرب قبل ظهور محمد غيرَ ذلك، وإن عسُر علينا أن نقول كيف كانت هذه الحضارة، فقد أثبتت الآثار والوثائق التي بأيدينا وجودها، وأنها لم تكن — على ما يحتمل — دون حضارة الآشوريين وحضارة البابليين اللتين ظهر شأنهما حديثًا بفضل علم الآثار بعد أن كانتا مجهولتين.

ولم ينشأ وَهْمُ الناس في همجية العرب قبل ظهور محمد عن سكوت التاريخ فقط، بل نشأ، أيضًا، عن عدم التفريق بين أهل البدو وأهل الحضر من العرب.

والأعراب، قبل محمدٍ وبعده، أجلافٌ كأجلاف الأمم الأخرى الذين لم يكن لهم تاريخ ولا حضارة.

وليس الأعرابُ غيرَ فرعٍ من فرعي الأرُومة العربية، فيوجد بجانبهم العربُ المتحضرون المقيمون بالمدن والماهرون في أمور الزراعة، ويسهل علينا أن نُثبت وجود حضارةٍ عظيمة لهؤلاء المتحضرين من العرب وإن كنا لا نعرف تفاصيلها.

ولم يكن التاريخ صامتًا إزاء ثقافة العرب القديمة صمتَه إزاء الحضارات الأخرى التي رفع العلمُ الحديث عنها التراب، ولو كان التاريخ صامتًا إزاء حضارة العرب لقطعنا، مع ذلك، بوجودها قبل ظهور محمد بزمن طويل، ويكفي لتمثُّلها أن نذكر أنه كان للعرب قبل ظهور محمد آدابٌ ناضجةٌ ولغةٌ راقية، وأنهم كانوا ذوي صلات تجاريةٍ بأرقى أمم العالم منذ القديم، فاستطاعوا في أقلَّ من مائة سنة أن يقيموا حضارةً من أنضر الحضارات التي عَرَفها التاريخ.

والحقُّ أن الآداب واللغة من الأمور التي لا تأتي عفوًا، وهي تُتَّخذ دليلًا على ماضٍ طويل، وينشأ عن اتصال أمةٍ بأرقى الأمم اقتباسُها لِمَا عند هذه الأمم الراقية من التمدن إذا كانت أهلًا لذلك.

وقد أثبت العرب أنهم أهل للاقتباس، ولا ريب في أن العرب، الذين استطاعوا في أقلَّ من قرن أن يقيموا دولة عظيمة، ويبدعوا حضارة عالية جديدة، من ذوي القرائح التي لا تتمُّ إلا بتوالي الوراثة، وبثقافةٍ سابقة مستمرة، وبالعرب، لا بأصحاب الجلود الحمر أو الأوستراليين، أنشأ خلفاء محمد تلك المدن الزاهرة التي ظلت ثمانيةَ قرونٍ مراكزَ للعلوم والآداب والفنون في آسية وأوربة.

أجل، استطاعت أممٌ كثيرة غيرُ العرب أن تهدم دولًا عظيمة، ولكنها لم تقدر مثلَهم أن تبدع حضارة؛ لِمَا لم يكن عندها ما عند العرب من ثقافة سابقة كافية، وكل ما قدرت عليه هو أنها استفادت، بعد زمن طويل، من حضارة الأمم التي قهرتها، ومن ذلك أن البرابرة، الذين قَوَّضوا دعائم الإمبراطورية الرومانية، قاموا بجهودٍ عظيمة دامت قرونًا كثيرة قبل أن يقيموا حضارة على أنقاض الحضارة اللاتينية، ويخرجوا من ظُلُمات القرون الوسطى.

ونحن، قبل أن نوضح — بما لدينا من الوثائق والآثار الضئيلة — ما كانت عليه حضارة العرب قبل ظهور محمد، نرى تلخيصَ ما نعرفه عن تاريخهم القديم بما يأتي.

(٢) تاريخُ العرب قبل ظهور محمد

للعرب ما قبلَ تاريخهم مثلُ ما للأمم الأخرى.

أثبت البحث فيما تركه الأجداد في طبقات الأرض من بقايا الأسلحة والأدوات والمساكن أنه وُجِد قبل الزمن القصير الذي يبحث التاريخ في حوادثه ملايين السنين التي جهل الإنسان فيها أمر المعادن والزراعة وفنَّ ترويض الحيوان، والتي لم يكن له فيها غيرُ الصَّوَّان سلاحًا، ويسمى ذلك الدور الكبير بالعصر الحجري، وَعَثَر علماء الآثار القديمة في جزيرة العرب وأوربة وأمريكة، وفي كلِّ مكانٍ على آثار لذلك العصر الحجري.

ودَلَّت تلك البقايا التي وُجِدَت في طبقات الأرض على تماثل الأمم في العصر الحجري؛ وبتلك البقايا يسهل تصوير طرق المعايشة والتفكير عند أجدادنا الأقدمين، وقد أَفَضْت في درس هذا الموضوع في كتابي الأخير، فلا أرى الآن فائدةً في العودة إليه.

ولا ترجع أقدم روايات جزيرة العرب إلى ما قبل إبراهيم، ولكن علم اللغات يثبت أن أممًا ذات لغة واحدة كانت تسكن البِقاع الواقعة بين القفقاس وجنوب جزيرة العرب، وإن لم يكن عِرق هذه الأمم واحدًا، ودلَّ درس اللغات السامية على أن لغات تلك الأمم، وهي العبرية والفنيقية والسريانية الآشورية والكلدانية والعربية، وثيقةُ القُربى متحدةُ الأصل.

ونحن نجهل درجة تأثير البيئات وطرقِ المعايش في اختلاف تلك الأمم مع اتحاد عرقها الذي تكلمنا عنه، ولا نستطيع غيرَ تقرير قرابتها من العرب، والعربُ وحدَهم هم الذين نبحث الآن في شؤونهم.

ومصادرُ تاريخ العرب قبل ظهور محمد هي كتبُ العبريين، وروايات العرب والنصوص القليلة التي وردت في كتب بعض مؤرخي اليونان واللاتين، وما جاء في الخطوط الآشورية، وما أسفرت عنه الاكتشافات التي تَمَّت في موقع الصفا القريب من دمشق.

وتعترف كتبُ العبريين بقرابة العرب من العبريين، وتَعُدُّ العرب أقدم من العبريين، وتقصُّ علينا الشيء الكثير من أنباء نزاع العرب الدائم، وتكاد تطفح من أخبار العمالقة، ومديانيي جزيرة سيناء، وأهل سبأ الذين كانوا يقيمون بجنوب جزيرة العرب.

ويَروي العربُ وكتبُ اليهود مصدرُ روايتهم، أن قحطان وإسماعيل ابن هاجر، جارية إبراهيم المصرية، هما والدا العرقين اللذين عَمَرا جزيرةَ العرب في الأصل، أي والدا أهل الحضر في الجنوب والأعراب في الشمال، ويَروُون أن بني قحطان أقاموا دولة سبأ والدولة الحميرية باليمن، وأن بني إسماعيل سكنوا الحجاز القريبة من فلسطين، وأن بني إسماعيل كانوا أصحاب مكة التي تنازعت هي وصنعاء اليمن عنوان عاصمة جزيرة العرب.

وعلى ذلك يكون الأنباطُ والأدوميون والموءابيون والعمالقة والعمونيون والمديانيون وغيرهم من القبائل التي تَرَدَّد اسمها كثيرًا في التوراة من بني إسماعيل، ويُظنُّ أن هذه القبائل من العمالقة تحالفوا هم وأعراب سورية، واستولوا على مصر سنة ٢٠٠٠ قبل الميلاد، وعُرفوا بالرُّعاة ودام سلطانُهم قرونًا كثيرة.

وتجمَّع العمالقة والأدوميون والموءابيون والعمونيون في بلاد الحجر العربية (بطرا) وفي جزيرة العرب الصحراوية، وصار من دأبهم محاربةُ العبريين، وحالوا دون دخول العبريين أرض كنعان زمنًا طويلًا، ولم يتِمَّ إخضاعهم نهائيًّا، ولوقتٍ قصير، إلا في زمن داود وسليمان.

ولم تُحدِّثنا التوراة عن غير أعراب حدود فلسطين، ولم تخبرنا بشيء عن عرب اليمن المتحضرين خلا ما جاء فيها عن زيارة ملكة سبأ للملك سليمان.

وتحدثنا آثارُ الآشوريين عن عرب الشمال فقط، أي عرب سورية وما جاورها، وذَكِرَ العربُ قبل الميلاد بتسعمائة سنة في بلاغ سلما نصر الثاني، وأدَّت ملكتان عربيتان فروض الطاعة إلى تيغلاتفا نصر قبل الميلاد بنحو ثمانمائة سنة، ورفع أسر حدون أميرةً عربية نشأت في بلاد نينوى على أحد العروش، واستعان أخو آشور بانيبال بجيوشٍ عربية عندما رفع راية العصيان.

وعلى ما في تواريخ العرب من غموضٍ ومبالغاتٍ تجعل الاعتماد عليها أمرًا صعبًا نراها وحدَها قد قصَّت علينا أنباء جزيرة العرب الماضية، وأيَّدت ما رواه مؤلفو اليونان واللاتين عن عظمة اليمن، ومما جاء في هذه الأنباء العربية أن اليمن كانت مقرًّا لأقوى دول الأرض، وأن حُكم ملوكها دام ثلاثة آلاف سنة، وأنها غزت بلاد الهند والصين من المشرق، وبلغت بغزواتها مراكش من المغرب.

ولا يرجع ما علمناه من مؤلفات اليونان واللاتين من الأنباء الصحيحة عن تاريخ بعض جزيرة العرب إلى ما قبل الإسكندر، ويمكن تلخيصه فيما يأتي: عزم الإسكندر على فتح جزيرة العرب التي كان الأغارقة يعرفون غِنَى سكانها قبل الميلاد بأربعة قرون، وكانت الغزوة التي قام بها نيارك حول جزيرة العرب نذير تصميم الإسكندر على غزوها، ونَجَت جزيرةُ العرب من غزو الإسكندر بسبب موته، وأضحت البقاع القريبة من حدود مصر وفلسطين، والتي كان العرب يسكنونها، من نصيب بطليموس حين قُسِّمت دولة الإسكندر، وشايع الأنباط بطليموس على أنتيغون الذي فتح أحد قُوَّاده الماهرين بلاد الحِجر (بطرا) بغتةً بعد أن أصبح سيد سورية وفنيقية، وأباد الأنباط بعدئذٍ جيش أنتيغون المؤلَّف من ٤٦٠٠ جندي فساق إليهم جيشًا آخر بقيادة ابنه ديميتريوس، وخاطب عرب بلاد الحِجر (بطرا) — كما روى ديودرس الصقليُّ — الأميرَ ديميتريوس عند بلوغه ديارهم بما يأتي: «لماذا تحاربنا أيها الملك ديميتريوس، ونحن من سكان الصحاري التي لا تُسَدُّ فيها خَلَّة، ترانا نقطَن في هذه البقاع القاحلة فِرارًا من العبودية، اقبل هديتنا وارجع إلى حيث كنت، سنكون من أوفى الأصدقاء لك، ولكنك إذا رغبت في حصرنا حُرمت كل هناءة، ورأيت عجزك عن إكراهنا على تبديل طرق حياتنا التي تعوَّدناها منذ نعومة أظفارنا، وإذا قدرت على أسر بعضنا أيقنت أنك لن تجد واحدًا ممن أسرت يستطيع أن يألفَ حياةً غير التي ألِفناها.»

fig19
شكل ٣-١: أعراب من بادية الشام (من صورة فوتوغرافية).

هنالك رأى ديميتريوسُ أن يقبل هديةَ الأنباط، وأن يرضى بالمآب خاتمًا بالسِّلم حربًا أبصرها مملوءة بالمصاعب.

وكانت قبائل البدو، حتى التاريخِ الميلادي، تنضمُّ في الحروب الكثيرة، التي تُهلك الحرث والنسل في تلك البقاع، إلى المصريين تارة وإلى السوريين تارة أخرى، ثم أثارت غاراتُهم وقَطْعُهم للسوابل غضبَ قياصرة الرومان الذين كان سلطانهم يمتدُّ إلى الفرات، فجرَّدوا على عرب بلاد الحجر (بطرا) حَمَلاتٍ كثيرةً لم تُنتِج غير حملهم على دفع الجزية أو وقف العداء إلى حين، وكانت طريقة أولئك الأعراب في الغزو مثلَ ما يفعلون اليوم، أي كانوا يُغيرون على العدو بغتةً ثم يفرُّون إلى البادية عند المطاردة.

وإذ كانت خيالات الأغارقة والرومان تتأجَّج طَمَعًا في ثروة جزيرة العرب ساق أغسطس إلى اليمن جيشًا لم يُلاقِ غيرَ الحبوط التام، وفي عهد طيباريوس وحده استطاع الرومان أن يفتحوا من بلاد العرب جزيرةَ سيناء التي كان سكانها من الأعراب تقريبًا، فأضحت مدينة الحِجر (بطرا) بذلك بلدةً رومانية زاهية كما تدلُّ عليه بقاياها.

وكان للعرب أثرٌ في الحروب التي تقع بين الرومان والفرس، وبلغ نفوذ العرب في الدولة الرومانية شأوًا بعيدًا، حتى إن أحدهم فليب العربيَّ نُصِب قيصرًا رومانيًّا في سنة ٢٤٤م، وكان العرب يهددون سلامة آسية الصغرى ذات حين، ولم يُقْصَ العرب عن مجاورة آسية الصغرى إلا بهدم تَدْمُر في عهد أوريليانوس سنة ٢٧٢م، وتحويل سورية إلى ولاية رومانية، واتِّباع بعض سكانها ملوك الغساسنة العرب الذين كانوا تحت حماية القياصرة.

ولما صارت القسطنطينيةُ عاصمةَ الدولة الرومانية نازع العرب الفرس والأغارقة سيادةَ الفرات، وسبق ذلك أن توطَّنت قبائل من عرب اليمن تلك البقاع وأنشأت، سنة ١٩٥م، في جنوبها، وعلى ضفَّتَي الفرات وبالقرب من المكان الذي أقيمت عليه مدينة الكوفة فيما بعد، مدينةَ الحيرة الشهيرة التي انقلب ملوكها العرب ينافسون أكاسرةَ الفرس وقياصرةَ الروم في الترف والعظمة، «وكانت قصور الحيرة مؤثَّثة بأثمن الأثاث، وكانت حدائقها مكسوةً بأعزِّ الأزهار، وكانت قواربها الأنيقة الساطعةُ الأنوار تشقُّ الفرات ليلًا حاملةً أغنى الأمراء وأمهر الموسيقيين، وأطلق العرب لأنفسهم عُنُنَ الخيال؛ فقصُّوا علينا أنباء القصور الساحرة العجيبة التي أضحت، لا ريب، أجملَ مساكن الشرق وأطيبها.»

وعاشت دولة الحيرة أربعمائة سنة، أي مدَّةً تُعدُّ طويلة لدولة، ولم ينته إلينا من أنبائها إلا الشيء القليل، وخضعت في سنة ٦٠٥م للدولة الساسانية، وظلت مرزبةً فارسيةً إلى أن جاء محمدٌ بعد قليلِ زمن، وَدَكَّ خلفاؤه دولة الأكاسرة، واستولوا على بلاد فارس.

ظهر مما تقدم أن جزيرة العرب نجت من غزو الأجنبي خلا ما أصاب حدودها الشمالية، وأن عظماء الفاتحين من مصريين وأغارقة ورومان وفرس وغيرهم ممن انتهبوا العالم لم ينالوا شيئًا من جزيرة العرب التي أوْصدت دونهم أبوابها.

نعم، إن جزيرة العرب كانت حين ظهور محمد تحت خطر الغزو الأجنبيِّ المرهوب، وإن الأحباش استولوا في سنة ٥٢٥م على اليمن التي لم تدِنْ لغير ملوك العرب فيما مضى، وإن الأحباش حاولوا أن يحملوا العرب على التنصُّر؛ فاستطاعوا تنصير بعض القبائل العربية، وإن الفرس طردوا الأحباش من اليمن في سنة ٥٩٧م، أي قبل ظهور محمد بقليل؛ فأضحى للفرس مَرَازِبَةٌ في اليمن وحضرموت وعُمان، غير أن ذلك كله كان لأجل قصير، ولم يُصِب بلادَ نجد والحجازَ الواسعة منه شيءٌ.

إذن، من الصواب قولنا: إن القسم الأكبر من جزيرة العرب هو القسمُ الوحيد الذي لم تطأه أرجل الفاتحين من بلاد العالم المتمدن على ما يحتمل.

(٣) حضارة جزيرة العرب قبل ظهور محمد

يقصُّ علينا بنو إسرائيل بعضَ الأخبار عن تجارة العرب ومدنهم، ولا سيما مدينة سبأ في اليمن، ولكن قصصهم خالية من الأسانيد، وإن دلت على وجود مدن عربية عظيمة في أقدم العصور.

ووصف هيرودتس، قبل المسيح بنحو أربعمائة سنة، بلادَ العرب السعيدة بأنها من أغنى بقاع العالم، وأنه كان في مأرب، أو سبأ التي ورد ذكرها في التوراة، قصورٌ نَضِرة ذاتُ أبواب عسجدية، وآنية من ذهب وفضة، وسُرر من المعادن الثمينة.

ولم يروِ إسترابون غير ما رواه هيرودتس، واستند إسترابون في روايته عن مدينة مأرب إلى أرتيميدور، وقال: «إن قصورها ذاتُ سقوف مزخرفة بالذهب والعاج والحجارة الثمينة، وذات أثاث فاخر وآنية منقوشة»، ورأى إراتوستين أن بيوتها تشابه بيوت مصر في مجموعها.

وهنالك مطابقةٌ بين ما رواه قدماء المؤلفين وما جاء في تواريخ العرب التي أجمعت على امتداح غِنَى اليمن، واسمع ما قاله المسعودي حين تكلم عن مأرب:

ذَكَر أصحاب التاريخ القديم أن أرض سبأ كانت من أخصب أرض اليمن، وأثراها وأغدقها، وأكثرها جنانًا وغيطانًا، وأفسحها مروجًا، بين بُنيان وجسر مقيم، وشجرٍ موصوف، ومساكب للماء متكاثفة، وأنهارٍ متفرقة، وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجدِّ على هذه الحال وفي العرض مثل ذلك، وأن الراكب أو المارَّ كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها لا يرى جهة الشمس، ولا يفارقه الظل؛ لاستتار الأرض بالعمارة والشجر، واستيلائها عليها، وإحاطتها بها، فكان أهلها في أطيب عيش وأرفهه وأهنأ حال وأرغده، وفي نهاية الخصب وطيب الهواء، وصفاء الفضاء، وتدفق المياه، وقوة الشوكة، واجتماع الكلمة، ونهاية المملكة، فكانت بلادهم في الأرض مثلًا، وكانوا على طريق حسن من اتباع شريف الأخلاق وطلب الفضائل على القاعد والمسافر بحسب الإمكان، وما توجده القدرة من الحال، فمضوا على ذلك ما شاء الله من الأعصار لا يعاندهم ملِكٌ إلا قَصَموه، ولا يوافيهم جبار في جيش، فذلَّت لهم البلاد، وأذعن لطاعتهم العبادُ؛ فصاروا تاجَ الأرض.

ويظهر أن أسداد مأرب كانت سبب ثراء بلاد اليمن، والأسداد جدرانٌ ثخينة قائمة في عرض الأودية لحجز السيول، حتى إذا امتلأ ما بينها تكوَّنت بحيرةٌ واسعة ذاتُ منافذ تجري منها المياه لريِّ الأراضي، ويروي مؤرخو العرب أن الملكة بلقيس التي زارت سليمان، على زعمهم، هي التي أنشأت تلك الأسداد، ونشأ عن خراب أسداد مأرب في القرن الأول من الميلاد فقر بلاد اليمن وتفرُّق سكانها.

ويكفي تطابق تلك الروايات لإثبات مماثلة مدن اليمن في نضارتها لمدن مصر وتقدُّمها الكبير في ميدان الحضارة، ولا تزال بقاياها مطمورةً تحت التراب، وهي تنتظر البحَّاثة الذي يزيله عنها كما أزيل عن نينوى وبابل.

ومن الأدلة على ازدهار مدن اليمن في القرون القديمة ما كان لها من الصلات التجارية الواسعة بالبلاد الأخرى، وبما أن من الصعب أن نعثر في التاريخ على أمةٍ ذات شأن كبير في التجارة من غير أن تكون متمدنة، وبما أن علاقات العرب التجارية العالمية استمرت ألفي سنة، وقد ورد ذكرُها في التوراة، فإننا نقول: إن العرب ضربوا بسهمٍ وافرٍ في ميدان الحضارة، وإنه كان لمخازنهم من الأهمية ما لمخازن البندقية في إبان عظمتها.

وكان العرب واسطة بين قدماء الأوربيين وبقاع الشرق القاصية، ولم تقتصر تجارة العرب على منتجات بلادهم، بل كانت تشمل السلع التي كانوا يجلبونها من إفريقية والهند أيضًا، وكانت النفائس، كالعاج والعطور والأفاويه والحجارة الكريمة والتبر والأرقَّاء … إلخ، أهم ما يتاجر به العرب.

واستعان العرب بالفنيقيين، القريبين منهم لغة، زمنًا طويلًا لبيع سلعهم، وكان الفنيقيون يخزُنُون سِلَع العرب في مدنهم الكبيرة كمدينة صور، ثم يبعثون بها إلى الخارج لبيعها.

وكان العرب والبابليون يتنافسون في الاتجار مع الهند، وكان البابليون يَصِلون إلى الهند بطريق البر أو بطريق البحر من خليج فارس، وكانت قوافل البابليين تنقُل السلع إلى سورية؛ لتوزعها على العالم، مارة في طريقها إلى دمشق من تَدْمُر وهليوپوليس (بعلبك) المهمتين اللتين لا تزال بقاياهما الماثلة في الصحراء تثير عجب السياح.

فبمثل تلك العلاقات التجارية التي دامت مئات السنين نتصور ما كانت عليه مدن جزيرة العرب، ولا سيما مدن اليمن النَّضِرة التي اغتنت بالتجارة وألِفَت أطيب النفائس، وندرك سرَّ إجماع مؤلفي اليونان واللاتين والعرب على امتداح ازدهار تلك المدن العجيب.

ولم يسطع نجم حضارة العرب قبل محمد في اليمن وحدها، فما جاء في أقدم روايات التاريخ عن حضارة الحيرة والغساسنة يثبت، أيضًا، درجة استعداد أتباع محمد للقيام برسالتهم في عالم المدنية.

وقد تحدثنا عن الحيرة التي مجَّدها العرب، وقلنا إنها كانت تنافس القسطنطينية وعاصمة الفرس، ولم تَقِلَّ عنها أهميةً مملكةُ غسان التي أسسها عرب اليمن بعد ظهور المسيح بزمن قليل، والتي دام سلطانها نحو خمسمائة سنة، واشتملت على ستين مدينةً محصَّنة كما جاء في كتب التاريخ.

وظهرت عظمةُ حضارة مملكة غسان من حل الكتابات الحميرية المنقوشة على آثارها التي اكتُشفت بالقرب من عاصمتها القديمة بُصْرَى الواقعة على حدود سورية، ومن بقايا قنواتها التي تشهد بما كان عند سكانها من الاستعداد الكبير للقيام بالأعمال العظيمة.

وإذ كان عرب الحيرة وغسان متصلين بالفرس والرومان كان تأثيرُ هؤلاء في حضارة أولئك كبيرًا، وغيرُ ذلك أمرُ حضارة اليمن العربية التي هي أقدم من حضارة الرومان، والتي يجب أن يُبْحث فيها عن بقايا حضارة العرب القديمة، والتي نأسف على بقائها بعيدةً من يد البحث والتنقيب حتى الآن، فيظلُّ اطلاعنا على أمر مدن اليمن القديمة ناقصًا نقصان اطلاعنا السابق على آثار الآشوريين التي كانت مطمورة تحت رمال الصحراء.

وتدلُّ جميع الدلائل على أن كل تنقيبٍ في بلاد اليمن يأتي بأحسن النتائج، فقد حَدَّث مسيو هاليڨي، الذي جاب بلاد اليمن منذ بضع سنين، ولم يسطِع أن يقوم بأي حفر كان، أن العرب يعثرون أحيانًا على تُحَف ذهبية وفِضية بين خرائب اليمن، وأنه وُجِدَ بجوار الحرم غير البعيد من صنعاء مِسلاتٌ ذات كتاباتٍ كثيرة، وأنه اكتُشف بابُ معبدٍ حميري منقوشة على حجارته صور حيوانات ونباتات.

واشترى مسيو شلونبرجر في القسطنطينية حديثًا مئتي قطعةٍ من نقود ملوك اليمن التي اكتشفها عربيٌّ في صنعاء فترجِع في قِدَمها إلى ما قبل الميلاد، ولهذه النقود، التي لم يُوجَد منها قبل ذلك سوى قطعتين أو ثلاث قطع في جميع المتاحف الأوربية، أهميةٌ خاصة، فعلى أحد وجهيها صورةٌ جانبية لملك مُتوَّجٍ يذكِّرنا شعره المضفور بضفائر ملوك الرُّعاة الذين خرجوا من بلاد العرب وملكوا مصر زمنًا طويلًا، والذين اكتشف مسيو ماريت بعض تماثيلهم المعروضة اليوم في متحف بولاق، وعلى الوجه الآخر صورة بومة، ويظهر أن رسَّام تلك النقود اقتبس رسومها من النقود الإغريقية التي كانت تتداولها أمم البحر المتوسط ذاتُ العلاقات التجارية الكثيرة بالعرب.

ومهما تكن الآثارُ التي ألمعنا إليها آنفًا ناقصةً فإنها مما تتمُّ به روايات قدماء المؤلفين، ومما نُبصر من خلاله ازدهار حضارة العرب الغابرة التي نسيها الناس في الوقت الحاضر فتنتظر من يكشف الغطاء عنها، والتي نرتدع، بما نعرف عنها من العلم القليل، عن عدِّ العرب هَمَجًا، والعرب هؤلاء قد ظهروا على مسرح التاريخ قبل الرومان بقرون كثيرة، وأنشأوا المدن العظيمة، وكانت علاقاتهم بأرقى شعوب الأرض وثيقةً.

(٤) أديان جزيرة العرب القديمة

كانت عبادات القبائل العربية قبل ظهور محمد كثيرةً إلى الغاية، وكانت عبادة الشمس وأهم النجوم أكثرها انتشارًا، وأخذت القبائل العربية عن الأمم التي كانت تتصل بها كثيرًا من آلهتها، فكان زُونُها١ جامعًا لشتى الأصنام كالألنپيا الإغريقية الرومانية.
fig20
شكل ٣-٢: أعرابيات من بادية الشام (من صورة فوتوغرافية).
وتدل كتابات الآشوريين التي رُسمت قبل ظهور المسيح بسبعمائة سنة أو ثمانمائة سنة، وما اكتُشِف في الصفا، على أن العرب كانوا مشركين، وأنهم كانوا يقيمون لآلهتهم تماثيل، وإليك، مثلًا، ما جاء في إحدى الكتابات الآشورية التي تشير إلى عودة أسِرْحَدُون من غزوه لجزيرة العرب الصحراوية:

أتى الملك العربيُّ فلانٌ إلى عاصمتي نينوى ومعه هدايا كثيرة، وقبَّل قدمي طالبًا أن أعيد إليه تماثيل آلهته، فرق له قلبي، وأعدتها إليه بعد أن أمرت بإصلاحها ونقشِ تمجيد ربي آشور عليها وتوقيعها، وجعلتُ الأميرة العربية طَبْوَة التي نشأت في بلاطي ملكةً، وأعدتها إلى بلادها مع آلهتها.

ووُجد في ثنايا تلك العبادات المختلفة بذور توحيد مما تعهَّد محمد إنماءه فيما بعد، وقد بَنى إبراهيم الكعبة في جزيرة العرب كما روى العرب، وجعل العرب منها موضع تكريم وحج منذ القديم، وكان فيها حين ظهور محمد ٣٦٠ صنمًا وصورة، وكانت صورة المسيح ومريم العذراء من هذه الصور — كما جاء في تواريخ العرب — وكان من دواعي الفخر عند العرب تزيينُ الكعبة التي كان اليهود شديدي التعظيم لها أيضًا، وكانت سِدانتها بيد قبيلة قريش التي نالت بذلك نوعًا من السيادة الدينية بين العرب.

fig21
شكل ٣-٣: جمالان من بلاد الحجر العربية (بطرا).

ووُجد بين العرب، فضلًا عن النصارى واليهود الذين لم يكن عددهم قليلًا في جزيرة العرب، من يعبدون إلهًا واحدًا، وسُمي هؤلاء بالحنفاء، وكان محمد يحب هذا الاسم، وليست عقيدة التوحيد، التي هي من أهمِّ مبادئ القرآن، كل ما عند الحنفاء، بل قالوا أيضًا، كما قال القرآن فيما بعد، إن على الإنسان أن يُسَلِّم بقضاء الله وقدره تسليم إبراهيم حينما رأى ذبح ابنه إسحق، ولذا لم يكن من الخطأ إخبار محمد في القرآن بوجود مسلمين قبل ظهوره.

ونشأ عن وَحْدة لغة العرب وحشر آلهتهم في الكعبة إمكانُ صهر عبادات هذه الآلهة وتحويلها إلى عبادة إله واحد، ومما يسر هذا الصهر تكلُّم عُبَّادِ هذه الآلهة الكثيرة بلغة واحدة.

والحق أن وقت جمع العرب على دين واحد كان قد حَلَّ، وهذا ما عَرَفَه محمد، وفي الوجه الذي عرفه فيه سر قوته، وهو الذي لم يفكر قط في إقامة دين جديد خلافًا لما يقال أحيانًا، وهو الذي أنبأ الناس بأن الإله الواحد هو إله باني الكعبة، أي إله إبراهيم الذي كان العرب يُجلُّونه ويُعظِّمونه.

وعلائمُ اتجاه العرب أيام ظهور محمد إلى الوَحدة السياسية والدينية كثيرة، وما حدث من الثورة على الأوثان في عهد قياصرة الرومان حدث مثلُه في جزيرة العرب حيث ضَعُفت المعتقدات القديمة، وفقدت الأصنام نفوذَها، ودبَّ الهرم في آلهتها، والآلهة مما يجب ألا يَهْرَم.

هوامش

(١) الزون: الموضع تجمع فيه الأصنام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤