الفصل الأول

محمد: نشوء الدولة العربية

(١) فُتُوَّة محمد

وُلِد محمد في مكة في اليوم السابع والعشرين من شهر أغسطس سنة ٥٧٠م، وكان أبوه عبد الله، الذي تُوفِّي قبل ميلاده بشهرين، ابن قطب من أقطاب الكعبة الشهيرة، وكانت أمه آمنة بنت زعيم إحدى القبائل.

ورأى العرب أن يَقرِنوا ميلاد زعيمهم الأعظم بالآيات، فرَوَوا أن العالم اهتزَّ لولادته، وأن نار المجوس المقدسة خَبَتْ، وأن شياطين الشرِّ دُحِرَت من أعلى الشُّهُب، وأنه تصدع من أبراج إيوان كسرى «ملك الملوك» أربعة عشر برجًا إيذانًا بقرب انهيار دولة الفرس العظمى.

ورَضَع محمدٌ أُمَّه في البداءة، ثم دفعت به إلى قبيلة في البادية وَفق عادةٍ لا تزال تُصادَف حتى اليوم، فلما بلغ الثالثة من سنيه، ورأى أبواه من الرضاعة ما رأيا من الخوارق التي كانت تلازمه، على زعم كتب السيرة، خافا مغبَّة الأمر، ولم يريدا بقاءه عندهما.

ولم تلبث أمُّه أن ماتت وهو صبيٌّ تاركةً أمر رعايته لجده عبد المطلب، فغالى جدُّه هذا في الاهتمام به.

ولكن ملائكة الرحمة، التي أرادت مُضِيَّ محمد قُدُمًا، صبَّت عليه، وهو صغير، أنواع المصائب التي يُصاب بها الإنسان عادةً درجةً درجةً، فقد مات جده بعد وفاة آمنة بسنتين، وكَفَلَه عمه التاجر الذي كان يسافر، ولم يجد محمد له غير نفسه حاميًا بعد قليل.

وتقول القصة إن محمدًا سافر مع عمه إلى سورية مرةً، وتعرَّف في بُصرى براهب نسطوري في دير نصراني، وتلقى منه علم التوراة.

ولما بلغ محمد العشرين من عمره اشترك في حربٍ بين قريش وقبيلة أخرى، فأظهر فيها، كما قيل بصيغة التأكيد، براعة حربية تجلَّت فيه بعد زمن.

ونال محمد شهرةً فائقة، وعُرِف برِفقه وصدقه، فلقبته قريش بالأمين.

fig22
شكل ١-١: منظر المدينة (من صورة فوتوغرافية).

وإذا أضيف إلى شهرته حُسن صحَّتِه عَلِمنا السر في عطف خديجة، التي كانت أرملة غنيٍّ، عليه وتفويضها أمور تجارتها إليه، وتهيأ له السفر إلى سورية بذلك، والاجتماع مرة ثانية بالراهب الذي أطلعه على علم التوراة سابقًا، وتزوج بعد رجوعه من سورية، وكان عمره خمسًا وعشرين سنة، خديجةَ الأَيِّمَ المثرِية البالغة من العمر أربعين سنة، وخديجة هي أُولى زوجاته، ولم يتزوج امرأة أخرى في حياتها.

ولم يخبرنا التاريخ عن سيرة محمد في السنين الخمس عشرة التي انقضت بعد زواجه بخديجة، ويُفتَرض، وإن لم يقُم دليل على ذلك، أنه كان يفكر في أثنائها في مبادئ دينه الذي سيكون زعيمه، ولم يَبْدُ منه في تلك السنين أي نفور من عبادات العرب مع ذلك، كما أنه لم يقع فيها ما يدلُّ على تفكيره في قلب تلك العبادات رأسًا على عقب.

(٢) رسالة محمد

لم يتكلم محمد عن بعثته إلا بعد بلوغه الأربعين من عمره، فبعد أن كان قائمًا يتحنث١ على جبل حِراء، الذي يبعد ثلاثة أميال من مكة، مثل ما كان يفعل في كل سنة، جاء خديجة ممتقعًا وأخبرها، كما روى مؤرخو العرب، بأنه بينما كان تائهًا في الجبل إذ سمع جبريل يقرع أذنيه بقوله: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ يا محمد! أنت رسول الله وأنا جبريل»، كما أخبرها بأن هذا كلامٌ إلهي، وبأنه يشعر في نفسه بقوَّة نبويَّة.

ولم تتردَّد المرأة المطيعة، خديجة، في تصديق بعثة زوجها النبوية، وانطلقت إلى ابن عمها وَرَقَة، وكان على جانب من العلم، وقصَّت عليه ما سمعت، فقال: «قدُّوس، والذي نفس ورقة بيده لئن صَدَقْتِني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى بن عمران، وإنه لنبيُّ هذه الأمة.»

ورجعت خديجة إلى محمد، وأخبرته بقول ورقة، واطمأنَّت نفسه، فطاف بالكعبة سبع مرات، ثم انصرف إلى منزله، ثم تواتر الوحي عليه كما ذكر أبو الفداء.

ولم يُنذِر محمد، في السنين الثلاث الأولى من بعثته، غير عشيرته الأقربين الذين كانوا، على العموم، من ذوي النفوذ والوجاهة بسبب مقامهم وأعمارهم، فلما اطمأنَّ إلى جوارهم جَهَرَ بدعوته، وأخذ يحمل على الإشراك الذي كان مركزه في بيت آلهة جزيرة العرب المقدس، الكعبة، كما ذكرنا ذلك.

ولم يُكتب له التوفيق في بدء الأمر، وكان الناس يسخرون منه، ولكن سخرية سَدَنَةِ الكعبة، قريش، لم تلبث أن انقلبت إلى غضبٍ على محمد، وتهديد له ولمن والاه بالقتل.

ولم يَفُلَّ ذلك من عزم محمد، وقد قال، كما ذكر أبو الفداء: «لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر.»

هنالك فكَّرَت قريش في اضطهاد محمد، ولم يمنعها من القضاء عليه غيرُ ما تعوَّدته الأسر العربيةُ من إجارة أبنائها، وما كانت تراه من تعريض قريش لأَثْآر عشيرة محمدٍ الأقربين الكثيرين.

ولذلك أمكن محمدًا أن يواصل دعوتَه، وأن يزيد عددَ أصحابه من غير أن يصيبه أذى كبير، ثم هاجر هؤلاء الأصحاب إلى الحبشة، لِمَا لم يلاقوا من جِوَارٍ كما لاقى محمد.

وروى مؤرخو العرب أن ملك الحبشة سأل هؤلاء المهاجرين عن دينهم الجديد، فأجابه جعفر ابنُ عم محمدٍ بما يأتي:

كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نَعْرِف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمَرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدَّقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حُرِّم علينا وأحللنا ما أُحلَّ لنا.

وكان محمد يقابل ضروب الأذى والتعذيب بالصبر وسعة الصدر، وكان في كل يوم يجتذب أصحابًا آخرين ببلاغته، والتجأ محمد إلى عمه أبي طالب ذي الجاه الكبير راغبًا في السلامة.

ومضت عشر سنين ومحمدٌ لم يفتُر ثانيةً عن الدعوة إلى دينه، فلما بلغ الخمسين من عمره أصيب بمصيبتين كبيرتين: وفاةِ عمه أبي طالب الذي كان يحميه، ووفاة زوجته خديجة التي كان أقرباؤها من الأعيان النافذين.

وترك النبي مكةَ حين أضحى غيرَ قادرٍ على مقاومة أعدائه، وذهب إلى الطائف القريبة، ودافع أمام أهليها عن صدق بعثته، ولم يصغوا إليه، فاضطرَّ إلى العودة.

ولم يلبث الأمر أن تبدَّل، ولم يلبث الزمن أن تبسَّم لمحمد بعد عبوس، فقد اغتنم محمد موسم الحج، ودعا إلى دينه أناسًا من اليمن كانوا ينظرون إلى مكة بعين الغيرة، وكانوا ينتظرون، كما شاع بينهم، ظهور نبيٍّ، وقد استهواهم حديثُ النبي، واعتقدوا أنه هو النبي المنتظر، وقد حدَّثوا بذلك أهل يثرب التي كانت تأكلها الغيرة من مكة أيضًا، وقد جاءه من هؤلاء رجالٌ كثيرٌ؛ ليستمعوا إلى دينه البسيط الواضح، فلم يطلب منهم غير الإيمان بإله واحد وبالآخرة حيث يجازى الأشرار ويكافأ الأبرار، وغير إطاعة أمر الله، والصلاةِ صباح مساء مع الطهارة بالوضوء والتحلِّي بجميع الفضائل، والإقرار بأن محمدًا رسول الله وإطاعته، وقد أخذ هذا الدينُ بمجامع قلوبهم؛ فآمنوا به وصدَّقوه وبايعوه، ثم انصرفوا للدعوة إلى دينه.

ولما علمت قريش ما أصاب محمد من النجاح غضبوا وسخِطوا، وهم الذين لم يستطيعوا أن يُغْضُوا على دين جديد قد يضرُّ بمصالحهم، فأتمروا بمحمد ليقتلوه.

ولم يعلم محمد بالأمر إلا بعد أن حاصر المؤتمرون منزلَه، واستطاع محمد، مع ذلك أن يتسلل ليلًا من بين المؤتمرين، وأن يتفلَّت من مطاردة قريش له، وأن يصل هو وصديقه أبو بكر إلى يثرب التي سُميت بالمدينة بعدئذ.

وكانت هذه الهجرة في سنة ٦٢٢م، واتخذها العرب مبدأ لتاريخهم.

(٣) محمد بعد الهجرة

دخل محمد المدينة دخول الظافرين، وأظل أصحابُه رأسَه بسُعُوف النخل، وصارت الجموع ترتمي على قدميه.

وشرَع محمد، منذ وصوله إلى المدينة، ينظم شؤون دينه، وأخذ القرآن، الذي كان في دور التكوين، يكتمل بفضل تواتر نزول الوحي على محمد في جميع الأحوال الصعبة خلا مبادئه الأساسية التي كانت قد عُرِضت.

ووُضِعَت شعائر الإسلام بالتعاقب، فسُنَّ الأذان لدعوة المؤمنين إلى الصلوات الخمس، وفُرض صوم شهر رمضان، أي الامتناع عن الطعام من الفجر إلى غروب الشمس شهرًا كاملًا، وفُرضت الزكاة التي يُعين المسلم بها الدِّينَ الذي أُقيم.

وصار محمد، بعد وصوله إلى المدينة، يقود الغزوات بنفسه، أو بواسطة أحد أصحابه، وغزوةُ بدر التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة هي أولى الغزوات المهمَّة؛ ففيها هَزَم جنودُ محمد، الذين لم يزيدوا على ٣١٤ مقاتلًا، والذين لم يكن بينهم سوى ثلاثة فرسان، أعداءهم الذين كانوا ألفي مقاتل، فكانت هزيمة أعداء النبي التامَّة في بدر فاتحةَ شهرته الحربية.

وتوالت الوقائع بين محمد وجيرانه، وكانت كلُّ مصيبة تصيبه يعقبها انتصارٌ له في الغالب، وكان يبدو رابط الجأش إذا ما هُزِم، ومعتدلًا إذا ما نُصِر، وهو لم يقسُ على أعدائه إلا مرةً واحدة حين أمر بأن تُضرب رقابُ سبعمائة معتقل يهوديٍّ خانوه.

وعَظُم شأن محمد في عدة سنين، وأصبح لا بد له من فتح مكة حتى يعُمَّ نفوذه، ورأى أن يفاوض قبل امتشاق الحُسام وصولًا إلى هذا الغرض، فجاء إلى هذا البلد المقدس ومعه ١٤٠٠ من أصحابه، ولم يُكتب له دخوله، وقد دُهِش رسل قريش من تعظيم أصحابه له، فقال أحدهم: «إني جئت كسرى وقيصر في ملكهما فوالله ما رأيت مَلِكًا في قومه مثلَ محمد في أصحابه …»

ورأى محمد بعد ذلك الإخفاق أن يُروِّح أصحابه، فخفَّ بهم إلى مدينة خيبر المحصَّنة المهمة الواقعة في شمال المدينة الغربي، والبعيدة منها مَسِيرةَ خمسة أيام، والتي كانت تقطُن فيها قبائل يهودية، والتي كانت مقرَّ تجارة اليهود، ففتحها عَنوةً، وشعر محمدٌ بدنوِّ أجله بعد خيبر، وذلك أن زينبَ اليهودية أهدت إليه شاةً مسمومةً، فأخذ منها قطعة ولاكها، ثم لفظها بعد أن ذاق طعمًا غريبًا فيها، وقال: «تخبرني هذه الشاةُ أنها مسمومة»، ثم دعا بزينب الإسرائيلية فاعترفت اعترافًا دقيقًا، ونجت من العقاب حين قالت: «لقد بَلَغْتَ من قومي ما لم يخفَ عليك، فقلتُ: إن كان مَلِكًا استرحتُ منه، وإن كان نبيًّا فسيُخبَر»، ولم تزل أكلةُ خيبر تعاوده مع حماية الله له، فتوفِّي بتأثيرها بعد ثلاث سنين كما روى المؤرخون.

fig23
شكل ١-٢: مخيم حجاج بالقرب من المدينة (من صورة فوتوغرافية).

ولما أحسَّ محمدٌ نموَّ سلطانه عَزَمَ على فتح مكة، وألَّف جيشًا من عشرة آلاف محارب، أي ألَّف جيشًا لم يَسبق أن جمع مثله، وبلغ محمد أسوار مكة، وفتحها به من غير قتال، وذلك بقوة ما تم له من النفوذ.

وعامل محمدٌ قريشًا، الذين ظلوا أعداءً أشداء له عشرين سنة، بلطف وحلم، وأنقذهم من سَوْرة أصحابه بمشقةٍ، مكتفيًا بمسح صُوَر الكعبة وتطهيرها من الأصنام (اﻟ ٣٦٠) التي أمَر بكبِّها على وجوهها وظهورها، وبجعل الكعبة معبدًا إسلاميًّا، وما انفكَّ هذا المعبد يكون بيت الإسلام.

ودخل أكثر القبائل المجاورة في الدين الإسلامي على أثر فتح مكة، وحاولت بعضُ القبائل أن تقاوم، فهُزمت شر هزيمة.

وهنالك بلغ محمد أوجَ مجده، فعزم على غزو سورية التي كان يعتقد أن أصحابها الروم يهددون حدوده.

واستطاع محمد أن يجمع جيشًا مؤلفًا من ثلاثين ألف مقاتلٍ، ووُجد عشرة آلاف فارس بين هؤلاء المقاتلين، ولما وصل إلى تبوك الواقعة في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق عَلِم أن الروم أقلعوا عن غرضهم، فلم يتابِع سَيْرَه، ولم يَخْلُ زحفه هذا من فائدة، إذ نَتَج عنه أن خضع للنبي أمراءُ البلاد العربية المجاورة لمصر وسورية.

ورغب محمد في زيادة نفوذه حتى قبل فتح مكة، فأرسل كُتُبًا إلى جميع الجهات، وإلى أقوى ملوك الأرض أيضًا، يدعو فيها إلى الإسلام، وساق إلى ملك غسان الذي كان من عُمَّال ملوك الروم جيشًا صغيرًا لم يُكتب له غيرُ الفرار، وكانت هذه الغزوة، وهي الوحيدة التي وقعت خارجَ جزيرة العرب في أثناء حياته، ذاتَ نفع، فلم يلبث العرب الذين وُكِل إليهم أمر حفظ الحدود أن انحازوا إلى النبيِّ حين أخَّر هرقلُ عنهم رواتبهم.

ولم تُثمِر كتب محمد إلى الملوك، وقد قَص التاريخ علينا أن رسولَ محمدٍ وصل إلى كسرى حين كان السفراء يُمضون معاهدة السِّلم بين كسرى وهرقل، وأنه عندما أُلقيَ كتاب محمد إلى كسرى، ورأى فيه اسم محمد قبل اسمه ووَجَد، وهو ملكُ الملوك، أن هذا يتضمن أفضليةَ محمدٍ عليه — وَفْقَ رأي الشرقيين — مزَّق الكتاب غاضبًا قبل أن يقرأه، وداسه تحت قدميه، وقال: «يكاتبني بهذا وهو عبدي»، وأن النبي لما بلغه ذلك قال: «مزَّق الله مُلكه كما مزَّق كتابي.»

وقد قُبلت دعوة النبي، فمزَّق خلفاؤه ملك كسرى كلَّ مُمَزَّق من فورهم.

ولم يكتفِ كسرى بتمزيق كتاب محمد، بل بعث إلى عامله باليمن: «أن ابعث إليَّ هذا الرجل الذي يَزعم في الحجاز أنه نبيٌّ»، ولكن ابن كسرى قتل أباه هذا قبل أن يقوم عامل اليمن بتنفيذ ذلك الأمر الصعب.

ومضى على الهجرة عشرُ سنين، فخرج النبي حاجًّا إلى مكة، وكان هذا آخر حجٍّ قام به، قال أبو الفداء: «ثم رجع إلى المدينة، وبدأ به مرضه وهو في بيت زينب بنت جحش، وكان يدور على نسائه حتى اشتدَّ مرضه وهو في بيت ميمونة بنت الحارث، فجمع نساءه واستأذنهن في أن يُمرَّض في بيت إحداهن، فأَذِنَّ له في أن يُمرض في بيت عائشة، فانتقل إليه.»

وشَعَر محمد بدنو أجله، وأراد أن يودِّع قومه فجمعهم وشكر لله توفيقَه لإكمال رسالته، ثم قال: «أيها الناس من كنتُ جَلَدْت له ظهرًا فهذا ظهري فلْيَسْتَقِدْ منِّي، ومن كنت شتمتُ له عِرضًا فهذا عِرضي فَلْيَسْتَقِد منه، ومن أخذت له مالًا فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخشَ الشَّحناء من قِبَلي؛ فإنها ليست من شأني.»

فادَّعى عليه رجلٌ ثلاثةَ دراهم، فأعطاه عوضها، ثم قال: «ألا إن فُضُوح الدنيا أهون من فُضُوح الآخرة»، ثم صَلى على الذين قاتلوا معه، ثم أُعيد إلى بيت عائشة.

fig24
شكل ١-٣: الوضوء من بئر زمزم المقدسة في موسم الحج بمكة (من صورة فوتوغرافية).

وأرادٌ محمد، قبل وفاته بثلاثة أيام، أن يُنقل إلى المسجد ليصلِّي، ولم يحتمل محمد هذا النقل، فأمر بأن يقوم أبو بكر مقامه، فعدَّ المسلمون هذا دليلًا على أن الخلافة لأبي بكر بعد النبي.

وتُوفِّي محمد بعد مرضٍ دام خمسة عشر يومًا، وكانت وفاته في السنة الحادية عشرة من الهجرة حين كان عمره ثلاثًا وستين سنة.

وكانت جزيرة العرب، حتى عُمان، قد صبأت قبل وفاة محمد إلى الإسلام، وقد رضي بالإسلام مشركو العرب ومسيحيوهم ويهودهم، وأصبحوا بذلك أمةً واحدةً ألهبتها المعتقدات الجديدة، وغدت مستعدةً لفتح العالم بعد زمن قليل بقيادة زعمائها الماهرين.

(٤) حياة محمد وأخلاقه

تكلمنا عن حياة محمد العامة فيما تقدم، والآن نبحث في أخلاقه وحياته الخاصة، مستعينين بأسانيد العرب وآثارهم، قال المؤرخ العربيُّ أبو الفداء في وصف محمد مستندًا إلى ما رُوي عن أصحابه: «وَصَفَه علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — فقال: كان النبي ليس بالطويل ولا بالقصير، ضخمَ الرأس كثَّ اللحية شَثْنَ الكفين والقدمين ضَخْمَ الكراديس مُشْرَبًا وجهه حمرةً، وقيل: كان أدعجَ العينين سَبْطَ الشعر سَهْلَ الخدين كأنَّ عُنقَهُ إبريقُ فضةٍ، وقال أنس: لم يَشِنْهُ الله بالشيب، كان في مُقَدَّم لحيته عشرون شعرةً بيضاء، وفي مفرق رأسه شعراتٌ بيض …

وكان أرجح الناس عقلًا، وأفضلهم رأيًا، يُكثر الذكر، ويُقل اللغو، دائم البِشر، مطيلَ الصمت، لَيِّن الجانب، سَهْلَ الخُلُق، وكان عنده القريب والبعيد والقوي والضعيف في الحق سواء، وكان يُحب المساكين، ولا يُحَقِّرُ فقيرًا لفقره، ولا يهاب مَلِكًا لمُلكه، وكان يؤلف قلوب أهل الشرف، وكان يؤلِّف أصحابه، ولا يُنَفِّرهم، ويصابر من جالسه ولا يَحِيد عنه حتى يكون الرجل هو المنصرف، وما صافحه أحد فيتركَ يده حتى يكون ذلك الرجل هو الذي يترك يده، وكذلك من قاومه لحاجةٍ يقف رسول الله معه حتى يكون الرجل هو المنصرف، وكان يتفقَّد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، وكان يَحْلِب العنْز، ويجلس على الأرض، وكان يَخصِف النعل ويَرْقَع الثوب ويَلْبِس المخصوف والمرقوع، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله من الدنيا ولم يَشْبَع من خبز الشعير، وكان يأتي على آل محمد الشهرُ والشهران لا يُوقَد في بيت من بيوته نارٌ، وكان قوتهم التمر والماء، وكان رسول الله يَعصِب على بطنه الحجر من الجوع.»

ويضاف إلى الوصف السابق ما رواه مؤرخو العرب الآخرون من أن محمدًا كان شديد الضبط لنفسه، كثير التفكير، صَموتًا حازمًا، سليم الطويَّة، عظيم العناية بنفسه مواظبًا على خدمتها بالذات حتى بعد اغتنائه.

وكان محمد صبورًا قادرًا على احتمال المشاق ثابتًا بعيد الهمة لَين الطبع وديعًا، فذكر أحد خدمه أنه ظل عنده ثمانيَ عشرة سنة وأنه لم يُعزِّره قط في هذه المدة ولو مرة واحدة.

وكان محمد مقاتلًا ماهرًا، وكان لا يَهرب أمام المخاطر، ولا يُلقي بيديه إلى التهلكة، وكان يعمل ما في الطاقة؛ لإنماء خلق الشجاعة والإقدام في بني قومه.

ويقال: إن محمدًا كان قليل التعليم ونُرجح ذلك، وإلا لوَجَدتَ في تأليف القرآن ترتيبًا أكثر مما فيه، ونرجح أيضًا أن محمدًا لو كان عالمًا ما أقام دينًا جديدًا، فالأمِّيون وحدهم هم الذين يعرفون كيف يُدرَك أمرُ الأميين.

وكان محمد عظيم الفطنة سواء أكان متعلمًا أم غير متعلم، وتُذكرنا حكمته بما عَزَتْه كتب اليهود إلى سليمان.

شاءت الأقدار أن يكون محمد، وقد كان شابًّا، حكمًا بين أقطاب قريش الذين كادوا يقتتلون، حين اختلفوا في مَن يضع في أحد جوانب الكعبة ذلك الحجرَ الأسود الشهير الذي كان العرب يعتقدون أن مَلَكًا جاء به من السماء إلى إبراهيم، فقال محمد الشاب أمام الخصوم الذين أوشكوا أن يلجأوا إلى السلاح: «هَلُمَّ إليَّ ثوبًا»، فأُتي به فنشره، وأخذ الحجر الأسود، ووضعه بيده فيه، ثم قال: «ليأخذ كبيرُ كل قبيلة بطرفٍ من أطراف هذا الثوب»، فحملوه جميعًا إلى ما يحاذي موضعَ الحجر من البناء، ثم تناوله محمد من الثوب ووضَعه في موضعه، وانحسم الخلاف.

وضعْفُ محمد الوحيد هو حبسه الطارئ للنساء، وهو الذي اقتصر على زوجته الأولى حتى بلغ الخمسين من عمره، ولم يُخف محمد حُبَّه للنساء فقد قال: «حُبِّبَ إليَّ من دنياكم ثلاث: الطيبُ، والنساء، وجُعلت قرةُ عيني في الصلاة.»

ولم يبالِ محمد بسِنِّ المرأة التي يتزوجها، فتزوج عائشة وهي بنت عشر سنين، وتزوج ميمونة وهي في الحادية والخمسين من سنيها.

وأطلق محمد العنان لهذا الحب، حتى إنه رأى اتفاقًا زوجةَ ابنه بالتَّبني وهي عارية، فوقع في قلبه منها شيء، فسرَّحها بعلُها ليتزوجها محمد، فاغتمَّ المسلمون، فأوحي إلى محمد، بواسطة جبريل الذي كان يتصل به يوميًّا، آيات تُسوغ ذلك، وانقلب الانتقاد إلى سكوت.

وتزوج محمد أربع نِسوَة في سنة واحدة، وبلغ عدد من تزوجهنَّ خمس عشرة امرأة، واجتمع منهن إحدى عشرة في وقت واحد، وقد يرى الأوربي أن هذا العدد كبير، ولكن الشرقيين لا يرون إفراطًا فيه ما رَأوا أنه يمكن النبي أن يتزوج نساءً أكثر من أولئك لو سمح لنفسه أن يسير على غرار الملك سليمان العظيم الذي هو أكثر ملوك التوراة حكمة.

ولم يثبت، تمامًا، وفاء زوجات محمد الكاملُ له، ويظهر أن محمدًا لاقى من المكاره الزوجية ما يندر وجوده عند الشرقيين ويكثر وقوعه لدى الأوربيين، وكانت عائشة موضوع قلق له على الخصوص، وأصبحت ذات مرة موضع قالة سوء فشهد بعصمتها جبريل المحب للخير دائمًا، ودُوِّنت شهادته في هذه المسألة الحساسة في القرآن، وحُظِر الشك.

وعرف محمد في آخر الأمر، ما ينجم عن زيادة عدد الزوجات من المفاسد والشرور، وحرَّم محمد على المسلم أن يَجمع أكثر من أربع زوجات، ولم يكن محمد هو الذي أباح تعدد الزوجات بين العرب، فتعدُّد الزوجات مما عرفته أمم آسية على اختلاف مللها ونحلها قبل النبي، ولا يزال تعدد الزوجات شائعًا بين هذه الأمم.

وكان محمد قليلَ المسامحة نحو النساء مع مَيْله الشديد إليهن، ومع أن محمدًا لم يبلغ في شدَّتِه درجة رجال التوراة وَصَفَهُنَّ في القرآن بأنهن يُنشَّأْن في الحلية ويُخاصِمن من غير سبب، وقال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهبَ للبِّ الرجل الحازم من إحداكنَّ»، وروى أبو الفداء أن محمدًا ذكر أنه كَمُل من الرجال كثير، ولم يكمُل من النساء سوى أربع: امرأة فرعون: آسية، وأم عيسى: مريم، وزوجة النبي: خديجة، وبنت النبي: فاطمة.

وأولاد محمد هم من زوجته الأولى خديجة التي هي ثالثة نساء العالم الأربع الكاملات، وثلاثة ذكور من أولاده السبعة ماتوا صِغارًا، ولم يبقَ له سوى أربع بنات تعدُّ أشهرهنَّ فاطمةُ.

ومات محمد عن تسع أيامى، وحَرُم عليهنَّ الزواج بعد وفاته احترامًا لحظره مهما كان عزاؤهن.

ولم يَقُل محمد إنه يأتي بالخوارق مع إيمانه برسالته، وعزا المسلمون إليه خوارق كثيرةً مجاراةً للعنعنات الشائعة القائلة إنه لا نبوَّة بغير خوارق، وإليك قول مسيو كاز يميرسكي الوجيز:

انشق القمر بطلبه فرقتين على مشهدٍ من الملأ، ووقفت الشمس بدعوته على الجبال والأرض حتى يؤدي علىٌّ صلاة العصر بعد أن أفاق النبي من غفوته ورأسُه على ركبتي علي الذي أخبره بأنه لم يؤدها حرصًا على راحته، وكان يظهر، وهو المعتدل القامة، أطول من كل شخص يسير بجانبه، وكان النور يسطع من وجهه، ويشع من بين أصابعه حين يضع يده على وجهه، وكانت الحجارة والأشجار والنباتات تسلِّم عليه وتنحني أمامه، وكانت الحيوانات، كالظباء والذئاب والضِّباب، تكلمه، وكانت الجديان تخاطبه وهي مَشوية، وكان الجن يخافونه ويؤمنون برسالته لما له من السلطان المطلق عليهم، وكان يَرُد البصر للعُمي ويشفي المرضى ويُحيي الموتى، وأنزل من السماء مائدة لعلي وأسرته حين جاعوا، وأنبأ بأن ذرية فاطمة سينالها جور وعُدوان، وبأن مُلك بني أمية سيدوم ألف شهر، فحدث كما أخبر … إلخ.

وفضلًا عن ذلك فإنه أُثبت للمسلمين الصالحين أنه أُسري بمحمد ليلًا على ظهر حيوان خيالي يسمى البراق، والبراق دابة مُجنَّحة لها وجه المرأة وجسم الفرس وذنب الطاوس، ويعتقد المسلمون أن محمدًا اخترق السماواتِ السبعَ في معراجه حتى بلغ عرش الإله.

fig25
شكل ١-٤: ضريح فاطمة بنت محمد في المقبرة الكبرى بدمشق (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وقيل: إن محمدًا كان مصابًا بالصرع، ولم أجد في تواريخ العرب ما يبيح القَطع في هذا الرأي، وكل ما في الأمر هو ما رواه معاصرو محمد، وعائشة منهم، من أنه كان إذانزل الوحي عليه اعتراه احتقانٌ وجهيٌّ فغطيطٌ فغشيان، وإذا عدوت هوس محمد،٢ ككل مفتون، وجدته حصيفًا سليم الفكر.

ويجب عدُّ محمدٍ من فصيلة المتهوسين من الناحية العلمية كما هو واضح، وذلك كأكثر مؤسسي الديانات، ولا كبير أهمية لذلك، فأولو الهوس وحدهم، لا ذوو المزاج البارد من المفكرين، هم الذين ينشئون الديانات ويقودون الناس، ومتى يُبحث في عمل المفتونين في العالم يُعترف بأنه عظيم، وهم الذين أقاموا الأديان وهدموا الدول وأثاروا الجموع وقادوا البشر، ولو كان العقل، لا الهوس، هو الذي يسود العالم؛ لكان للتاريخ مجرًى آخر.

ولا يقف أيُّ قولٍ بخداع محمد ثانية أمام سلطان النقد كما يلوح لي، ومحمد كان يجد في هوسه ما يحفزه إلى اقتحام كل عائق، ويجب على من يود أن يفرض إيمانه على الآخرين أن يؤمن بنفسه قبل كل شيء، ومحمد كان يعتقد أنه مؤيَّد من الله، فيتقوى، ولا يرتَد أمام أي مانع.

وجمع محمد قبل وفاته كلمة العرب، وخلق منهم أمةً واحدة خاضعة لدين واحد مطيعةً لزعيم واحد، فكانت في ذلك آيتُه الكبرى.

ومن العبث أن نبحث في: هل كانت هذه النتائج التي بَلَغها محمد مما توخَّاه قَبْلًا؟ ونحن إذ لم نُؤتَ سوى علمٍ قليل عن عِلَل ارتباط الحوادث التي نُذْعن لحكمها طوعًا أو كرهًا ترانا مضطرين إلى مجاراة المؤرخين في رأيهم أن ما بلغه أعاظم الرجال، ومنهم محمد، من النتائج هو مما كانوا يَسْعَون إلى تحقيقه، ورأيٌ مثل هذا، وإن كان لا يُسَلَّم به على عِلاته، لا نخوض في نقضه؛ لما في ذلك من الخروج عن موضوع هذا الكتاب.

ومهما يكن من أمر فإن مما لا ريب فيه أن محمدًا أصاب في بلاد العرب نتائجَ لم تُصِبْ مثلها جميعُ الديانات التي ظهرت قبل الإسلام، ومنها اليهودية والنصرانية، ولذلك كان فضل محمد على العرب عظيمًا، ويتجلى هذا الفضل العظيم في جواب رسل عمر بن الخطاب إلى كسرى حين سألهم عن أعمال النبي، قال هؤلاء الرسل:

فأما ما ذكرتَ من سوء حالنا فما كان أحد أسوأ حالًا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجِعْلان والعقارب والحيات، فكنا نرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فكانت ظَهْرَ الأرض، ولم نلبس إلا ما غَزَلْنَا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، كان دينُنَا أن يَقْتُل بعضنا بعضًا ويُغير بعضنا على بعض، وكان أحدُنا يدفن ابنته وهي حيةٌ كراهية أن تأكل من طعامنا، فكانت حالُنا قبل اليوم على ما ذكرنا لك، فبعث الله إلينا رجلًا معروفًا نعرف نَسَبَه ونعرف وجهه ومولده، فأرضُه خير أرضنا، وحَسَبُه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، فقذف الله في قلوبنا التصديق له، واتِّباعه، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله، فقال لنا: «إن ربكم يقول: إنى أنا الله وحدي لا شريك لي، كنتُ إذ لم يكن شيء وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شيء وإليَّ يصير كلُّ شيء، وإن رحمتي أدركتكم فبعثتُ إليكم هذا الرجل لأَدُلَّكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي، ولأُحِلَّكم داري دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق.

وإذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم من عرفهم التاريخ، وأخذ بعض علماء الغرب يُنصفون محمدًا مع أن التعصب الديني أعمى بصائر مؤرخين كثيرين عن الاعتراف بفضله. قال العلامة بارتلمي سنت هيلر: «كان محمد أكثر عرب زمانه ذكاء وأشدهم تدينًا وأعظمهم رأفة، ونال محمد سلطانه الكبير بفضل تفوُّقه عليهم، ونَعُدُّ دينه الذي دعا الناس إلى اعتقاده جزيل النعَم على جميع الشعوب التي اعتنقته.»

فما سر هذا الدين الذي خضع لحكمه ملايين من الناس؟ وما الحقائق التي أرشد العالم إليها؟ ذلك ما نبحث فيه عمَّا قليل.

هوامش

(١) يتحنث: يتعبد.
(٢) هذه العبارت من نبزات المستشرقين، ولا تتفق مع كرامة النبي محمد، ولا شاهد لها من الواقع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤