القرآن
(١) خلاصة القرآن
القرآن هو كتاب المسلمين المقدس، ودستورهم الديني والمدني والسياسي الناظم لسيرهم، وهذا الكتاب المقدس قليل الارتباط مع أنه أُنزل وحيًا من الله على محمد، وأسلوب هذا الكتاب، وإن كان جديرًا بالذكر أحيانًا، خالٍ من الترتيب فاقد السياق كثيرًا، ويَسهُل تفسير هذا عند النظر إلى كيفية تأليفه، فهو قد كُتب تبعًا لمقتضيات الزمن بالحقيقة، فإذا ما اعترضت محمدًا مُعضلة أتاه جبريل بوحي جديد حلًّا لها، ودُوِّن ذلك في القرآن.
والقرآن مؤلَّف من مائة وأربع عشرة سورة، وكل سورة مؤلفة من آيات، ومحمد هو الذي يتحدث فيها باسم الله على الدوام.
ويَعدُّ العرب القرآن أفصح كتاب عَرَفه الإنسان، ومع ما في هذا من مبالغةٍ شرقية نعترف بأن في القرآن آيات موزونة رائعة لم يسبقه إليها كتاب دينيٌّ آخر.
وتقرب فكرة الكون الفلسفية في القرآن مما في الديانتين الساميتين العظيمتين اللتين ظهرتا قبل الإسلام، أي اليهودية والنصرانية، وزُعِم أن العنعناتِ الآريةَ الفارسيةَ أو الهندية ذات نصيبٍ ظاهر في النصرانية والإسلام، ونحن نرى النفوذ الآريَّ في الإسلام ضعيفًا جدًّا.
ولكن أقوالًا مجردة مثل هذه لا تنفع غير الفلاسفة، ومحمد لم يزعم أنه يكتب من أجل الفلاسفة، وكان من مقاصد محمد أن يقيم دينًا سهلًا يستمرئه قومه، وقد وُفِّق لذلك حين أخذ من الأديان الأخرى ما يلائمهم، ولم يُفكِّر محمد في إبداع دين جديد قط، وهو الذي أعلن أنه يسير على غِرار من تقدمه من أنبياء بني إسرائيل من إبراهيم إلى عيسى قائلًا إن ما أوحي إليهم صحيحٌ، والحقُّ أن اليهودية والنصرانية والإسلام فروعٌ ثلاثة لأصل واحد، وأنها ذات قُربَى وشيجة.
والدين الذي دعا النبيُّ إليه الناس سهل جدًّا، وقد عَرَّفه محمد بالكلمات القليلة الآتية حين أتاه جبريل بزيِّ العرب وسأله عنه، وهي: «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصومَ رمضان، وتحجَّ البيت لمن استطاع إليه سبيلًا»، وهذا التعريف الذي قَبِله جبريل تامٌّ كما هو واضح.
ويُلخِّص المسلم الإسلام في هاتين الكلمتين اللتين لا يُنكَر إيجازُهما، وهما: «لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله.»
وإنني أنقل من القرآن بضع آيات في كل موضوع مهم، وأرتب ما نقلته من آياته على حسب الموضوعات نظرًا إلى أن ما ورد من الآيات في الموضوع الواحد مبعثر فيه اتفاقًا.
وإنني أبدأ بما جاء في القرآن عن مصدره وعن قُرْبَاه الوشيجة بالكتب المقدسة التي أتت قبله:
لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ
ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ٣ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ٤ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ٥ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ
وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ وَهَٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ
شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
وإله محمد واحد في السماء، واسمع تعريف النبي له:
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ
اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
وإله القرآن الواحد، وإن لم يكن شديدًا شدة إله التوراة، جبارٌ عزيزٌ ذو انتقام يفعل ما يشاء، ولا يُسأل عما يفعل، جاء في القرآن:
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ
وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ٦* وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ٧* أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا٨ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۗ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ
وما جاء في القرآن من نص على خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وخَلْق آدم والجنة، وهبوط آدم منها، ويوم الحساب مقتبسٌ من التوراة.
وإليك وصف محمد ليوم الحساب:
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ٩ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ
إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ١٣ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ
وفي النار ضروب العذاب كما يرى محمد، ومن ذلك:
وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا١٤ فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ١٥
كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * والصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ
وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ومن ذلك:
مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ١٦ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ١٧ ۚ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ١٨ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ١٩ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ٢٠ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ٢١ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ
وكان محمد كثير المسامحة لليهود والنصارى خلافًا لما يُظن، لا للملحدين ولا للمشركين الذين يُوصي بمقاتلتهم، وإليك قوله عنهم:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ
وَقَفَّيْنَا٢٢ عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا
لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ۖ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ۚ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
ولم أجِد في القرآن ما يُعاب به الشرقيون، وما يمكن أن يعاب به كذلك، كثير من العلماء المعاصرين من الجبرية المزعومة فيُجَوِّز أن يُعد به محمد أكثرَ جبريةً مما في التوراة، وإليك، مع ذلك، ما استطعتُ أن أجده جوهريًّا في القرآن حول هذه المسألة:
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ
لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ
إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ ۖ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
(٢) فلسفة القرآن — انتشاره في العالم
إذا رَجَعْنا القرآن إلى عقائده الرئيسية أمكننا عدُّ الإسلام صورةً مبسطةً عن النصرانية، ومع ذلك فإن الإسلام يختلف عن النصرانية في كثير من الأصول، ولا سيما في التوحيد المطلق الذي هو أصل أساسي، وذلك أن الإله الواحد، الذي دعا إليه الإسلام، مهيمنٌ على كل شيء، ولا تَحُفُّ به الملائكة والقديسون وغيرهم ممن يُفرَض تقديسهم، وللإسلام وحده أن يباهيَ بأنه أولُ دين أدخل التوحيد إلى العالم.
وتُشتَقُّ سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض، وفي هذه السهولة سرُّ قوة الإسلامِ، والإسلامُ، وإدراكُه سهلٌ، خالٍ مما نراه في الأديان الأخرى ويأباه الذوق السليم، غالبًا، من المتناقضات والغوامض، ولا شيء أكثر وضوحًا وأقل غموضًا من أصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد، وبمساواة جميع الناس أمام الله، وببضعة فروض يدخل الجنة من يقوم بها، ويدخل النار من يَعرض عنها، وإنك إذا ما اجتمعت بأي مسلم من أية طبقة، رأيته يَعرف ما يجب عليه أن يعتقد ويسرُدُ لك أصول الإسلام في بضع كلمات بسهولة، وهو بذلك على عكس النصرانيِّ الذي لا يستطيع حديثًا عن التثليث والاستحالة وما ماثلهما من الغوامض من غير أن يكون من علماء اللاهوت الواقفين على دقائق الجدل.
وساعد وضوح الإسلام البالغ، وما أَمَرَ به من العدل والإحسان كلَّ المساعدة على انتشاره في العالم، ونُفسِّر بهذه المزايا سبب اعتناق كثير من الشعوب النصرانية للإسلام، كالمصريين الذين كانوا نصارى أيام حكم قياصرة القسطنطينية فأصبحوا مسلمين حين عرفوا أصول الإسلام، كما نُفسر السبب في عدم تنصُّرِ أية أمة بعد أن رضيت بالإسلام دينًا، سواء كانت هذه الأمة غالبةً أم مغلوبة.
ويجب على من يرغب في الحكم بفائدة كتاب ديني ألا ينظر إلى قواعده الفلسفية الضعيفة على العموم، بل إلى مدى تأثير عقائده، والإسلام إذا ما نُظِر إليه من هذه الناحية وُجِدَ من أشد الأديان تأثيرًا في الناس، وهو، مع مماثلته لأكثر الأديان في الأمر بالعدل والإحسان والصلاة … إلخ، يُعلِّم هذه الأمور بسهولة يستمرئها الجميع، وهو يعرف، فضلًا عن ذلك، أن يصب في النفوس إيمانًا ثابتًا لا تزعزعه الشبهات.
ولا ريب في أن نفوذ الإسلام السياسي والمدني كان عظيمًا إلى الغاية، فقد كانت بلاد العرب قبل محمد مؤلفةً من إمارات مستقلة وقبائل متقاتلةٍ دائمًا، فلما ظهر محمد ومضى على ظهوره قرنٌ واحد كانت دولة العرب ممتدة من الهند إلى إسپانية، وكانت الحضارة تسطع بنورها الوهاج في جميع المُدُن التي خَفَقَت راية النبي فوقها.
والإسلام من أكثر الديانات ملاءمة لاكتشافات العلم، ومن أعظمها تهذيبًا للنفوس وحملًا على العدل والإحسان والتسامح، والبُدَّهيةُ، وإن فاقت جميعَ الأديان السامِيَّة فلسفةً، تراها مضطرة أن تتحول تحولًا تامًّا لتستمرئها الجموع، وهي لا شك، دون الإسلام في شكلها المعدَّل هذا.
وجرت حضارةُ العرب، التي أوجدها أتباع محمد، على سنة جميع الحضارات التي ظهرت في الدنيا: نشوء فاعتلاء فهبوط فموت، ومع ما أصاب حضارة العرب من الدُّثور، كالحضارات التي ظهرت قبلها، لم يَمسَّ الزمن دين النبي الذي له من النفوذ ما له في الماضي، والذي لا يزال ذا سلطانٍ كبير على النفوس، مع أن الأديان الأخرى التي هي أقدم منه تَخسر كلَّ يوم شيئًا من قوتها.
ويدين بالإسلام في الوقت الحاضر أكثر من مائة مليون شخص، واعتنقته جزيرة العرب ومصر وسورية وفلسطين وآسية الصغرى وجزء كبير من الهند وروسية والصين، ثم جميع إفريقية إلى ما تحت خط الاستواء تقريبًا.
وتجْمَع بين مختلف الشعوب التي اتخذت القرآن دستورًا لها وحدة اللغة والصِّلات التي يُسْفِرُ عنها مجيء الحجيج إلى مكة من جميع بلاد العالم الإسلامي.
وتجب على جميع أتباع محمد تلاوةُ القرآن باللغة العربية بقدر الإمكان، واللغة العربية هي، لذلك، أكثر لغات العالم انتشارًا على ما يحتمل، وعلى ما بين الشعوب الإسلامية من الفروق العنصرية ترى بينها من التضامن الكبير ما يُمكن جمعها به تحت عَلَم واحد في أحد الأيام.
وقضى أعداء الإسلام من المؤرخين العجب من سرعة انتشار القرآن العظيمة فعزَوها إلى ما زعموه من تَحَلُّل محمد وبطشه، ويسهل علينا أن نثبت أن هذه المزاعم لا تقوم على أساس، فنقول: إن مَن يقرأ القرآن يجد فيه ما في الأديان الأخرى من الصرامة، وإن ما أباحه القرآن من تعدد الزوجات لم يكن غريبًا على الشعوب المسلمة التي عَرَفته قبل ظهور محمد، وإن هذه الشعوب لم تجد نفعًا جديدًا في القرآن لهذا السبب.
إن من الضلال، إذن، أن يُعزَى انتشار الإسلام السريع في أنحاء الدنيا إلى أنه يُلقي عن كاهل الإنسان ما شق من التكاليف والأعمال الصالحة، وأنه يُبيح له البقاء على سيئ الأخلاق، وقد دوَّن هوتنجر قائمةً طويلة بالأخلاق الكريمة والآداب الحميدة عند المسلمين، فأرى، مع القصد في مدح الإسلام، أن هذه القائمة تحتوي أقصى ما يمكن أن يُؤمر به إنسانٌ من التحلي بمكارم الأخلاق، والابتعاد عن العيوب والآثام.
ومما نبَّه إليه العلامة بيل أن ملاذ الجنة التي وُعِدَ بها المسلمون لا تزيد على ما وُعِد به النصارى في الإنجيل، جاء في الإنجيل: «لم ترَ عينٌ ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب إنسان ما أعده الله للذين يُحبونه.»
وقد أثبت التاريخ أن الأديان لا تُفرض بالقوة، فلما قهر النصارى عربَ الأندلس فضَّل هؤلاء القتل والطرد عن آخرهم على ترك الإسلام.
ولم ينتشر القرآن بالسيف إذن، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرًا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند، التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل، ما زاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون نفس فيها، ويزيد عدد مسلمي الهند يومًا فيومًا مع أن الإنكليز، الذين هم سادة الهند في الوقت الحاضر، يجهِّزون البعثات التبشيرية ويرسلونها تباعًا إلى الهند لتنصير مسلميها على غير جدوى.
ولم يكن القرآن أقل انتشارًا في الصين التي لم يفتح العرب أيَّ جزء منها قط، وسترى في فصل آخر سرعةَ الدعوة الإسلامية فيها، ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونًا في الوقت الحاضر.
وليس فيما يوصَم به الإسلام من الجبرية ما يزيد خطرًا على ما رددنا عليه، وليس في آي القرآن التي ذكرناها آنفًا من الجبرية ما ليس في كتب الأديان الأخرى كالتوراة مثلًا، وهنالك فلاسفةٌ وعلماء لاهوت يعترفون بأن مجرى الحوادث تابع لسُنَّة لا تتبدل، قال المصلح الدينيُّ القدير لوثر: «يُحتجُّ على اختيار الإنسان وإرادته بنصوص الكتاب المقدس التي لا تُحصى، وإن شئت فقل بكل ما ورد في الكتاب المقدس.»
وكُتُبُ جميع الأمم الدينية مفعمة بالجبرية التي يسميها القدماء بالقدر، ووضع القدماءُ القدرَ، الذي لا رادَّ لحكمه، على رأس كل أمر عادِّين إياه سلطةً مطلقةً لا مناص للناس والآلهة من إطاعتها، وحاول إديب، غير جدوى، أن يَضْرَع إلى هاتف الغيب الذي أخبره بأنه سيقتل أباه ويتزوج أمه فلم يستطع ردًّا لحكم القدر الجبار.
ولم يكن محمد، إذن جبريًّا أكثر من مؤسسي الأديان الذين ظهروا قبله، ولم يسبق محمد في جبريَّته علماء الوقت الحاضر الذين أيَّدوا مع العلامة لاپلاس رأي الفيلسوف ليبنتز في القول: «إنه إذا وُجد ذكاءٌ يَعرف، لوقتٍ، جميع قوى العالم ومواضع ما فيه من الموجودات، ويستطيع أن يحللها، ويحيط بمحركات أعظم أجرام العالم وأصغر ذرَّاته، فإنه لا يبقى عنده شيء غير مُعيَّن، ويصبح الماضي والمستقبل حالًا في نظره.»
والجبريةُ الشرقية التي قامت عليها فلسفة العرب، ويستند إليها كثير من مفكري العصر الحاضر هي نوع من التسليم الهادئ الذي يعلم به الإنسان كيف يخضع لِحُكم القدر من غير تبرُّم وملاومة، وتسليم مثل هذا هو وليد مزاج أكثر من أن يكون وليدَ عقيدة، وقد كان العرب جبريين بمزاجهم قبل ظهور محمد، فلم يكن لجبريتهم تأثيرٌ في ارتقائهم كما أنها لم تؤدِّ إلى انحطاطهم.