الفصل الثالث

فتوحُ العرب

(١) حال العالم في زمن محمد

كان يتنازع سيادة العالم حين وفاة محمد دولتان عظيمتان: إحداهما: دولة الروم التي كانت عاصمتها القسطنطينية، وكانت صاحبةَ السلطان على جنوب أوربة والشرق الأدنى وشمال إفريقية الممتد من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلنطي، والأخرى: دولة الفرس التي كان سلطانها ممتدًا إلى مكان بعيد من آسية، وكان شمال أوربة وغربها فريسةً للبرابرة الذين كانت أمورهم فوضى، وكانوا يتقاتلون على أسلاب الرومان وغنائمهم.

وكانت دولةُ الروم التي نهكتها محارباتها لدولة الفرس، والتي كانت تعاني عوامل الانحلال الكثيرة، في دور الانحطاط، ولم تكن غير هيكلٍ نَخِرٍ يكفي أقلُّ صدمةٍ لتداعيه.

وكذلك كانت علائم الانقراض باديةً على دولة الفرس التي أوهنتها تلك الحروب أيضًا.

وأثقل الحكم الروماني كاهل مصر وإفريقية، وكانت القسطنطينية تستغل شعوبها من غير أن تحسن سياستهما، وكانت الاختلافات الدينية ومظالم الحكام تقوض دعائمهما.

ولم تكن أوربة أحسنَ حالًا، فكان الحكم في إسپانية، التي ستصبح مقرًّا لدولة زاهرة تحت الحكم العربي، بيد القوط المسيحيين الذين لم يستطيعوا أن يتمدنوا، والذين أكلتهم الانقسامات الدينية فاستغاثوا بقيصر الروم، فلم يُعَتِّم حلفاؤهم أن صاروا أعداء تجب محاربتهم، وفَقَدَت رومة الإيطالية نفوذَها القديم، وأصبح اسم الروماني محتقرًا في كل مكان، وصار البرابرة يتناوبون السيطرة عليها.

ولم تكن الفوضى ظاهرةً في مكان ظهورها في سورية التي هي أولُ قطرٍ استولى عليه العرب، وكان همُّ المدن السورية، التي لم تنلها أيدي التخريب في الحروب الرومية الفارسية الدائمة، والتي لم تزل على شيء من النضارة، مقتصرًا على المعاملات التجارية والمجادلات الدينية، ولم تبالِ بما كان يقع خارج أبوابها، وكانت تُهجَرُ أريافُها، ولم يكترث أهلوها لشيء من المبادئ القومية، وكانوا مستعدين لتلبية نداء أي فاتحٍ يعِدُ بإطعامهم، وكان الأريستوقراطيون من سلالة فاتحي سورية، الذين أفسدهم توالدُهم والأممَ الآسيوية، قد انحدروا إلى الحضيض فخسروا قيمتهم ونفوذهم.

fig30
شكل ٣-١: ثلاث قطع من نقود الخلفاء الأولين (أخذت صور هذه النقود والنقود التي تليها من مجموعة مسيو مارسيل).

ونحن، عندما بحثنا في كتابنا السابق عن مختلف العوامل التي تؤثِّر في تطور المجتمعات، قلنا: إن المثل الأعلى هو من أهمها، وذكرنا أن عبادة الوطن والمعتقد الديني وحب الاستقلال والمجد والأمة والمدنية … وغيرها من المثل العليا هي من الخيالات من الناحية الفلسفية، وأن مِثل هذه الخيالات هي التي تقود الناس دائمًا، وأن أمر النُّظُم السياسية والاجتماعية التي وَقَتِ البشرَ حتى الآن قد استقام بفضلها، وأن عظمة الرومان قامت على عبادة رومة على الخصوص، وأن رومة كانت سيدة العالم حين كان الروماني يُضَحِّي بنفسه في سبيل زيادة سلطانها.

وكانت الأمم الإغريقية الرومانية والآسيوية، وقت ظهورِ محمدٍ، قد فَقَدَت مُثُلَها العليا منذ زمن طويل، فلم يبقَ لحبِّ الوطن، وعبادة الآلهة أثرٌ في نفوس أبنائها، وكانت الأَثَرَة كلَّ ما في قلوب هؤلاء الأبناء، والأثرَةُ إذا كانت دليلَ قومٍ عجزوا عن مقاومة قوم آخرين مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل معتقداتهم.

وقد استطاع محمدٌ أن يُبدع مثلًا عاليًا قويًّا للشعوب العربية التي لا عهد لها بالمثل العليا، وفي ذلك الإبداع تتجلى عظمة محمد على الخصوص، وذلك المثلُ الأعلى الجديد هو من الخيالات لا ريب، شأنُ المُثُل العليا التي ظهرت قبله، ولكنك لا تَجِد من الحقائق ما هو قويٌّ قوةَ هذه الخيالات، ولم يتردَّد أتباع النبي في التضحية بأنفسهم في سبيل هذا المثل الأعلى طامعين في الجنة التي لا يعدِلُها شيءٌ من متاع هذه الحياة الدنيا.

ولم يلبَث الإسلام أن منَّ على جميع الشعوب التي خضعت لسلطانه مِثل ما مَنَّت به عظمةُ رومة على الرومان، فمنح تلك الشعوب مصالحَ مشتركةً، وآمالًا مشتركة موجِّهًا بذلك جهودَها نحو غرض واحد مع أنها كانت ذاتَ مصالح مختلفةٍ قبل ذلك.

fig31
شكل ٣-٢: قطعة من نقود الخليفة الأموي هشام، بدمشق (١٠٨ﻫ / ٧٢٥م).
fig32
شكل ٣-٣: قطعة من نقود الخليفة المهدي (١٦٢ﻫ / ٧٧٩م).
fig33
شكل ٣-٤: قطعة من نقود الخليفة المأمون (٢١٨ﻫ / ٨٣٣م).

وإن وَحدة المصالح والمعتقدات، وإن كانت تؤدي إلى تجانس الأمة، لا تعطيها من الوسائل ما تقدِر به على الفتح العالميِّ، ولو كانت أركان العالم متداعيةً كالدولة الإغريقية الرومانية والدولة الفارسية في زمن ظهور محمد، فقد كانت تانك الدولتان مرهوبتين مع ما كان يبدو من وهنهما، فكان لا بد للأمة التي تريد محاربتهما من أن تكون ذاتَ صفاتٍ حربية عظيمة، فضلًا عن معتقداتها التي تُوجِّه جهودها إلى غرض واحد، ولم يحتج العرب إلى ما يتطلبه مثلُ هذا العمل الجليل من الشجاعة وحبِّ القتال ما وَرِثهما العرب أبًا عن جدٍّ، مضافًا ذلك إلى ما نشأ عن إيمان العرب الجديد من حرصهم على الشهادة حبًّا للجنة التي وُعِدوا بها.

ولكن العرب كانوا يجهلون فنَّ الحرب جهلًا تامًّا، ولا تقوم الشجاعة مقام هذا الفن، وكان اقتتال العرب فيما بينهم من نوع اقتتال البرابرة الذين يَنْقَضُّون على أعدائهم بلا نظام، ولا يحارب كلُّ واحد إلا من أجل نفسه، وكان غيرَ هذا أمرُ الفرس والروم الذين كانت معرفتهم لفنِّ الحرب عظيمةً جدًّا كما ظهر من اشتباكهم الأول بالعرب، ولم يلبَث العربُ أن عَلِموا من الهزائم التي أصابتهم في سورية ما كان يُعوِزُهم، وأن اقتبسوا من قاهريهم كثيرًا من شؤون الحرب، وأخذوا عمن التحق بهم من الرجال الذين اجتذبهم الإيمان الجديد ما كانوا يجهلون من فنون تعبئة الجيش والنظام وأعتدة الحرب، وقد تم استعدادهم في بضع سنين، وقد بُهِت الروم حين حاصر العرب دمشق، ورأوهم مجهزين بمثل ما كان عندهم من الآلات الحربية الكاملة الجيدة.

(٢) طبيعة فتوح العرب

لم تَقِلَّ براعة الخلفاء الأولين السياسية عن براعتهم الحربية التي اكتسبوها على عَجَل، وذلك أنهم اتصلوا منذ الوقائع الأولى بسكان البلاد المجاورة الأصليين الذين كان يبغي عليهم قاهروهم منذ قرون كثيرة، والذين كانوا مستعدين لأن يستقبلوا بترحاب وحبور أي فاتح يخفِّفُ وطأة الحياة عنهم، وكانت الطريق التي يجب على الخلفاء أن يسلكوها واضحة، فعرفوا كيف يُحجِمون عن حمل أحد بالقوة على ترك دينه، وعرفوا كيف يبتعدون عن إعمال السيف فيمن لم يُسْلِم، وأعلنوا في كلِّ مكان أنهم يحترمون عقائد الشعوب وعُرفها وعاداتِها، مكتفين بأخذهم، في مقابل حمايتها، جزيةً زهيدةً تقل عما كانت تدفعه إلى سادتها السابقين من الضرائب.

fig34
شكل ٣-٥: قطعة من نقود ابن طولون (١٥٧ﻫ / ٨٧٠م).
fig35
شكل ٣-٦: قطعة من نقود الخليفة الرضي (٣٢٧ﻫ / ٩٣٣م).

وكان العرب، قبل أن يَسْعَوا إلى فتح بلد، يرسلون رُسُلًا حاملين إليه شروطًا للوفاق، وتكاد هذه الشروط تكون مماثلةً للشروط التي عرضها عمرو بن العاص على أهالي غزة حين حصاره لها في السنة السابعة عشرة من الهجرة، وللشروط التي عُرِضت على المصريين وأهل فارس، وتلك الشروط التي عرضها عمرو بن العاص هي — كما رواه المؤرخ العربي — المكين، ما يأتي: «أمرنا صاحبنا أن نقاتلكم إلى أن تكونوا في ديننا فتكونوا إخوتنا، ويلزمكم ما يلزمنا فلا نتعرَّض إليكم، فإن أبيتم أعطيتم الجزية في كلِّ عام أبدًا ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم إن تعرَّض إليكم في وجهٍ من الوجوه، ويكون لكم عهدٌ علينا، فإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا السيف فنقاتلكم حتى تفيئوا إلى أمر الله.»

fig36
شكل ٣-٧: قطعتان من نقود الخليفة الفاطمي المستنصر (٤٤٢ و٤٦٥ﻫ/١٠٥٠ و١٠٧٢م).
ويُثبِت لنا سلوك أمير المؤمنين عمرَ بن الخطاب في مدينة القدس مقدارَ الرفق العظيم الذي كان يعامل به العربُ الفاتحون الأمم المغلوبة، والذي ناقضه ما اقترفه الصليبيون في القدس بعد بضعة قرون مناقضةً تامة، فلم يُرد عمر أن يدخل مدينةَ القدس معه غيرُ عددٍ قليل من أصحابه، وطلب من البطرك صفرونيوس أن يرافقه في زيارته لجميع الأماكن المقدسة، وأعطى الأهلين الأمان، وقطع لهم عهدًا باحترام كنائسهم وأموالهم، وبتحريم العبادة على المسلمين في بِيَعِهم.١
fig37
شكل ٣-٨: قطعة من نقود صلاح الدين ضُربت بدمشق سنة ٥٨٣ﻫ / ١١٨٧م وعلى أحد وجهيها اسم الخليفة العباسي ببغداد.

ولم يكن سلوك عمرو بن العاص بمصر أقلَّ رفقًا من ذلك فقد عَرَض على المصريين حرية دينية تامة، وعدلًا مطلقًا واحترامًا للأموال وجزيةً سنوية ثابتة لا تزيد على خمسة عشر فرنكًا عن كلِّ رأس بدلًا من ضرائب قياصرة الروم الباهظة، فرضِيَ المصريون طائعين شاكرين بهذه الشروط دافعين للجزية سلفًا، وقد بالغ العرب في الوقوف عند حد هذه الشروط، والتقيد بها؛ فأحبهم المصريون الذين ذاقوا الأمرَّين من ظلم عمال قياصرة القسطنطينية النصارى، وأقبلوا على اعتناق دين العرب ولغتهم أيَّما إقبال.

ونتائج مثل هذه لا تُنال بالقوة كما قلت غير مرة، ولم يَظْفَر بمثلها من مَلَكَ مصر من الفاتحين قبل العرب.

وللفتوح العربية طابعٌ خاص لا تجد مثلَه لدى الفاتحين الذين جاءوا بعد العرب، وبيانُ ذلك أن البرابرة الذين استولوا على العالم الروماني والتركَ وغيرَهم، وإن استطاعوا أن يقيموا دولًا عظيمة، لم يؤسسوا حضارة، وكانت غاية جهودهم أن يستفيدوا بمشَقَّةٍ من حضارة الأمم التي قهروها، وعكسُ ذلك أمر العرب الذين أنشأوا بسرعةٍ حضارةً جديدةً كثيرةَ الاختلاف عن الحضارات التي ظهرت قبلها، والذين تمكنوا من اجتذاب أممٍ كثيرة إلى دينهم ولغتهم فضلًا عن حضارتهم الجديدة، واتصلت بالعرب أممٌ قديمة، كشعوب مصر والهنود، واعتنقت معتقدات العرب وعاداتِهم وطبائعَهم وفنَّ عمارتهم، واستولت بعد ذلك الدور أمم كثيرة على الأقطار التي فتحها العرب فظلَّ نفوذ العرب فيها ثابتًا، ويلوح لنا رسوخُ هذا النفوذ إلى الأبد في جميع البقاع الآسيوية والإفريقية التي دخلوها، والتي تمتد من مراكش إلى الهند، والإسپان وحدَهم هم الذين استطاعوا أن يتخلصوا من الحضارة العربية، ولكنهم لم يصنعوا هذا إلا ليقعوا في الانحطاط العُضال كما يأتي بيانه.

(٣) خلفاء محمد الأولون

لم يكن عمل محمد حين وفاته في سنة ٦٣٢م في غير دور التكوين، وكانت ضروب الأخطار تنذرُ بزواله إلى الأبد، وكانت وَحدة بلاد العرب السياسية التي تَمَّت على يده نتيجةَ الوحدة الدينية التي أنشأها، وكان من الممكن أن تنقضيَ هذه الوحدةُ الدينية بانقضاء موجدها.

أجلْ، استطاع العرب أن يدينوا لرسولٍ من الله، ولكن لم يدلَّ شيءٌ على وجوب نصب خليفة بعده، وهنالك قبائل كثيرة، ضحَّت بحريتها ونزعت ما فيها من حقد على أي سلطان إجابةً لدعوة رسول الله، لم ترَ أن تخضع لحكم خلفاء لم يُحَدِّث عنهم حتى يَدَّعوا ممارسةَ مثلِ سلطانه.

fig38
شكل ٣-٩: قطعة أخرى من نقود صلاح الدين.

وكانت هنالك أخطارٌ أخرى أعظمُ من تلك تُهدِّدُ بخنقِ عمل محمد في مهده، فقد ظهر متهوسون كثيرون هزَّهم ما نال محمد من التوفيق، ورأوا أن يدَّعوا النبوة أيضًا، فاستطاع أحدهم أي يجعل سكان نصف اليمن من أتباعه، ولولا قتل بعض المؤمنين إياه لخسر الإسلام أحسن ولاياته، واقتصر متهوسٌ آخر على إضافة بعض السُّور إلى القرآن، وبلغ من النفوذ، لزمنٍ معين، ما يقرب من نفوذ الخلفاء الأولين.

إذن، كانت أمام دين محمدٍ عوائقُ كثيرة اقتُحمت بفضل عبقرية أصحابه الذين اختاروا خلفاء لم يفكروا في غير تنفيذ شريعة القرآن واحترامها، ولم يُطِعهم العرب في الظاهر، بل أطاعوا شريعةً ذات مصدر إلهي لم يجادلوا فيه.

fig39
شكل ٣-١٠: قطعتان من نقود الملك الكامل ضُربتا في أوائل القرن الثالث عشر من الميلاد، وعلى أحد وجهيها اسم الخليفة العباسي ببغداد.

وكان الخلفاء الأولون، وهم أبو بكر (٦٣٢م–٥٣٤م) وعمر (٦٣٤م–٦٤٤م) وعثمان (٦٤٤م–٦٥٥م) وعلي (٦٥٥م–٦٦٠م)، من صحابة محمد، وقد اقتدى هؤلاء الخلفاء بمحمد في زُهده وبسيطِ عاداته، فلم يترك أبو بكر حين وفاته غير ثوبه الذي كان يَلْبَسُه، وبعيره الذي كان يَرْكَبُه، ومولاه الذي كان يخدُمُه، ولم يأخذ من بيت المال في حياته سوى خمسة دراهم مُياومةً ليعيش بها، وكان عمر يلبس ثوبًا مُرقعًا، وينام على درج المسجد بين المساكين مع اقتسامه هو وجنودُه مغانم كثيرة.

fig40
شكل ٣-١١: قطعة من نقود السلطان بيبرس.

ولم ينتقل العرب من النظام الديمقراطيِّ إلى النظام الملكي إلا بالتدريج، وكانت المساواة تامةً في عهد الخلفاء الأولين، وكانت الشريعة للجميع على السواء، فمَثَلَ عليٌّ بين يدي القاضي لمقاضاة من اعتقد أنه سارق سلاحه، وأتى ملك غسان وقومه الذين اعتنقوا الإسلام مكة للاجتماع بعمر، ولطم عربيًّا وَطِئ إزارَه واشتكى العربيُّ إلى عمر، ورأى عمرُ العملَ بما تأمر به الشريعة من إقامة الحد، فقال المِلك: «كيف ذلك يا أمير المؤمنين، وأنا مَلِكٌ وهو سوقة؟» فقال عمر: «إن الإسلام جمعكما، وسوَّى بين الملك والسوقة في الحد.»

fig41
شكل ٣-١٢: تسع قطع من نقود عرب الأندلس (متحف العاديات الإسپاني).

ولم يَدُم ذلك العدل زمنًا طويلًا، فقد صار الخلفاء ملوكًا مستبدين، وإنما بقي العرب متساوين أمام القرآن حتى الزمن الحاضر.

fig42
شكل ٣-١٣: شعار الموحدين العربي (متحف العاديات الإسپاني).
وأبو بكر هو خليفةُ النبي الأول، وكان محمدٌ قد أمره، ذات مرَّةٍ، أن يقوم مقامه في الصلاة فكان هذا عاملًا في انتخابه خليفةً، وصار الانتخاب عاملَ شقاق، وأخذ هذا الشقاق يحدث عند نصب الخلفاء، وروى مؤرخو العرب أن أول خُطبة لأبي بكر، بعد مبايعته بالخلافة، كانت ما يأتي:

أيها الناس، قد ولِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذِبُ خيانة، والضعيف فيكم قويٌّ عندي حتى أُرِيح عليه حقه إن شاء الله، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحقَّ منه إن شاء الله … أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم …

fig43
شكل ٣-١٤: مفاتيح عربية لبعض المدن والقصور (متحف العاديات الإسپاني).

وكان أبو بكر مضطرًا إلى مقاومة الطامعين في الخلافة، وإلى محاربة القبائل التي امتنعت عن أداء ما فرض القرآنُ من الزكاة، ولم يلبث أبو بكر أن رأى أن أحسن وسيلة لمعالجة انقسام العرب هو أن يوجِّه العرب إلى البلاد الأخرى كيما يمارسون عاداتِهم في الحرب والقتال، وسار الخلفاء الذين أَتَوا بعده على هذه السياسة الرشيدة التي انتشر بها الإسلام.

وأخذ العرب يتقاتلون بعد أن خلا العالم من بلد يفتحونه، وحلَّت ساعةُ تفرُّق كلمتهم، ودخلوا دور الانحطاط، وقَوَّضوا كيانهم بسلاحهم أكثر مما قوِّض بسلاح الأمم التي خضعت لسلطانهم.

وبدأت الفتوحات الكبيرة في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فقط، أجل، إن العربَ نالوا عدَّة انتصاراتٍ في سورية في خلافة أبي بكر، ولكن مهارتهم الحربية كانت ضعيفة مع شجاعتهم العظيمة — كما قلنا — فكان يتخلَّلُ تلك الانتصارات نوازلُ إلى أن حذقوا صنع السلاح كأعدائهم.

وكان عمر بن الخطاب قائدًا بارعًا وسياسيًّا ماهرًا، وكان عنوان العدل والإنصاف، وقد روى مؤرخو العرب أنه علا المنبر بالمدينة حينما أفضت إليه الخلافة وقال: «يا أيها الناس، والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا أضعفُ عندي من القوي حتى آخذ الحقَّ منه.»

والحقُّ أن الدولة العربية العظمى بدأت في خلافة عمر بن الخطاب، وأما القيصر هرقل الذي أُكره على مغادرة سورية والالتجاء إلى عاصمته القسطنطينية فقد أدرك أن العالم سيكون له سادة جدد.

(٤) خلاصة تاريخ العرب

نلخص فيما يأتي تاريخ وقائع العرب الحربية المهمة في القرون الثمانية التي دامت فيها حضارتهم:
  • القرن الأول من الهجرة: كانت فتوحات خلفاء محمد الأولى في بلاد العراق الخاضعة لدولة الفرس، وفي بلاد سورية الخاضعة لقيصر القسطنطينية هرقل، وكان بدء فتح هذين القطرين في زمن الخليفة الأول الذي لم يلبث أن تُوفِّي فوَاصَلَه عمر الذي دخل القدس بنفسه فخَسِر الروم، في سبع سنين، بلاد سورية التي ظلوا حاكمين لها سبعمائة سنة.

    ودوَّخ جنود عمر بلاد العراق وفارس من فورهم، أيْ كفى لثلِّهم عرش بني ساسان وهدمِهم الدولة الفارسية العريقة في القِدم حروبُ شهرين.

    ونالت كتائبُ عمر، التي كان يقودها المجاهد الشاعر عمرو بن العاص، في الغرب انتصاراتٍ سريعةً، واستولت على بلاد مصر والنوبة، وكانت الدولة العربية التي وُلدت منذ عشرين سنة على جانب كبير من الاتساع حين وفاة عمر في سنة ٦٤٤م.

    وداوم الخليفة الثالث عثمان، الذي بلغ الثمانين من عُمُره، على الفتوح، وأتمَّ قُواده فتح بلاد فارس، ووصلت جيوشه إلى بلاد القفقاس، وأخذت ترتاد الهند.

    fig44
    شكل ٣-١٥: دبوس أمير عربي في مصر على الطراز الفارسي العربي (هذا السلاح والسلاح الآتي من تصوير پريس الأڨيني).

    وكان الخليفة الرابع عليُّ، وهو صهر النبي (٦٥٥م)، هدفًا للدسائس التي كادت الدولة العربية تنهار بسببها، وقُتل عليٌّ بعد خلافة دامت خمس سنين، فخُتم بوفاته دور الخلفاء الأولين الذين كانوا من أصحاب محمد السابقين المعدودين آباءَ الإسلام.

    وفُتح دور خلفاء بني أمية بمعاوية (٦٦٠م)، ونقل هؤلاء مَقَرَّ الخلافة إلى دمشق، وصاروا يسيرون على نمط ملوك آسية.

    وأرسل الخليفة الجديد كتائب إلى شمال إفريقية الذي جعل منه حكومة منفصلة، ولم يَعُق زحفها غير المحيط الأطلنطي، وجاب البحر المتوسط أسطولٌ مؤلَّف من ١٢٠٠ قطعة، فاستولى على جُزُره وأغار على صقلية.

    وحوصرت القسطنطينيةُ سبعَ سنين على غير جدوى، وعُبِر نهر جيحون، ورَفَع قُوَّادُ الخليفة رايته حتى سمرقند.

    ومات معاوية (٦٨٠م) بعد حُكمٍ دام عشرين سنة.

    وثابر بنو أمية على الفتح، وبلغت جيوشهم حدود الصين من الشرق والمحيط الأطلنطي من الغرب، وجاوز العرب مضيق جبل طارق في سنة ٧١٢م، ودخلوا إسپانية، ووفِّقوا لنزعها من مملكة القوط النصرانية، وأقاموا فيها مملكةً خَضَعت لسلطان العرب نحو ثمانية قرون.

    ولم ينقضِ القرن الأول من الهجرة حتى كانت راية النبي تخفق من الهند إلى المحيط الأطلنطي، ومن القفقاس إلى الخليج الفارسي، وغدت إسپانية، التي هي إحدى الممالك النصرانية الكبرى في أوربة، خاضعةً لشريعة محمد.

  • القرن الثاني من الهجرة: اتسع نطاقُ الفتوح العربية قليلًا في القرن الثاني من الهجرة، وأصبح هم العرب مصروفًا إلى تنظيم دولتهم العظمى على الخصوص، وتوغلت جيوشهم في بلاد الغول حتى اللوار حيث دحرها شارل مارتل، واستقروا بجنوب فرنسة إلى أن طردهم شارلمان منه نهائيًّا.

    ونُقِلَ، في القرن الثاني من الهجرة، مقرُّ الخلافة من دمشق إلى بغداد التي أنشأها المنصور في سنة ٧٦٢م، بعد أن تمت الخلافة فيه لبني العباس (عم النبي) الذين هدموا دولة الأمويين في سنة ٧٥٢م، وقتلوهم خلا طريدٍ منهم استطاع أن يفر اتفاقًا، وأن يقيم دولة مستقلة في إسپانية سنة ٧٥٦م.

    واتَّسعت رقعة الدولة العربية منذ أوائل القرن الثاني من الهجرة، وبلغت من الحدود ما لم تقدر على مجاوزته باسطةً حكمها من جبال البرنات وجبل طارق إلى الهند، ومن شواطئ البحر المتوسط إلى رمال الصحراء.

    fig45
    شكل ٣-١٦: خنجر أمير عربي في مصر.

    وصار معظم آسية خاضعًا لسلطان الخلفاء الممتد من جزيرة العرب إلى التركستان، ومن وادي كشمير إلى جبال طوروس، وعُبِّدت بلاد فارس، وصار ملوك كابل وجميع أمراء وادي السند يُعطون الجزية، وأضحى العرب في أوربة مالكين لإسپانية ولجزر البحر المتوسط، وأضحَوا في إفريقية مالكين لشمالها ولمصر.

    وانتهى دور الفتوح، وبدأ دور التنظيم، وحوَّل الفاتحون نشاطهم إلى ميدان الحضارة، وكان عهدُ بني العباس الأولين عهد ازدهار لحضارة العرب في الشرق، وكان عهدًا اقتبس العرب فيه ثقافة اليونان، فلم يُعتِّموا أن أبدعوا حضارة ساطعةً ازدهرت فيها الآداب والعلوم والفنون.

    ونهضت الفنون والعلوم والصناعة والتجارة بسرعة في زمن هارون الرشيد (٧٨٦–٨٠٩) على الخصوص، وصار الشعراء والعلماء وأرباب الفن يُشيدون بذكر بطل ألف ليلة وليلة في أقاصي العالم، وأعطته القسطنطينية جزيةً، وأرسل إليه إمبراطور الغرب، شارلمان، وفدًا، ولم يَقِلَّ عصر المأمون عن عصر سلفه الرشيد نضارةً.

    ولم تكن الروابط بين الأمم التي اجتمعت تحت راية الدولة العربية العظمى متينةً، ولم تلبث هذه الروابط أن انحلت، ولم تلبث هذه الأمم أن أخذت تستقل تباعًا مع دوام الحضارة على سيرها زمنًا طويلًا، وسيكون القرنُ الثالث من الهجرة شاهدًا على هذا الانقسام الذي أخذ يبدو منذ أواخر القرن الثاني.

  • القرن الثالث من الهجرة: كان قيام خلافة قرطبة في الغرب قبل ذلك نذيرَ انقسام دولة العرب، فظهرت في بلاد فارس والهند بشرق بغداد إماراتٌ كثيرة، ولم تنشَب هذه العاصمة أن أحاط بها أمراء مستقلون.

    ويشتري ابنُ طولون استقلاله السياسي بمصر، ويقيم فيها مملكة، ويُلقَى حبل إفريقية على غاربها، ويملك إسپانية خلفاء مستقلون استقلالًا تامًّا.

  • القرن الرابع من الهجرة: استمرت الدولة العربية على الانقسام في القرن الرابع من الهجرة، وقامت دولٌ مستقلة في كثير من ولاياتها، وخسرت بغدادُ ما للعواصم من المزايا، وصارت القاهرة قاعدةَ الإسلام الحقيقية، وأصبحت إسپانية أنضر مقر للحضارة العربية مع دوام عاصمة الخلفاء القديمة على إلقاء أشعتها الساطعة، ويقصد طالبو العلم من جميع أقطار الأرض، ومنها أوربة النصرانية، جامعات العرب الكبيرة في طليطلة وغرناطة وقرطبة.
    fig46
    شكل ٣-١٧: حربة أمير عربي في مصر.
  • القرن الخامس من الهجرة: شهد القرن الخامس من الهجرة أمرين مهمين؛ وهما: الحروب الصليبية، وظهور الأتراك السلجوقيين في العالم العربي، وكان قد جيء بهؤلاء السلجوقيين البرابرة من التركستان كأسرى حرب في بدء الأمر، ثم تألَّف منهم حرسُ الخلفاء ببغداد، فابتلعوا السلطة الحقيقية شيئًا فشيئًا غير تاركين للخلفاء من السلطة سوى المظاهر.
    fig47
    شكل ٣-١٨: فأسا أمير عربي في مصر.

    وجعل السلجوقيون مقرهم أمام القسطنطينية بعد أن ملكوا جميع الولايات المجاورة لبغداد، واستولَوا على سورية، وأحلوا تعصبهم محل تسامح العرب، ونهوا النصارى عن القيام بشعائر دينهم، وجاروا على حجيجهم، فاضطربت أوربة وثارت، بعد أن كانت تخشى تقدم المسلمين منذ زمن طويل.

    ونشأ عن مواعظ بطرس الراهب ودعوة البابا أوربان الثاني أن جرَّد الأوربيون حملتهم الصليبية الأولى في سنة ١٠٩٥م وانقضوا على فلسطين، واستولَوا عليها، وأنشأ غودفروا البويوني مملكةَ القدس النصرانية الهزيلة.

    ومما حدث في القرن الخامس من الهجرة أن طُرد العرب من صقلية، وأن حالف نصارى إسپانية بعضُ التوفيق، فاستولى الأذفونش القشتالي على طليطلة، فكان هذا بداءة الفتح الذي لم يتم إلا بعد جهود أربعة قرون.

  • القرن السادس من الهجرة: أدى انتصار النصارى الأولُ في الشرق إلى زيادة الحماسة في أوربة، فجرَّدت أوربة حملةً صليبية ثانية على الإسلام في سنة ١١٤٧م، فكانت نتيجة هذه الحملة وبالًا على الصليبيين كأية حملة جردتها أوربة بعدئذ على العالم الإسلامي، فقد استولى سلطان مصر الشهير صلاح الدين الأيوبي على بلاد فلسطين، وطرد منها النصارى، وبقي سيد المدينة المقدمة على الرغم من الحملة الصليبية الثالثة التي جردتها أوربة في سنة ١١٨٩م بقيادة فردريك بار باروس وفليب أوغست وقلب الأسد: ريكاردس.
  • القرن السابع من الهجرة: جرَّد الأوربيون على الإسلام عدة حملات صليبية كان نصيبُها الحبوط الذريع، واكتسح الصليبيون في حملتهم الرابعة التي جردوها في سنة ١٢٠٢م مدينة القسطنطينية المسيحية بدلًا من مقاتلة المسلمين، وأقاموا فيها دولة لاتينية شرقية لم يُكتب لها البقاء أكثر مما كُتب لدولة القدس، ولم تكن الحملات الصليبية الأربع الأخيرة أوفر حظًّا مما تقدمها، وأُسر الملك سان لويس في الحملة السابعة، وافتدى نفسه بفدية عظيمة، ومات هذا الملك في الحملة الثامنة بالطاعون حين اقترب من أسوار تونس طامعًا في تنصير أميرها.
    fig48
    شكل ٣-١٩: خوذة أمير عربي في مصر (على الطراز الفارسي العربي).

    وكانت هذه الحملة الثامنة آخر الحملات الصليبية، وأدرك العالم النصرانيُّ بها أنه لا يزال عاجزًا عن قهر المسلمين، وعدل عن فتح فلسطين، وظلت الراية الإسلامية تخفُق فوقها حتى الآن.

    وبينما كان العرب يدفعون نصارى الغرب في أثناء الحروب الصليبية، ويخرجون منها ظافرين — ظهر في الشرق الأقصى عدوٌّ مخيف، فقد قذفت نجود التتر تيار المغول الذي انقض على آسية بقيادة جنكيزخان، واكتسح بلاد الصين وفارس والهند، ثم استولى المغول على بغداد في سنة ١٢٥٨م، وقضوا على العباسيين الذين كان لهم السلطان منذ خمسمائة سنة.

    وعلى ما بين الترك والمغول من شَبَهٍ في الهمجية كان المغول أكثر استعدادًا للثَّقافة، فالمغولُ وإن لم يكونوا أهلًا لإبداع حضارة جديدة كما أبدع العرب، استطاعوا أن ينتفعوا بحضارة العرب الذين، وإن زال ملكهم في الشرق، ظلت حضارتهم تُهيمن عليه.

    وانحصر سلطان العرب في مصر وإسپانية بعد أن تكمَّش أمام أولئك الفاتحين.

  • القرن الثامن من الهجرة: كان القرن الثامن من الهجرة حافلًا باقتتال الترك والمغول على ميراث العرب في الشرق، وقد دقَّت ساعة انحطاط هؤلاء الآخرين.
  • القرن التاسع من الهجرة: قُضِي على دولة العرب وحضارتها في إسپانية التي ملكوها نحو ثمانمائة سنة، وذلك أن فردياند استولى على عاصمة العرب الأخيرة غرناطة في سنة ١٤٩٢م، وأنه أخذ يمعن في قتلهم وتشريدهم جماعات جماعات، وأن خلفاءه ساروا على سنَّتِه، وأنه قُتِل من العرب وشُّرد ثلاثة ملايين نفس، فخبت إلى الأبد شعلة حضارة العرب التي كانت تنير أوربة منذ ثمانية قرون.

    وكانت خاتمة دولة العرب في القرن التاسع من الهجرة، ولم يبقَ للعرب في الشرق من الشأن الكبير في غير دينهم ولغتهم وحضارتهم، وحاولت الأمم التي قهرت العرب أن تسير على نحو العرب كما صنع البرابرة الذين قهروا الرومان، فأحلَّت الهلال باسم القرآن محلَّ الصليب في القسطنطينية التي كانت عاصمة الروم، فارتعدت فرائص العالم النصراني فرقًا من ذلك.

    ولكن الترك، وإن كانوا أهل حرب وقتال، لم يكونوا أهلًا ليصعدوا في سلم الحضارة، ولم يقدروا على الانتفاع بتراث العرب المغلوبين الثقافي، فضلًا عن إنمائه، ويقول العرب: «لا يَنبُتُ العشب على أرض يطأها الترك»، والحق أنه لم ينبت، فسترى في فصل آخر دركة الانحطاط التي هبطت إليها دولة العرب القديمة بسرعة بين أيدي سادتها الجدد.

هوامش

(١) البيع: جمع البيعة، وهي المعبد للنصارى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤