العرب في سورية
(١) اختلاف البيئات التي لاقاها العرب
وَقفنا هذا الفصل وما يليه في فصول هذا الباب على البحث في شأن العرب في مختلف البلدان التي استَوْلَوا عليها، وغايتُنا من ذلك بيان حضارة العرب بيانًا مجملًا، وإيضاح تأثيرهم في الأمم التي عاشروها، وتأثير هذه الأمم فيهم، ونرى أن نُقدِّر حضارة العرب بالبحث في آثارهم في كل بلد افتتحوه، فإذا تيسر لنا ذلك أمكننا أن ندرس، في فصول هذا الكتاب، مختلف العناصر التي تتألف من مجموعها حضارة العرب.
كانت أمم البلاد التي استولى العرب عليها في آسية وإفريقية وأوربة وأقاموا عليها دولتهم العظمى متباينة أشد التباين حين الفتح العربي، فأنت، إذ كنت ترى بينها أممًا من أنصاف البرابرة، كالتي في بعض أجزاء إفريقية، كنت ترى منها أممًا بلغت الذروة من الحضارة اليونانية والحضارة اللاتينية كالتي في سورية.
إذن، كانت الأحوال التي صاقبت العرب مختلفة باختلاف الأماكن، وكان من الحق أن يجد الإنسان تفاوتًا في درجات حضارتهم تَبَعًا لتفاوت البيئات.
ذلك ما يتجلَّى لنا في تاريخ حضارة العرب كلما توغلنا في تفصيلاته، وتشتمل حضارة العرب التي دامت ثمانية قرون على درجات كثيرة خلافًا لما ذهب إليه المؤرخون الذين تعوَّدوا، حين البحث في حضارة العرب، أن ينظروا إليها من خلال أمة واحدة ودور واحد، وكان للعمارة والآداب والعلوم والفلسفة والدين درجاتُ تطورٍ مختلفةٌ باختلاف الأقطار التي خضعت لسلطان العرب، ولم يمنع ذلك من أن يكون للعرب تراثٌ مشترك من الناحية الدينية والناحية اللغوية ما دام الإسلام دينهم والعربية لغتهم، ولكن وَحدة اللغة والدين لا تعني وحدة حضارة العرب في مختلف البلدان التي خضعت لشريعة محمد، كما أنك لا تستطيع أن تخلِطَ حضارة الأمم النصرانية في القرون الوسطى بحضارتهم في عصر النهضة أو في الوقت الحاضر.
(٢) استقرار العرب بسورية
كان البلد الغني، سورية، قد أصبح رومانيًّا قبل الفتح العربي بنحو سبعة قرون، ويوجد ارتباك وغموض في أخبار المعارك الأولى التي أدت إلى فتح العرب لسورية، فأما مؤرخو العرب، وعلى رأسهم الواقدي الذي يُرجَع إليه على العموم، فإنهم مَزَجوا الحقائق بالخيال، فحَط ذلك من قيمة قَصَصهم، فأنت إذا أنعمت النظر في روايات الواقدي رأيته يُذكِّر، حين بحثه في وقائع العرب الحربية، بأبطال أوميرث مع رفعٍ لقيمة المرأة في تلك الوقائع، وأما مؤرخو الروم فقد التزموا جانب الصمت عن فتح سورية الذي كان كله عارًا على دولة بزنطة القوية.
ومهما تكن دقائق الفتح العربي لسورية فإن سورية خضعت لحكم العرب بعد حرب سِجالٍ بين العرب والروم.
وفتحُ دمشق من أهمِّ فتوح العرب في سورية، ولم تلبث دمشق الشهيرة أن أصبحت في العهد الأموي عاصمةَ الدولة العربية بدلًا من المدينة.
وتمَّ فتحُ دمشق يوم وفاة الخليفة الأول أبي بكر في السنة الثالثةَ عشرةَ من الهجرة (٦٣٤م)، وصرخ هرقل حين أتاه خبرُ سقوط دمشق قائلًا: «وداعًا يا سورية!»
حقًّا لقد خَسِر الرومُ سورية، فقد استولى العرب بعد معركة اليرموك الشهيرة، التي دامت ثلاثة أيام وانتهت بانتصار العرب، على جميع مدن سورية، وفتحوا عَنْوَةً تَدْمُر وبعلبك وأنطاكية وطبرية ونابلس والقدس وطرابلس وغيرها، وأُكره القيصر على مغادرة سورية إلى الأبد بعد أن ملكها أسلافه منذ سبعة قرون.
وكان لفتح القدس دويٌّ عظيمٌ بين المدن التي استولى عليها المسلمون، وكان المسلمون يعلقون أهميةً كبيرةً على فتح هذه المدينة التي كانوا يقدسونها تقديس النصارى لها، ففيها توفي المسيح الذي هو عند المسلمين من أعاظم الأنبياء، وفيها الصخرة الشهيرة التي عَرَج منها محمد في السماء.
هجم العرب على القدس بشدَّة كالتي أُبديت للذَّبِّ عنها، وحث البطرك صفرونيوس الحماةَ النصارى على الدفاع عن قبر الرب فلم يُجد ذلك نفعًا تجاه القدر الذي قضى بأن تحلَّ راية الإسلام محلَّ الصليب فوق قبر يسوع، ورأى صفرونيوس أن يُذعِن بعد حصارٍ دام أربعة أشهر، واشترط أن يتسلم الخليفة عمر القدس بنفسه فقُبِلَ ذلك، فركب عمر بعيرًا، وغادر المدينة وحده تقريبًا، ولم يأخذ معه من الزاد سوى قربة ماء وجراب شعير وأرز وتمر، وأَغَذَّ عمر في السير ليل نهار؛ ليصل إلى القدس في وقت قصير، فلما دخل القدس أبدى من التسامح العظيم نحو أهلها ما أَمِنوا به على دينهم وأموالهم وعاداتهم، ولم يفرض سوى جزية زهيدة عليهم.
وأبدى العرب تسامحًا مثل هذا تجاه المدن السورية الأخرى كلِّها، ولم يلبث جميع سكانها أن رَضوا بسيادة العرب، واعتنق أكثر أولئك السكان الإسلام بدلًا من النصرانية، وأقبلوا على تعلم اللغة العربية، وظلت سورية بلدًا عربيًّا إسلاميًّا كما كانت في أوائل الفتح العربي مع تداول كثيرٍ من الفاتحين لسيادتها بعد ذلك.
ولما توالت هزائم الروم في سورية استحوذ عليهم خوف عظيم من العرب الذين أمعنوا في ازدرائهم.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله، من عبد الله عمر بن الخطاب إلى هرقل ملك الروم، أطلقوا الأسيرَ المسلم، عبدَ الله بن حذافة، حين وصول كتابي هذا إليكم، فإن فعلتم ذلك رجوت من الله أن يهديكم الصراط المستقيم، وإن لم تفعلوا فإنني أبعث إليكم رجالًا لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن الجهاد في سبيل الله، والسلام على من اتبع الهدى.
ولم يكن القيصر هرقل ليغضب من هذا الكتاب الشديد، فقد أطلق الأسيرَ مصحوبًا بهدية ثمينة إلى الخليفة، وهرقل هذا هو وارث عرش القياصرة الجبارين الذين دوَّخوا العالم، فخلف من بعدهم خلف فقدوا المشاعر التي كان فيها سرُّ عظمتهم.
وعاد عمر إلى المدينة بعد أن تم فتح سورية، ونظَّم شؤون الدولة الفتية موصيًا قواده بتوسيع رُقعتها، ووزَّع عمر الغنائم العظيمة التي أخذها المسلمون من الروم والفرس على أصحابه، وجعل لهم، على حسب قِدَم خِدَمِهِم، رواتبَ سنوية تترجح بين ألف درهم وخمسة آلاف درهم.
(٣) حضارة سورية أيام سلطان العرب
استردت سورية أيام الحكم العربي ما أضاعته من الرَّخاء منذ زمن طويل، وبلغت درجةً رفيعة من الرقي في العهد الأموي والصدر الأول من العهد العباسي، وكان العدل بين الرعية دستورَ العرب السياسي، وترك العرب الناس أحرارًا في أمور دينهم، وأظلَّ العرب أساقفة الروم ومطارنة اللاتين بحمايتهم، فنال هؤلاء ما لم يعرفوه سابقًا من الدَّعة والطُّمأنينة، وبلغت الصناعة والزراعة درجةً رفيعة في سورية، وازدهرت بسرعةٍ كبرياتُ المدن السورية كالقدس وصور وصيدا ودمشق.
ويُستدَلُّ على حضارة سورية أيام سلطان العرب بما رواه الكُتَّاب، وبما لا يزال قائمًا فيها من المباني.
وروى المؤرخون أن سورية لم تلبث أن ازدهرت بعد أن فتحها العرب، فقد جَدَّ العرب في دراسة كتب اليونان والرومان مثلما جَدُّوا في ميادين القتال، وأنشأوا المدارس في كل مكان، وصاروا أساتيذ من فورهم بعد أن كانوا تلاميذ، وأنهضوا العلوم والشعر والفنون الجميلة أيما إنهاض.
كأن من العبث أن أدَّت حضارة الخلفاء في قرنين، كما أدَّى الأغارقة والرومان، إلى إنشاء المباني الرائعة، وصنع النفائس الفاخرة، ونشر اللغة الراقية، ووضع طرائف نحوها المنطقية، وقول أشعارها البليغة، وكأنَّ من العبث أن سقت دمشق الفولاذ، وغَزَلت حلبُ الحريرَ اللامع، وكأن من العبث أن ازَّيَّنت رُبَا حوران وهضابُها بالزرع وأشجار الفاكهة الذهبية، وأن أبدى أهلوها نشاطًا فائقًا، فقد حَرَّق، عن عمد، أجلافُ القفقاس، الذين بزُّوا جميع قدماء الفاتحين جهلًا وقسوة وطمعًا، آثارَ الفن والعلوم، وهدموا المصانع، وقتلوا العمال، وسحقوا كل شيء لم يستطيعوا نقله.
(٤) المباني التي تركها العرب في سورية
لم تكن المباني التي تركها العرب في سورية كثيرة، وإنما يفيد درسُها كثيرًا لِقِدَمها وروعتها.
ذكرنا آنفًا أنه كان للعرب مُدُنٌ مهمة قبل ظهور محمد، وأنه كان في الكعبة الشهيرة أكثرُ من ثلاثمائة صنم، وإننا نجهل، مع الأسف، كيف كان فن العمارة العربية قبل الإسلام، وأن ما حدث في الحرم المكي، وهو البناء العربي القديم الوحيد المعروف، من الترميم المتصل يجعل وَصْف ما كان عليه أيام الجاهلية أمرًا صعبًا، وكلُّ ما نتصوره هو أن المسلمين حافظوا على ترتيبه الأول.
ومهما يكن من أمرٍ فإن مما لا ريب فيه أن مباني الدَّور الإسلامي الأول لم تكن من صنع العرب، وأن عمال البلاد التي دانت لهم هم الذين غيَّروا معالم الكنائس؛ لتكون موافقة لعبادة المسلمين، وأنهم أقاموا مبانيَ العرب بأنقاض الكنائس، وأن عمال الفرس والروم هم الذين أتيح للعرب، على الأكثر، أن يستخدموهم في سورية ريثما يكونون أهلًا لذلك.
وكان شأن العرب بالنسبة إلى المهندسين الأجانب الذين استخدموهم في دور الفتح كشأن الرجل الغني الذي يقيم لنفسه بيتًا، فكما أن المهندس الذي يرسُم بيتَ ذلك الغنيِّ يراعي فيه، لا ريب، ذوقَه نرى مهندسي الروم قد راعَوا ذوق العرب فيما أقاموا لهم من المباني الأولى، فتَجَلَّت عبقرية العرب فيها.
ولم يلبث العرب، بعد أن تحرروا من المؤثرات الأجنبية، أن أصبح لعمارتهم من الأشكال والنقوش الخاصة ما صار يتعذر معه خلطها بغيرها، وإن أمكن أن يُرَى شيء من الأثر البزنطي أو الفارسي أو الهندي في بعض زخارفها مع محافظة البناء في مجموعة على طابعه العربي.
ولنبحث الآن في بعض المباني المهمة التي تركها العرب في سورية:
(٤-١) جامع عمر
جامعُ عمر الشهير القائم في القدس هو عند المسلمين أقدس مكان في الأرض بعد الحرم المكي والحرم المدني، وقد كان دخوله، حتى السنين الأخيرة، مُحرَّمًا على كل أوربي، وإلا قُتل، وقد قضى الصليبيون منه أعظم العجب حين اقتحموا القدس، وقد عدُّوه معبد سليمان، وقد نال شهرةً عظيمةً في أوربة فأقيمت فيها كنائسُ كثيرةٌ على طِرازه، وقد يكون جامع عمر البناء الدينيَّ العالميَّ الوحيد المقدس عند المسلمين واليهود والنصارى على السواء.
بُنِيَ جامع عمر على مكان هيكل سليمان الشهير الذي جدَّده هيرودس، وأُعجب بأُبهته تيطس، ذات ساعة، حين حاول إنقاذه من اللهب، وعلى الصخرة التي أراد إبراهيم ذبح ابنه عليها امتثالًا لأمر الله كما تقول القصة، والأماكن التي تجمع في العالم من الذكريات مثلُ هذا المكان قليلة إلى الغاية ولا تجدُ مكانًا اتفق له من التقديس ما اتفق لهذا المكان لا ريب، ففيه كان سليمان يعبد رب اليهود القادر، وعليه كان الرومان يسبِّحون بحمد ملك الآلهة والناس جو پيتر العظيم، وفيه وضع الصليبيون صورة المسيح، والآن يعبد المسلمون فيه إله النبيِّ محمد.
ولم تكن قيمة جامع عمر بما يثير من الذكريات فقط، بل هو من أهم ما شاده الإنسان أيضًا، وهو أعظم بناء يستوقف النظر في فلسطين بالحقيقة.
ويقوم جامع عمر في وَسَط ساحة فسيحة يبلغ طولها خمسمائة متر، وتَعدِل مساحتها ربعَ مساحة القدس تقريبًا، ويحيط بها سورٌ يُطلق العرب عليه اسم الحرم الشريف، وتشتمل على مبانٍ مهمة كثيرة نذكر منها المسجد الأقصى على الخصوص.
وأثبتت مباحث علم الآثار الحديثة أن ساحة الحرم القدسي هي ذُروَة جبل مُرِيَّة التي مهَّدها سليمان وسوَّاها وأنشأ عليها هيكله، ووسَّع ملوك اليهودية، ولا سيما هيرودس، نطاقها مرةً بعد مرة، ونُرجِّح أن الصخرة المقدسة الواقعة في وسط جامع عمر كانت أعلى نقطة في ذروة جبل مُريَّة؛ فاحترمها سليمان في أثناء تلك التسوية.
وبُني جامع عمر على رُقعةٍ من الرخام قائمة الزوايا مرتفعة ثلاثة أمتار من أرض الحرم، وقام جامع عمر على المكان الذي كان فيه هيكل إسرائيل على التحقيق، ويُرقَى إليه بمراقٍ كثيرة قليلةِ الدرج تعلوها حنايا مصنوعة على رسم البيكارين قائمةٌ على أعمدة رُخامية ذاتِ تأثيرٍ حسن جدًّا.
ويُزَيِّن تلك الرقعة من الحرم منابرُ للوعظ ومحاريب للصلاة … إلخ، ويُرى بعض هذه الآثار طريفًا إلى الغاية.
ويخطئُ الأوربيون حين يُسمون ذلك المسجد جامع عمر، فهذا البناء ليس مسجدًا في الحقيقة، ولم يُنشئه عمر، وإنما أشار عمر، الذي لم يَمكث في القدس سوى زمن قصير، إلى المكان الذي رغب في إقامة مسجد عليه، ويرى مسيو دوڨوغيه أن بناء هذا الجامع تم بعد وفاة عمر بمدة طويلة، أي في السنة الثانية والسبعين من الهجرة (٦٩١م)، ولا يُسمِّيه العرب بغير اسم قُبة الصخرة؛ لاشتماله، بالحقيقة، على الصخرة المقدسة التي تكلمنا عنها.
وجامع عمر مُثمَّن الزوايا، ويُدخَل من أربعة أبواب مقابلة للجهات الأربع، ويكسو الرخام جوانبه السفلية، ويستر الميناء الفارسي الجميل جوانبه العليا التي تمّ تصفيحها به بعد إنشائه بزمن طويل، أي في زمن السلطان سليمان القانوني (سنة ١٥٦١).
ويتلألأ ذلك الميناء الجميل كالحجارة الكريمة حين تُلقِي الشمس أشِعَّتَها على جامع عمر فيكتسب خارج هذا الجامع منظرًا سحريًّا خياليًّا لا عهد لجوانب المباني الأوربية الدُّكن بمثله، والمرء قد يفكر في تلك القصور السحرية التي يبصرها بخياله أحيانًا، ولكن الخيال دون الحقيقة في أمر جامع عمر.
وليس داخل جامع عمر شيء من التعقيد، ففيه نِطاقان مثمَّنان ذوا مركز واحد، ويحاط هذان النِّطاقان بسياج مُدور حول الصخرة الشريفة التي هي في وسط هذا الجامع.
وزينةُ داخل جامع عمر غنية إلى الغاية، وسيقان أعمدة نِطاقه الأول من الرخام المأخوذ من المباني القديمة والمختلف شكلًا وارتفاعًا، وتختلف تيجان هذه الأعمدة في الشكل أيضًا، ويرجع أكثرها إلى أوائل العصر البزنطي، ويستر أعلى جدران هذا الجامع فُسيفساء باهرةٌ ترجع إلى القرن العاشر من الميلاد كما يُظنُّ، ويحيط بقاعدة قُبَّته عصابةٌ عريضة مزيَّنة بآيات قرآنية عن المسيح مكتوبةٍ بخطوط كوفية ذهبية.
وجُدِّدت قُبة جامع عمر في سنة ١٠٢١م، أي في زمن ازدهار الفنِّ العربي، وهي ذات زخرف داخلي رائع، أي مكسوَّةٌ بالفسيفساء والنقوش والرسوم العربية الجميلة المتشابكة المعقدة إلى الغاية.
وداخل المسجد باهرٌ جميعه، فحواجزه مستورةٌ بالميناء والفسيفساء والرسوم الذهبية وصحائف البرونز المُطَرَّقة، ونوافذُه مُزينةٌ بقطع زجاجية مُلونة في القرن السادس عشر، موصولٍ بعضها ببعض وصلًا منسجمًا بالجِصِّ، لا بالرصاص كما في أوربة، وينشأ عن هذا الوصل المنسجم ما لا نراه في كنائسنا من الظل والنور.
وتُرى في وسط جامع عمر تلك الصخرة الشريفة التي يقال: إن مَلْكِيصَادَق وإبراهيم وداود وسليمان كانوا يُضحون بقرابينهم عليها، ونرى مع ذلك، أن تلك الصخرة هي ذروة جبل مريَّة التي احترمها سليمان حين توطئته لهذا الجبل، كما ذكرنا آنفًا، فاتخذها مذبحًا في هيكله لا ريب.
ويبلغ طول تلك الصخرة المقدسة سبعة عشر مترًا، ويبلغ ارتفاعها مترين، ويحيط بها سياج حديدي مصنوعٌ في زمن الصليبيين، ويُشار في الغار الذي تحت تلك الصخرة إلى المكان الذي رُوي أن داود وسليمان صَليا فيه.
وتقول القصة العربية: إن محمدًا ذهب على الدابة الخيالية التي تكلمنا عنها آنفًا من ذُروة تلك الصخرة ليكلم الله، وتؤيَّد هذه القصة بوجود سَرج رُخامي لتلك الدابة لا يزال مرصعًا في قبة الصخرة، وتذهب هذه القصة إلى أن جبريل هو الذي منع تلك الصخرة من مصاحبة محمد في رحلته بعد أن ارتفعت من الأرض بضعة أمتار، وأن تلك الصخرة بَقيت معلقة في الهواء منذ ذلك الحين راغبة عن العودة إلى حيث كانت، وهذا ما يردده سَدَنَة جامع عمر للزائرين بإخلاص، ومع ذلك، فقد أتيح لي في أثناء دراستي الطويلة لجامع عمر وحديثي الكثير مع قَيِّمه أن أسأل هذا القَيِّم عن رأيه في ذلك فرأيته ضعيف الإيمان بصحته، وظهر لي أن حاكم القدس العثماني في الوقت الحاضر حظر على سدنة ذلك الجامع رواية هذه الأسطورة للنصارى.
ويعلو قبة جامع عمرَ هلالٌ عظيم.
ويُرى في الحرم، أمام جامع عمرَ، مِنبر عربي جميل مصنوع من الرخام الأبيض وتعلوه قبة صغيرة قائمة على حنايا مصنوعة على شكل نعل الفرس، ويسمَّى هذا المنبر منبر عمر وإن أُنشئ بعد عمر بزمن طويل، أي في القرن الخامس عشر من الميلاد.
ونذكر من بين الأبنية المهمة القائمة في الحرم البناء المعروف بقبَّةِ السِّلسِلة أو محكمة داود، وهذا البناء جَوْسَقٌ حجري أنيق مبني على الطراز البزنطي ومستورٌ بالميناء الفارسي، وتقول القصة: إن محكمة داود كانت قائمة هنالك.
(٤-٢) المسجد الأقصى
بُنِي المسجد الأقصى في الحرم القدسي، وهو قديم أيضًا، وأصل المسجد الأقصى كنيسة بناها القيصر جوستنيان تبجيلًا للعذراء، وحوَّلها العرب إلى مسجدٍ بأمر الخليفة عمر، ثم هدم الزلزال المسجد الأقصى، وجُدِّد بناؤه في سنة ٧٨٥م، ثم نالته يد الإصلاح وأكسبته مسحةً عربية مع الزمن، ولو في الجزئيات على الأقل، ثم رَمَّمه صلاح الدين في سنة (٥٨٣ﻫ / ١١٨٧م)، ثم جُدد في القرن الخامس عشر من الميلاد، بعضُ أجزائه، كرُواقه مثلًا.
ويشتمل المسجد الأقصى على أعمدة أُخذت من مبانٍ كثيرة، ونرجح أن صحونه المركزية، التي هي على الطراز البزنطي، أُنشئت في القرن السابع.
وأقواسُ المسجد الأقصى مصنوعة على رسم البيكارين على العموم، وسَكَن الصليبيون المسجد الأقصى، واتخذوا دهليزَه مستودعًا لأسلحة فرسان الهيكل.
ويحتوي المسجد الأقصى على محرابٍ أنيقٍ مُزيَّن بالفسيفساء، وتدل كتابته على أن صلاح الدين هو الذي أنشأه في سنة (٥٨٣ﻫ / ١١٨٧م)، وأقيم مِنبَره العجيب المصنوع من الخشب المنقور المرصَّع بالعاج والصدف في سنة (٥٦٤ﻫ / ١١٦٨م) ويعود زجاج نوافذه التي تعلو محرابَه إلى القرن السادس عشر من الميلاد.
(٤-٣) المباني العربية الأخرى في القدس
مباني العرب الأخرى في القدس أقل أهمية مما ذكرناه آنفًا، ونكتفي بأن نذكر منها: بابَ دمشقَ الجميلَ الذي جدد السلطان سليمان بناءه، وإن شئت فَقُلْ رَمَّمه، في سنة (٩٤٤–١٥٣٧م).
وما في القدس من الذكريات يكفي وحده؛ لجعلها موضع تمجيد، ولاجتذاب الحجاج إليها من أقصى أقطار الأرض، ويا لَسِحر تلك الذكريات ويا لَرَوعَتِها في قلوب المؤمنين الذين يزورون القبر المقدس وجبل الزيتون ووادي قدرون ووادي يهو شافاط وضريح العذارء وتربة ملوك اليهودية والطريق المقدس وجبل صهيون … وما إلى ذلك من الأمكنة التي تَكثُر في الجِوار!
ومهما يكن المرء ملحدًا فإنه لا يستطيع ألا يكترث للقدس التي هي مَنبِت إحدى الديانات الكبرى، ويُخيَّلُ إلى الإنسان أن ظِلَّ المسيح يُشرِف على القدس التي شهدت وفاته، ولا يزال اسمه يَطِنُّ فيها، وليس بجائز أن يُبحث بحثًا عميقًا في أمر هذه الأماكن المقدسة؛ لما في هذا من حطٍّ لنفوذها، والخيال الذي أملاه الإيمان المتين هو الذي دل عليها مع ضياع أثرها منذ زمن طويل، فهل تلك الحديقة هي حديقة الزيتون التي ندب المسيح فيها حظَّه؟ وهل تلك الطريق هي الطريق التي مشى عليها المسيح ليُصلَب؟ وهل ذلك القبر الذي يُعظمه النصارى هو القبر الذي ضَمَّ جُثمان المسيح بعد موته؟
إن علم الآثار الحديث شديدٌ في أجوبته عن هذه الأسئلة، فهو يقول: إن القدس الحاضرة قائمةٌ، عدة أمتار، على أنقاض القدس الماضية التي أمر بهدمها تيطس، فيتعذر رسمُ خِطَطها القديمة، ولكن الإيمان وحده يكفي المؤمن، ولا غرو، فالإنسان لا يقدِّس غير الخيالات، والقديم منها أكثر ما يُكرِمُ؛ لأنه أكثرُ ما أُكرم.
(٤-٤) برج الرملة العربيُّ
أذكر برج الرملة من بين مباني العرب القديمة القليلة في سورية، ويقوم هذا البرج بالقرب من مدينة الرملة الصغيرة الواقعة بين القدس ويافا.
ويُسمِّي العربُ برج الرملة ببرج الشهداء الأربعين، ويؤكد العرب أنه دُفن فيه أربعون شهيدًا من المسلمين.
وبرج الرملة مثالٌ جميل لفن العمارة العربية، وهو مربع الشكل، ويدخله النور من نوافذ مصنوعةٍ على رسم البيكارين، وتُبْلَغ ذُروته بمرِقاةٍ مؤلفة من ١٢٠ درجة لا تزال في حالة جيدة خلا الدرجات الأخيرة منها.
وعدَّ بعضهم برج الرملة أثرًا صليبيًّا، وهو يُذَكِّرنا بالطراز الذي نقله الصليبيون إلى أوربة في الحقيقة، ولكنه لا ينبغي الشك في أصله العربي الثابت بدقائقه وفنِّ بنائه، وبالكتابة التي تدل على أنه أُنْشِئ في سنة (٧٠٠ﻫ / ١٣١٠م)، والتي تطابق ما رواه أحد مؤرخي العرب من أن ابن السلطان قلاوون هو الذي بناه، وتَنفِي الحالة التي عليها الحجر المنقوشة عليه تلك الكتابةُ كلَّ احتمال بإضافة هذا الحجر مؤخرًا إلى برج الرملة.
(٤-٥) مباني العرب في دمشق
ذكرنا، حين بحثنا في أحوال العرب قبل ظهور محمد، أن دمشق كانت مستودع تجارة الشرق في فجر التاريخ، وكان العرب يعرفون دمشق قبل ظهور محمد بعدَّةِ قرون لجلبهم محاصيل بلادهم إليها، وكانت دمشقُ جنَّة الدنيا في نظرهم، وكانت دمشق من أروع مدن العالم في غابر القرون كما هي الآن، ودمشقُ هي التي قال القيصر جوستنيان إنها «نور الشرق.»
وكانت دمشق من الأهمية ما اتخذها العرب معه عاصمة لدولتهم بدلًا من المدينة، كما قامت بغداد مقام دمشق بعد زمن طويل.
وظلَّت دمشق مركزًا كبيرًا للتجارة والعلوم والصناعة في الشرق حتى بعد أن عادت لا تكون عاصمةً لدولة العرب، وكانت لمدرستها الطبية ومرصدها الفلكي وقصورها ومساجدها شهرة عالمية.
وظلت دمشق، التي كانت معاصرةً لدَوْر الأهرام، موجودةً مع استيلاء الآشوريين والميديين والمصريين والفرس والأغارقة والرومان والعرب والترك عليها بالتتابع، ولكن انتهابها وإحراقها مما أتى على قصورها تقريبًا.
والعرب، وإن زالت سيادتهم عن دمشق، يملكونها بدينهم وعاداتهم ولغتهم، وقد تكون دمشق من أكثر مدن العالم اصطباغًا بصبغة العرب، وقد نجت دمشق من النفوذ الأوربي تمامًا؛ لعَطَلها من مكان للأوربي إلا نادرًا، وذلك خلافًا لبقية سورية، وليست دمشق كالقاهرة التي تتفرنج كل يوم مع أن العرب هم الذين أنشأوا القاهرة، وثبت ملكهم فيها عدة قرون، ومع أن القاهرة تشتمل على أبنية عربية أعظمَ قيمةً مما في دمشق.
وعلى من يريد أن يطلع على طبائع الشرق، وأن يرجع إلى منبع التاريخ، ويعيش في الماضي، أن يزور دمشق.
يرى السائح الذي يقترب من دمشق أنه لا شيء يَعْدِل عظمتها وروعتها وسحرها، فلدمشق غُوطَتُها النَّضِرَة التي تقع بين سهل واسع، والتي تتخللها منازلُ القوم وحدائقهم، والتي تحيط بأغرب ما في الدنيا وأسطع ما فيها من أسوار خلافًا لمعاقل الغرب الشاحبة الكامدة القذرة، وتبدو هذه الأسوار، المؤلفة من حجارة صُفر وسُود مدورةٍ ومربعةٍ ومثلثةٍ على ألف شكل مع الانسجام، خَمْلَةً مُوشَّاةً بالزبارج كما وصفها شعراء الشرق.
وليس ذلك النطاقُ كل ما يبدو للأعين، فهنالك أسوارٌ في داخل المدينة تفصل بين أحيائها، وهنالك أسوار ذات أبراج مربَّعةٍ قائمةٍ على جوانبها، وهنالك أسوار تعلوها زخارف على شكل عمائم.
ولكن هذا ليس سوى المرحلة الأولى من المنظر، فصميم المدينة أسنى وأبهى، وهو يتألف من أشجار تَأَلُّفَهُ من بيوت، وذلك أن هنا صفًّا من شجر السَّرو، وهنا محلًّا للنزهة، وهناك أقواسًا عربية، وهناك سوقًا للأخذ والعطاء، وهنالك نخلًا تَهُزُّ رءوسها الجميلة فوق حوض على شكل نصف دائرة لعينٍ عظيمة، وهنالك أشجارًا مثمرة مصفوفة على شكل رقاع الشطرنج داخل قصرٍ إسلامي، ثم هنالك أكثر من ألف قبة تعلوها الأهِلَّةُ النحاسية والمآذن الرفيعة القائمة على جوانبها.
ولتلك الروضة المزهرة أشجارٌ عالية وحدائق جميلة ذات وَقْعٍ في النفوس كأشعة الشمس الوَهَّاجة، ولها شُعَبُ بَرَدَى السبعُ المُتَلَوِّيةُ الفضية التي تَهَبُ دمشق سحر الألوان أيضًا؛ تلك هي دمشق التي يُسميها العرب بالشام، والشام ما ُيسمِّي به العرب بلادَ سورية.
والأوربي، حين يدخل دمشق التي يسميها العرب دُرة الشرق، لا تستهويه أول وهلة، وإنما تؤثر فيه طُرُقٌ مُعْوَجَّة قَذِرَة تقوم على طَرَفَيْها بيوت خَرِبة ذات جدران مصنوعة من طين وتبن، وتؤثِّرُ فيه أعفارٌ تُعمي الأبصار بما لا يتصوره الإنسان، ولا يزول هذا التأثير السيئ عن الأوربي إلا بعد تَأَلُّفها.
وتجارة دمشق الواسعةُ القائمة بينها وبين بقية الشرق تمنحها حياة عظيمة وطابعًا شرقيًّا خاصًّا، والقوافل التي تأتي من بغداد تُوصِل إليها منتجات فارس والهند، وتَحْمِلُ القوافل إلى ذينك البلدين نسائجها الحريرية المشهورة وبُزُوزَها وجلودها المدبوغة ونحاسها المكَفَّت بالفضة.
وأقول، مكرِّرًا: إنه يجب على من يرغب في اجتلاء الشرق وألوانه اللامعة أن يزور دمشق، وأهمُّ ما يستوقف النظر في هذه المدينة القديمة ويبدو متنوعًا هو طُرُقها وأسواقها التجارية الطريفة، واستجلاء أمثلة مختلف أمم الشرق في بضع ساعات، ففيها يُرى الفُرس ذوو القلانس الفَرْوِية والخناجر الزُّنَّارية، ويُرى السوريون ذوو الحُلَل المخطَّطة والكوفيات والعُقُل الوَبَرِيَّة، وتُرى النساء العربيات ذوات المآزر البيض التي تلمع عيونهن المتوقدة من خِلالها، ويُرَى الدمشقيون ذوو الطرابيش الحُمر أو العمائم البيض والألبسة الحريرية المخططة بخطوط بيض وسود والمشدودة بزنانير، ويُرى حجاج البيت الحرام ذوو الثياب الرَّثة، ويُرى قَوَّاسو القناصل ذوو السياط والملابس المُوشَّاة الزُّرق والخَطَوَات الموزونة، ويُرى الموظفون العثمانيون ذوو الأَرْدية الرسمية القاتمة، ويُرى فرسان الدروز ذوو العُجْب المُنَطِّقُون بالسلاح والراكبون عِتاق الخيل التي تعلوها سروج جلدية قِرْمِزِيَّة مزينة بقطع لامعة من الذهب والفضة، وتُرى قُطُر الجمال يحرسها تجارٌ آتون من كرمان والأناضول وشواطئ الفرات، ويُرى الأكراد والأعراب والأرمن والموارنة واليهود وروم الأرخبيل، ويُرى في هذه الأخلاط اختلاف في الألوان كالذي يُرى في قوس قُزَح، ويُرى فيها ذوو البياض الناصع وذوو السواد الحالك وذوو الألوان التي بين اللونين.
وقد خُيِّل إليَّ، حينما كنت جالسًا على متكأ في إحدى القهوات العربية بدمشق، وكنت أتأمل أولئك الناس من خلال دُخان نارجيلتي، أي من خلال هذا المنظار السحري الغريب، أن قدرة ساحرة نقلتني من فوري، ولساعة، إلى بيئة حاوية لأمم آسية في غابر الأزمان.
أجل، رأيت، على ما يحتمل، منظرًا مُنوعًا كذلك على الجسر الممتد من غَلَطَةَ إلى الضَّفة الأخرى من القرن الذهبي في الآستانة، ولكن العنصر الأوربي هو الغالب هنالك مقدارًا فمقدارًا، ومن ثم أرى أن الشرق عاد لا يتجلى وحده في الآستانة مع ما فيها من الأمثلة المتباينة لمختلف شعوب العالم.
ويستعذب علماء الآثار وهواةُ التحف ورجال الفن طول الإقامة بدمشق؛ لما يَجِدون فيها من بقايا المباني ما يتطلب وصفه مجلدًا ضخمًا، وما يُخشى أن يزول بعد زمن قليل لتداعيه يومًا بعد يوم، ويُرى في كل خطوة من ضاحية الميدان الواقعة على مدخل طريق مكة أنقاضُ مساجدَ وعيونٍ وأبنية أخرى ترجع إلى ما قبل مئتي سنة أو ثلاثمائة سنة، وتشتمل على ضروب من الزينة القديمة وَفْقَ تقاليد العرب، ويشاهَد في تلك الآثار أثرٌ للفن الفارسي غيرُ قليل.
ويمكن الباحث أن يلاحظ في دمشق وحدها قصورًا على الطراز العربي القديم مشتملةً على وسائل للراحة والرفاهية مع الذوق لا يُرَى مثلها في أرقى مساكن أوربة، ومن دواعي الأسف أن نرى سنة الكون تُجرِي حكمها على هذه القصور فتزول.
وبما أنني سأتكلم في فصل آخر عن أحد هذه القصور فإنني أكتفي الآن بذكر الجامع الكبير الذي هو أقدم مباني دمشق.
بُني الجامع الكبير، الذي يرجع قسم منه، على الأقل، إلى ما بعد الهجرة بزمن قليل، على أنقاض معبد وَثَنِي حَوَّلَه النصارى إلى كنيسة، ثم التهمته النيران في سنة (٤٦١ﻫ / ١٠٦٩م) فجُدِّد بناؤه، وهو دون ما كانت عليه حالته الأولى، وأقلُّ أهميةً من مساجد القاهرة على الخصوص.
وأقيم جامع دمشق الكبير على هيئة المساجد الإسلامية الأولى، فهو يتألف مثلُها من ساحة كبيرة قائمة الزوايا ذاتِ أروقةٍ خُصِّص بعضها للصلاة، وأقيمت على أركانها مآذن، وسنصف في الفصل الذي نتكلم فيه عن عرب مصر مساجد كثيرة من هذا الطراز.
وروى مؤرخو العرب أن الرخام النادر كان يستر أسفل جدران ذلك المسجد الجامع، وأن الفسيفساء كانت تستر أعلاها كما تستر قُبته، وأن سقفه كان مصنوعًا من الخشب المُمَوَّه بالذهب، وأن مصابيحه، وعددها ستمائة، كانت من الإبريز، وأن محاريبه كانت مرصعةً بالحجارة الثمينة.
ولم يبقَ من تلك الزينة سوى الشيء القليل، وتُزيِّنُ جدرانه الآن خطوطٌ جميلة، ويُزيِّن نوافذه زجاج ذو ألوان كثيرة، ويشاهَد في مواضع منه أثرٌ للفسيفساء القديمة.
ويشتمل ذلك الجامع الكبير على مِئذَنتين مربَّعَتَي الشكل، وعلى مئذنة ثالثة أنيقة مُثمَّنَة الشكل ذات أروقة مُنضَّدة ومنتهية بكُرَة وهلال، ومئذنة العروس أقدم هذه المآذن الثلاث، وتَرجِع في قِدمها إلى القرن الأول من الهجرة كما يُعتَقَد، ومئذنة عيسى، وهي إحدى هذه المآذن، مُرَبَّعة الشكل، وتقول القصة العربية: إن عيسى سينزل على ذروتها يوم الحساب لا ريب.
ظهر مما تقدم أن العرب احترموا منذ دور الفتح الأول، آثار الأمم التي مَلَكوها ولم يفكروا في غير الانتفاع بحضارتها وترقيتها، وذلك خلافًا لكثير من الأمم الفاتحة التي جاءت بعدهم، وأن العرب الذين كانوا أميين في بدء الأمر لم يلبثوا أن فاقوا أساتذتهم، وأنهم تعلموا بسرعةٍ ما كانوا يجهلون من فنون الحرب، واستعمال آلات الحصار الرومية؛ فسبقوا أعداءهم في ذلك، وأنهم بعد أن كانوا مبتدئين في العلوم والفنون ماثلوا الأمم الأخرى فيها بفضل ما أنشأوا من المدارس ثم تقدموها، وأنهم، بعد أن كانوا غير عالمين بفنون العمارة، وبعد أن استخدموا مهندسين من الروم والفرس في تشييد مبانيهم، استطاعوا بالتدريج أن يتخلصوا كلَّ الخلاص من كل مؤثِّر أجنبي بما أحدثوا من التغيير والتبديل في فنون العمارة وَفقَ ذوقهم الفني كما نرى ذلك عمَّا قليل.