الفصل الخامس

العرب في إفريقية الشمالية

(١) إفريقية الشمالية قبل الفتح العربي

نقصد بإفريقية الشمالية البلاد التي تشتمل على مراكش والجزائر وتونس وطرابلس الغرب، وتمتد إفريقية الشمالية من المحيط الأطلنطي إلى غرب مصر الملحقة بالشرق على العموم، وتُحَدُّ إفريقية الشمالية بالبحر المتوسط في الشمال وبأقسام الصحراء المجاورة للسودان من الجنوب.

وكان الرومان يُقسِّمون إفريقية الشمالية إلى خمسة أقسام:
  • (١)

    بلاد برقة الواقعة في غرب مصر.

  • (٢)

    بلاد إفريقية القنصلية (طرابلس الغرب وتونس).

  • (٣)

    بلاد نوميدية (ولاية قسنطينة).

  • (٤)

    موريتانية القيصرية (قسم من الجزائر الحاضرة).

  • (٥)

    موريتانية الطنجية (مراكش)، وكانت رومة تمارس سلطانها على هذه الولايات بما ترسله إليها من الولاة والمندوبين والحكام.

وسَمَّى العرب إفريقية الشمالية والأندلس بالمغرب في البُداءة، وأطلِق اسم إفريقية على تونس وطرابلس الغرب حين استقر العربُ بالقيروان وتونس، وصارت كلمة المغرب لا تدل على غير بلاد إفريقية الغربية في نهاية الأمر.

وصار العرب يُسمون البلاد التي تحتوي الآن على الجزائر، تقريبًا، بالمغرب الأوسط، والبلاد التي تحتوي الآن على مراكش بالمغرب الأقصى.

واستولت شعوب كثيرة على شمال إفريقية، وكانت لها آثارٌ متفاوتة فيها، وملكها قبل العرب كل من القرطاجيين والرومان والوندال والقوط والبزنطيين.

ولم يتبدل أهل شمال إفريقية مع كثرة فتوح الأجانب لها، وهؤلاء الأهلون هم البربر الذين حافظوا على دينهم ولغتهم وعاداتهم خارج المدن على الأقل.

وينطوي تاريخ استقرار العرب بإفريقية على النزاع الذي دام طويلًا بينهم وبين البربر، وكان للبربر من الشأن في إفريقية والأندلس ما يجب درسه؛ لفهم ذلك التاريخ، وتزيد ضرورة ذلك الدرس كلما أمعن العلماء في الغلط حين يتكلمون عن البربر بسبب بلاد الجزائر.

وجميع أمم إفريقية الشمالية التي سمَّاها الرومان بالنوميديين واللوبيين والإفريقيين والمغاربة والجيتول … إلخ، من عرق البربر، ويمكن القول بأن من لم يكن زِنْجيًّا في شمال إفريقية كان بربريًّا، وذلك قبل العرب.

ولا يقلُّ جهلنا للأصل البربري عن جهلنا لأصول أكثر العروق.

بيد أن ما نراه في شواطئ إفريقية العليا من البيض بين الزنوج يدلنا على أن البربر نتيجة اختلاط مختلف الشعوب التي هاجرت إلى شمال إفريقية في أقدم القرون، وقد قلنا «أقدم القرون» لِما ليس لدينا من الروايات والتاريخ ما يُدَوِّن ذلك، وقد قلنا «مختلف الشعوب» لما نشاهد بين سود الشعور من زُرق العيون شُقْرِ الشعور.

ويمكننا أن نأتي بافتراضات معقولة عن الأمكنة التي صدرت عنها تلك الهجرة فنقول: إن أولئك المهاجرين لم يأتوا من الجنوب الذي لا يُرَى فيه غيرُ الزنوج، ولا من الشمال الذي لم يكن إلا بحرًا خِضَمًّا لم يفكر الأقدمون في عبوره، وإنما جاء أولئك المهاجرون من الشرق، أي من آسية، مارين من الأرض الضيقة التي تصلها بإفريقية، أو جاءوا من الغرب، أي من مضيق جبل طارق.

والحق أن المهاجرين السود الشعور أتَوا من شواطئ الفرات ومن شمال جزيرة العرب، أو من مكان أبعد منها على ما يحتمل، وأن المهاجرين الشقر الشعور الزرق العيون أتَوا من شمال أوربة، ولا ريب في مجيء هؤلاء من شمال أوربة مارين، على الأرجح، من أقصى طرفٍ غربي بإفريقية، وذلك بدليل ما بين آثارهم الحجرية في إفريقية وما بين الآثار الحجرية التي اكتُشِفَت في شمال أوربة من المطابقة التي لا ترى مثلها عند مقايسة تلك الآثار بآثار الوندال الذين أَوْغَلوا في إفريقية بعد الميلاد بزمن طويل.

وهنالك بعض الأدلة على هجرة شُقْرِ الشعور إلى إفريقية، ففي مصر من المباني التي أُقيمت منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، أو خمسة عشر قرنًا، قبل الميلاد ما رُسمت عليه صور إفريقيين شقر الشعور زرق العيون، وأخبر الجغرافي سلاكس في رحلته التي قام بها في أطراف البحر المتوسط قبل الميلاد بقرنين بوجود شعب من شُقر الشعور قاطنٍ في الولاية التي تُعرف اليوم بتونس، وعدد هؤلاء قليل في الوقت الحاضر، وتراهم الآن شراذم مبعثرةً في إفريقية، وترى منهم أشخاصًا بين الطوارق في الصحراء.

fig105
شكل ٥-١: منظر تونس (من صورة فوتوغرافية).

وتفوُّق سُود الشعور على شقر الشعور يدل على أهمية تلك الهجرة من آسية وتغلبها.

ودَحَر العرب البربر من الشواطئ، وكان البربر يقطنون قبل ذلك فيما بين البحر المتوسط وبلاد السودان من البقاع الواسعة، وتمازج سكان الجنوب من البربر والزنوج، فنشأت عن ذلك أمثلة من البربر مختلفة يراها من يطوف في مُدن إفريقية، ولا سيما مدن مراكش.

ويقَسَّم العرق البربري من الناحية السياسية إلى عدة فروع لعرق واحد، ومن هذه الفروع القبائل في الجزائر، والطوارق في الصحراء، والشلوح في مراكش.

ونقول، مع ما نجد من صعوبة في وصف البربر وصفًا دقيقًا من الناحية الإثنوغرافية: إذا بحثتَ عن البربر الخُلَّص وجدتَهم يسكنون الجبال الوَعرَة، وأما في المدن وفي المناطق القريبة من الساحل فقد تَحَوَّلوا بفعل توالدهم هم والرومان والأغارقة والوندال وغيرهم، ولا سيما العرب الذين عادلوهم في بعض الأزمان كما نُبيِّن ذلك عما قليل.

fig106
شكل ٥-٢: قرية بربرية في الجزائر (من صورة فوتوغرافية التقطها جايزر).
ويصعب على الباحث، إذَن، أن يبصر المثال البربري الخالص بعد ذلك التوالد، ونقترب من الصواب إذا قلنا إن المثال الذي نراه غالبًا بين البربر يختلف عن المثال العربي بثخنه وثِقله ووجهه المسَطَّح العريض الوجنتين الضيق في أسفله، وبشفتيه الغليظتين وأنفه القصير مع قليل فَطَسٍ وغالب خَنَسٍ١ وبعينيه الصغيرتين الدَّجْنَاوَيْن وبسواد شعره، وهذا إلى أنني شاهدت من أمثلة البربر ما يَصْعُب تمييزه من المثال العربي بسبب ما حَدَث بين الجيلين من التوالد لا ريب، وذلك كما ذكرتُ.

وللبربر لغةٌ عريقة في القِدَم يحتمل أن تكون مشتقةً من الفنيقية، وبهذه اللغة حرَّض جوغورته جنودَه على ماريوس، وبها تكلَّم الجيتول.

وإذا استثنيتَ ما يُسمع في إفريقية الشمالية من اللغات الأوربية علمت أن العربية والبربرية هما اللغتان اللتان يتكلم بهما سكان إفريقية الشمالية، ولكن اللغة العربية هي الأوسع انتشارًا، ولا يتكلم أحدٌ بالبربرية في غير الجبال أو البقاع البعيدة جدًّا من المدن، وللبربرية لهجاتٌ كثيرة مختلفة فيما بينها اختلاف ما بين الفرنسية والإسپانية أو بينهما وبين الإيطالية، وتعرَّبت البربرية، كما تعرَّب البربر أنفسهم، نتيجةً لاتصالها باللغة العربية، ويتألف نحو ثلث البربرية التي يتكلم بها سكان مِنطقة القبائل الكبرى من كلماتٍ عربية، وأمر طريف مثل هذا يثبت لنا مرة أخرى مقدار تأثير العرب العظيم الذي لم يُكتب مثله لأيَّة أمة أخرى، ومن هذه الأمم اليونان والرومان الذين دام سلطانهم في شمال إفريقية دوام سلطان العرب من غير أن يتفق للغتيهم أي أثر في اللغة البربرية.

ويقطُنُ أهل الحضر من البربر بقُرًى تقوم في أعالي الجبال على العموم، ويختلف منظرها قليلًا عن منظر القُرى الأوربية، والبربرُ صُبُرٌ على العمل الشاق فلا يرتدون عنه، ويثيرون ما يملِكون من الأراضي الضعيفة بجدٍّ ونشاط، ويكتفون بما يُمسك الرَّمق لاحتياجاتهم القليلة، وهم ذوو استعداد صناعي يكفي لصنع ما يحتاجون إليه من مختلف الأدوات والنسائج والأسلحة والحُلي … إلخ، وهم يرسلون إلى الخارج ما يَزِيد من مصنوعاتهم، ورأيتُ بين ما يصنعون من الحلي ما لا يقل دقةً عما تراه في مخازن أكثر الصاغة الباريسيين أناقةً.٢

ولدراسة طبائع البربر المعروفين بالقبائل وعاداتهم التي ثَبَتَت مع تعاقب الفاتحين أهمية خاصة: تشتمل كلُّ قرية بربرية على أُسَر كثيرة مؤلفة من أناس منحدرين من أصل واحد، ومن أناس انضموا إليهم بالولاء، وتعد كل واحدة من تلك الأسر وحدةً سياسية شرعية قادرة على التملك والبيع والشراء.

وتتألف القبيلة من اجتماع عدَّة قُرًى، والقرية، لا القبيلة، هي عنوان الوَحْدَة السياسية البربرية خلافًا لما هو عند العرب، والقرية البربرية هي جمهوريةٌ صغيرة مستقلة يدير شؤونها رئيسٌ منتخب يُسمونه الأمين، وأهم وظائف هذا الأمين أن يرأس جمعية البالغين من أهل قريته، وتتمتع هذه الجمعية بالسلطة الاشتراعية والسلطة القضائية وتقرر شؤون السلم والحرب، وسلطة أمين القرية مقيدة جدًّا، والوكيل هو الذي يرقُبه، والوكيل هو الذي يشكوه إلى تلك الجمعية إذا أتى عملًا يستحق اللوم والتعنيف، ومن ذلك ترى أن الاستقلال البلديَّ الذي يحلم به بعض الاشتراكيين تامٌّ عند البربر الذين حرموا بسببه تأليف أمةٍ في كل زمن.

والامتلاك أمرٌ فرديٌّ عند البربر، ولكن للأسرة البربرية وللقرية البربرية أملاكهما المماثلة لأملاك بلدياتنا، والأسرة البربرية هي الوارثة حين لا يكون للمورِّث ورثة أو حين يكون ورثته بعيدين.

وقانون العقوبات عند البربر بسيط، وعقوبات البربر فاضحةٌ على الخصوص، ولا يعرف البربر أمر السجون، وتندر عندهم الجرائم، ولا سيما السرقة، ويعيش البربري في غير معزِل عن عشيرته؛ فيَخشى مَغَبَّة الإجرام، ويُرى للرأي العام سلطان عظيم في تلك الجمهوريات البربرية المِكرسكوبية التي يُعرف فيها كل واحد من أفرادها.

fig107
شكل ٥-٣: بربري من الجزائر (من صورة فوتوغرافية).

ويدين البربر في الوقت الحاضر بالإسلام مع فتور، وكان البربر قبل الفتح العربي يعبدون آلهة قرطاجة ﮐ «غُرزيل ومَستِبمان» وغيرهما من الآلهة القُساة، وروى تِرتُولْيَان أن البربر كانوا يُضحُّون ببعض الأولاد تقربًا إلى إله الزمن كيوان؛ وكانوا يعبدون النار أيضًا، وانتحل النصرانية كثيرٌ من قبائل البربر المجاورة للمستعمرات اليونانية أيام الحكم المسيحي.

ويقتصر البربري على زوجة واحدة، ولا تتمتع المرأة البربرية بأكثر مما تتمتع به الأوربيات من الحقوق، وإن كانت في وصايةٍ أقل مما هن فيه.

والمرأة البربرية على جانب كبير من الحميَّة، وهي تحارب بجانب زوجها أحيانًا، وخَلَّدَ أُومِيرُس ذكرَها حين تغنى بخبر تلك الملكة والنسوة المترجِّلات اللائي فَتَحْنَ بلاد لوبية وبعض آسية الصغرى.

fig108
شكل ٥-٤: امرأة بربرية تصنع الكسكسو (من صورة فوتوغرافية).

ومن النساء البربريات من جَلَسنَ على عرش المُلك، ويدل هذا الأمر، الذي يَنفر منه العرب كثيرًا، على تباينهما في النظر إلى بعض الشؤون.

ولقي العرب الأمَرَّين في دور فتوحهم، وذلك من مقاومة الملكة البربرية الكاهنة التي أَلَّفت بين كثير من قبائل البربر، وتسلَّمت القيادة، وقاتلت العرب، وكُتب لها النصر في المعركة الأولى وهزمت العرب، واستولت على جميع شمال إفريقية، ولما عاود العرب الكَرة بجيش عَرَمْرَم عزمت الكاهنة على تخريب البلاد؛ لمنعهم من فتحها ثانية، فهدمت جميع القُرى التي كانت بين طرابلس الغرب وطنجة، وكاد مصير شعب هذه السيدة، التي ألقت الرعب في قلوب العرب والروم، يكون غيرَ ما حدث لو لم تُقْتَل في إحدى المعارك.

وانتهى العلماء الذين بحثوا في أمر البربر إلى نتائجَ متناقضةٍ كثيرًا، ويمكن توفيق ما بين هذه النتائج المتناقضة عند تدبُّر ما قلناه عن أخلاق العرب التي تختلف باختلاف طُرُق حياتهم، فما قلناه عن العرب يصِح أن يقال عن البربر الذين تباينت فروعهم فتباينت طبائعهم، وصار ما يقال عن الطوارق البدويين النَّهَّابين الغدارين لا يقال مثله عن سكان الجبال من البربر.

وقد تعد روح البربر قريبةً جدًّا من روح العرب على أن يقاس حضريو أولئك وبدويوهم بحضريي هؤلاء وبدوييهم.

fig109
شكل ٥-٥: أحد أبواب مسجد سيدي عقبة في القيروان (من صورة فوتوغرافية).

ولطرق الحياة تأثيرٌ كبير في أخلاق جميع الأمم، فإذا تماثلت طرق حياة الأمم تماثلت هذه الأمم في التفكير والسير في الغالب.

والبربري الحضري، كالعربي الحضري، جَلْدٌ على العمل صبور حازم ماهر، والبربري البدوي، كالعربي البدوي، طليقٌ مِحراب قنوع خفيف طَوَّاق للمَشاقِّ ختَّارٌ للأعداء، ولا يختلف البربري عن العربي إلا في أنه أقلُّ من العربي ذكاءً وأشدُّ منه حقدًا وطغيانًا.

وتجلى غدر البربر منذ أوائل الفتح العربي، فلما سأل الخليفة في دمشق فاتح إسپانية موسى بن نصير عن البربر، أجابه بقوله: «هم أشبه العجم بالعرب لقاءً ونجدة وصبرًا وفروسية، غير أنهم أغدرُ الناس، ولا وفاء لهم ولا عهد.»

واشتهر البربرُ قبل الفتح العربي بطويل زمنٍ بأنهم ممن لا يوثق بكلامهم، وقد كان عددهم كبيرًا في جيوش قرطاجة، فأوجبوا اشتهار الحروب اليونانية بسوء السمعة لا ريب.

ولم يكن تقسيم البربر إلى أهل بدو وأهل حضر أقلَّ أهميةً من تقسيم العرب إلى مثل هذا كما يُرى، وإلى هذا انتبه ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي فقال: «هذا الجيل من الآدميين هم سكان المغرب القديم ملأوا البسائط والجبال من تُلُوله وأريافه وضواحيه وأمصاره، ويَتَّخِذون البيوت من الحجارة والطين ومن الخُوص والشجر ومن الشعر والوبر، ويظعن أهل العزِّ منهم والغلبة لانتجاع المراعي فيما قَرُب من الرحلة لا يجاوزون فيها الريف إلى الصحراء والقفار المُلس، ومكاسبهم الشاء والبقر، والخيل في الغالب للركوب والنتاح، وربما كانت الإبل من مكاسب أهل النُّجعة منهم، شأن العرب، ومعاش المستضعفين منهم بالفَلْح ودواجن السائمة، ومعاش المعتزين أهل الانتجاع والإظعان في نتاج الإبل وظلال الرماح وقطع السابلة.»

وظهر مما تقدم خطأ كثير من المؤلفين المعاصرين الذين رأوا أن يُفرِّقوا بين العرب والبربر، فزعموا أن البربر أهل حَضَر وزراعة وأن العرب أهل بدو، وانتهوا إلى قولهم: إن البربر أهل للتمدن، وإن العرب غير أهل له؛ وذلك عندما تكلموا عن سكان بلاد الجزائر.

ولكن نتيجةً مثل هذه تقوم على أساس باطل، وذلك أن العرب والبربر أهل حضر وأهل بدو على سواء، وأن هذين الطرازين يصدران عن البيئة التي يكونون فيها بالحقيقة، فترى العربي حضريًّا دائمًا في البقاع الخصيبة من جزيرة العرب ومصر والجزائر، وتراه بدويًّا، وبدويًّا دائمًا، في الصحاري الرملية من تلك الأقطار.

fig110
شكل ٥-٦: مئذنة مسجد سيدي عقبة الكبير في القيروان (من صورة فوتوغرافية).

ومن يسكُن الصحراء الكبرى من عرب أو بربر أو من أية أمة أخرى لا يكون إلا بدويًّا، ومن ذلك أنك تبصر الطوارق الذين هم بربر خُلَّصٌ من النوميديين عريقين في البداوة، فيقوم معاشهم على الحرب والسلب والنهب خاصةً، كأعراب جزيرة العرب، وأنك تُبصرُ البربر من سكان الجبال، التي تتعذر معيشة أهل البدو فيها، يبنون البيوت ويزاولون أمور الزراعة.

وذلك هو شأن البربر قبل فتح العرب لإفريقية وبعده، ويتعذر حمل بدوييهم، الذين تأصلت فيهم البداوة بفعل القرون حتى صارت فيهم طبيعةً ثانية، على الحضارة والاستقرار ومزاولة الزراعة كما يتعذر منع كلب الصيد من تعقُّب الطرائد، وقد يتمُّ ذلك، ولكن بعد قرون، لا في يوم واحد.

وإذا ما قيس البربر الحضريون بالعرب الحضريين لم يُرَ ما يُسوِّغ الادعاء بأن البربر أكثر استعدادًا للتمدن من العرب، وعكس ذلك ما تثبته حوادث التاريخ، فلقد بلغ العرب، لا البربر، درجة رفيعة من الحضارة.

وأرى العرب والبربر غير مستعدين في الوقت الحاضر، لهضم طرق حياة الأوربيين ومشاعرهم ونظرهم إلى الأمور، وذلك أن الحضارة عند أكثر الأوربيين هي قضاؤهم لمعظم أوقاتهم، وإن شئت فقل عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة، في المعامل أو المكاتب أو الحقول؛ لنَيْل عَيْشهم اليومي على أن يستأنفوا العمل في الغد، وأن عيشًا مثل هذا مما لا يرضاه العربي والبربري اللذان ليس لديهما من الاحتياجات المصنوعة ما عند الأوربي، واللذان يأبيان أن يكون لهما مثل تلك الاحتياجات.

والأوربي في نظر العربي أو البربري سيد يعانيه ما ظلَّ مغلوبًا على أمره، فإذا سنحت الفرصة للتحرر منه لم يُحجم عن اهتبالها.

(٢) استقرار العرب بإفريقية

لاقَى العرب في فتح إفريقية من المصاعب ما لم يلاقوه في فتح مصر، ولم يستقرَّ أمرهم بها إلا ببطء شديد، أي أن البربر لم يتوانَوْا عن مقاتلة العرب، وإنهم استردوا استقلالهم غيرَ مرة.

وخضعت إفريقية الشمالية للوندال، الذين أتوا من إسپانية، أكثر من مائة سنة (٤٢٩م–٥٤٥م) بعد أن خضعت للرومان عِدَّة قرون، ثم طردهم منها جيش جوستينيان الذي أرسله بقيادة بيليزير، ثم استولى قوط إسپانية عليها، وكان القوط مالكين لبعضها حين ظهور العرب على مسرح التاريخ.

ويُحِيطُ بتاريخ ولايات إفريقية شيءٌ من الغموض أيام الفتح العربي، ونعلمُ مع ذلك، أن إفريقية كانت على شيء من الطُّمأنينة والهدوء وقتما أراد القيصر هرقل أن يمنع تقدم العرب، فكان هذا القيصر يفكر في السفر بحرًا إلى قرطاجة؛ ليتخذها عاصمةً له بدلًا من القسطنطينية التي كانت تأكلها الفتن.

fig111
شكل ٥-٧: مسجد القيروان القديم (من صورة فوتوغرافية).

ولم يكن سكون إفريقية غير مؤقت، والواقع أن إفريقية كانت ميدانًا لمختلف المذاهب الدينية التي تقيمها وتقعدها فضلًا عن غزو الأجنبي.

نعم، أصبحت إفريقية نصرانيةً كمصر، ولكن انتحالها للنصرانية لم يتِمَّ إلا بعد أن أريقت سيولٌ من الدماء، وذلك أن قسطنطين، لما جلس على العرش، رأى تلك المذاهب الدينية سبب كل اضطراب وهيجان فلم يرَ غير قهرها بالأسنة والسيوف.

وأنشأ الرومان والبزنطيون مدنًا مهمة في إفريقية، وزيَّنوها بمختلف المباني التي لا تزال خرائبها باقية، وكان نفوذهم محليًّا، ولم يَعدُ هذا النفوذ حدود المدن، فبَدَوْا فاتحين لإفريقية أكثر من أن يكونوا مستعمرين لها.

وكانت مقاومة الروم للعرب في شمال إفريقية ضعيفةً كما في مصر، ولولا البربر لتمَّ للعرب فتحُها بسرعة، ونشأ عن استبسال البربر في مقاومة العرب أن اضطر العرب إلى خوض خمس معارك هائلة، وقعت في نحو نصف قرن؛ ليكونوا سادة شمال إفريقية.

وكانت غزوة العرب الأولى في السنة الثالثة والعشرين من الهجرة (٦٤٤م)، وكانت ولاية برقة القريبة من مصر أول ما استولَوا عليه، ثم فتحوا ولاية طرابلس الغرب، واستولَوا على مدن كثيرة في سنة ٦٤٦م، ثم جَلَوا عن البلاد بعد أن أَعْطَوا فِدْيةً، ولم يظهروا ثانيةً إلا بعد عشرين سنة حينما امتشقوا الحُسام، وأوْغلوا في البلاد حتى المحيط الأطلنطي.

fig112
شكل ٥-٨: زخارف من القاشاني المطلي بالميناء في مسجد القيروان (من صورة فوتوغرافية).

وبَنَى العرب عاصمة إفريقية العربية القادمة، القيروان، في سنة ٦٧٥م، واستولَوا على قرطاجة في سنة (٦٩١م / ٦٩ﻫ)، وهزموا الجيش الكبير الذي جمعته ملكة البربر الكاهنة لمقاتلتهم، وصار لهم في سنة ٧١١م من القوة ما فتحوا به بلاد إسپانية.

وكان يقوم بأمور الحكومة في إفريقية، حتى أوائل القرن التاسع من الميلاد، أمراء بالنيابة عن الخلفاء، فلما صار سلطان الخلفاء هنالك اسميًّا منذ عهد هارون الرشيد، انفرد الأمراء بالحكم، واتخذوا القيروان عاصمة لهم.

وتداول الحكم في إفريقية من سنة ٨٠٠م إلى سنة ٩٠٩م أحد عشر أميرًا من الأغالبة متخذين القيروان عاصمةً لهم، وكان همُّ هؤلاء الأغالبة مصروفًا إلى مزج العرب بالبربر؛ فتمتعت إفريقية في أيامهم بطمأنينة عظيمة، ثم قَلَب البربر دولتهم، ونصبوا أميرًا فاطميًّا من أصل بربري خليفةً، فغدت إفريقية مستقلةً عن العباسيين الذين لم تكن إفريقية تابعةً لهم إلا بالاسم منذ زمن طويل.

fig113
شكل ٥-٩: خشب محفور في مسجد القيروان (من صورة فوتوغرافية).

وقامت بأمور إفريقية دولٌ بربرية مستقلة حتى الفتح التركي الذي وقع في القرن السادس عشر من الميلاد، ولم يلبث ذلك الاستقلال البربري أن صار شؤمًا على إفريقية، فقد انقسم البربر إلى زُمَرٍ لا تحصى تَبَعًا لغريزتهم التي كانت تمنعهم من تأليف أمة كبيرة، وقامت في إفريقية دويلات كثيرة مستقلة متقاتلة قيامًا لم تَرَ إفريقية معه سوى بصيصٍ من الحضارة.

ولا يمكننا أن نُقَدِّر طبيعة تأثير العرب في إفريقية إلا إذا تذكرنا أن لفتوحهم دورين مختلفين كل الاختلاف، وأن لهذين الدورين نتائج إثنوغرافية مختلفة كثيرًا.

والدورُ الأول هو دور الفتوح الأولى التي تمَّت في القرن السابع من الميلاد، ولم تخرج عن كونها احتلالًا عسكريًّا محدودًا جدًّا.

ولو اقتصر العرب في إفريقية على ذلك الاحتلال؛ لاستغرقتهم جموع البربر في بضعة أجيال كما حدث لهم في مصر، ولكان أثرُهم في التمدن لا في الدم.

بيدَ أنه كان للغارة العظيمة الجديدة التي شنَّها العرب شأنٌ آخر، فلما حشر العرب جموعًا كثيرة في إفريقية حَوَّلوا فريقًا كبيرًا من البربر إلى عرب.

وتدفق العرب كالسيل على إفريقية في أواسط القرن الحادي عشر، أي في وقت كان البربر قد استردوا فيه استقلالهم تقريبًا، واستقروا بشمالها، ودحروا البربر إلى جبال التل وإلى البقاع الجنوبية.

fig114
شكل ٥-١٠: محراب مسجد سيدي الحبيب في القيروان (من صورة فوتوغرافية).

وقام بذلك الغزو أعرابُ الحجاز الذين كانوا يقطُنون بمصر العليا في زمن الخلفاء الفاطميين، والذين بلغ ما قاموا به من أعمال السلب والنهب مبلغًا أصبحت الإقامةُ بها لا تطاق معه، فعزم الخليفة المستنصر على الخلاص منهم بحضِّهم على بربر إفريقية وإغرائهم بهم.

وكان الأمر غارةَ أمة، لا غارةً عسكرية، فقد ظَعَن أولئك العرب رجالًا وأولادًا ونساءً وقِطاعًا عن مصر، وروى بعض علماء العرب أن عدد الظاعنين كان مليونًا، وروى بعض آخر أن عددهم كان نحو ٢٥٠٠٠٠، والذي أراه أن الغارة الأولى لم تَلبث أن رَدَفَتها غاراتٌ كثيرة أخرى.

وتمَّت تلك الهجرة ببطء، ولم يملأ العرب شمال إفريقية إلا بالتدريج، فقد جاوز العرب طرابلس الغرب بعد أن مكثوا بها سنتين، وزحفوا خطوةً خطوةً، ووَلَجوا في الأودية جماعات على مَهْل، واختلطوا بالسكان رويدًا رويدًا، وزاد عددهم شيئًا فشيئًا، وفرضوا، بفضل كثرتهم، على البربر عاداتهم ودينهم ولغتهم بعد بضعة أجيال، ولم يتركوا لأُمراء البربر سوى سلطة وهمية، ولم يتفَلَّت من نفوذهم غير القبائل التي دُحرت إلى جبال التلِّ وبعض البقاع الجنوبية.

ولم تؤدِّ تلك الغارات إلى نتائج مدنيةٍ عمرانية؛ ففي إفريقية حافظ أعراب جزيرة العرب أولئك على جَلَفهم الذي هو نقيض كل ثقافة جِدِّية، وأخذت تلك الحضارة، التي كادت تلمع، تَذْوِي بسرعة.

ولم يؤدِّ ما كان يقع بين القبائل من الفِتن والفساد، وما كان يقع بين الدويلات المستقلة المتناظرة من القتال، إلى غير الانحطاط السريع، فلما ظهر الترك في القرن السادس عشر أمام الجزائر لم يَصْعُب عليهم فتحُ شمال إفريقية بسرعة.

ومراكش وحدها هي التي حافظت على استقلالها العربي حتى الوقت الحاضر، ولكن مراكش لم تصُن نفسها من الانحطاط الذي عمَّ جميع ولاياتها شيئًا فشيئًا، فقد أصاب الوهن مدينة فاس التي كانت منافسة لبغداد في القرن العاشر، والتي رَوَى مؤرخو العرب أن عدد نفوسها كان خمسمائة ألف، وأنها كانت تشتمل على ثمانمائة مسجد ومكتبة عامة زاخرة بالمخطوطات اليونانية واللاتينية، وأضحى سكان مراكش الذين قُدِّر عددهم الآن بستة ملايين شخص، أو سبعة ملايين شخص، من مولدي العرب والبربر والزنوج.

(٣) مباني العرب في شمال إفريقية

لم تُصِب حضارة العرب في إفريقية ما أصابته من الازدهار في مصر والأندلس، وكان للعرب في إفريقية، مع ذلك، مدنٌ مهمة وبعض مبانٍ ذات قيمة، ولا سيما في زمن الأغالبة، وأنشأ العرب في إفريقية مدنًا كالقيروان وتونس وفاس، وجَدَّدوا مدنًا قديمة كتِلْمِسَان وبجايَة والجزائر … إلخ، ولم تكن نضارة تلك المدن غير مؤقتة، ولم يكن تنافس البربر وقلة استعدادهم للتمدن، وغارات أعراب العرب، وفقدان المراكز المهمة كبغداد في المشرق والقاهرة في مصر — مساعدًا على تقدم الحضارة في إفريقية، ولا ينتظرنَّ القارئ، إذن، بيانًا عن مبانٍ عربية مبتكرة ثمينة في إفريقية الشمالية كالتي في الأندلس ومصر، وسيرى القارئ في الفصل الذي خصصناه للبحث في تاريخ فنِّ العمارة العربي أن عرب إفريقية لم يُوفَّقوا في فنهم للتحرر من النفوذ البزنطي.

fig115
شكل ٥-١١: داخل مسجد سيدي أبي مَدْيَن في تلمسان (من صورة فوتوغرافية).
fig116
شكل ٥-١٢: مقدم الجامع الكبير في الجزائر.

والآن نكتفي بذكر أهم مباني العرب الأثرية مختارين من مبانيهم الدينية ما سمح الدهر ببقائه في شمال إفريقية كما صنعناه سابقًا.

(٣-١) جامع القيروان

أنشأ فاتح إفريقية الشهير عقبة بن نافع مدينة القيروان، وبَنَى فيها، في سنة (٥٥ﻫ / ٦٧٥م) جامعها الكبير المربع الذي جُدِّد بناؤه عدة مرات فيما بعد، ولا سيما في سنة (٢٠٥ﻫ / ٨٢٠م) والذي تعلوه قبابٌ منخفضة، ويحيط به سورٌ، وتُشرف عليه مئذنة كبيرة مربَّعة عريضة القاعدة ذات ثلاث طبقات متفاوتة الاتساع، وذاع طراز هذه المئذنة المربعة في إفريقية الشمالية، وكان شائعًا في الأندلس على الأرجح.

ولجامع القيروان الكبير وآثارها الدينية الأخرى قيمة أثرية كبيرة مع ما نالته من التجديد والترميم غير مرة كما نذكر ذلك في فصل آخر، ولم تُنشر صور هذه المباني، التي لم يزُرْها الأوربيون إلا في الزمن الأخير، في أي كتاب حتى الآن.

ودُفن عقبة بن نافع، الذي أنشأ القَيروان، بالقرب من بِسكرة، ويُعَدُّ مسجد «سيدي عقبة» الذي يَضمُّ قبرَه، أقدم المباني الإسلامية في إفريقية، ولهذا المسجد مئذنةٌ مربعة.

(٣-٢) مسجد سيدي أبي مَدْيَن في تِلْمسان

كانت تِلمسان عاصمة المغرب الأوسط فيما مضى، وبُني مسجدها في سنة (٧٣٩ﻫ / ١٣٨٨م) وتم إنشاء المدرسة التابعة لهذا المسجد في سنة ٧٤٧ﻫ، وتُعدُّ هذه المدرسة من أهم المباني التي من نوعها في إفريقية حتى الآن، وكانت تُدرَّس العلوم والتاريخ فيها أيام ارتقاء العرب، ويمكن القارئ أن يتمثَّل فنَّ عمارتها من الصورة التي نشرناها في هذا الكتاب.

(٣-٣) مساجد الجزائر

تكاد مساجد الجزائر تكون عصرية، ولذا فليس فيها ما يستحق البحث، وأهم ما فيها مسجدها الجامع الكبير الذي أقيم في القرن العاشر من الميلاد، والذي أصابته يدُ التغيير في مختلف الأزمنة، فبُنيت مئذنته المربعة في القرن الرابع عشر من الميلاد.

fig117
شكل ٥-١٣: مئذنة المسجد الكبير في طنجة (من صورة فوتوغرافية).

وليس في داخل هذا المسجد الجامع الكبير الذي كُلِّس في الوقت الحاضر شيءٌ من الزينة، وتقوم أقواسه التي يستند إليها سقفه على أعمدة مربعة، وأُنشئت هذه الأقواس المُفرَّضُ كثيرٌ منها على شكل نعل الفرس ورسم البيكارين.

ويحيط بأحد وجوه هذا المسجد الجامع الكبير رُواقٌ جميلٌ مؤلفٌ من أقواس محزَّزة، وصُنعت هذه الأقواس على شكل نعل الفرس، ورسم البيكارين كالأقواس السابقة، وتقوم هذه الأقواس على أعمدة من الرخام؛ ويذكرنا ذلك الرواق، الذي أقيم بعد بناء ذلك المسجد الجامع بزمن طويل، بأعمدة رواقات القصر الداخلية في أشبيلية.

وإذا ما استثنيت ذلك المسجد الجامع لم تَرَ في الجزائر من المباني ما يَجدر ذكره سوى المزار الذي يضمُّ رُفات عبد الرحمن والمسمى باسمه، والذي بُني في القرن الخامس عشر من غير أن يكون على شيء من الإبداع مع هَيَفه.

(٣-٤) مساجد مراكش

يرى الإنسان في مراكش مساجد جميلة كثيرة، ولا سيما مسجد مولاي إدريس ومسجد القرويين في فاس، ولهذا المسجد شهرة عظيمة في تلك الديار، وهو يشتمل على ٢٧٠ عمودًا و١٦ صحنًا، ويشتمل كلُّ واحد من هذه الصحون على عشرين قوسًا، ولا يستطيع الأوربي أن يدخله من غير أن يُعَرِّض نفسه للقتل.

وأقيم أكثر مساجد مراكش على طراز مساجد إفريقية الشمالية، وهي مثلها ذاتُ مآذن مربعةٍ يَنْدُر نظيرها في مصر، وعلى هذا الطراز رُفعت في طنجة مئذنة الجامع الكبير، والتي ننشر صورةً لها في هذا الكتاب؛ فيمكن القارئ أن يتمثل بها ما أقيم على طِرازها.

fig118
شكل ٥-١٤: منظر مدينة طنجة العام (من صورة فوتوغرافية).

ولا يُرى في مراكش من المباني العربية المهمة سوى عدد قليل من المساجد، وإنما يُرى فيها من العادات والأزياء والمظاهر الشرقية ما يندر مِثلُه في بلد آخر، ويجب على من يَرغب في اجتلاء حياة العرب في عصر الخلفاء أن يزورها؛ ففيها يرى السائح ما لا يراه في بلاد الجزائر وسورية المائلة إلى التفرنج خلا دمشق.

وإنني أنصح لرجال الفن أن يطوفوا في بلاد مراكش التي لا تَصْعُب السياحة فيها، والسائح المحب للفن الذي يقلُّه القطار فيقطع فرنسة وإسپانية في بضعة أيام، ثم تستقلُّه الباخرة من مَالَقَةَ يصل إلى مدينة جبل طارق الإنكليزية الغبراء الكالحة، ولا يأسف لبُعْد إنكلترة من هنالك؛ لما يراه بعد رحلة بحرية تدوم بضع ساعات من الفرق في مدينة طنجة المراكشية حيث يقضي العجب.

حقًّا إن مدينة جبل طارق عنوان الحياة المدنية العصرية، وإن مدينة طنجة ذات المساكن البيض والأهلين البُلْق٣ والحكام الحَزَمة عنوانُ الحياة العربية منذ ألف سنة، وتثير مناظرُ مساجد مدينة طنجة العجيبة ومآذنها وأبراجها المشرفة، وأسواق نخاستها ونسائها المتحجبات وعربِها المدَّثرين بأبهى الملابس في السائح بعض ما جاء في رواية ألف ليلة وليلة كما لو وَقَعَ هذا بقدرة ساحر، وتتجلى للسائح حقيقة تلك الرواية كلما سار في مدينة طنجة القديمة التي تقول الأساطير: إن هِرْكُول بانيها، فكانت شهيرةً في عهد أمير المؤمنين هارون الرشيد، أي في عهد هذا المعاصر الشهير للقيصر شارلمان الكبير.

هوامش

(١) الخنس: تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع في الأرنبة.
(٢) رأيت في مجموعة المصنوعات التي أحضرها مسيو دوويفالفي من آسية الوسطى أشياء مماثلة لما يصنعه البربر المعروفون بالقبائل، فمن المحتمل أن تكون قد اقتبست حين كانت بلاد الهند ذات صلات بإفريقية أيام دولة العرب.
(٣) الأبلق: من كان في لونه بياض وسواد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤