الفصل الثامن

اصطراع النصرانية والإسلام

الحروب الصليبية

(١) منشأ الحروب الصليبية

كان سلطان العرب السياسيُّ في أواخر القرن الحادي عشر من الميلاد، أي في الدور الأول من الحروب الصليبية، في طور الانحطاط، وإن لم يَذْوِ نفوذ اسمهم في العالم، فقد كانت إفريقية وإسپانية قبضتَهم، ولم يتقادم بعدُ الزمن الذي كانوا فيه سادة البحر المتوسط وسادة جزء من فرنسة وملوكًا لصقلية، والذي أوغلوا فيه حتى رومة فأكرهوا البابا على دفع جزية إليهم، ولم يَصِل قياصرة الرومان في إبان مجدهم إلى ما وصل إليه اسم محمد من إلقاء الرعب في برابرة أوربة، فهجوم أوربة النصرانية على الإسلام الذي كانت فرائص العالم ترتجف فَرَقًا منه منذ خمسة قرون، وذلك في عُقر داره، من الأعمال العظيمة التي كانت تتطلب حماسةً دينيةً بالغة، واعتمادًا كبيرًا على الرب، وجيشًا مؤلفًا من مليون جندي.

وكلٌّ يعلم كيف أجاب العالَم النصراني دعوة ذلك المجذوب، وكيف انقضَّت أممٌ على الشرق، وكيف أن سَوْق تلك الجيوش الهائلة لم يؤدِّ إلى غير نصرٍ وهميٍّ، وكيف فُلَّت عزيمة مجاهدي النصارى الذين لم ينقطع سيلهم مُدَّةَ قرنين من أجل فتح القدس، والمحافظة عليها أمام هلال الإسلام.

واصطلح الناس على تسمية ذلك الصراع بين النصرانية والإسلام بالحروب الصليبية، وكان لتلك الحروب نتائجُ مهمةٌ في تاريخ حضارة أوربة العامِّ، وليس من الجائز أن نصمُت عنها إذن في هذا الكتاب الذي لم نقتصر فيه على بيان حضارة العرب وحدها، بل عزمنا فيه على درس تأثيرهم في العالم أيضًا.

ولنَقُل كلمة عن حال الغرب والشرق في زمن الحروب الصليبية.

كانت أوربة، ولا سيما فرنسة، في القرن الحادي عشر الذي جُرِّدت فيه الحملة الصليبية الأولى في أشد أدوار التاريخ ظلامًا، وكان النظام الإقطاعي يأكل فرنسة، وكانت مملوءة بالحصون التي كان أصحابها، وهم من أنصاف البرابرة، يقتتلون دائمًا ولا يملكون سوى أناس من العبيد الجُهَّال، ولم يكن في ذلك الحين نفوذٌ شامل لسوى البابا، وكان الناس يَخْشَون البابا أكثر من احترامهم له.

وكانت دولة الروم في الشرق قائمة، وكانت القسطنطينية، مع انحطاطها، عاصمة لدولة كبيرة، وكانت ميدانًا للمنازعات الدينية وأنواع المشاحنات، وكانت تخسَر كلَّ يوم جزءًا من أملاكها، فضلًا عن انطفاء سلطانها في إيطالية، وكان كلٌّ من بابا رومة وبطرِك بزنطة قد حَرَم الآخر فصار للنصارى كنيستان.

وكان قسمٌ من سورية تابعًا للترك السلجوقيين، وكان القسم الآخر تابعًا لسلاطين مصر، ولم يكن الخليفة ببغداد غيرَ شبحٍ، وكانت دولة العرب السياسية في دور الانحلال مع محافظة حضارتهم على سلطانها، ولم يكن الصراعُ العظيم الذي كان يتمخض عنه العالم، إذن، غير نزاعٍ عظيم بين أقوام من الهمج وحضارةٍ تُعَد من أرقى الحضارات التي عرفها التاريخ.

وكانت الصلات بين أوربة والشرق مقصورةً على زيارة حجيج النصارى لفلسطين في ذلك الدور، وواظب النصارى على زيارة فلسطين مع زيادةٍ منذ زمن قسطنطين، ولا سيما منذ حَسُنَت العلاقات بين هارون الرشيد وشارلمان.

وزاد عدد زيارات النصارى لفلسطين مع الزمن، وكان يتألف من بعض قوافل حجاج النصارى جيشٌ حقيقيٌّ، ومن ذلك أن استصحب الأبُ ريشارد سبعمائة حاج في سنة ١٠٤٥م، ولم يستطع أن يصل إلى ما هو أبعد من قبرس، ومن ذلك أن رئيس أساقفة مايانس، سيغفروا، وأربعةُ أساقفةٍ يقودون قافلةً من سبعة آلاف حاج في سنة ١٠٦٤م ومشتملة على بارونات وفرسان، فحاربت هذه القافلة الأعراب والتركمان.

وما كان يَعْتَوِر زيارات القدس من المصاعب والمخاطر أوجب فَرْضَ الإكليروس لها عادِّين إياها مُكفِّرةً عن أسوأ الجرائم، وما كان عدد أكابر المجرمين قليلًا في ذلك الزمن، وما كان خوف جهنم والشيطان ضئيلًا في نفوس البرابرة، فزاد عدد الحجيج لهذا السبب، وأنت إذا ما عَدَوْت بعض المغامرين والأتقياء الحُمْسِ وجدت أولئك الحجاج مؤلفين، على العموم، من أسفل المجرمين المفطورين على أخطر الجرائم، والذين ما كان غيرُ الفزع من النار ليدفعهم إلى قصد تلك البلاد البعيدة.

fig148
شكل ٨-١: باب دمشق في القدس (من صورة فوتوغرافية).

وكان عدد حجيح النصارى يزيد كلَّ يوم، وكان ضجيجهم يزيد على ما كان عليه، وكان التركمان الذين قاموا مقام العرب في سورية أقل تسامحًا من العرب، فجادل هؤلاء التركمان أولئك النصارى في حقِّ المرور من وسط البلاد الإسلامية بلا إذنٍ إيفاءً لزيارة بيت المقدس، وأكرهوا حجيج النصارى على دخول القدس بخشوع بدلًا من أن يسمحوا لهم بدخولها ظافرين على صَوت الصُّنُوج وضوء المشاعل كما كان العرب يسمحون به، وأخذوا يحمِلُونهم على دفع الفِدَى غيرَ تاركين وسيلة لإيذائهم إلا أَتَوْها.

وحدث أن جاء لزيارة بيت المقدس جندي قديم كان قد تَرَهَّب بعد أن طرأ على حياته الروحية ما كدَّر صفوه، وكان اسم هذا المجذوب المتعصب النشيط بطرس، فأضاف التاريخ إلى اسمه لقب «الناسك».

واشتاط بطرسُ الناسك غيظًا من سوء ما عومل به في فلسطين، وغاص بطرس الناسك في بحر من الأحلام فرأى أنه مرسل لدعوة أوربة إلى إنجاد الأرض المقدسة.

وملكت هذه الأوهام مشاعره فتوجه إلى رومة ليستعين بالبابا، فأذن له الباب أوربان الثاني في دعوة النصارى إلى إنقاذ الأماكن المقدسة، فصار يجوب بلاد إيطالية وفرنسة، ويُلقي الخطب النارية ممزوجةً بالبكاء والعويل وصبِّ اللعنات على الكافرين، وبوعد الرب للذين يزحفون لإنقاذ قبر المسيح بالمغفرة، وتؤثِّر فصاحته التمثيلية الخيالية في قلوب الجموع، ويَعُدُّه الناس نبيًّا في كل مكان.

ولم تكن الجموع التي ألهبها بطرس الناسك لتستطيع عمل شيء وحدها، وإنما حدث ما حفز السنيورات الذين كانوا سادةً للجموع إلى دَعم تلك الحركة، وذلك أن قيصر الروم، ألكسيس كومنين، الذي كانت دولته تخسَر كل يوم قطعةً من أملاكها، استغاث بالبابا وملوك أوربة حينما حاصر الترك القسطنطينية، فأقام ذلك العالم النصراني وأقعده بالإضافة إلى مواعظ بطرس الناسك.

ورأى البابا أن يُشجِّع تلك الحركة، فعقد في إيطالية مؤتمرًا دينيًّا لم يُسفر عن نتيجة، ثم عقد في سنة ١٠٩٥م مؤتمرًا ثانيًا في كليرمون بأُوڨِرْن، وحضر بطرس الناسك هذا المؤتمر الأخير، وتحالف المؤتَمِرُون، تلبيةً لدعوته الصارمة وترديد الجموع الهائجة لكلمة: «الربُّ يريد ذلك!» على الزحف إلى فلسطين لإنقاذ قبر الرب مُلصِقين الصلبان على أكتافهم، وأجمع المؤتَمِرُون على أن يُبدأ بالزحف في عيد انتقال العذراء من السنة القادمة حتى يَجْمَع أولياء الأمور جيشًا كبيرًا قادرًا على القيام بذلك.

(٢) خلاصة الحروب الصليبية

نشأ عن عزم القوم على غزو فلسطين اشتعالُ النفوس حميَّةً، وصار كل واحد يرجو إصلاح حاله، فضلًا عما يناله في ملكوت السماوات، فغدا العبيد يطمعون في فك رقابهم، وغدا أبناء الأُسر الذين حُرِموا الميراثَ بسبب نظام البِكْرِية والسنيورات الذين كانت قِسْمَتُهم ضِئْزَى١ يطمعون في الاغتناء، وغدا الرهبان الذين أضنَتهم حياة الأديار وجميعُ المحرومين طيبَ العيش، وكان عددهم كبيرًا يُعلِّلون أنفسهم بأطيب الأماني.

حقًّا لقد أصاب القومَ نوبةٌ حادة من الجنون، فرغِب السنيورات والعبيد والرهبان والنساء والأولاد وجميع الناس في الزحف، وأخذ كلُّ امرئ يبيع ما يملك ليتجهَّز، واستعد من الرجال ١٣٠٠٠٠ مقاتل لغزو فلسطين حالًا.

fig149
شكل ٨-٢: قسم من أسوار القدس (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

وكانت تلك النوبة تزيد حدة كلَّ يوم، ولم يرغب الذين بكَّروا في انتظار تأليف جيش منظَّم، وما كاد ربيع سنة ١٠٩٦م يحل حتى توجهت عصاباتٌ كبيرة من كل صوب وحدب إلى نهر الدانوب.

وكانت الحركة شاملةً ما بين بحر الشمال ونهر التِّيبِر، وكانت تَجْرُف سكان بعض القرى آخذين ما عندهم من الأموال، وكانت أوربة كلُّها تَنْقَضُّ على آسية.

وكلما اقتربت تلك العصابات من هدفها المأمول زادت جنونًا، ودارت المعجزاتُ والكرامات في أدمغتها المشتعلة التي طارت منها العقول إلى الأبد.

وكان بطرس الناسك والفارس الفقير غوتيه على رأس أهمِّ العصابات الزاحفة إلى الشرق، وأُكرمت هذه العصابات في البلدان الأوربية التي كانت تمرُّ منها في بدء الأمر، ولكنها لم تكَد تصل إلى بلغارية حتى التقت بأناس من ضعاف الإيمان أَبَوا أن يُضيِّفوهم مجانًا، وساء هذا الرفض الصليبيين، ولم يُحجموا عن اغتصاب ما مُنِعوه، وعن نهب قُرى تلك البلاد وذبح أهليها، ولم يصبِر الأهلون على ذلك فأخذوا ينتقمون ويقتلون فريقًا كبيرًا منهم أو يُغرقونه، وجَدَّ الصليبيون في طلب النجاة بسرعة، وبلغوا القسطنطينية ناقصي العدد، ووجدوا فيها عصابات من التوتون والطلاينة والغَسْكون والغول والپروڨَنسيين كانت قد سبقتهم إليها، وهنالك انضمَّ هؤلاء إلى أولئك، وأخذوا يقتلون وينهبون، ويأتون ما يفوق الوصف من الأعمال الوحشية، ويَعْزِم البزنطيون على التخلص منهم، وينقلونهم بالسفن إلى ما وراء البُسْفور.

وبلغ عدد من سِيقَ من الصليبيين إلى آسية الصغرى على ذلك الوجه مائة ألف، واقترف هؤلاء من الجرائم نحوَ المسلمين والنصارى ما لا يصدر عن غير المجانين من الأعمال الوحشية، وكان من أحبِّ ضروب اللهو إليهم قتلُ من يلاقون من الأطفال وتقطيعهم إربًا إربًا وشيُّهم كما رَوَت آن كومنينُ بنت قيصر الروم.

وكان من حقوق الترك أن يقابلوهم بالمثل، ولذا صار الترك يتصيَّدونهم كما يتصيدون الحيوانات المفترسة مقيمين من عظامهم هرمًا عظيمًا.

ولم يلبث جيش الصليبيين الأول المؤلَّف من مئات الألوف أن أُبِيد، وإنما كانت تأتي من خلفه فيالقُ منظمة تامة العدة مؤلفةٌ من سبعمائة ألف مقاتل بقيادة أقوى السنيورات، أي كان يأتي من الفيالق ما لم يسبق للعرب أن جمعوا جيشًا لَجِبًا مثله.

ومن هذه الفيالق نذكُر الفيلق الذي كان يقوده دوك اللورين الدُّنيا، غودوفروا البُويُونيُّ، والذي كان مؤلفًا من ثمانين ألف مقاتل من سكان اللورين وباڨارية وسكسونية.

وحاصر الصليبيون مدينة إزنيق الواقعة في آسية الصغرى، وهزموا جيشًا تركيًّا، وقطعوا رؤوس جرحى الترك وربطوها بسروج خيولهم وعادوا إلى معسكرهم، ثم رموها إلى تلك المدينة التي كانت محاصرةً.

ولم يكن ذلك مما يُرضي الأهلين، فسلَّم الأهلون — الذين عَلِموا ماذا كان ينتظرهم — أَمْرَ أنفسِهم إلى القيصر بالقسطنطينية، فاضطُرَّ حلفاؤه الصليبيون إلى القتال مُرتدين.

وَبَقِي على الصليبيين أن يقطعوا نحو مئتي فرسخ ليصلوا إلى سورية، وكان همهم مصروفًا إلى الاغتناء، ولم يُحسنوا سياسة الأهلين، وخرَّبوا البلاد، وكشَّر الجوع لهم عن أنيابه، واضطرب حبل نظامهم، وتفرقوا، وتقاتل من قادتهم القائدان المهمَّان: تانكريد وبودوين، ثم انفصل بودوين عن رفقائه هو وفيلقُه كي يَسْلُب ويحارب لحساب نفسه.

وفتكت الأمراض والمجاعة بالصليبيين فتكًا ذريعًا، وقَنِط بطرس الناسك من النصر وفَرَّ من المعسكر، وأُعيد إليه، فاستقبله تانكريد بضرب العِصِيِّ.

ودبَّت الفوضى في مفاصل الجيش الصليبي، وشاع التجسس فيه، وأمر بوهيموند بتقطيع الجواسيس وطهيهم وإطعامهم للجنود الجائعين، فتدابير كهذه تخبرنا عن حال جيش اضطر إلى اتخاذها.

ويدلُّ سلوك الصليبيين في جميع المعارك على أنهم من أشد الوحوش حماقةً، فقد كانوا لا يُفَرقون بين الحلفاء والأعداء، والأهلين العُزْلِ والمحاربين، والنساء والشيوخ والأطفال، وقد كانوا يقتلون وينهبون على غير هدى.

ونرى في كل صفحةٍ من الكتب التي ألَّفها مؤرخو النصارى في ذلك الزمن براهين على توحش الصليبيين، ويكفي لبيان ذلك أن ننقل الخبر الآتي الذي رواه الشاهد الراهب روبرت عن سلوك الصليبيين في مدينة مارات للدلالة على سياسة الصليبيين الحربية، وذلك بالإضافة إلى ما حدث حين الاستيلاء على القدس، قال المؤرخ الراهب التقيُّ روبرت:

وكان قومنا يَجُوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت؛ ليُرْوُوا غليلهم من التقتيل، وذلك كاللَّبُؤَات التي خُطِفت صغارها، وكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ ويقطعونهم إربًا إربًا، وكانوا لا يستبقون إنسانًا، وكانوا يشنقون أناسًا كثيرين بحبل واحد بُغْيَة السرعة، فيا للعجب ويا للغرابة أن تُذبح تلك الجماعة الكبيرة المسلحة بأمضى سلاح من غير أن تقاوِم! وكان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه؛ فيبقرون بطون الموتى ليُخرِجوا منها قطعًا ذهبية، فيا للشره وحب الذهب! وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطَّاة بالجثث، فيا لتلك الشعوب العُمْي المُعَدَّة للقتل! ولم يكن بين تلك الجماعة الكبرى واحدٌ ليرضى بالنصرانية دينًا، ثم أحضر بوهيموند جميع الذين اعتقلهم في برج القصر، وأمر بضرب رقابِ عجائزهم وشيوخهم وضعافهم، وبِسَوْق فتيانهم وكهولهم إلى أنطاقية لكي يباعوا فيها، وحدث قتل الترك ذلك في يوم الأحد الموافق ١٢ من ديسمبر، وإذ لم يمكن إنجاز كل شيء في ذلك اليوم قَتَل قومُنا ما بقي من أولئك في اليوم التالي.

وليس من العسير أن ندرك رأي الشرقيين المتمدنين في أولئك، فتواريخُهم مملوءةٌ بما كانوا يوحون به إليهم من الاحتقار العظيم، قال الشاعر الفارسيُّ الكبير سعدي بعد زمن: «لا يستحق أولئك أن يُسَمُّو بشرًا.»

وكان عدد الصليبيين مليون شخص حينما خرجوا من أوربة، فأخذت المجاعة والأوبئة والدعارة والوقائع والمنازعاتُ تُبيد هذا الجيشَ العظيم الذي كان يمكنه فتح العالم لو أُلِّف من أناس آخرين، ولم يبقَ منه عند بلوغه القدس سوى عشرين ألفًا.

وكانت القدس تابعة، في ذلك الحين، لسلطان مصر الذي استردها من الترك فاستولى عليها الصليبيون في ١٥ من يوليه سنة ١٠٩٩م، وقد جاء في الأقاصيص أن القديس جورج تراءى للصليبيين من جبل الزيتون، وأنه حَرَّضهم على القتال فانقضوا على أسوار القدس واقتحموها.

وكان سلوك الصليبيين حين دخلوا القدس غيرَ سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب نحو النصارى حين دخلها منذ بضعة قرون، قال كاهن مدينة لُوپوِي، رِيمُوند داجِيل:

حدث ما هو عجيب بين العرب (!) عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها، فقد قُطِعت رءوس بعضهم، فكان هذا أقل ما يمكن أن يصيبهم (!) وبُقرت بطون بعضهم، فكانوا يُضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار، وحُرِق بعضهم في النار فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكان لا يُرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رءوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمرُّ المرء إلا على جُثَث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا …

fig150
شكل ٨-٣: منظر القدس (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وروى ذلك الكاهن الحليم خبرَ ذبح عشرة آلاف مسلم في مسجد عمر، فعرض الوصف اللطيف الآتي:

لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهنالك، وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها، فإذا ما اتصلت ذراعٌ بجسم لم يُعرف أصلها، وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة لا يُطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلا بمشقة.

ولم يكتفِ الفرسان الصليبيون الأتقياء بذلك، فعقدوا مؤتمرًا أجمعوا فيه على إبادة جميع سكان القدس، من المسلمين واليهود وخوارج النصارى، الذين كان عددهم نحو ستين ألفًا فأفْنَوْهم على بَكْرَة أبيهم في ثمانية أيام، ولم يستثنوا منهم امرأةً ولا ولدًا ولا شيخًا.

وأراد الصليبيون أن يستريحوا من عناء تذبيح أهل القدس قاطبةً، فانهمكوا في كل ما يستقذره الإنسان من ضروب السُّكر والعربدة، واغتاظ مؤرخو النصارى أنفسهم من سلوك حُماة النصرانية مع اتصاف هؤلاء المؤرخين بروح الإغضاء والتساهل، فنعتهم برنارد الخازن بالمجانين، وشبَّههم بودان الذي كان رئيس أساقفة دُولَ، بالفُرُوس التي تتمرغ في الأقذار.

fig151
شكل ٨-٤: الحرم الشريف في القدس، وفيه ترى ساحة جامع عمر في الوقت الحاضر وساحة هيكل سليمان فيما مضى (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

وهاج العالم الإسلاميُّ من استيلاء الصليبيين على القدس كما هاج العالم النصراني، ولاح، لوقتٍ قصير، تَضَعْضُع نفوذ أتباع النبي الذي تأصل منذ خمسة قرون، وتناسى المسلمون جميع عوامل الانقسام الذي كان يَفُتُّ في عضدهم مع ما أحدثه ذلك الاستيلاء من الذُّعر الكبير فيهم، وأغْضَى سلطان القاهرة عن منافسته لخليفة بغداد فتبادلا السفراء للبحث في عمل ما يجب لتلافي تلك المصيبة.

أجل، لقد خسر النصارى مليون رجل، وخَرِب بعض أوربة في سبيل فتح القدس، وكان النصارى يَرجُون أن يحتفظوا بثمرة هذا الفتح العزيز، غيرَ أن أملهم خاب، فلم يَلبَث المسلمون أن استردوا القدس، وعادت القدس إلى حظيرة الإسلام إلى الأبد.

واختِيرَ غودفروا ملكًا على القدس لشجاعته التي أقام الدليل عليها، ولكن الشجاعة لا تكفي لتنظيم دولة، فقد كان غودفروا عاجزًا عن إدارة شؤون دولته الفَتيَّة مع شدة بأسه، ثم مات غودفروا بعد زمن قليل، ولم يكن خليفته بودوان أقدر منه على تدبير أمور الحكم.

وكان قد مضى على وجود الفَرَنج في فلسطين عشرون سنة حينما توفِّي بودوان في سنة ١١١٩م، ولم ينشأ عن حكم الفرنج لها سوى خرابها وإقفارها، وكان من نتائج هذا الحكم أن عرفت البلاد نظام الإقطاع كما في أوربة، وأن قُسِّمت إلى الإمارات الإقطاعية المتقاتلة على الدوام: طرابلس وعسقلان ويافا … إلخ، ولم يلبث طغاتُها الصُّغراء الذين لم يكونوا ليفكروا في غير الاغتناء أن خربوها بعد أن كانت زاهرةً أيام الحكم العربي الرشيد، وإليك ما قاله أُسقُف عكا الصليبيُّ جاك دوڨِيتْرِي عن أنباء الصليبيين الأولين، وذلك في تاريخه عن القدس:
خرج من الصليبيين الأولين الأتقياء المتدينين جيلٌ من الفَجَرة الأشرار الفاسدين المنحلين الفاسقين كما يَخرُج الثُّفْل من السُّلاف٢ والدُّردِيُّ٣ من الزيت والشَّيْلَمُ٤ من البُرِّ والصدأ من القُلُزِّ٥ … وكان هؤلاء الأبناء يختصمون ويقتتلون لأتفه الأسباب، حتى إن بعضَهم كان يستعين على بعضٍ بأعداء النصارى في الغالب … وكان لا يُرَى منهم في أرض الميعاد غيرُ الزنادقة والملحدين واللصوص والزُّناة والقتلة والخائنين والمهرِّجين والرهبان الدُّعَّار والراهبات العواهر.

ولم يكن غليوم الصوريُّ أقل صراحةً من ذلك، فقد قال، بعد أن وصم أبناء الصليبيين بأنهم «من السفهاء الفاسدين والملاحدة الفاسقين»: «تلك هي رذائلهم الوحشية التي لو أراد كاتبٌ أن يصفها؛ لخرج من طور المؤرخ ليدخل في طور القادح الهاجي.»

وبينا كان النصارى يُخَرِّبون القدس كان المسلمون يستردون بالتدريج، ما خَسِروه، وقد أورث تقدمُهم في سورية واستيلاؤهم على الرُّها (أورفةَ) هَلَعًا في قلوب النصارى بفلسطين، فاستغاث النصارى بأوربة.

ونُظِّمَت حملةٌ صليبيةٌ ثانية لإمداد أولئك، ونجح سان برنارد في إيقاد نار التعصب الديني، فقد تَوَجَّه ملك فرنسة لويس السابع على رأس الحملة الصليبية الجديدة إلى فلسطين، وتَبِعه الملك الألماني كونارد الثالث، غير أن جيش لويس السابع الذي كان عددُه مائة ألف مقاتل لم يكد يصل إلى آسية الصغرى حتى أبيد على بَكْرَة أبيه، ففرَّ لويس السابع بطريق البحر ليذهب إلى أنطاكية، ويَتَوجَّه منها إلى القدس كحاجٍّ عاديٍّ، وما كان جيش كونارد الثالث أوفر حظًا من جيش لويس السابع.

ولم يَبْدُ سلوك الصليبيين في هذه الحملة الثانية أحسن من سلوك رجال الحملة الصليبية الأولى، قال الكاهن أنكِتِيل في تاريخه: «قلما كان يُوجدُ صليبي يسير بوحي ديني، فلم يترك أولئك الصليبيون جرائم وحشيةً وضربًا من قَطْع الطرق وفضائح مُزرية إلا اقترفوها»، وعزا سان برنارد ذلك الحبوط إلى ما ارتكبه هؤلاء الصليبيون من تلك المظالم.

وتمَّ طرد الصليبيين من القدس على يد السلطان صلاح الدين الأيوبيِّ الشهير، وذلك أن صلاح الدين دخل سورية بعد أن أصبحت مصر وجزيرة العرب والعراق قبضته، وأنه غلب ملك القدس الأسيف غِي دُولُوزِينْيَان، وأَسَرَه، واسترد القدس في سنة ١١٨٧م.

ولم يشأ السلطان صلاح الدين أن يفعل في الصليبيين مثل ما فعله الصليبيون الأولون من ضروب التوحش فيُبِيدَ النصارى على بكرة أبيهم، فقد اكتفى بفرض جِزيةٍ طفيفة عليهم مانعًا سلب شيء منهم.

قُضيَ على مملكة القدس اللاتينية بعد أن عاشت ٨٨ سنة، ومرَّت سبعة قرون على تلك الحوادث من غير أن تَخرْجُ هذه المدينة المقدسة من أيدي أتباع محمد على الرغم من جميع الجهود التي قام بها العالم النصراني منذ ذلك الحين.

ولا نرى فائدةً كبيرةً في تاريخ الجهود غير المُجدِية التي قامت بها أوربة لاسترداد القدس، أي في تاريخ الحملات الصليبية الستِّ الأخيرة، وإنما نكتفي بذكرها الخاطف.

ورئيسُ أساقفة مدينة صور في فنيقية، غليوم، هو الذي حَرَّض أوربة على تجريد الحملة الصليبية الثالثة (١١٨٩–١١٩٢م)، وقد قاد هذه الحملةَ الثالثةَ ملكُ فرنسة: فليب أوغست، وملك إنكلترة: قلبُ الأسد ريكاردس، وقيصر ألمانية: فريدريك بارباروس، أي أقوى ملوك أوربة.

فأما بارباروس: فقد مات في آسية الصغرى، حينما كان يغتسل في نهر البَرَدان (قَرَه صُو)، ولم يصل سوى بقايا جيشه إلى سورية، وأما فيليب أوغست: فقد تَعِب سريعًا، وأبحر إلى صور بعد إقامةٍ قصيرة بفلسطين تاركًا خَلفَه جيشًا مؤلَّفًا من عشرة آلاف مقاتل بقيادة أمير بورغونية، ولذا ظلت القيادة العليا في يد قلب الأسد ريكاردس الذي اقترف جرائم وحشيةً كالتي اقترفها رجال الحملة الصليبية الأولى.

وكان أول ما بدأ به ريكاردس هو قَتْلُه، أمام معسكر المسلمين، ثلاثة آلاف أسيرٍ مسلم سلَّموا أنفسهم إليه بعد ما قطع لهم عهدًا بحقن دمائهم، ثم أطلق لنفسه العنان في اقتراف أعمال القتل والسلب.

fig152
شكل ٨-٥: منبر من رخام في الحرم القدسي يُعرف بمنبر عمر (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

وليس من الصعب أن يتمثَّل المرء درجة تأثير تلك الكبائر في صلاح الدين النبيل الذي رَحِم نصارى القدس ولم يمسَّهم بأذى، والذي أمدَّ فليب أوغست وقلب الأسد ريكاردس بالأزواد والمُرطِّبات في أثناء مرضهما، فقد أبصر الهُوَّة العميقة بين تفكير الرجل المتمدن وعواطفه وتفكير الرجل المتوحش ونزواته، وأدرك أنه لا يجوز أن يعامَل أولئك الحمقى بغير ما تعامل به الوحوش الضارية.

وأكره ريكاردس من فَوره على مغادرة فلسطين قبل أن يرى القدس، ولم يكن للحملة الصليبية الثالثة التي قادها ملوك أوربة الأقوياء الثلاثة المتحالفون نتيجةٌ غيرُ بقاء النصارى مالكين لبضع مدن الساحل.

ثم نُظِّمت الحملة الصليبية الرابعة (١٢٠٢–١٢٠٤م) بقيادة أمير الفلاندِر: بُودْوَان، وعزم الصليبيون في هذه المرة على بلوغ فلسطين بحرًا، لا برًّا كما في الماضي، وأبحروا من ميناء زاره متوجهين إلى عاصمة الدولة النصرانية: القسطنطينية، ولما بلغوها رأى بعضهم أن سورية لا تزال بعيدةً، وأن الصليبيين السابقين نَهَكوها غير تاركين فيها نِهابًا، وأن كلَّ الصيد في جوف القسطنطينية، فانضمَّ بقية الصليبيين إلى هذا الرأي الصائب، وأخذوا ينهبون ما فيها وإن دخلوها حُلفاء.

وكانت القسطنطينية تشتمل في ذلك الحين على ما تركه الأغارقة والرومان من كنوز الفن والأدب، ولم يَرَ صليبيو أوائل القرن الثالث عشر في هذه الكنوز شيئًا نافعًا يمكن تقديمه إلى قبيلةٍ من أصحاب الجلود الحمر (الپوروج)، فصاروا يُحطِّمون كلَّ ما لم يكن من الذهب أو الفضة أو يُلقونه إلى البحر، وصاروا يَكْسِرون التماثيل الرخامية التي صنعها لِيزِيب وفِيدياس وپَراكْزِيتِيل، ويُتلِفون، في يوم واحد، تآليفَ ديموستين وديودرس، وپوليب … إلخ. المهمة.

ولم يُفكِّر بودوان وأصحابه في الزحف إلى فلسطين بعد أن شَبِعوا من الغنائم فنُصِب بودوان قيصرًا؛ وأجاز البابا إينوسان الثالث ذلك مع بيانه أن الصليبيين اقترفوا أفظع الجرائم.

ولا احتياج إلى ذكرنا أن سلطة هذا القيصر الجديد كانت مؤقتةً، فلم يكن الصليبيون من غير الهمج العاجزين عن إقامة دولة دائمة وعن غير التخريب، ولم ينشأ عن إقامتهم القصيرة بالقسطنطينية غيرُ إبادة كنوز العالم اليونانيِّ اللاتيني القديم.

ولم تكن الحملتان الصليبيتان، الخامسة والسادسة، من الحملات المهمة، ولم تباليا بالجهاد في سبيل القدس، وإنما ذهب أكثر رجالهما إلى مصر طمعًا في الغنائم فاضطرُّوا إلى التقهقر بعد أن أوغلوا قليلًا فيها.

وتوجَّه جيشٌ صغير إلى القدس بقيادة فردريك الثاني الألماني الذي تعاهد هو والمسلمون، فسَمَح له المسلمون بدخول القدس حليفًا، فعاد إلى أوربة مكتفيًا بهذه المجاملة الحقيرة.

ومع ذلك فإن الحملات الصليبية أخذت تَفْقِد صِبغتها الأوربية الشاملة التي اصطبغت بها في بدء الأمر، فقد قام مقام أخلاط الزُّمَر الأولى، التي كانت تنقضُّ على آسية، بعض السرايا الصغيرة التي ركبت كلُّ واحدةٍ منها مَتن هواها فلم تبحث عن غير ما فيه الثراء.

وظَلت القدس، وفلسطينُ تقريبًا، قبضةَ المسلمين على الرغم من الحملات الصليبية الخمس التي جُرِّدت بعد الحملة الصليبية الأولى، ثم عزم ملك فرنسة، سان لويس، على العَوْد إلى الجهاد فجَرَّد حملة صليبية سابعة في سنة ١٢٤٨م، وقد غادر إيْغُمورْت على رأس خمسين ألف مقاتل متوجهًا إلى مصر، وقد احتلَّ دمياط، وزحف إلى القاهرة التي كُسِر جيشُه قبل أن يبلغها، ووقع أسيرًا، وافتدى نفسه، وذهب إلى سورية، وأقام بها سنتين من غير أن يظفر بطائل، ثم رَجَع إلى فرنسة قبل أن يرى القدس.

ولم تَنْثَنِ عزيمةُ سان لويس مع هذا الانكسار، فقد جهَّز حملة صليبية جديدة بعد ست عشرة سنة، وقد غادر إيغمورت في ٤ من يوليه سنة ١٢٧٠م على رأس جيش مُؤلَّف من ثلاثين ألفًا من المشاة وستة آلاف من الفرسان، وقد تَوَجَّه إلى تونس طَمَعًا في حمل أميرها على انتحال النصرانية، فأصابه الطاعون حينما كان محاصرًا لها، فمات في ٢٥ من أغسطس سنة ١٢٧٠م.

وكانت تلك الحملة الثامنة أُخرَى الحملات الصليبية، فبها خُتِمت تلك المغازي الكبيرة إلى الأبد، وبقيَ المشرق خاضعًا لأتباع النبي العربي.

ولم يلبث النصارى أن خسروا ما كانوا يملكون من النواحي القليلة في فلسطين، وأراد البابوات أن يوقظوا حميَّة النصارى الدينية على غير جدوى، فقد فَتَرَت حرارة الإيمان في النفوس، وصار هَم شعوب الغرب مصروفًا إلى أهداف أخرى.

ولا أحاول، في خاتمة هذه الخلاصة القصيرة التي سردتها عن تاريخ الحروب الصليبية، تَسويغَ ذلك الاعتداء الذي وجهته أوربة إلى المشرق أو ذَمَّه، فأمورٌ مثل هذه من نوع المجادلات التي ترُوق شُبَّان المؤرخين ولا تستحقُّ أن يُبالَى بها، ولا أعلم أن فاتحًا في القرون القديمة أو الحديثة فكر ثانية في عدل جهاده الحربي أو ظلمه ما لاءَم ذلك الجهاد مصالحه، وما رأى وصوله إلى مقصده من غير خطر كبير، فإذا كُتب له النجاح في جهاده كفاه نجاحُه ولم يبقَ ما يستلزم تسويغه، ولم يَعدَم، عند الضرورة، فرسانَ بيانٍ لتمجيد ما صنع، وإذا ما هَجا بعض الكتَّاب مظالم القوة قائلين: إن على القوة ألا تتغلب على الحق كان ذلك من قبيل ذمِّ الأمور الطبيعية غير المُجدي، كشكوانا من السَّقم والهَرَم والموت.

حقًّا إن مبادئ الحقوق النظرية المدوَّنة في الكتب لم تكن دليل أمة في أي زمن، وإن المبادئ التي احترمتها الأمم هي التي أيَّدتْها قوة السلاح كما أثبته التاريخ، وإن البابوات لم يسيروا على غير سنن الفاتحين في الماضي والمستقبل، حينما حرَّضوا النصارى على الحروب الصليبية الطاحنة المنافية لأبسط قواعد الإنصاف من الناحية النظرية، فلا يُفِيدُ لَومهم على ما فعلوا، ولنترك، إذن، كلَّ بحث من هذا النوع، ولندرس النتائج القريبة والبعيدة لذلك النزاع العظيم بين عالَمين.

fig153
شكل ٨-٦: باب يافا في القدس (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

(٣) نتائجُ الحروب الصليبية بين الغرب والشرق

آراءُ المؤرخين في نتائج الحروب الصليبية متناقضةٌ إلى الغاية، وقد أسهب أكثرهم في مدحها، وعَدَّها بعضُهم ذات نتائج سيئة.

وإذا نظرنا إلى هدف الحروب الصليبية القريب الذي هو فتح فلسطين رأيناها لم تُسْفر عن أية نتيجةٍ مع ما خَسِرَته أوربة في قرنين من المال والرجال، فقد بقي المسلمون سادةً لتلك الأماكن التي أراد النصارى أن يستولوا عليها بأيِّ ثمن كان.

ولكننا إذا نظرنا إلى النتائج البعيدة التي أسفرت عنها الحروب الصليبية تجلت لنا أهميةُ تلك النتائج التي كان بعضُها نافعًا وبعضها ضارًّا، وإن شال الميزان ورَجَحَت كِفة النافع منها، فقد كان اتصال الغرب بالشرق مُدَّة قرنين من أقوى العوامل على نموِّ الحضارة في أوربة، وتكون الحروب الصليبية قد أدت بهذا إلى نتائج غير التي نَشَدتها، وليس التاريخ خاليًا من الأمثلة على عدم المطابقة بين الضالِّة المنشودة والهدف المُدرك، بل هو حافلٌ بهما، حتى يكاد البصير يرى في ذلك قاعدةً مطردة.

وإذا أراد المرء تصور تأثير الشرق في الغرب وَجَب عليه أن يتمثَّل حال الحضارة التي كانت عليها شعوبهما المتقابلة، فأما الشرق فكان يتمتع بحضارة زاهرة بفضل العرب، وأما الغرب فكان غارقًا في بحر من الهمجية، وقد ظهر من بياننا الوجيز عن الحروب الصليبية أن الصليبيين كانوا في سلوكهم وحوشًا ضارية، وأنهم كانوا ينهبون الأصدقاء والأعداء ويذبحونهم على السواء، وأنهم خرَّبوا في القسطنطينية ما لا يُقدَّر بثمن من الكنوز القديمة الموروثة عن اليونان والرومان.

ولم يكن عند أولئك البرابرة ما يفيد الشرق، ولم ينتفع الشرق منهم بشيء في الحقيقة، ولم يكن للحروب الصليبية عند أهل الشرق من النتائج سوى بَذْرها في قلوبهم الازدراءَ للغربيين على مرِّ الأجيال، ولم ينشأ عن جهالة الصليبيين وغِلظَتهم وتوحشهم وسوء نِيَّتهم غيرُ حمل الشرقيين أسودَ الأفكار عن نصارى أوربة وعن النصرانية، وغير إيجاد هُوَّةٍ عميقة لا يمكن سدُّها بين أمم الشرق وأمم الغرب، وما إلى ذلك من النتائج الضارة التي أشرنا إليها آنفًا.

ولم تكن العداوة العادلة التي يحملها الشرقيون تجاه أمم الغرب كل ما صدر عن الحروب الصليبية من النتائج الضارة، فقد نشأ عنها، أيضًا، زيادة سلطة البابوات الذين كانوا رؤساء عالين للصليبيين، وزيادةُ سلطة رجال الدين الذين اغتَنَوْا بأرَضين اضطر السنيورات إلى بيعها منهم ليقوموا بنفقات الغزو، وقد نَجَم عن نموِّ سلطة أولئك واغتناء هؤلاء أن رَغِب البابوات في السيطرة على الشعوب والملوك وأن عمَّ فساد الإكليروس، فأدى هذا الفساد بعد زمن إلى الإصلاح الدينيِّ وما قاسته أوربة بسببه من المنازعات الدامية.

ومن أشأم نتائج الحروب الصليبية: أن ساد عدم التسامح العالَمَ عدةَ قرون، وأن صَبَغَته بما لم تعرفه ديانةٌ، خلا اليهودية، بصبغة القسوة والجَور، أجل، كان العالم قبل الحروب الصليبية يعرف الشيء الكثير من عدم التسامح، ولكنه ندر أن كان عدم التسامح هذا يصل إلى حد الجَلَف والطغيان، وقد بلغ عدم التسامح هذا مبلغًا من الحُمَيَّا الشديدة في الحروب الصليبية ما لا يزال العالم يقاسي أثره إلى زماننا تقريبًا، فلم يلبث رجال الدين الذين تعوَّدوا سفكَ الدماء أن صاروا ينشرون المعتقد ويُبيدون أصحاب البدع على الطريقة التي كانوا يبيدون بها الكافرين، ويرون أنه يجب إخماد أقل انحراف بأفظع تعذيب، ومن نتائج ما نما في الحروب الصليبية من روح عدم التسامح المشؤومة: ما حدث من ذبح اليهود والألبيجوا وكل ذي بدعة، ومن إنشاء محاكم التفتيش، ومن الحروب الدينية، ومن الحروب الوحشية التي ضرَّجت أوربة بالدماء زمنًا طويلًا.

ولنبحث الآن في نتائج الحروب الصليبية النافعة بعد أن ذكرنا نتائجها الضارة الثابتة: كان من النتائج السياسية التي نشأت عن الحروب الصليبية أن تَضَعْضَعَ النظام الإقطاعي في فرنسة وإيطالية على الأقل، وذلك أن السنيورات لم يخسروا كثيرًا من أرضيهم التي باعوها؛ لينفقوا على ما جهزوه من الحملات فقط، بل باعوا أيضًا ما كانت تصبو إليه المدن من الحرية والامتيازات، فصارت هذه المدن دُويلاتٍ مستقلة ضمن دول الإقطاع تابعةً للملك وحده، ثم أصبح اشتراء المدن لحريتها مبدأً عامًّا، فقامت بلديةٌ مستقلة في كل مدينة، فكانت نتيجة ذلك أن ضعف شأن الإمارات الإقطاعية الصغيرة لا الكبيرة التي مالت إلى التوسع، وأن أضحى ملك فرنسة حَكَمًا بين الڨسَّالات وسادتهم السابقين أكثر مما في الماضي، وأن زادت بذلك سلطة ملوك فرنسة، الضعيفة قبل الحروب الصليبية، على حساب سلطة ڨَسَّالاتهم التي كادت تساوي سلطة الملك فيما مضى، والتي عادت لا تكون في غير الظواهر في بضعة قرون.

fig154
شكل ٨-٧: قدح عربي يُعرف بقدح شارلمان، ويرجح أنه جيء به من الشرق أيام الحروب الصليبية (متحف شارتر).

ولم يتقلَّص النظام الإقطاعي بفعل الحروب الصليبية إلا في فرنسة وإيطالية، لا في إنكلترة وألمانية اللتين لم يشترك سنيوراتُهما في الحروب الصليبية الأولى إلا قليلًا، واللتين حافظوا على إقطاعاتهم فيهما، وصاروا رقباء على ملوكهما الذين تورَّطوا فيها كثيرًا، فاستفادوا من ذلك فقيدوا سلطة هؤلاء الملوك، ونحن إذا أنعمنا النظر فيما نشأ عن سير الحوادث من النتائج البعيدة بدا لنا أن أصول دستور إنكلترة السياسي المتين ترجع إلى حوادث الحروب الصليبية.

أجل، اشترك ثلاثةٌ من قياصرة ألمانية في الحروب الصليبية، فلما مات فردريك الثاني الذي هو آخرهم كانت السلطة القيصرية من الأوهام، واشترك ثلاثة من ملوك فرنسة في الحروب الصليبية، فأما رحلة فليب أوغست فكانت قصيرة، وأما سلطة الأشراف في غياب لويس السابع ولويس التاسع فكانت غير خطرة لما ذكرنا، فسهُل على نائب الملك سوجر والملكة بلانش أن يُردَّا جِمَاحها.

وكان لاصطراع أوربة وآسية تأثيرٌ كبير في التجارة أيضًا، فقد نشأ عن تجهيز الجيوش الكبيرة التي قَذَفَت بها أوربة في الشرق في قرنين وتموينها ونقلها حركةٌ عظيمة في التجارة البحرية؛ فاغتنى بذلك أهل مرسيلية وپيزة وجنوة والبندقية على الخصوص، وبلغت بحرية مرسيلية درجةً عظيمةً من النمو استطاعت معه؛ في سنة ١١٩٠م؛ أن تنقل إلى الأرض المقدسة جيشَ قلب الأسد ريكاردس.

ولم يقف نموُّ التجارة بعد طرد الصليبيين من آسية؛ فقد عقد أكثر جمهوريات إيطالية وأمراء المسلمين معاهداتٍ تجارية؛ وكانت صلات البندقية التجارية الوثيقة بالمشرق سبب عظمتها، واطرد تقدم هذه التجارة مع الزمن إلى أن اكتُشِفت طُرُقٌ بحرية جديدة، فانتقل زمامها إلى أيدٍ أخرى.

ولم يكن تأثيرُ الحروب الصليبية في الصناعة والفنون أقلَّ من ذلك، فقد استوقفت نفائسُ الشرق الباهرة أنظار السنيورات الصليبيين مع جَلَفهم، فوجدوا في التجارة وسيلة تقليدها، فنرى اقتباس نفائس الشرق في أسلحة الغرب وثيابه ومساكنه في القرن الثاني عشر، والقرن الثالث عشر على الخصوص.

وكلما نمت النفائس أدت إلى تقديم الصناعة بحكم الضرورة، وتبحث الصناعة عن المنتجات التي تطلُبها التجارة منها بطبيعة الحال، فتحفزها الضرورةُ إلى القيام بذلك من فَوْرِها.

fig155
شكل ٨-٨: إناء عربي مصنوع من النحاس المكفت، ويُعرف بإناء معمودية سان لويس (متحف اللوڨر).

وإذ كانت صنائع الخشب والمعادن والميناء والزجاج تتطلب معارفَ كثيرةً فقد اقتبسها الأوربيون من آسية مع جهلهم لها قبل دَوْرِ الحروب الصليبية، وعمَّ أمرها بذلك في أوربة، فعن صور أخذت البندقية نماذجَ صِناعة الزجاج، وعن المسلمين أخذت أوربة صناعة النسائج الحريرية والصِّباغة المتقنة، وعن سورية أخذ عُمال الحملات الصليبية التي دام أمرها قرنين وصانعو أسلحتها ومهندسوها ونجاروها ومن إليهم ما كانوا يجهلون من المعارف الصناعية، وذلك في أثناء إقامتهم الطويلة بها.

وكان تأثير فنون الشرق في الغرب عظيمًا أيضًا، فقد نشأ عن إيلاف الصليبيين ضروبَ منتجات الشرق الممتد من القسطنطينية إلى مصر تهذيبُ أذواقهم الغليظة، ولم يلبث فن العمارة أن تحول في أوربة تحولًا تامًّا، ولا يصعب علينا، والحالة هذه، أن نثبت في فصل آخر قوةَ تأثير آثار حضارة العرب في أطواره الأولى.

وأما استفادة الصليبيين من علوم العرب الخالصة فكانت ضعيفةً إلى الغاية خلافًا لما ذهب إليه كثير من المؤرخين؛ فالجيوش الصليبية إذ كانت جاهلةً للعلماء لم تكن لتباليَ بالمعارف والأصول مبالاتها بشكل البناء أو الأسلوب الصناعي.

fig156
شكل ٨-٩: طبق عربي قديم مصنوع من النحاس.

وإذا كنتُ لم أقل إن تأثير الصليبيين في تقدم أوربة العلمي صفرٌ فلما بين العلوم والصناعات من الصلة، ولما تَجُرُّ إليه إحداهما إلى بحثٍ قليلٍ في الأخرى غالبًا.

ولا يُحتَجُّ علينا بأن القرون الوسطى استنبطت معارفها العلمية والأدبية من مؤلفات الشرقيين، فالواقع أن تلك المعارف لم تدخل أوربة بفضل الحروب الصليبية قطُّ كما نبين ذلك في فصل آخر.

ولم يكن تأثير آداب العرب في الصليبيين صفرًا، بل كان كذلك، ضعيفًا جدًّا، أي استوحاها كثيرٌ من شعراء الغرب وكتَّابهم، فكان سَحَرةُ مصر وعجائب الشرق وغودفروا وتانكريد وغيرهما موضوع قصص مهمٍّ للشعراء المجوِّلين الذين كانوا ينشدونه بين قصر وقصر.

ظهر مما تقدم أن تأثير الشرق في تمدين الغرب كان عظيمًا جدًّا بفعل الحروب الصليبية، وأن ذلك التأثير كان في الفنون والصناعات والتجارة أشد منه في العلوم والآداب، وإذا ما نظرنا إلى تقدم العلاقات التجارية العظيم باطرادٍ بين الغرب والشرق، وإلى ما نشأ عن تحاكِّ الصليبيين والشرقيين من النُّمُوِّ في الفنون والصناعة — تجلى لنا أن الشرقيين هم الذين أخرجوا الغرب من التوحش، وأعدوا النفوس إلى التقدم بفضل علوم العرب وآدابهم التي أخذت جامعات أوربة تُعوِّلُ عليها؛ فانبثق عصر النهضة منها ذات يوم.

هوامش

(١) ضئزى: جائرة.
(٢) السلاف: ما سال وتحلب قبل العصر، وهو أفضل الخمر.
(٣) الدردي من الزيت ونحوه: الكدر الراسب في أسفله.
(٤) الشيلم: الزؤان يكون بين الحنطة.
(٥) القلز: النحاس الذي لا يعمل فيه الحديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤