الفصل الأول

أهل البدو وأهل الأرياف من العرب

(١) تمثُّل حياة قدماء العرب

سنحاول أن نرسُم بإيجازٍ، في هذا الفصل والفصل الذي يليه، حياة العرب بعد ظهور محمد ببضعة قرون، فبالبحث في طبائع العرب وعاداتهم نستطيع أن نقف على مصدر نظمهم السياسية والاجتماعية التي كانت سائدةً لدولتهم.

ونستنبط خطوط هذا الرسم الموجز الأساسية من التأمل في حال العرب المعاصرين، واستقراءُ مثلُ هذا لا يصلح لغير عدد قليل من الأمم، ولا سيما الأمم الشرقية التي ندرُس تاريخها.

وسرعة التحول من أظهر ما تتصف به حضارة أمم الغرب، فإذا ما قابلنا بين عصر شارلمان وعصر لويس الرابع عشر مثلًا بدا لنا عالَمَان مختلفان أشدَّ الاختلاف في الفن والصناعة والعلم والحياة الاجتماعية واللغة.

ولكن التحولات التي تحدُثُ بين دور وآخر لا تبدو بعيدةَ الغَور إلا لأن التاريخ لا يبالي بغير الطبقات الاجتماعية العليا، فإذا ما نظرنا إلى الطبقات الوسطى أو الدنيا التي هي ركنُ كلِّ أمة رأينا تحوُّلها ضعيفًا إلى الغاية، فالعلوم والآداب والفنون والصناعات التي تتألف من مجموعها حضارة أحد الأدوار لم تكن غيرَ ذات تأثير ضئيلٍ في المجموع مع انقضاء القرون؛ فالفرق بين صاحبٍ لشارل مارتل وأحد حفدته في زمن لويس الرابع عشر عظيمٌ لا ريب، وهو ضعيفٌ بين حدَّاد أو تاجر أو فلاح في عصر الأول وبَنيه في عصر الثاني، واليوم قلما نجد فرقًا بين الفلاح البريتانيِّ الحاضر وأجداده الذين ظهروا منذ ألف سنة.

fig157
شكل ١-١: واحة بسكرة (الجزائر، من صورة فوتوغرافية).

ومهما يكن الفرق ضعيفًا فإنه موجود بفعل البيئة على كل حال، فالفلاح البريتاني، وإن لم يفق أجداده في مزاجه النفسي، نراه، وهو محافظ على لهجته الإقليمية الخاصة، وهو قابع في قريته الغامض أمرها، يعيش في بيئة تختلف عن البيئة التي كان أجداده يعيشون فيها، أي يرى وميضًا من حضارةٍ تتحول باستمرار.

وترى أوربة أن أمم الشرق لا تتحول، ونحن نرى أن أمم الشرق تتحول قليلًا في الوقت الحاضر لا ريب، وأن طبقاتها العليا، على الأقل، كانت تتحول كثيرًا في غابر الأزمان، فالفرق عظيم بين أمير عربي من حاشية الملك أبي عبد الله الصغير وصاحبٍ لعمر بن الخطاب، وهو أعظم من ذلك بين عالمٍ في جامعة بغداد أو جامعة قرطبة وأحد رُعاة بلاد العرب الأقدمين.

ولم يكن التحولُ ضعيفًا في غير طبقات المجتمع الدنيا كما يشاهَد مثلُ ذلك في كل مكان كما ذكرنا، والفرق، إذن، قليلٌ بين سكان الأرياف من العرب في زمن محمد وبين ذراريهم في زماننا، وهو أقل بين أهل البدو في ذينك الدورين.

ولذا نرى فروقًا في تحول أمم الشرق كالتي رأيناها في أمم الغرب، ونرى ألا يُخلَط، عند البحث، بين تطور طبقات الشعب الواحد الاجتماعية لما بينها من تفاوت.

ومع ذلك، يجب أن يُعترف بأن العرب أقلُّ تحولًا من الأوربيين بين قرن وقرن، ولم ينشأ استقرارهم العتيد عن زوال حضارتهم فقط، بل نشأ، أيضًا، عن كون القرآن دستورَ المسلمين الديني والسياسي والمدني على الخصوص، وعن أن ثبات أيَّ أمر من هذه الأمور الثلاثة المتماسكة كان يُوجِب ثبات الأمرين الآخرين بحكم الضرورة، وهكذا لم يلبث المسلمون أن رَأوا أنفسهم مُقيَّدين بسلسلةٍ من التقاليد والعادات التي تأصلت بحكم الوراثة، فأصبحت من الرسوخ بحيث لا تُؤثر فيها الزعازع، وهكذا كادت طبائع أكثر العرب وعاداتُهم تكون ثابتةً لا تتبدل منذ قرون، وهكذا أصبح من الممكن تمثل حياتهم الماضية بدرس حياتهم الحاضرة.

وكان تحول أهل الأرياف والبدو من العرب، على الخصوص، ضئيلًا، وكان تحول أهل المدن الذين انتابهم الفاتحون أظهر من ذلك، ولكن هؤلاء الفاتحين إذ اتخذوا القرآن دستورًا لهم، وكان القرآن نافذًا في أدق شؤون العرب لم تتغير طبائع العرب وعاداتُهم إلا قليلًا، وحاضر العرب، وإن لم يكن، لذلك التحول القليل، صورةً تامة عن ماضيهم، يكفي لتَمَثله مع ذلك.

وبما أنه يوجد لحياة العرب الاجتماعية صورٌ مختلفة باختلاف حياتهم البدوية أو الريفية أو الحضرية دائمًا، فقد رأينا أن ندرس كلَّ واحد من هذه الوجوه على حِدَةٍ.

(٢) حياةُ أهل البدو من العرب

لقد وصفنا سجايا أهل البدو من العرب بما فيه الكفاية، ولا نرى أن نعود على ذلك مرة أخرى، وإنما نُتمُّ الآن ما قلناه في فصلٍ آخرَ بأن نصف معايشهم من الناحية المادية: إن بيانَ عاداتِ أولئك الأعراب وطبائعهم أسهلُ من بيان عادات سكان الأرياف والأمصار وطبائعهم، وذلك أن حياة الأعراب بسيطة إلى الغاية، وأنها طليقة من تلك الزيادات المعقدة التي أوجبها الاستقرار والتوطن، وفي الوصف الآتي الذي أقتطفه من كتابٍ لكوست تصويرٌ كافٍ لعادات الأعراب، أجل؛ إن كوست صوَّر بهذا الوصف قبائل صحاري وادي النيل العربية منذ خمسين سنة، ولكن ما تُسفر عنه حياة الصحراء من تَبَدُّلٍ قليل في المعايش يجعل ذلك الوصف صالحًا لتمثل الأعراب المعاصرين لسليمان، أو المعاصرين لمحمد، أو الذين سيولدون بتعاقب الأجيال إلى أن تُبدَّل الأرض غير الأرض، وتكون آسية وإفريقية خاليتين من الصحاري، قال كوست: يمتطي الأعرابيُّ صهوة فرسه وقت الفجر، ولا يرجع إلى خيمته إلا وقت الغروب، ويَغتَذي الأعرابي في النهار بالتمر وقليل من الذرة أو البُرِّ، ويُرْعِي فرسه بالكلأ الذي يجده في طريقه، فإذا دخل خَيمتَه عِشاء ناولته زوجه كوبَ لبن وقليلَ تمرٍ وعسلًا.

fig158
شكل ١-٢: مخيم أعراب في الجزائر (من صورة فوتوغرافية).

ولا يتردد الأعرابيُّ إلى المدن إلا ليبيع ما تنتجه مواشيه وإبلُه وخيله، ولا ينام الأعرابي في المدن، وإذا ما نزل الأعرابي بأرض زَرَعَ في بضعة أفدنةٍ منها ما يحتاج إليه من البُرِّ والشعير والذرة، ويبدو الأعرابي، على خلاف الفلاح الذليل، فخُورًا بحريته ذا خطوٍ ثابت وعينين لامعتين ثاقبتين، ولا يُصاب الأعرابي بما يصاب به الفلاحون من الأمراض لقناعته وحياته المنظَّمة، ودمُ الأعرابي صافٍ صفاءَ نسيم الصحراء الذي يتنَسَّمه.

ومن أهم ما تعتني به الأعرابيات حلبُ الشياه والبقر، وصنع الدقيق بمطحنتين يدويتين صغيرتين، وصنعُ الخبز والطعام، وتربية الأطفال، وحَوْكُ الثياب الصفيقة والبُسُط والخيام.

fig159
شكل ١-٣: سوق في مراكش (من صورة فوتوغرافية).
وإذا ما عَزَمَت القبيلة على الرحيل رَكَبَت نساؤها الهوادج اثنتين اثنتين، والهوادج نوع من السِّلال التي توضع على ظهور الجِمال، وتصنع من أغصان الدِّفْلَى،١ ويبَطَّن أسفلها بجلد الضأن، ويُستَر أعلاها بنسيج للوقاية من تقلُّب الريح ووهج الشمس، ويأخذ الأعربيات، بعد أن يَجثُمن في الهوادج، في طحن البُرِّ بمطاحنهن اليدوية الصغيرة، ويُهيِّئن العجين، ثم يَخبِزْن الخبز في أول موقف على المَلَّة٢ أو على مَوْقِدٍ صغير أو على الرَّضْفِ٣ ويستعملن بعر الجمال وقودًا.

وتكون خيمة الرئيس في الوسط، وتليها خيامُ أبنائه المتزوجين، فخيام الأقرباء، فخيام الخدم، وتكون الأفراس أمام الخيام؛ لتكون حاضرة عند أول إشارة، ثم تليها حظيرة البقر والإبل والضأن والمَعز.

وتُصَفُّ الجمال، في الغالب، حول خَيمة الحرس على شكل دائرة، وتُنصَب خِيامُ الأرصاد الصغيرة بعيدةً من المخيَّم قليلًا للرقابة ليلًا.

وتكون تلك الخيامُ قليلةَ الارتفاع، ولا يستطيع المرء أن ينتصب في غير وسطها، وتظهر مربعة الشكل، ولا تكون مُدَوَّرة مطلقًا، ويمكن إغلاقها من كل جانب، وإن كان شمالُها يُترك مفتوحًا لدخول النسيم، وتُصنَع تلك الخيام من المِرْعِزِّ والوَبَر، وينحدر عنها ماء المطر من غير أن ينفُذَ منها، ولا تؤثِّر فيها العواصف والرياح والشمس.

وأضيف إلى ما تقدم ما تشتمل عليه تلك الخيام من متاع بسيط ملائم للحياة البدوية، فكل خيمة تحتوي على أسلحة ورمح طوله ثلاثة أمتار أو أربعة أمتار ولوحٍ حديدي للخَبْزِ وقِدر للطبخ وإبريق للقهوة ومِهراس لها ودَلو وبضعة ثياب وما إلى ذلك، ولذلك ليس من العسير أن نعلم أن أناسًا ذوي احتياجات ضئيلة، كأهل البدو، لم يعرفوا سادة لهم قط.

(٣) حياة أهل الأرياف من العرب

(٣-١) الحياة الاجتماعية

يسكن جزيرةَ العرب وما جاورها من البقاع، في كل زمن أناسٌ يعتمدون في معايشهم على الزراعة، ويسكنون الأرياف البعيدة من المدن، ويخضعون، دائمًا، لأحكام بيئة واحدة مشتملة على طبقة ضَيِّقة من التقاليد والعادات، ولا يعانون شيئًا من التحول المهمِّ غيرَ ما يتحوَّل به دينُهم، وأولئك هم الذين يجب البحث في أحوالهم للوقوف على بعض ما جاء في القرآن من النُّظُم.

وإنني أتخذ، من مختلف السكان، عرب حوران مثالًا للبحث، وتَقْرَب من بادية الشام بلاد عرب حوران الذين هم من أنصاف المستقلين، والذين أجاد مسيو لُوپْليه درس شؤونهم في كتابه الممتع عن عمال الشرق، فنرى من المفيد أن نبحث في أحوالهم لنتمثل كيف يعيش السكان الذين تختلف طبائعهم عن طبائع جيرانهم من أهل الحضر وأهل البدو، ولنعلم ما نشأ عن هذا الجوار من النُّظم.

يعد أهل حوران الذين أدرس حياتهم الاجتماعية من العِرْق العربي وإن لم يقيموا بجزيرة العرب، فقد كان يَسكن حوران بعد ظهور المسيح بزمن قصير قبائلُ عربيةٌ (من القحطانيين على رأي فِتْزشْتَايْن) كانت قد هاجرت من جنوب جزيرة العرب وأقامت دولة السليحيين ثم دولة الغساسنة التي كانت تحت رعاية الرومان، ونُصِب، فليب، الذي هو من عرب حوران، قيصرًا رومانيًّا في سنة ٢٤٤م، وليس بمجهولٍ أن عاشت دولة الغساسنة خمسمائة سنة، ولم تنقرض إلا باستيلاء خلفاء محمد علي أملاكها، ويعود إلى الغساسنة فضلُ إقامة الآثار العظيمة التي لا تزال ماثلةً في بلاد حوران، ولا سيما في عاصمتها القديمة بُصرى، ولا تزال تُرى هنالك كتاباتٌ بالخط الحِمْيَرِي الذي سُمِّيَ باسم لغة بعض القبائل القديمة في جزيرة العرب.

ويتألَّف عرب حوران المجاورون لبُصرى من أعراب وحضريين، فأما الأعراب: فلا يظهرون في حوران إلا صيفًا، ويرحلون في الشتاء إلى العراق أو إلى وادي الأردن، أما الحضريون: فهم جَمعٌ من الزُّمَر التي تجمع بينها صلة القرابة، فتخضع لرئيس أُسْرَةٍ خضوعًا تشابه به نظام القبيلة الفطري كما يرى.

وجميع تلك الزُّمَر من الزمر الزراعية، وهي إذ كانت قليلة الأهلين بالنسبة إلى اتساع الأرَضين الصالحة للفلاحة لا تحرث كلُّ واحدةٍ منها سوى قسم.

وأَرَضُو كلِّ قرية مُشاعةٌ بين أفرادها، ويستطيع كل واحد من هؤلاء أن يَزرَع منها بنسبة ما عنده من البقر، وتباع الحبوب، التي تزيد على احتياجات بقر كلِّ زُمْرَة وجمالِها من الأعراب أو من تجار دمشق، أو أن القوافل تنقلها إلى سواحل سورية لتُرسَل إلى أوربة.

وتَكُون المنتجاتُ مالَ الزُّمرَة خلا الدَّخل القليل الذي يناله بعض الأفراد من بعض المصادر ويُنفقونه كما يشاءون.

وتُعد الصناعة، هنالك، في حكم المعدوم تقريبًا، وذلك أن الأهلين يصنعون قليلًا من النسائج، ويبتاعون ما يحتاجون إليه منها من تجار دمشق الذين يشترون حبوبهم.

وتتألَّف كل زمرة من أُسَر كثيرة، قال مسيو دِپْلِبه:

لا يدل اسم الزمرة التي تضم أناسًا كثيرين يعيشون تحت سقف واحد على كل واحد من أفرادها دلالةً واضحة، وإنما يضاف اسم ذلك الفرد إلى اسم أبيه فيقال: فلان بن فلان، وإذا ما كان للوالدين ولدٌ أضيف اسم كل منهما إلى اسمه فيقال: فلان أبو فلان أو فلانة أمُّ فلان، وفي الغالب يُحذف اسم كل من الوالدين فيقال أبو فلان أو أم فلان، وإذا لم يكن للزوجين ولد لم يُكنَّيا لما في التكنية الوهمية من السَّبة، ويتسمَّى الناس باسم أُسَرٍ حينما تكون أسماء هذه الأسر من أسماء ذوي المجد والجاه من الأجداد الذين تَصلُح أسماؤهم أن تكون مَدارَ فخرٍ للحَفَدة، وقد جَرَت العادة، مع هذا، على إطلاق اسم جد الأسرة المجيد على ربِّها العتيد وحدَه، وإن كان ذلك من حقوق جميع أفراد تلك الأسرة.

ويبلغ عدد أفراد كل أسرة في الزمرة، ومنهم الخَدَم، نحو ثلاثين شخصًا تابعين لرئيسها الذي هو أكبر أفرادها سِنًّا، وتقوم النساء بتدبير منزل الأسرة حصرًا، ويعامَلن برفق ولطف وإن كن يُرقَبن رقابةً وثيقة، وإذا حدث أن اقترفت إحدى الفَتَيات خطيئة، وهذا ما يندُر وقوعه، قَتَلها أقرباؤها.

ويُرجَع إلى القرآن والعادة في أحوال حَضَريِّي العرب الشرعية، ويفصِل شيخٌ في خصوماتهم، وقد يَرضَى أهل القتيل بالدِّية، ويُفَضِّلون القِصاص عليها في الغالب، ويؤدِّي كلُّ قتلٍ إلى تعاقب حوادث القتل بتعاقب الأجيال.

fig160
شكل ١-٤: مخيم أعراب بالقرب من طنجة (من صورة فوتوغرافية).

ولا تقع حوادثُ القتل إلا نادرًا لما ينشأ عنها من النتائج الخطرة، ويحترم الأعرابُ أنفسُهم حياةَ الإنسان حين النهب خوفًا من الثأر، وما يؤدي إليه الثأر من تَأصُّل العداوة وتَأَرُّثها.

ويكون الثأر نافعًا عند من هم على الفطرة، وإن ظهر أول وهلةٍ عملًا همجيًّا، فهو يمنع حوادث القتل التي تقع، لا محالة، عندما يكون القانون رحيمًا، وهم يَرَونه أحسن القوانين؛ لأنه الدواء الوحيد.

ولا نظام يُكرِه الأفراد على العيش ضمن الزُّمَر، وإنما الضرورة تُلجِئهم إلى ذلك، ففي المجتمعات التي لا يركن الإنسان فيها إلى حماية الحكومة يكون، وهو منفردٌ، من الضعف ما يُعَدُّ معه محكومًا عليه بالزوال، وبهذا أيضًا نُفسِّر التفاف كل زمرة عربية في كل مكان حول رئيسٍ حفظًا لحياة أفرادها، والحق أن هذه الزمر الصغيرة ليست غير شركاتٍ لا بد منها لحفظ حياة الأعضاء الذين تتألف منهم، ويقوم نظام القبائل البدوية على مثل هذه الضرورة، ويتصف نظامُ القبائل هذا بعدم التحول اتصافها به.

وليس ببعيد أن كان عجز الفرد في كل مجتمع ضعيف النظام سببًا لظهور تلك الزمر، فإذا ما قامت حكومةٌ مركزية مقام الزمَر في حماية الأفراد زالت تلك الزمر عن الوجود أو كادت.

ونذكر، بجانب أفراد الأسر التي تتألف منها الزمر وتُقاسمها المنافع، فريق الخدم الذين إما أن يكونوا قد أَتُوا من الخارج طلبًا للرزق، وإما أن يكونوا من زُمَر أخرى لم يألفوا العيش فيها، وإما أن يكونوا من زمر مُنحلة لنكبة حلت بها أو لعلة أخرى.

وأمورُ الزراعة هي أكثر ما يمارسه هؤلاء الخدم الذين يصبحون بذلك من المزارعين، والذين يَتَقَاضَون ربع الغَلَّة غالبًا في مقابل أعمالهم، ثم يُعَدُّ هؤلاء الخدم من الأسرة ويأكلون من طعامها، وليس من القليل أن يتزوَّج خادم إحدى بناتها، ومما يحدث على العموم أن يُشْرَط على الخادم ألا يأخذ أجرة سوى طعامه وثيابه لسنين كثيرة، وعقدٌ مثل هذا يذكرنا بما صنعه يعقوب مع لابان ليتزوج راحيل، وعقدٌ مثل هذا يُثبت لنا ضعف التحول في طبائع العرب وعاداتهم منذ العصر الإسرائيلي، وقد يحدث أحيانًا، كما كان يحدث في ذلك العصر، أن يطالِب الحموُ بإطالة مدة الخدمة وإن لم يُشرَط ذلك في العقد.

وسواءٌ على الخادم أَتزَوَّجَ إحدى بنات سيده أم اقتصد مبلغًا من المال؛ ليتزوج، وليشتري بعض الأنعام، وليؤلف أسرةً، وليزرع لحسابه الخاص، لا تكون الخدمة عند أولئك الناس الذين هم على الفطرة سوى مرحلة لبلوغ ما هو أعلى منها.

وجميعُ من ذكرنا من الأهلين هم من القائلين بمبدأ تعدد الزوجات، شأنُ جميع الشرقيين، والضروراتُ هي التي تبيح لهم تعدد الزوجات كما نُبيِّن ذلك في فصل آخر، والزوجات هن اللائي يحرضن أزواجهن قبل أي إنسان على تزوج نسوة أخرى.

ويوجد لحضريي حوران، ككل بلد مجاور للصحراء وكمعظم جزيرة العرب، صلاتٌ بالأعراب الذين يضطرون إلى السلب؛ لعدم كفاية ما تُنتجه مواشيهم وخيولُهم وجمالهم.

ومصالحُ الأعراب والحضريين متناقضةٌ تناقضَ مصالح الصائد والطائر، فالصائدُ يرغب في أكل الطائر، والطائر يسعى لكيلا يأكله الصائد، ولكن الضرورة التي هي أقوى مهيمن على الإنسان لم تلبث أن وَفَّقت بين مصالح فريقَيِ العرب المتناقضة، وذلك أن الحضريين يدفعون إلى الأعراب في كل سنةٍ من المال ما يقابل حمايتهم لهم، وأن الأعراب يَذبُّون عن الحضريين طمعًا فيما يأخذون منهم، وهذا يعني أن الحضريين يتركون بعضَ غلَّاتهم ليُنقِذوا بقيتها، وهذا لا يختلف، في غير الشكل، عما يدفعه الرجل المتمدن إلى إحدى شركات التأمين من المبالغ لتضمن له ماله، ولا عما يدفعه إلى الحكومة من الضرائب؛ لتؤديَ منها رواتبَ الشُّرَط والقضاة وسائر الموظفين الذين يكفُّون الأذى عنه.

والحق أن أولئك العرب، الذين لم تكن لهم حكومة لتدفع رواتب إلى الشرط والجند ولتمنع بذلك سلبهم، يُضطرُّون إلى مداراة قُطَّاع الطرق، والنتيجة واحدة، وليست النفقات أشدَّ وطأً.

وتصبح القبائل البدوية حليفةً للقرى المجاورة في مقابل ما تدفع إليها هذه القرى من الأتاوَى، وتقوم بالدفاع عنها إزاء الأعراب الآخرين الذين يمكنهم أن يهاجموها، ولا يحدُث مثلُ هذا الهجوم إلا نادرًا لقلَّة ما يظفرون به من الغنائم من غزوهم لقرية تحافظ عليها قبيلة أخرى.

وتشابه مساكن حضريي حوران مساكن سورية، فيتألف كلُّ بيت فيها من جَنَاح للغرباء، ومن جَناح للأسرة، ومن مرافق وساحاتٍ وأَصابِلَ وما إليها، وتحيط الحواجز بِغِمَاء٤ البيت، ويُصنع هيكله من الخشب وجُدُرُه من الصَّلصال،٥ ويتألف أثاثه من الفُرُش التي يُنام عليها.

(٣-٢) المساكن

fig161
شكل ١-٥: جمالة في مصر (من صورة فوتوغرافية).

لندع الآن جانبًا حياةَ العرب الاجتماعية، وهم الذين اتخذتُهم مثالًا، ولنتكلم قليلًا عن حياة العرب المنزلية في مختلف الأرياف فنتحدث عن منازلهم وطعامهم وأزيائهم: إن بيوت طبقات العرب الوسطى والدنيا على جانب كبير من البساطة، وهي تختلف عن بيوت أغنياء العرب الزاهية التي سنصفُها في الفصل الآتي.

fig162
شكل ١-٦: عرب معتقلون بالقرب من تونس (من صورة فوتوغرافية).

وطراز تلك البيوت العامُّ واحدٌ في الشرق كله، وهي تَفْقِد كثيرًا من مظاهرها الشرقية الأصلية في البلاد التي صار للأوربيين نفوذٌ فيها، وليذهب إلى بعض القُرى في سورية والجزائر ومراكش من يرغب في رؤية تلك البيوت المربعة البيض ذات السطوح والشكل المكعب والفُرَج الضيقة، والتي تكتسب منظرًا عريقًا في شرقيته عندما يحيط النخل بها.

وتختلف أنواع المواد التي تُبنى بها تلك المنازل، كالحجارة والمُلُط وغيرها، باختلاف البلدان والبيئات، فإذا نظرت إلى منازل العرب القائمة على ضفاف النيل، مثلًا، رأيتها مبنية من الآجُرِّ المصنوع من طين ذلك النهر الممزوج بالتِّبن والمجفَّف بفعل الشمس، وأنه يَندر أن يزيد ارتفاع بعضها على ثلاثة أمتار، وأنها لا تُدخل إلا من باب ضيق جدًّا، وأنه لا يوجد في منازل فقراء الفلاحين من المنافذ سوى أبوابها، وأن منازل ذوي اليسار منهم تتألف من أقسام كثيرة مستقلة: من بيوت للسكن، وحظائر للأنعام، وأبراج للحمام … إلخ، وأنه يحيط بتلك المنازل جدرٌ طينية مُكلَّسَة، وأن أثاثها يتألف من فُرُش فقط، وأنه قلما يوجد فيها متكأ، وأن الثياب تُعلَّق على حيطانها، وأن الفُرُش واللُّحف تُطوى في كل صباح وتُوضع على الرِّفاف، وأنه يحيط بأغمية البيوت حِياطٌ على العموم.

وهنا أنبِّه القارئ إلى أن المنازل العربية وأبراج الحمام في مصر تمُتُّ إلى المباني الفرعونية القديمة بصلة القرابة، وقد كانت تتمثل لي من بعيدٍ أبراجُ الحمام المصرية، الكبيرة أحيانًا كبعض البيوت الأوربية، وما يحيط بها من المرافق أطلالًا لبعض المعابد المصرية، فأبراج الحمام المصرية مقتبسةٌ من صروح قدماء المصريين، والمنازل المصرية تميل إلى الشكل الهرمي الذي يظهر أنه دستور فن العمارة الفرعونية، وبهذا وحده يبدو تأثيرُ الطراز المصري القديم في طراز البناء الإسلامي، ويزول العجب عندما نعلم أن سكان وادي النيل حَفَدَةٌ لقدماء المصريين أكثر من أن يكونوا عربًا.

(٣-٣) الطعام

يقتصر فقراء العرب في طعامهم على الطُّلَم٦ وبعض الخضر والفواكه كالموز والتين والرطب، ويحتوي طعام الموسرين منهم على اللحم في الغالب، وتعد الفراريج المقطعة المحاطة في الصحن بالأرز أكلةَ المصرين الوطنية، ويعتمد أهل الجزائر في طعامهم على الكسكسو المصنوع من العجين المحبَّب المخلوط بأنواع اللحوم ولا سيما لحمُ الضأن.

ومهما يكن العربيُّ فقيرًا، ومهما يكن العربي بدويًّا، يبالغ في اقتراء الضيف، وينفق في هذا السبيل من سعة، ويُؤتَى بصحون الطعام على طَبَق كبير من النحاس، ويُجلس من حولِه القُرْفُصَاء، ويتناول الطعام بالأيدي، لا بالملاعق والشَّوكات التي ليست موجودة، ويكون اللحم مقطعًا سلفًا، وتؤخذ من مختلف الصحون قِطَعٌ من اللحم وتُدَحْرَج في الكفِّ حتى تصبح كُبَّةً، ومن أدب المائدة عند العرب: أن تُقدم هذه الكبة إلى الضيف ليزدَرِدَها، ومن سوء الأدب رفضها، فإذا ما كانت تلك الكبة من صنع أعرابي لم يَقُم بما أمر به القرآن من الوضوء كانت من نوع حبوب المرضَى العسيرة الهضم، وإذا ما فرغ الضيوف من طعامهم أُحضرت إليهم الطسُوت ليغسلوا أيديهم.

ولا تزال الطِّباخة العربية في المراحل الأولى، وقد أتيح لي، مع ذلك، أن أرى على الموائد العربية من أنواع الطعام ما تجهله الموائد الأوربية، ولا سيما الحلويات الفاخرة والقِشديَّات المتقنة، وقد حَذِق العرب عمل الحلاوَى والمربَّبَات كثيرًا.

والماءُ هو ما يشربه المسلمون عادةً، ولكنهم في الشرق يشربون العَرَق المصنوع من البلح والممزوج بالمصطكاء، وذلك مع قليلٍ من الجهر.

وليس بمجهول أن موائد النساء العربيات مستقلةٌ عن موائد الرجال، وأن أزواج ربِّ العائلة وبناته يُبالغن في خدمته ولا يأكلن إلا بعد أن يتم طعامه.

(٣-٤) الأزياء

يَعْجَبُ المرء، حين يتصفح إحدى المجلات التي صدرت منذ قرنٍ والمشتملة على صُوَرٍ للأزياء التي شاعت في أوربة وحدها في غضونه من تحوُّل آراء الأوربيين وأذواقهم في الأزياء ومحافظة العرب على أزيائهم التي ألِفوها منذ اثني عشر قرنًا مما يدلُّ على ثبات تقاليدهم، أجل، لم تكن أزياء المسلمين واحدة في جميع أنحاء إفريقية ومصر وسورية وجزيرة العرب، ولكنه يسهل تبيُّن ما بينها من الشبه العظيم، وهي تُرَدُّ إلى جلباب وعباءة دائمًا، والعباءة زرقاء أو سوداء في مصر، وبيضاء في الجزائر، ومخططة بخطوط بيضٍ وسود في سورية … إلخ.

وقد يكون غطاء الرأس أكثر ما يتحول من الأزياء العربية، ومع ذلك فإن غطاء الرأس قد تحوَّل ضِمن دائرة ضيقة، ففي مصر يلبسون الطربوش والعمامة، وفي سورية يلبسون الكوفية، وهي مِنديلٌ زاهي الألوان يُلفُّ به الرأس، وهو مصنوع من وبر الإبل، وفي الجزائر يُستر الرأس بغطاء أبيض يستقر عليه بشَطَن٧ مماثل للعقال.

وليس لأزياء النساء أنواع في غير الطبقات الموسرة، ويتألف لباس المرأة الفقيرة من حُلَّة طويلة مشدودة من الوسط بنطاق، ومن غطاءٍ لا يترك من الوجه شيئًا ظاهرًا سوى العينين، ويتألف ثوب المرأة المصرية من جلبابٍ أزرق مصنوع من القطن، ولا تعرف المرأة المصرية، ولا الشرقية، المِشَد وما إلى المشد من وسائل التجميل المصنوعة، ومع ذلك فإن الفلاحة المصرية ذاتُ بختَرةٍ تائهة تُدْهش رجال الفن، وتذكرنا ببخترة إلاهات قدماء الأغارقة، والإنسانُ، وقتما يرى الفلاحة المصرية الناهدة الضامرةَ الكتف الحاملة إناءً على رأسها تمشي باتزان، يقطع حقًّا بأن أمهر الخياطين في أوربة لم يُوفَّقوا لمنح المرأة الأوربية مثل هذه المِشية على الرغم مما يلجأون إليه من وسائل التجميل المصنوعة الغالية.

وأقول زيادةً على ما تقدم، وذلك لكيلا أعود إلى دراسة الأزياء عندما أبحث في شؤون عرب المدن، إن ملابس أغنياء العرب معقَّدة، ولكنها أنيقة، وهي مؤلفة من قُمُصٍ من الحرير أو الشُّفُوف، ومن صُدُراتٍ مطرزة بالذهب، ومن سراويل واسعة … إلخ، وإن النساء يَلبَسن، وقتما يخرجن من بيوتهن، مآزرَ ويسترن وجوههن ببراقع.

fig163
شكل ١-٧: أعربيتان من جوار بعلبك (سورية، من صورة فوتوغرافية).

وليس من المفيد أن نُسهب في بيان الزي عند العرب بأكثر مما تقدم، وما نشرنا في هذا السِّفر من الصور الكثيرة أفضلُ من كل إيضاح، فأرجو أن يتبين القارئ عالَم الشرق، الذي يختلف عن عالمنا، من خلال صور الأزياء والأمثلة والمباني وما إليها أكثر مما يوصف ذلك العالَم الذي لا يتجلَّى من غير أن يُلْقَى في الروع باهرُ الصور وزاهي الألوان.

هوامش

(١) الدفلى: نبت زهره كالورد وحمله كالخروب.
(٢) الملة: الجمر، الرماد الحار.
(٣) الرضف: الحجارة المحماة.
(٤) الغماء: السقف.
(٥) الصلصال: الطين اليابس يصل من يبسه.
(٦) الطلم: جمع الطلمة وهي الخبزة.
(٧) الشطن: الحبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤