الفصل الرابع

المرأة في الشرق

(١) أسباب تعدد الزوجات في الشرق

لا يدرك المرء نظم أمة أجنبية إلا إذا تناسى، قليلًا، مبادئ البيئة التي يعيش فيها وفَرَضَ نفسه من أبناء تلك الأمة، ولا سيما إذا كانت تلك النظم من نوع مبدأ تعدد الزوجات الذي لمَّا تُعْلَمْ حقيقة أمره إلا قليلًا فأسيء الحكم فيه.

ولا نذكر نظامًا أنحَى الأوربيون عليه بالائمة كمبدأ تعدد الزوجات، كما أننا لا نذكر نظامًا أخطأ الأوربيون في إدراكه كذلك المبدأ، وذلك أن أكثر مؤرخي أوربة اتِّزانًا يرون أن مبدأ تعدد الزوجات حجرُ الزاوية في الإسلام، وأنه سبب انتشار القرآن، وأنه علة انحطاط الشرقيين، ونشأت عن هذه المزاعم الغريبة، على العموم، أصوات سُخطٍ رحمةً بأولئك البائسات المكدَّسات في دوائر الحريم، واللائي يَرقُبُهن خِصْيَانٌ غِلاظ، ويُقتَلْن حينما يَكْرَههن سادتهن.

ذلك الوصف مخالفٌ للحق، وأرجو أن يَثْبُتَ عند القارئ الذي يقرأ هذا الفصل، بعد أن يطرح عنه أوهامه الأوربية جانبًا، أن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيبٌ يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطًا، ويمنح المرأة احترامًا وسعادة لا تراهما في أوربة.

وأقول، قبل إثبات ذلك: إن مبدأ تعدد الزوجات ليس خاصًّا بالإسلام، فقد عَرَفَه اليهود والفرس والعرب وغيرهم من أمم الشرق قبل ظهور محمد، ولم ترَ الأمم التي اعتنقت الإسلام فيه غُنْمًا جديدًا إذن، ولا نعتقد، مع ذلك، وجود ديانة قوية تستطيع أن تُحَوِّل الطبائع فتبتدع، أو تمنع، مثل ذلك المبدأ الذي هو وليد جَو الشرقيين وعروقهم وطُرُق حياتهم.

وتأثير الجو والعِرق من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى إيضاح كبير، وبما أن تركيب المرأة الجثماني وأمومتها وأمراضها … إلخ. مما يُكرهها على الابتعاد عن زوجها في الغالب، وبما أن التَأَيُّمَ المؤقت مما يتعذر في جو الشرق، ولا يلائم مزاج الشرقيين، كان مبدأ تعدد الزوجات ضربَةَ لازب.

وفي الغرب، حيث الجو والمزاج أقل هيمنةً، لم يكن مبدأ الاقتصار على زوجة واحدة في غير القوانين، لا في الطبائع حيث يَنْدُر.

ولا أرى سببًا لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبةً من مبدأ تعدد الزوجات السِّري عند الأوربيين، وأُبصِر العكس فأرى ما يجعله أسنى منه، وبهذا ندرك مغزى تعجب الشرقيين الذين يزورون مدننا الكبيرة من احتجاجنا عليهم ونظرِهم إلى هذا الاحتجاج شَزْرًا.

ومن السهل أن ندرك علل إقرار الشرائع الشرقية لمبدأ تعدد الزوجات بعد أن نشأ عن العوامل الجثمانية المذكورة آنفًا، فحُبُّ الشرقيين الجمُّ لكثرة الأولاد، وميلهم الشديد إلى حياة الأسرة وخُلق الإنصاف الذي يردعهم عن ترك المرأة غير الشرعية بعد أن يَكرَهوها، خلافًا لما يقع في أوربة، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي أعود إليها عما قليل، كلها أمور تَحفِز الشرائع إلى تأييد العادات التي هي وليدة الطبائع، وإذا نظرنا إلى أن القوانين لا تلبث أن تطابق العادات كان لنا أن نقول: إن تعدد الزوجات غير الشرعي في أوربة لا يلبث أن تؤيده القوانين.

fig187
شكل ٤-١: بائعة خزف في مصر العليا (صورة مأخوذة من إيبر).
fig188
شكل ٤-٢: فتاة قبطية (من تصوير إيبر).
ومن أسباب تعدد الزوجات التي لم أذكرها بعدُ ما هو خاص ببعض الطبقات، وما يفيد بيانه للدلالة على سيطرته في بعض البلدان، حتى إن أكثر الأوربيين تدينًا اضطروا إلى الاعتراف بضرورته حينما أنعموا النظر في الشعوب التي ظهر فيها مبدأ تعدد الزوجات؛ ومن ذلك أن رأى مؤلف كتاب «عمَّال الشرق» العالم «مسيو لُوپلِه» بيانَ الضرورة التي تدفع أرباب الأسر الزراعية في الشرق إلى زيادة عدد نسائهم، وكونَ النساء في هذه الأسر هن اللائي يُحرِّضن أزواجهن على البناء بزوجاتٍ أُخرَ من غير أن يتوجعن، قال مسيو لُوپله:

يتزوج ربُّ الأسرة صغيرًا على العموم، وتضعف زوجته الأولى بعد أن تكون ذات أولاد كثيرة على حين يبقى تامَّ القوة، فيُضطر إلى الزواج مرةً أخرى بتحريض الزوجة الأولى غالبًا وبموافقتها تقريبًا … وقد يَعجب المرء أولَ وهلةٍ، من حمل امرأةٍ زوجَها على الزواج بامرأة أخرى، ولكن العجب يزول حينما نعلم أن النساء في الأسر الإسلامية «الزراعية» هنَّ اللائي يَقُمن بشئون المنزل مهما كانت شاقةً، وذلك أن الفلاحين إذ كانوا يجهلون أمر اتخاذ الخوادم لم يبقَ للنساء غير الاستعانة بالإماء والقريبات اللائي يكنَّ في الزمرة نفسها، وقد لا يكون هنالك قريبات، وقد لا تسمح الأحوال باشتراء إماء، وقد تصبح الإماء عند اشترائهن جواريَ منافساتٍ للزوجة الأولى في الحظوة لدى رب الأسرة، فلا يكون لدى الزوجة الأولى ما يستلزم تفضيلَ الإماء هؤلاء على الزوجات الشرعيات الأخر، ومن ثم ترى أن الزوجة تشير في تلك الأحوال على زوجها بأن يَبنيَ بزوجة أخرى، ولا سيما إذا علمت أنها تصنع ذلك حينما تكون آخذةً في الهرم منهمكةً في واجبات الأمومة.

ومن العوامل المهمة التي ذكرها ذلك المؤلف في تعدد الزوجات عند الشرقيين هو «حُبُّهم للذرية الكثيرين، ولا عَجَبَ، فالعُقم عند الشرقيين من أعظم ما يصاب به إنسان، والشرقي إذا ما رُزق بضعة أولاد طمع في زيادة عددهم، وتزوج بنساءٍ أُخرَ وصولًا إلى هذا الغرض.»

ولاحظ ذلك المحقق أن تعدد الزوجات عند الشرقيين لا يؤدي إلى تحاسدهن وتنافسهن، ويرى الأوربيون استحالة ذلك لما يُساوِرُهم من مبتسَراتٍ لا ريب، ورأيُ الأوربيين هذا ناشئ عن نظرنا إلى الأمور من خلال مشاعرنا، لا من خلال مشاعر الآخرين، ويكفي انقضاء بضعة أجيال لإطفاء مبتسَرَاتٍ أو إحداثِها، ويمكننا أن ندرك ضرورةَ تبديل رأينا في هذا الأمر عند الرجوع إلى أدوار المجتمعات الفطرية الأولى حين كان النساء شيئًا مُشاعًا بين رجال القبيلة الواحدة، أو إلى الأدوار التي هي أقرب من تلك حين كان النساء شيئًا مُشاعًا بين أفراد الأسرة الواحدة، أو إلى أيامنا التي نرى فيها وجود هذه الطبائع في بعض أجزاء الهند.

(٢) تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق

لم يقتصر الإسلام على إقرار مبدأ تعدد الزوجات الذي كان موجودًا قبل ظهوره، بل كان ذا تأثير عظيم في حال المرأة في الشرق، والإسلامُ قد رفع حال المرأة الاجتماعيِّ وشأنَها رفعًا عظيمًا بدلًا من خفضها خلافًا للمزاعم المكررة على غير هدى، والقرآن قد منح المرأة حقوقًا إرثية أحسن مما في أكثر قوانيننا الأوربية كما أثبتُّ ذلك حينما بحثتُ في حقوق الإرث عند العرب، أَجَلْ، أباح القرآن الطلاق كما أباحته قوانين أوربة التي قالت به، ولكنه اشترط أن يكون «للمطلقات متاعٌ بالمعروف.»

وأحسن طريقٍ لإدراك تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق هو أن نبحث في حالهنَّ قبل القرآن وبعده.

يمكننا استجلاء الحال التي كانت عليها النساء قبل ظهور النبي من التحريم الآتي الذي جاء في القرآن: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا.

وتحريم مثل هذا، وإن كان لا يدل على رقي عادات الأمة التي اقتضته، يهُونُ أمر دلالته عندما نعلم أن ما أشار إليه من العادات كان شائعًا بين جميع الأمم السَّامِيَّة، فالتحريم الذي جاء في التوراة (الأصحاح الثامن عشر من سِفرِ اللاويين ٦–١٨) مثل ما جاء في القرآن، ويشير إلى أمور أشد خطرًا مما أشار إليه القرآن.

fig189
شكل ٤-٣: امرأة بربرية من الجزائر (من صورة فوتوغرافية).
وكان الرجال قبل ظهور مُحَمَّد يَعُدُّون منزلة النساء متوسطةً بين الأنعام والإنسان من بعض الوجوه، أي أداةً للاستيلاد والخدمة، وكانوا يَعُدُّون ولادة البنات مصيبة، وشاعت عادة الوأد، وصار لا يُجادَل فيها كما لو كانت البنات جِرَاءً١ يُقذف بها في الماء، ويمكننا أن نتمثَّل عادة الوأد عند العرب من المحاورة الآتية التي وقعت بين رئيس بني تميم قيسٍ ومُحَمَّد، حينما رأى قيسٌ محمدًا يضع إحدى بناته على ركبتيه، والتي رواها كوسان دوپرسڨال:
قيس : مَن هذه الشاة التي تَشَمُّها؟
مُحَمَّد : ابنتي.
قيس : والله كان لي بناتٌ كثيرٌ، فَوَأَدْتهُنَّ من غير أن أشمَّ واحدةً منهن.
مُحَمَّد (صارخًا) : ويلٌ لك، يظهر أن الله نزع الرحمة من قلبك، فلا تَعرِف أطيبَ النِّعَم التي مَنَّ الله بها على الإنسان.

وإذا أردنا أن نعلم درجة تأثير القرآن في أمر النساء وجب علينا أن ننظر إليهنَّ أيام ازدهار حضارة العرب، وقد ظهر مما قَصَّه المؤرخون، فنذكره فيما بعد، أنه كان لهن من الشأن ما اتفق لأَخَوَاتهن حديثًا في أوربة، وذلك حين انتشار فروسية عرب الأندلس وظَرْفِهم.

وقد ذكرنا في فصلٍ سابق أن الأوربيين أخذوا عن العرب مبادئ الفروسية وما اقتضته من احترام المرأة، والإسلام، إذن، لا النصرانية، هو الذي رفع المرأة من الدَّرك الأسفل الذي كانت فيه، وذلك خلافًا للاعتقاد الشائع، وإذا نظرتَ إلى سنيورات نصارى الدور الأول من القرون الوسطى رأيتَهم لم يحملوا شيئًا من الحُرمة للنساء، وإذا تصفحت كُتُب تاريخ ذلك الزمن وجدتَ ما يُزيل كلَّ شك في هذا الأمر، وعلمت أن رجال عصر الإقطاع كانوا غِلاظًا نحو النساء قبل أن يتعلم النصارى من العرب أمر معاملتهنَّ بالحسنى، ومن ذلك ما جاء في تاريخ غاران لُولُوهِيرَان عن معاملة النساء في عصر شارلمان وعن معاملة شارلمان نفسه لهنَّ كما يأتي: «انقضَّ القيصر شارلمان على أخته في أثناء جدال، وأخذ بشعرها وضربها ضربًا مبرِّحًا، وكسر بقفَّازه الحديدي ثلاثًا من أسنانها»، فلو حدث مثل هذا الجدل مع سائق عربةٍ في الوقت الحاضر لبدا هذا السائق أرَقَّ منه لا ريب.

ومن الأدلة على أهمية النساء أيام نضارة حضارة العرب كثرَةُ من اشتهر منهن بمعارفهن العلمية والأدبية، فقد ذاع صيتُ عددٍ غير قليل منهن في العصر العباسي في المشرق والعصر الأموي في إسپانية، ونذكر منهنَّ بنتَ أحد الخلفاء، الذي كان جالسًا على عرش الخلافة سنة ٨٦٠ (!) ولَّادَة التي لُقِّبت بسافو قرطبة، وقال كونده مُلخِّصًا ما ذكره مؤرخو عبد الرحمن الثالث:

كان عبد الرحمن الثالث، وهو يتمتع بأطايب مدينة الزهراء، يحبُّ أن يستمع إلى أغاني جاريته وأمينة سِرَّه العذبة مُزْنَةَ وإلى فتاة قرطبة الكريمة عائشة، التي روى ابن حيان أنها كانت أعقل بنات عصرها وأجملهنَّ وأعلمهن، وإلى صفية التي كانت شاعرةً باهرة الجمال …»، وأضاف مؤرخو الحكم الثاني إلى ذلك قولَهم: «إن نساء ذلك الزمن — الذي كان للعلم والأدب شأنٌ عظيم فيه ببلاد الأندلس — كنَّ مُحبَّات للدرس في خُدُورهن، وكان الكثير منهن يتميَّزن بدماثتهن ومعارفهن، وكان قصر الخليفة يضمُّ لُبنى، أي هذه الفتاة الجميلة العالمة بالنحو والشعر والحساب وسائر العلوم والكاتبة البارعة التي كان الخليفة يعتمد عليها في كتابة رسائله الخاصة، والتي لم يكن في القصر مثلها دقةَ تفكيرٍ وعذوبةَ قريضٍ، وكانت فاطمة تكتب بإتقان نادر، وتنسخ كتبًا للخليفة، ويُعجب جميع العلماء برسائلها، وتَملك مجموعة ثمينة من كتب الفن والعلوم، وكانت خديجة تَنْظِم الأبياتَ الرائعة وتُنشِدها بصوتها الساحر، وكانت مريم تعلِّم بنات الأُسر الراقية في أشبيلية العلمَ والشعر مع شهرةٍ عظيمة فتخرَّجت في مدرستها نساءٌ بارعات كثيرات، وكانت راضية، المعروفة بالكوكب السعيد والتي حَرَّرها الخليفة عبد الرحمن وتَنَزَّلَ عنها لابنه الحكم، نابغة عصرها في القريض ووضع القصص الرائعة فساحت في الشرق بعد موت الخليفة، وكانت محلَّ هُتاف العلماء في كل مكان.

وخَبَت حضارة قدماء الخلفاء الساطعة في عهد وارثي العرب، ولا سيما في عهد الترك، فنقص شأن النساء كثيرًا، وسَأُبَيِّن في مكان آخر أن حالتهن الحاضرة أفضل من حالة أخواتهن في أوربة حتى عند الترك، وما تقدم يُثْبِت أن نقصان شأنهن حدث خلافًا للقرآن، لا بسبب القرآن على كل حال.

وهنا نستطيع أن نكرر، إذن، قولَنا: إن الإسلام، الذي رفع المرأة كثيرًا، بعيدٌ من خفضها، ولم نكن أول من دافع عن هذا الرأي، فقد سَبَقَنا إلى مثله كوسان دوپرسڨال ثم مسيو بَارْتِلْمِي سَنْت هِيلِر.

fig190
شكل ٤-٤: امرأة بربرية من جوار بسكرة (من صورة فوتوغرافية).

ولم يقتصر فضل الإسلام على رفع شأن المرأة، بل نُضيف إلى هذا أنه أولُ دين فعل ذلك، ويَسْهُل إثبات هذا ببياننا أن جميع الأديان والأمم التي جاءت قبل العرب أساءت إلى المرأة، وهذا ما أوضحناه في كتابنا الأخير، فلا نرى غير تكرار ما ذكرناه فيه لإقناع القارئ: كان الأغارقة، على العموم، يَعُدُّون النساء من المخلوقات المنحطة التي لا تنفع لغير دوام النسل وتدبير المنزل، فإذا وَضَعَت المرأة ولدًا دميمًا قَضَوا عليها، ومن ذلك قول مسيو ترُوپْلُونْغ: كانت المرأة السيئة الحظ التي لا تضع في إسپارطة ولدًا قويًّا صالحًا للجندية تُقتَل، وقال: كانت المرأة الولود تُؤخذ من زوجها بطريق العارية؛ لتَلِد للوطن أولادًا من رجل آخر.

ولم يَنَل حُظوَةً من نساء الإغريق في دور ازدهار الحضارة اليونانية سوى بنات الهوى اللاتي كنَّ وحدَهن على شيء من التخرج.

وكان جميع قدماء المشترعين يُبدون مثل تلك القسوة على المرأة، ومن ذلك قول شرائع الهندوس: «ليس المصير المقَدَّر والريح والموت والجحيم والسم والأفاعي والنار أسوأ من المرأة.»

ولم تكن التوراة أرحم بالمرأة من شرائع الهند، ومن ذلك قول سِفر الجامعة: «إن المرأة أمرُّ من الموت»، وإن «الصالح أمام الله ينجو منها … رجلًا واحدًا بين ألف وجدتُ، أما امرأة فبين كل أولئك لم أجد.»

fig191
شكل ٤-٥: فتاة مراكشية (من صورة فوتوغرافية).

وليست أمثال مختلف الأمم أكثر اعتدالًا، فالمثل الصيني يقول: «أنصت لزوجتك ولا تصدِّقها»، والمثل الروسي يقول: «لا تجد في كل عشر نسوة غير روح واحدة»، والمثل الإيطالي يقول: «المِهْمَازُ للفرس الجواد والفرس الجموح، والعصا للمرأة الصالحة والمرأة الطالحة»، والمثل الإسپاني يقول: «احذر المرأة الفاسدة ولا تركن إلى المرأة الفاضلة.»

fig192
شكل ٤-٦: فتاة عربية من الجزائر (من صورة فوتوغرافية).

وتعُدُّ جميعُ الشرائع الهندوسية واليونانية والرومانية والحديثة المرأةَ من فَصِيلة الإماء أو الصبيان، ومن ذلك قول شريعة مَنُو: «تخضع المرأة في طفولتها لأبيها، وفي شبابها لزوجها، وفي تَأَيُّمها لأبنائها إذا كان لها أبناء، وإلا فإنها تخضع لأقرباء بَعْلَها، أي لا يجوز تركُ أمرها لها»، ويَقْرُب من هذا ما ورد في شرائع اليونان والرومان، فقد كان سلطان الرجل في رومة على زوجته مطلقًا، وكانت تعد أمةً لا قيمة لها في المجتمع، ولم يَكن لها قاضٍ سوى زوجها الذي بيده حقُّ حياتها وحق مَوتها، ولم تعامل الشريعة اليونانية المرأةَ بأحسنَ من هذا، وهي لم تعترف لها بأيِّ حق، ولا بحق الميراث.

ومن غير أن نذهب بعيدًا إلى أحكام القوانين والديانات القديمة في نقص المرأة عقلًا وأخلاقًا، أذكر أن بعض العلماء المعاصرين أثبتوا ذلك النقص مستندين إلى عوامل تشريحية ونفسية كثيرة، فحاولوا إقامة الدليل على أن الحضارات كلما تقدمت اختلفت المرأة عن الرجل ذكاء.٢

ولا يظن القارئ أن العرب، الذين احترموا المرأة أكثر من أية أمة ظهرت، لم يوافقوا على الرأي القديم القائل بنقص المرأة عقلًا وأخلاقًا، فشكوكهم في وفاء المرأة كبيرة إلى الغاية، وذلك أن المرأة في نظرهم من المخلوقات الصغيرة الجميلة الفاتنة العابثة اللاهية التي لا يُرْكَن إلى ثَبات جَنانها طرفة عين، وقديمًا قال مشترع الهند الرزين مَنُو الذي ظهر قبل مُحَمَّد بأكثرَ من ألفي سنة: «تُعد المرأة زانيةً إذا خلت بالرجل مُدةً تكفي لإنضاج بَيْضَة.»

أجل، إن المدة التي حددها مَنُو لإصدار هذا الحكم الصارم قليلة، ولكنه نشأ عن اعتقاد الشرقيين صحة ذلك تقييدُهم لحرية المرأة وإكراهها على العَيش في دوائر الحريم، وهذا لا يعني أنهم يَرَون عِصمة المرأة بين الجدُر والخِصيان، وإنما حملوها على العيش في هذه الدوائر لعدم اكتشافهم علاجًا أفضل منه، ومن يُنْعِم النظر في أقاصيصهم الشعبية يَرَ فيها أثرًا لهذا الاعتقاد، فاقرأ رواية ألف ليلة وليلة العجيبة، مثلًا تجد أن فاتحتها الدقيقة تدور حول مَيْل المرأة إلى الخداع بطبيعتها، وأن المرأة لو حُبِست في قفص من زجاج وراقبها مَلَكٌ مِغيار لاستطاعت، في الغالب، أن تخادع كما تشاء، والشرقيون، إذ كانوا مُطَّلِعين بغرائزهم على سرائر الأمور، يَرَون من طبيعة المرأة أن تكون غادرةً غيرَ وفيَّة كما أن الطيران من طبيعة الطير، والشرقيون، إذ كانوا حريصين على صفاء نَسلهم، اتخذوا ما يروقُهم من وسائل الحذر منعًا لحدوث ما يَخشَون.

(٣) الزواج عند العرب

أباح القرآن للمسلم أن يتزوج أربعَ نِسوَة من الحرائر وما شاء من الإماء، ويُعد أولاد الإماء شرعيين كأولاد الحرائر.

وللزوج أن يُطَلِّق زوجته، ولكنه يجب عليه أن يصنع ما يَكْفُل به مصيرها.

وفي بلد كالشرق، حيث يَسْهُل الزواج فيتزوج الرجال والنساء في مَيعَة الشباب يُدْرَك السر في إمكان صرامة الطبائع بأشد مما في أوربة، والحق أن الطبائع في الشرق صارمة، وأن من النادر أن ترى رجلًا يتملَّق زوجةَ رجلٍ آخر لمخالفة ذلك للطبيعة عند الشرقيين مع عدِّه أمرًا طبيعيًّا لدى الأوربيين، «فلا ترى هنالك، كما قال الدكتور إيزَنْبِرْت، مثلَ ما يُكَدِّر صفو الحياة الزوجية في أوربة من الخيانة التي هي أعظم إفسادًا للأخلاق من تعدد الزوجات على ما يحتمل.»٣

وتحاط المرأة في الشرق برقابة شديدة، ولا يزورها رجل، ولا تخرج من بيتها إلا مبرقعة، وإذا عَدَوْتَ الآستانة وجدت النساء الشرقيات مصحوبات على العموم، ولا يتعرض أحد لهن إلا نادرًا، ولا نَعْجَب كثيرًا، إذن، من قول الشرقيين إن نساءهم أفضل من الأوربيات.

ولا يزال رب الأسرة الشرقية محافظًا على سلطانه خلافًا لما هو واقع في الغرب، ولا تُكَلِّمُ النساء الشرقيات أزواجهن إلا بأدب، ويقتدي الأولاد بهن بطبيعة الحال، ويتمتع رب الأسرة الشرقية، في الحقيقة، بمثل ما كان يتمتع به ربُّ الأسرة في رومة الغابرة من السلطان والامتيازات، ولا يجد الشرقيون فينا ما يُثير حسدهم من هذه الناحية.

وينظر العرب شزرًا إلى العزوبة، والعزوبةُ تزيد في الغرب شيوعًا كلَّ يوم كما دلت عليه الإحصاءات، ومتى بلغ العربيُّ العشرين من عمره تزوج على العموم، ومتى بلغت العربية ما بين السنة العاشرة والسنة الثانية عشرة من عمرها تزوجت على العموم، وقد اعترف إيبر بفائدة هذه العادة فقال: «لا يسعنا إلا الشهادة بحسن تلك الروح البَيْتِيَّة، وصلاح تلك الحياة المنزلية.»

fig193
شكل ٤-٧: فتاة سورية (من صورة فوتوغرافية).

ويمتاز الزواج الشرقي من الزواج الأوربي، فيما عدا مبدأ تعدد الزوجات، بأن الزوج في الشرق هو الذي يدفع إلى أهل الزوجة مهرًا متحوِّلًا بحسب ثروتيهما، وبأن الزوجة عند أكثر الغربيين، ولا سيما طبقاتُهم الموسرة، هي التي تدفع مبلغًا من المال يُعرف بالدُّوتَة لتنال زوجًا.

وحقوق الزوجة التي نص عليها القرآن ومفسروه أفضلُ كثيرًا من حقوق الزوجة الأوربية، فالزوجة المسلمة تتمتع بأموالها الخاصة فضلًا عن مهرها، وعن أنه لا يُطلب منها أن تشترك في الإنفاق على أمور المنزل، وهي إذا أصبحت طالقًا أخذت نَفَقَةً، وهي إذا تأيَّمت أخذت نفقةَ سنةٍ واحدة، ونالت حصة من تركة زوجها.

وتعامَل المرأة المسلمة باحترام عظيم فضلًا عن تلك الامتيازات، وتنال بذلك حالًا أجمع الباحثون المنصفون، ومنهم من ناصب بعاطفته مبدأ تعدد الزوجات العِداء، على الاعتراف بحسنها، ومن هؤلاء مسيو دو أَمِسِيس الذي قال في مَعرِض الحديث عن المرأة في الشرق، وذلك أن أنحى باللائمة على تعدد الزوجات وَفْقَ وجهة نظره الأوربية: «إن المرأة في الشرق تُحترم بنُبْل وكرم على العموم، فلا أحد يستطيع أن يرفع يده عليها في الطريق، ولا يجرؤ جنديٌّ أن يسيء إلى أوقح نساء الشعب حتى في أثناء الشغب، وفي الشرق يَشمل البعل زوجته بعين رعايته، وفي الشرق يبلغ الاعتناء بالأم درجة العبادة، وفي الشرق لا تجد رجلًا يُقدم على إلزام زوجته بالعمل ليستفيد من كسبها، وفي الشرق يدفع الزوج مهرًا إلى زوجته فلا تجيء الزوجة إلى بيت زوجها مصحوبةً بأكثر من جهازها ومن بضع إماء لها، وإذا طُلِّقَت الزوجة في الشرق أو هُجِرت أعطاها الرجل نَفَقَةً لتعيش عن سعة، وحَمْلُ الزوج بعد الفراق على القيام بهذا الإنفاق يمنعه من إساءة معاملتها حَذَرَ مطالبته بالفراق.»

fig194
شكل ٤-٨: امرأة تركية بالزي البلدي (من صورة فوتوغرافية).

والاعتراض الوحيد الظاهر الذي يوجَّه إلى مبدأ تعدد الزوجات هو أنه يجعل المرأة تَعِسَة، وقد أجمع على فساد هذا الزعم الذي طال أمَده جميعُ الأوربيين الذين درسوا أمره في الشرق عن كَثَب، فبعد أن ذكر مسيو إيبر، الذي بدا خصمًا لمبدأ تعدد الزوجات مع تردُّدٍ، أن المسلمات لا يتظلمن منه قال: «قد يظهر لأخواتهن الأوربيات أنهن من الذليلات، ولكنهن لا يشعرن بأنهن أسيرات مطلقًا، وهن يقلن — في الغالب — لنسائنا اللاتي يَزُرْنَهُنَّ: إنهن لا يَقْبَلْنَ استبدال حالنا بحالهن.»

ولم يكن مدير مدرسة اللغات في القاهرة، مسيو دوڨوجاني، أقلَّ صراحة من ذلك: فقد قال: «تَعُدُّ المسلماتُ أنفسهن غير تعسات من حياة العُزلة التي يَفْرِضها عليهن نظام الحريم، فهن إذ يولَدن في دوائر الحريم غالبًا يترعرعن فيها جاهلاتٍ وجودَ حياة لبنات جنسهن أفضلَ من تلك الحياة مُعرضاتٍ عن الحرية التي تتمتع بها الأوربيات، ولا غرو، فدوائر الحريم كانت مسرح طفولتهنَّ ومسراتهنَّ الأولى وهواجسهنَّ الأولى.

«ويقال إن العادة طبيعة ثانية، فإذا صحَّ هذا القول كانت حياة الحريم طبيعة ثانية لبنات الشرق، فهن إذ يتعوَّدن السير في دائرةٍ يعرفن حدودها لا يُفكِّرن حتى في التحرر منها، وهن حين يتزوَّجن ينتقلن من دوائر آبائهن إلى دوائر أزواجهن حيث يتمتَّعن بأنعُمٍ جديدة ويفتحن قلوبهن، الخاليةَ من تَرَحٍ تُورِثه تربيةٌ دقيقة، لمعاني السعادة، وما يلاقينه من رعاية أزواجهن يجعل هذه السعادة أمرًا ميسورًا، والمسلم يحبُو بكل جميل وبكل ثمين، والمسلم يحب أن يعرض في دوائر حريمه كل ما ينمُّ على الترف والزخرف مع أنه يرضى لنفسه برقعةٍ مُتَّضِعَةٍ إذا ما قيست بتلك.»

ونَقَضَ ذلك العالم الرأي القائل: «إن نساء الشرق جاهلاتٌ جهلًا عميقًا»، وذكر أنهن أعظم تعليمًا من أكثر نساء أوربة، وأن منهن من ينتسبن إلى أرقى الطبقات، وقال: «إن التعليم كثيرُ الانتشار في دوائر الحريم، وليس من القليل أن تجد نساءً متزوجاتٍ وغيرِ متزوجاتٍ تجيد كلُّ واحدة منهن العربية والفرنسية والإنكليزية والتركية تكلمًا وكتابة، فإذا ما اجتمع عددٌ كبير من المسلمات الراقيات في دوائر الحريم تحادثن باللغة الفرنسية غالبًا»، وأما أنا فلم أشاهد عددًا كبيرًا من الباريسيات اللاتي يتكلمن بأربع لغاتٍ تكلمًا صحيحًا أو غير صحيح.

ولا تَقُل: إن طرق حياة النساء في الشرق مانعةٌ من تعليمهن في كل وقت، فقد رأيتَ مما تقدم أن عدد النساء اللاتي اشتهرن أيام ازدهار حضارة العرب بعلومهن كان كثيرًا إلى الغاية، ولم يستند الكتُّاب الذين تحدثوا عن جهل المرأة الشرقية إلا إلى حال الإماء اللاتي يُجلبن من أقاصي الأقطار، ويُشترين من أسواق النِّخاسة ويشاهَدن في بعض دوائر الحريم، وما هؤلاء الكتَّاب إلا كمن يَستنبط رُقيَّ السيدة الباريسية الفاضلة من حال خادمة غرفتها.

(٤) الحريم في الشرق

كلمة «الحريم» لفظٌ عام يدل عند العرب على كلِّ ما هو مقدس، فإذا ما طُبِّقت هذه الكلمة على منزل دَلَّت على أمنع قسم منه وأشدِّه حرمةً لدى المسلم، أي على المكان الذي تسكنه نساؤه.

ويَنسج الأوربيون، على العموم، أفسد الآراء حول دوائر الحريم في الشرق، ويَعُدُّون دوائر الحريم دُورَ فسقٍ يسكنها نساءٌ سجينات تَعِسات يَقْضِين أوقاتهن في البطالة ويَلعنَّ حظهنَّ.

وقد بيَّنا درجة بُعدِ هذه الأحكام من الصحة، ويقضي جميع الأوربيين الذين يدخلون دوائرَ الحريم كلَّ العجب من حب النساء فيها لأزواجهن، ومن تربيتهن لأولادهن، وتدبيرهن لأمور منازلهن، ورضاهن بما قُدر لهن، واعتقادهن تقهقرهن إذا ما حُمِلن على تبديل حال الأوربيات بحالهن، وهن يتوجعن بإخلاص من إلزام الأوربيات بالأشغال وبالأعمال اليدوية مع أنهن لا يعتنين إلا بأُسَرهن وأزواجهن ذاهباتٍ إلى أن المرأة خُلِقت لهذا.

وينظر الشرقيون إلى الأوربيين الذين يُكْرِهون نساءهم على التجارة والصناعة والأشغال … إلخ، كما ننظر إلى حصان أصيل يستخدمه صاحبه في جَرِّ عَرَبة أو إدارة حجر رحًى، فيجب ألا يكون على المرأة، عند الشرقيين، غيرُ إدخال السرور إلى قلب الرجل وتربية الأسرة، ولا يرى الشرقيون أن المرأةَ التي تزاول أعمالًا أخرى تستطيع أن تقوم بدَوْرِها هذا على الوجه اللائق.

وتترك الأممُ بعضَ الأثر في نفس من يزورها، ولذا أشارك الشرقيين في رأيهم ذلك مشاركةً تامة، وأقول، مع ذلك: إن كلَّ شيء في دوائر الحريم لا يسير كما يُرام، وإن دوائر الحريم في المدن التركية الكبيرة على الأقل، ولا سيما في الآستانة، تُورِث فسادًا كبيرًا، وإن أخلاق الحريم في الآستانة هيِّنَةٌ في الوقت الحاضر كالتي تشاهد في عواصمنا الغربية الكبرى، وإن نفوذ الأوربيين وزيادة الترف والفقر الشائع، بعد الحرب الأخيرة على الخصوص، أمورٌ أدت إلى انحلال الأخلاق، وإنك تَجِد في الآستانة نساءً كثيراتٍ، ومنهن من يَنْتَسِبن إلى بعض الأعيان، لا يَصعُب نيل الحُظوة لديهن بدراهم تُدفع إلى حَرَس الحريم من غير ضرورةٍ إلى كبيرِ عناءٍ في الغالب.

fig195
شكل ٤-٩: داخل قصر أسعد باشا في دمشق (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

وروت زوجة محمد باشا القبرسيِّ الذي كان رئيسًا للوزارة العثمانية في كتابها «الإنكليزي» الحديث الذي اسمه «ثلاثون سنة في الحريم»، وذلك بعد أن قَضَت حياتها في دوائر حريم أكابر الأعيان: أنه كان من عادة نساء السلطان عبد المجيد أن ينَادِين السَّابلة من نوافذ قصرهنَّ، وأن من يلبِّي الدعوة من أولئك السابلة يُخْنَقُ في الغد كتمًا للسر، وأن خبر ما وقع من الفِسق لا يشيع على العموم، وأنه كان من حَذَر نازلي هانم بنتِ عزيز مصر، محمد علي، أن تقتل جميع عشاقها من المارين، وأنها كانت مع ذلك شديدةَ الغَيرة كما يدل عليه ما يأتي: «حدث أن قال المرحومُ زوجُها، ذاتَ مرةٍ، للجارية التي أحضرَت إليه ماء: «كفى يا حَمَلي!»، فلما وصل خبر هذه الكلمة إلى تلك الأميرة اضطربت، وأمرت بخنق تلك الجارية التَّعسة، وحَشْوِ رأسها بالأرُزِّ وطهوه ووضعه في طبق وتقديمه إليه، فلما عُرض عليه قالت له: «كل قطعةً من حَمَلك إذن»، فرمى هنالك مِنْشَفَتَه وتوارى، ولم يَبْدُ مَليًّا كارهًا لها بعد ذلك.»

fig196
شكل ٤-١٠: كفة ميزان نحاسية مكفتة بالفضة مصنوعة في دمشق (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

نقلتُ ما تقدم ليطلع القارئ على ما يقال في مدح مبدأ تعدد الزوجات، وعلى ما قد يقال في ذَمة، وإنما أرى أن مساوئه تتجلى، على الخصوص، في دوائر حريم أعيان الترك حيث تُحَاك الدسائس التي هي سياسية أكثر منها غراميةً، لا في دوائر حريم الطبقات الوسطى، وأرى أن مَثَل من يحاول تقدير نظام الحريم بتلك الروايات كمثل من يُقدِّر مبدأ الاقتصار على زوجة واحدة بالفضائح التي تَضِجُّ محاكمنا منها في كل يوم، أو بالقضايا التي تُرْفَع على بعض رجال الدين النصرانيِّ؛ لعدم قيامهم بما يجب عليهم من الطُّهر والعفاف.

وإنني أطمع أن يعتقد القارئ، بعد وقوفه على ما تقدم، أن مبدأ تعدد الزوجات أمرٌ طيب، وأن حبَّ الأسرة وحسنَ الأدب وجميلَ الطبائع أكثرُ نموًّا في الأمم القائلة به مما في غيرها على العموم، وأن الإسلام حسَّنَ حال المرأة كثيرًا، وأنه أولُ دينٍ رفع شأنها، وأن المرأة في الشرق أكثرُ احترامًا وثقافةً وسعادةً منها في أوربة على العموم تقريبًا.

هوامش

(١) الجراء: جمع الجرو، وهو ولد الكلب.
(٢) لا أكتم أنني صاحب هذا الرأي الخصيب النتائج، ففصلته في مذكرة نشرتها بعنوان: «المباحث التشريحية والرياضية في ناموس تحولات حجم الجمجمة»، وفي هذه المذكرة حاولت أن أثبت أيضًا أن فروق الذكاء بين الرجال تبدو باطراد كلما تمدنوا، وأن الحضارة تقودنا باستمرار إلى التفاوت لا إلى المساواة.
(٣) يمكن الدكتور إيزنبرت أن يقول، أيضًا: إن الخيانة الزوجية في الأمم القائلة بالاقتصار على زوجة واحدة تزيد باطراد، فقد دلت الإحصاءات الرسمية التي نُشرت حديثًا على أن عدد قضايا الزنا في فرنسة سنة ١٨٨٠ أصبح تسعة أمثال ما كان عليه في سنة ١٨٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤