الفصل الأول

مصادر معارف العرب: تعليمهم ومناهجهم

(١) مصادر معارف العرب العلمية والأدبية

كانت حضارة الفرس وحضارة بزنطة العظيمتان تقذفان نيرانهما الأخيرة حينما بدأت فتوح العرب، وقد استوقف العالم الذي فَتَحَه أتباع النبي خيالَهم المضطرم، فأخذوا يدرسون الآداب والفنون والعلوم بمثل نشاطهم في فتوحهم، ولم يلبث الخلفاء، بعد أن شادوا دولتهم، وأن أنشأوا في جميع المدن المهمة مراكز للتعليم، وجمعوا حولهم كل عالم قادر على ترجمة أشهر الكتب، ولا سيما كتب اليونان.

وحَدَثَ ما جَعَل أمرَ تلك الترجمة سهلًا، فقد كانت معارف اليونان والرومان العلمية القديمة منتشرةً في بلاد الفرس وسورية منذ زمن، وبيان ذلك أن النساطرة لما نُفُوا من دولة الروم أقاموا في مدينة الرُّها (أورفة) العراقية مدرسةً لنشر معارف اليونان في آسية، وأن تلك المدرسة لما هُدمت في عهد زِنُون الإيزوري احتضن أكاسرةُ بني ساسان أساتذتها، وأنه كان من نتائج هذا القبول الحسن أن قَصَد علماء أثينة والإسكندرية بلاد فارس عندما أغلقها جوستينيان فنقلوا إلى أكثر لغات الشرق انتشارًا، كالسريانية والكلدانية … إلخ، أهمَّ كتب علماء اليونان مثل أرسطو وجالينوس وذيسقوريدس.

وَوَجَد العرب في بلاد فارس وسورية، حينما استولَوا عليها، خزائنَ من العلوم اليونانية، وأمروا بنقل ما في اللغة السريانية منها إلى اللغة العربية، ولم يلبثوا أن أمروا بأن يُنقل إليها ما لم يكن قد نُقِل، فأخذت دراسات العلوم والآداب تسير قُدُما إلى الأمام.

ولم يَدُم اكتفاء العرب بما نُقِل إلى لغتهم طويلًا، فقد تَعَلم عدد غير قليل منهم اللغة اليونانية، على الخصوص، ليستقوا منها علوم اليونان، ثم تعلَّموا اللغة اللاتينية واللغة القشتالية في إسپانية، كما يشهد بذلك ما في مكتبة الإسكوريال من المُعجمات العربية اليونانية والعربية اللاتينية والعربية الإسپانية التي ألَّفها علماء من المسلمين.

وكانت معارف اليونان واللاتين القديمة أساسًا لثقافة متعلمي العرب في الدور الأول، وكان هؤلاء كالطلاب الذين يتلقون في المدرسة ما وَرَثه الإنسان من علوم الأولين، وكان اليونان أساتذة العرب الأولين إذن، ولكن العرب المفطورين على قوة الإبداع والنشاط لم يكتفوا بحال الطلب الذي اكتفت به أوربة في القرون الوسطى؛ فلم يلبثوا أن تحرَّرُوا من ذلك الدور الأول.

والإنسانُ يقضي العجب من الهِمة التي أقدم بها العرب على البحث، وإذا كانت هنالك أممٌ تساوت هي والعرب في ذلك فإنك لا تجد أمة فاقت العرب على ما يحتمل، والعرب كانوا إذا ما استولَوا على مدينة صرفوا همَّهم إلى إنشاء مسجد وإقامة مدرسة فيها، وإذا ما كانت تلك المدينة كبيرةً أسسوا فيها مدارس كثيرة، ومنها المدارس العشرون التي روى بنيامين التُّطِبلِيُّ المتوفى سنة ١١٧٣م أنه شاهدها في الإسكندرية، وهذا عدا اشتمال المدن الكبرى كبغداد والقاهرة وطليطلة وقرطبة … إلخ، على جامعات مشتملة على مختبراتٍ ومراصد ومكتبات غنية، وكل ما يساعد على البحث العلمي، وكان للعرب في إسپانية وحدها سبعون مكتبة عامة، وكان في مكتبة الخليفة الحكَم الثاني بقرطبة ستمائة ألف كتاب منها أربعةٌ وأربعون مجلدًا من الفهارس كما روى مؤرخو العرب، وقد قيل، بسبب ذلك: «إن شارل الحكيم لم يستطع، بعد أربعمائة سنة، أن يجمع في مكتبة فرنسة المَلَكية أكثر من تسعمائة مجلد يكاد ثلثها يكون خاصًّا بعلم اللاهوت.

(٢) مناهج العرب العلمية

ليست المكتباتُ والمختبراتُ والآلاتُ غيرَ وسائل للدرس والبحث، وتكون قيمتها في معرفة الاستفادة منها، وقد يستطيع المرء أن يكون مطلعًا على علوم الآخرين، وقد يبقى عاجزًا عن التفكير وابتداع أي شيء مع ذلك، فيظلُّ تلميذًا غير قادر على الارتقاء إلى درجة أستاذ، وسيبدو، من الاكتشافات التي نذكرها في الفصول الآتية مقدار ما اكتشفه العرب بما لديهم من وسائل الدرس، والآن أقتصر على ذكر المبادئ العامة التى وَجَّهَت أبحاثهم: لم يلبث العرب، بعد أن كانوا تلاميذ معتمدين على كتب اليونان، أن أدركوا أن التجربة والترصد خيرٌ من أفضل الكتب، وعلى ما يبدو من ابتذال هذه الحقيقة جد علماء القرون الوسطى في أوربة ألف سنة قبل أن يعلموها.

fig210
شكل ١-١: باب مسجد ومدرسة في دمشق (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

ويُعزَى إلى بيكن، على العموم، أنه أول من أقام التجربة والترصد، اللذين هما ركن المناهج العلمية الحديثة، مقامَ الأستاذ، ولكنه يجب أن يُعتَرَف اليوم بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم، وقد أبدى هذا الرأي جميعُ العلماء الذين درسوا مؤلفات العرب، ولا سيما هَنْبُولد، فبعد أن ذكر هذا العالم الشهير أن ما قام على التجربة والترصد هو أرفعُ درجةٍ في العلوم قال: «إن العرب ارتَقَوا في علومهم إلى هذه الدرجة التي كان يجهلها القدماء تقريبًا.»

وقال مسيو سيديُّو: «إن أهم ما اتصفت به مدرسة بغداد في البُداءة هو روحُها العلمية الصحيحة التي كانت سائدةً لأعمالها، وكان استخراجُ المجهول من المعلوم، والتدقيق في الحوادث تدقيقًا مؤديًا إلى استنباط العلل من المعلولات، وعدمُ التسليم بما لا يَثبُت بغير التجربة — مبادئَ قال بها أساتذة من العرب، وكان العرب، في القرن التاسع من الميلاد، حائزين لهذا المنهاج المُجدي الذي استعان به علماء القرون الحديثة بعد زمن طويل للوصول إلى أروع الاكتشافات.»

fig211
شكل ١-٢: زاوية قديمة للدراويش، وعين ومدرسة في القاهرة (من تصوير كوست).

قام منهاجُ العرب على التجربة والترصد، وسارت أوربة في القرون الوسطى على درس الكتب والاقتصار على تكرار رأي المعلم، والفَرق بين النهجين أساسي، ولا يمكن تقدير قيمة العرب العلمية إلا بتحقيق هذا الفرق.

واختبر العربُ الأمور وجَرَّبوها، وكانوا أول من أدرك أهمية هذا المنهاج في العالم، وظلوا عاملين به وحدهم زمنًا طويلًا، قال دُو لَنْبر في كتاب «تاريخ علم الفلك»: «تَعُدُّ راصديْن أو ثلاثة بين الأغارقة، وتَعُدُّ عددًا كبيرًا من الرُّصاد بين العرب»، وأما في الكيمياء فلا تجد مُجرِّبًا يونانيًّا مع أن المجَربين من العرب يُعَدُّون بالمئات.

ومنح اعتماد العرب على التجربة مؤلفاتِهم دقةً وإبداعًا لا يُنتَظر مثلهما من رجل تَعَوَّد درس الحوادث في الكتب، ولم يبتعد العرب عن الإبداع إلا في الفلسفة التي كان يتعذر قيامها على التجربة.

ونشأ عن مِنهاج العرب التجربي وصولُهم إلى اكتشافات مهمة، وسترى من مباحثنا في أعمال العرب العلمية أنهم أنجزوا في ثلاثة قرون أو أربعة قرون من الاكتشافات ما يزيد على ما حقَّقَه الأغارقة في زمن أطول من ذلك كثيرًا، وكان تراث اليونان العلمي قد انتقل إلى البزنطيين الذين عادوا لا يستفيدون منه منذ زمن طويل، ولما آل إلى العرب حَوَّلوه إلى غير ما كان عليه فتَلَقَّاه ورَثَتهم مخلوقًا خلقًا آخر.

ولم يقتصر شأن العرب على ترقية العلوم بما اكتشفوه، فالعرب قد نَشروها، كذلك، بما أقاموا من الجامعات وما ألَّفوا من الكتب، فكان لهم الأثر البالغ في أوربة من هذه الناحية، وسترى في الفصل الذي ندرس فيه هذا التأثير أن العرب وحدهم كانوا أساتذة الأمم النصرانية عدة قرون، وأننا لم نطلع على علوم قدماء اليونان والرومان إلا بفضل العرب، وأن التعليم في جامعاتنا لم يستغنِ عما نُقل إلى لغاتنا من مؤلفات العرب إلا في الأزمنة الحاضرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤