الفصل العاشر

تمدين العرب لأوربة: تأثيرهم في الشرق والغرب

(١) تأثير العرب في الشرق

خضع الشرق لكثير من الشعوب، كالفرس والأغارقة والرومان … إلخ، ولكن تأثير هذه الشعوب السياسي إذا كان عظيمًا دائمًا فإن تأثيرها المدنيَّ كان ضعيفًا عمومًا، وإذا عَدَوْتَ المدن التي كانت تملكها هذه الشعوب رأسًا رأيتَها لم تُوَفَّق لِفَرض دينها ولغتها وفنونها، ومن ذلك أن ظلَّت مصر الثابتة في زمن البطالمة وفي زمن الرومان وفيَّةً لماضيها، وكان ما تعلم من اعتناق الغالبين لديانة المغلوبين ولغتهم وطِراز بنائهم فيها، وكان ما تَعْرِف من إقامة البطالمة لمبانيهم التي رمَّمَها القياصرة، على الطراز الفرعوني.

وما عجز الأغارقة والفرس والرومان عنه في الشرق قَدَرَ عليه العرب بسرعة ومن غير إكراه، ومن ذلك أن مصر، التي كان يلوح أنها أصعب أقطار العالم إذعانًا للمؤثرات الأجنبية، نسيت، في أقل من قرن واحد مرَّ على افتتاح عمرو بن العاص لها، ماضي حضارتها الذي دام نحو سبعة آلاف سنة معتنقة دينًا جديدًا ولغة جديدة وفنًّا جديدًا اعتناقًا متينًا دام بعد تواري الأمة التي حَمَلتها عليه.

ولم يُغيِّر المصريون دينهم سوى مرة واحدة قبل العرب، وذلك حين خرَّب قياصرة القسطنطينية بلاد مصر بتحطيمهم جميع آثارها أو تشويهها وجعلهم القتل عقوبة من يخالف حظر عبادة آلهتها الأقدمين، وهكذا عانى المصريون دينًا جديدًا فُرِض عليهم بالقوة أكثر من اعتناقهم له، وما كان من تهافت المصريين على نَبْذِ النصرانية ودخولهم في الإسلام يُثبت درجة ضَعف تأثير النصرانية فيهم.

وما وُفِّق العرب له في مصر من التأثير البالغ اتفق لهم مثلُه في كل بلد خَفَقَت فوقه رايتهم كإفريقية وسورية وفارس … إلخ، وبلغ نفوذُهم بلادَ الهند التي لم يدخلوها إلا عابري سبيل، وبلغ بلادَ الصين التي لم يزوروها إلا تجارًا.

fig282
شكل ١٠-١: مقدم قصر شقوبية في الوقت الحاضر (من صورة فوتوغرافية).

ولا نرى في التاريخ أمةً ذات تأثير بارز كالعرب، وذلك أن جميع الأمم التي اتصل العرب بها اعتنقت حضارتهم، ولو حينًا من الزمن، وأن العرب لما غابوا عن مسرح التاريخ انتحل قاهروهم كالترك والمغول … إلخ، تقاليدهم، وبَدَوا للعالم ناشرين لنفوذهم، أجل، ماتت حضارة العرب منذ قرون، ولكن العالم لا يعرف اليوم غير دين أتباع النبي ولغتهم في البلاد الممتدة من المحيط الأطلنطي إلى السند، ومن البحر المتوسط إلى الصحراء.

ولم يتجلَّ تأثير العرب في الشرق في الديانة واللغة والفنون وحدها، بل تجلى في ثقافته العلمية أيضًا، ومن ذلك أن المسلمين كانوا ذوي صلاتٍ مستمرة بالهند والصين، وأنهم نقلوا إليهما قسمًا كبيرًا من المعارف العلمية التي عدَّها الأوربيون من أصل هندوسي أو صيني فيما بعد، وقد أصاب سيديُّو في توكيد هذا الأمر فذكر — على سبيل المثال — أن العربي البيروني المتوفى سنة ١٠٣١م أتحف الهندوس، في أثناء سياحته في بلادهم، بمختاراتٍ مهمة من كتب العلم فنقلوها بعدئذ نَظْمًا إلى السنسكريتية على حسن عادتهم.

fig283
شكل ١٠-٢: قصر شقوبية، وقد أقيم على الطراز الإسپاني العربي (من رسم قديم لوايزنر).

ويجب ألا تستنبط من هذا القول نتائج واسعة، فإذا كان العرب أفضل من الهندوس علمًا، كما هو واضح، فإنهم دونهم فلسفة وديانة، فليس في عامية القرآن ولاهوتيته الصبيانية، التي هي من صفات الأديان السامية أيضًا، ما يقاس بنظريات الهندوس التي أتيح لي أن أُبَيِّن عمقها العجيب في كتاب آخر.

ويظهر أن ما اقتبسه الصينيون من العرب أهمُّ مما أخذه الهندوس عنهم، وقد بينا في فصل سابق أن علوم العرب دخلت الصين على أثر الغارة المغولية، وأن الفلكي الصيني الشهير كُوشو كِنع تناول رسالة ابن يونس في الفلك في سنة ١٢٨٠م وأذاعها في بلاد الصين، وأن الطبَّ العربيَّ أُدخل إلى الصين وقتما غزاها كوبلاي، أي في سنة ١٢١٥م.

ولا يزال تأثير العرب العلمي في أهل المشرق جاريًا، ولا يزال الفرس يدرُسون العلوم في كتب العرب، وقد ذكرنا أن للغة العرب في بلاد الفرس شأنًا كالذي كان للغة اللاتينية في العرب في القرون الوسطى.

(٢) تأثير العرب في الغرب

(٢-١) تأثير العرب العلمي والأدبي

نُثبِتُ الآن أن تأثير العرب في الغرب عظيم أيضًا، وأن أوربة مدينة للعرب بحضارتها، والحق أن تأثير العرب في الغرب ليس أقلَّ منه في الشرق، ولكن بمعنى آخر، فأما تأثيرهم في الشرق فتراه باديًا في أمر الدين واللغة والفنون على الخصوص، وأما تأثيرهم الديني في الغرب فتراه صِفرًا، وترى تأثيرهم الفني واللغوي فيه ضعيفًا، وترى تأثيرهم العلمي والأدبي والخلقي فيه عظيمًا.

ولا يمكن إدراك أهمية شأن العرب في الغرب إلا بتصوُّر حال أوربة حينما أدخلوا الحضارة إليها.

إذا رجعنا إلى القرن التاسع والقرن العاشر من الميلاد، حين كانت الحضارة الإسلامية في إسپانية ساطعة جدًّا، رأينا أن مراكز الثقافة في الغرب كانت أبراجًا يسكنها سنيوراتٌ متوحشون يفخرون بأنهم لا يقرأون، وأن أكثر رجال النصرانية معرفةً كانوا من الرهبان المساكين الجاهلين الذين يقضون أوقاتهم في أديارهم ليَكْشِطوا كتب الأقدمين النفيسة بخشوع، وذلك كيما يكون عندهم من الرُّقوق ما هو ضروريٌّ لنسخ كتب العبادة.

ودامت همجيةُ أوربة البالغة زمنًا طويلًا من غير أن تشعر بها، ولم يبد في أوربة بعض الميل إلى العلم إلا في القرن الحادي عشر وفي القرن الثاني عشر من الميلاد، وذلك حين ظهر فيها أناسٌ رَأَوا أن يرفعوا أكفان الجهل الثقيل عنهم فولوا وجوههم شطرَ العرب الذين كانوا أئمةً وحدهم.

fig284
شكل ١٠-٣: برج بليم، وهو قائم على الطراز الإسپاني العربي (من صورة فوتوغرافية).

ولم تكن الحروب الصليبية سببًا في إدخال العلوم إلى أوربة كما يُردَّد على العموم، وإنما دخلت العلوم أوربة من إسپانية وصقلية وإيطالية، وذلك أن مكتبًا للمترجمين في طليطلة بدأ منذ سنة ١١٣٠م يَنقُل أهم كتب العرب إلى اللغة اللاتينية تحت رعاية رئيس الأساقفة ريمون، وأن أعماله في الترجمة كُلِّلَتْ بالنجاح ما بدا للعرب بها عالمٌ جديد، ولم يتوانَ الغربُ في أمر هذه الترجمة في القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر من الميلاد، ولم يقتصر الغرب على ترجمة مؤلفات علماء العرب، كالرازي وأبي القاسم وابن سينا وابن رشد … إلخ، إلى اللغة اللاتينية، بل نُقِلت إليها، أيضًا، كتب علماء اليونان التي كان المسلمون قد ترجموها إلى لغتهم الخاصة ككتب جالينوس وبقراط وأفلاطون وأرسطو وأقليدس وأرشميدس وبطليموس؛ فزاد عدد ما تُرجم من كتب العرب إلى اللغة اللاتينية على ثلاثمائة كتاب كما روى الدكتور لوكلير في كتابه «تاريخ الطب العربي.»

والحق أن القرون الوسطى لم تعرف كتبَ العالَم اليوناني القديم إلا من ترجمتها إلى لغة أتباع محمد، وبفضل هذه الترجمة اطلعنا على محتويات كُتب اليونان التي ضاع أصلها ككتاب أپُلُّونيوس في المخروطات، وشروح جالينوس في الأمراض السارية، ورسالة أرسطو في الحجارة … إلخ، وأنه إذا كانت هناك أمةٌ نُقِرُّ بأننا مدينون لها بمعرفتنا لعالم الزمان القديم فالعربُ هم تلك الأمة، لا رهبانُ القرون الوسطى الذين كانوا يجهلون حتى اسمَ اليونان. فعلى العالم أن يعترف للعرب بجميل صنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة اعترافًا أبديًّا، قال مسيو لِيبْرى: «لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ؛ لتأخرت نهضة أوربة في الآداب عدة قرون.»

fig285
شكل ١٠-٤: كنيسة القديس بطرس في قلعة أيوب، وهي قائمة على الطراز الإسپاني العربي (من صورة قديمة).

وعربُ الأندلس وحدهم، هم الذين صانوا في القرن العاشر من الميلاد، وذلك في تلك الزاوية الصغيرة من الغرب، العلومَ والآداب التي أُهمِلَت في كل مكان، حتى في القسطنطينية، ولم يكن في العالم في ذلك الزمن بلادٌ يمكن الدرسُ فيها غيرُ الأندلس العربية، وذلك خلا الشرق الإسلامي طبعًا، وإلى بلاد الأندلس كان يذهب أولئك النصارى القليلون لطلب العلوم في الحقيقة، ونذكر منهم، على حسب بعض الروايات التي هي موضوع جدال من غير أن يَثبُت عدم صحتها، جربرت الذي صار بابا في سنة ٩٩٩م باسم سلڨستر الثاني، والذي أراد أن ينشر في أوربة ما تعلمه؛ فعدَّ الناس عمله من الخوارق، واتهموه بأنه باع روحه من الشيطان.

ولم يظهر في أوربة، قبل القرن الخامس عشر من الميلاد، عالمٌ لم يقتصر على استنساخ كتب العرب، وعلى كتب العرب وحدها عوَّل روجر بيكن وليونارد الپيزي وأرنود الڨيلنوڨي وريمون لول وسان توما وألبرت الكبير والأذفونش العاشر القشتالي … إلخ، قال مسيو رينان: «إن ألبرت الكبير مدين لابن سينا في كلِّ شيء، وإن سان توما مدينٌ في جميع فلسفته لابن رشد.»

وظلت ترجمات كتب العرب، ولا سيما الكتب العلمية، مصدرًا وحيدًا، تقريبًا للتدريس في جامعات أوربة خمسة قرون أو ستة قرون، ويمكننا أن نقول: إن تأثير العرب في بعض العلوم، كعلم الطب مثلًا، دام إلى أيامنا، فقد شُرِحَت كتب ابن سينا في مونپلية في أواخر القرن الماضي.

وبلغ تأثير العرب في جامعات أوربة من الاتساع ما شَمِل معه بعض المعارف التي لم يحققوا فيها تقدمًا مهمًّا كالفلسفة مثلًا، فكان ابن رشد الحجة البالغة للفلسفة في جامعاتنا منذ أوائل القرن الثالث عشر من الميلاد، ولما حاول لويس الحادي عشر تنظيم أمور التعليم في سنة ١٤٧٣م أمر بتدريس مذهب هذا الفيلسوف العربي ومذهب أرسطو.

fig286
شكل ١٠-٥: تيجان أعمدة عربية وتيجان أعمدة على الطراز الإسپاني العربي (مسجد قرطبة – مسجد طركونة القديم – شقوبية – سرقسطة – القصر بأشبيلية – طليطلة – دير غرافد – الترانسيتو بطليطلة، متحف العاديات الإسپاني).

ولم يكن نفوذ العرب في جامعات إيطالية، ولا سيما جامعة پادو، أقل منه في فرنسة، فقد كان للعرب فيها شأنٌ كالذي بدا للأغارقة واللاتين بعد عصر النهضة، ويمكن القارئ أن يتمثَّل سعة نفوذ العرب من الاحتجاج الصاخب الآتي الذي قاله الشاعر الكبير پِتْرَارْك: «يا عجبًا، استطاع شيشرون أن يكون خطيبًا بعد ديموستين، واستطاع ڨيرجل أن يكون شاعرًا بعد أوميرس، فهل قُدِّر علينا ألا نؤلِّف بعد العرب؟ لقد تَساوَيْنَا نحن والأغارقة وجميع الشعوب غالبًا وسبقناها أحيانًا، خلا العرب، فيا للحماقة! ويا للضلال! ويا لعبقرية إيطالية الناعسة أو الخامدة!»

ولم يكن للقرآن تأثيرٌ في جميع مذاهب العرب العلمية والفلسفية التي نشروها في العالم في خمسة قرون، كما أنه لم يكن للتوراة أثرٌ في كتب العلم الحديثة، ولا عجب، فالقرآن مجموعة أحكام كان يحترمها العلماء تقريبًا؛ لأنها مصدر سلطان العرب، ولملاءمتها احتياجات الجماهير التي ليس من طبيعتها أن تكترث للعلوم والفلسفة في كل زمن إلا قليلًا، غير أن العلماء كانوا لا يبالون بما بين نتائج اكتشافاتهم ونظريات الكتاب المقدس «القرآن» من الاختلاف، فإذا ما بلغت أفكارهم الحرة عامةَ الناس اضطُر حُماتهم من الخلفاء، عادةً، إلى نفيهم لأجلٍ محدود احترامًا للشعور العام، وإذا ما هدأت الزوبعة بسرعة استدعاهم الخلفاء، ولم يَبدُ عدم التسامح بين المسلمين إلا بعد أن اضمحل سلطان العرب في القرن الثالث عشر من الميلاد، وصارت سلطتهم قبضة «شعوب ثقيلة شرسة غير مهذبة» من تُرْكٍ وبربر وغيرهم كما أشار إلى ذلك، بحقٍّ، مسيو رينان، وليست المذاهب مصدر عدم التسامح في الغالب، بل الأشخاص، وكان العرقُ العربي من التهذيب والسماحة ما لا يَحِيد معه عن هذا التسامح الذي أقام الدليل عليه في كل مكان منذ بدء فتوحه.

fig287
شكل ١٠-٦: قوس الجعفرية في سرقسطة.
fig288
شكل ١٠-٧: قوس على الطراز الإسباني العربي في طليطلة (متحف العاديات الإسپاني).

ويمكن القول بأن التسامح الديني كان مطلقًا في دور ازدهار حضارة العرب، وقد أوردنا على هذا غير دليل، ولا نُسهب فيه، وإنما نشير إلى ما ترجمه مسيو دوزي من قصة أحد علماء الكلام العرب الذي كان يحضر ببغداد دروسًا كثيرة في الفلسفة يشترك فيها أناس من اليهود والزنادقة والمجوس والمسلمين والنصارى … إلخ، فيستمع إلى كل واحد منهم باحترام عظيم، ولا يُطلَب منه إلا أن يستند إلى الأدلة الصادرة عن العقل، لا إلى الأدلة المأخوذة من أي كتاب ديني كان، فتسامح مثل هذا هو مما لم تصل إليه أوربة بعد ما قامت به في أكثر من ألف سنة من الحروب الطاحنة، وما عانته من الأحقاد المتأصلة، وما مُنِيَت به من المذابح الدامية.

fig289
شكل ١٠-٨: دقائق زخارف في كنيسة الترانسيتو (كنيس بطليطلة) وهي على الطراز الإسرائيلي العربي.

وإذا كان تأثير العرب عظيمًا في نواحي أوربة التي لم يسيطروا عليها إلا بمؤلفاتهم، أبصرنا أنه كان أعظم من هذا في البلاد التي خَضَعَت لسلطانهم كبلاد إسپانية التي نرى أن أفضل وسيلة لتقدير تأثير العرب فيها تقديرًا قاطعًا، هو أن ننظر إلى حالتها التي كانت عليها قبل فتحهم إياها، وفي أثناء سيادتهم لها، وبعد إجلائهم عنها؛ فأما حالها قبل الفتح العربي وفي أيام سلطتهم: فقد بحثنا فيها، وذكرنا درجة السعادة التي تمت لها في زمن دولتهم. وأما حالها بعد العرب: فقد تكلمنا عنها أيضًا، وستتاح لنا العودة إليها حينما نبحث في ورثة العرب عما قليل، فهنالك نرى أنها هبطت بعد إجلائهم إلى دَرَكَةٍ من الانحطاط لم تنهض منها حتى الآن، ولن يَجِد الباحث مثالًا أوضح من هذا لتأثير أمة في أمة أخرى، والتاريخ لم يشتمل على ما هو أبرز من هذا المثال.

ومما تقدم ننتهي إلى نتيجتين مهمتين: الأولى: هي أنه لم يكن للإسلام، ديانةً، تأثيرٌ في آثار العرب العلمية والفلسفية، والثانية: هي أن فضل الشرق في تأثيره في الغرب يعود إلى العرب وحدهم، وأما الشعوب التي حلت محل العرب، وإن اتفق لها شيء من التأثير السياسي أو الديني لم يكن تأثيرها العلمي والأدبي والفلسفي في غير درجة الصفر.

(٢-٢) تأثير العربي في فن العمارة

للعرب، لا ريب، تأثير في فنون أوربة، ولا سيما في فن عمارتها، ولكنه يبدو لي أضعف مما يُعتَقَد على العموم، ولا أرى أن يُبحث عنه حيث أريد وجوده، ومن ثم أن يقال: إن الطراز القوطي أُخذ عن العرب في القرون الوسطى مثلًا، ومع أنني أوافق، مع كثير من المؤلفين، على أن أوربة اقتبست الأقواس القوطية (أي الأقواس المصنوعة على رسم البيكارين) من العرب، والعرب قد استعملوها في مصر وصَقِلية وإيطالية منذ القرن العاشر من الميلاد، تراني لا أقول: إننا مدينون للعرب بطرازنا القوطي؛ لما أرى من الفرق العظيم بين كنائسنا التي أقيمت عليه في القرن الثالث عشر أو القرن الرابع عشر من الميلاد وما بُني في أي من هذين القرنين من المساجد، ولأن أقواس الأبواب والنوافذ المصنوعة على رسم البيكارين ليست كل ما في العمارة القوطية التي تتألف من عناصر مختلفة لا تقدَّر قيمتها إلا بعد البحث في مجموع البناء.

fig290
شكل ١٠-٩: دقائق زخارف في كنيسة الترانسيتو بطليطلة (طراز إسرائيلي عربي).

والحق أن الطراز القوطي لم يستند إلى عنصر واحد، فهو مشتقٌ من الطراز الرُّومَنِي الذي هو وليد الطراز اللاتيني والطراز البزنطي، وذلك بعد سلسلة من التطورات، والحق أن الطراز القوطي ظهر، بعد أن تم تكوينه، فنًّا مبتكرًا مختلفًا عن فنون العمارة السابقة، فتُعد كل كنيسة قوطية أُتقِن بناؤها من أجمل ما شاد الإنسان من المباني التي لا أستثني منها أكمل الآثار الإغريقية اللاتينية القديمة.

وهنا أقرر أن الغرب اقتبس أصول فن عمارته من العرب، وأن لعروق الغرب احتياجات وأذواقًا تختلف عن احتياجات الشرق وأذواقه، وأن بيئات الغرب مباينة لبيئات الشرق، وأن الفنون وليدة احتياجات أحد الأدوار ومشاعره؛ فكان ما نراه من اختلاف فنون الغرب عن فنون الشرق بحكم الضرورة.

وإنني، على ما قررت من عدم المشابهة بين الطراز العربي والطراز القوطي بعد أن تكوَّن، لا أُنكر أهمية الفروع التي اقتبسها الغربيون من الشرقيين، ولم أنفرد بهذا الاعتراف، بل اعترف بذلك أكثر المؤلفين حُجة، واسمع ما قاله باتِيسيِه:

لا يجوز الشك في أن البنَّائين الفرنسيين اقتبسوا من الفن الشرقي كثيرًا من العناصر المعمارية المهمة والزخارف في القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر من الميلاد … ألم نجد في كتدرائية پوي، التي هي من أقدس البنايات النصرانية، بابًا مستورًا بالكتابات العربية؟ أوَلم تقم في أربونة وغيرها حصونٌ متوجة وَفقَ الذوق العربي؟

fig291
شكل ١٠-١٠: بعض أقواس في دير الراهبات بشقوبية (طراز إسپاني عربي).

وذكر مسيو لُونُورْمَان، الذي هو حجة في هذه الموضوعات مثل باتِيسيِه، أن تأثير العرب واضح في كثير من الكنائس الفرنسية، ككنيسة مدينة ماغِلُون «١١٧٨م» التي كانت ذات صلات بالشرق، وكنيسة «كانده مِين ولوَار» وكنيسة «غاماش» «سوم» … إلخ.

وألمَعَ مسيو شارل بَلان إلى ما اقتبسه الأوربيون من العرب في فن العمارة، وقال: «أرى من غير مبالغة فيما لأمةٍ من التأثير في أمة، وذلك خلافًا لما يُسار عليه اليوم أن الصليبيين الذين شاهدوا ما اشتمل عليه الفن العربي من المشربيات وشُرَف المآذن والأفاريز أدخلوا إلى فرنسة المراقب والجواسق والأبراج والأطناف والسياجات التي استُخدِمَت كثيرًا في العِمارات المدنية والحربية في القرون الوسطى.»

ولم يكن مسيو پريس الأَفِينيُّ المتخصص في فن العمارة العربي على غير هذا الرأي، فقد قال: «إن النصارى أخذوا عن العرب الأبراج الرائعة التي استخدمها الغرب بكثرةٍ حتى أواخر القرن السادس عشر من الميلاد.»

ولا يَغرُب عن بالك أن الأوربيين كانوا يستخدمون في القرون الوسطى كثيرًا من بنَّائي الأجانب في إقامة مبانيهم، وأنهم كانوا يوحون إليهم مثلما كان يوحي به العرب إلى بنَّائي البزنطيين، وأن هؤلاء المعماريين كانوا يجيئون من كل مكان، وأن شارلمان كان يأتي بالكثير منهم من الشرق. وقد نقل مسيو ڨياردو عبارة من كتاب «تاريخ باريس» لدولور جاء فيها أن مهندسين معماريين من العرب استخدموا في إنشاء كنيسة نوتردام الباريسية: ويتجلى في إسپانية — على الخصوص — تأثير العرب المعماري العظيم الذي غَفَل عن ذكره العلماء المشار إليهم، وقد ذكرنا في فصل سابق أنه نشأ عن تمازج فنون العرب والنصارى طرازٌ خاصٌّ يُعرف بالطراز المدجَّن الذي ازدهر في القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر من الميلاد على الخصوص، وتَرَى في الصور التي نشرناها في هذا الفصل أمثلةً مهمة لذلك، وما أبراج كثيرٍ من كنائس طليطلة إلا مقتبسةٌ من المآذن، وليست المباني التي شادها النصارى في الولايات المستقلة في العهد الإسلامي إلا عربيةً أكثر منها نصرانيةً، وذلك كقصر شقوبية الشهير الذي نَشَرتُ له عدة صور، فتدل إحدى هذه الصور التي التقطناها من رسمٍ قديم على حاله قبل حريق سنة ١٨٦٢، وتدلُّ الصور الأخرى الفوتوغرافية الأصل على حاله في الوقت الحاضر، ولا نجهل أن قصر شقوبية هذا أقيم في القرن الحادي عشر من الميلاد، أي أقيم في أيام السيد بأمر الأذفونش السادس الذي طرده أخوه من ممالكه، والتجأ إلى عرب طليطلة، ودرس قصرهم فيها وعاد إلى ممالكه، وأنشأ قصرًا شبيهًا به، ومما يزيد قصر شقوبية قيمةً إمكان عَدِّه مثالًا للقصور العربية المحصنة التي أقيمت في بلاد إسپانية ثم عَفا رسمُها تقريبًا في الوقت الحاضر.

fig292
شكل ١٠-١١: باب الغفران في قرطبة (طراز إسپاني عربي، من صورة فوتوغرافية).

ويلوح لي أن آثارًا كثيرة عدها بعض المؤلفين من المباني القائمة على الطراز القوطي الخالص، كبرج بليم الذي أُنشئ بالقرب من أشبونة، ذاتُ مسحة عربية بشكلها العام وأبراجها المُطَنَّفة وشُرَفِها وبجزئيَّاتٍ أخرى فيها.

أجل، قد يُرى أن تأثير العرب في إسپانية زال تمامًا، ولكن بعض المدن الإسپانية، ولا سيما أشبيليُّة، حافلةٌ بذكريات العرب، ولا تزال بيوتها تبنى على الطراز الإسلامي، وهي لا تختلف عن نماذجها إلا بفقر زخارفها، ولا يزال الرقص والموسيقا فيها على الطريقة العربية، ويشاهَد الدم الشرقي فيها بسهولة كما ذكرتُ ذلك سابقًا.

fig293
شكل ١٠-١٢: مدقة باب الغفران في قرطبة.
أجل، يمكن أن تُباد أمةٌ، وأن تُحرَق كتبها، وأن تُهدم آثارها، ولكنَّ تأثيرها يكون أقوى من القُلُزِّ١ غالبًا، ولا يستطيع الإنسان محوه، ولا تكاد العصور تَقْدِر عليه.

(٢-٣) تأثير العرب في الطبائع

لا نعود إلى ما فَصَّلَّنَاه في فصل سابق عن تأثير العرب الخُلُقِيِّ في أوربة، وإنما نذكر أننا أثبتنا فيه الفرق العظيم بين سنيورات النصارى وأشياع النبي في ذلك الزمن، وأن النصارى تخلصوا من همجيتهم بفضل اتصالهم بالعرب، واقتباسهم منهم مبادئ فروسيتهم، وما تؤدي إليه هذه المبادئ من الالتزامات، كمراعاة النساء والشيوخ والأولاد واحترام العهود … إلخ، ونذكر أننا بينا في فصلنا عن الحروب الصليبية أن أوربة النصرانية كانت دون الشرق الإسلامي أخلاقًا بمراحل، فإذا كان للديانات ما يُسْنَد إليها، وما نجادل فيه، من التأثير في الطبائع على العموم أمكنت المقابلة بين الإسلام والأديان الأخرى التي تَزعُم أنها أفضل منه على الخصوص.

fig294
شكل ١٠-١٣: باب مخزن الأمتعة المقدسة في كتدرائية أشبيلية (طراز إسپاني عربي).
وقد تكلمنا في ذلك الفصل، بما فيه الكفاية، عن تأثير العرب الخُلقي في أوربة، فنحيل القارئ عليه، وإنما نذكر القارئ بالنتيجة التي تَوَصَّل إليها، أيضًا، العلامة المتدين مسيو بارتلمي سنت هيلر في كتابه عن القرآن حيث قال:

أسفرت تجارة العرب وتقليدهم عن تهذيب طبائع سنيوراتنا الغليظة في القرون الوسطى، وتعلَّم فرساننا أرقَّ العواطف وأنبلَها وأرحمها من غير أن يفقدوا شيئًا من شجاعتهم، وأشك في أن تكون النصرانية وحدها قد أوحت إليهم بهذا مهما بُولغ في كَرَمها.

وقد يسأل القارئ بعد ما تقدم: لِمَ يُنكرُ تأثيرَ العرب علماءُ الوقت الحاضر الذين يَضَعون مبدأ حرية الفكر فوق كل اعتبار ديني كما يلوح؟ لا أرى غير جواب واحد عن هذا السؤال الذي أسأل نفسي به أيضًا وهو أن استقلالنا الفكري لم يكن في غير الظواهر بالحقيقة، وأننا لسنا من أحرار الفكر في بعض الموضوعات كما نريد.

fig295
شكل ١٠-١٤: قلادة من ذهب مصنوعة في غرناطة في القرن الرابع عشر على الطراز العربي الإسپاني (متحف الآثار في مدريد، من صورة فوتوغرافية).

فالمرء عندنا ذو شخصيتين: الشخصية العصرية التي كَوَّنَتها الدراسات الخاصة والبيئة الخلقية والثقافية، والشخصية القديمة غير الشاعرة التي جَمَدَت وتحجرت بفعل الأجداد وكانت خلاصةً لماضٍ طويل، والشخصية غير الشاعرة وحدها، ووحدها فقط، هي التي تتكلم عند أكثر الناس وتُمسِك فيهم المعتقدات نفسَها مسماةً بأسماء مختلفة، وتملي عليهم آراءهم، فيلوح ما تُمليه عليهم من الآراء حُرًّا في الظاهر فيُحترم.

والحق أن أتباع محمد ظلوا أشدَّ مَن عرفته أوربة من الأعداء إرهابًا عدة قرون، وأنهم، عندما كانوا لا يُرعِدُوننا بأسلحتهم، كما في زمن شارل مارتل والحروب الصليبية، أو يهددون أوربة بعد فتح القسطنطينية، كانوا يُذلُّوننا بأفضلية حضارتهم الساحقة، وأننا لم نتحرَّر من نفوذهم إلا بالأمس.

وتراكمت مبتسراتنا الموروثة ضد الإسلام والمسلمين في قرون كثيرة، وصارت جزءًا من مزاجنا، وأضحت طبيعةً متأصلةً فينا تأصُّلَ حقد اليهود على النصارى الخَفِي أحيانًا والعميق دائمًا.

fig296
شكل ١٠-١٥: مصباح من زجاج مطلي بالميناء (من تصوير پريس الأڨيني).

وإذا أضفنا إلى مبتسراتنا الموروثة ضد المسلمين مُبْتَسرَنا الموروث الذي زاد مع القرون بفعل ثقافتنا المدرسية البغيضة القائلة: إن اليونان واللاتين وحدهم منبعُ العلوم والآداب في الزمن الماضي أدركنا، بسهولةٍ سرَّ جحودنا العامِّ لتأثير العرب العظيم في تاريخ حضارة أوربة.

ويتراءى لبعض الفُضَلاء أن من العار أن يُرَى أن أوربة النصرانية مدينةٌ لأولئك الكافرين في خروجها من دور التوحش، فعارٌ ظاهر كهذا لا يُقبل إلا بصعوبة.٢

نختم هذا الفصل بقولنا: إنه كان للحضارة الإسلامية تأثيرٌ عظيم في العالم، وإن هذا التأثير خاص بالعرب وحدهم فلا تشاركهم فيه الشعوب الكثيرة التي اعتنقت دينهم، وإن العرب هَذَّبوا البرابرة الذين قَضَوا على دولة الرومان بتأثيرهم الخُلقي، وإن العرب هم الذين فتحوا لأوربة ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية بتأثيرهم الثقافي، فكانوا مُمدِّنين لنا وأئمةً لنا ستة قرون.

هوامش

(١) القلز: النحاس الذي لا يعمل فيه الحديد.
(٢) حينما تلتقي المبتسرات الموروثة والثقافة في العالم الفاضل، ولا يدرى على أيهما يعتمد في وزن الأمور، يتجلى فيه ما يجتمع في شخص واحد من الذاتية القديمة التي هي وليدة الماضي، والذاتية العصرية التي هي وليدة المشاهدة الشخصية، فيصدر عنه من الآراء المتناقضة ما يستوقف النظر، ومن ذلك التناقض المثال البارز الذي يجده القارئ في الخطبة التي ألقاها الكاتب اللبق والعالم الفاضل مسيو رينان في السوربون عن الإسلام، والتي أراد مسيو رينان أن يثبت فيها عجز العرب، ولكن ترهاته كانت تنقض بما كان يجيء في الصفحة التي تليها، فبعد أن قال مسيو رينان مثلًا: إن تقدم العلوم مدين للعرب وحدهم مدة ستمائة سنة، وذكر أن عدم التسامح مما لم يعرفه الإسلام إلا بعد أن حلت محل العرب شعوب متأخرة كالبربر والترك، عاد فادَّعى أن الإسلام اضطهد العلم والفلسفة وقضى على العقل في البلاد التي دانت له.
بيد أن ناقدًا بصيرًا كمسيو رينان لا يستطيع أن ينام مدة طويلة على مثل ذلك الزعم المناقض لأوضح ما رواه التاريخ، فذهبت عنه مبتسراته الموروثة ثانية، ورجع يعترف بتأثير العرب في القرون الوسطى، ويشهد بتقدم العلوم في بلاد الأندلس أيام سلطانهم.
ومن دواعي الأسف أن تغلبت على رينان مبتسراته غير الشاعرة بعد ذلك سريعًا، فصار يزعم أن علماء العرب ليسوا عربًا؛ بل «من أبناء سمرقند وقرطبة وأشبيلية … إلخ.» مع أن الواقع أن تلك البلاد مما ملكه العرب، وأن الدم العربي مما جرى في عروق أبنائها، وأن علوم العرب مما كان لها نصيب منه زمنًا طويلًا، وأنه إذا أُبيح لأحد أن يجادل في الآثار التي صدرت عن مدارس العرب، كان ذلك من قبيل إباحته لنفسه أن يجادل في مؤلفات علماء فرنسة بحجة أنهم من الشعوب الكثيرة التي تألف من مجموعها الشعب الفرنسي كالنورمان والسلت والأكيتان … إلخ.
ثم يظهر الكاتب الفاضل مسيو رينان أسيفًا، أحيانًا، على سوء رأيه في العرب، ويصل إلى النتيجة غير المنتظرة الآتية التي تنم، كذلك، على ما بين ذاتية الإنسان القديمة وذاتيته العصرية من التنازع، ويأسف على أنه ليس من أتباع النبي، فيقول: «إنني لم أدخل مسجدًا من غير أن أهتز خاشعًا، أي من غير أن أشعر بشيء من الحسرة على أنني لست مسلمًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤