الفصل السادس

العلوم الطبيعية والطِّبية

(١) العلوم الطبيعية

لم يَقُم التاريخ الطبيعي عند العرب، في البداءة، على غير شروح مؤلفات أرسطو، ولكن العرب لم يلبثوا أن فَضَّلوا درسَه في الطبيعة على درسه في الكتب، وللعرب الفضل فيما وضعوا من الكتب الممتِعَة الكثيرة في الحيوانات والنباتات والمعادن والمتحجرات … إلخ.

ويُعد القزويني المتوفَّى سنة ١٢٨٣م والملقَّبُ ﺑ «پليني المشارقة» من أشهر علماء التاريخ الطبيعي بين العرب، وتقوم طريقة القزويني على الوصف على الخصوص، كما صنع بوفون بعده.

ولا تجد في كتب العرب ما تجد في الكتب الحديثة من التعميم والتقسيم، ولكنك ترى فيها من النصوص ما تعتقد به أن نفوسهم حدثتهم ببعض اكتشافات العلم الحديث المهمة، ومن ذلك أنك تجد في رسالة ابن سينا عن الحجارة فصلًا عن منشأ الجبال لا يبتعد فيه عما يُدرَّس اليوم كما هو ظاهر من العبارة الآتية، قال ابن سينا:

تنشأ الجبال عن سببين: فالجبال إما أن تكون نتيجة ارتفاعٍ في قشرة الأرض بفعل أحد الزلازل الشديدة مثلًا، وإما أن تكون نتيجة عمل الماء بأن يَشُقَّ طريقًا جديدًا، ويَحفِر أودية، ويُحدث جبالًا، وذلك لأنك تجد صخورًا لَيِّنَةً، وصخورًا ذات صلابة، فيذهب الماء والريح بالصخور اللينة، ويترك الأخرى سليمةً، وهكذا يحدث أكثر التلال.

وللمعادن أصلٌ كالجبال، ولا بد من انقضاء أزمنة طويلة لحدوث جميع هذه التحولات، ومن المحتمل أن تكون الجبالُ آيلةً إلى الانخفاض في الوقت الحاضر.

ويقيم ابن سينا الدليل على ما تقدم، ويقول: «إن الذي يدل على أن الماء سببٌ أساسي لذلك هو وجود حيوانات مائية وغيرها على كثير من الصخور، ولا تصدر المادة الترابية والصفراء التي تَسْتُر وجه الجبال عما يَصْدُر عنه هيكل الجبل، بل عن انحلال بقايا الأعشاب والوَحَل الذي يأتي به الماء، ومن المحتمل أن تأتي من وَحَل البحر القديم الذي كان يُغطِّي جميع الأرض فيما مضى.»

ومن ذلك ترى أن ابن سينا أبصر أن تحولات الكرة الأرضية لم تنشأ عن الطوفانات الكبيرة كما اعتقد كُوڨْيِه، وإنما هي نتيجة تطورات بطيئة تمَّت بتعاقب القرون كما أثبت ذلك علمُ الأرض الحديث.

وشاعت نظرية تطورات وجه الأرض بتنقل البحار، وتحول شكل الأرض بين العرب شيوعًا تدخُل به في أذهان الشعب كما نعلم ذلك من الرمز الآتي الذي نقطفه من كتاب العالم الطبيعيِّ القزوينيِّ الذي تكلمنا عنه آنفًا، قال القزويني:

قال الخَضِر: مررت بمدينة كثيرة الأهل والعِمارة، سألت رجلًا من أهلها: متى بُنيت هذه المدينة؟ فقال: هذه مدينة عظيمة ما عَرَفْنا مدة بنائها نحن ولا آباؤنا، ثم اجتزتُ بها بعد خمسمائة سنة فلم أرَ للمدينة أثرًا، ورأيت هنالك رجلًا يجمع العشب، فسألته: متى خَرِبَت هذه المدينة؟ فقال: لم تزل هذه الأرض كذلك، فقلت: أما كان ههنا مدينة؟ فقال: ما رأينا ههنا مدينة، ولا سمعنا بها عن آبائنا، ثم مررت بها بعد خمسمائة عام، فوجدتُ بها بحرًا فلقيتُ هناك جمعًا من الصيادين، فسألتهم: متى صارت هذه الأرض بحرًا؟ فقالوا: مثلك يسأل عن هذا! إنها لم تزل كذلك، قلت: أما كانت قبل ذلك يبسًا؟ قالوا: ما رأيناه ولا سمعنا به عن آبائنا، ثم اجتزت بها بعد خمسمائة عام وقد يَبِسَت فلقيت بها شخصًا يختلي، فقلت: متى صارت هذه الأرض يبسًا؟ فقال: لم تزل كذلك، فقلت له: أما كان بحرٌ قبل هذا؟ فقال: ما رأيناه ولا سمعنا به قبل هذا، ثم مررت بها بعد خمسمائة عام فوجدتها مدينةً كثيرة الأهل والعمارة أحسنَ مما رأيتُها أولًا، فسألتُ بعض أهلها: متى بُنيت هذه المدينة؟ فقال: إنها عمارة قديمة ما عرفنا مدة بنائها نحن ولا آباؤنا.

وبحث علماء الطبيعة من العرب، أيضًا، في النباتات وفي تطبيقاتها على الطب على الخصوص، وأنشأوا حدائق زَرَعوا فيها أندر النباتات وأكثرها طرافةً، ومن ذلك أن اشتملت غرناطة على حديقة رائعة في القرن العاشر من الميلاد، ومن ذلك أن كان لعبد الرحمن الأول حديقة مثلُها بالقرب من قرطبة، وأن أوفد جماعةً من علماء الطبيعة إلى سورية وغيرها من أقطار آسية؛ ليأتوا إليها بأعز النباتات.

fig235
شكل ٦-١: مدخل إحدى قاعات جامعة الأزهر بالقاهرة (من رسم إيبر).

(٢) العلوم الطبية

يُعَدُّ الطبُّ والفلك والرياضيات والكيمياء أهمَّ العلوم التي عُنِي بها العرب، وأتم العرب أعظم اكتشافاتهم في هذه العلوم، وتُرجمت مؤلفات العرب الطبية في جميع أوربة، ولم يَتْلَف قسمٌ كبير منها كما أصاب كتبَهم الأخرى.

(٢-١) آثار العرب الطبية

عدد المؤلفين من أطباء العرب كبيرٌ إلى الغاية، وخَصَّص ابن أبي أُصيبعة مجلدًا من كتابه لتراجم أطباء العرب فنكتفي بذكر بعض من اشتهر منهم.

نهض الأغارقة بالطبِّ أكثر مما نهضوا بمعظم العلوم الأخرى، ووجد العرب في مؤلفاتهم مباحث مفيدةً. وكان هارون (٦٨٥م) أول من قام بترجمة كتب اليونان الطبية، وكانت مجموعته الطبية مقتطفاتٍ من كتب أطباء اليونان، ولا سيما جالينوس، ثم تُرجِمت كتب بقراط وبولس الإجِيني … إلخ. بعد ذلك بزمن قليل.

والرازي، الذي ذكرنا أنه من علماء الكيمياء، هو من أشهر أطباء العرب. ووُلد الرازي سنة ٨٥٠م، وتوفي سنة ٩٣٢م بعد أن زاول الطبَّ في بغداد خمسين سنة، وألف الرازي في شتى الموضوعات كالفلسفة والتاريخ والكيمياء والطب … إلخ، ووَضَع الرازي آثار من ظهر قبله من الأطباء على محكِّ النقد الشديد فوق فراش المرضى، وكان ما كتبه في بعض الحُمِّيَات ذات البُثُور كالحصبة والجدري مُعَوَّلَ الأطباء زمنًا طويلًا، وكان واسع الاطلاع على علم التشريح، وكان كتابه في أمراض الأطفال أولَ كتابٍ بَحَثَ في هذا الموضوع، ويُرى في كتبه وسائلُ جديدةٌ للمداواة، كاستخدام الماء البارد في الحميَّات المستمرة الذي أخذ به علم الطب الحديث، وكاستخدام الكحول والفتائل، وكاستخدام المحاجم المعالجة داء السكتة … إلخ.

وكان الرازي متواضعًا كما كان طبيبًا حاذقًا دقيقًا، ومما رُوي أنه أعاد بطريقة جَلْد الجسم بشدة، ولا سيما الكعب، الحياةَ إلى شخص سقط فاقدَ الحسِّ في أحد شوارع قرطبة، واعتقد الناس أنه مات، فلما امتدح الخليفة طريقته في إعادة الحياة إلى الإنسان أجابه أنه رأى تطبيق هذه الطريقة على أعرابي في البادية ذات مرة، وأن فضله ينحصر في تشخيصه لحالة ذلك المريض التي أَعتقدُ، مستندًا إلى بعض التفصيلات، أنها ضربةُ شمس، وإن لم يروِ لنا التاريخ حقيقتها.

وأشهرُ كتب الرازي كتابُ «الحاوي» الذي جمع فيه صناعة الطب، وكتابُ «المنصوري» الذي بعث به إلى الأمير منصور والمؤلَّفُ من عشرة أقسام، وهي:
  • (١)

    التشريح.

  • (٢)

    الأمزجة.

  • (٣)

    الأغذية والأدوية.

  • (٤)

    الصحة.

  • (٥)

    دواء البَشَرَة.

  • (٦)

    نظام السفر.

  • (٧)

    الجراحة.

  • (٨)

    السموم.

  • (٩)

    الأمراض على العموم.

  • (١٠)

    الحُمَّى.

وتُرجِمَت أكثر كتب الرازي إلى اللغة اللاتينية، وطُبعت عدَّةَ مرات، ولا سيما في البندقية سنة ١٥٠٩م، وفي باريس سنة ١٥٢٨م، وسنة ١٧٤٨م، وأُعيد طبع ترجمة كتابه في الجُدَرِي والحصبة سنة ١٧٤٥م، وظلت جامعات الطب في أوربة تعتمد على كتبه زمنًا طويلًا، وكانت كتبه، مع كتب ابن سينا، أساسًا للتدريس في جامعة لوڨان في القرن السابع عشر من الميلاد، كما ثبت ذلك من برنامج وُضِع سنة ١٦١٧م، وقد ظهر من هذا البرنامج أن مؤلفات علماء اليونان الطبية لم تَنَل من الحظوة إلا قليلًا، وأنها اقتصرت على بعض جوامع الكلم لبقراط وبعض الخلاصات لجالينوس.

وروى مؤرخو العرب أن الرازي عمي في آخر زمانه بماء نزل على عينيه، فقال حينما قيل له لو قَدَحتْ:َ «لا، قد أبصرت من الدنيا حتى مللت منها فلا حاجة لي إلى عينين!»

ونذكر من أطباء العرب عليَّ بن العباس المعاصر للرازي تقريبًا، والذي عاش في أواخر القرن العاشر من الميلاد، ونذكر من كتبه كتاب «الملكي» المشتمل على الطب النظري والطب العملي، والذي استند فيه إلى مشاهداته في المشافي، لا إلى الكتب، وأظهر فيه عدة أغاليط لبقراط وجالينوس وأريباسيوس وبولس الإجيني … إلخ، وابتعد فيه عن مبادئ الطب اليوناني كثيرًا في معالجة الأمراض على الخصوص مع اعتماده عليها، وتَرْجَم إتيان الأنطاكي هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية سنة ١١٢٧م، وطُبع هذا الكتاب في مدينة ليون سنة ١٥٢٣م.

وابن سينا هو أشهر جميع أطباء العرب، وبلغ ابن سينا من التأثير في عالم الطب عدة قرون ما لُقِّب معه بأمير الطب.

وُلِد ابن سينا سنة ٩٨٠م، وتُوفي سنة ١٠٣٧م، وكان في مقتبل عمره جابيًا فارتقى إلى منصب وزير، وكُتُب ابن سينا ممتازةٌ مع وفاته غيرَ مُسِنٍّ بسبب إفراطه في العمل وانهماكه في اللذات.

ويشتمل «القانون» الذي هو كتاب ابن سينا المهم في الطب، على علم وظائف الأعضاء، وعلم الصحة، وعلم الأمراض، وعلم المعالجة، والمادةِ الطبية، ووُصِفَت فيه الأمراض بأحسن مما وُصِفَت به في الكتب التي أُلِّفت قبله.

ونُقِلت كتب ابن سينا إلى أكثر لغات العالم، وظلت مرجعًا عامًّا للطب ستة قرون، وبقيت أساسًا للمباحث الطبية في جميع جامعات فرنسة وإيطاليا، وكان طبعها يُعاد حتى القرن الثامن عشر، ولم ينقطع تفسيرها في جامعة مونپلية إلا منذ خمسين سنة.

وكان ابن سينا منهمكًا في الشَّهوات انهماكه في العلوم، وقَصَّر انهماكه في الشهوات عمرَه كما ذكرنا ذلك آنفًا، ولذلك قيل: إن فلسفته لم تَمُنَّ عليه بالحكمة، وإن طبَّه لم يمنَّ عليه بالصحة.١

وأبو القاسم القرطبي المتوفى سنة ١١٠٧م هو أشهر جرَّاحي العرب، وتخيل أبو القاسم كثيرًا من آلات الجراحة ورسمها في كتبه، ووصف أبو القاسم عملية سَحْق الحصاة في المثانة على الخصوص فعُدَّت من اختراعات العصر الحاضر على غير حق.

ولم يُعْرَف أبو القاسم في أوربة إلا في القرن الخامس عشر، وذاع صيته فيه، قال العالم الفزيولوجيُّ الكبير هالّر: «كانت كتب أبي القاسم المصدر العام الذي استقى منه جميعُ من ظهر مَن الجراحين بعد القرنِ الرابعَ عشرَ.»

والكتاب الكبير الذي دَرَس أبو القاسم فيه أمور الجراحة ينقسم إلى ثلاثة أبواب: فالباب الأول في مسائل الكي، والباب الثاني في العمليات التي تحتاج إلى المِبْضَع وفي جراحة الأسنان والعيون والفتق والولادة وإخراج الحصاة، والباب الثالث في الكسر والانخلاع، وعلى ما في هذا الكتاب من ضعف في التقسيم نرى ما فيه من المعارف العملية دقيقًا جدًّا.

fig236
شكل ٦-٢: قطع من الحلي والحجارة الثمينة المنقوشة (متحف العاديات الإسپاني).

وطُبعت الترجمة اللاتينية الأولى لكتاب أبي القاسم في الجراحة سنة ١٤٩٧م، والطبعة الأخيرة لهذا الكتاب حديثة جدًّا، أي تمت سنة ١٨٦١م.

وكان لابن زُهر الأشبيلي، الذي عاش في القرن الثاني عشر من الميلاد، شهرةٌ عظيمة، وإن كانت دون شهرة أولئك، فقد كان مجرِّبًا مصلحًا مُوَطِّئًا لعلم المداواة قائلًا: إن في البدن قوةً كامنة ناظمة للأعضاء كافيةً وحدها لشفاء الأمراض على العموم. وجمع ابن زُهْر دراسة الجراحة والطب والصيدلة مع نقص في التحقيق أحيانًا، وتشتمل مباحثه في الجراحة على بيان صحيحٍ في الكسر والانخلاع.

وألف ابن رشد، الذي وُلد في قرطبة سنة ١١٢٦م وتوفِّيَ سنة ١١٨٨م، في الطب أيضًا، وإن اشتهر فيلسوفًا شارحًا لكتب أرسطو أكثر من اشتهاره طبيبًا، وترى له تفاسير لكتب ابن سينا، وكتابًا في المداواة، وكتابًا في السموم والحميات … إلخ، وطُبعت كتب ابن رشد في الطب كثيرًا في أوربة.

علم الصحة عند العرب

لم يجهل العربُ أهميةَ حفظ الصحة، وكان العرب يعرفون جيدًا أن علم الصحة يُعلِّمنا طرق الوقاية من الأمراض التي لا يستطيع الطب شفاءها، وكانت مناهجهم الصحية طيبةً منذ القديم، وما أَمَرَ به القرآن من الوضوء، والامتناع عن شرب الخمر، ثم ما صار عليه أبناء البلاد الحارَّة من تفضيل الطعام النباتي على الطعام الحيواني غايةٌ في الحكمة، وليس فيما نُسِب إلى النبيِّ من الوصايا الصحية ما يُنْتَقَد.

وكان من عادة مؤلفي العرب الغالبة أن يُوجِزوا وصاياهم الصحية في كلمات جامعة يسهل حفظها، ومن ذلك ما قاله طبيب عربيٌّ في القرن التاسع من الميلاد:

ليس شيءٌ أضرَّ بالشيخ من أن تكون له جاريةٌ حسناءُ وطباخٌ ماهر.

ويظهر أن مشافيَ العرب التي أُنشئت فيما مضى أفضل صحيًّا من مشافينا الحديثة؛ فقد كانت واسعةً ذات هواء كثير وماء غزير.

ولما عُهِد إلى الرازي في اختيار أفضل حي في بغداد لإقامة مشفًى عليه التجأ إلى طريقةٍ لا يُنكرها عليه أصحاب نظرية الميكروب الحديثة، وذلك أنه علَّق قطعة لحمٍ في كل حي من أحياء العاصمة، وأعلن أن أصلح حيٍّ يقام عليه المشفى هو الحي الذي يتأخَّر فيه فساد قطعة اللحم المعلَّقة عن الأحياء الأخرى.

وكانت مشافي العرب، كمشافي أوربة في الوقت الحاضر، ملاجئَ للمرضى وأماكن لدراسة الطلاب، وكان الطلاب يَتَلقَّون دروسهم في فُرُش المرضى أكثر مما يتلقَّونها في الكتب، ولم تُقَلِّدهم جامعات أوربة في القرون الوسطى إلا قليلًا.

وأنشأ العرب مشافيَ للمصابين ببعض الأمراض كالمجانين، وكان عند العرب، كما عندنا جمعياتٌ للإحسان تقوم بمعالجة فقراء المرضى مجانًا في أيام معينة، وكان يُرسَل في الحين بعد الحين أطباءٌ وأدويةٌ إلى الأماكن القليلة الأهمية التي لا تستحقُّ أن يقام فيها مشفى.

ولم يجهل العرب تأثير الجو الصحي، ومن ذلك نص ابن رشد في شروحه لكتب ابن سينا على تأثير الإقليم في داء السِّلِّ وإيصاؤه المصابين به، كما يوصون الآن، بأن يَقضوا فصل الشتاء في جزيرة العرب وبلاد النوبة، واليومَ نرى المصابين بداء السِّلِّ يُرْسَلون، في الغالب، إلى بقاع النيل القريبة من بلاد النوبة.

وتنطوي وصايا مدرسة ساليرم على نصائحَ غاليةٍ في علم الصحة، ولا أحدَ يجهل أن هذه المدرسة، التي عُدَّت أولَ مدرسةٍ في أوربة زمنًا طويلًا، مدينةٌ للعرب بشهرتها، وذلك أن النورمان، لمَّا استولوا على صقلية وعلى جزء من إيطالية في أواسط القرن الحادي عشر من الميلاد، أحاطوا مدرسة الطب التي أنشأها العرب بما أحاطوا به المعاهدَ الإسلامية من الاعتناء الكبير، وأن قسطنطين الإفريقيَّ، الذي كان من عرب قرطاجة، عُيِّن رئيسًا لها، وأنه ترجم أهمَّ كتب العرب الطبية إلى اللغة اللاتينية، فاقتُطِفَت من هذه الكتب وصايا مدرسة ساليرم التي ظَلَّت سببَ شهرتها الفائقة زمنًا غير قصير.

وكان العرب يعتمدون كثيرًا على علم الصحة في معالجة الأمراض، وعلى الوسائل الطبيعية، وليس غيرَ ذلك أمرُ الطبِّ القائم على المداواة الطبيعية التي استقرَّ عندها العلم الحديث كما يظهر. ويلوح لي، على الأرجح، أن الطب العربي في القرن العاشر من الميلاد، لم يؤدِّ إلى وفياتٍ أكثر مما يقع في هذه الأيام.

تقدُّم العرب في الطب

إن أهم تقدم للعرب في عالم الطب هو ما كان في الجراحة ووصف الأمراض وأنواع الأدوية والصيدلة، وظهرت للعرب عدةُ طرق يعود الطب الحديث إلى بعضها بعد إهمالها قرونًا كثيرة كاستعمال الماء البارد في معالجة حُمَّى التيفوئيد.

والطبُّ مَدِين للعرب بعقاقيرَ كثيرةٍ كالسَّلِيخة والسنا المَكِّيِّ والرَّاوَنْد والتمر الهندي وجوز القَيء والقِرمِز والكافور والكحول … وما إلى ذلك، وهو مدين لهم بفن الصيدلة، وبكثير من المستحضرات التي لا تزال تُستعمل كالأشربة واللُّعُوق واللزقات والمراهم والدهان والمياه المقطرة … إلخ، والطب مدين لهم، كذلك، بطرق طريفة في المداواة عاد إليها على أنها اكتشافاتٌ حديثةٌ بعد أن نُسِيت زمنًا طويلًا، ومنها طريقة إمصاص النبات بعضَ الأدوية كما صنع ابنُ زُهْر الذي كان يعالج المرضى المصابين بالقبض بإطعامهم عنبًا أُشرِبَ من بعض المُسْهِلَات.

وعلم الجراحة مدين للعرب، أيضًا، بكثير من مبتكراته الأساسية، وظلت كتبهم فيه مرجعًا للدراسة في كليات الطبِّ إلى وقت قريب جدًّا، ومن ذلك أن العرب كانوا يَعرِفون في القرن الحادي عشر من الميلاد معالجةَ غِشاوة العين بخفض العدسة أو إخراجها، وكانوا يعرفون عملية تفتيت الحَصاة التي وصفها أبو القاسم بوضوح، وكانوا يعرفون صبَّ الماء البارد لقطع النزف، وكانوا يعرفون الكاويات والفتائل إلخ، وكانوا يعرفون المُرقِد الذي ظُنَّ أنه من مبتكرات العصر الحاضر، وذلك باستعمال الزُّؤان لتنويم المريض قبل العمليات المؤلمة «حتى يَفْقِد وعيه وحواسه.»

هوامش

(١) لعل المؤلف أراد بذلك قول بعضهم:
فلم يشفِ ما نابه ﺑ «الشفا»
ولم ينجُ من موته ﺑ «النجاة»
فأما كتاب «الشفاء» لابن سينا فهو مؤلَّف من ١٨ جزءًا بعضها في الطب وبعضها الآخر في العلوم الأخرى، وأما كتاب «النجاة» لابن سينا فهو مؤلَّف من ثلاثة مجلدات في الفلسفة (المترجم).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤