الفصل السابع

الفنون العربية

الرسمُ والحفرُ والفنونُ الصناعية

(١) أهمية الآثار الفنية في بعث الأدوار

لم تنل يد التحليل العلميِّ الدقيق التي قلبت رأينا في الكون رأسًا على عقب عالَمَ الشعر والفن، ويظهر أن من طبيعة الشعر والفن أن يَبْقَيَا بعيديْن من مباحث العلماء، فالعلم قد يرى سُنَنًا دقيقة لتطور الكواكب وتحول الموجودات وسقوط الأجسام، ولكن هل يسود نَظْم القصائد أو إقامة المباني أو صنعَ التماثيل غير الإلهام والهوى؟ حقًّا إن أصحاب الفنِّ يتَفَلَّتُون حين يُحلِّقون في سماء الخواطر من قيود السنن، ولا يعرفون لأنفسهم سادة.

لم يَحُلْ سِحرُ هذه العقيدة دون تلاشيها يوم بَسَط العلم يده عليها، فقد قرر العلم، من فوره، أن آثار الفن والآداب لم تكن غير مُعَبِّر صادق عن مشاعر أحد الأدوار ومعتقداته واحتياجاته، وأن من نتائج تعبيرها عنه أن كان أحسنُ صفات التاريخ هو ما تركه كلُّ جيل من الآثار، وأن أصحاب الفن والكتَّابَ لم يعملوا، بالحقيقة، غيرَ الإعراب، بشكل منظور، عن أذواق الجمهور المحيط بهم وطبائعه وعواطفه واحتياجاته، وأنهم، وإن كانوا أحرارًا في الظاهر تقيدوا، بالحقيقة، بقيود كثيرة من المؤثرات والمعتقدات والخيالات والتقاليد التي يتألف من مجموعها ما نسميه روح العصر، فَرَزَحُوا تحت أثقال روح العصر عاجزين عن الخلاص منها على مدًى واسع.

والأثر الفني عنوانٌ ماديٌّ لخيال العصر الذي يوضع فيه، فالپَارْتِنُون عنوان خيال الأغارقة واحتياجاتهم أيام عظمتهم، والإسْكُورْيالُ عنوان مشاعر الإسپان في عصر فليب الثاني، والبيت ذو الطبقات الست عنوان حياة البُرْجوازيِّ في الوقت الحاضر.

وتدل آثارُ الفن دلالةً صحيحة على أحوال الزمن الذي أُبدِعَت فيه إذا وُجد من يَعرف قراءتها، وإذا كان لكل جيل فنونه وآدابه فلأن لكل جيل احتياجاته الخاصة التي تقضيها الفنون والآداب، فالمسجد الذي هو معبد ومدرسة وفندق ومَشفى في آنٍ واحد أصدقُ دليل على تمازج الحياة المدنية والدينية عند أتباع النبي، والقصرُ العربي، كالحمراء مثلًا، العاطل خارجه من كل زينة، والمشتمل داخله السريع العطب على كل زخرف يحدِّثنا عن حياة أمة ظريفة بارعة سطحية محبة للحياة المنزلية غير مفكرة في سوى الساعة الحاضرة تاركةٍ أمر المستقبل لله، ولذلك أصاب من قال: أوضحُ الكتابات ما كُتب على الحجر.

fig237
شكل ٧-١: جزئيات معمارية في باب بقصر الحمراء (من صورة فوتوغرافية).

ولكن الحجر وحدَه هو الذي ينْطَق في الآثار الفنية، وكلُّ أثرٍ ماثل يكلِّم من يُحْسِن السماع، والمباني تنطوي على دلائلَ عامةٍ كما تنطوي عليها تقسيمات الكِتاب ومختصرات فصوله، وتَكْمُل بالآثار الفنية الفرعية التي يجب على الباحث ألا يحتقرها مهما صَغُر شأنها، ويجب عد آنية استنباط الماء والخنجر والأثاث وكل شيء يمتزج فيه الفن بالصناعة من أصدق الوثائق التي يمكن المؤرخين أن يعتمدوا عليها أيضًا، ومتى عرف المؤرخون أن يستخرجوا من هذا كله حوادث التاريخ أُخرِجَ التاريخ من دائرة سرد الوقائع وسلاسل الأنساب والدسائس السياسية الممزوجة بتقديراتٍ صبيانية لا تقف أمام سلطان النقد، والتي لا يُوصَل بتصفح أكداس الكتب الباحثة فيها إلى معرفة بصيص من حضارة الأزمنة التي تُحَدِّث عنها.

fig238
شكل ٧-٢: فوهة بئر عربية بقرطبة (من صورة فوتوغرافية).

والآثار الفنية والأدبية الخليقة بالازدراء، لملاءمتها ما لدى العروق السائرة نحو الانحطاط من الاحتياجات الوهمية، هي التي تُنْسَخ بنذالةٍ عن آثار الماضي لاستخدامها في شؤون الزمن الحاضر، كأن تقام محاطاتُ الخطوط الحديدية أو المدارسُ الحديثة على الطراز القوطي مثلًا، وكذلك لا معنى للبرج بغير فارسٍ نبيل يحميه، فإضافة برج إلى البيت الريفيِّ الحديث من قبيل المهازئ التي تَحدُث عندما يلبس برجوازي في الوقت الحاضر خَوذةً ودِرعًا كما كان يَلبَس شارلكن، فإذا كان صنعُ تمثال للقيصر شارلكن راكبًا فرسًا ولابسًا خُوذة ودرعًا مما يزيد في رَوعة هذا التمثال لدلالته على زمن المعارك والطعان، فإن صنع مثله لأحد رجال المال والاقتصاد أو لأحد رجال القانون مما يستلزم قهقهة الناظرين لا محالة. والحق أن الأثر الفني إذا ما خرج عن زمانه وبيئته أضاع معناه، وأصبح المُتحف أليقَ مكان له.

وهنا أذكر أن الپارتنون الذي أقيم تحت سماء اليونان الصافية على ذُروة الأكروپول المهيمنة على أثينة هو من أجمل ما يتصوره الإنسان من المعابد، فلما أقمنا على طرازه كنيسةً في ميدان المادلين بباريس كان هذا عملًا سَمِجًا باردًا، ولو لم يبالغ المهندس في تجسيم هذه الكنيسة؛ لكانت محلًا لسُخرية الناس عند قياسها بالأبنية العالية التي تحيط بها.

والفنون، إذن، وليدةُ مشاعر الأمم واحتياجاتها ومعتقداتها كالنظم، وإذا تحوَّلت هذه المشاعر والاحتياجات والمعتقدات وَجَبَ أن تتحول نُظُم تلك الأمم وفنونها أيضًا، ولو لم يكن لدينا من دور النهضة الأوربية سوى آثاره الفنية لكفى قياسها بآثار القرون الوسطى؛ لإدراك تطور العالم الأوربي تطورًا عميقًا.

أجل، قد تَحْمِل أمةٌ أمةً أخرى على انتحال دينها ولغتها ونظمها وفنونها، ولكن إنعام النظر يدل على أن هذه العناصر الجديدة لا تَلْبَثُ أن تتحول تحولًا ملائمًا لاحتياجات تلك الأمة التي انتحلتها، وكما أن النظم المشتقة من القرآن في بلاد فارس غيرها في بلاد الهند ومصر وإفريقية نرى الفنون العربية في بلاد فارس غيرها في تلك البلاد الأخرى، ولسرعان ما تَطَور فن العمارة العربي الذي أُدخل مع القرآن إلى بلاد الهند؛ فاكتسب صفة الاستقرار والعظمة التي اتصفت بها مباني تلك البلاد العريقة في القدم.

fig239
شكل ٧-٣: قطعتان من نقود الخليفة عمر.

وإذ كانت الفنون عنوان مشاعر الأمة وتصوراتها كانت العوامل القادرة على تحويلها كثيرة كثرةَ العوامل التي تؤثر في المجتمعات، ويُعد درس هذه العوامل وما لها من الأثر على جانب عظيم من الأهمية، وإن كنا لن نَصْنَعه هنا، والمعارف التي لدينا في ذلك عامة الآن، ولا تؤدِّي إلى ما نتمناه من الشروح الدقيقة، وإذا ما قُيِّض ذلك لأحد العلماء فأزال النقص تألفت لغة سهلة من قراءة آثار الفن.

(٢) مصادر الفنون العربية

يكفي الإنسان أن ينظر إلى إحدى البنايات التي أقيمت في دور راقٍ من أدوار الحضارة العربية، مسجدًا كان ذلك البناء أو قصرًا، أو أن ينظر إلى ما صُنع فيه من دَوَاة أو خِنْجَر أو جلد قرآن؛ ليرى لهذه الآثار طوابع خاصة لا يتطرق الوهم إليه في أصلها، والباحث في مصنوعات العرب، كبيرة كانت أو صغيرة، لا يرى فيها أية صلة ظاهرة بمصنوعات أية أمة أخرى؛ فالإبداع من مصنوعات العرب تام واضح.

والأمر يكون غير ذلك عندما ندرس آثار العرب في بُداءة الحضارة العربية بدلًا من درس آثارهم أيام ازدهارها، فلتلك الآثار صلة واضحة بفنون الفرس والبزنطيين الذين ظهروا قبل العرب.

fig240
شكل ٧-٤: قطعة حلي عربية (سورية، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

ورأى كثيرٌ من العلماء ما بين آثار العرب الفنية الأولى وآثار بعض الأمم الشرقية من صلة؛ فاستنتجوا من ذلك أن العرب لم يكونوا أصحاب فن مبتكر، مع أن الوقع أن كل أمة تنتفع بآثار الأمم التي تقدمتها قبل أن تصبح صاحبة لآثار فنية ذاتية، وذلك كما قال پَسْكال بحق: «إنه يجب عد سلسلة الآدميين الذين ظهروا بتعاقب القرون إنسانًا واحدًا حيًّا في كل زمان مُحَصلًا للمعارف على الدوام»، والواقع أن كل جيل يستفيد في البداءة مما ادخرته الأجيال السابقة، وهو يضيف إليه إذا كان على ذلك من القادرين.

ولم تشذ أمة عن هذه السنة، وليس من الممكن تفسير أمر أمة يُزْعَم عدمُ اتباعها لها، ومن ذلك أن عُدت الحضارة اليونانية، إلى وقت قريب جدًّا، وذلك حين كانت مصادرها خافية تمامًا، أنها غير مدينةٍ بأي شيء للأمم الأخرى، فأثبت العلم الرفيع أن أصول الفن اليوناني مقتبسة من الآشوريين والمصريين، ولا ريب في أن قدماء المصريين أنفسهم أخذوا عن أمم أخرى ظَهَرَت قبلهم، ولو لم نَفْقِد أكثر حلقات السلسلة التي تربطنا بشعوب القرون الخالية الأولى؛ لاستطعنا أن نعود إلى الوراء بالتدريج فنَتَمَثَّل العصر الحجري الذي كاد الإنسان يتصل فيه بأنواع الحيوان التي تَقَدَّمته.

fig241
شكل ٧-٥: قطعة حلي فضية (سورية، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

وقد استفاد العرب والأغارقة والرومان والفنيقيون والعبريون وكل أمة أخرى من مجهودات الماضي، ولولا ذلك لكان لِزامًا أن تبدأ كل أمة بما بدأت به الأمم الأخرى ولَسُدَّ باب التقدم، وكل ما تفعله الأمة في بدء الأمر هو أنها تقتبس من الأمم التي جاءت قبلها، ثم تضيف إلى ما أخذته أمورًا أخرى، وقد اقتبس الأغارقة في بدء أمرهم ما عند قدماء المصريين والآشوريين، ثم حولوا المعارف التي لم يبتدعوها بما أضافوا إليها من الإضافات المتتابعة، ثم اقتبس الرومان ما عند اليونان، ولكن الرومان إذ كانوا دون اليونان فنًّا لم يَضُمُّوا إلى ما أخذوا عنهم إلا قليلًا، ولم يصنعوا غير طبع الفن اليوناني بطابع الجلال والعظمة الذي هو عنوان دولتهم الكبرى.

ثم نُقل مقر دولة الرومان إلى بزنطة، وتبدل فنُّهم بما أُضيف إليه من الزيادات التي اقتضتها مشاعر الأمم الجديدة، أي أن المؤثرات الشرقية ضُمت إلى المؤثرات الإغريقية الرومانية، فنشأ عن تمازجها جميعها الفن الجديد الخاص المسمى بالفن البزنطي.

ثم استولى البرابرةُ على الغرب، واستفادوا من عناصر الحضارة اللاتينية، ولكنهم حولوا ما استعاروه منها إلى ما يلائم احتياجاتهم ومعتقداتهم، فنشأ عن الطراز اللاتيني المُشْبَع من المؤثرات البزنطية والجرمانية ما عُرِف في الغرب باسم الطراز الروماني الذي تحول بالتدريج إلى طراز القرون الوسطى القوطيِّ.

ثم جاء القرن الخامس عشر، وتحولت فيه الأفكار والمشاعر بفضل ما تم فيه من الرقي والغنى والثقافة فتحول الفن أيضًا، أي رُجِع إلى الطراز الإغريقي اللاتيني القديم مع مراعاة مقتضيات البيئة الجديدة، فظهر طِراز عصر النهضة، ثم استمر الفن على التطور فصار جليلًا رزينًا أيام لويس الرابع عشر، ثم بدا عليه التكلف في عهد لويس الخامس عشر، ثم أصبح مبتذلًا مشبعًا من روح المساواة في الوقت الحاضر.

وظهر من الأدوار الكبيرة التي تتابعت على فن العمارة منذ القرون القديمة حتى الوقت الحاضر تأثيرُ الماضي، وهل يقال: إن تلك الأدوار عاطلة من فن مبتكر؟ لم يقل بهذا أحد، ولذا يجب ألا يقال: إن العرب لم يكونوا أصحاب فن مبتكر؛ لأنهم اقتبسوا عناصر فنهم الأولى من الأمم التي ظهرت قبلهم.

fig242
شكل ٧-٦: إسكملة عربية مصنوعة من البرونز المكفت بالفضة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

وتَتَجلى قوة الإبداع الفني في الأمم في سرعة تحويل ما ظَفِرت به من عناصر الفن، وجعله ملائمًا لاحتياجاتها وابتكارها بذلك فنًّا جديدًا، فإذا تحقق هذا لدينا علمنا أن العرب لم تسبقهم أمة.

وظهرت قوة العرب الإبداعية منذ أقاموا مبانيهم الأولى كجامع قرطبة الذي أَمْلَوا دقائق صنعته على ما استخدموا في بنائه من متفنني الأجانب.

ومن ذلك أن أعمدة المعابد القديمة التي أخذها العرب في قرطبة كانت قصيرةً غير صالحة؛ ليقوم عليها سقف عالٍ كسقف ذلك الجامع، وأنهم وضعوا بعضها فوق بعض ساترين عدم صلاحها بتلك الحنايا الدالة على مهارتهم الفائقة، فلو كان الترك في محل العرب ما عَنَّ مثلُ هذا الرأي لأدمغتهم الغليظة.

fig243
شكل ٧-٧: القسم الأعلى لإسكملة مصنوعة من البرونز المكفت بالفضة في القرن الثالث عشر (وقد عُرضت هذه الإسكملة في أول هذا الكتاب، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف في القاهرة).

وما على القارئ إلا أن يتصفح صور هذا الكتاب؛ ليعلم قيمة آثار العرب الفنية العظيمة وقوةَ الإبداع فيها، وقد استوقفت هذه الآثار أنظار جميع وارثي العرب، ولم يفعل الشرق منذ ظهور العرب على مسرح العالم غير تقليدها كما قلَّد الغرب الأغارقةَ والرومان منذ قرون حتى الزمن الحاضر.

والحق أن وارثي العرب قَلدوا العرب، ومن خلال هذا التقليد نستطيع أن نَتَبَيَّن الفرق بين الفن المبتَكر والفن غير المبتَكر.

كان أمام الأمم التي حَلت محل العرب عناصر بيزنطية وعربية وهندوسية وفارسية … إلخ، مختلفة باختلاف البلدان، فلم تفعل سوى تنضيدها عاجزةً عن استنباط طراز جديد من مجموعها، فإذا نظرت إلى إحدى بنايات المغول في الهند، مثلًا، أمكنك أن تقول: إن هذا الجزء منها فارسي، وإن ذاك الجزء منها هندوسي، وإن ذلك الجزء منها عربي، وقلْ مثل هذا عن المباني التي أقامها الترك الذين نَضَّدوا فيها عناصر الفنون السابقة من غير أن يمزجوا بعضها ببعض، ولكنك إذا أنعمت النظر في المباني العربية كالقصور التي أقامها العرب في الأندلس أو المساجد التي أقاموها في القاهرة رأيت العناصر الأولى التي تألفت منها بلغت من التمازج ما يتعذر معه من الانتباه إلى المصادر التي اشتُقَّت منها.

والآن نلمس مزاج الأمة الإبداعي فنقول: مهما تكن عناصر الفن التي تصبح قبضتها تضع طابعها الخاص عليها، فإذا كانت الأمة مبدِعة أمكن أن تتجلى قوتها الإبداعية في كل شيء حتى في بناء إصطبل أو صنع حذاء، وإذا كانت الأمة عاطلة من مثل هذه القوة لم تَفْعَل سوى تنضيد عناصر الفن، كما هو شأن الترك الذين استطاعوا أن يقلدوا كنيسة أياصوفية في القسطنطينة عشر مرات، وأن يُنضِّدوا فيما قلدوه بعضَ الزخارف العربية أو الفارسية، ولكن من غير أن تكون لهم فيه أيةُ مسحة إبداعٍ فني خاصة.

fig244
شكل ٧-٨: باب عربي قديم في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

(٣) الجمال في فنون العرب

ترانا سائرين بحكم الطبيعة إلى تقدير جمال الفنون العربية بعد أن بحثنا في مصادرها وما فيها من إبداع عظيم، ولكن فقدان المقاييس المضبوطة يجعل هذا التقدير أمرًا شخصيًّا ويقلل من شأنه، ولن يكون نفع الأثر الفني، أي مطابقته لغرضه، مقياسًا صالحًا لتقدير قيمته، فمن الممكن أن تقام عدة بيوت أو عدة بنايات متساوية الفوائد مختلفة القيم الفنية.

ويجب علينا أن نُعرِّف الجمال والبشاعة قبل أن نُعيِّن بالضبط درجةَ الجمال أو البشاعة في الأثر الفني.

لقد دل البحث على أن قيمة الأمور التي هي من نوع الجمال والبشاعة تختلف باختلاف العروق والتربية والبيئة والزمن … وما إلى ذلك من العوامل، والتعريف الوحيد الممكن الذي يلائم جميع العروق في كل زمان هو أن الشيء الجميل هو ما نَسْتَلِذُّه.

وهذا التعريف ناقص جدًّا لا ريب، ولكن السعي في إكماله يؤدي إلى الاقتراب من دائرة سبب الأسباب المنيعة التي عجز العلم عن دخولها حتى الآن.

وإذا كنا نستلذ الشيء فلملاءمته أحوالَ أمزجتنا التي تختلف باختلاف الأشخاص والعروق، ولكن ما هذه الأحوال؟ ذلك ما لا نقدر على الإجابة عنه.

fig245
شكل ٧-٩: لوح باب خشبي قديم مرصع بالعاج في القاهرة (مجموعة شيفر، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

وليس في الطبيعة جمالٌ مطلق أو شناعة مطلقة، كما أنه ليس فيها صوت أو سكوت أو نور أو ظلام … أو غير ذلك من الأمور التي هي وليدة ذهننا، والتي أثبتت الفزيولوجية الحديثة أنها أوهام خالصة، ولم يظهر الجمال والبشاعة في العالم إلا يوم صار لبعض الأشياء والأشكال تأثير حسن أو سيئ في حواسنا، وهذه أوجه للذة والألم وفق آخر تحليل.

وإذا كانت عناصر الأثر الفني منسجمة كان هذا الأثر الفني ذا تأثير حسن في حواسنا، ونقول إذ ذاك: إنه أثر جميل، وإذا كانت تلك العناصر فاقدة الانسجام كانت مؤذيةً لحواسنا، ونقول إذ ذاك: إنه أثر بشع، وإنما الذي لا نقدر عليه هو بيان السبب في تلذذ العين أو الأذن ببعض التراكيب وتألمها من بعضها الآخر، ونرى اليوم البعيد الذي يكتشف العلم فيه سبب حب شخص لبعض الأطعمة وكُره شخص آخر لها هو اليوم الذي يكون العلم قد تقدم فيه كثيرًا.

والوهم في تقدير قيمة الآثار الفنية نفسها يتطرق إلينا من إجماع فريق كبير من أبناء العرق الواحد على رأي واحد في بعض أوصاف الجمال، ومصدر هذا الإجماع هو في الحقيقة تماثل مزاج ذلك الفريق، فإذا ما نيط أمر الجمال أو البشاعة بمختلف العروق رأيت اختلافًا في التقدير من فَورِك؛ فالبزنطي كان يفضل العذارى الضَّامرات المَمْطُولات على إلاهات قدماء اليونان الضليعات، والبرابرة الميروڨنجيون كانوا يَرَوْن صورهم الغليظة أجمل مما أنتجته الحضارة اليونانية اللاتينية، والهمجي من إفريقية الجنوبية يرى المرأة الهوتنتية، التي هي من أشنع نساء العالم في نظرنا، جميلة جمال ڨينوس دُومِيدِيسِيس وأَپُولُّون دُو پِلڨِدِير عند الأوربي.

ويعود بنا الإيضاح السابق، كما ترى، إلى التعريف الذي بدأنا به، وهو «أن الشيء الجميل هو ما نستلذه»، وإننا نُتِمُّ هذا التعريف بقولنا: «إن الشيء الجميل هو ما يستلذه أكثر أبناء العرق الواحد في زمن معين»، ولا نستطيع أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك.

ومهما تجد من نقص في تعريفنا للشيء الجميل تَرَهُ يدلنا، مع ذلك، إلى حقيقة الفن وإلى ما نطالب به رجل الفن، فإذا كان رجل الفن يبحث عن أمثلته في الطبيعة طالبناه بأن يقتبس منها ما نستلذه، وأن يبالغ في إظهار ذلك مبالغة تروقنا.

ولا نألم من رجل الفن لصنعه تمثال امرأة أجمل مما نراه عادة، ففي تجميل الطبيعة، لا في نقلها حرفيًّا، يتجلى الفن، فانظر إلى تمثال ڨينوس دوميلو تراه آية في الجمال، وسبب الإعجاب به هو أن الطبيعة لم تمنَح شخصًا واحدًا ضروب الكمال التي تشاهدها مجتمعة فيه.

ثم إذا حدث أن بذل رجل الفن ما عنده من حِذْق في صنع تمثال لامرأة عجوز عارية مُتَكَرِّشة أمكننا الثناء عليه، مع ذلك، لدقته ولما اقتحمه من المصاعب، وإذا كان هذا التمثال محلًا للإعجاب فلِما اصطلح الناس عليه في زمن معين.

وقد يؤدي اصطلاح الناس في زمن معين، ولا سيما في دور الانحطاط، إلى تبدُّل في أذواقهم، ومن ذلك تمنِّي أنصار تصوير الطبيعة الحرفي أن تكون آثار الفن مطابقةً للحقائق بدلًا من أن تكون رائعةً مثاليةً، وقد جهل هؤلاء أن الطبيعة مملوءة بالحقائق، لا بما هو جميل، وأن الفن إذا قام، كما يَرَون، على تصوير الطبيعة تصويرًا حرفيًّا فإنه يعود غيرَ موجود، وأن آلة التصوير التي تكفي لالتقاط قبيح الأشياء لا تَدَعُ في الناس احتياجًا إلى عبقرية رجال الفن المبدعة.

وما على المرء إلا أن ينظر إلى آثار العرب الأدبية والفنية؛ ليعلم أنهم حاولوا تزيين الطبيعة دائمًا، وذلك لما اتصف به الفن العربي من الخيال والنضارة والبهاء وفَيض الزخارف والتَّفنن في أدق الجزئيات.

والأمة العربية قد رغبت، بعد أن اغتَنَت (والأمة العربية أمةُ شعراء، وأيُّ شاعرٍ لا يكون متفننًا) في تحقيق خيالاتها فأبدعت تلك القصور الساحرة التي تُخيَّل إلى الناظر أنها مؤلفةٌ من تخاريم رخاميةٍ مرصعة بالذهب والحجارة الكريمة.

ولم يكن لأمة مثلُ تلك العجائب، ولكن، فهي وليدة جيل فَتِيٍّ مضى وخيال خصب ذَوَى، ولا يطمعن أحدٌ في قيام مثلها في الدور الحاضر الماديِّ الفاتر الذي دخل البشر فيه.

(٤) الفنون الصناعية العربية

تدلُّ كلمة الفنون الجميلة، عادةً، على فنِّ التصوير وفن النحت وفن العمارة وفن الموسيقا، وتدل كلمة الفنون الصناعية على صنع المنتجات ذاتِ النفع العام التي تُصنَع بطرق آلية، وتكون مُشْرَبَةً روح الفن الجميل.

وإن مما يجادَل في قيمته، لا ريب، تعبيرَ «الفنون الصناعية»، ولكنني لن أفعل هذا هنا، وإنما أذكر أن الفنون الصناعية تشتمل، عادةً، صناعة الخزف والزجاج الفني والفُسَيْفِساء والنجارة والصياغة والتكفيت … وما إلى ذلك.

وقد تكون لدراسة منتجات الفنون الصناعية، من حيث الحضارة، أهميةٌ كالتي تكون لدرس الفنون الجميلة؛ فقد يوجد في أتفه هذه المنتجات ما يدلُّ على أدق شؤون الحياة الشعبية، وما يساعد على تقدير معارف صانعيها الفنية واحتياجات مبدعيها ومقتنيها.

والفنونُ الصناعيةُ شائعةٌ بين العرب في كل مكان، ورَوْشَمُ١ الفرَّان والدلو والسكين، مثلًا، من الأشياء التي يصنعها العرب بروعةٍ تدل على درجة اتصاف أحقر صُناعهم بالذوق الفني، والحق أن الفن مستقل عن تطبيقاته، ويمكن أن يتجلى في أنفس الأدوات وأثمنها كما يمكن أن يتجلَّى في أحطها.

ومن دواعي الأسف أن يكون درسُ فنون العرب الصناعية الذي خصصنا له هذا الفصل ناقصًا جدًّا لقلة ما عندنا من الوثائق، ولم يتصدَّ أحدٌ بعدُ لدرس تاريخ مصدر هذه الفنون وتطوراتها المتعاقبة مع ما في هذا من الفوائد الكثيرة.

fig246
شكل ٧-١٠: لوح باب خشبي لردهة السفراء في القصر بأشبيلية (متحف العاديات الإسپاني).

ومباني العرب أهمُّ آثار العرب الفنية، وسندرس تاريخ طرازها في الفصل الآتي درسًا مجملًا؛ لكثرة عددها، ولأن البحث فيها كان الغرض المهمَّ من رحلاتنا، ولأن جَمع المواد التي تؤدِّي إلى وصف ما برز فيه العرب من الفنون الأُخَرِ يتطلب نفقات عظيمة، ولذا نقتصر في هذا الفصل على بيان هذه الفنون الأخرى بيانًا عامًّا عاجزين عن ذكر سلسلة تطورات كل واحدة منها بحسب الأزمنة، وذلك خلافًا لما نصنعه في فن البناء.

(٤-١) التصوير

من الأقوال الشائعة أنه حُرِّمَ على المسلمين تصويرُ الرَّبِّ والموجودات الحية، ويعزو القرآن، أو تفاسير القرآن على الأقل، هذا المنع إلى النبي.

والواقع أن المسلمين لم يكترثوا لذلك إلا في زمنٍ متأخر، وأنهم تجاهلوه زمنًا طويلًا كما تجاهلوا منع ذلك الكتاب المقدس للعبة الشطرنج والشرب بآنية من ذهبٍ أو فضة.

وكان الخلفاء أولَ من خالف حظر تصوير ذوات الحياة، وظهر من صور النقود التي نشرناها في هذا الكتاب أنهم لم يتردَّدوا في رسم صورهم على نقودهم.

والصور التي على النقود أو الصور غير القليل التي على الآنية العربية من الأدلة المفيدة على استعداد العرب للرسم، على معرفتهم للتصوير، ويمكن الاستدلال على معرفة العرب للتصوير بما ذكره مؤرخوهم الذين أنبأوا بوجود عدة مدارسَ عربيةٍ كثيرة للتصوير فيما مضى، ومن هؤلاء المؤرخ المحقق المقريزيُّ الذي ترجم مصوِّرَين من المسلمين، وذكر أنه وُجد في قصر الخليفة المستنصر، حين نُهب في سنة ٤٦٠ﻫ، ألفُ قطعة من المنسوجات مصورة عليها حاشيةُ خلفاء العرب مع مقاتلين ورجالٍ مشهورين، وكانت البُسُط المصنوعة من نسائج الذهب والحرير والمخمل مستورةً بتصاوير ممثِّلةٍ لرجال من كل نوع.

ويدل ما ذكره المقريزي على حِذْق مصوري عرب القاهرة في القرن العاشر من الميلاد، وقد رَوَى وجودَ صورتين لمغنِّيَتَيْنِ تبدو إحداهما، وهي لابسةٌ ثوبًا أبيض على أساسٍ أسود، كأنها داخلة في الجدار المصورة عليه، وتبدو الأخرى، وهي لابسة ثوبًا أحمر على أساس أصفر، كأنها خارجةٌ منه نحو الناظر.

fig247
شكل ٧-١١: إسكملة خشبية مرصعة في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).

ويظهر أن مصوري ذلك الزمن كانوا من المتقنين لضروب فنِّ المناظر، فاستطاعوا تصوير السُّلَّم الذي روى المقريزيُّ وجودَه في أحد قصور القاهرة على شكل يخيَّل إلى الناظر معه أنه حقيقي.

ويحتوي كثير من المخطوطات العربية على صور، ولا سيما المخطوطات الخاصة بالتاريخ الطبيعي، وترويض الخيل … إلخ، ولا يزال يوجد في المكتبات نسخٌ قديمة من مقامات الحريري زيَّنها العرب بالصور، وذكر الغزيري أن أحد المخطوطات في مكتبة الإسكوريال يشتمل على أربعين صورةً لملوك العرب والفرس والملِكات والقادة وأعاظم الرجال … إلخ، وأن هذا المخطوط يرجع إلى القرن الثاني عشر.

ويعلم جميع زائري الحمراء أن سَقف قاعة الحكم فيها يشتمل على صور لمختلف الموضوعات، كمجلس أمراء من العرب، وكمطاردة فارس مغربي لفارس نصراني مطاردة المنتصر … إلخ، وإن وُجد خلافٌ في مصدرها، ولم يتردد مسيو لاڨوا في عَزْو قسم منها، على الأقل، إلى العرب، وهي لا تدل على نبوغ فني في مصوريها كما رأيتُ.

fig248
شكل ٧-١٢: إسكملة خشبية عربية في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).

ومع ذلك فإن تلك الوثائق والآثار لا تكفي للحكم في أمر مصوري العرب، وإنما يمكن تقدير نبوغ رساميهم بصور الحيوان والإنسان التي اشتملت عليها مخطوطاتهم أو مصنوعاتهم المعدنية.

وتطفو الكتابات والنقوش العربية — في الغالب — فوق صور ذوات الحياة التي رسمها العرب، وقد يَحْدُث، أن تؤلَّف الحروف العربية من مزيج من صُوَرِ الحيوانات والآدميين على شكل عجيب، ومن ذلك ما في الحافة الخارجية، التي نشرنا صورة بعضها، للكوب «المصنوع في القرن الثالث عشر، والمحفوظ في مكتبة باريس الوطنية» من الإفريز الذي تألفت أسطورةٌ من تشابك صور أشخاصه في حروف عربية.

وأشهر الأواني العربية المشتملة على صور الآدميين هو الإناءُ الموجود الآن في متحف اللوڨر، والمعروف بإناء سان لويس للعِمَاد، والذي استُخدم زمنًا طويلًا لتعميد الصبيان في فرنسة، بعد أن فُرِض أن سان لويس أتى به أيام الحروب الصليبية، والذي أثبت مسيو دُولُونْغپريه أنه من مصنوعات القرن الثالث عشر من الميلاد، والذي ظهر أن أزهار الزنبق أضيفت إليه بين ذلك القرن، والقرن الرابع عشر من الميلاد، وهذا مع ملاحظتي أن زهر الزنبق، أو رمزًا آخر كثير الشبه به على الأقل، يوجد بكثرة بين زخارف المباني العربية في مصر.

ولكن المسلمين صاروا بعد زمنٍ مختلفٍ باختلاف البلدان لا يرسمون صور ذوات الحياة في مصنوعاتهم أبدًا، مُقَيَّدين في ذلك بأقوال الفقهاء الذين تغلَّبَت عليهم حَرفية القرآن.

ولم تبالِ الأمم التي اعتنقت الإسلام، كالفرس والمغول، بمحظورات القرآن التي لم تلائمهم، فترى في بلاد الفرس — على الخصوص — صُورًا كثيرة لذوات الحياة، وإن كانت صُور الآدميين منها متوسطة على العموم، وصُور الأزهار والحيوانات منها على شيء من الجمال مع قليل خيال.

(٤-٢) صنع التماثيل

صنع التماثيل كالتصوير من الأمور النادرة عند العرب، ولذا يجب أن نكتفي بما جاء في كتب التاريخ من الإشارات أو بالنماذج القليلة الناقصة جدًّا.

وقد أشرنا في فصل سابق إلى ذلك الخليفة المصري الذي كان قصره مملوءًا بتماثيل نسائه، ومثلُ ذلك ما ذكرته تواريخ عرب الأندلس من التماثيل التي كانت في قصر عبد الرحمن الشهير، ولا سيما تمثالُ حَظِيَّته.

ولم يبقَ من تماثيل العرب غيرُ ما هو تافهٍ، كتماثيل الحيوانات الوهمية القائمة في قاعة الأسود من قصر الحمراء، وتمثال العُقاب البرونزي الكائن في كانپو سانتو في پيزه، وتمثال الأسد البرونزي الذي صُنع ليجريَ ماء إحدى العيون من فَمِه فتراه الآن في مجموعة فورتوني.

صُنِعَت تلك التماثيل، التي هي من منتجات الفنون الصناعية، لِغَرض معين، لا للفن نفسه، ولا نستطيع أن نُقدِّر قدرةَ العرب على صنع التماثيل بتلك الوثائق القليلة جدًّا.

fig249
شكل ٧-١٣: روشم فران عربي مصنوع من الخشب.

(٤-٣) صناعة المعادن والحجارة الثمينة

الصياغة وصناعةُ الحلي والترصيع والتكفيت: تقدم العرب كثيرًا في الصناعة المعدنية، وبلغ إتقانُهم لبعضها مبلغًا يصعب الوصول إلى مثله في زماننا، وكانت آنيتهم وأسلحتهم مُكفَّتَةً بالفضة ومموهةً بالميناء المُفرَّض ومرصَّعةً بالحجارة الثمينة، وكان مِن تقدم العرب استطاعتهم أن يصنعوا من مادة قاسية كالبِلَّوْر قطعًا كبيرة مغطَّاة بالصور والحِكَم مما يَعْسُر صنعه، ويغلو ثمنه في الزمن الحاضر، ومن ذلك الإبريق البلوريُّ الذي صُنع في القرن العاشر من الميلاد فتجده في متحف اللوڨر، وتجد صورة له في هذا الكتاب مع صور نماذج كثيرة لمصنوعات العرب من المعدن والحجارة الثمينة.

وتجلت روح الإبداع العربية — على الخصوص — في ترصيع المعادن الصالحة لصنع الأسلحة والآنية والأباريق وكِفاف الموازين وأدوات المنازل … وما إليها، وأُطلق اسم الدمشقي على مِنهاج العرب مشتقًا من اسم المدينة «دمشق» التي زاولته على الخصوص، وكانت دمشق والمَوصل أهمَّ مراكز هذه الصناعة، ولا تزال هذه الصناعة رائجةً في دمشق، ولكن على شكل منحط، ويعود انحطاطها، لا ريب إلى زمن تيمورلنك الذي استولى على دمشق في سنة ١٣٩٩م، فساق جميع صانعي أسلحتها إلى سمرقند وخراسان.

ولا ترجِع المصنوعات المعدنية المكفَّتَةَ العربية الموجودة الآن إلى أقدم من أوائل القرن العاشر من الميلاد، وأكثرُها صُنِع في القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر من الميلاد، والأسلحة المصرية التي نشرنا صُورها في جزء آخر من هذا الكتاب هي لطومانباي (١٥١١م)، وهي مصنوعة على الطراز الفارسي العربي.

وإنني أقتبس وصف مسيو لاڨوا لطرق الشرق في التكفيت، وذلك مع التنبيه إلى أن ما ذكره عن صناعة التكفيت الحاضرة في القاهرة لم يكن غير ما في دمشق، فعمال القاهرة الذين يُحسنون التكفيت في زماننا قليلون جدًّا، وأكثر ما في أسواق القاهرة من المصنوعات النحاسية هو من دمشق. قال مسيو لاڨوا:

وتُرى طُرُقٌ كثيرة لصناعة التكفيت عند الشرقيين، ويتمُّ التكفيت بإدخال خيط من الذهب أو الفضة إلى فُرَض مُحْدَثَةٍ في المعدن بالمِنقاش واسعة القَعْر ضَيِّقَة الوجه، ويكون هذا الخيط بارزًا أو مُسوًّى على حسب رأي الصانع، فتارةً تُرَكَّب زهرة دقيقة من الذهب أو الفضة على أساس من الفولاذ أو النحاس بين خَطَّين متوازيين، وتطرَق الأطراف طرقًا خفيفًا، فيَنجم عن هذا ما يُشبه الإطار، وهذا ما يُفعل في دمشق غالبًا، وتارة يمر الصانع بمهارة عجيبة مِنقاشه المِهمازِيَّ الشكل بسرعة على المعدن الذي يُرغب في زخرفته، ويُرَكَّب خيط الفضة بالمِدقِّ على هذه الأجزاء المعدة؛ ليعلَّق بها فتُمسكه، وهذا الطراز في التكفيت هو ما لا يزال يَفعلُه العمال في القاهرة، وهو ما يقوم به صناع الفرس على الخصوص.

fig250
شكل ٧-١٤: رصفة رخام في بيت قديم بالقاهرة.
fig251
شكل ٧-١٥: فسيفساء من رخام وصدف في الجامع الكبير بدمشق.

والطريقة الأخيرة هي التي يستعملها صُناع دمشق في الوقت الحاضر أيضًا، وهي على ما فيها من السرعة لا تؤدي إلى صنع ما هو متين، أي لا تُنظِّف الأزهار المكفتة بها من غير أن تُخلَع، مع أن المعدِن المرصَّع على حسب الطرق السابقة يؤلِّف جزءًا من المعدن المرصع، ولا يجوز قياس مصنوعات دمشق المعدنية الحاضرة بمصنوعات عصر الخلفاء التي نذكر منها — على سبيل المثال — الإسكملة الرائعة المصنوعة من البرونز، والتي قدَّمتُ لوحة لها في هذا السِّفر.

fig252
شكل ٧-١٦: صندوق صغير مصنوع في القرن الحادي عشر من الميلاد (طراز فارسي عربي، متحف العاديات الإسپاني).

(٤-٤) النقود والأوسمة

روى المؤرخ المقريزي في رسالته عن النقود أن الخليفة الأموي عبد الملك هو أول من ضَرَب النقود الإسلامية، وكان المسلمون حتى السنة السادسة والستين من الهجرة (٦٩٥م) يستخدمون نقود الروم الذهبية والفضية أو يقلدونها مع إضافة بعض الكلمات العربية إليها كاسم الخليفة، وكالكلمات: الحمد لله، ولا إله إلا الله … إلخ.

وللنقود العربية ثلاثة أنواع: الدينار: وهو من الذهب، تترجح قيمته بين اثني عشر فرنكًا وخمسة عشر فرنكًا، والدرهم: وهو من الفِضة، تعدل قيمته ستين سنتيمًا، والدانق: وهو من النحاس.

ونشرنا في هذا الكتاب، صورًا غير قليلة لنقود العرب في مختلف الأقطار، ولا سيما مصر والأندلس، وهي جميلة على العموم، والحروف فيها واضحة جدًّا.

(٤-٥) المصنوعات الخشبية

وصل العرب في إتقان مصنوعاتهم الخشبية وترصيعها بالصدف والعاج إلى درجة تقضي بالعجب حقًّا، واليوم لا تُقلَّد، إلا بثمنٍ عالٍ، تلك الأبواب العجيبة التي تُرى في بعض المساجد القديمة، وتلك المنابر ذات التقاطيع والتراصيع، وتلك السقوف ذات النقوش المتشابكة، وتلك المشربيات المخرَّمة.

fig253
شكل ٧-١٧: صندوق عربي قديم مصنوع من الخشب المرصع في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).

وبلغت تلك الصناعة درجة الكمال قبل القرن الثاني عشر من الميلاد، كما تدل عليه القطع الأثرية التي انتهت إلينا من ذلك العصر، فنذكر منها منبر المسجد الأقصى القدسي الرائع.

وكان العرب يُتقنون صناعة حفر العاج إتقانًا نادرًا أيضًا، كما تشهد بذلك القطع الكثيرة النفيسة التي وصلت إلينا كالصندوق العاجي الصغير الذي صُنع لأحد ملوك أشبيلية في القرن الحادي عشر من الميلاد فيُعرف بصندوق سان إيزيدور الليوني، وكصندوق كتدرائية بايو العاجي الذي صُنع في القرن الثاني عشر من الميلاد، فأُتي به من مصر أيام الحروب الصليبية كما نُرجح فيبدو مزخرفًا بالفضة المموهة بالذهب، وبضروب الزينة المرصعة والمخَرَّمة على أشكال الطيور ولا سيما الطواويس.

وهنا أذكر على العموم، وذلك في معرِض البحث في صناعات العرب الخشبية والعاجية والمعدنية، ما يدل على مهارة الصناع الشرقيين العجيبة، وذلك أنهم يصنعون أدق المصنوعات بأغلظ الآلات وأقلِّها عددًا، أجل، لا يقاس ما يُصنع اليوم في القاهرة ودمشق من الحلي والقطع المرصعة بما كان يصنع منها في عصر الخلفاء، ولكنني لا أعتقد وجود صناع أوربيين قادرين في الوقت الحاضر على صنع مقعدٍ مرصع، أو نارجيلة مكفتة، أو سِوَار بمثل تلك الآلات الابتدائية التي رأيتُها في الشرق.

fig254
شكل ٧-١٨: صندوق صغير من العاج المنقوش في القرن الحادي عشر من الميلاد (متحف كنسنغتن، من صورة فوتوغرافية التقطها مسيو شارل رلڨا).

(٤-٦) الفسيفساء

عَرَف الرومان استعمال الفسيفساء، واقتبسها البزنطيون منهم مع إكمال صنعها بإدخال أساس ذهبي إلى الترصيعات الكثيرة الألوان.

ولم يُتَح لي أن أحقق إتيان العرب بتعديلات مهمة في صناعة الفسيفساء التي لم يلبثوا أن فضَّلوا عليها صناعة الميناء في زخارفهم السهلة الإنجاز.

وللفسيفساء نوعان عند العرب: فالنوع الأول: هو ما كانوا يكْسُون به وجه الأرض وأسفل الجُدُر من قطع المرمر أو الخزف المطلي الملون المختلف المقاييس، والنوع الثاني: هو ما كانوا يكسون به الجُدُر، ولا سيما جُدُر المحاريب، فنرى أن صُنعه بيزنطي تمامًا.

وقد رأيت تماثلًا بين قطع الفسيفساء التي هيئ لي أن أدرسها في بلاد اليونان وتركية وسورية ومصر ونماذجها التي أتيتُ بها من الكنائس البزنطية في أثينة ومن أياصوفية في القسطنطينية وجامع عمر في القدس ومساجد القاهرة، أي تتألف قطع الحجارة الملونة، وقطع الزجاج التي يُسفر ضمُّ بعضها إلى بعض عن صور من مكعبات صغيرة يبلغ ضلعُ الواحد منها نحو سنتيمتر، ويشتمل كل صباغ فيها على ثلاثة ألوان، على العموم، صالحةٍ لإحداث تمازج نور وانعكاسه، والمكعبات الحجرية ملونةٌ في جملتها، والمكعبات الزجاجية المعدة لإحداث أساس ذهبي مذهبةٌ في وجهها فقط، وتقوم الطريقة الدقيقة التي اتُّبعت لبقاء تلك الطبقة الذهبية ودوامِها لامعةً على طلاء كل مكعَّب مذهب بطبقة زجاجية رقيقة رقَّةَ الطبقات الزجاجية التي تكون فوق المستحضرات المكروسكوبية في المختبرات، وأرى أن بقاء هذه الطبقة الذهبية مدةَ ألف سنة على حالها الأول حدث بفضل ذلك الطلاء الواقي.

(٤-٧) صناعة الزجاج

زاولت جميع الأمم الشرقية، ولا سيما الفرس والمصريون، صناعة الزجاج منذ أيام الفنيقيين الذين عُزِيَ إليهم أمر اختراعه، واكتُشِفت في نينوى أدواتٌ زجاجية صُنِعت قبل ظهور المسيح بمدة تترجح بين سبعة قرون وثمانية قرون، ثم سيق صانعو الزجاج في الإسكندرية إلى رومة أيام الرومان، وصنعوا فيها أكوابًا زجاجية جميلة مَطليَّةً بالميناء، ولما ظَهَر العرب لم يبقَ لهم، إذن، إلا إتقان تلك الصناعة التي كانت موجودةً قبلهم.

fig255
شكل ٧-١٩: صندوق صغير مصنوع في قرطبة من العاج المنقوش، وذلك في القرن العاشر من الميلاد (متحف كنسنغتن) (من صورة فوتوغرافية التقطها شارل رلڨا).

ولم يلبث العرب أن تقدموا في صناعة الزجاج تقدمًا عظيمًا، كما يشهد بذلك ما انتهى إلينا من أوانيهم المذهبة والمطلية بالميناء، ويمكننا أن نتمثل ذلك بسهولةٍ من إنعام النظر في الصور المبعثرة في هذا الكتاب، ولا سيما لوحة مصابيحِ بعض المساجد.

ويرى كثيرٌ من المؤلفين أن مورانو والبندقية مدينتان لصانعي الزجاج من العرب بطرقهما التي اكتسبتا بها شهرةً كبيرةً في صناعة الزجاج، والعرب من تَعْلَمُ من اتصال البندقية بهم اتصالًا تجاريًّا مستمرًّا.

(٤-٨) الصناعة الخزفية

استعمالُ الخزف المطلي بالميناء الملون قديم جدًّا، وقد وُجدت قطعٌ منه في بقايا القصور الفارسية القديمة، ولم يلبث العرب أن استخدموه بدلًا من الفسيفساء؛ لما يتطلبه صنع الفسيفساء من انقضاء زمنٍ أطول من الزمن الذي يتطلبه ذلك، ومن مصاعب أشد مما يستلزمه ذلك، وتجد في أقدم المساجد، كمسجد قرطبة ومسجد القيروان … إلخ، نماذجَ شتَّى للخزف المطلي بالميناء.

وما اتفق للعرب في فنِّ العمارة بسرعةٍ اتفق لهم مثله في صناعة الخزف، وقد استطاع العرب، بعد أن اقتبسوا من الأمم الأخرى طُرُق صُنع الخزف الفنية، أن يبتدعوا منه، في بلاد الأندلس على الخصوص، قطعًا مبتكرةً رائعةً متقنةً لم يسبقهم إليها أحد كمالًا.

fig256
شكل ٧-٢٠: إناء عربي مأخوذ من قصر الحمراء (كما جاء في صورة قديمة).

وترجع صناعة المسلمين للخزف المطلي بالميناء في بلاد الأندلس إلى القرن العاشر من الميلاد، وقد كان لهم فيها مصانع شهيرةٌ تبيع مصنوعاتها في جميع أنحاء العالم، وقد شاهدنا في قصر الحمراء ألواحًا رائعةً مستورة بالخزف المطلي بالميناء ذي الانعكاس المعدني، ومصنوعةً في القرن الثالث عشر من الميلاد ومتشابهةً هي والمصنوعات الإيطالية، التي عُرفت مؤخرًا بالمصنوعات الماجوليكية، تشابهًا يستوقف النظر، وإن في اشتقاق كلمة «ماجوليكة»، لا ريب، من «ميورقة» التي كان فيها مصنع عربي مهمٌّ لصنع الخزف المطلي بالميناء دليلًا على أن طُرُق الإيطاليين في صنعه مقتبسةٌ من العرب.

وأشهرُ نموذجٍ لصناعة الخزف المطلي بالميناء الإسلامية هو الإناءُ الذي وُجد في قصر الحمراء، والذي يبلغ ارتفاعه مترًا وخمسة وثلاثين سنتيمترًا، وهو مكسوٌّ برسوم زُرْقٍ ذهبية (على أساس أبيض ضارب إلى صفرة) وبنقوشٍ عربية وكتاباتٍ وصورِ حيواناتٍ خيالية تذكرنا بالوَعِلِ، وهو حائز، شكلًا لطابع الإبداع الخاص بجميع آثار العرب.

وكانت أهم المراكز العربية لصناعة الخزف المطلي بالميناء في بَلَنْسِيَة ومالَقَة. قال الرحالة العربي ابن بطوطة مشيرًا إلى مالقة سنة ١٣٥٠م: «وبمالقة يُصنع الفَخَّار المذهَّب العجيب، ويُجلَب منها إلى أقاصي البلاد.»

ومن أشهر معامل صنع الخزف: معملُ جزيرة ميورقة الذي يظهر أنه قديمٌ جدًّا؛ لافتتاح النصارى لها في سنة ١٢٣٠م.

ولما تم إجلاء العرب عن إسپانية هَبَطت فيها صِناعة القاشاني وجميع الصناعات إلى الحضيض بسرعة. قال مسيو دُو سُوميرار: «إن درجة الإنتاج في إسپانية صِفرٌ، واليومَ لا تَصنَع معاملها سوى الأواني المنزلية الغليظة.»

واكتُشِفَت قِطع من القاشاني في صِقلية، وافتُرض بسببها وجود مصانع إسلامية للقاشاني فيها سابقًا، غير أن نماذج تلك القطع التي وُجدت إذ كانت أقرَب إلى الفن الفارسي منها إلى الفن العربي صار من المحتمل أن تكون قد أُدخلت إلى صقلية بطريق التجارة فيما مضى، ويشتمل مُتحف كلوني على مجموعة نفيسة من القاشاني الذي يُفترض أنه صِقِليٌّ عربيٌّ.

وتشتمل المتاحف الأوربية على كثير من الأواني الخزفية التي صُنعت تقليدًا لأواني عرب الأندلس، ويَسْهُل تبين هذا التقليد بما فيها من قطع الكتابات العربية الممزوجة بالزخارف، وقد حَرَّف صانعو الخزف من الأجانب هذه الكتابات، التي اتخذوها أساسًا للزينة، حين اقتباسها.

fig257
شكل ٧-٢١: صيني مطلي بالميناء في الباب الرئيسي لضريح تيمورلنك (من مجموعة الجنرال كوفمن الفوتوغرافية).

ولا يزال يُرى في بلاد العرب وفي أهم مدن الشرق مصنوعاتٌ من الخزف الصيني المزيَّن بالكتابات العربية المذَهَّبة على أساس من اللون الأزرق أو الأبيض، ولا ريب في أن عمالًا من مسلمي الصين هم الذين يصنعونها، ووجب ألا يكون عددهم قليلًا بين الملايين العشرين المسلمين الذين تشتمل عليهم مملكة ابن السماء.

(٤-٩) المنسوجات والبُسُط والزَّرابيُّ

لم يصل إلينا شيء من المنسوجات والبسط العربية التي صُنعت أيام ازدهار حضارة العرب، وأقدم ما هو موجود منها في الوقت الحاضر لا يَرجِع، مع نَدرته، إلى أبعد من القرن الثاني عشر من الميلاد.

ونعلم من تواريخ العرب أنه كان يوجد على بُسُطهم وقُطُفهم ومنسوجاتهم الحريرية، التي صُنعت في معامل قلمون وبهنسا ودمشق وغيرها من المدن، صورٌ للآدميين والحيوانات، وقد نشرنا في هذا الكتاب صورًا لنسائج عربية قديمة، أو صورًا لنسائج عربيةٍ صُنِعت على النماذج القديمة، وعاد الشرق لا يصنع منسوجاتٍ ذات صور للإنسان منذ زمن طويل.

بقي علينا أن ندرس فن عمارة العرب، وبهذا نحتم بحثنا في الآثار العجيبة التي أبدعها أتباع النبي، والتي هي عربيةٌ أحيانًا، فتَّانةٌ غالبًا، مبتكرةٌ دائمًا.

هوامش

(١) الروشم: لوح منقوش يُختم به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤