ورثة العرب
(١) ورثة العرب في الأندلس
إن من أحسن الوسائل لتقدير ما لأمةٍ من التأثير النافع أو الضار في أمة أخرى هو أن يُبحث في أحوال هذه الأمة قبل أن تخضع للنفوذ الأجنبي وفي أثناء خضوعها له وبعد خلاصها منه؛ فأما أحوال الأمم التي دانت للعرب قبل خضوعها لهم وفي أثناء حكمهم لها فقد بحثنا فيها بما فيه الكفاية، وأما أحوالها، بعد أن غاب العرب عن مسرح العالم، فنبحث فيها الآن بادئين بإسپانية.
لم يفكر النصارى، بعد أن استردوا غرناطة التي كانت مَعْقِل الإسلام الأخير في أوربة، في السير على سنة العرب في التسامح الذي رَأوه منهم عدة قرون؛ بل أخذوا يضطهدون العرب بقسوة عظيمة على الرغم من العهود، ولكنهم لم يعزموا على طردهم جميعهم إلا بعد مرور قرن، ومع ما كان يصيب العرب من الاضطهاد كان تَفَوُّقهم الثقافي على الإسپان عاملًا في بقائهم على رأس جميع الصناعات، وكان من الصواب اتهام الإسپان إياهم بالاستيلاء على جميع المهن.
وطالب الشعب بطردهم فقط، وبدا الإكليروس متطرفًا فأشار بقتلهم جميعًا رجالًا ونساءً وشيوخًا وأطفالًا، وسلك فليب الثاني طريقًا وسطًا فاكتفى بإعلان طردهم في سنة ١٦١٠م، ولكنه أمر بأن يُقتل أكثرهم قبل أن يُوفَّقوا لترك إسپانية، فقتل ثلاثة أرباعهم تقريبًا.
وتمَّ الجلاء والذبح، وعمَّ الفرح إسپانية؛ لما ظُن من دخولها عهدًا جديدًا.
حقًّا لقد ظهر عهدٌ جديد ما وُجدت نتائجُ عظيمةٌ لهذا الاستئصال الجامع الذي لا نظير له في التاريخ، ويكون تقديرنا لأهمية هذه النتائج أتمَّ إذا ما رجعنا بعض السنين إلى الخلف، وبحثنا في أمر إسپانية بعد اختفاء سلطان العرب السياسي عنها.
رأى النصارى، الذين هاجروا إلى المناطق الجبلية فرارًا من سلطان العرب، إمكان إعادة دولتهم القديمة بعد ما شاهدوا بدء تضعضع سلطان المسلمين في الأندلس بفعل تنافسهم وحروبهم الداخلية.
ولم تُكَلَّل أعمال هؤلاء النصارى بالنجاح في البداءة، ولكنهم لم يهِنُوا؛ لما كان يَغْلِي في عروقهم من الحمية الدينية، وقد صار لهم ما للعرب من الخِبرة الحربية بفضل الوقائع التي اشتركوا فيها عدة قرون ما دام القتال مِهنَتهم الوحيدة، وقد ساعدهم انقسام العرب على النجاح فاستطاعوا، بعد حروب طويلة، أن يقيموا دُويلات لم تفتأ تَعظُم وتَتحد حتى استولت بعد ثمانية قرون على غرناطة التي كانت عاصمة آخر دولة عربية في الأندلس، وبهذا أضحت جميع إسپانية قبضتها، وبدت إسپانية أول دولة حربية في أوربة.
ولم يكن الملك شارلكن وفليب الثاني أقلَّ براعة من سَلَفهما فرديناند، وكان القرن الذي مرَّ بين سقوط غرناطة ووفاة فليب الثاني دور عظمةٍ لإسپانية لن ترى مثله.
أجل، كان العرب يُضْطَهَدون في جميع ذلك العهد، ولكن مع بقائهم، وكان العرب ذوي شأن فيه بما لهم من التفوق الثقافي، وكان العلماء وأرباب الصناعات والتجار من العرب وحدهم، لا من الإسپان الذين كانوا ينظرون إلى كل مهنة شزرًا، خلا مهنة الإكليروس ومهنة الجندية.
وكانت إسپانية تشتمل، إذن، على جيلين مختلفين من الآدميين عاملين بمختلف الطرق على عظمتها، أحدُهما من النصارى القابضين على زمام السلطة العسكرية، والآخر من العرب القابضين على ناحية الحضارة المادية.
وكان وجود هذين الجيلين أمرًا ضروريًّا، وذلك أن السلطة العسكرية إذا كانت كافيةً لإقامة دولة فإنها تعجز وحدها عن إدامتها، وأن ازدهار هذه الدولة لا يكون إلا بتوافر بعض عناصر الحضارة، وأن تماسك هذه الدولة لا يدوم طويلًا إلا ببقاء هذه العناصر.
وهذا هو عَينُ ما أصاب إسپانية بعد طرد العرب، فقد حلَّ الانحطاط فيها محلَّ العظمة، وقد زاد انحطُاطها سرعةً ما عَطِلَت من قادة عظام حربيين كالذين ظهروا في قرن واحد، وقد أضاعت كل شيء حين خَسِرت سلطانها الحربي وحُرمت الحضارة معًا.
وكان من سرعة الانحطاط الذي عَقَبَ إجلاء العرب وقتلَهم ما يمكننا أن نقول معه: إن التاريخ لم يَروِ خبر أمة كالإسپان هبطت إلى دَرَكةٍ عميقة في وقت قصير جدًّا، فقد توارت العلوم والفنون والزراعة، والصناعة، وكل ما هو ضروريٌّ لعظمة الأمم، عن بلاد إسپانية على عجل، وقد أُغلقت أبواب مصانعها الكبرى، وأُهملت زراعة أراضيها، وصارت أريافها بلاقع، وبما أن المدن لا تزدهر بغير صناعة ولا زراعة فقد خَلَت المدن الإسپانية من السكان على شكل سريع مخيف، وأصبح عدد سكان مدريد مئتي ألف بعد أن كان أربعمائة ألف، وصارت أشبيلية، التي كانت تحتوي ١٦٠٠ حِرفَة كافية لإعاشة ١٣٠٠٠٠ شخص، لا تشتمل على غير ٣٠٠ حِرفَة، وهذا فضلًا عن خلوِّها من ثلاثة أرباع سكانها كما جاء في رسالة مجلس الكورتس إلى الملك فليبَ الرابع، ولم يبقَ في طليطلة سوى ثلاثة عشر مصنعًا للصوف بعد أن كان فيها خمسون، وخسِرَت طليطلة جميعَ مصانعها الحريرية التي كان يعيش منها أربعون ألف شخص، ووقع مثل هذا في كل مكان، ولم تُعَتِّم المدن الكبيرة، كقرطبة وشقوبية وبُرغُش، أن أصبحت كالصحارَى تقريبًا، وزال ما ظل قائمًا فيها من المصانع القليلة بعد تواري العرب، وكان من غياب جميع الصناعات في إسپانية أن اضطر القوم إلى جلب عمالٍ من هولندة عندما أُريد إنشاء مصنعٍ للصوف في شقوبية في أوائل القرن الثامن عشر.
ونَجَم عن أفول الصناعة والزراعة في بلاد إسپانية على هذا الوجه السريع ما يشاهَد فيها من البؤس العميق، ومن وقوعها في الانحطاط التام في قليل من السنين.
ومصائب كتلك مما يقتل كل نشاط وحيوية بسرعة، وإمبراطوريةٌ واسعة لا تغرب الشمس عن أملاكها كتلك، كما قيل، لا بد من أن تقع في دور الهمجية المظلم على عجل ما لم تُنقَذ بسلطان الأجنبي، ولذا اضطرت إسپانية، لتعيش بعد وَهنٍ، إلى تسليم زمام سلطتها العليا وشؤونها الإدارية وصناعتها وتجارتها إلى رؤساء من الأجانب كالفرنسيين والطلاينة والألمان … إلخ.
غير أنه لم ينشأ عن سلطة فليب الخامس، الذي هو حفيد لويس الرابع عشر، والإدارة الأجنبية التي أُكره هو وخلفاؤه على إدخالها إلى إسپانية سوى حيويةٍ ظاهرة غير حقيقية، وذلك لتعذر انتشال أمة بعد هبوطها.
حقًّا، ظهر في إسپانية ملوك نوابغ كشارل الثالث، وتمتعت إسپانية برخاء مصنوع ذات زمن، وذلك عندما استحضرت من الخارج فريقًا من العلماء وأرباب الصناعات، ولكن هذا كان على غير جدوَى، فلن يستطيع أحدٌ إحياء الموتى، وحقًّا إن العرب زالوا، وقضت محاكم التفتيش على كل من يزيد ذكاؤه قليلًا على المستوى المتوسط، فصِرْتَ ترى فيها سكانًا، وعادت لا تحتوي رجالًا.
وأجمع كُتَّابُ العصر الذين زاروا إسپانية على الاعتراف بضعف مستوى الإسپان الثقافي، وكان هذا الضعف عميقًا عامًّا في أواخر القرن السابع عشر من الميلاد، وبدت تلك البلاد التي أضاءت العالم أيام سلطان العرب خاليةً من أية مدرسة لتعليم الفيزياء والرياضيات والطبيعيات، وصِرتَ لا ترى فيها كلها، حتى سنة ١٧٧٦م كيماويًّا قادرًا على صنع أبسط التراكيب الكيماوية، ولا شخصًا قادرًا على إنشاء مركب أو سفينة شراعية، وذلك كما قال الكاتب الإسپاني كنپومَانِس مُؤَكِّدًا.
ولا مِراءَ في نجاح محاكم التفتيش المرهوبة في أعمالها، فقد أضحت جميع بلاد إسپانية لا تعرف غير كتب العبادة، ولا تعرف عملًا غير الأمور الدينية، جاهلةً ما أتاه نيوتن وهارڨي وغيرهما من الاكتشافات العظيمة جهلًا تامًّا.
ولم يسمع أطباء الإسپان شيئًا عن الدورة الدموية إلى ما بعد اكتشافها بقرن ونصف قرن، ويمكن استجلاء مستوى معارفهم بالأمر الغريب القائل: إن بعض الناس، في سنة ١٧٦٠م، اقترحوا، مع التواضع، إزالة الأقذار التي كانت تملأ شوارع مدريد وتفسد هواءها، وإن رجال الصحة احتجوا على ذلك بشدة ذاكرين أن آباءهم العقلاء كانوا يعرفون ما يصنعون، وأنه يُمكن السكانَ أن يعيشوا مثلهم بين الأقذار، وأن رَفْعَها ينطوي على تجربة لا يقدِر أحدٌ على كشف عواقبها.
لا تزال إسپانية نائمةً هادئةً هادئةً فاقدة للحسِّ غيرَ شاعرةٍ بكل ما يجري في بقية العالم، أي معدودة غير موجودة، وإسپانية هنالك، حيث أقصى نقطة في القارة لم تكن، وهي جامدة ضخمة الجِرْم، ممثلةً لغير مشاعر القرون الوسطى وأفكارها، ومما يُحزِن فيها كثيرًا اقتناعها بحالها، واعتقادها أنها أرقى أمم أوربة، مع أنها أكثرها تأخرًا، هي فخور بكل ما يجب أن يَحْمَّرَ وجهها منه خجلًا، فخور بقِدَم آرائها، فخورٌ بتدينها، فخور بقوة إيمانها، فخور بسرعة تصديقها الطائش الذي لا حدَّ له، فخور برفضها لإصلاح معتقداتها وعاداتها، فخور بحقدها على الملحدين، فخور بيقظتها الدائمة في إبطال كل ما يَعْمَلونه؛ لِيَستَقروا بأرضها استقرارًا شرعيًّا، ومن مجموع هذه الأمور تتألف تلك الخلاصة الكئيبة التي تُسمى إسپانية.
(٢) وَرَثَةُ العرب في مصر والشرق
الترك هم ورثة العرب في مصرَ وقسمٍ كبير من الشرق كما هو معلوم.
وإذا ما نَظَر المرء إلى الترك من الناحية السياسية، أدركَ أنه كان لهم دورٌ كبيرٌ من العظمة، فقد ارتعدت فرائص أقوى ملوك أوربة، زمنًا طويلًا، فَرَقًا من سلاطينهم الذين قاموا مقام القياصرة، وأَحَلُّوا الهلالَ محلَّ الصليب الإغريقيِّ فوق أياصوفية، وبسطوا نفوذ الإسلام في الآفاق.
بيدَ أن عظمة الترك لم تكن في غير الحرب، فالترك، وإن استطاعوا أن يؤسسوا دولةً كبيرة، أثبتوا عجزهم عن إبداع حضارة في كلِّ زمن، وكان أقصى جهودهم أن يستفيدوا مما أصبح تحت أيديهم من علوم العرب وفنونهم وصِناعاتهم وتجارتهم، ولم يقدِر الترك أن يتقدموا خطوةً واحدة في هذه المعارف التي ازدهرت أيام سلطان العرب، والأممُ، إذ كانت ترجع إلى الوراء، حتمًا، إذا لم تتقدم، لم تَلْبَث ساعةُ انحطاط الترك أن دَقَّت.
وترجِع نهاية تاريخ حضارة العرب في الشرق إلى اليوم الذي صارت مقادير دولتهم قبضة الترك بالقوة، أجَل، ما فَتِئ العرب يَحيَون في التاريخ بنفوذهم الديني، ولكن الشعوب التي خَلَفَتهم لم تستطع أن تُمسِك مستوى الحضارة الذي بلغوه.
وكان الانحطاط عميقًا في مصر على الخصوص، وبدأ هذا الانحطاط عندما جعلت انتصارات السلطان سليم منها ولايةً من الدولة العثمانية، فقد أخذت الفنون والعلوم والصناعات تنطفئ فيها شيئًا فشيئًا.
وكان يدير مصر في العهد العثماني ولاةٌ مُتَقلِّبُون غيرُ مفكرين في غير الاغتناء بسرعة، ولم تلبث مصر أن وَقَعَت في ضنك العيش كبقية الولايات العثمانية التابعة للآستانة، وزال رَوْنَقَها القديم عنها، وصارت لا تقام فيها عمارةٌ جديدة، وأضحت مبانيها القديمة مهملةً، ولم يبقَ منها غيرُ ما سَمَح به الدهر.
ولا أحد يَجْهَلُ ما آلت إليه الولايات العثمانية في الوقت الحاضر، ومن العبث أن نُفيض في بيان أمرها، وإنما نقول، مُلخِّصين لما قُدِّرت به بإنصاف: إنها ليست خيرًا من أية بلاد عاطلة من الإدارة، فطرقها مهملة، ومناجمها وغاباتها وثروتها الزراعية معطَّلة، وقَطْعُ السُّبل فيها من الأمور الشاملة لأبواب مدنها الكبيرة كإزميرَ مثلًا، ولا تخلو بِحارها، ومنها بحر مرمرة والبسفور، من القراصنة.
ولا يستنتج القارئ مما تقدم أن أهل تركية أحط من سكان أوربة، فتركية تشتمل، بالحقيقة، على ذلك التضاد الغريب الذي أَعْجَبُ من أنني لم أَرَه في مكان آخر، أي أنها ذات سكان لهم صفاتٌ من الطراز الأول مع أن طبقاتها القائدةَ أدنى من هؤلاء السكان بمراحل خلافًا لما في الغرب، وأن فلاحي الترك وعمالهم زهادٌ صابرون على الأعمال أوفياء لأُسرهم، ذوو نشاط محتملون لجَوْر حكومةٍ فاسدة احتمالًا فلسفيًّا، ويُرجِّح الجندي التركي الموتَ في مكانه على الهزيمة، وهو لا يَقْبض راتبًا، وهو لا يلبس سوى الثياب الرثَّة، ويتألف طعامه من الخبز والماء، وقد قال لي أحد القادة الحربيين، الذين رأوا جنود الترك عن كثب: إنك لا تجد في أوربة جيشًا يستطيع العيش يومًا واحدًا في مثل تلك الأحوال، وقد يكون التركُ خيرَ جنود أوربة مع أنهم أسوأ الجنود قيادةً.
وينطبق هذا القول على الترك حَصرًا، لا على جميع سكان الولايات الآسيوية التي يَحكم فيها الترك، وذلك أنه يُرى، في الغالب، في مدن تلك الولايات، على الخصوص، مزيج فاسد من مختلف العروق يُعَد حُثالة من جميع الفاتحين الذين جَاسُوا خلالها منذ قرون كثيرة فزاده النظام العثماني فسادًا، ولا ننكر وجودَ بعض المزايا في هذا المزيج الفاسد، ولكن مع القول بانحطاط مستواه الخُلُقي وشجاعته.
واليوم، لا ترى في هذا الشرق الفاسد سوى سلطانٍ أجمع الناس على احترامه، وقد سمعت اسمه يرنُّ في كل مكان يقع بين سواحل مراكش وصحراء جزيرة العرب، وبين شواطئ البسفور ورمال أثيوبية، في الآستانة تحت قبة أياصوفية، وفي القدس على ذُروة التل التي كان قائمًا عليها هيكل سليمان، وتحت قباب كنيسة القبر المقدس (القيامة) الدُّكن، وفي مصر من الأهرام إلى خرائب طيبة ذات مائة الباب، وفي كل زاويةٍ يأوى إليها السائح، ذلك الاسم الذي يرنُّ راجيًا متوسلًا هالكًا مبعوثًا بلا انقطاع إلى أن يُغشَى عليه بين جَلَبَةِ سخرية أو عويلٍ، ذلك الاسمَ الذي يُنطق به بلهجة الوعد أو الوعيد مع إمكان رنينه كالأمل، ذلك الاسم الذي يبدو تميمةً قادرة تُغنْي عن الخُطب الطويلة، ويصبح الإنسان بها سيدًا في الشرق، ذلك الاسم الذي يكفي ترديده على وجه ما لتَنْفَرِج أَسِرَّة الوجوه ويسجدَ الندماء ولتَفْتَرَّ ثغورُ النساء عن ابتساماتٍ تأخذ بمجامع القلوب، ذلك الاسم الساحر الذي يسهل أن يُنال به ما لا يَقدر أمير المؤمنين على مَنحه، والذي استطاع قائدٌ أوربيٌّ أن ينتصر به في إحدى المعارك عند النطق به منذ وقت قريب، وأن يصبح سيد دولة الفراعنة التي تَطَلَّب فتحُها قبل مدةٍ عبقريةَ ناپليون الحربية، ذلك الاسمَ اللاهوتي المسيطر الذي له من القدرة ما ليس لله ولرسوله مُحَمَّد، والذي يُحتَرم ويُبَجَّل في كل ناحية من تركية، ذلك هو البخشيش.
(٣) وَرَثَة العرب في الهند
المغول هم ورثة العرب الأُوَل في الهند، والمغول قد وَرِثوا من حضارة العرب، وهم، وإن لم يقدروا على إنماء هذه الحضارة، استطاعوا أن ينتفعوا بها على الأقل، فتمتعت بلاد الهند الواسعة في أيامهم بالرخاء والغنى.
والإنكليز هم ورثة المغول في الهند، والإنكليز قد مَدَّنُوها، أي أنشأوا فيها الطرق والخطوط الحديدية التي يَسهُل عليهم أن يستغلوها بها، ولكنه نَجَمَ عن هذه الحضارة الجديدة أن غَرِقَت بلاد الهند في بحر من البؤس لم تَرَ بُقعة من بقاع الدنيا مثله.
والإنكليزُ عَمَلِيُّون على خلاف الإسپان الذين طَرَدوا العرب، فهم بدلًا من أن يفكروا في إجلاء الهنود رَأوا من الحكمة أن يستغلوهم بانتظام، ونحن، إذا ما نظرنا إلى الأمر من الناحية التجارية فرأينا بضعة آلاف من التجار يسوقون مئات الملايين من البشر إلى العمل في سبيلهم بأساليب أشد من الاسترقاق ألف مرة، لم يَسَعْنَا إلا الإعجاب بهم، ويكون حكمنا غير ذلك إذا ما بحثنا في الأمر من الناحية الإنسانية.
نشأ عن طريقة الإنكليز الاستعمارية الدقيقة اغتناءُ الجزر البريطانية اغتناءً لا حَدَّ له، وفقرُ أولئك الهنود المُسَخرين المساكين فقرًا مطلقًا تقريبًا، فقال مسيو غَرانْدِيدْيه، مُبينًا نظام نزع الملكية لعدم دفع الضرائب النافع، وذلك بعد أن ذكر أن طبقة الفلاحين التي كانت في عهد الملوك المحليين تؤدي سدس المحاصيل الزراعية ضرائب صارت تؤدي نصفها في عهد الإنكليز: «إن هذا النظام أنزل طبقة الزرَّاع إلى الدرك الأسفل من الانحطاط.»
وحديثًا درس أحد كتاب الإنكليز، مستر هِنْدَمان، حالة الهند في العهد الإنكليزي؛ فأثبت أن إنكلترة تُغرِق الهنود بالضرائب فلا يبقى لهم غير الموت جوعًا، وأنها تُخَرِّب جميع مصانعهم؛ لكي تتمكن السلع الإنكليزية من إيجاد أسواق لها عندهم، ثم قال: «إننا نسير إلى مصيبة لا مثيل لها في تاريخ العالم.»
(٤) شأن الأوربيين في الشرق: سبب إخفاقهم
دَرَسنا ما كان للشرق من التأثير في الغرب بواسطة العرب، ولا يخلو من فائدة أن ندرس الآن تأثير الأوربيين الحاضر في الشرقيين: دلت المشاهدة على أن هذا التأثير صِفْر في كل وقت، وكنا نرغب عن هذا الموضوع لو لم نرَ من المفيد أن نبحث في أسباب رفض الشرقيين لحضارة الغرب ومعتقداته رفضًا مستمرًا مع اعتناقهم ما أتاهم به العرب بسهولة.
ومن الأسباب العامة في عَجز الأوربيين عن حمل الأمم الأجنبية على انتحال حضارتهم هو أن الحضارة الأوربية وليدة تطور دام زمنًا طويلًا، وأننا لم نصل إلى درجتها الحاضرة إلا بعد أن قطعنا كثيرًا من المراحل الضرورية بالتدريج، فالرغبة في إكراه أمة على قطع هذه المراحل فجأة هي من الأوهام كالرغبة في جعل الطفل كهلًا قبل أن يصبح فتى.
وهذا السببُ وحده لا يفسر لنا، مع ذلك، قلة تأثير حضارتنا في الشرقيين، ما وُجِد بين عناصر حضارتنا ما هو بسيط سهل الملاءمة لاحتياجاتهم وما رفضوه أيضًا، ولذا فإن لعدم نجاحنا أسبابًا أخرى.
ومن هذه الأسباب نذكر أن زيادة التعقيد في عناصر حضارتنا أسفرت عن كثرة احتياجاتنا المصنوعة، وأن هذه الاحتياجات المصنوعة المهيمنة أوجبت اضطرابًا شديدًا في حياة الأوربي الحديث فحملته على العمل المضني في سبيل قضائها، فكان ما نرى من كُرْه الشرقيين لهذا الاضطراب والعمل المضني، وقد عَطِلوا من احتياجاتنا.
حقًّا إن احتياجات الشرقيين من عرب وصينيين وهندوس وغيرهم ضعيفةٌ إلى الغاية؛ فالعربي يكتفي في لباسه بقطعة من المنسوجات، وفي طعامه بالماء وقليل من التمر، والهندوسي أو الصيني يكتفي في طعامه بحفنة من الأرز وقليل من الشاي، ولا تجد فيه كبيرَ احتياج في أمر المأوى، وقد نشأ عن زهد الصيني وفُقدان احتياجاته ونشاطه أن تقهقر أمامه العامل الذي يزعم أنه من شعبٍ أرقى من شعبه؛ فاضطُرت أمريكة وأسترالية إلى منعه من دخول بلادهما في الوقت الحاضر.
وإذا أضيف إلى ما بين الشرقيين والأوربيين من ذلك الاختلاف اختلافُهما في الشعور والتفكير بَدَت الهُوة العميقة بينهما، ولا يحسُدُنا الشرقيون على حضارتنا، وأقلهم حسدًا لنا مَن يَزُورُ منهم بلادنا، ويحمل هؤلاء عند رجوعهم إلى بلادهم أسوأ الآراء فينا، معتقدين أن دخول حضارتنا بلادهم ينطوي على أعظم البلايا والفجائع، ويستدل المثقفون منهم على هذا بما صارت إليه بلاد الهند، وذلك مع الإجماع على أن الشرقيين أسعد حالًا من الأوربيين، وأعظم شرفًا، وأمتن أخلاقًا ما ظلُّوا غير متصلين بهم.
ولكن إذا كان التباين الواضح بين حياة الشرقيين والأوربيين وأفكارهم ومشاعرهم كافيًا لإيضاح عدم اكتراث أمم الشرق لنِعَم حضارتنا، فإنه لا يكفي لإيضاح رفضهم لنا وازدرائهم البيِّن لنظمنا ومعتقداتنا وأخلاقنا.
ومن العبث أن نكتم سبب تلك المشاعر، فهي ناشئة عن مَكر الأمم المتمدنة وظلمها الأممَ الأخرى التي هي غيرُ متمدنة أو التي نَعُدُّها ضعيفة الحضارة.
إذن، لا يخلو من سبب ما يَحمله الشرقيون من الرأي السيئ في شرفنا وأخلاقنا، وستكون قصة علاقات أوربة المتمدنة بالصين في القرن التاسع عشر من الميلاد من أسوأ صفحات تاريخ حضارتنا، وقد يُدْعَى حَفَدتُنا، ذات يوم، إلى التكفير عنها بثمنٍ غالٍ، وكيف يُفكَّر في المستقبل في أمر حرب الأفيون الدامية التي أكره الإنكليز فيها بلاد الصين، وذلك بقوة المدافع، على إدخال هذا السم القاتل الذي أرادت حكومتها تحريمه؛ لما رَاعَها من أخطاره، حقًّا إن فائدة إنكلترة من تجارة الأفيون مائة وخمسون مليونًا في كل سنة، ولكن عدد الوفيات السنوية في بلاد الصين بفعل استعمال الأفيون ستمائة ألف نفسٍ كما جاء في إحصاءات الدكتور كرِيْسِتْلِيب المعتدلة على الخصوص. وهنا نسأل: أليس من الحق أن يُعلِّم الصينيون أبناءهم وصفَ الغربيين بالبرابرة بعد الذي رَأوْا من حرب الأفيون الطاحنة وما أسفرت عنه هذه الحرب من إباحة تجارته كُرهًا؟ لا يكون جواب الصينيين، كما روى ذلك الدكتور، وذلك عندما يحاول مبشرو الإنكليز تنصيرَهم، إلا قولهم: «ماذا؟ تسُمُّوننا للقضاء علينا ثم تأتون لتعليمنا الفضيلة!»، وليس الصيني على حق في تفكيره ذلك لا ريب، فهو لا يُدرِك أن الإنكليزي يَحُوز، بالوراثة، حِكَمًا أخلاقية شديدة خاصة لا بد له من اتباعها، وذلك بأن ينفق على المبشرين ليُعِدُّوا الآسيوي للحياة الأبدية التي يسوقه إليها بسرعة ذلك الأفيون الذي يبيعونه منه!
واستوقفت بغضاء الشرقيين للأوربيين نظرَ جميع السياح المتصفين بشيء من الملاحظة، وأذكر منهم السياسي الممتاز والوزير المفوض السابق، مسيو دورُوشِيشُوَار، الذي قال في كتاب نشره حديثًا: «إن أول ما يراه الغريب حينما تطأ قدماه بلاد الهند هو كُره الهندي لسادته»، إلى أن قال في معرِض كلامه عن الصين: «إن أُجَرَاء البيضِ شديدو الحياء من أبناء وطنهم؛ لاضطرارهم إلى الاتصال بالبيض.»
وإن للشرقيين في سلوكنا ما يُسَوِّغ مقتَهم لنا أشدَّ المقت بما فيه الكفاية، وإنني أضع نفسي في مكانهم وأنظر إلى الأمور من وِجْهَة نظرهم، وأضيف إلى ذلك، غير متردد، قولي: إننا لو بَدَونا عنوان الفضائل لهم؛ لكان من مصالحهم أن يَرْفِضونا، وأن يحيطوا بلادهم بأسوار كالتي أُحيطت بها مملكة ابن السماء، فما يصنعون بحضارة غير ملائمة لأفكارهم ومشاعرهم واحتياجاتهم جديرة، لذلك، بأن يرفِضوها؟ وما فائدتهم من ترك نظمهم الموروثة وحياتهم السعيدة القليلة الاحتياجات وانتحالهم لحياتنا المحمَّة ولمنازعاتنا التي لا يُشفَى لها غليل، ولنظام طبقاتنا الاجتماعية المتفاوتة، ولعيشنا الكريه في المصانع، ولكل ما تطلبه الحضارات الزاهية من مختلف الاحتياجات؟
وعَنَّ لليابان، أي لهذه الدولة الشرقية، أن تعتنق حضارتنا كما قيل، وأتيح لي أن أذكر ما أسفرت عند هذه التجربة من الارتباك في بلاد اليابان التي كانت سعيدةً، والتي كانت «حال الواحد من سكانها تُعدُّ أفضل مائة مرةٍ من حال العامل المُعوِز اللاهث التَّعِب الذي يَكسِب عيشه بعناء في المصانع»، كما قال أحد الأوربيين الذين عُهد إليهم في إدخال الحضارة المصنوعة إليها.
ولم ينشأ عن افتتاح العرب للشرق مثلُ هذه الشرور، فقد كانت الأمم التي قهروها شرقيةً مثلهم، وكانت مشاعرها واحتياجاتها وطُرُق معايشها مماثلةً لما كان عندهم، ولم ينشأ عن استيلاء العرب أو المغول أو الترك على الهند وفارس ومصرَ العليا من التغييرات الأساسية كما ينشأ عن انتحال أهل هذه البلدان للحضارة الحديثة، ولا بد من أن تنال يد التبديل التامِّ حياةَ هذه الأمم الشرقية عند اتصالها بالأوربيين، ولكن عَجْز الأمم الشرقية عن منافسة الأوربيين يؤدي حتمًا إلى مثل ما صار إليه الهندوس من البؤس الأسود والثَّورات الشديدة التي يُوَلِّدها اليأس.
تبيَّن مما تقدم، وذلك بدرجة الكفاية، تأثيرُ الغرب المخرِّب في الشرق في الوقت الحاضر، ولا يوجد ما يُسوِّغ به الأوربيون شَرَههم وطمعَهم سوى المبدأ الذي لم يعرِف التاريخ غيره، وهو حق الأقوى، والإيمان بهذا الحق المهيمن وحده هو الذي لا يزال قائمًا من بين عقائد الأجيال المسنَّة، ولدى الشعوب الحديثة ما يَشْغَلها من الهموم الخَطِرة عن التفكير في تمدين الأمم الأخرى ما اضطُرت إلى النظر في أمور عيشها قبل كل شيء، ولن يكون للأمم من الحقوق في التنازع الحاضر الذي يزيد كل يوم إلا بنسبة ما عندها من المقاتلين والمدافع، واليوم لا أمل لأحد في المحافظة على غير ما يَقدِر على الدفاع عنه، فإما غالبٌ، وإما مغلوبٌ، وإما صيادٌ، وإما قنيصةٌ، وهذه هي سُنَّة الأزمنة الحديثة، ولا قيمة لكلمة العدل والإنصاف في علاقات الأمم بعضها ببعض، ولا مُؤيِّد لها، وهي من الألفاظ المبهمة المشابهة لاحتجاتنا المبتذلة التي يستعملها العالم بأسره فتنتهي بها رسائلنا من غير أن تخدع إنسانًا.
واليوم يحدِّثُنا الشعراء عن العصر الذهبي الذي يسود الناسَ فيه إخاءٌ عام، وإنني أشك في وجود مثل هذا العصر في أي زمنٍ كان، وهو إن وُجِدَ تلاشى إلى الأبد، ولم يَرِنَّ قولُ برِينُّوس «ويل للمغلوب!»، حينما هدَّد رومة بخرابها، أكثرَ مما في الساعة الحاضرة، فالإنسان قد دخل دورًا من الحديد والنار لا بد من هلاك كل ضعيف فيه.
هوامش
ونحن إذا نظرنا إلى الإحصاءات وحدها رأينا إسپانية تتمتع برخاء كبير منذ بضع سنين، فقد ارتفعت قيمة صادراتها السنوية، التي كانت بين سنة ١٨٦٠م وسنة ١٨٧٠م ٢٣٧ مليون فرنك، إلى ٥٠٠ مليون فرنك بين سنة ١٨٧٠م وسنة ١٨٨٠م، بيد أنه يظهر من التدقيق في أسباب ارتفاع هذه الأرقام أنه أمر عارض، وأنه ناشئ، في الحقيقة، عن تخريب حشرات الفيلوكسيرة لما يزيد على ثلث كروم العنب في فرنسة، وعن اضطرار تجار فرنسة إلى اشتراء مقدار من الخمر الإسپانية سدًّا للنقص، وعن إصدار إسپانية إلى فرنسة، من سنة ١٨٧٠م إلى سنة ١٨٨٢م، ستة ملايين هيكتوليتر، بعد أن كانت تصدر إليها ٣٠٠٠٠٠ هيكتوليتر، أي عشرين مرة زيادة على ما في الماضي، وعن بلوغ ثمن ما اشترته فرنسة من الخمر الإسپانية في سنة ١٨٨١م ٢٦٤ مليون فرنك.
ومن سوء حظ بناة الشوارع الأوربية والثكن أن أريدت السرعة فهبت عاصفة سخط على الأمر بهدم خمسة من أنفس مباني القاهرة الأثرية، وأن اشتركت الجرائد الإنكليزية نفسها في الاحتجاج مع رجال الفن فوقف.
ولم يتم وقفه إلا بصعوبة، كما يظهر من قول ناظر الأشغال العامة علي باشا مبارك للجنة المحافظة على الآثار: «هل نحتاج إلى ذلك العدد الكبير من الآثار؟ ألا يغني النموذج الواحد عن بقيتها؟»، هذا القول بديع حقًّا، فهو يؤدي إلى الاكتفاء بواحدة من الصور التي رسمها رفائيل أو روبنس واستخدام بقيتها في حزم السلع وصرها، ومما تمحضت عنه فصاحة ذلك الناظر البارع قوله لتلك اللجنة بشأن باب زويلة الذي كان يقتل المجرمون أمامه: «لا نريد مثل هذه الذكريات هنالك، فلنهدمه كما هدم الفرنسيون حصن الباستيل!»
فعلى هواة الفن الذين يرغبون أن يشاهدوا في القاهرة كنوز فن العمارة، التي هي وليدة حضارة العرب في ألف سنة، أن يسرعوا، فقد لا يمضي زمن قصير حتى تكون قد زالت وأحل التجار (الذين يحتقرونها؛ لعدم فائدتها، ولأنها من صنع أمة أخرى، ولرغبتهم في إمتاع المصريين بنعم الحضارة) محلها ثكنًا جميلة، وكنائس بروتستانية طريفة، ومخازن لبيع الكتاب المقدس والمسكرات كثيرة، وبيوتًا لجموع القساوسة والمبشرين متنوعة.
ولا ريب في صحة الإحصاءات التي نشرها مستر هندمان في مجلة القرن التاسع عشر تحت عنوان «إفلاس الهند»، والمسوغ الوحيد الذي قيل عن الجزية السنوية التي تدفعها الهند إلى إنكلترة، ومقدارها خمسمائة مليون، هو قول مجلة الأسبوعين: «إنها ثمن تمتع الهند بحكومة منظمة محبة للسلام»، ويرى الهندوس، حتمًا، شيئًا من المبالغة في وصف حكومة الهند بمحبتها للسلام مع موت هندوس يزيد عددهم كثيرًا على عدد الذين يُقتلون في أشد الحروب سفكًا للدماء، وذلك بفعل الجوع في كل سنة.