الفصل الحادي عشر

البَاطِنِيَّة

كان المنتفعون بالطعن في نسب الفاطميين كثيرين متعددين، كلهم كما تقدم من ذوي السلطان أو أتباع ذوي السلطان، وقد استعانوا بالحول والحيلة في ترويج مطاعنهم واختراع أقاويلهم فاستمالوا إليهم في البلاد الإسلامية من لا مصلحة له في مطاعنهم، ولكننا نحسب — بعد مراجعة أخبار العصر وحوادثه — أن المطاعن في النسب لم تكسب على المصدقين إلا القليل الذين ينظرون إلى الأمر كله بغير اكتراث، أو يكترثون له ولكنهم عيال على الحوادث لا يقدمون ولا يؤخرون. أما الأثر البالغ في تنفير الناس من الفاطميين فإنما جاء من ربط الحركة الفاطمية بالحركة الباطنية، وادعاء الخصوم أن الباطنيين جميعًا إسماعيليون ممن ينتمون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق جد القائمين بالدعوة الفاطمية.

فمن زمن والناس في المشرق يفهمون أن الإسماعيلية هي كلمة مرادفة للباطنية، ويلصقون بالإسماعيلية كل ما لصق بالباطنية من المساوئ والمنكرات، ومن الفضائح والقبائح، وهي في الواقع كثيرة منفرة لا تحتاج إلى جهد كبير في التنفير والتشهير.

وساعد على لصوق التهمة بالفاطميين أن بعض المجاهرين بالإباحة والاجتراء على مناسك الدين الإسلامي كالقرامطة في البحرين كانوا يعلنون التشيع للإسماعيليين، أو بعبارة أخرى للفاطميين، فوقر في الأذهان أن دعاة الإسماعيلية جميعًا إباحيون، وأن الباطنية هي إخفاء المنكرات وإعلان التشيع للتغرير والتضليل.

وقد قيل: إن رجلًا من دعاة الباطنية يُدْعى «علي بن فضل» ادَّعى النبوة وأباح جميع المحرمات، وقال شاعره في روايات مختلفة:

خذي الدُّفَّ يا هذه والعبي
وغني هزازيك ثم اطربي
تولى نبي بني هاشم
وهذا نبي بني يعرب
أَحَلَّ البنات مع الأمها
ت، ومن فضله زاد حِلَّ الصبي
وقد حطَّ عنا فروض الصلا
ة وحط الصيام فلم يتعب
إذا الناس صلوا فلا تنهضي
وإن صُوِّموا فكلي واشربي
ولا تطلبي السعي عند الصفا
ولا زورة القبر في يثرب
ولا تمنعي نفسك المعرسـ
ـين من الأقربين أو الأجنبي
فكيف حللت لهذا الغر
يب وصرت محرمة للأب
أليس الغراس لمن ربَّه
وروَّاه في الزمن المجدب

وقيل على الجملة: إن الباطنيين يظهرون الإسلام ليكيدوا له ويدسُّوا عقائد الشرك والضلال بين أهله، وإنهم في الأصل مجوس منطوون على بغض شديد للعرب ودينهم، لم يقدروا على هذا الدين وتقويض دولة العرب بالقوة، فاحتالوا على مأربهم بالدسيسة والمكيدة، وأنشأوا نحلتهم لاستدراج المسلمين وتحويلهم شيئًا فشيئًا من عقائدهم إلى التعطيل والإباحة والكفر بالبعث والمعاد وإنكار الفرائض والعقائد والأديان.

قالوا: وإن الإسماعيلية خاصة يبثُّون دعوتهم على درجات، ويأخذون المواثيق والأيمان على مريديهم ألا يفشوا لهم سرًّا ولا يظاهروا عليهم أحدًا، ثم يتدرجون بهم من التشكيك وطلب المزيد من العلم على أيدي الأئمة المعصومين، ثم تلقين بعض الرموز التي تروق المريد وتشوقه إلى المزيد من الأسرار، ثم تعريفه بنظام الدعوة ومن يتولاها، ثم تأويل النصوص وتحريف الألفاظ على ظواهر معانيها، ثم الخوض في المذاهب الفلسفية التي تنتهي في الدرجة التاسعة من درجات الكشف والزلفى إلى تأليه الإمام على مذهب الحلول، وأنه هو رُوح الله حلت في جسد إنسان، ولعمري ماذا في وسع عشرة أو عشرين من «الواصلين» إلى هذه الدرجة في أرذل العمر أن يصنعوه حين يعلمون سرًّا بإباحة الشهوات ورفض الأديان؟!

وآفة الباحثين في هذه الألغاز والإشاعات أنهم جعلوها كلها مسألة أخبار وروايات، وراحوا يُعنتون أنفسهم في جمع هذه الأخبار، فإذا هي تتناقض ولا تستقر على قرار.

هؤلاء المؤرخون الورقيون أو الحرفيون لا يصلحون لبحث هذه المسائل التي يبدأ البحث الصحيح فيها وينتهي في السريرة الإنسانية وما يجوز فيها وما لا يجوز، وما يجب أن يرفض بداهة، فلا يطول البحث فيه بعد ذلك إلا لتطبيق أصول النقد واتخاذ الأمثلة على حقائق التاريخ وأباطيله كما تعرضها عليها الأخبار والروايات.

فمن الطريف حقًّا أن يقيَّد المريدون بالأيمان والأقسام ليكتموا السر، ثم يأتي السر المكتوم فإذا هو سر يحلهم من جميع تلك الأيمان والأقسام على سبيل اليقين ولا يضمن نقلهم إلى يقين جديد!

وأطرف منه أن يقال عن رجل: إنه معطل منكر للمعاد منكرٌ للأديان، منكر للوعود الإلهية ثم يقال عنه: إن كراهة دين من الأديان تبعثه إلى الجهاد سرًّا وعلانية والاستماتة في الجهاد حتى يتعرض للقتل والتشريد؛ أملًا في يوم من الأيام يزول فيه هذا الدين ويشهد هو زواله أو لا يشهده بعد سنوات أو بعد أحقاب وقرون.

إنما يعمل هذا العمل لهدم دين من الأديان من يؤمن بدينٍ غيره، ويعمل لقيام دولة من أبناء دينه، فأما المنكر المعطل لكل عقيدة فلن يبقى في نفسه من الحماسة الروحية ما يُهون عليه المشقة والخطر ويقيمه ويقعده كراهة؛ لأن دين قومه وغيره من الأديان عنده سواء.

كان تصديق هذا مفهومًا في القرون الوسطى؛ لأنهم كانوا يومئذ يعتقدون أن الكافر يكفر في سبيل الشيطان، وأنه يرى الشيطان بعينه ويسمع وسواسه بأذنه ويساومه ويشارطه ويبيعه روحه ويأخذ منه السطوة والمتعة بديلًا من نعيم السماء، وكانوا يومئذ يقولون عن أناس بأعيانهم: إنهم على صلة بالشيطان وإنهم تعلموا على يديه السحر الأسود، واطلعوا منه على أسرار النجوم والوجود واستهواهم مكرُهُ فعقدوا معه صفقة المغبون في حساب المؤمنين.

أما في عصرنا هذا فمن العسير أن يتخيل الإنسان ملحدًا ينكر كل شيء، ويتجرد لأهوال الدعوة الباطنية لأجل شيء من الأشياء كائنًا ما كان، إلا أن يكون ذلك الشيء سطوة يطلبها لنفسه في حياته أو في بيته، ولا يعقل حينئذ أنه يتدرج بالأتباع والمريدين من الجهل بحقيقة إلى العلم بتلك الحقيقة والاطلاع على دسائسه وغوايته التي يلبسها على الناس بتلبيس من ألغاز العقائد وأسرار الديانات.

وقد شُغلت طائفة المؤرخين الأقدمين والمحدثين بدعوة القرامطة وأشباههم في اليمن وفارس وادعائهم النسبة إلى الإسماعيلية في المغرب مع مجاهرتهم بالمعاصي واجترائهم على مناسك الحج وتمثيلهم بالحجاج من الرجال والنساء، فخطر لهذه الطائفة من المؤرخين أن علاقة النسب بين القرامطة والإسماعيليين جد تحتمل البحث، ويؤدي البحث فيها إلى ثبوت العلاقة بين هؤلاء وهؤلاء.

وأغرب الغرائب أن أحدًا من أولئك المؤرخين لم يخطر له أن يسأل: لماذا لم يظهر في المغرب — حيث تقوم الدولة الفاطمية كلها — أناس من دعاة الإباحية والعصيان، كالذين ظهروا في البحرين واليمن وفارس وبعض بقاع الشام؟

فمن نظرة سريعة يمكن أن يتبين الناظر في التاريخ أن الانتماء إلى الإسماعيليين مفهوم من أناس يقيمون في بلاد الدولة العباسية ويعلنون الخروج عليها، فهم في حاجة إلى سلطان مشروع يقاومون به سلطانها المخلوع، وانتماؤهم إلى الفاطميين أو الإسماعيليين هو السند الذي يركنون إليه في محاربة الدولة العباسية وإنكار حقها في الطاعة والولاء، ولو كان نشر الدعوة الفاطمية يتولاه دعاة العصيان والمعاصي لكان أولى البلاد أن تظهر فيه طوائف الإباحة هي بلاد المغرب حيث دان القوم لخلافة الفاطميين.

ولقد حدث فعلًا أن القرامطة خلعوا البيعة الفاطمية ورجعوا إلى الدعاء على المنابر باسم الخليفة العباسي حين وقعت النَّبْوَة١ بينهم وبين الخليفة الفاطمي في القاهرة، وسوَّل لهم الطمع أنهم قادرون على فتح مصر بعد أن جربوا قوتهم وحيلتهم في فتح أطراف من بلاد الشام.

وقد يكون أغرب من هذا أن يقال من جهة: إن الإباحة هي الدرجة السابعة أو الثامنة التي يصل إليها المريد المترقي في كشف الحجب وعلم الأسرار، ثم يقال من جهة أخرى: إن هذه الإباحة سر مباح في الطريق يعكف عليها المؤمن جهرة ويردده الشعراء ويتغنى به القيان.

لم ينفصل علم النفس وعلم التاريخ في بحث من البحوث كما انفصلا في بحث قضية الإسماعيلية والباطنية، ولهذا كثر فيه التخبط وقلَّ فيه الثبوت والوضوح، ونحسب أن محنة التاريخ هنا أصعب من كل محنة؛ لأن المؤرخ هنا يعمل عملين ولا يستقل بعمل واحد: يعمل لمعرفة الحقيقة ويعمل لاستخلاصها من الأباطيل التي تحجبها عن عمد وتدبير، وواحد من هذين العملين كثير على مؤرخي الورق والحروف.

إننا عرفنا ألوانًا من النظم السرية التي اصطلحت عليها الجماعات المتسترة في العصور القديمة، وبعضها ديني يتخذ له أغراضًا سياسية كالجماعات الأورفية والجماعات الفيثاغورية، ولا ندري الآن كيف تكشفت هذه النظم المزعومة، بل لا ندري هل هي في الحق كانت موجودة متبعة أو هي أوهام وتخمينات من وحي الاستطلاع والاستنباط.

ولكننا إذا سمعنا عن نظم سرية في عصور التاريخ القريب فلا معنى في هذه الحالة للإحالة على القدم أو للخبط في الظنون؛ إذ يحق لنا في هذه الحالة أن نسأل عن المريد الذي تدرج في مراتب الباطنية حتى وصل إلى قيادة الدعوة ثم خانها وأفشى أسرارها، أو يحق لنا أن نسأل عن الحاكم الذي تعقب الجماعة بعيونه وجواسيسه حتى كشف عن بواطنها، أو يحق لنا أن نسأل عن الأوراق المطوية التي نشرت بعد العثور عليها في إبانها أو بعد انقضاء زمانها. ولسنا نذكر فيما اطلعنا عليه من أخبار الباطنية أن أحدًا تحدث عن مريد واحد صعد على مراتبها من درجة التلميذ المبتدئ إلى درجة الحُجة المطلع على جميع خفاياها، ولا أن أوراقًا لها فصلت فيها نظمها وأسرارها وأذيعت في أوانها أو بعد أوانها، بل زعم الرواة أن الذي فضح الجماعة وأنكر على جعفر الصادق نفسه دعواه، قبل دعوى إسماعيل ابنه وخلفائه، هو عبد الله بن ميمون القداح. ومن هو عبد الله بن ميمون القداح؟ هو واضع النظام كله ومرتِّب الدرجات كلها ومصطنع التخفي والتنكر لبلوغ مقصده من الدعوة باسم إسماعيل بن جعفر الصادق جد الإماميين أجمعين.

فعبد الله هذا هو الذي قال فيما زعم الرواة:

هات اسقني الخمرة يا سنبر
فليس عندي أنني أُنْشَر
أما ترى الشيعة في فتنة
يغرُّها عن دينها جعفر
قد كنتُ مغرورًا به برهة
ثم بدا لي خبر يُستر

ولم تكفه قطعة واحدة ينظمها حتى نقل عنه الرواة قطعة أخرى يقول فيها:

مشيت إلى جعفر حقبة
فألقيته خادعًا يخلب
يجر العلاء إلى نفسه
وكل إلى حبله يجذب
فلو كان أمركمُ صادقًا
لما ظل مقتولكم يُسحب
ولا غض منكم «عتيق» ولا
سما «عمر» فوقكم يخطب

وما كانت خلافة عمر ولا أنباء القتلى من آل فاطمة وعلي سرًّا مجهولًا يوجب الشك إن لم تجزم باليقين من بطلان الخبر وتلفيقه. وخير من هذه الأسرار وغيرها أنه عدل عن الدعوة الإسماعيلية فيما تواترت به أخباره في المشرق والمغرب، فما زالت دعوة القداح إلى ختام حياته قائمة على المبايعة بالخلافة لإسماعيل وأبناء إسماعيل.

وعلى هذا النحو يتتبع المؤرخ ما شاء من أخبار الباطنية، فلا يمضي مع خبر منها خطوة أو خطوتين حتى يصطدم بالعقل أو الواقع صدمة توجب الشك إن لم تجزم باليقين من بطلان الخبر وتلفيقه. وخير من هذه «الورقيات والنصيات» أن نطمئن إلى مقياس واحد لا شبهة عليه من أهواء السياسة، ثم نعرض عليه الأخبار مما يوافقه أو لا يوافقه عسى أن نخلص منها إلى قول صحيح أو نقد صحيح.

ذلك المقياس هو الحالة النفسية الاجتماعية التي كانت شائعة في العالم الإسلامي من القرن الثالث إلى القرن الخامس للهجرة، ونخص منها بالنظر ما يرجع إلى مطالب الحكم من جهة ومساعي التكتم والمداراة من جهة أخرى.

فالدولة العباسية دخلت في دور الضعف والتفكك منذ أواخر القرن الثالث للهجرة، فاختلت قواعد الحكم وضاعت الثقة في الحكومة القائمة وكثر المنفصلون عن الدولة والمنتقضون عليها، وكان الدين هو حجة المطالبين بالحكم وحجة الخارجين عليه. فمن خرج على بني العباس أنكر عليهم حق الخلافة باسم النبي مع وجود عِترة النبي من أبناء علي وفاطمة، ومَن اعترف لبني العباس بالحق الشرعي في الخلافة زعم أن الحكم في دولتهم لغيرهم من وزراء الترك أو الديلم أو كتاب الدواوين الذين يتواطأون مع الولاة على انتهاب الأموال وبذلها للصنائع والأعوان، وأصبح دهماء الشعب على استعداد لإنكار الخلافة على القائمين بها والاستسلام للأدعياء الواثبين عليها، وتتابع المنتحلون للمعاذير الدينية في طلب الحكم أو عصيان الحاكمين من المغتصبين أو المستضعفين.

وفي تاريخ شاعر مشهور بالطموح مثلًا لادعاء الحكم باسم الدين مرة وباسم الكتابة والأدب مرة أخرى أو مرات، ذلك الشاعر هو أبو الطيب المتنبي الذي نسب في بعض الروايات باسم أحمد بن الحسين بن الحسن ونشأ بين العلويين في الكوفة؛ فإنه ادعى النبوة أو المهدية في بادية السماوة، وبلغ من تفاقم دعوته أن خافه والي حمص من قبل الإخشيد فاعتقله ولم يطلقه إلا وقد عدل عن دعواه، ومن أحاديث المعجزات التي طولب بها كما جاء في «رسالة الغفران» أنهم قالوا له في بني عدي: «ها هنا ناقة صعبة، فإن قدرت على ركوبها أقررنا أنك مرسل. فمضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الإبل وتحيل حتى وثب على ظهرها، فنفرت ساعة وتنكرت برهة ثم سكن نفارها ومشت مشي المسمحة٢ وورد بها الحلة وهو راكب عليها فعجبوا له كل العجب وصار ذلك من دلائله عندهم.»

قال أبو العلاء بعد ذلك: «وحُدِّثت أيضًا أنه كان في ديوان اللاذقية، وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين الأقلام فجرحته جرحًا مفرطًا، وأن أبا الطيب تفل عليها من ريقه وشد عليها غير منتظر لوقته، وقال للمجروح: لا تحلها في يومك، وعَدَّ له أيامًا وليالي، فبرئ الجرح، فصاروا يعتقدون في أبي الطيب أعظم اعتقاد، ويقولون: إنه كمحيي الأموات. وحدَّث رجل كان أبو الطيب قد استخفى عنده في اللاذقية، أو في غيرها من السواحل، إنه أراد الانتقال من موضع إلى موضع فخرج بالليل ومعه ذلك الرجل، ولقيهما كلب ألحَّ عليهما في النباح، ثم انصرف، فقال أبو الطيب لذلك الرجل وهو عائد: إنك ستجد ذلك الكلب قد مات، فلما عاد الرجل ألفى الأمر كما ذكر.»

وقد كانت دعوى النبوة أو المهدية في عنفوان شباب أبي الطيب، فلما أوفى على الشيخوخة كان قد عَدَلَ زمنًا عن دعواه، ولم يعدل عن طلب الولاية من كافور الذي كان خصيًّا مملوكًا فاستبد بالعرش وأصبح فيما زعم: «دون الله يعبد في مصر!»

قال داعي الدعاة يصف حال الناس في تلك الأزمنة من كتاب أرسله إلى أبي العلاء المعري: «إنني شققت بطن الأرض من أقصى دياري إلى مصر وشاهدت الناس بين رجلين: إما منتحلًا لشريعة صبأ إليها ولهج بها إلى الحدِّ الذي إن قيل له من أخبار شرعه: إن فيلًا طار أو جملًا باض لما قابله إلا بالقبول والتصديق، ولكان يكفِّر من يرى غير رأيه فيه ويسفِّهه ويلعنه، فالعقل عند من هذه سبيله في مَهْواة ومضيعة. أو منتحلًا للعقل يقول: إنه حجة الله تعالى على عباده، مبطلًا لجميع ما للناس فيه، مستخفًّا بأوضاع الشرائع، معترفًا مع ذلك بوجوب المساعدة عليها وعظم المنفعة بمكانها، لكونها مقمعة للجاهلين، ولجامًا على رءوس المجرمين المجازفين، لا على أنها ذخيرة للعقبى أو منجاة في الدار الأخرى. فلما رَمَتْ بي المرامي إلى ديار الشام ومصر سمعت عن الشيخ، وفقه الله، بفضل في الأدب والعلم قد اتفقت عليه الأقاويل ووضح به البرهان والدليل، ورأيت الناس فيما يتعلق بدينه مختلفين، وفي أمره متبلبلين، فكل يذهب فيه مذهبًا ويُتْبِعُهُ من تقاسيم الظنون سببًا، وحضرت مجلسًا جليلًا أُجْرِيَ فيه ذِكْرُه، فقال الحاضرون فيه غثًّا وسمينًا، فحفظته بالغيب، وقلت: إن المعلوم من صلابته في زهده يحميه من الظنة والريب، وقام في نفسي أن عنده من حقائق دين الله سرًّا قد أسبل عليه من التقية سترًا، وأمرًا تميز به عن قوم يكفر بعضهم بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا، ولما سمعت البيت:

غدوتَ مريض الدين والعقل فالْقَنِي
لتسمع أنباء الأمور الصحائح

وثقت من خَلَدي فيما حدست عقوده، وتأكدت عهوده، وقلت: إن لسانًا يستطيع بمثل هذه الدعوى نطقًا، ويفتق من هذا العظيم رتقًا، للسان صامت عنده كُلُّ ناطق، وناطق من ذروة جبل من العلم شاهق، فقصدته قصد موسى عليه السلام للطور، أقتبس منه نارًا، وأحاول أن أرفع بالفخر منارًا، بمعرفة ما تخلف عن معرفته المتخلفون واختلف في حقيقته المختلفون.»

وداعي الدعاة صاحب هذا الخطاب هو «أبو نصر هبة الله بن موسى بن أبي عمران» صاحب أكبر منصب من مناصب الدعوة في الدولة الفاطمية، كتب رسائله إلى حكيم المعرة يناقشه في تحريمه اللحوم على نفسه ويسائله عن البعث والقيامة، مستعظمًا على المتقولين أن يتهموا بإنكارهما حكيمًا كأبي العلاء، وقد استعار من اسمه «موسى بن أبي عمران» تفسيرًا لوقوفه من رهين المحبسين موقف المقتبس من نار الطور.

وعلى ذكر أبي العلاء واعتقاد الناس في أسرار الحكمة وقوتها الخفية ننقل ما رواه ابن الوردي حيث ذكر في تاريخه: «إن حساده أغروا به وزير حلب فجهز لإحضاره خمسين فارسًا ليقتله، فأنزلهم أبو العلاء في مجلس له بالمعرة، واجتمع بنو عمه وتألموا لذلك، فقال: إن لي ربًّا يمنعني، ثم قال كلامًا منه ما لا يُفهم، وقال: الضيوف الضيوف. الوزير الوزير. فوقع المجلس على الخمسين فارسًا فماتوا، ووقع الحمام على الوزير بحلب فمات، فمن الناس من زعم أنه قتلهم بدعائه وتهجده، ومنهم من زعم أنه قتلهم بسحره ورصده.»

وروى صاحب الكوكب الثاقب هذه القصة بزيادة تفصيل فذكر عن الغزالي أنه قال: «حدثني يوسف بن علي بأرض الهركار قال: دخلت معرَّة النعمان وقد وشى وزير محمود بن صالح صاحب حلب إليه بأن المعري زنديق لا يرى إفساد الصور، ويزعم أن الرسالة تحصل بصفاء العقل، فأمر محمود بحمله إليه من المعرة، وبعث خمسين فارسًا ليحملوه، فأنزلهم أبو العلاء دار الضيافة، فدخل عليه عمه مسلم بن سليمان وقال له: يا ابن أخي! قد نزلت بنا هذه الحادثة، والملك محمود يطلبك، فإن منعناك عجزنا وإن أسلمناك كان عارًا علينا عند ذوي الذمام ويركب تنوخ الذل والعار، فقال: هون عليك يا عم ولا بأس عليك، فلي سلطان يذب عني. ثم قام فاغتسل وصلى إلى نصف الليل، ثم قال لغلامه: انظر إلى المريخ أين هو؟» فقال: في منزلة كذا وكذا، فقال: زِنْهُ واضرب تحته وتدًا، وشد في رجلي خيطًا واربطه إلى الوتد، ففعل غلامه ذلك، فسمعناه وهو يقول: يا قديم الأزل! يا علة العلل! يا صانع المخلوقات! وموجد الموجودات! أنا في عزك الذي لا يرام وكنفك الذي لا يضام، الضيوف الضيوف. الوزير الوزير. ثم ذكر كلمات لا تفهم، وإذا بهدَّة عظيمة، فسأل عنها فقيل: وقعت الدار على الضيوف الذين كانوا بها فقتلت الخمسين، وعند طلوع الشمس وقعت بطاقة من حلب على جناح طائر ألا تزعجوا الشيخ فقد وقع الحمَّام على الوزير. قال يوسف بن علي: فلما شاهدت ذلك دخلت على المعري فقال: من أين أنت؟ فقلت: من أرض الهركار. فقال: زعموا أنني زنديق، ثم قال: اكتب. وأملي عليَّ أبياتًا من قصيدة أولها:

أستغفر الله في أمني وأوجالي
من غفلتي وتوالي سوء أعمالي٣
هذه الحالة النفسية التي عمت أرجاء العالم الإسلامي في القرن الرابع خاصة خليقة أن ينجم فيها عشرات ممن يستهوون الناس بالأسرار الباطنة؛ لأن عالم الباطن مستودع كل أمنية وبغية كل طالب: طالب الدين وطالب الدنيا، طالب المعرفة وطالب السحر والعيافة،٤ أو طالب العلم الأبيض وطالب العلم الأسود، وخليق أن يقف النظر طويلًا عند قول داعي الدعاة أنه يطلب سرًّا من أبي العلاء، وأنه قام في نفسه أن عند أبي العلاء «من حقائق دين الله سرًّا قد أسبل عليه من التقية سترًا». فإنه قد يكون في هذا القول مادحًا أو مازحًا ولكنه أبان عن سمة العصر كله من «الباطنية» التي يفرضها على نفسه العارف بأسرار الدين.

وأخلق من هذا أن يستوقف النظر أن هذا الكلام صادر من داعي الدعاة في الدولة الفاطمية، وهو الرجل الذي ينتهي إليه كل سر، ويصل إليه التلميذ بعد درجات ليسمع منه — فيما زعم الزاعمون — أن الدين لغو، وأن القيامة وهْم، وأن المحرمات مستباحة للعارفين، فلو كانت هذه رسالته التي ينتهي إليها كل متقدم في درجات الأسرار فما حاجته إلى محاسبة أبي العلاء على الظنون التي تذاع عنه في أمر الحلال والحرام وأمر البعث والحساب؟ لقد كان الرضى عن مذاهب الزندقة جميعًا أولى به من التعرض لذويها ومحاسبتهم عليها، فإنهم يتبرعون بما يجتهد له ويرتب المراتب ويحتال الحيل للوصول إليه بعد طول العناء.

إلا أن الخلاصة الثابتة في ذلك العصر أن «الباطنية» الواقعية حالة من الحالات التي لا تستغرب من دعاته المخلصين وأدعيائه المغرضين، فهناك «باطنية» يفرضها الناس على أنفسهم قبل أن يفرضها عليهم نظام مقرر أو مذهب منظم، وادعاء الأسرار في تلك البيئة أمر منتظر مترقب لا غرابة فيه، وأقرب ما يكون هذا الادعاء إلى من يطلب المنفعة لنفسه أو يطلب المكانة بما يعمله ويتعلمه منه غيره، وفاقًا لشرطه وتدبيره.

وقد صار المجتمع الإسلامي إلى تلك الحالة في القرن الرابع وما تلاه بعد تمهيدات متلاحقة بعضها من فعل السياسة وبعضها من فعل الثقافة والعادة المستحدثة.

فأما التمهيدات التي هي من فعل السياسة فهي ما اسلفناه من تزعزع الثقة بحق السلطان القائم على اختلاف الحاكمين والحكومات، وأما التمهيدات التي هي من فعل الثقافة والعادة المستحدثة فهي انتشار الفلسفة ونشأة البحوث العقلية في علوم الدين ومنها علم الكلام والتوحيد، ومنها اقتباس الحضارات الغربية وانقسام الأمر فيها بين المحافظة والتجديد والاسترسال مع العرف الطارئ في غير بحث ولا مبالاة.

وقد كان أنصار السلطان القائم محافظين؛ لأنهم يبغضون التغيير ويحافظون على كل قديم.

وقد كان أنصار البحث والاستطلاع أقرب إلى التجديد والتغيير، وكانوا مظنة للتهم من أنصار القديم، فكان من الطبيعي الذي لا غرابة فيه أن يصطنعوا التقية ويظهروا للناس غير ما يبطنون، سواء كانوا من المتصوفة الذين يلتمسون النجاة عند «الواصلين» المتمكنين من بواطن الأسرار، أو كانوا من الفلاسفة الذين يشفقون من رجمات الظنون ولا يأمنون العامة ولا ذوي السلطان المتوجسين من كل جديد، أو كانوا من غير المتصوفة والفلاسفة أقوامًا يعالجون من المعارف ما يشبه السحر والكهانة، وهي علوم التنجيم والتماس الأسرار عند النجوم.

ولم يكن الفارق بين علم النجوم الصحيح وعمل النجوم الزائف قد حسم في ذلك العصر على وجه يمنع اللبس والاختلاط بين المطلبين، فإن الفلاسفة الذين كانوا يتحدثون عن العقول العشرة كانوا يربطون بين هذه العقول العشرة وبين الأفلاك، ويقولون بغلبة الأرواح النورانية التي لا تقبل الفساد على كواكب السماء، وأن الصلة بينها وبين الإنسان تتوقف على الرياضة والصفاء، وقد كان المتصوفة يؤمنون بالتجلي ولا يمنعون أن ينكشف الغطاء عن البصر والبصيرة، فتلمح في العالم العلوي ما أودعه الله فيه من الدلائل والإشارات.

وإذا كانت «الباطنية الواقعية» قد سولت لشاعر أن يطلب السلطان بدعوى النبوة أو المهدية، وقد أوقعت في النفوس أن ناسكًا ضريرًا يسيطر على الوزراء والجنود بقوة الغيب أو بقوة النجوم، فمن الخلط أن يقال: إن الباطنية كلها وليدة الدعوة الفاطمية، وإن هذه الدعوة مسئولة عن كل ما كان يستباح في الخفاء، وكل ما تذرع به الطامعون في الحكم من ذرائع الدنيا والدين.

١  النَّبْوَة: التجافي والتباعد.
٢  المسمحة: أسمحت الدابة لانت وانقادت بعد استصعاب.
٣  كتاب أبي العلاء المعري للمرحوم «أحمد تيمور باشا».
٤  العيافة: زجر الطير لمعرفة مساقطها، وأصولها فيتفاءل أو يتشاءم بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤