الفصل الأول

تعريف الفيلم الوثائقي

التسمية

بدأت الأفلام الوثائقية في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر بعرض باكورة الأفلام من هذا النوع. والفيلم الوثائقي له أشكال عدة؛ فمن الممكن أن تكون رحلة عبر بلدان وأساليب معيشية غريبة، كما في فيلم «نانوك ابن الشمال» (١٩٢٢)، ويمكن أن تكون قصيدة مرئية كقصيدة جوريس إيفينز «المطر» (١٩٢٩)، وهي قصة تدور حول يوم ممطر، يصاحبها موسيقى كلاسيكية كخلفية، تعكس فيها العاصفة أصداء البنية الموسيقية. ويمكن أن تكون عملًا فنيًّا للدعاية، فقد أخرج المخرج الروسي دزيجا فيرتوف — الذي صرح بأسلوب حماسي بأن السينما الروائية مسممة وهالكة، وأن المستقبل للأفلام الوثائقية — فيلم «الرجل ذو الكاميرا السينمائية» (١٩٢٩) كدعاية لنظام سياسي ونوع من الأفلام.

فما الفيلم الوثائقي؟ إحدى الإجابات السهلة والتقليدية لهذا السؤال هي: ليس فيلمًا سينمائيًّا، أو على الأقل ليس فيلمًا سينمائيًّا بالمعنى الذي ينطبق على فيلم «حرب النجوم»، إلا عندما يكون فيلمًا ذا صبغة درامية، مثل فيلم «فهرنهايت ٩ / ١١» (٢٠٠٤)، الذي حطم جميع الأرقام القياسية للأفلام الوثائقية. وإحدى الإجابات الأخرى السهلة والشائعة هي: فيلم يخلو من الهزل، فيلم جاد، يحاول أن يعلمك شيئًا ما، ما لم يكن من نوعية الأفلام التي على شاكلة فيلم ستاسي بيرالتا «العمالقة الراكبون» (٢٠٠٤)، الذي يأخذك في رحلة مثيرة عبر تاريخ التزلج على الماء. فالعديد من الأفلام الوثائقية أعدت بدهاء بهدف واضح هو الإمتاع. والحق أن معظم صناع الأفلام الوثائقية يعتبرون أنفسهم قاصِّين، لا صحفيين.

وربما تكون إحدى الإجابات البسيطة: فيلم عن الحياة الواقعية. وتلك هي المشكلة تحديدًا: فالأفلام الوثائقية تدور «حول» الحياة الواقعية، لكنها ليست حياة واقعية، بل إنها ليست حتى نوافذ على الحياة الواقعية، إنها لوحات للحياة الواقعية تستخدم الواقع كمادة خام لها، ويعدها فنانون وتقنيون يتخذون قرارات لا حصر لها بشأن اختيار القصة، ولمن ستروى، والهدف منها.

لعلك تقول إذن: هو فيلم يسعى حثيثًا لعرض الحياة الواقعية ولا يعالجها. ولكن على الرغم من ذلك، لا توجد طريقة لصناعة فيلم دون معالجة المعلومات؛ فاختيار الموضوع، والمونتاج، ومزج الصوت كلها نوع من المعالجات. قال الصحفي الإذاعي إدوارد آر مورو ذات مرة: «أي شخص يعتقد أن كل فيلم يجب أن يقدم صورة «متوازنة» لا يعرف شيئًا عن التوازن ولا الصور.»

إن مشكلة تحديد قدر المعالجة قديمة قدم هذا الشكل الفني، ففيلم «نانوك ابن الشمال» يعتبر واحدًا من أوائل الأفلام الوثائقية العظيمة، لكن أبطاله — وهم سكان الإسكيمو — يقدمون الأدوار بتوجيه من مخرج الفيلم روبرت فلاهرتي، مثلما يفعل الممثلون في أي فيلم روائي؛ فقد طلب منهم فلاهرتي أن يقوموا بأشياء ما عادوا يفعلونها، مثل صيد الفظ بالرمح، وصوَّرهم جهلاء بأشياء كانوا يفهمونها، إذ يقضم «نانوك» — وهذا ليس اسمه الحقيقي — في الفيلم أسطوانة جراموفون في حيرة ممزوجة بالسعادة، ولكن الرجل كان في الواقع على دراية واسعة بالأجهزة الحديثة، بل كان يساعد فلاهرتي في فك وتجميع كاميرته بانتظام. بالإضافة إلى ذلك، بنى فلاهرتي قصته من واقع تجربة الإقامة سنوات مع سكان الإسكيمو، الذين سعدوا بالمشاركة في مشروعه وقدموا له الكثير من الأفكار للحبكة.

إن الفيلم الوثائقي يروي قصة عن الحياة الواقعية، قصة تدعي المصداقية. والنقاش بشأن كيفية تحقيق ذلك بصدق ونزاهة لا ينتهي أبدًا في ظل وجود إجابات متعددة. لقد عُرِّف الفيلم الوثائقي أكثر من مرة على مدار الزمن، مِن صنَّاعه ومشاهديه، ولا شك أن المشاهدين يصوغون معنى أي فيلم من خلال الجمع بين المعرفة والاهتمام بالعالم وبين الشكل الذي يصور به المخرج هذا العالم. تقوم كذلك توقعات الجمهور على التجارب السابقة؛ فلا يتوقع المشاهدون التعرض للخداع والكذب، فنحن نتوقع أن تنقل إلينا أشياء صادقة عن العالم الواقعي.

نحن لا نطالب بأن تصور هذه الأشياء تصويرًا موضوعيًّا، وليس بالضرورة أن تكون الحقيقة الكاملة، فقد يوظِّف مخرج الفيلم الجواز الشعري من آن لآخر، ويشير إلى الواقع إشارة رمزية (كأن ترمز صورة للمدرج الروماني لإجازة بأوروبا على سبيل المثال)، ولكننا نتوقع أن يكون الفيلم الوثائقي تجسيدًا منصفًا وصادقًا لتجربة شخص ما مع الواقع. وذاك هو العقد المبرم مع المشاهد الذي كان يقصده المعلم مايكل رابيجر في نصه الكلاسيكي: «لا توجد قواعد في هذا الشكل الفني الناشئ، هناك فقط قرارات بشأن موضع ترسيم الحدود لما هو مقبول وكيفية الالتزام بالعقد الذي ستبرمه مع جمهورك.»

المصطلحات

وُلد مصطلح «الفيلم الوثائقي» من رحم الممارسة المبكرة ولادةً صاحَبَها الارتباك، فحين بدأ رواد الأعمال في أواخر القرن التاسع عشر لأول مرة في تسجيل أفلام لأحداث من واقع الحياة، أطلق البعض على ما كانوا يصنعونه اسم «أفلام وثائقية»، بيد أن المصطلح ظل غير ثابت لعقود. وأطلق آخرون على أفلامهم «تعليمية»، و«واقعية»، و«تشويقية»، وربما أشاروا لموضوع الفيلم، مثل «أفلام الرحلات». وقرر الاسكتلندي جون جريرسون أن يستخدم هذا الشكل الفني الجديد في خدمة الحكومة البريطانية، وصاغ مصطلح «وثائقي» بإطلاقه على عمل المخرج الأمريكي العظيم روبرت فلاهرتي «موانا» (١٩٢٦)، الذي يؤرخ للحياة اليومية على إحدى جزر «ساوث سيز»، وقد عرَّف الفيلم الوثائقي بأنه «التجسيد الفني للواقع»، وهو التعريف الذي أثبت صموده؛ ربما لمرونته الشديدة.

تؤثر ضغوط التسويق على ما يُعرف بأنه فيلم وثائقي، فحين عُرض فيلم «الخط الأزرق الرفيع» (١٩٨٨)، للمخرج الفيلسوف إيرول موريس في دور العرض، قلل مسئولو العلاقات العامة من أهمية كلمة «وثائقي» من أجل مبيعات التذاكر. يدور الفيلم حول قصة بوليسية معقدة: هل ارتكب راندال آدامز الجريمة التي حُكم عليه بالإعدام على إثرها في تكساس؟ يعرض الفيلم الطبيعة المثيرة للشك لشهادة الشهود الأساسيين، وحين أعيد فتح القضية وضُم الفيلم كدليل، أصبح للفيلم مكانة مهمة فجأة، واضطر موريس آنذاك إلى أن يؤكد أنه بالفعل كان فيلمًا وثائقيًّا.

على النقيض، كان الفيلم الأول لمايكل موور، «روجر وأنا» (١٩٨٩)، الذي يمثل اتهامًا قاسيًا لشركة جنرال موتورز بالتسبب في الانهيار الاقتصادي لمدينة فلينت المعروفة بصناعة الصلب في ميتشجان، ويمثل نموذجًا متميزًا للكوميديا السوداء، مصنفًا كفيلم وثائقي في الأساس. ولكن عندما كشف الصحفي هارلان جاكوبسون أن موور قد شوَّه تسلسل الأحداث، نأى موور بنفسه عن كلمة «وثائقي»؛ فذهب إلى أنه لم يكن فيلمًا وثائقيًّا بل فيلمًا سينمائيًّا، إنه عرض ترفيهي ليس لانحرافاته عن التسلسل الدقيق تأثير كبير على الفكرة الأساسية.

وفي التسعينيات، شرعت الأفلام الوثائقية في التحول إلى مجال تجاري كبير في كل أنحاء العالم، وبحلول عام ٢٠٠٤، بلغ حجم النشاط التجاري العالمي في مجال الأفلام الوثائقية التليفزيونية وحده ٤٫٥ مليارات دولار سنويًّا. ازدهر أيضًا تليفزيون الواقع و«المسلسلات الوثائقية»، وهي حلقات مسلسلة تُصور في أماكن قد تتميز بالدراما العالية، مثل مدارس تعليم القيادة، والمطاعم، والمستشفيات، والمطارات. وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، تضاعفت الإيرادات السينمائية، وأصبحت مبيعات أسطوانات (الدي في دي)، وأنظمة الفيديو حسب الطلب، وتأجير الأفلام الوثائقية مجالًا تجاريًّا كبيرًا، وسرعان ما ظهرت أفلام وثائقية معدة خِصِّيصَى للهواتف الخلوية، وأفلام وثائقية تعاونية تنتج على شبكة الإنترنت، وصار مسئولو التسويق الذين كانوا يحرصون على إخفاء حقيقة أن أفلامهم وثائقية يفتخرون بتسمية مثل هذه الأعمال «وثائقية».

سبب أهمية التسمية

للتسمية أهميتها؛ فالأسماء تأتي مصحوبة بتوقعات، ولو لم تكن حقيقية، لما استخدمها المسوقون كأدوات تسويقية. إن مصداقية ودقة وموثوقية الأفلام الوثائقية مهمة لنا جميعًا، لأننا نقدرها تحديدًا لهذه السمات، وعندما تخدعنا الأفلام الوثائقية، فإنها لا تخدع المشاهدين فحسب، ولكنها تخدع أفراد الجمهور الذين قد يتصرفون من منطلق المعرفة المستقاة من الفيلم؛ فالأفلام الوثائقية جزء من وسائل الإعلام التي لا تساعدنا فقط على فهم عالمنا، ولكن على استيعاب دورنا فيه، والتي تشكِّلنا بوصفها وسيلة إعلام جماهيرية.

وهكذا فإن أهمية الأفلام الوثائقية ترتبط بفكرة الجمهور كظاهرة اجتماعية. للفيلسوف جون ديوي رأي مقنع مفاده أن الجمهور — ذلك الهيكل الذي يمثل أهمية بالغة لسلامة أي مجتمع ديمقراطي — ليس مجرد جمع من الأفراد؛ فالجمهور هم مجموعة من الأشخاص يستطيعون العمل معًا من أجل المصلحة العامة، ومن ثم يمكنهم مساءلة السلطة المنيعة المتمثلة في المؤسسات التجارية والحكومة، إنه هيكل غير رسمي يمكن لأفراده التجمع معًا في الأزمات إذا اقتضت الضرورة. وهناك جماهير بعدد المواقف والمشكلات التي تستدعيهم، وبإمكاننا جميعًا أن نصبح أعضاء بأي جمهور خاص، إذا كان لدينا وسيلة للتواصل معًا بشأن المشكلات المشتركة التي نواجهها، ومن ثم فإن التواصل هو روح الجمهور.

وكما أشار جيمس كاري الباحث في مجال الاتصالات: «الواقع مورد نادر.» فالواقع ليس «ما» هو قائم، ولكن ما «نعرفه»، و«نفهمه»، و«نتشاركه» معًا مما هو قائم. ووسائل الإعلام تؤثر على أغلى ما تمتلكه على الإطلاق: أفكارك. والأفلام الوثائقية أداة تواصل مهمة في تشكيل الواقع، بسبب مزاعمها بأنها تجسد الحقيقة، فدائمًا ما يكون للأفلام الوثائقية أساس في الحياة الواقعية، وتزعم بأنها تخبرنا بشيء يستحق المعرفة.

أجل، إن إمتاع المستهلك جانب مهم من مجال صناعة الأفلام، حتى في الأفلام الوثائقية؛ فمعظم صنَّاع الأفلام الوثائقية يبيعون أعمالهم، إما للمشاهدين أو لوسطاء مثل مؤسسات البث والموزعين، وهم ملتزمون بالقواعد التي تحكم هذا المجال، وعلى الرغم من أن تكلفة إنتاج الأفلام الوثائقية أقل بكثير من تكلفة الأفلام الروائية، فتكلفة إنتاجها تظل أعلى بكثير من تكلفة إنتاج منشور دعائي أو كتيب على سبيل المثال. وعادة ما تتطلب الأفلام الوثائقية السينمائية والتليفزيونية مستثمرين أو مؤسسات، مثل مؤسسات البث، لدعمها، ومع ازدياد شعبية الأفلام الوثائقية، زاد ما ينتج منها لإمتاع الجماهير دون تحدي الافتراضات القائمة؛ فهي تجذب وترفِّه عن المُشاهد بأفضل الأدوات المجدية في ذلك، كالإثارة، والجنس، والعنف. وتُعتبر الأفلام الوثائقية التي تتناول الحياة البرية، مثل فيلم «مسيرة البطاريق» (٢٠٠٥)، أمثلة كلاسيكية للأعمال التي ترفِّه عن المستهلك، والتي تستخدم كل هذه الأساليب لجذب المشاهدين وإخافتهم، مع أن الإثارة والجنس والعنف في الفيلم تحدث بين الحيوانات.

يستغل المروِّجون مدفوعو الأجر أيضًا ادعاءات الواقعية للشكل الفني، باعتبارهم مندوبين للحكومة والمؤسسات التجارية، وهو ما قد يسفر عن عواقب اجتماعية مدمرة، كما فعلت أفلام الدعاية النازية، مثل فيلم «اليهودي الخالد» (١٩٣٧) الذي يعادي السامية بوحشية. وقد تُحدِث مثل هذه الأعمال تغييرًا إيجابيًّا أيضًا؛ فحين أرادت إدارة روزفلت إقناع الأمريكيين ببرامج حكومية جديدة باهظة التكاليف، استعانوا ببعض أبرز القصائد المرئية التي قُدمت في ذلك العصر، والتي نَفَّذها بير لورنتز بالتعاون مع فريق من الموهوبين. وقد ساعدت أعمال مثل «المحراث الذي حطم السهول» (١٩٣٦)، و«النهر» (١٩٣٨) في إشراك دافعي الضرائب في برامج عززت الاستقرار والنمو الاقتصادي.

غير أن الأفلام الوثائقية خلال تاريخها القصير غالبًا ما كانت تنفَّذ على أيدي أفراد ينتمون بشكل ما لمجال الإعلام التقليدي، من خلال العمل مع مؤسسة حكومية للخدمات الإعلامية مثل هيئة البث العامة، أو مع مؤسسات بث تجارية متلهفة للحصول على جوائز، أو مع مؤسسات غير هادفة للربح، أو مع مؤسسة خاصة، أو مع صناديق تمويل التعليم الحكومي. وعلى هامش الإعلام السائد، وفيما يعد انحرافًا بسيطًا عن الفهم الراهن للواقع، جاهد الكثير من صناع الأفلام الوثائقية للتحدث بصدق عن السلطة وإليها، فقد كانوا غالبًا ما يرون أنفسهم وسيلة إعلام جماهيرية، فلا يتحدثون فحسب إلى جمهور محدود، بل إلى جمهور عام يحتاج للمعرفة لكي يتحرك.

توضح بعض النماذج الحديثة نطاق مثل هذا النشاط. يعتبر فيلم «وول مارت: التكلفة العالية للأسعار المنخفضة» (٢٠٠٥) — من إنتاج شركة بريف نيو فيلمز — مناقشة وعظية مثيرة للمشاعر توجِّه اتهامًا بممارسات مشينة لذلك المتجر الكبير للبيع بالتجزئة، مثل خطط الخدمات الطبية غير الملائمة للعاملين، والتدمير المتعمد للشركات الصغيرة. إنه لا يسعى لتحقيق التوازن من خلال توضيح وجهة نظر وول مارت، بل يسعى لتجسيد المشكلة بدقة. لقد أنتج الفيلم من أجل إحداث حراك؛ إذ استُخدم لتنظيم تحرك تشريعي مضاد ومقاومة اجتماعية لممارسات الشركة شديدة الاستغلال، فجاء رد وول مارت على الفيلم عنيفًا من خلال إعلانات هجومية، ليرد صناع الأفلام باتهام مضاد لوول مارت بالمغالطة وعدم الدقة، وانضم المدونون، وحتى الإعلام السائد، للنزاع. لقد نصَّبت بريف نيو فيلمز نفسها صوتًا للجمهور، لتسد بذلك فجوة ملموسة في التغطية التي قدمها الإعلام السائد للمشكلة. إن مشاهدي الفيلم، الذي شاهده معظمهم من خلال شراء أسطوانات (الدي في دي) عبر البريد، وكنتيجة لحملة ترويج عبر الإنترنت، لم ينظروا له كعرض ترفيهي، ولكن كنقاش نُفذ بأسلوب إمتاعي لمشكلة عامة لها أهميتها.

وهناك فيلم «فهرنهايت ٩ / ١١» لمايكل موور — وهو فيلم ساخر يناهض الحرب على العراق — الذي خاطب الجمهور الأمريكي مباشرة باعتباره شعبًا كانت حكومته تتصرف باسم الشعب. حاول المذيعون الموالون للجناح اليميني في وسائل الإعلام التجارية تشويه الفيلم باتهامه بأنه كان بالفعل دعاية، ولكن موور ليس تابعًا لذوي السلطة مثل العاملين في مجال الدعاية. لقد كان يقدم وجهة نظره في واقع مشترك، وله كل الحق في ذلك، معبرًا عن رؤيته للموضوع بكل صراحة، إلى جانب أنه كان يشجع المشاهدين على النظر بعين ناقدة إلى كلمات وأفعال حكومتهم (غير أنه من المحتمل أن يكون هذا التشجيع قد أُضعف بفعل التشخيص المحسوب لثورة الطبقة العاملة، الذي يمكن أن يدفع المشاهدين لاعتبار أنفسهم مجرد ضحايا عديمي السلطة لذوي السلطة، لا كعناصر مؤثرة اجتماعيًا).

ثمة أفلام وثائقية حديثة أخرى موجهة للمعرفة العامة والتحرك تستخدم أساليب أعدت بهدف جذب الاهتمام من خلال اللعب على أوتار الاعتقاد؛ فيطرح فيلم «لماذا نحارب» (٢٠٠٥)، لأوجين جاريكي، نقاشًا حول التواطؤ بين الساسة والشركات الكبرى والجيش لإهدار أموال وحياة أفراد الشعب في حروب ليس لها داعٍ. وقد اختار جاريكي عن عمد شخصيات من الحزب الجمهوري، استطاعت السمو فوق سياسة التحزب والموالاة والتحدث لأجل المصلحة العامة. وفي فيلم «حقيقة مقلقة» (٢٠٠٦) لديفيز جوجنهايم، يترك آل جور وديفيز جوجنهايم، في عرض سهل الفهم، البيانات العلمية للحديث عن مدى أهمية الموضوع، وقد أشار جيم هانسن، مدير معهد جودارد لأبحاث الفضاء التابع لوكالة ناسا، إلى القيمة العامة للعمل: «قد يكون آل جور قد فعل في الاحترار العالمي ما فعله كتاب «الربيع الصامت» في المبيدات الحشرية الكيماوية. إنه سوف يُهاجَم، ولكن العامة سيكون لديهم المعلومات اللازمة لتمييز مصلحتنا العامة طويلة المدى عن المصالح الخاصة قصيرة المدى.»

fig1
شكل ١-١: استخدم فيلم «الفينيل الأزرق» التجربة الشخصية لاستكشاف قضايا اجتماعية؛ إذ تستكشف جوديث هلفاند — وفي يدها جزء من الفينيل الذي يغطي أرضية منزلها الذي يقع بإحدى الضواحي — الآثار السامة لإنتاج الفينيل. الفيلم من إخراج دانيال بي جولد وجوديث هلفاند، عام ٢٠٠٢.

من الممكن أن تتباين الأساليب تباينًا حادًّا من أجل تحقيق غاية المشاركة العامة، فيقوم فيلم «الفينيل الأزرق» (٢٠٠٢)، لجوديث هلفاند ودان جولد، بتوظيف نسق اليوميات الشخصية لإضفاء طابع شخصي على مشكلة ما؛ إذ يتعقب الفيلم هلفاند وهي تأخذ جزءًا من الفينيل الذي يغطي أرضية منزل والديها وتكتشف سُمِّيَّة الفينيل المسببة للسرطان في بداية دورة حياته ونهايتها (إذ ينتج مادة الديوكسين)، لتصبح هلفاند بذلك ممثلة لجمهور يتمثل في هؤلاء الأشخاص الذين يحتاجون لأرضيات غير مكلفة ويعانون أيضًا العواقب الصحية لاستخدامها. أما فيلم «الحافلة ١٧٤» (٢٠٠٢)، للبرازيلي جوزيه باديلها، الذي يعيد سرد حدث إخباري مثير وقع في ريو دي جانيرو — وهو حادث اختطاف حافلة، ومنع الشرطة من الاقتراب من مكان الحادث لعدة ساعات وانتهاء الأمر بمصرع كل من المختطِف وأحد ركاب الحافلة، وهو ما رُصد في بث تليفزيوني مباشر على الهواء — فهو يبحر بالمشاهدين داخل حياة المختطِف وتحديات الشرطة. ومن خلال مقارنة المشاهد التليفزيونية التي جعلت المشاهدين يلتصقون بمقاعدهم من فرط الإثارة يومًا كاملًا بالتحقيقات في الوقائع التي أدت إلى الحدث، يعيد الفيلم تأطير «الخبر» كمثال لكيفية تحول المشكلات الاجتماعية الرهيبة والمستوطنة إلى مشهد درامي. أما فيلم «ثلاث غرف للسوداوية» (٢٠٠٥)، وهو ملحمة تأملية للمخرجة الفنلندية بيريو هونكاسالو، فيصطحب المشاهدين داخل الحرب الروسية ضد الشيشان من خلال ثلاث صور فنية مفعمة بالعاطفة؛ في الجزء الأول، «الحنين»، تداعب الكاميرا الوجوه ذات الملامح الجادة لأطفال مجندين في الثانية عشرة في سان بطرسبرج، يتلقون تدريبات عسكرية لمحاربة الشيشان، وفي الجزء الثاني، «التنفس»، تقوم أخصائية اجتماعية محلية بزيارة منازل جروزني الحزينة تحت الحصار، حيث تصل المشكلات الاجتماعية إلى مرحلة تعجيزية، أما الجزء الثالث، «التذكر»، فيدور داخل دار للأيتام على الحدود، حيث يتعلم الشيشانيون الصغار معنى المرارة. ليس للكلمات دور كبير في هذا الفيلم؛ فمن خلال صور تأملية التقطت من زاوية قريبة، تبوح الوجوه التي تكتسي بملامح الحيرة، والألم، والصمود بالكثير، وهكذا يصبح المشاهد شريكًا للكاميرا في المعرفة.

وسواء أكان مخرج الفيلم يهدف إلى مخاطبة الجمهور أم لا، فقد تُستخدم الأفلام الوثائقية بطرق غير متوقعة. إن فيلم «انتصار الإرادة» (١٩٣٥)، وهو أحد أكثر أفلام الدعاية سيئة السمعة على مر الأزمان، من الأفلام التي خلدت بين أفلام الدعاية النازية الأخرى، وأيضًا بين الأفلام التاريخية. هناك أيضًا فيلم «نقطة تفتيش» (٢٠٠٣) للمخرج الإسرائيلي يوآف شامير، وهو توثيق غير قصصي يتسم بالرصد الدقيق لسلوك القوات الإسرائيلية في نقاط التفتيش الفلسطينية، وقد أعد واستخدم كأداة لإثارة نقاش عام لانتهاكات حقوق الإنسان، وقد تقبَّله الجيش الإسرائيلي باعتباره فيلمًا تدريبيًّا.

إن فهمنا المشترك لتعريف الفيلم الوثائقي — المستقى من خبرتنا في المشاهدة — يتغير مع الوقت، بفعل الضغوط التجارية والتسويقية، والتجديدات التكنولوجية والشكلية، وأيضًا المناقشات الحامية، ودائمًا ما يكون لفن الفيلم الوثائقي عنصران متصارعان غاية في الأهمية: التجسيد والواقع؛ فصنَّاعه يعالجون الواقع ويحرفونه مثل جميع صناع الأفلام، ولكنهم لا يزالون يدَّعون أنهم يقدمون تجسيدًا حقيقيًّا للواقع. وعلى مدار تاريخ الأفلام الوثائقية، دار جدال بين المخرجين والنقاد والمشاهدين بشأن مقومات الحكي الجدير بالثقة للواقع، ويطلعك هذا الكتاب على هذه المجادلات على مدار الزمن وفي بعض أشكاله الفرعية المعروفة.

الشكل

كيف يبدو الفيلم الوثائقي؟ يحمل معظم الناس في عقولهم مفهومًا تقريبيًّا لماهية الفيلم الوثائقي، وليست هذه بالصورة الجميلة في رأي الكثيرين. غالبًا ما يعرَّف «الفيلم الوثائقي التقليدي» بأنه فيلم يبرز سردًا يُروى بصوت جهوري عميق، ومناقشة تحليلية أكثر منها قصة ذات شخصيات، ولقطات لوجوه خبراء مدعمة ببعض اللقاءات مع أشخاص في الشارع، إلى جانب مجموعة من الصور المرخصة توضح وجهة نظر الراوي (غالبًا ما تسمى «القطع المتبادل» في مجال البث)، وربما بعض الرسوم المتحركة التعليمية، وموسيقى فخمة، وغالبًا ما لا يُتذكر هذا المزيج من عناصر الشكل بإعجاب؛ فالاستجابة الشائعة لتجربة تمثيلية ممتعة هي: «لقد كان شائقًا حقًّا، لا يبدو كفيلم وثائقي عادي.»

في الواقع، مخرجو الأفلام الوثائقية يتوافر لديهم مجموعة كبيرة من خيارات الشكل للتعبير للمشاهدين عن صحة ما يعرضونه لهم وأهميته. وعناصر الشكل التي كثيرًا ما ترتبط ﺑ «الفيلم الوثائقي التقليدي» هي جزء من مجموعة من الخيارات التي صارت تقليدًا نمطيًّا في القرن العشرين في التليفزيون، غير أن هناك خيارات أخرى متاحة. ويقدم لك هذا الفصل العديد من الطرق للنظر إلى الفيلم الوثائقي باعتباره مجموعة من القرارات تُتخذ بشأن كيفية تجسيد الواقع من خلال الأدوات المتاحة لمخرج الفيلم؛ من ضمن هذه الأدوات «الصوت» (الصوت المحيطي، الموسيقى التصويرية، المؤثرات الصوتية الخاصة، الحوار، السرد)؛ «الصور» (مادة مصورة في موقع التصوير، صور تاريخية مجسدة في صور فوتوغرافية، أو لقطات فيديو، أو أشياء مادية)، المؤثرات الخاصة الصوتية والمرئية، بما في ذلك الرسوم المتحركة؛ «الإيقاع» (مدة المشاهد، عدد اللقطات، بنية النص أو الحكي). ويختار المخرجون الطريقة التي يريدونها لبناء القصة: الشخصيات التي يريدون نسجها للمشاهدين، وقصص الأشخاص التي يُرَكَّز عليها، وكيفية حل عقدة القصة.

تتوافر للمخرجين العديد من الخيارات لاتخاذها بشأن كل عنصر من العناصر؛ على سبيل المثال، قد يجري تأطير اللقطة على نحو مختلف بحيث تحمل معنى مختلفًا وفقًا للإطار: فلقطة قريبة لأب في حالة من الحزن قد تقول شيئًا مختلفًا تمامًا عن لقطة من زاوية واسعة لنفس المشهد يُظهر الغرفة بأكملها، واتخاذ قرار بترك الصوت المحيطي للجنازة ليطغى على الموسيقى التصويرية للفيلم سوف يعني شيئًا مختلفًا عما لو استُخدمت موسيقى تصويرية رنانة.

وفي ظل عدم وجود شيء طبيعي فيما يتعلق بتجسيد الواقع في الأفلام الوثائقية، يعي صناع الأفلام الوثائقية تمامًا أن كل اختياراتهم تشكل المعنى الذي يختارونه؛ فجميع تقاليد الأفلام الوثائقية — أي العادات أو القوالب الشائعة في الخيارات الشكلية للتعبير — تنبثق من الحاجة إلى إقناع المشاهدين بصحة ومصداقية ما يُروى لهم، فالخبراء، على سبيل المثال، يثبتون مصداقية التحليل، والرواة من الرجال ذوي الهيبة يعبِّرون عن الثقل والسلطة من وجهة نظر العديد من المشاهدين، والموسيقى الكلاسيكية تشير إلى الجدية.

تسعى محاولات تحدي التقاليد المتعارف عليها إلى إرساء صورة بديلة من المصداقية، فوقت أن كان الصوت المحيطي لا يتسنى تجميعه إلا بشق الأنفس، كان السرد في الأفلام التقليدية، ٣٥ ملليمترًا، يعتمد على صوت ذي عمق وقوة، كذلك كانت تشمل ملاءمة الإضاءة، وحتى التجهيزات، للمعدات الثقيلة التي يصعب تحريكها. وقد استخدمت بعض الأفلام الوثائقية المونتاج الدقيق للتركيبات المتقنة لكل مشهد من أجل خلق وهم الحقيقة أمام أعين المشاهدين، وعندما بدأ المخرجون تجربة كاميرات ١٦ ملليمترًا الأخف وزنًا بعد الحرب العالمية الثانية، نجحت التقاليد المختلفة التي ظهرت في إقناع المشاهدين بمصداقية الفيلم الوثائقي؛ فقد كان استخدام «لقطات» أو مشاهد طويلة للغاية يجعل المشاهدين يشعرون بأنهم يشاهدون حقيقة صريحة بلا تنميق؛ إذ كان اهتزاز الكاميرات المحمولة دليلًا على المباغتة، ويشير ضمنًا إلى العجلة، وكانت الحوارات الهجومية؛ أي ملاحقة الأشخاص الذين يدور الفيلم عنهم أثناء تنقلهم أو على نحو مفاجئ، تؤدي بالمشاهدين إلى الاعتقاد أن هذا الشخص يخفي شيئًا حتمًا، وقد أتاح العزوف عن السرد، الذي أصبح منتشرًا في أواخر الستينيات، للمشاهدين الاعتقاد أنه يجوز لهم أن يحددوا بأنفسهم معنى ما كانوا يشاهدونه (على الرغم من أن خيارات المونتاج في الواقع هي التي كانت تتحكم فيما كانوا يرونه).

يوظف مخرجو الأفلام الوثائقية نفس التقنيات التي يوظفها مخرجو الأفلام الروائية؛ إذ قد يعمل المصورون السينمائيون، وفنيو الصوت، والمصممون الرقميون، والموسيقيون، وأخصائيو المونتاج في كلا النوعين. قد يتطلب العمل الوثائقي أضواء أيضًا، وقد يطلب المخرجون من أبطالهم إعادة تصوير المشاهد، وعادة ما تتطلب الأفلام الوثائقية مونتاجًا متطورًا، إلى جانب إضافة صناع الأفلام الوثائقية المؤثرات الصوتية والموسيقى التصويرية.

من التقاليد المشتركة بين معظم الأفلام الوثائقية البنية السردية؛ فهي قصص، ولها بداية ووسط ونهاية، وتجعل المشاهدين يستغرقون في شخصياتها، وتأخذ المشاهدين عبر رحلات عاطفية، وغالبًا ما تلجأ إلى بنية قصة كلاسيكية؛ فحين أخرج جون إلس فيلمًا وثائقيًّا عن جيه روبرت أوبنهايمر، مخترع أول قنبلة ذرية — ذلك العالم الذي عانى أشد المعاناة تبعات اختراعه — جعل إلس فريق عمله يقرأ «هاملت».

تعمل التقاليد بنجاح على جذب الانتباه، وتيسير الحكي، وعرض وجهة نظر المخرج على الجماهير، فهي تصبح المعيار الجمالي؛ خيارات جاهزة لصناع الأفلام الوثائقية، وطرقًا مختصرة للتعبير عن المصداقية، غير أن التقاليد أيضًا تخفي الافتراضات التي يضفيها المخرجون على العمل، وتجعل عرض الحقائق والمشاهد الخاصة يبدو حتميًّا وكاملًا.

تقليد العرض

كيف إذن ننظر لخيارات الشكل كخيارات، وننظر إلى التقاليد كتقاليد؟ ربما تتجه للأفلام التي يضع صنَّاعها خيار الشكل في المقدمة باعتباره موضوع الفيلم، وتقارن خياراتهم بعمل آخر أكثر روتينية.

من أسهل الطرق لرؤية التقاليد الهجاء والمحاكاة الساخرة؛ على سبيل المثال، يبدأ فيلم «أرض بلا خبز» (١٩٣٢)، للفنان السريالي الإسباني العظيم لويس بونويل، كرحلة تبدو مملة وكئيبة داخل إحدى المناطق الفقيرة بإسبانيا، ولكن سرعان ما يتضح أن بونويل، بمساعدة التعليق الذي كتبه الفنان السريالي بيير يونيك، يستخدم التقاليد العلمية الزائفة الجافة لإثارة الحيرة والغضب تجاه كل من الراوي ثم الظروف الاجتماعية الرهيبة للريف. أما فيلم «قصة الاسباجيتي» الذي عرض على شبكة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في عام ١٩٥٧، ضمن البرنامج الوثائقي «بانوراما»، فيصحب المشاهدين إلى سويسرا لمناقشة آخر محصول للاسباجيتي (الذي ينمو على الأشجار) كدعابة تمثل في نفس الوقت درسًا تعليميًّا إعلاميًّا. وفي فيلم «بحثًا عن الحافة» (١٩٩٠)، الذي يدور في مضمونه حول أسباب كون الأرض مسطحة، تُوَظَّف مجموعة كبيرة من أدوات الفيلم الوثائقي التعليمي التي يربطها الناس ﺑ «الفيلم الوثائقي التقليدي» — كل بأسلوب أخرق متعمد — لإظهار المنطق الخاطئ في الحجج العلمية والمعالجة في صناعة الأفلام. في هذا الفيلم، يُمنح الخبراء ألقابًا مثل «أستاذ جامعي»، ويظهرون وأمامهم حقائب كتب كدلالة على المعرفة العلمية، على الرغم من أنهم يتحدثون بكلام فارغ، فيما توضح رسوم الجرافيك المبهرة استحالات فيزيائية، وتمتزج نبرة صوت الراوي بالسخرية من فكرة أن الأرض مستديرة، وتظهر صورة عائلية في لقطة قريبة متدرجة، على طريقة كين بينز، لنجد أن الشخصية المشار إليها تدير رأسها بعيدًا عن الكاميرا. أما الفيلم الأسترالي «باباكيوريا» (١٩٨٨)، الذي قام به مجموعة من السكان الأصليين، فيسخر من تقاليد الأفلام الإثنوجرافية، منها نَسْب سمات غامضة أو سحرية للآخرين الدخلاء خلال السرد، والاستشهاد بالخبراء، ونبرة الغرور لدى الراوي، وتصوير البحث العلمي كرحلة استكشاف بطولية. في الفيلم، يفحص مجموعة من العلماء من السكان الأصليين ما يعتقدون أنه مركز لممارسة طقوس ثقافية للأستراليين البيض، الذي هو في الواقع منطقة شواء.

تقدم الأفلام الوثائقية الساخرة، أو الوثائقيات الكاذبة، أيضًا الفرصة لرؤية التقاليد من زاوية معينة؛ فقد كان فيلم «هذه هي سبينال تاب!» (١٩٨٤) لروب راينر، الذي يدور عن إحدى فرق الهيفي ميتال الأسطورية، محاكاة ساخرة شهيرة لوثائقيات الروك — الأفلام التي تجسد عروض فرق الروك — بما تحويه من مقارنة بين الأداء الحماسي على المسرح وما يصاحبها من تصرفات وحركات بلهاء وراء الكواليس، وبين قصص نجاحها واسعة الانتشار. وكما هو الحال في الأفلام الوثائقية الساخرة اللاحقة، مثل «الأفضل في العرض» (٢٠٠٠)، و«رياح قوية» (٢٠٠٣)، اعتمدت الفكاهة على قدرة الجمهور على تحديد التقاليد.

التجربة الفنية

ثمة طريقة أخرى لرؤية التقاليد، هي تحليل أفلام يرى مخرجوها أنفسهم فنانين بالأساس — مخرجون يعالجون شكلًا فنيًّا، وليس رواة يستخدمون الفيلم وسيطًا — وهم يبتكرون، ويعيدون الابتكار، ويتحدون. ففي الوقت الذي أدت فيه الضغوط السوقية لجذب الجماهير بالعديد من المخرجين إلى توظيف تقاليد مألوفة، سعى الفنانون الذين يعملون خارج نطاق سوق الأفلام والفيديو إلى تجاوزها؛ فهم مبتكرون ومجرِّبون من الطراز الأول.

من الأمثلة واسعة الشهرة لمثل هذه التيارات الفنية المضادة اتجاه سيمفونيات المدن؛ ففي العشرينيات والثلاثينيات، حين كانت دور السينما تعرض المغامرات الطبيعية، والأخبار السينمائية التي تتناول الحروب، والغرائب، كان الفنانون الذين ينتجون أعمالًا للمعارض الفنية في أوروبا خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، يتخيلون السينما (التي كانت وسيطًا صامتًا آنذاك)، من بين أشياء أخرى، كقصيدة مرئية تستطيع توحيد خبرة الحواس المختلفة، كانت هذه الفترة من فترات التجريب والتواصل الداخلي الغزير. وقد ساهمت أفلام سيمفونيات المدن في ظهور الحب العصري للتمدن، والآلات، والتقدم؛ إذ استخلصت عناصر من الحركات الفنية مثل السريالية والمستقبلية، وأتاحت للناس رؤية ما لم يكن باستطاعتهم رؤيته عادة، أو ما كانوا ليروه، وكان من ضمن الآلات التي أحبها الفنانون الكاميرا ذاتها، التي كانت تمثل «عينًا ميكانيكية» أكثر تفوقًا، كما كان يُطلِق عليها مخرج الأفلام الوثائقية والمنظِّر الروسي دزيجا فيرتوف. ومن الأمثلة الأولى لأفلام سيمفونيات المدن فيلم «مانهاتا» (١٩٢١) لبول ستراند وتشارلز شيلر، وقد تزايد إنتاج هذا النوع من الأفلام في القارة الأوروبية في أواخر العشرينيات.

اتخذت أفلام سيمفونيات المدن اسمها من فيلم «برلين: سيمفونية مدينة عظيمة» (١٩٧٢) للمخرج الألماني فالتر روتمان، ووضع روتمان أيضًا موسيقى للفيلم. يوحِّد مصطلح «سيمفونيات المدن» الحركة الصناعية العاصفة للمدينة الحديثة مع الشكل الموسيقي الكلاسيكي الذي يُظهر القدرة على تنظيم وتنسيق العديد من التعبيرات الفردية داخل وحدة واحدة. يصطحب الفيلم المُشاهد إلى مدينة برلين على متن قطار، ثم في جولة لمدة يوم داخل العديد من الأنماط المتمدنة النابعة من تفاعل الأشخاص مع الآلات، تصل لذروتها من خلال الألعاب النارية. في الفيلم، يجري روتمان تجربة على أفكار فيرتوف عن قدرة الفيلم الوثائقي على أن يكون «عينًا» على المجتمع بطريقة تجاوزت قدرة الإنسان على الملاحظة.

وقد استغل العديد من الفنانين مفهوم سيمفونيات المدن كوسيلة لتجربة الشكل؛ فقد وجد الفنان البرازيلي ألبرتو كافالكانتي الإلهام في المشروع الذي كان روتمان يعكف على تطويره، وأخرج فيلم «لا شيء سوى الزمن» (١٩٢٦)، وهو فيلم عن باريس، حتى قبل أن يكمل روتمان فيلمه. يبرز الفيلم مؤثرات خاصة بارعة في جولة عاصفة بباريس تشمل أعلى وأقل طبقات المجتمع على حد سواء. وفي جنوب فرنسا، أنتج شقيق فيرتوف الأصغر المنفي، بوريس كوفمان، والفنان الفرنسي جان فيجو، فيلمًا صغيرًا ينطوي على هجاء ساخر بأسلوب ماكر، وهو فيلم «حول نيس» (١٩٣٠)، الذي يُظهر البلدة الشاطئية كثقافة بذخ ينتشر فيها القمار وعبادة الشمس والنفس (وقد كتب فيرتوف تعليمات إخراج الفيلم لشقيقه). وفي بلجيكا، أخرج هنري ستورك فيلمًا رصدت أحداثه عن كثب بلدته الشاطئية، وهو فيلم «صور من أوستند» (١٩٣٠)، وأخرج المخرج الهولندي جوريس إيفينز الذي اتجه إلى العمل مع ستورك، فيلمًا أصبح من كلاسيكيات هذه الأفلام، وهو فيلم «المطر». وفي سياق هذه التطورات، أبدع فيرتوف رائعته «الرجل ذو الكاميرا السينمائية».

ويظل شكل سيمفونيات المدن خيارًا شعريًّا غير مألوف، واستثناءً من قاعدة تقاليد الفيلم الوثائقي؛ ففيلم «كويانيسكاتسي» لجودفري ريجيو إنتاج ١٩٨٢، يستخدم تقنيات أشبه بالعرض الضوئي إلى جانب التصوير بتقنية الفاصل الزمني (إحدى التقنيات التي كانت أفلام سيمفونية المدينة رائدة في استخدامها) لخلق تعليق تمثيلي على التأثير المدمر للبشر على الأرض. يشير عنوان الفيلم إلى كلمة من لغة الهوبي تعني «الحياة بلا توازن»، وقد استخدم الباحث في الأفلام الأمريكية توم أندرسون ما يربو على قرن من تاريخ السينما للبحث في كيفية تجسيد لوس أنجلوس في الأفلام السينمائية، وذلك في فيلم «لوس أنجلوس تمثل نفسها» (٢٠٠٣)، الذي يُظهر المدينة في الخيال التجاري والعام تارة بسخرية وتارة بكآبة وسوداوية.

بحث فنانون آخرون، مثلما يصفون أنفسهم، عن طرق لاستخدام الفيلم الوثائقي كطريق لنقاء الرؤية واحتفاء بنشوة الإحساس في حد ذاته؛ فنظرًا لتجنب أفلامهم المتعمد لتقاليد مثل الحبكة الدرامية، والراوي، بل أحيانًا الأشياء القابلة للملاحظة في العالم، فإنهم يقدمون طريقة أخرى لفهم ما توقعناه؛ فقد أخرج كلٌّ من كينيث أنجر، وجوناس ميكاس، وكارولي شنيمان، وجوردان بلسون، ومايكل سنو، أفلامًا ترجمت الحياة الواقعية بأسلوب إبداعي، على الرغم من أنهم صنفوا أنفسهم فنانين طليعيين لا مخرجين وثائقيين، وكان من أشهر الفنانين الأمريكيين الطليعيين الذين اعتبروا أنفسهم مخرجين وثائقيين — وعلماء — ستان براكاج.

أراد براكاج من المشاهدين أن يعودوا إلى «العين البريئة»، إلى نقاء تجربة الرؤية، لم يُرِد فقط مساعدة الناس على «رؤية» ما تتلقاه العين من الخارج، وإنما أيضًا ما تصنعه العين كنتيجة للذكريات أو الطاقة الجسمانية المنبعثة من الداخل، فقد قال: «أعتبر أفلامي جميعًا أفلامًا وثائقية حقًّا. إنها محاولاتي للإتيان بأدق تجسيد ممكن لتجربة الرؤية.» كانت معظم أعمال براكاج صامتة، ونُفذت على أساس الاعتقاد الحماسي بأن الرؤية فعل يتم بكل جزء من الجسم، والمدهش أن رؤاه وملاحظاته الحدسية عن الكيفية التي تعمل بها العين مدعمة بالأبحاث العلمية عن البصريات.

أخرج براكاج مئات الأفلام، من أكثرها مشاهدة «ضوء العث» (١٩٦٣)، و«حديقة المباهج الأرضية» (١٩٨١)، في هذين الفيلمين القصيرين غلَّف براكاج خامات طبيعية، ووضعها بين قطعتين من شريط سينمائي، ثم طبع الصور الناتجة. وقد احتوى فيلم «ضوء العث» على أجنحة عثة، واحتوى فيلم «حديقة المباهج الأرضية» على أغصان صغيرة، وأزهار، وبذور، وحشائش. وقد خلقت الصور الناتجة بعد ذلك تجربة للمشاهدين أشارت إلى الأصالة والإبداع، ولكنها كانت مختلفة كل الاختلاف.

fig2
شكل ١-٢: في «ضوء العث»، ضغط مخرج الوثائقيات التجريبية ستان براكاج أجنحة العثة وبقايا أغصان صغيرة وأزهار بين شريطين سينمائيين. الفيلم من إخراج ستان براكاج، ١٩٦٣.

امتدت تجربة الأفلام التجريبية إلى الصوت أيضًا؛ فقد ترجم مخرج الأفلام التجريبية الألماني هانز ريختر الإيقاعات الصوتية إلى تجربة مرئية في العشرينيات والثلاثينيات. تعامل أيضًا المخرج الهندي ماني كول، الذي ترعرع فنيًّا في ظل السينما الموازية المدعمة (أي الموازية للسينما التجارية) في السبعينيات، على نحو متكرر مع تقاليد الأغنية الهندية، من ضمنها «دهروباد» (١٩٨٢)، الذي يسلب الألباب بصوت وصورة واحد من أساليب الأداء الموسيقى الكلاسيكية المصممة لتيسير التأمل الروحي. وتلقي مثل هذه الأعمال الضوء على الطريقة التي غالبًا ما نسلم من خلالها بالصوت كأداة تواصل عاطفية ملائمة.

في كل هذه الأعمال، تغيب تقاليد «الفيلم الوثائقي التقليدي» إلى حد بعيد، فلا يوجد راوٍ يخبرنا بما يحدث، ولا خبراء يمثلون المرجعية الموثوق بها، والحقيقة العادية مشوهة عن عمد حتى نراها على نحو مختلف، والموسيقى التصويرية تستخدم لأغراض أخرى خلاف الإيعاز بمشاعر مرتبطة بالقصة؛ فالأشكال ذات الألوان الفاتحة والداكنة، والصوت التنويمي للموسيقى التكرارية، ومنظر الأجسام المأخوذة من العالم الطبيعي، وهي معروضة بأضعاف حجمها العادي، وغيرها من الوسائل الأخرى، تسهم في إخراجنا من إطار عاداتنا البصرية. وقد ساهمت هذه التجارب في توسيع نطاق المناهج الشكلية المتاحة لصناع الأفلام الوثائقية، وفي الوقت نفسه، تتباين هذه التجارب تباينًا حادًّا مع أكثر تقاليد الوثائقيات شيوعًا، التي تستخدم غالبًا في التليفزيون.

السياق الاقتصادي

تخضع التقاليد أيضًا لوقائع وحقائق المجال التجاري؛ ففي التليفزيون، حيث يتخذ المشاهدون قرارًا بشأن المشاهدة من عدمها في غضون ثانية أو ثانيتين، يجاهد المنتجون الآن لجعل كل ثانية ذات جاذبية، والإشارة إلى هوية العلامة التجارية، ليس فقط من خلال الشعارات الدالة على هويتها، ولكن من خلال الأسلوب أيضًا، ويبحثون أيضًا عن طرق لتبسيط عملية الإنتاج وجعلها أكثر فاعلية، وخفض النفقات من خلال الأسلوب والشكل. وفي شرح لا يُنسى لأحد المسئولين التنفيذيين لقناة هيستوري في أواخر التسعينيات للصيغة المستخدمة في القناة آنذاك — إما مقاطع من صور فوتوغرافية مرخصة، أو من مشاهد تمثيلية صغيرة، أو أشياء مقحمة مع رءوس متكلمة متصلة معًا من خلال السرد — لمجموعة من المنتجين المكافحين قال: «نحن نقوم بذلك لأنه زهيد التكلفة ويؤتي ثماره.»

اتجه صناع الأفلام إلى ثلاثة أنواع من الممولين لتمويل أفلامهم الوثائقية: الرعاة، سواء من الشركات أو الحكومة؛ و«المعلنون»، عادة في التليفزيون، وغالبًا ما يكون على نحو غير مباشر؛ و«المستخدمون» أو الجماهير. وكل مصدر من مصادر التمويل أثَّر تأثيرًا قويًّا على اختيارات صناع الأفلام.

كان الرعاة الحكوميون يمثلون أهمية قصوى لصناعة الأفلام الوثائقية؛ ففي دول الكومنولث البريطاني، تضم المؤسسات التي تشجِّع صناعة وتوزيع الأفلام الوثائقية هيئة الإذاعة البريطانية، وهيئة الإذاعة الأسترالية، والمجلس القومي للسينما بكندا. وعبر جميع أنحاء القارة الأوروبية، تقدم الحكومات المعونات المالية للفنانين الذين يعملون في مجال الأفلام الوثائقية، وقد ازدهرت الأعمال الوثائقية الألمانية والفرنسية والهولندية في ظل هذا النوع من الاستثمار. وفي دول العالم الثالث، أحيانًا ما تقدِّم القوى الاستعمارية السابقة منحًا ثابتة للإنتاج الثقافي، وقد تقدم الحكومات القومية الموارد، وغالبًا ما تتحكم في مجال صناعة الأفلام. وتمثل القومية الثقافية دافعًا للحكومات القومية لتقديم هذا الدعم، إذ غالبًا ما تعكس أفكار تصميم البرامج وأساليبها اهتمامًا بالتعبير عن الهوية القومية، لا سيما في مواجهة التدفق العالمي الذي لا يتوقف للإعلام الأمريكي العام.

في المقابل، كان دعم المواطن الأمريكي دافع الضرائب للأفلام الوثائقية هزيلًا على المستوى التاريخي، في دولة طالما كانت السياسة الثقافية فيها تدعم الإعلام التجاري بقوة، وقد بُعث مجال البث الإذاعي العام من جديد خلال فترة الازدهار الليبرالي التي صاحبت سياسات المجتمع العظيم في عهد ليندون جونسون؛ إذ خُصصت صناديق عامة للقطاع غير التجاري اللاحكومي للمساعدة في بناء قدرات محطات البث العامة التي كانت واهية آنذاك في معظم المدن الكبرى. وخلال السبعينيات والثمانينيات، ساهمت مؤسسات ثقافية أخرى، خاصة الصندوق الوطني للعلوم الإنسانية، والصندوق الوطني للفنون، المموَّلَيْن من أموال دافعي الضرائب، في مجال الأفلام الوثائقية الأمريكية، وغالبًا ما كانت الأساليب والأفكار والموضوعات الحساسة سياسيًّا تثير غضب المحافظين في الكونجرس.

ثمة طريقة أخرى تلعب بها الحكومات دورًا مهمًّا في صناعة الفيلم الوثائقي، وذلك من خلال تشريع يشجع أنواعًا معينة من الإنتاج على أنواع أخرى؛ على سبيل المثال، حين أجازت الحكومة البريطانية وجود قنوات تليفزيونية تجارية خاصة، فرضت أيضًا مسئوليات ضخمة فيما يتعلق بتحقيق المصلحة العامة، وهو ما تُرجم إلى مشروعات أفلام وثائقية طموحة مُوِّلت على أمل الفوز بالسمعة، والتقدير، وتجديد رخصة المزاولة، وقد أُطلقت القناة البريطانية الرابعة بتمويلات اقتطعت من الإيرادات الإعلانية لإحدى القنوات الخاصة، وفوِّض إليها عرض أعمال لمنتجين مستقلين، كان من بينهم مخرجو أفلام وثائقية. وقد زعم تشاد رافاييل أن مخاوف شبكة الإذاعة الأمريكية من القوانين والتشريعات الحكومية (إذ ضُبطت الشبكات التليفزيونية متلبسة بالتلاعب في برامج المسابقات) قادت إلى فترة أُغدق فيها بالتمويل على الأفلام الوثائقية الاستقصائية المتخصصة في الشئون العامة (وبالفعل، أدى سقوط التشريعات الحكومية الخاصة بالتليفزيون في الثمانينيات إلى انهيار في الأفلام الوثائقية التي تتناول الشئون العامة).

يلعب المراقبون الحكوميون دورًا حقيقيًّا في وضع المعايير وتطبيق التقاليد، وغالبًا ما تكون مؤسسات البث تحت رقابة صارمة من المراقبين الذين يتفقدون استخدام موجات البث التي تؤجرها الحكومة عادة لشركات فردية بشروط؛ ففي فيلم وثائقي عن تهريب المخدرات، وهو فيلم «الصلة»، روى براين وينستون فضيحة تفجَّرت في بريطانيا في عام ١٩٩٨ بمصاحبة مشاهد أعيد تنفيذها، أو ربما حتى مشاهد من وحي الخيال، وقد وقَّعت مفوضية التليفزيون البريطانية المستقلة، وهي جهاز تنظيمي، غرامة على القناة التليفزيونية التي بثت الفيلم وأثارت بذلك النقاشات عن الرقابة الحكومية.

وقَّعت المفوضية الفيدرالية الأمريكية للاتصالات أيضًا غرامة ابتذال، لقيت نقدًا واسعًا باعتبارها غرامة تعسفية، على محطة تليفزيونية عامة لقيامها ببث برنامج تاريخي، هو برنامج «ذا بلوز» (٢٠٠٣)، تلفَّظ فيه أحد ملحني الجاز بكلمة بذيئة، وقد دفع الحُكم العديد من مؤسسات البث آنذاك لتوخي مزيد من الحذر في برامجها.

كان دور الرعاة من القطاع الخاص في تاريخ الفيلم الوثائقي كبيرًا أيضًا، وسوف يظل هكذا بالتأكيد؛ فقد كانت الأعمال المهمة لرائد الأفلام الوثائقية، روبرت فلاهرتي، مدعومة من جانب مؤسسات راعية كانت تأمل في ربط صورتها برؤيته الرومانسية، وكان للرعاة والمكتتبين المؤسَّسيين أهمية أيضًا لباكورة الأفلام الوثائقية في التليفزيون؛ على سبيل المثال، كان برنامج الصحفي العظيم إدوارد آر مورو «شاهده الآن» (١٩٥١) الذي يتناول القضايا والشئون العامة، ممولًا من شركة ألكوا، التي كانت آنذاك تتطلع إلى تلميع سمعتها بعد قضية احتكار، وكان للمكتتبين المؤسَّسيين أهمية بالغة لتليفزيون الخدمة العامة أيضًا. أصبحت المؤسسات غير الربحية أيضًا عملاء مهمين للأفلام الوثائقية التي تتعامل مع قضايا تعتبرها ذات أهمية. إن الرعاة يدفعون للحصول على فيلم صنع لأنهم يرغبون في سرد قصة معينة، أو يرغبون في تحسين صورتهم، وفي كلتا الحالتين، لا يكون لمخرج الفيلم سوى قدر محدود من الاستقلالية، ولكنه يكون غالبًا كافيًا لكي يستطيع تنفيذ عمل ذي أهمية، وفي بعض الأحيان تتفق أولويات مخرج الفيلم مع أولويات المؤسسة. ويعتبر المعلنون رعاة أيضًا؛ إذ يدفع كل منهم مقابل الحصول على وقت أو مساحة محدودة في برنامج يمكنه جذب المشاهدين لرسائلهم، ويفضِّل الإعلان الأفلام الوثائقية الخفيفة ذات الميزانية المحدودة التي لا تتحدى الأوضاع الراهنة، والأفلام الوثائقية المثيرة التي يمكن أن ترفع نسب المشاهدة.

ويمثل البيع المباشر النموذج الأسرع نموًّا لدعم الأفلام الوثائقية؛ فجماهير السينما الباحثة عن التجديد والروعة يجدونها في الأفلام الوثائقية لشركة إيماكس، سواء التي تدور حول معجزة الطيران أو عالم الحشرات الاستوائية المدهش، ويستقبل مشتركو القنوات المشفرة، مثل «إتش بي أو» أو قناة كندا الوثائقية، سيلًا من البرامج الوثائقية مثلما يحدث عند الاشتراك في المجلات. تقدم أنظمة الفيديو حسب الطلب أيضًا أفلامًا وثائقية مباشرة للمشاهدين، مثلما تفعل خدمات التأجير مثل نتفليكس وبلوكباستر. يشتري المستخدمون المنزليون أيضًا — غالبًا عن طريق الإنترنت — أسطوانات (دي في دي) للأفلام الوثائقية التي ربما لم تُعرض في أي دار عرض، ويحملون أيضًا أفلامًا على أجهزة الآي بود والهواتف الخلوية، وهذا يدفع صناع الأفلام الوثائقية لتحديد «جمهور شخصي» كما يطلق عليه المنتج بيتر برودريك، وصياغة أعمال تدور حول اهتمامات هذا القطاع أو تحديد مجموعة متحمسة لقضية أو مشكلة معينة.

كان من الأمثلة الخارقة للتوزيع المباشر فيلم «الخداع» (٢٠٠٤) من إنتاج روبرت جرينوالد، الذي يشن هجومًا ضاريًا على قناة فوكس نيوز لتحيزها للجناح اليميني. أُطلق هذا الفيلم خلال موسم الانتخابات لعام ٢٠٠٤ في الولايات المتحدة، وقُدم للمشاهدين عن طريق رسائل البريد الإلكتروني من الموقع الليبرالي موف أون دوت أورج MoveOn.org. ووفقًا للمنظمين، اشترى أكثر من ١٠٠ ألف مشاهد أسطوانات (الدي في دي) خلال الشهر، أغلبها للاستخدام في الحفلات المنزلية حيث يشاهدها العديد من المشاهدين دفعة واحدة. وحظي الفيلم أيضًا بفترة عرض محدودة ومتزامنة في دور العرض، وسرعان ما تمت محاكاة هذا النموذج وتعديله؛ إذ سريعًا ما أعد المحافظون أفلامهم المحرضة ونشروها في دوائرهم الانتخابية.

يطور الإنتاج الرقمي في عصر التحميل عبر الإنترنت نماذج جديدة للسوق؛ فبحلول عام ٢٠٠٦ كان تحميل الفيديوهات قد احتل حوالي نصف المساحة الإجمالية على الإنترنت، وفي غضون أيام، جذبت المحاكاة الساخرة المنزلية المتواضعة جماهير عالمية أكبر مما حظي بها العديد من الأفلام الوثائقية في أي مهرجان أو عرض سينمائي. في الوقت نفسه، ظل النموذج التجاري الذي يمكنه دعم مثل هذه الأعمال ملحوظًا.

الأخلاقيات والشكل

كان للمسائل الأخلاقية أهمية بالغة شأنها شأن المسائل الجمالية في اختيارات الشكل لصناع الأفلام الوثائقية، وقد طالب مخرج الأفلام التاريخية جون إلس والمنظِّر بيل نيكولز، من بين آخرين، صناع الأفلام المحترفين أنفسهم بصياغة معايير أخلاقية.

والسؤال عن القدر المقبول من تزييف ومحاكاة الواقع، من الأسئلة التي تُطرح على نحو مستمر. إن التزييف الصريح يسهل الحكم عليه وشجبه، مع أنه أمر شائع منذ بداية نشأة الأفلام؛ فقد أنتج استوديو توماس إديسون مشاهد حرب من الفلبين في نيوجيرسي، وصُوِّرَ التوثيق المفترض لغرق السفينة «ماين» في ميناء هافانا — في الحقيقة — في حوض استحمام نيويوركي.

ثمة ممارسات أخرى أقل وضوحًا من الناحية الأخلاقية؛ فهناك تقنية إعادة التجسيد، وهي جزء أساسي من إنتاج الأفلام الوثائقية ٣٥ ملليمترًا، وفي ظل المعدات الثقيلة المرهقة، بدون إضاءة أو عناصر تمثيل، كانت معظم الأفلام من هذا النوع ستصبح مستحيلة على التنفيذ. وقد استهجن أنصار سينما الواقع المحافظون في الستينيات، الذين كانوا يستخدمون معدات جديدة أخف وزنًا وأكثر مرونة، مثل هذه التقنيات باعتبارها مصطنعة.

على الرغم من ذلك، عادت تقنية إعادة التجسيد للازدهار مرة أخرى في التسعينيات، وكان ذلك في بعض الأحيان يعزى إلى الميزانيات المحدودة التي يخصصها صناع البرامج في القنوات المشفرة، حتى إن المخرجين كانوا يجاهدون لإنتاج قصة جذابة لجماهير التليفزيون الذين اعتادوا معايير إنتاجية عالية. وهكذا، أصبح من المألوف في قناة هيستوري، على سبيل المثال، الإتيان ببضع أقدام ترتدي صنادل لتجسيد مسيرة لآلاف المحاربين الرومان، أو بضع عملات معدنية ومزهرية لتجسيد ثراء الملوك في حقبة أخرى، وفي أحيان أخرى كان صناع الأفلام يستخدمون إعادة التجسيد لاستحضار لحظة غير مصورة؛ ففي الفيلم المأخوذ عن مذكرات الهولوكوست «شكرًا لكل شيء» (١٩٩٩)، مُثِّلت مشاهد لأم تصنع الخبز وتضيء الشموع لتجسيد ذكريات الطفولة في هذه الناجية من المحرقة. ولا يُحدِث مثل هذا الاستخدام أي ارتباك أو حيرة للمشاهدين؛ إذ عادة ما يمكنهم تمييز التجربة الحقيقية عن التجسيد الرمزي لها.

وقد ثار جدل حول صناعة الأفلام التي يتداخل فيها الزيف مع الحقيقة دون إعطاء المشاهدين الفرصة للتمييز؛ ففي فيلم «أوقات عظيمة: الجزء ٢: مسيرة الأطفال» (٢٠٠٤) الذي أخرجه روبرت هدسون وبوبي هيوستن ويدور حول تاريخ حقوق الإنسان، مُزجت المشاهد التمثيلية بالمواد الأرشيفية، واستخدمت أيضًا مواد أرشيفية من زمان ومكان للإشارة إلى مكان وزمان آخرين، وعندما فاز الفيلم بإحدى جوائز الأوسكار، أثار جدلًا بسبب هذا المزج. أيضًا كان فيلم ديفيد ماكناب «المؤامرة السرية لقتل هتلر» (٢٠٠٤) جزءًا من تجربة لقناة ديسكفري في مجال «التاريخ الافتراضي»، الذي يعيد فيه الممثلون تجسيد لحظة من التاريخ، ويُستعان برءوس الشخصيات التاريخية من المشاهد الأرشيفية، وقد اعترف الفيلم بذلك في بدايته، ولكن البعض اعتقد أن أسلوب مزج الممثلين بالصور الأرشيفية قد تجاوز خطًّا أخلاقيًّا، وقد يربك الجمهور.

الأفلام التي تستخدم الممثلين والنصوص، برخصة المشاع الإبداعي، لإعادة سرد أحداث حقيقية، يُطلق عليها غالبًا دوكودراما، ويندرج تحتها أفلام مثل: «غاندي» (١٩٨٢)، والمسلسل التليفزيوني «الجذور» (١٩٧٧)؛ إنها تبدو كأفلام روائية، ومن المفهوم عمومًا أن بإمكانها التغاضي عن الدقة فيما يخص بعض التفاصيل من أجل تجسيد واقع أو حقيقة تجسيدًا دراميًّا، بيد أن المشاهدين والصحفيين لا يرون أن تزييف الحقيقة أمر لائق؛ ففي الفيلم الوثائقي الدرامي «الطريق إلى ٩ / ١١» الذي أنتجته شبكة إيه بي سي عام ٢٠٠٦، اختير ممثلون لأداء أدوار مسئولين حقيقيين في إدارة كلينتون، من بينهم وزير الخارجية، وجعلوهم يقولون ويفعلون أشياء لم يفعلوها أو يقولوها بالتأكيد، وأظهرت هذه التلفيقات إدارة كلينتون وهي تهمل تهديدًا إرهابيًّا، وقد حذفت الشبكة بعض الأخطاء في اللحظة الأخيرة ثم حاولت تبرئة ساحتها بالتنويه إلى أن الفيلم كان مجرد فيلم وثائقي درامي، لكن المشاهدين والمعلقين الساخطين لم يرضِهِم هذا التنصل.

يمزج بعض صناع الأفلام الوثائقية عناصر خيالية ويستمرون في ادعاء أنها أفلام وثائقية، وهذا الأسلوب آخذ في التنامي مع تنامي شعبية الأفلام الترفيهية الوثائقية؛ على سبيل المثال، يحكي فيلم «المختالون» للمخرج الدانماركي جيب روند قصة خيالية عن أب وابن يلتئم شملهما من خلال توثيق لمسابقات أزياء واقعية تقام بين الرجال في جنوب أفريقيا، وعلى الرغم من شعبية الفيلم في مهرجانات الأفلام في شمال الكرة الأرضية، فإنه يثير تساؤلات لتجسيده حبكة قصة خيالية كحياة واقعية.

يتعمد بعض صناع الأفلام الوثائقية استخدام الخيال كأداة لإثارة التفكير؛ فقد قدَّم المخرج البريطاني الموالي للجناح اليساري بيتر واتكينز عدة أفلام استعان فيها بأشخاص لا يعملون بالتمثيل لإعادة تجسيد أحداث تاريخية تكشف عن أنظمة السلطة وحركات المقاومة من معركة كولودين حتى كومونة باريس. أعاد المخرج الأمريكي الراديكالي إميل دي أنطونيو أيضًا في فيلمه «في ملك بروسيا» (١٩٨٢) تجسيد محاكمة لمعارضي الحرب على فيتنام، بعد منع الصحفيين من دخول قاعة المحكمة. قام ببطولة الفيلم المتهمون الحقيقيون، بمن فيهم الأخوان في الكهنوتية فيليب ودانيال بريجان، مع ممثل هوليوود مارتن شين في دور القاضي. لم تُعِد تقنية إعادة التجسيد سرد الأحداث فحسب، ولكنها وجَّهت نقدًا ضمنيًّا لحظر دخول الصحفيين أثناء المحاكمة. مزج المخرج الفرنسي كريس ماركر أيضًا في فيلمه «بلا شمس» (١٩٨٢) الصور الوثائقية والصوت بسرد خيالي، وكانت النتيجة استجوابًا مثيرًا للفكر في معنى الذكرى وتأملًا في صناعة الأفلام. وفي فيلم «الكابوس العطر» (١٩٧٧)، أعاد المخرج الفلبيني كيدلات تاهيميك استخدام مشاهد وثائقية لسرد قصة خيالية عن شخص ساذج من العالم الثالث ارتحل إلى الغرب، وهي قصة كانت أيضًا مقالًا وثائقيًّا نقديًّا عن الاختراق المتبادل بين الشرق والغرب، وقد كانت إعادة الاستخدام ذاتها تعليقًا على الثقافة التوفيقية والانتقائية للفلبين.

ابتدع الفنان الألماني هارون فاروكي الكثير من المقالات الوثائقية المعقدة التي تدعو لتدبر الذات، ويجري فيها استخدام مشاهد وثائقية والتعامل مع القضايا الموجعة التي تحظى بأهمية عامة، وله مقال عن تورط العمال الصناعيين في حرب فيتنام، هو «النيران الغامضة» (١٩٦٩) — حيث تشير النار إلى النابالم — وقد كُتب ومُثِّل بأسلوب انطوى على تجربة للتغريب البريختي، وقد أعادت المخرجة الأمريكية جيل جودميلو تصوير الفيلم لقطة بلقطة تحت اسم «ما علمه فاروكي» (١٩٩٨).

هل تظل مثل هذه الأعمال الهجينة أفلامًا وثائقية؟ إنها تزعم أنها تجسد الحياة الواقعية وتخبر المشاهد بشيء مهم عنها شأنها شأن الأفلام الوثائقية السائدة، ولكن هذه التجارب من وجهة نظر البعض تخرج عن حدود الأفلام الوثائقية، شأنها شأن الأفلام الوثائقية الساخرة، بل إن جودميلو نفسها سألت المُشاهِد في فيلمها عن النوعية التي ينتمي إليها فيلم «ما علمه فاروكي». وهي تشير إلى أن جميع المَشاهد تقريبًا معادة التجسيد، شأنها شأن معظم المشاهد في الفيلم الذي تحاكيه، ولكن الفيلم مناقشة حول الحياة الواقعية، وهي تشير بشيء من السخرية إلى أن المُشاهِد ينظر إلى الفيلم باعتباره «أجيتبروب» أو دعاية تهييج، لتعيد للأذهان مصطلح أفلام «دعاية التهييج» الذي ظهر في عصر الاتحاد السوفييتي للحث على إحداث تغيير اجتماعي. وينطوي تساؤلها على إشارة إلى الخطوط المشوشة التي تحيط بحدود هذا الشكل الفني.

إن جميع اختيارات الشكل الخاصة بالمخرجين تسوق إلى المُشاهد ادعاءات مقنعة عن دقة المخرج وحسن نيته ومنطقيته، ولعل في حقيقة توافر مجموعة متنوعة من الخيارات للمخرجين في تجسيد الحقيقة تذكرة لنا بأنه لا يوجد تجسيد شفاف للحقيقة، ولا أحد يستطيع حل تلك المعضلات الأخلاقية بتجنب الاختيار في طريقة التعبير، ولا توجد اختيارات شكلية خاطئة في حد ذاتها. والعلاقة القائمة على حسن النية بين مخرج الفيلم والمشاهد ضرورية، وبإمكان صناع الأفلام تسهيل ذلك بتحري الوضوح مع أنفسهم فيما يتعلق بأسباب استخدامهم للأساليب والتقنيات التي يستخدمونها، والسعي لاختيار الشكل الذي يعلي من شأن الحقيقة التي يرغبون في إطلاعنا عليها.

المؤسسون

في العشرينيات بدأ ثلاثة أشخاص مشوارهم الفني وساهموا في تشكيل توقعات الجماهير عبر جميع أنحاء العالم منذ ذلك الحين، وهم: روبرت فلاهرتي، وجون جريرسون، ودزيجا فيرتوف. وقد أكدوا جميعًا في آنٍ واحد أنهم ينقلون الحقيقة وأنهم فنانون. وكما رأينا، فإن كلا التأكيدين يخلق حالة التوتر والجذب الأساسية في الأفلام الوثائقية؛ فمتى تتعارض البراعة الفنية مع الحقيقة ومتى تسهل مثل هذا التجسيد؟ لقد صارع هؤلاء المخرجون هذا السؤال بأساليب متنوعة، ومهدوا الطريق لنقاشات ومجادلات لاحقة.

أرسى جريرسون وفلاهرتي، مع اختلاف الطموحات، «الواقعية» كتقليد في الأفلام الوثائقية، ويخلق هذا التقليد التعبيري وَهْم الحقيقة لدى المشاهد، ومن ثم فإن الواقعية لم تكن محاولة لتصوير الواقع بمصداقية، بل محاولة لاستخدام الفن لمحاكاته بفاعلية تجعل المشاهد ينجذب إليه دون التفكير فيه؛ ومن ضمن أساليب خلق وهم الحقيقة: (١) المونتاج بالإخفاء (نوع من المونتاج يمر دون أن يلاحظه العقل الواعي، بحيث تنخدع العين بالاعتقاد بأنها تسير مع الحدث لا أكثر). (٢) التصوير السينمائي الذي يخلق لديك الوهم بأنك داخل المشهد أو تراقب الحدث أثناء وقوعه، ويمنحك مشاركة نفسية في الحدث. و(٣) إيقاع يتبع توقعات المُشاهد للأحداث الطبيعية في العالم الطبيعي. ونظرًا لقدرتها على الإثارة، فقد أصبحت الواقعية اللغة العالمية للسينما التجارية في كل من الأفلام الوثائقية والروائية.

على النقيض من الواقعية تأتي مناهج تجذب الانتباه إلى دور الفنان والتكنولوجيا في صناعة الفيلم، بعض هذه الأساليب جُمعت تحت مسمى «الشكلية»، بمعنى إلقاء الضوء على العناصر الشكلية في الفيلم ذاته، ومن ضمن أمثلة تلك العناصر المونتاج الحاد أو الملحوظ، والألوان غير الطبيعية، والتشويهات في عدسة الكاميرا، والمؤثرات الخاصة مثل التحريك، وإبطاء أو تسريع الصوت والصورة. في بدايات نشأة السينما، جرب العديد من صناع الأفلام هذه التقنيات لتمثل نمطًا قويًّا للتعبير خارج القيود التجارية منذ ذلك الحين (وقد وجدها المعلنون مفيدة أيضًا من أجل ترك انطباعات تعلق في الأذهان وذات تأثير عالٍ). وقد اتهم أنصار الشكلية الواقعيين بالتضليل وخداع المشاهدين لدفعهم لتصديق أنهم يشاهدون شيئًا واقعيًّا؛ في المقابل سمح هؤلاء المخرجون للمشاهدين بملاحظة دور الفنان في خلق العمل، بل الاحتفاء به.

روبرت فلاهرتي

لم يُنتج الأمريكي روبرت فلاهرتي سوى بضعة أفلام خلال سنوات عمله، ولكن البعض منها أصبح محكًّا تقاس على أساسه الأفلام الوثائقية. حظي فيلمه الأول «نانوك ابن الشمال» بنجاح واسع، وألهم صناع الأفلام في كل أنحاء العالم، من الروسي سيرجى أيزنشتاين إلى البريطاني جون جريرسون والفرنسي جان روش.

نشأ فلاهرتي في كندا وعلى حدودها، وعاش فترة في معسكرات التعدين مع والده الذي كان يملك منجمًا. بعد محاولة فاشلة لتنفيذ فيلم يوثِّق رحلاته وأسفاره (على أثر احتراق النيجاتيف)، عاد لمدة عام إلى سكان القطب الشمالي الأصليين الذين لقي منهم معاملة طيبة، وبحوزته تمويلات من شركة فرنسية لتجارة الفراء. وعلى الرغم من رفض الكثير من الموزعين للفيلم الناتج، فقد حقق الفيلم الكثير من المال لنفسه ولفلاهرتي. رُوِّج لفيلم «نانوك» في دور العرض بواسطة أفكار ووسائل بارعة مثل الزلاجات التي تجرها الكلاب، وأشكال مصنوعة من الورق المقوى لأكواخ الإسكيمو، ووصف بأنه «قصة حياة وحب في القطب الشمالي الحقيقي».

استعار الفيلم عناصر من الأعمال السينمائية الترفيهية الرائجة في ذلك الوقت؛ فقد تضمَّن عناصر «تصويرية» مستعارة من أفلام الرحلات، التي كانت في حد ذاتها وريثًا لعروض شرائح الرحلات، وكان الفيلم أيضًا يروي قصة درامية عن البقاء في مواجهة الظروف البيئية القاسية، مستخدمًا بنية مشابهة لتلك المستخدمة في الفيلم الروائي الشهير «ميلاد أمة» (١٩١٥) لدي دبليو جريفيث، الذي كان فلاهرتي قد شاهده. اشتمل الفيلم أيضًا على بدعة جديدة؛ فقد عرَّف فلاهرتي المشاهدين بالحياة اليومية في ثقافة كان هو وجمهوره يعتقدون أنها بدائية، وكان التجديد في الفيلم أن «البدائيين» في هذه الثقافة لم يقدَّموا كمخلوقات أو حيوانات غريبة الأطوار (مثلما قُدِّموا منذ فترة قريبة في المعرض الكولومبي الدولي بشيكاغو عام ١٨٩٣)، بل كبشر لديهم عائلات ومجتمعات. وكان بإمكان الجماهير من خلال هذا الفيلم استكشاف أسلوب حياة آخر، بل كانوا يعتقدون أنهم يستكشفون الماضي. وقد تعمد فلاهرتي أن يكون تجسيده لأسلوب حياة سكان الإسكيمو ذا طابع عتيق ومهجور.

لاقت النزعة الإنسانية الدافئة لفيلم «نانوك» نجاحًا على المستوى التجاري فاق ما حظي به منهج نصير آخر «للتوثيق الإثنوجرافي»، وهو المصوِّر إدوارد إس كيرتيس الذي كانت عائلة فلاهرتي قد زارته قبل الانتهاء من «نانوك». كان كيرتيس، الذي اشتهر بتصويره للهنود الحمر وهم يرتدون ملابس عتيقة، يأمل في الاستفادة من السنوات التي عاشها مع هنود الكواكيتول بفيلم يجذب جماهير على استعداد للدفع لمشاهدة الفيلم. وفي فيلمه «في أرض صائدي الرءوس» (١٩١٤) — الذي أعيد تسميته فيما بعد بشكل أكثر دقة ليصبح «في أرض القوارب الحربية» — جمع مشاهد لطقوس كان قد طلب من الكواكيتول إحياءها مع حبكة ميلودرامية لم تُسْتَوحَ من ثقافة الكواكيتول. لم يحقق الفيلم إيرادات تذكر، وكان فاشلًا من الناحية الجمالية، على الرغم من الاهتمام البالغ به من علماء الأنثروبولوجيا فيما بعد لما يحويه من مشاهد الطقوس التي أعيد تجسيدها.

بالطبع اتخذ فلاهرتي بعض الخيارات بغرض جذب جماهير على استعداد لدفع ثمن تذكرة السينما، فغيَّر اسم البطل من ألاكريالاك إلى نانوك، وجمَّع له عائلة نموذجية غير حقيقية ولكنها كانت مناسبة للتصوير، وقد أخفى مشاركة العديد من سكان الإسكيمو في تصوير الفيلم، وأبرز بل دبر عمليات صيد عالية الدراما بدلًا من مجرد رصد إيقاع الحياة اليومية الخالي من أي أحداث، وخاصة إيقاع حياة النساء. وقد أدى تصوير فلاهرتي البارع — والناتج عن الاعتناء شديد الدقة بالتفاصيل البصرية وإعادة التصوير عدة مرات — والتنظيم البارع للإيقاع من المونتير (الذي كان بطيئًا بما يكفي لإقناع المشاهدين بأنهم يشاهدون حياة واقعية، ولكن ببنية درامية) إلى إنتاج عمل ترفيهي عالي الجودة من مادة خام مشوقة، وقد منح اختيار الاتجاه الواقعي — أي خلق الوهم بحقيقة مرئية ومحسوسة من خلال المونتاج، وزاوية الكاميرا، والإيقاع — المشاهدين انطباعًا قويًّا بأنهم عايشوا شيئًا شبه حقيقي.

كان اختيار فلاهرتي للصيغ المهجورة في الفيلم خيارًا أخلاقيًّا؛ إذ قال: «ما أريد أن أعرضه هو الروعة والسمات الشخصية التي يتمتع بها هؤلاء الناس، ولا يزال ذلك ممكنًا، قبل أن يدمر البيض ليس فقط شخصيتهم، بل الأشخاص أنفسهم أيضًا.» كان لدى فلاهرتي إيمان رومانسي قوي بنقاء الثقافات الأصلية، وكان يؤمن بأن ثقافته قد أُفقرت روحانيًّا بالمقارنة بها. وتتذكر أرملة فلاهرتي أنه قال: «كانت مشكلة نانوك هي كيفية التعايش مع الطبيعة، أما مشكلتنا فتكمن في كيفية التعايش مع ماكيناتنا. لقد وجد نانوك الحل لمشكلته في روحه، مثلما فعل البولينيزيون، ولكننا صنعنا لأنفسنا بيئة يصعب على الروح التوافق معها.»

كانت هذه القناعة الرومانسية تعني أيضًا أن فلاهرتي كان يعتقد أن ثقافة الإسكيمو قد لوِّثت بفعل احتكاكها بالعالم الخارجي، ولم يكن يعتقد أن بمقدور ثقافة الإسكيمو النجاة من هذه الهجمة العنيفة؛ فقد كانت الثقافة الأصلية في رأيه ثقافة نقية لم تمسسها حضارة صنعتها الماكينات، على الرغم من أن مواطني الإسكيمو الذين اعتمد عليهم في الأساس ليركز عليهم كاميراته كانوا يبيعون الفراء لأسواق الفراء أيضًا.

fig3
شكل ١-٣: طلب المخرج الواقعي الرومانسي روبرت فلاهرتي من سكان الإسكيمو إعادة تجسيد العادات التقليدية من أجل فيلم «نانوك ابن الشمال». الفيلم إخراج روبرت فلاهرتي عام ١٩٢٢.

أصبحت تلك الرومانسية سمة مميزة لأعمال فلاهرتي، فأخرج، من بين أفلام أخرى، فيلم «موانا» (١٩٢٦) في ساموا، و«رجل من آران» (١٩٣٤) عن انفصال جزر آران عن إيرلندا، و«قصة لويزيانا» (١٩٤٨)، وهو آخر أفلامه، في جداول لويزيانا. وقد محت هذه الأفلام تعقيدات الحياة الاجتماعية لمصلحة قصة عن إنسان في مواجهة الطبيعة؛ ففي البحار الجنوبية، ذهل فلاهرتي لاكتشافه أن الطبيعة كانت متسامحة مع سكان الجزر، لذا خلق دراما في عادة دق الوشم المؤلمة التي كانت في طريقها إلى الزوال آنذاك، وتجاهل، من بين أشياء أخرى، الوجود الاستعماري في ساموا، والخصخصة الجائرة للملكيات التي أحدثت تحولًا في المجتمعات الساموية، وإصرار الحكومة على نظام الزواج الرسمي الغربي الذي يتعارض مع تقاليد الزواج الساموية. وفي فيلم «رجل من آران» (١٩٣٤)، جعل فلاهرتي سكان جزيرة آران يحيون عادة صيد القروش المتشمسة (إذ كان لا بد من تعليمهم)، واستبعد من القصة عنصرين ساهما إسهامًا كبيرًا في تكوين حياتهم: عملهم في تجارة الأسماك مع البر الرئيسي، وحقيقة أن الملَّاك الغائبين، وليس قوى الطبيعة القاسية، هم من أجبروا شخصيات فيلمه على الاستقرار في الأرض المقفرة التي كانوا بحاجة إلى إثرائها بالأعشاب البحرية.

أحد أسباب جاذبية فيلم «نانوك» احتفاء فلاهرتي ﺑ «البدائي النبيل»، وهو مفهوم شائع ذو تراث طويل في الفكر الغربي، ويعود تاريخه إلى بدايات عصر التنوير، وظهر في كتابات جان جاك روسو. يعبِّر مفهوم البدائي النبيل عن فلسفة تفاؤلية بأن الإنسان الطبيعي خَيِّر بفطرته، وقد أصبح له حضور قوي على نحو خاص في الإبداع الأوروبي والأنجلو أمريكي في أوج حقبة الاستعمار الأوروبي في العصر الفيكتوري ومع أيديولوجية «حتمية التوسع» الأمريكية. حتى مع تأكيد القوى الصاعدة لسيطرتها على مختلف الثقافات سياسيًّا، استهدف مستكشفوهم أراضي غريبة لم تطأها قدم من قبل تتجاوز حدود معرفتهم، واحتفوا بجمال الحياة البسيطة. وكما أشار ليو ماركس، هذه النظرة الرومانسية للثقافات الأخرى، التي تُقدَّر لما يفترض فيها من بساطة وبراءة، لم تنمُ إلا مع فترة التصنيع السريع.

ثمة سبب آخر لاستمرار حب الجمهور لأفلام فلاهرتي، هو وضوح عشق فلاهرتي الشديد لأبطاله؛ فقد أقام فلاهرتي رابطة إنسانية دافئة مع الناس الذين عاش معهم وعمل لشهور في فترة من الفترات. وبعد أربعة عقود من إخراج فلاهرتي لفيلم «رجل من آران»، عاد المخرج جورج ستوني — الذي ألهمته مشاهدته لأفلام فلاهرتي بالعمل في مهنة الإخراج — إلى الجزيرة حيث كان جده أول طبيب يحاور الأشخاص الذين عملوا بالفيلم. ويستعرض فيلمه «كيف صنعت الأسطورة» (١٩٧٨) فيلم «رجل من آران» كأسطورة صنعت من الواقع بمهارة. وقد كان الناس يذكرون فلاهرتي بإعزاز شديد، واستمتعت أجيال من سكان الإسكيمو أيضًا بمشاهدة فيلم «نانوك»، معتبرين إياه هدية أتاحت لهم معرفة تقاليدهم.

أثار النقاد في تلك الفترة تساؤلات حول الهدف والأخلاقيات، خاصة فيما يتعلق بفيلم «رجل من آران»، وقد احتفى جريرسون وبول روثا — وهو رائد آخر من رواد ما عُرف بالوثائقيات البريطانية — بفلاهرتي باعتباره أحد الفنانين العظماء الذين ارتقوا بالفيلم الوثائقي ليصبح فنًّا جميلًا وليس مجرد تسجيل لأحداث، ويرى هذان المخرجان أن فلاهرتي قد افتقر إلى الضمير الاجتماعي والالتزام بالتواؤم مع العصر الصناعي الذي كان يمثل رمزًا لحركتهما. وفي منتصف فترة الكساد العظيم، أثارت أعمال فلاهرتي حفيظة النقاد من يسار الوسط؛ إذ كتب الناقد البريطاني اليساري آيفور مونتاجيو يقول: «تمامًا مثلما تفعل هوليوود، ينشغل فلاهرتي بتحويل الواقع إلى خيال. وباعتباره شاعرًا له عين شاعر، فإن المأساة هي أن كذبته هي الأعظم، لأن بإمكانه أن يجعل الخيال يبدو حقيقيًّا.»

بعد وفاة فلاهرتي، انقسمت الآراء النقدية إلى معسكرين، أطلق عليهما عالم الأنثروبولوجيا جاي روبي «فلاهرتي الأسطورة» و«فلاهرتي المخادع الرومانسي»، وقد أصبحت فرانسيس أرملة فلاهرتي، التي كانت عاملًا مساعدًا لا غنى عنه في كل مشروعاته الفنية، حامية الشعلة، فقد احتفت بما أسمته «منهج فلاهرتي»، الذي وصفته بأنها قدرة خاصة على «الاستسلام للمادة»، حتى يتمكن فلاهرتي من أن يعرض على المشاهدين «نظرته البريئة» للموضوع، وقد صاغت مصطلح «اللاتحيُّز» لوصف منهجه الذي صورته بأنه حدسي، وروحاني، ومعصوم من الخطأ. وقد رفضت هيلين فان دونجن، مونتيرة فلاهرتي في مشروعَيْه الأخيرين والشخص الذي كان يستخلص القصص من المشاهد، ادعاءات الروحانية التي أطلقتها فرانسيس فلاهرتي، ولكنها احتفت به باعتباره «شاعرًا خياليًّا»، و«عبقريًّا»، وفنانًا تقيد عمله بالمتطلبات التجارية بكل أسف.

كان لنمو الوعي المناهض للاستعمار، وظهور نخبة ثقافية وطنية في عصر الحرب الباردة في العالم الثالث، ونمو الأنثروبولوجيا الداعية لتدبر الذات؛ كل ذلك كان له دوره في تغذية الجدل الدائر حول «فلاهرتي المخادع الرومانسي»؛ إذ يذهب البعض إلى أن فكرته عن صراع الإنسان ضد الطبيعة عمَّقت افتراضات لا جدوى منها عن الشعوب الأصلية؛ فيبدو أن الشعوب الأصلية لا تحظى إلا باهتمامنا العاطفي حين تكون بعيدة عنا على مسافة آمنة، حيث توفر لنا مكانًا للاسترخاء الذهني. أيضًا ساهم صراع الإنسان مع الطبيعة في تعزيز فكرتنا عن الشعوب الأصلية كأشخاص سذَّج أشبه بالأطفال أو حتى الحيوانات الأليفة، وربما ضحايا للحضارة، وقد أدى ذلك بالناس إلى النظر بريبة إلى الجهود السياسية للسكان الأصليين للتأكيد على مزايا علاقتهم القائمة بالاقتصادات الأكبر، غير أن جاي روبي حذر علماء الأنثروبولوجيا من القسوة المبالغ فيها في الحكم على فلاهرتي قبل النظر إلى ممارساتهم الخاصة.

لا يزال تراث فلاهرتي قائمًا. يُبرز فيلم «قصة الجمل الباكي» (٢٠٠٣) أسرة في صحراء جوبي تنقذ حياة جمل صغير تنبذه أمه من خلال تجسيد طقس شعبي يغني فيه أحد الموسيقيين للجمل. كُتبت القصة وابتُكرت فكرتها على يد صناع الفيلم، الذين كان أحدهم منغوليًّا. لقد جسدوا الحياة في صحراء جوبي منذ أجيال عديدة كما صورتها لهم مخيلتهم، بمساعدة أفراد مرحين عاديين في عائلة نموذجية مترابطة. وحين سئل المخرج المساعد للفيلم لويجي فالوني عن مصدر إلهامه، اعترف قائلًا: «حسنًا، سوف تضحك مني، ولكنه كان نانوك ابن الشمال.»

جون جريرسون

صنعت الحياة المهنية لجون جريرسون صراعات وتناقضات في مجال الأفلام الوثائقية ضاهت في روعتها تلك التي صنعها فلاهرتي على أقل تقدير. وُلد جريرسون في اسكتلندا، وهو ابن لمعلم كالفيني محافظ، وعمل بالإخراج باعتباره أداة قوية لمواجهة المشكلة التي شغلت حياته: كيف تسيطر على الصراعات الاجتماعية في مجتمع صناعي ديمقراطي. بعد مشاركته في الحرب العالمية الأولى، شاهد صراعات عمالية وحشية في مدرسة بأحد الأحياء الفقيرة، وكان يلقي عظات عن الأعمال الخيرية، وفي النهاية فاز بإحدى منح روكفلر الدراسية في الولايات المتحدة. وهناك تأثر بالناقد والتر ليبمان الذي ذهب إلى أن مجتمعنا الذي يزداد تعقيدًا يتطلب خبراء يستطيعون ترجمة القضايا للجماهير الذين كانوا سيصعقون من كم الخبرة اللازم لمواجهة أي قضية. انجذب جريرسون أيضًا إلى مجال العلاقات العامة الناشئ، الذي ولد مع ظهور حركة الكفاح العمالي في أواخر القرن التاسع عشر. وأخيرًا رأى في فيلم «نانوك» لفلاهرتي نموذجًا مقنعًا لقدرة الفيلم على جذب الجماهير نحو واقع آخر، وأَسَرَه فلاهرتي نفسه بسحره الدائم، وحين كتب عن فيلم «موانا»، احتفى بطابعه «الوثائقي»، ليضع بذلك تسمية نهائية لهذا الشكل الفني.

بعد عودته إلى بريطانيا، استطاع إقناع مسئولين بريطانيين بقوة الفيلم؛ إذ كان الوقت مناسبًا لمثل هذه المناقشات، وفي عام ١٩٢٧، أصبح جون ريث — وهو اسكتلندي أيضًا — رئيسًا لأول هيئة عامة لخدمات البث في العالم، وهي هيئة الإذاعة البريطانية، التي كانت مهمتها توعية وتحسين مستوى العامة، وكانت فترة الكساد العظيم قد تسببت في تفاقم التوترات الطبقية في بريطانيا وجعلت الاشتراكية — بل الشيوعية أيضًا — بديلًا يبدو معقولًا لكثيرين، وفي نفس الفترة، ظهر أيضًا عدد هائل من حركات الإصلاح الاجتماعي، كتلك التي أثارها برنامج الإصلاح الاقتصادي في الولايات المتحدة. كان الكثير من الفنانين من شتى الأطياف، كالمصوِّرين والمخرجين الذين كان موضوعهم هو الواقع، يرون أن الفن يتضافر على نحو معقد مع الإصلاح السياسي والاجتماعي.

عيَّنت هيئة التسويق الإمبراطورية جريرسون للترويج لفكرة الإمبراطورية ذاتها، وقد عرض له رئيسه الهدف بلا أي غموض: «إن مهمة الفيلم الوثائقي الحكومي في نظر الدولة هي الفوز بقبول هذا الجمهور الجديد للنظام القائم.» بعد الانتهاء من الفيلم الذي كاد يكون الفيلم الوحيد الذي أخرجه، وهو فيلم «قوارب الصيد» (١٩٢٨) — وهو فيلم وثائقي يدور حول صيد أسماك الرنجة أُنتج استجابة لاهتمام أحد المسئولين بهذا المجال — استعان بمجموعة من الشباب والقليل جدًّا من النساء، كان من بينهن شقيقته روبي، لتنفيذ أفلام لمصلحة كل من الحكومة والشركات الكبرى. وكان فيلم «بريطانيا الصناعية» (١٩٣٢) محاولة لفطام البريطانيين من حنينهم لماضٍ كان أكثر بساطة، غير أن جريرسون أخطأ بالاستعانة بفلاهرتي في تصوير الفيلم؛ فقبل استبعاده، لم يتجاوز فلاهرتي الميزانية فحسب، ولكنه صوَّر مشاهد للحرفيين كان من شأنها أن تثير الحنين فعليًّا. وفي فيلم «مشاكل سكنية» (١٩٣٥)، الذي أخرجه إدجار أنستي وروبي جريرسون وتولت تمويله شركة للغاز ووكالة للإسكان، أتاح الفيلم الفرصة لسكان الأحياء الفقيرة لشرح مأساتهم، وقدَّم الدعم لمشروع تطهير الأحياء الفقيرة. أما فيلم «البريد الليلي» (١٩٣٦)، من إخراج بازيل رايت وهاري وات، ومساهمات من الشاعر دبليو إتش أودين والملحن بنيامين بريتن، فتعقب مسار خطاب من صندوق البريد حتى لحظة التسليم، ودار أغلبه في قطار للبريد (حيث كان الجزء الداخلي من القطار مسرحًا للأحداث). وقد انبهر المشاهدون بالتعقيد الصناعي والبيروقراطي العسير للخدمات الحكومية، ومحاولة تلميع سمعة إدارة البريد، والتأكيد على الطبيعة المترابطة للمجتمع الحديث.

fig4
شكل ١-٤: نظر جون جريرسون إلى الفيلم الوثائقي كأداة لتعزيز الترابط والبصيرة الاجتماعيَّيْن؛ فقد احتفى فيلم «البريد الليلي» بوحدة الإنسان والآلة في خدمة توصيل البريد البريطانية. الفيلم من إخراج هاري وات وبازيل رايت ١٩٣٦.

روَّج جريرسون و«أعوانه» لمفهوم الفيلم الوثائقي كأداة للتوعية والتكامل الاجتماعي من خلال محاضرات وكتابات، وفي عام ١٩٣٢ احتفى جريرسون بقدرة الفيلم الوثائقي على ملاحظة «الحياة في حد ذاتها» باستخدام أشخاص حقيقيين استطاعوا مساعدة الآخرين على تفسير العالم والقصص الواقعية، وقد قارن هذا ﺑ «آليات المحاكاة والتزييف» و«الأهداف التجارية» في أفلام هوليوود التمثيلية، وقد نوه إلى قدرة فلاهرتي على السماح للواقع بفرض القصة، وإن كان قد تمنى أن «تزول النزعة الضمنية لفلسفة روسو الحديثة في أعمال فلاهرتي بزوال نفسه الاستثنائية الرائعة من الوجود»، في إشارة إلى رومانسية فلاهرتي. كان التحدي الحقيقي — كما يقول — هو تطبيق الإبداع على «مهمة تنظيم الفوضى العارمة للحاضر»، ونقل فكرة «أمينة وواضحة ومخلصة تحقق أسمى غايات المواطنة»، ولتحقيق ذلك، كان من المهم تجاوز التركيز على الأفراد والتوجه نحو الخطوات العملية.

تزايدت حدة جريرسون في التعبير عن الوظيفة الاجتماعية للفيلم الوثائقي، حتى على حساب «الجانب الجمالي»؛ ففي عام ١٩٤٢، أكد على أن «فكرة الوثائقيات لم تكن في الأساس فكرة فيلم على الإطلاق، وإنما «فكرة جديدة للتوعية العامة»، وكان يرى الدولة كيانًا عادلًا ومحايدًا لإدارة الديمقراطية الاجتماعية، وكان يعتقد أن الشركات كان بإمكانها أن تستخدم العلاقات العامة لتحقيق المصلحة العامة لو اعتمدت على الحقيقة، ولم تكن حقيقةُ أنه أيَّد استخدام بعض أساليب مروجي الدعاية النازية نفسها تثير ضيقه: «بإمكانك أن تكون «مستبدًّا» لمصلحة الشر، وبإمكانك أيضًا أن تكون «مستبدًّا» لمصلحة الخير.» وأيَّد جريرسون الفصل الحاد بين الأفلام الوثائقية والسينما الترفيهية. ولإيمانه بأن هوليوود لا يمكن قهرها ولا يمكن الانضمام إليها، فقد ذهب إلى أن الفيلم الوثائقي ينبغي أن يسعى لمخاطبة الدوائر غير التجارية والوفاء بتوقعات مختلفة تمامًا بين المشاهدين.

أصبح جريرسون مستشارًا لكل من الشركات والحكومات التي كانت تبحث جميعًا عن أحدث الوسائل في العلاقات العامة، وكان تأثيره واسع النطاق؛ ففي كندا، حيث قضى جزءًا كبيرًا من الحرب العالمية الثانية، أطلق المجلس القومي للسينما بكندا، الذي ما زال قائمًا حتى الآن، وأجرى مشاورات مع كل من الحكومة الأمريكية والبريطانية، وساعده زملاؤه في تأسيس المجلس القومي للسينما بأستراليا، وعمل مستشارًا لقادة حكومة جنوب أفريقيا، ولسوء الحظ — كما وثَّق كيان توماسيلي — وقع ضحيةً هناك لمؤامرة من المستوطنين البيض المؤيدين للتمييز العنصري وزكَّى مقترحاتهم باسم الوحدة الوطنية، وانهار دور جريرسون كقائد في مجال الأفلام الوثائقية، بل كقائد في حركة الفيلم الوثائقي الاجتماعي البريطاني ذاتها، بعد الحرب العالمية الثانية، غير أن رؤيته للفيلم الوثائقي كمشروع للتوعية الاجتماعية كان لها تأثير عميق على صنَّاعه لاحقًا.

ركَّز النقد المعاصر لأعمال جريرسون تركيزًا كبيرًا على قضية الفاعلية؛ هل كانت الأفلام ثورية على نحو مبالغ فيه؟ لقد جسدت الأفلام طبقة العمال، وهو ما كان صدمة للكثيرين في المجتمع البريطاني الطبقي. هل كانت ستحظى بشعبية كافية؟ هل كانت ستتسم بالجرأة الكافية من الناحية الجمالية؟ ردًّا على هذه التساؤلات، زعم بول روثا في كتاب «الفيلم الوثائقي» أن الحركة كانت «أهم إسهام لهذا البلد في السينما ككل»، وأصبح هذا الإعلان بمنزلة حكمة مقبولة عالميًّا، وأصبح جريرسون رمزًا جليلًا شبه أسطوري لتاريخ الاتصالات البريطانية والكندية، وتحقق ذلك جزئيًّا من خلال الجهود الترويجية لأنصار جريرسون أنفسهم.

فيما بعد جاءت مدرسة بحثية أخرى أخذت على عاتقها مهمة هدم الأسطورة، كما لخص إيان أيتكين وجاك إليس، وصنفت جريرسون في زمانه ومكانه كأحد الأبطال الأوائل للعلاقات العامة، ووجه البعض اتهامًا بأن ادعاء روثا تجاهل جهود الأفلام المنافسة في ذلك الوقت وأنه يخدم أغراضًا شخصية، وانتقد آخرون أعمال جريرسون لسذاجتها حيال تداعيات الواقعية، وأشاروا إلى ثقافة الطبقة الوسطى ذات الطابع الذكوري المحتفى بها في أفلامه.

وعلى الرغم من أن جريرسون أظهر توجهًا يساريًّا واتُّهم بأنه يساري، فقد أشار النقاد فيما بعد إلى رجعيته ورغبته في الحفاظ على الأوضاع الراهنة، وقد ذهب جويس نيلسون، على إثر دراسة متفحصة لأداء جريرسون في كندا، إلى أن جريرسون قد قلل من أهمية القومية الكندية لخدمة وحدة دول الكومنولث، وأنه أيد سيطرة هوليوود على الأفلام السينمائية الكندية باستراتيجيته الانفصالية للأفلام الوثائقية.

لعل أشد نقاد جريرسون قسوة هو الباحث والصحفي الإذاعي البريطاني السابق براين وينستون، الذي ذهب إلى أن مشروع جريرسون قد أثَّر سلبًا على هذا الشكل الفني، الذي تجنب تحمل مسئولية دوره كمُبلِغ للحقيقة باللجوء إلى ادعاءات فنية؛ تلك «المعالجة الخلاقة» للواقع، غير أن تجنب تلك المسئولية بادعاء أنه كان يخدم هدفًا اجتماعيًّا أسمى لا يدخل ضمن التحديات الفنية؛ فقد تجنب مسئولية ذلك الهدف الاجتماعي؛ أي وظيفته الترويجية، بادعاء أنه ليس إلا مبلغًا للحقيقة، وأخيرًا، تجاهل جريرسون الأدلة على أن أفلامه الوثائقية لم يُنظر إليها على نطاق واسع ولو باعتبارها نتاجًا ثانويًّا للسينما التجارية، وأن المحيط غير السينمائي كان مدفوعًا بالمهمة التربوية وليس بتقدير الشكل الوثائقي. لقد كانت أفلام جريرسون الوثائقية تحمل نية خبيثة، وهي تدعيم مصالح من كانوا يمولونها وخنق الإبداع، وقد ذهب وينستون إلى أن المخرجين لا بد أن تكون لديهم الحرية لسرد القصص التي يعتبرونها مهمة، دون ذلك الادعاء الرنان بأنهم يؤدون خدمة اجتماعية، أو تلك الادعاءات الروحانية بأنهم يوفرون مدخلًا فريدًا للحقيقة.

وقد أكدت إليزابيث ساسيكس، التي حاورت الكثير من أنصار وثائقيات جريرسون البريطانية، أن رؤية جريرسون لشكل فني يمكنه أن يجعل المشاهدين على وعي بسياقهم الاجتماعي ظلت حية بالفعل ونُقلت إلى جيل آخر لكي ينفذها على نحو مختلف. وفيما يعد لفتة رائعة لرجل كان يفتخر بتغييره للعالم، قال روثا لاحقًا: «لا أعتقد أن الأفلام في حد ذاتها لها أدنى أهمية، المهم هو نوعية الروح الكامنة وراءها.»

التفت النقاد لاحقًا لهذه الأهمية؛ لأن الحركة التي دشنها جريرسون وروَّج لها بحماس بالغ تركت بصمة كبيرة على صناعة الأفلام الوثائقية، وقد أصبحت كتابات هذه المجموعة نصوصًا أساسية لصناع الأفلام الطموحين. أيضًا كان للمؤسسات التي أنشأها جريرسون، أو كان ملهمًا لإنشائها، خاصة المجلس القومي للسينما بكندا، أهمية لصناع الأفلام الوثائقية، وكان مفهوم الفيلم الوثائقي كمشروع ذي هدف اجتماعي في صميمه، ومفهوم المخرج الوثائقي كسفير للتقدم الاجتماعي، مقنعَيْن لأبعد الحدود مهما كانت الظروف، وأصبح نموذج العمل للدعم الحكومي أو المؤسسي مع التوزيع غير التجاري وغير السينمائي مقبولًا على نطاق واسع. لقد جعل فلاهرتي تجسيد الواقع فضيلة جمالية، وجعلها جريرسون مهمة اجتماعية.

دزيجا فيرتوف

العَلَم المُؤَسِّس الثالث في مجال الوثائقيات هو المخرج الروسي الثوري دزيجا فيرتوف (دينيس أركاديفيتش كوفمان). كان فيرتوف مخرجًا وكاتبًا معارضًا نيابة عما كان يسمى في روسيا الأفلام «الواقعية»؛ فقد كان مناصرًا لقيمة الحقيقة الفريدة ﻟ «تسجيل الحياة كما هي»، أو اللحظة التي لم يسبقها أي استعداد، وكان يؤمن بأن الفيلم الوثائقي هو الوسيلة الإعلامية المثالية للثورة، الذي لا يجب أن يزدهر فحسب، بل لا بد للفيلم الروائي أن يندثر باعتباره إنكارًا لقدرات هذا الشكل الفني. ومع تحول الثورة الروسية إلى ديكتاتورية، أصبح فيرتوف غير ذي نفع للنظام، وتعرَّضت أعماله للتجاهل في عهد الاتحاد السوفييتي، ولكن ظل فيرتوف لعشر سنوات بعد قيام الثورة عَلمًا مؤسِّسًا للسينما في روسيا وعلى المستوى العالمي على حد سواء. على الرغم من أنه قد أصبح «نكرة» في تاريخ سينما بلاده خلال العصر الشيوعي، فقد ظل مصدر إلهام مستمرًّا للفنانين الطليعيين ومخرجي الأفلام الوثائقية في كل مكان.

مزج فيرتوف — باندفاع — ادعاءات الفن والعلم للفيلم الوثائقي، الذي كان يعتبره أساس الفيلم كوسيط. كان حلمه أن «تقدم صناعة السينما الأفلام «الواقعية» على الأفلام التمثيلية، وأن تستبدل التوثيق بالتمثيل، وأن تتحرر من ساحة المسرح، وأن تدخل إلى ساحة الحياة نفسها»، وقد كان ينظر إلى الكاميرا باعتبارها «العين الميكانيكية … الآلة التي تظهر العالم كما هو، الذي لا أستطيع أن أرى سواه». كانت الكاميرا ملحقًا افتراضيًّا للقدرة البصرية الإنسانية الضعيفة؛ فقد كان بإمكانها رؤية مناظر بانورامية من ارتفاعات شاهقة، والتحديق من نوافذ الطابق الثاني، والسفر لمسافات بعيدة. كان يؤمن، ومعه آخرون، بأن الماركسية علم جديد للمجتمع، وكان يرى أن علم الكاميرا المذهل يجب أن يندمج مع تحليل ماركسي ثوري خلال عملية المونتاج، لخلق أداة علمية للثورة فيما سماه «فك التشفير الشيوعي» للمادة، وهكذا اقترنت قوة الآلة بقوة الأيديولوجية.

كانت السينما في اعتقاده الوسيط المثالي للمجتمع الشيوعي الجديد الذي كان يولد في روسيا، لأنها تصور حقائق الحياة الواقعية، ولا تكذب على الناس أو تلهيهم، ولأنها كانت تمثل الحداثة الرائعة المدفوعة بالآلة التي كانت الشيوعية السمة المميزة لها، وقد حط من شأن الفيلم «الفني»، الذي يعني فيلمًا ترفيهيًّا. كان فيرتوف أيضًا فنانًا طليعيًّا، وتلك هي الهوية التي لازمته.

كان الشاب دينيس كوفمان، اليهودي الذي كان يعيش في دولة معادية للسامية، لا يزال طالبًا بالجامعة حين أطلق على نفسه ذلك الاسم الغريب دزيجا فيرتوف (بمعنى «الرجل الذي يصور من أعلى»)، وكطالب يدرس الطب في واحد من الأماكن القليلة التي كانت تقبل اليهود في مدينة بتروجراد (سان بطرسبرج) التي تميل إلى الأوروبيين، تشبَّع بالثقافة الفنية للحداثة، ليلتقي بعد ذلك بالمستقبلية، وهي حركة طليعية احتفت بالجديد والحديث والآلة، وكان عاشقًا لأعمال الشاعر الأمريكي والت ويتمان.

أتاحت له الثورة فرصة العمل على «قطارات دعاية التهييج» التي دفعت بالدعاية الثورية إلى جبهات الصراع، وعمل في الجرائد السينمائية، وحرَّر عشرات الأعداد (تراوحت مدة كل منها ما بين عشر دقائق إلى عشرين دقيقة) من مجلة «كينو-برافدا» (١٩٢٥)، أو سينما الحقيقة، وقد استوحت اسمها من الجريدة الحزبية «برافدا»، وكان إشارة أيضًا إلى قوة الفيلم الوثائقي. كانت الجرائد السينمائية تنقل المشاهدين إلى أجزاء نائية من الاتحاد السوفييتي الجديد، وتجلب لهم أخبار المحاكمات السياسية، وتعرض لهم الدبابات القيصرية أثناء إعادة نشرها لبناء المرافق العامة، إلى جانب الأحداث الرياضية، والحوادث، وعمليات توصيل الكهرباء التي كانت من الأشياء المفضلة لدى الجمهور، وكانت تحتفي بعجائب الحضارة والحداثة والآلات، وكانت تعرض في جميع أنحاء البلاد قبل بدء عروض الأفلام السينمائية، وكذلك في الأندية، وأماكن العمل، والمناطق الريفية، ورأى فيرتوف الدهشة والانبهار على وجوه الفلاحين الذين لم يسبق لهم أن شاهدوا أي أفلام من قبل.

وبينما كان يعمل في الجرائد السينمائية، أدرك فيرتوف المزيد والمزيد من الإمكانات المثيرة في هذا الوسيط؛ فأصبح مبشرًا للفيلم الواقعي أو الوثائقي. كوَّن مع مونتيرته وزوجته فيما بعد إليزابيث سفيلوفا وشقيقه ميخائيل كوفمان «مجلسًا ثلاثيًّا»، جمع المجلس الثلاثي من حولهم مجموعة من الأنصار المتحمسين، وأطلقوا على أنفسهم عيون السينما، وقد أصدروا بيانات وتصريحات هجومية استفزازية مثل بيان «نحن: بيان رسمي من شكل مختلف»، الذي دعا المشاهدين إلى العزوف عن «العناق العذب للقصص الغرامية، وعن سموم الرواية النفسية، وعن براثن سينما الخلاعة، والإعراض عن الموسيقى» والتوجه نحو «الواقع المفتوح، ونحو الأبعاد الأربعة (ثلاثة زائد الزمن) بحثًا عن جوهرنا، وعن مقياسنا وإيقاعنا.»

على الرغم من أن فيرتوف أكد تأكيدًا قاطعًا غير قابل للشك على الإعجاز العلمي لعين الكاميرا وقدرتها على إخبار الحقيقة على نحو يتجاوز الأبعاد البشرية، فقد حذا حذو فلاهرتي وجريرسون حين ذهب أيضًا إلى أن الراوي البشري كان له أهمية بالغة: «ليس كافيًا أن تعرض أجزاء من الحقيقة على الشاشة أطرًا منفصلة للحقيقة. ولا بد من ترتيب هذه الأطر حسب الموضوع بحيث يشكل الكل حقيقة أيضًا.» ومثل «العين البريئة» للفنان التي نادى بها فلاهرتي، وادعاء جريرسون أن الفيلم الوثائقي «معالجة خلَّاقة للواقع»، كان ادعاء فيرتوف بحق المونتير في تنظيم فوضى الحياة الواقعية في واقع شيوعي بمنزلة تصريح لمخرج الفيلم بأن يفعل كل ما يحلو له. لقد أطلقوا جميعًا ادعاءات متطرفة لقيمة الحقيقة في أعمالهم، وفي نفس الوقت صوَّروا صانع هذا العرض الصادق فنانًا يحتاج إلى الحرية لكي يبدع.

أراد فيرتوف أن يروي قصة عن روعة المجتمع الشيوعي، وأهمية ونبل الكفاح والتضحية لبنائه، لقد كان أكثر ثورية من كثيرين آخرين في تلك الفترة، في سياق السياسة والفن على حد سواء؛ فعلى خطى تروتسكي، طالب فيرتوف بتأميم كامل للاقتصاد وتحويله إلى الاشتراكية، وقد أعلن فيلمه الوثائقي الأول «عين السينما» (١٩٢٤) عن نفسه للمشاهدين باعتباره «الاستكشاف الأول للحياة كما هي، وأول عمل سينمائي غير مصطنع بدون سيناريو، أو استوديو، أو ممثلين». فمن خلال مجموعة صور متلاحقة خضعت لعملية مونتاج حادة ويصعب متابعتها، استنكر الفيلم الدلائل المستمرة على وجود الرأسمالية والفساد في المجتمع. بعدها أخرج ثلاثة أفلام أخرى في تتابع سريع، أبرز كلٌّ منها تجارب في المونتاج استخدمت أسلوب تجاور المتناقضات لإقامة صلات بينها وبين الفيلم الواقعي.

كانت أعمال فيرتوف تأسر النقاد وتضعهم في حيرة، وتثير حنق الأصدقاء، وتثير جدالًا عنيفًا بين صناع الأفلام بما احتوته من تحدٍّ وبابتعادها المتعمد عن التقليدية، فخلق الكثير من العداوات، وفقد عمله بموسكو، ووصل الجدال إلى ذروته مع ظهور عمله الرائع «الرجل ذو الكاميرا السينمائية»؛ فبالتعاون مع زوجته وشقيقه المصور السينمائي مايكل، أبدع واحدًا من أكثر أعماله السينمائية إذهالًا وإثارة للفكر على الإطلاق. أعد هذا الفيلم لكي يكون بانوراما شاملة لأمة في طور التحول، صارت فيها الحياة اليومية للأشخاص العاديين جزءًا من قصيدة معاصرة رائعة دون وعي منه بذلك. لو أن والت ويتمان سمع أمريكا تغني، فإن دزيجا فيرتوف سمع الاتحاد السوفييتي يغني.

ينتمي فيلم «الرجل ذو الكاميرا السينمائية» إلى أفلام سيمفونيات المدن، ويتبع أسلوب تصوير يوم في حياة إنسان مدعومًا بخيال سينمائي؛ فالمشاهد يدخل مع رواد إحدى دور العرض، وينتهي الفيلم بخروجه، وفيما بين اللحظتين يستخدم المصور السينمائي سحر الكاميرا لاصطحاب المشاهد إلى داخل مواقف خاصة جدًّا (كميلاد طفل، أو طلاق زوجين) عبر مناظر طبيعية رائعة، وداخل أماكن عمل وصالات ألعاب رياضية، وقد عرض المصور والمونتيرة طرائف مرئية، وهي مؤثرات خاصة مصممة من أجل إضفاء المتعة على عرض عجائب هذه التكنولوجيا الجديدة التي تمكنت من إبرازها من خلال التجسيد.

وفي النهاية، علَّق الفيلم على قدرة واستمتاع مخرج الفيلم بنفس القدر الذي علَّق به على الإنجازات الاستثنائية للمجتمع الروسي الجديد، وكان هذا تقليدًا متوافقًا مع نظرية فيرتوف التي دافع عنها بضراوة عن القدرة الفائقة للفيلم الوثائقي، ليس فقط على رصد المجتمع، بل أيضًا على رؤيته وتخيله على نحو يختلف عن كونه مجموعة من البشر فقط. وقد تباهت الإشادات الاستهلالية للفيلم بما يتطلع إلى تحقيقه: «هذا العمل التجريبي موجه لخلق لغة سينمائية بحتة حقيقية وعالمية، مختلفة تمامًا عن لغة المسرح والأدب.»

كان العمل مصدر إبهار وبهجة للفنانين والنقاد في جميع أنحاء العالم، وهو ما يعزى في جزء منه إلى كون ألغازه وغموضه قد أثارت فضولهم بشكل ممتع للغاية، وبالطبع عززت أيضًا من تقدير الفنانين لأنفسهم. أما الجماهير الروسية، التي أخذت تختار بشكل متزايد بين الأعمال الكوميدية والدرامية الترفيهية من الأفلام الإقليمية وكذا الأفلام الدولية الرائجة، فقد شعروا بالعكس؛ فقد اشتكوا من أنهم لم يستطيعوا معرفة ما يدور حوله الفيلم، وهكذا كان الفيلم سببًا في تدمير مستقبل فيرتوف الذي كان مهددًا بالفعل داخل الاتحاد السوفييتي الذي كان يزداد صرامة وقسوة، حيث تعرض التجريب السياسي والفني على حد سواء للقمع. وبعد تجربة مثيرة شكليًّا في الصوت من خلال فيلم «الحماس» أو «سيمفونية دون بيسين» (١٩٣١)، وجد فيرتوف صعوبة في العمل في مجال تسيطر عليه الحكومة، ولم يلقَ مذهبه التجريبي الصارم والدقيق قبولًا، وحلَّت محله الأعمال المبتذلة التي يسهل استيعابها، وفي سنواته الأخيرة جرى استغلاله في مونتاج الجرائد السينمائية والأفلام الوثائقية المملة التي تمجِّد ستالين.

وعلى الرغم من أن أعمال فيرتوف قد ولَّدت طاقة هائلة بين الدوائر الفنية والسياسية في الاتحاد السوفييتي، فإنها لم تحظَ بمشاهدة واسعة هناك، فلم يُعرض فيلم «عين السينما» (١٩٢٤) جماهيريًّا سوى مرة واحدة فقط، فيما عُرض فيلم «إلى الأمام أيها السوفييت» (١٩٢٦) لفترة قصيرة في ثلاث دور عرض وبدون دعاية، أما فيلم «سدس العالم» (١٩٢٦)، فلم يُعرض على شاشات العرض الأول، فيما عُرض فيلم «العام الحادي عشر» (١٩٢٨) لآلاف المتفرجين الأوكرانيين، وعرض فيلم «الرجل ذو الكاميرا السينمائية» محليًّا، ولكن لم يلقَ تقديرًا من الجماهير العامة، وقد وجد الرائد السينمائي، وأحد أوائل المعجبين بفيرتوف، سيرجي أيزنشتاين، نفسه يزداد سخطًا من جراء ما سماه «عبث الكاميرا الخالي من أي دافع» لفيرتوف (وهو ما رد عليه فيرتوف بقوة بأن على أيزنشتاين أن يحترم قوة الواقع بدلًا من تزييف الحقيقة من خلال الحكي).

fig5
شكل ١-٥: جرب الفنان الثوري الروسي دزيجا فيرتوف أساليب شكلية صادمة في فيلمه «الرجل ذو الكاميرا السينمائية». الفيلم من إخراج دزيجا فيرتوف عام ١٩٢٩.

وعلى الرغم من التلويث الذي طال سمعة فيرتوف في الاتحاد السوفييتي، فقد بقيت سمعته حية، والفضل في ذلك يرجع جزئيًّا إلى حماس فناني الغرب له، وقد كان أيضًا عَلَمًا مهمًّا للكتَّاب المناهضين للشيوعية، مثل هيربرت مارشال الذي أرَّخ لمشواره الفني كواحد من كثير «من السير الذاتية الإبداعية المقيدة» للاتحاد السوفييتي، وأحيا سمعته الباحثون والخبراء، ومن أهمهم المؤرخ السينمائي جاي ليدا الذي شهد السنوات الأولى للسينما الروسية، والباحثة السينمائية آنيت مايكلسون، التي نشرت وحللت أعمال فيرتوف بالإنجليزية.

ظلت تحديات وتجارب فيرتوف مستفزة لأجيال من المخرجين الطليعيين: فقد تخيل شكلًا سينمائيًّا يتجاوز الأفق الضيقة للسرد والحكي البسيط. لقد كانت نوعية الواقعية التي اختارها روبرت فلاهرتي، والتي تروي قصة عن صراع الإنسان للبقاء سواء ضمنيًّا أو صراحة، ممقوتة لفيرتوف وللمخرجين الذين أرادوا استخدام الفن لتحطيم التوقعات بشأن الوضع الراهن، وكانت أعماله وأعمال أيزنشتاين تشكل أهمية لجون جريرسون، الذي انجذب لادعاءاتهم بأنه بإمكان الفيلم أن يخدم التغيير الاجتماعي. وقد كان المخرجون في فترة الستينيات الذين تحرروا مما صار تقاليد تمثيلية في الفيلم الوثائقي يتخذون من فيرتوف بطلًا أسطوريًّا؛ فقد صرح مارتن سكورسيزي، بعد أن اختار عشوائيًّا فيلم «الرجل ذو الكاميرا السينمائية» في أحد محلات الفيديو، بأنه قد افتتن بالإمكانيات التي فتحها أمامه. ولا تزال تجارب فيرتوف شبه المتماسكة التي تتسم بالغموض والثقة الجامحة في نفس الوقت، تدهش المتفرجين وتلهم صناع الأفلام.

لقد وضع الأعلام المؤسسون الثلاثة ثلاث مجموعات متباينة من التوقعات بين كل من صناع الأفلام والمشاهدين للفيلم الوثائقي: الترفيه الذي يسمو بالنفس (فلاهرتي)، والحكي النافع اجتماعيًّا (جريرسون)، والتجربة المثيرة للفكر (فيرتوف)، وقد أصبحت أسماؤهم مرادفًا لهذه المناهج، وتحول ثلاثتهم إلى رموز أيقونية للأجيال التالية من صناع الأفلام الوثائقية.

سينما الواقع

تعرضت التقاليد والممارسات التي دشنها الثلاثي الأسطوري المؤسس للفيلم الوثائقي لتغيير جذري عنيف خلال ثورة الستينيات التي تعددت تسمياتها ما بين سينما الواقع، والسينما المباشرة، وسينما المراقبة والرصد؛ فقد خرج هذا الشكل إلى حد بعيد عن التقاليد والممارسات الوثائقية المعمول بها آنذاك؛ من التخطيط المسبق، وكتابة النص، والتمثيل، والإضاءة، وإعادة التجسيد، والمقابلات الشخصية. كانت كافة هذه المناهج متوافقة مع مواطن القصور التي شابت أجهزة اﻟ ٣٥ ملليمترًا التي اتسمت بالضخامة وثقل الوزن، وكانت ملائمة أيضًا لتوقعات الجمهور في ذلك الوقت، أما سينما الواقع (من منطلق استخدام مصطلح شامل شائع)، فقد وظفت تكنولوجيا اﻟ ١٦ ملليمترًا، التي صارت أكثر شيوعًا ووجودًا بعد أن نشرها الجيش خلال الحرب العالمية. كانت سينما الواقع تتحدث بصوت جديد عن موضوعات غالبًا ما كانت مختلفة، وكان مخرجو سينما الواقع يصطحبون أجهزة اﻟ ١٦ ملليمترًا الأخف وزنًا داخل أماكن لم تُرَ من قبل — كبيوت العامة من الداخل، وساحات الرقص مع المراهقين، والغرف الخلفية في الحملات السياسية، وفي الكواليس مع المشاهير، وعلى خط الهجوم مع المهاجمين، وداخل مستشفيات الأمراض العقلية — ويصوِّرون ما يرونه، وكانوا يأخذون كميات ضخمة من المشاهد المصورة إلى داخل غرف المونتاج، ومن خلال المونتاج كانوا يجدون قصة لسردها. وقد استخدموا ابتكار الصوت المتزامن — حيث أصبح بإمكانهم لأول مرة تسجيل الصورة والصوت في آنٍ واحد في شريط ١٦ ملليمترًا — لاستراق السمع على المحادثات العادية، وفي أغلب الأحيان كانوا يستغنون عن السرد.

ويعمل الممارسون الآن على توسيع المجال، بمن فيهم المخرجون الذين سبقت أعمالهم ظهور هذه الحركة، مثل المخرجة الفرنسية الأسطورية أجنس فاردا («جامعو القمامة وأنا» ٢٠٠٠)، والمخرجون الذين تشكل أعمالهم التقليد الحالي المعمول به مثل البريطاني كيم لونجينوتو، والصينية وانج بينج («غرب المضامير» ٢٠٠٣)، وغيرهما من المخرجين الصاعدين. ومن أحد مظاهر شيوع اختيار المخرجين الطموحين هذا الأسلوب مشروع خطوات نحو المستقبل (٢٠٠٢)، تناول هذا الإنتاج العالمي المشترك بين تليفزيون جنوب أفريقيا الوطني والعديد من تليفزيونات الخدمة العامة الأوروبية موضوع الإيدز المثير للجدل في جنوبي أفريقيا، وقد نتج عن ذلك حوالي ثمانية وثلاثين فيلمًا نُفذ أغلبها على يد مخرجين جدد، وباستخدام تقاليد سينما الواقع.

التطور

بدأت هذه الثورة في الأسلوب في فترة تصاعد انعدام ثقة المستهلكين في سلطة الإعلام الرأسي المتجه من أعلى لأسفل، الذي يحتمل أن يكون قد تأجج بفعل تجربة العامة مع دعاية الحرب العالمية الثانية، وتأجج بالتأكيد بصعود الإعلان كلغة عالمية للإقناع وقوة تأثير وسائل الإعلام، وقد كان لانعدام الثقة ذاك في حد ذاته جذور راسخة في تيار أكثر اتساعًا للحركات الاجتماعية المناصرة للعدالة، والمساواة، والانفتاح السياسي، والاحتواء؛ فقد وصلت هذه الحركات لكل ركن في العالم وأسفرت عن انتهاء الاستعمار، وتغيرات في الحكومات، وانتصارات في مجال حقوق الإنسان للجماعات التي كان يُمارس ضدها تمييز، والتي تتراوح من الطبقات المنغلقة المتدنية إلى النساء وذوي الإعاقة.

في الواقع لم يكن لبوادر هذه الحركة علاقة بالتكنولوجيا؛ فالأفلام التي انبثقت عن حركة السينما الحرة البريطانية في أواخر الخمسينيات تتميز بالسخرية من التفويض الجاد لجريرسون بالتوعية والتعليم في خدمة الوحدة الوطنية، لقد حررت حركة السينما الحرة نفسها بالفعل من ذلك التفويض تمامًا، ففي فيلم «أرض الأحلام» (١٩٥٣) لليندساي أندرسون، وفيلم «ماما لا تسمح» (١٩٥٦) لكاريل رايس وتوني ريتشاردسون، يصطحب المشاهد في إجازة مع أطفال من الطبقة العاملة يذهبون إلى مكان ترفيهي وأحد أندية الجاز. لم تكن الأفلام تقيِّم شخصياتها ضمنًا أو تملي على المشاهدين ما عليهم استنتاجه مما يشاهدونه، ولم تخبر مشاهديها بأن ما يشاهدونه مهم، لقد كانت الأفلام فرصًا لإنعام النظر في لحظات الاستمتاع في حياة الأشخاص العاديين، وتعبيرات صريحة عن الاهتمامات الشخصية لمخرج الفيلم. ثمة أعمال أخرى اتخذت موقفًا أخلاقيًّا متمردًا قويًّا يخالف الأوضاع الراهنة؛ على سبيل المثال، قدم المخرج الفرنسي جورج فرانجو فيلم «دماء الوحوش» (١٩٤٩)، وفيلم «فندق العاجزين» (١٩٤٩) وصوَّر من خلالهما جانبًا من مجزر ودار لرعاية المحاربين القدامى على التوالي، وقد كشف «دماء الوحوش» النقاب عن الوحشية الكامنة خلف عملية التوريد الروتيني للحوم، وأقام مقارنات ضمنية بين ذبح الحيوانات وذبح البشر، أما الفيلم الثاني، فكان معارضًا للنفوذ العسكري والإكليروسي معارضة صريحة.

وسرعان ما طبق المخرجون في كندا والولايات المتحدة وفرنسا الابتكارات التكنولوجية للترويج لطريقة جديدة في تنفيذ الأفلام الوثائقية، وقد موَّلت شركة تايم لايف برودكاستينج تجارب لروبرت درو، الذي عمل مع المهندس دي إيه بينبيكر، والمخرجين ديفيد وألبرت مايسلز وريتشارد ليكوك (وقد أصبح ليكوك مهووسًا بالأفلام الوثائقية من خلال عمله مع فلاهرتي في فيلم «قصة لويزيانا»). وبمساعدة مخرج الأفلام الوثائقية والمهندس الفرنسي جان بيير بوفيولا، نجح هؤلاء المخرجون المبتكرون في تطوير نظام يسجل الصوت المتزامن مع اللقطات دون أن يتطلب ذلك الجمع بين أبطال الفيلم وجميع الأجهزة معًا.

ازدهرت هذه التجارب في الولايات المتحدة، وإن لم يحالفها النجاح دائمًا، فقد تتبع فريق درو معركة انتخابية بين جون كينيدي وهوبرت همفري في فيلم «الانتخابات الأولية» (١٩٦٠)، الذي رفض القائمون على البرامج في شبكة إيه بي سي إذاعته لما انتابهم من حيرة بشأنه، قائلين إنه يشبه «النسخ المتعجلة» (المعروف اليوم بالمشاهد غير الممنتجة)، أما اليوم فصار يبدو محكم الصنع، على الرغم من أنه ينقل نوعًا من الفورية حابسة الأنفاس، كما ذكرت جين هول، ولا تزال شبكة إيه بي سي تعمل في هذا الشكل الفني، على الرغم من أنها تعيد تصوير المادة بحرية لتناسب أغراض الشبكة وأهدافها؛ على سبيل المثال، حين أنتج ريتشارد ليكوك فيلم «عيد أم سعيد» (١٩٦٣)، وهو فيلم عن ميلاد التوائم الخماسية، أظهر سمات تجارية بالغة للاحتفالات العامة بالمواليد، أعادت شبكة إيه بي سي المشاهد لتحوله إلى قصة مؤثرة لبلدة تتحد لمساعدة الأسرة (وقد طرح ليكوك النسخة الأصلية فيما بعد).

أثارت سينما الواقع (التي تسمى أحيانًا السينما المباشرة، أو سينما المراقبة والرصد، أو العين الصريحة، على اسم أحد المسلسلات التليفزيونية في كندا) حماس المخرجين بإمكانياتها، فقد أنتج ديفيد وألبرت مايسلز سلسلة من الأفلام الوثائقية المدهشة احْتُفِيَ بها في دوائر الروائع الفنية التي كانت آنذاك شريانًا حيويًّا في الثقافة السينمائية؛ ففي فيلم «البائع» (١٩٦٨)، تتبع الأخوان مجموعة من بائعي الأناجيل الذين كانوا يعيشون تناقضات الحلم الأمريكي، وهم يبيعون كتابًا مقدسًا بإلحاح. لقد حولت مونتيرة الفيلم تشارلوت زويرين لقطاتهما إلى تراجيديا أمريكية، فكان الفيلم تعبيرًا حزينًا ومثيرًا للمشاعر عن انهيار حلم انطلق في ذروة الانقسامات الاجتماعية في البلاد حول حرب فيتنام والقيم الثقافية، وعلى الرغم من أن فيلم «البائع» قد احتوى على معانٍ اجتماعية ضمنية حادة، فقد تفادت معظم أعمال الأخوين مايسلز الموضوعات السياسية.

fig6
شكل ١-٦: حوَّل فيلم «البائع»، أحد كلاسيكيات سينما الواقع، بيع الأناجيل إلى حكاية رمزية عن الحلم الأمريكي. الفيلم من إخراج ألبرت وديفيد مايسلز عام ١٩٦٨.

وفي المجلس القومي للسينما بكندا، أصبحت سينما الواقع — التي بدأت كصفعة على وجه الأخلاقيات الاجتماعية — أسلوبًا أساسيًّا لوحدة من المفارقة، من المفارقة أن جون جريرسون هو من أسسها. وقد كان واحد من الأفلام الرائدة في هذا الاتجاه صورة لمحبوب المراهقين بول إنكا، وهو فيلم «الصبي الوحيد» (١٩٦١)، الذي أطلق الشرارة لفئة كاملة من الأفلام التي تتناول كواليس حياة المشاهير. وقد تبنى برنامج تحدي التغيير التابع للمجلس القومي للسينما بكندا — الذي أُطلق في عام ١٩٦٦ على يد كولين لو وجون كيمني لتشجيع ظهور أصوات وقضايا جديدة في الأفلام الوثائقية الكندية، وهو ما كان يحدث جزئيًّا من خلال تدريب الهواة على استخدام الكاميرا — سينما الواقع كلغة طبيعية له، وعلى الفور سارع جريرسون، المتلهف دائمًا لإظهار تأثيره، إلى الادعاء أن برنامج تحدي التغيير لم يكن إلا محاكاة لتقليده الخاص بتوثيق المشكلات الاجتماعية.

استغل المخرجون في جميع أنحاء العالم فرص العرض السينمائي الواقعي التي أتاحها هذا المنهج؛ على سبيل المثال، أخرج ناجيزا أوشيما للتليفزيون الياباني فيلم «الجيش الإمبراطوري المنسي» (١٩٦٣) عن المحاربين الكوريين القدامى بالجيش الياباني الذين وجدوا أنفسهم وسط صراع بين كوريا واليابان ودون الاستعانة بخدمات المحاربين القدامى. قدَّم أيضًا المخرج المعروف كون إيشيكاوا فيلم «أوليمبياد طوكيو» (١٩٦٥)، وهو إشادة ساخرة بعمل الألمانية ليني ريفينشتال الذي نفِّذ بإتقان وحِرفية لمصلحة الحكومة النازية، فقد راقب إيشيكاوا الرياضيين عن كثب وصوَّرهم لا كرموز للأمة كما فعلت ريفينشتال، ولكن كأفراد يكافحون من أجل مجدهم الشخصي. وفي الهند، أنتجت «السينما الموازية» أفلامًا وثائقية على طريقة سينما الواقع، كان من بينها فيلم «الهند ٦٧» (١٩٦٧) لإس سوكديف.

داخل المؤسسات

أنتج فريد وايزمان — وهو محامٍ ولد ببوسطن وتحول إلى مخرج، وكانت أعماله تقدم في الأساس على شاشة التليفزيون العام — أعمالًا ذات طابع ثابت ومختلف تمامًا، وقد بدأ مشواره السينمائي الذي يكشف النقاب عن التجربة التي عاشها مع المؤسسات بفيلم «حماقات تيتيكت» (١٩٦٧)، الذي يصطحب المشاهدين إلى داخل مستشفى للأمراض العقلية بماساتشوستس. ومن ضمن الموضوعات العديدة لأفلامه مدرسة ثانوية، ومستشفى، ومعسكر لتدريب المجندين الجدد، وحديقة حيوان، وفرقة باليه، وقاعة محكمة، ومشروع إسكان، ومجلس تشريعي، وهي عادة ما تؤرخ لعلاقات تبرز ضحايا النظم الاجتماعية المجردة المطبقة بصرامة، ومن يعملون على تطبيق هذه النظم. ولا يرى المُشاهد مخرج الفيلم قط، ولا يوجد سرد؛ فالمُشاهد يدخل ببساطة إلى عالم المؤسسات وحسب، ولكن من خلال مونتاج حاد واختيارات حادة للموضوع، انطلق بقسوة في تقييم نظام ومجتمع يعاملان البشر كمشكلات يجب السيطرة عليها. وفي فيلم «حماقات تيتيكت»، ربما كان هذا الاتهام الضمني القاسي هو ما حدا بسلطات ولاية ماساتشوستس لحظر الفيلم، حتى بعد أن فاز بجوائز؛ إذ دفعوا بأن وايزمان لم يحصل على إذن من عدد كافٍ من الأشخاص في الفيلم لتجسيدهم تجسيدًا قانونيًّا على الشاشة، وربما كان للفيلم أيضًا تأثير في إغلاق المؤسسة التي جُسدت فيه، ومنذ ذلك الحين بدأت أعمال وايزمان تعرض عرضًا دائمًا على التليفزيون العام الأمريكي، حيث كانت دليلًا مهمًّا على مزاعم التليفزيون العام فيما يتصل بالابتكار والأهمية.

ولكي نرى مدى الاختلاف الذي قد يستخدم به منهج الملاحظة بالمشاركة في المؤسسات، يمكن أن نقارن الصورة التنديدية لفيلم «حماقات تيتيكت» بأفلام أخرى تركز على مؤسسات الصحة العقلية؛ ففي واحد من أشهر أفلام المخرج الوثائقي آلان كينج، وهو فيلم «واريندال» (١٩٦٧)، يقضي المشاهدون وقتًا في مدرسة للشباب المضطربين نفسيًّا. كان فلاهرتي هو المثل الأعلى الأول لآلان كينج؛ فقد كان كينج معارضًا لنموذج جريرسون «الدعائي»، الذي كان شائعًا للغاية في دول الكومنولث؛ إذ إن جريرسون في اعتقاده قد ألبس الشكل «سترة قيد سياسية». ويعكس منهج فيلم «واريندال» وجهة نظره الإنسانية، ففي حين كان تيتيكت مكانًا مرعبًا، يبدو واريندال — الذي كان تجربة أثارت إعجاب كينج — كسجن وملاذ يأخذ فيه المرضى على عاتقهم مسئولية الاسترداد المؤقت لعافيتهم مستعينين بمساعدة. لقد صور كينج واريندال كمنظومة معيبة تتألف من أشخاص معيبين، ولكنهم لطفاء عمومًا.

أخيرًا، يمكننا النظر إلى فيلم «النحفاء» (٢٠٠٦)، الذي يجسد عيادة أمريكية تتعامل مع اضطرابات الأكل. أخرج الفيلم المصور لورين جرينفيلد، وأنتجه آر جيه كاتلر، أحد التلاميذ النوابغ لإيه بينبيكر، وهو يصحب المشاهدين إلى داخل العيادة فترة من الوقت، ويطلعهم على وجهات نظر كل من المرضى وفريق العمل. وعلى عكس أحكام وايزمان أو تعاطف كينج، يضفي الفيلم سحر استراق النظر على موضوعه.

الإثارة

استخدم بعض المخرجين التقنيات الجديدة للإثارة والحث مثلما استخدموها للملاحظة، كما أشار إريك بارنو، ففي فرنسا استخدم جان روش — وهو مخرج وعالم أنثروبولوجيا أراد أن يترك أبطاله يروون قصصهم بأنفسهم — تكنولوجيا أفلام ١٦ ملليمترًا الجديدة (وفي غضون ذلك عمل فريقه على صقل التجديدات في تقنية الصوت المتزامن) لسبر أغوار الوعي فيما بعد الحرب والاستعمار في باريس. وقد استعارت مجموعته مصطلح «سينما الواقع» من مجلة «كينو برافدا» أو سينما الحقيقة التي كان يحررها دزيجا فيرتوف، وقدموا فيلم «تاريخ صيف» (١٩٦١).

يرصد الفيلم التفاعلات بين مجموعة صغيرة من الشباب اختيرت من بين أصدقاء المخرج المشارك إدجار مورين في مجموعة صغيرة من الراديكاليين السياسيين. يجري الأصدقاء لقاءات مع غرباء في الشارع ويصورون حواراتهم الخاصة. يصدم الطلاب الأفارقة بقصة أحد الناجين من الهولوكوست، ليكشفوا بدورهم العنصرية اليومية التي تمارسها بلادهم تجاه المستعمرين، فيما تبحث سيدة إيطالية مريضة بالعصاب عن السعادة العادية بلا جدوى. وفي داخل الفيلم، تعلق الشخصيات على الأجزاء السابقة من الفيلم، ويدور جدل بين المخرجين حول المناهج المختلفة.

دوت أصداء هذه التجربة الصغيرة بين الناشطين الذين يعملون بمجال الإخراج، فقد استخدم المخرج الراديكالي كريس ماركر تقنيات الفيلم لمواجهة الفرنسيين بأسئلة على غرار: «هل تعتقدون أننا نعيش في ديمقراطية؟» في فيلم «مايو الجميل» (١٩٦٣)، وأجرى المخرج التشيكي جان أبتا استطلاعًا للرأي بين الشباب أمام الكاميرا عن أحلامهم وآمالهم، وذلك في فيلم «الأمنية الكبرى» (١٩٦٤)، أما في فيلم «الرأي العام»، فقد سجل المخرج البرازيلي أرنالدو جابور آراء سكان ريو دي جانيرو من الطبقة الوسطى، وهو صوت لم يُسمع من قبل في السينما والتليفزيون البرازيليين.

الجدال

أصبحت سينما الواقع مصدرًا للجدال والخلاف الشديد، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الطبيعة التعميمية لادعاءات أنصاره بشأن الحقيقة؛ (فقد قلل روبرت درو من شأن معظم الأفلام الوثائقية السابقة بأسلوب مرح في كلمة بسيطة: «مصطنعة».) في مارس من عام ١٩٦٣، وخلال مؤتمر للسينما عقد في ليون بفرنسا، ناقش صناع الأفلام المنهج الجديد، وقد وجه المتحمسون له نقدًا لاذعًا للنموذج الأبوي والوعظي لأفلام جريرسون الوثائقية، واحتفوا بنزاهة ودقة سينما الواقع، ورفض آخرون ذلك.

عبَّر المخرج والناشط الهولندي جوريس إيفينز عن استيائه من الادعاء الضمني في مصطلح «سينما الواقع» بأنها كانت بالفعل تخبر الحقيقة، بينما الأشكال الأولى من الأفلام الوثائقية لم تكن تفعل ذلك، وتابع قائلًا إن الادعاء تعامل بسطحية مع أسئلة لها أهميتها؛ مثل «أي حقيقة؟ ولمن؟ من الذي يراها؟ ولمن تعرض؟» وقال إن الإمكانيات الرائعة للمعدات خفيفة الوزن جازفت أيضًا «بلمس الواقع على السطح بدلًا من اختراقه». وأنت تحتاج في بعض الأحيان — على حد قوله — للتوقف من أجل الملاحظة وتقديم «أفلام نضالية»، واتهم المخرج الراديكالي الفرنسي جان لوك جودار مؤيدي سينما الواقع بأنهم قد اختاروا حرمان أنفسهم من ميزة الاختيار والتأمل: «وهكذا، ونظرًا لحرمانها من الوعي، تفقد كاميرا ليكوك، بالرغم من أمانتها، سمتين أساسيتين للكاميرا: الذكاء والإدراك.»

ومنذ ذلك الحين، لم تتوقف المجادلات، حتى الاسم الذي اتخذه هذا المنهج كان مثيرًا للجدل؛ فعلى الرغم من أن روش قد أعطى سينما الواقع اسمها، فقد بدأ مع مخرجين فرنسيين آخرين في تسمية أعمالهم ﺑ «السينما المباشرة». في غضون ذلك في المملكة المتحدة، حيث منشأ السينما المباشرة، أصبحت سينما الواقع جامعة لأي فيلم لا يشتمل على سرد، ويصوَّر بكاميرا يدوية محمولة، ويسجل حدثًا، مثلما كانت في الولايات المتحدة.

يرفض بعض المخرجين هذا المصطلح، ويرفض آخرون المنهج بأكمله؛ فقد قال المخرج الألماني فيرنر هيرتزوج لدي إيه بينبيكر: «سينما الواقع هي سينما المحاسبين.» وأطلق فريد وايزمان على أفلامه «خيالات الواقع»، لافتًا إلى أنه لم يكن يعتزم تجسيد الواقع بموضوعية، بل عرض «ما» يراه وما يجده مثيرًا فيه. وحتى هذه العبارة — على حد قوله — كانت «مصطلحًا ساخرًا منمقًا» ابتُكر للسخرية من ادعاءات سينما الواقع، وشن المخرج الوثائقي الأمريكي إيرول موريس هجومًا عنيفًا على سينما الواقع لادعائها «أنك بشكل ما إذا تلاعبت بكاميرا بين يديك، وتسللت عبر أركان الغرف، واختبأت خلف الأعمدة، فسوف يحل اللغز الديكارتي كنتيجة لذلك، وأن نظرية المعرفة بشكل ما لن يعود لها دور فيما تفعله، وأن هذه هي سينما الواقع، تجسيد الواقع كما يتكشَّف أمام الكاميرا!» أما ليندساي أندرسون، أحد رواد السينما الحرة، فكان يعتقد أن السينما المباشرة لم تكن «إلا عذرًا لكيلا تكون مبتكرًا ولا تصبح إلا صحافيًّا مدعيًا!»

لا يزال المخرجون الذين يتباهون بإطلاق مسمى سينما الواقع على أعمالهم تحيرهم مسألة أي نوع من الحقيقة تقدمه سينما الواقع، فقد صرح جان روش بأن عملية صناعة الفيلم هي «نوع من الحفز يتيح لنا — على نحو يشوبه بعض الشكوك — الكشف عن جزء خيالي من أنفسنا جميعًا، ولكنه من وجهة نظري هو الجزء الأكثر واقعية من أي فرد». وقد تفادى المصور السينمائي والمخترع الكندي مايكل برولت القضية ببراعة حين أخبر الناقد بيتر وينتونيك قائلًا: «لا يمكن أن تقول الحقيقة، بل يمكنك أن تكشف عنها.» أما المخرج الكندي وولف كونيج («الصبي الوحيد»)، فقد عاد إلى حجة مألوفة حين أخبر وينتونيك قائلًا: «إن كل لقطة بمنزلة كذبة، ولكنك تقول كذبة لكي تخبر بالحقيقة.» إن هذه الالتفافات الكثيرة في العبارة تعيد إلى الأذهان التعليق الساخر للمنظِّر نويل كارول: «لقد فتحت السينما المباشرة علبة من الديدان ثم أكلتها فيما بعد.»

تحدى النقاد الادعاء القائل إن صناع الأفلام يعرضون حقيقة صريحة بلا تنميق، حتى ولو كانت شخصية؛ فقد أوضحت جين هول كيف كان دي إيه بينبيكر، في الواقع، يشكل الفيلم الوثائقي لنقل انتقادات المخرج للإعلام، وذلك في فيلمه الرائد «لا تنظر للخلف» الذي يقدم صورة واقعية لبوب ديلان في أسفاره، كذلك وجه كل من توماس بنسون وكارولين أندرسون اتهامًا لأفلام فريد وايزمان بأنها تنطوي على تناقض؛ حيث إنه يلعب دور المؤلف، وقدم عملًا مليئًا بالمضمون، ولكنه بعد ذلك يخفي مضمونه عن الجمهور، ومن ثم يزيل الغموض عن الحقائق ويضفي غموضًا على دوره. واستكشف إيه ويليام بلوم احتمال أن يكون من الممكن لعفوية وعاطفية سينما الواقع أن يحجبا الإدراك.

وأشار آخرون إلى أن المنهج قد يكون له نتائج مختلفة عن تلك التي قد يأمل فيها المخرجون الوثائقيون، فقد تجاهل فيلم «ميدل تاون» (١٩٨٢) لبيتر ديفيز، الذي يفترض أنه ملخص لبحث اجتماعي، استنتاجات البحث في سبيل التركيز على الأزمة ولحظات الذروة خلال فترة من حياة البلدة. لقد فضل منهج سينما الواقع الذي اختاره — كما ذكر براين وينستون — الصراع اليومي على الرؤى الاجتماعية للبحث. وبعد عام ١٩٦٨ ذهب المخرج والمنظِّر الراديكالي الفرنسي جاي هينبل إلى أن بعض التقاليد التي تبدو شفافة — مثل المشاهد الواقعية لعمال يتحدثون، التي يعتقد النشطاء السينمائيون أنها قد تعبئهم من أجل حدث ثوري — يمكن ببساطة أن تلخص «الوعي الزائف» للعمال أنفسهم، وقد صرح قائلًا: «من الأفضل أن تعترف صراحة بالمعالجة وتجعلها مستساغة للعين والأذن من خلال الاستفادة من الترسانة الكاملة لأدوات السينما.»

لطالما أثير الحديث عن الضوابط الأخلاقية لعلاقة المخرج الواقعي بأبطاله؛ فالمخرجون قد يغيرون الواقع الذي يصورونه عن غير قصد، وقد يعانون في تحديد قدر التدخل اللازم، فقد تعقب صناع فيلم «أحلام الطوق» (١٩٩٤) — من إنتاج شركة كارتمكوين فيلمز — عائلتين فقيرتين من الزنوج على مدى أكثر من خمس سنوات، وأحيانًا ما كانوا يساهمون في دخل الأسرة؛ فقد كانوا يعتقدون أن المساهمات المتواضعة هي جزء من علاقة قائمة على النوايا الحسنة مع العائلات المكافحة، وكانت الأم في عائلة لاود تشكو من أن عائلتها قد لا تستطيع محو آثار الدعاية التي حظوا بها في فيلم «عائلة أمريكية» (١٩٧٣)، وبالفعل ظلت عائلة لاود هدفًا لاهتمام غير مرغوب فيه لعقود. وعندما صوَّر الأخوان مايسلز حفلًا لفريق رولينج ستون للفيلم الذي أصبح عنوانه «أعطني مأوى» (١٩٧٠)، دُفع لهيز إيجلز من أجل حفظ النظام، ولكن حدثت مشاجرة مع أحد أفراد الجمهور أسفرت عن حالة وفاة، وصوَّرها فريق الفيلم في الفيلم، مما أدى إلى توجيه قدر من الانتقاد. أما فيلم «كرامب» (١٩٩٥) لتيري زويجوف، فقد عرض الحياة الخاصة لعائلة رسام الكاريكاتير آر كرامب المضطربين نفسيًّا على سبيل الترفيه السينمائي؛ لقد حصل زويجوف على موافقة كرامب وعائلته، ولكن البعض شكك في قدرة أفراد العائلة الأكثر اضطرابًا على تقديم تلك الموافقة.

fig7
شكل ١-٧: استخدمت كارتمكوين فيلمز سينما الواقع لسرد قصص مجهولة، بما في ذلك قصص الأطفال الزنوج («أحلام الطوق» ١٩٩٤). الفيلم من إنتاج كارتمكوين فيلمز.

لم تعد سينما الواقع ثورية؛ فقد صارت اللغة الافتراضية للأفلام الوثائقية الموسيقية، وجميع أنواع الأفلام الوثائقية التي تصور ما يحدث ما وراء الكواليس؛ إنها جزء من تركيبة الأعمال البوليسية والمسلسلات الوثائقية، وجزء من أدوات المصداقية لبرامج تليفزيون الواقع، إنها جزء ثابت في التوقعات الخاصة بأعمال الفيديو الموجهة للعامة لتوسيع نطاق التعبير، مثل مشروع محطة بي بي سي «يوميات مرئية» في التسعينيات. واعتمدت عليها أعمال المخرج البريطاني نيك برومفيلد، الذي لاقت تأملاته المثيرة في حياة المشاهير وسيئي السمعة نجاحًا عالميًّا. يشيع استخدام تقنيات سينما الواقع في الإعلانات والدعاية السياسية أيضًا لإضفاء الحيوية والمصداقية. لقد فقد المنهج جدته، لكنه لم يفقد قدرته على إقناع المشاهدين بأنهم حاضرون ويشاهدون شيئًا غير مصطنع وحقيقيًّا بلا نزاع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤