الفصل الثالث

خاتمة

تطور الفيلم الوثائقي مع ظهور الإمكانات التكنولوجية، فقد أدى حلول الألوان والصوت وتكنولوجيا ١٦ ملليمترًا إلى تغيير الطريقة التي يمكن لصناع الأفلام من خلالها تصوير الواقع ورواية قصصهم. أحدث حلول الفيديو أيضًا تغييرًا جذريًّا على صعيد الأشخاص الذين استطاعوا تصوير الواقع، وأدى إلى توسيع نطاق الأشخاص الذين يروون القصص، وقدمت تقنيات إيماكس والبث المرئي عالي الوضوح مشهدًا جديدًا على شاشاتنا. ومرة أخرى يحدث تعديل وتغيير جذري في الفرص والإمكانيات من خلال التحويل الرقمي والإنترنت، فقد أتاحا تأجير الفيديو بالطلب عبر البريد، ومسجلات الفيديو الرقمي، وتليفزيون الإنترنت وأفلام الهواتف الخلوية.

غير أن أيًّا من هذه التغييرات لم يقضِ على الفيلم الوثائقي الطويل، بل استثمرت ذلك الشكل بقيمة أعلى. وأفلام مثل «غرفة التحكم» لجيهان نجيم (وهو تجربة عمرها ثلاثة أشهر مع قناة الجزيرة الإخبارية أثناء بدء حرب العراق)، وفيلم «حجمي الكبير» لمورجان سبورلوك (عن السمنة والأطعمة السريعة) اكتسبت مصداقيتها ومشروعيتها من إنجازاتها في المهرجانات ودور العرض في عام ٢٠٠٤، وقد ازدادت القيمة السوقية للنظارات المتطورة، مثلما ظهر من خلال نمو إنتاج إيماكس.

غير أن هذه التغييرات جعلت من الممكن تخيل الفيلم الوثائقي على نطاق أوسع كثيرًا، فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام مقاطع الفيديو والأفلام الوثائقية المصغرة لاستنهاض التزام مشاهد شبكة الإنترنت، وهو ما تثبته منظمتا ويتنيس ووان وورلد تي في. وبإمكان المنظمات غير الحكومية في كل مكان أن تنتج فيديو لأعضائها، والمتبرعين لها، وأنصارها، إما بمفردها أو بالتعاون مع شركات إنتاج الأفلام الوثائقية، ويمكن للشباب أن ينتجوا فيديو بأي طول ولأي غرض بمفردهم أو بالتعاون مع متخصصين.

ويمكن دمج الفيديوهات الطويلة، وفيديوهات الهواة، وفيديوهات الإنترنت في نفس المشروع، وقد عمل مشروع رسائل الفيديو لعام ٢٠٠٤ في البلقان، الذي نفذه الفريق الهولندي المكون من إريك فان دن برويك وكاتارينا ريجر، على تيسير تبادل رسائل الفيديو بين الناس الذين انقطعت بينهم الصلات بفعل الحرب، فقد أنتج الفريق حلقات تليفزيونية مدة الواحدة منها نصف ساعة تسجل لحظات التفاعل، وارتحل الفريق عبر منطقة البلقان بشاحنة مزودة بوصلة إنترنت ليتيح بذلك للناس التواصل مع الأصدقاء والأقارب الذين فقدوا الاتصال بهم منذ فترة طويلة.

وظفت العديد من الحركات والمنظمات السياسية الأفلام الوثائقية أيضًا في قضاياها؛ فعقد الهنود في المكسيك الذين انضموا لحركة زاباتيستا — التي أعلنت عن نفسها للعالم تحت اسم جيش زاباتيستا للتحرير في عام ١٩٩٣ عن طريق الإنترنت — شراكة مع ناشطين دوليين لإنتاج فيديوهات عن حياتهم وكفاحهم، وقد حظيت الفيديوهات بالمشاهدة في محيط المجتمع والمنظمات الدينية وعلى الإنترنت أيضًا، كذلك صنع الشباب الذين انجذبوا للحركة المضادة للعولمة أفلامًا تشهد على مظاهراتهم وأهدافهم الثورية العلنية، بما في ذلك فيلم «الحرب العالمية الرابعة» (٢٠٠٤) إنتاج شركة بيج ماوث ميديا. وبواسطة كاميرات القطع الصغير، وثَّق القرويون الصينيون ثورتهم ضد مصادرة الحكومة للأراضي من أجل مشروعات التنمية وجذبوا اهتمامًا دوليًّا.

بالطبع لا تحل التقنيات الجديدة مشكلات المصداقية القديمة. إن الفيلم الوثائقي سيئ السمعة «تغيير فضفاض»، وهو سرد لنظريات المؤامرة المشكوك فيها فيما يتعلق بهجمات ١١ سبتمبر ٢٠٠١ الإرهابية، لا يزال يشاهد على نحو دائم على الإنترنت. أيضًا جذبت فيديوهات مدونة الفيديو لونلي جيرل ١٥ على موقع يوتيوب، التي تبرز الخطوات الجريئة الأولى لفتاة متدينة منعزلة نحو التمرد، قاعدة جماهيرية ضخمة قبل أن يعترف مجموعة من الفنانين بأن الأمر كله كان من نسج الخيال.

إن التقنيات الجديدة تزيد على نحو ضخم من حجم الإنتاج تحت عنوان الفيلم الوثائقي، وهذا الحجم قد يخلق أنواعًا فرعية جديدة، أو قد يفرض إعادة التفكير في النهاية، فعندما ينتج الساسة، وتلاميذ الصف الرابع، ومسئولو تسويق المنتجات، أفلامًا وثائقية قابلة للتحميل، هل سنعيد رسم ضوابط حول ما نعنيه ﺑ «وثائقي»؟

كما رأينا، يُعرَّف الفيلم الوثائقي كشكل فني بالتوتر القائم بين ادعاء المصداقية والحاجة لاختيار وتجسيد الواقع الذي يرغب المرء في إطلاع الآخرين عليه، فالأفلام الوثائقية هي مجموعة من الاختيارات؛ عن الموضوع، وأشكال التعبير، ووجهة النظر، وحبكة القصة، والجمهور المستهدف.

وفي الوقت الذي قد يبدو فيه ذلك بديهيًّا، فإن هذه التعريفات جرى التعتيم عليها أيضًا في الكثير من المجادلات والمناقشات عن الفيلم الوثائقي. ومؤسسو الفيلم الوثائقي — فلاهرتي، وجريرسون، وفيرتوف — لم يعبروا عن التوتر الذي يحرك الأفلام الوثائقية بالكلمات بقدر ما عرضوه عمليًّا؛ فقد وعد كل منهم بالوصول إلى الواقع من خلال الفن، دون توضيح النقطة التي أخلَّ عندها الترخيص الفني بالعقد الضمني المبرم مع المشاهد. وقد كانت التقنيات الجديدة، مثل تكنولوجيا ١٦ ملليمترًا، دائمًا ما ينادى بها كطرق للخروج من هذا المأزق، غير أنها لم تخلق سوى مزيد من الطرق لاستكشافه. إن تطبيق المعايير الصحفية العالية يمكن أن يؤدي إلى الدقة، ولكن تلك المعايير لا تحل المشكلة المتمثلة في أن الفيلم الوثائقي دائمًا ما يجسد الواقع بدلًا من الاكتفاء بعرضه.

سوف تستمر الأفلام الوثائقية في خوض صراع مثمر مع أسئلة على غرار: كيف يجسد صانع الفيلم الواقع بأسلوب موثوق فيه؟ ما الحقائق التي ستقال؟ لِمَ هي مهمة، ولمن؟ ما مسئولية صانع الفيلم تجاه أبطال العمل وما طبيعة علاقته بهم؟ من الذي تتاح له الفرصة لصنع أفلام وثائقية، وكيف ينظر إليه، وتحت أي قيود؟ وسوف يعمل صناع الأفلام بالأدوات المتاحة بين أيديهم، التي تشمل التقاليد الشكلية التي تعبر للمشاهد عن الصدق، والدقة، والحضور الفريد؛ تلك التقاليد التي يمكن أن تشمل أي شيء من الراوي ذي الصوت الجهوري الرنان إلى الكاميرا المهتزة. تشمل الأدوات أيضًا التوقعات التي يجلبها المشاهدون معهم من الأنواع الفرعية الثابتة، وتشمل مشاركة السلطات والمشاهير، واستحسان المؤسسات التي يثق بها المشاهدون.

سوف يستفيد صناع الأفلام أيضًا من دراسة كفاح مخرجي الأفلام الوثائقية السابقين من أجل العمل بصدق وأمانة، سواء دراسة الشغف السياسي لأمثال جوريس إيفينز أو باربرا كوبل، أو المحاولات العابرة للثقافات لأمثال جان روش، والاستكشاف التعاطفي لأمثال آلان كينج، أو المهمة التاريخية لأمثال هنري هامبتون.

وسوف تظل مشكلة كيفية تجسيد الواقع مشكلة تستحق المصارعة معها، لأن الفيلم الوثائقي يقول: «لقد حدث هذا بالفعل، وكان مهمًّا بما يكفي عرضه عليك، فلتشاهده.» قد تكمن أهمية الفيلم الوثائقي في برامج الشئون العامة أو الترفيه الذي يحركه المشاهير، قد يكون مهمًّا للاعب تزلج في الرابعة عشرة من عمره، أو لسكان مبنى مقسم إلى شقق، وقد يكون مهمًّا حتى نهاية الشهر أو نهاية الفصل الدراسي أو نهاية العمر. إن الفيلم الوثائقي يخلق روابط لها أساسها في تجربة الحياة الواقعية التي لا يمكن إنكارها؛ لأن بإمكانك أن تراها وتسمعها.

حاشية عن التاريخ والمعرفة العلمية

إن مادة هذا الكتاب قائمة على منظومة ضخمة من المواد العلمية والبحثية، صنع الأكاديميون جزءًا كبيرًا منها، وهذه النبذة ترسم مخططًا لتطور المعرفة العلمية الخاصة بالفيلم الوثائقي، على أمل أن يساهم هؤلاء الذين أسرتهم تحديات الفيلم الوثائقي في فهمه.

إن معظم صناع الأفلام ينشغلون بصنع أعمالهم لدرجة يعجزون معها عن وصفها، ناهيك عن أرشفتها ووضعها في سياق، فنادرًا ما يتوافر للصحفي رفاهية البحث التاريخي والمعرفة المقارنة للمجال (باستثناءات لافتة للأنظار مثل جيه هوبرمان، وروبي ريتش، وجوناثان روزينبوم، وستيوارت كلاوانز)؛ لذلك فإن الأعمال الأكاديمية تعد مصدرًا أساسيًّا للفيلم الوثائقي، فالمعرفة العلمية تحدد المبدعين المهمين والاتجاهات المهمة، وتحتفظ بسجل لما حدث من قبل، وتضع أيضًا الأجندة لما نعتقد أنه القضايا أو المشكلات الأساسية في الفيلم الوثائقي. إنها عملية مستمرة وتسير بسلاسة.

على الرغم من ذلك، فالمبدعون كانوا هم المسجلين الأوائل لتاريخ الفيلم الوثائقي، وكانوا متحيزين كما هو متوقع. وعلى مدى عقود كان أكثر الكتاب غزارة في الإنتاج وأوسعهم انتشارًا مؤيدين للأسلوب الجريرسوني، فقد ذهب الكاتب والمعلم والمخرج بول روثا إلى أن الفيلم الوثائقي كان «درسًا موجهًا لإيقاظ الوعي المدني بين العامة»، وكانت كتابات روثا جزءًا من العمل التبشيري الذي قام به لرفع ذلك الوعي، وقد تُرجم بحثه المعنون «الفيلم الوثائقي: استخدام الفيلم لتفسير حياة الناس بإبداع وبمصطلحات اجتماعية كما هي قائمة في الواقع» إلى عدة لغات، واستخدم على نطاق واسع في الدورات التدريبية. وقد كان يروي التاريخ — مركِّزًا فقط على أوروبا — كخلفية لتعاليمه بشأن إنتاج الأفلام، وكان ينصح بالتعلم من الملاحظة الواعية لفلاهرتي برومانسيته، ومن التجارب الجمالية للأوروبيين مثل كافالكانتي وروتمان وإيفينز، ومن حماس فيرتوف لأسلوب الريبورتاج، والأساليب الدعائية لأيزنشتاين وجريرسون، لكي تصنع عملك المؤثر اجتماعيًّا.

السرد التاريخي

أُرسيت أسس التأريخ الدقيق والموثوق لتاريخ الفيلم الوثائقي في عام ١٩٧١ على يد إريك بارنو، فقد أخذ الباحث والمخرج الأمريكي، الهولندي المولد، على عاتقه مهمة كتابة سجل تاريخي عالمي بحق للفيلم الوثائقي تحت عنوان بسيط هو «الفيلم الوثائقي»، أخذته مهمته التي تولاها وهو يعمل بالتدريس في جامعة كولومبيا إلى أكثر من عشرين دولة في العالم، من ضمنها اليابان، والهند، ومصر، والاتحاد السوفييتي، ودول في أوروبا الشرقية، وكذلك دول أوروبا الغربية المنتجة للأفلام، وبرؤية إنسانية عريضة وفضول صحي، سأل نفسه عن الظروف التي تصنع الإمكانيات لأنواع معينة من الأعمال (مثل أفلام الدعاية وأفلام الفن الطليعي)، وركَّز على الأعلام الرائدة والمؤثرة.

في التاريخ الاجتماعي البسيط والموثوق الذي نتج عن بحث بارنو، لم يعد فلاهرتي وجريرسون وفيرتوف فصائل متحاربة تنتظر الحكم عليها، ولكن أصبحوا مبدعين تاريخيين نفخوا الحياة في التاريخ على نحو مختلف. لقد استخدم المبدعين الكاريزميين كمرشدين عبر التاريخ، ليضرب بهم أمثلة على العصور والمناهج. يبدأ الكتاب بالتجارب الأولى في الأفلام الواقعية في بدايات السينما. ومن ضمن الآباء المؤسسين لدى بارنو (وكانت البداية التأسيسية يسيطر عليها الرجال، على الرغم من الدعم المهم للغاية الذي قدمته النساء في مجال الإنتاج، والمونتاج، والتسويق) فلاهرتي المستكشف، ودزيجا فيرتوف المراسل الصحفي، والشاب جوريس إيفينز الرسام، وجريرسون المدافع.

يتعقب الكتاب نمو النزعة الدفاعية القوية في باكورة أعمال مخرجة الأفلام الوثائقية الفاشية الألمانية ليني ريفينشتال، وأعمال بير لورنتز في الولايات المتحدة المؤيدة لبرامج الإصلاح الاقتصادي، وحركة صناعة الأفلام اليسارية خلال الثلاثينيات، وأعمال الحركة الوثائقية البريطانية التي وصلت لأوجها في دعاية الحرب العالمية الثانية خلال فترة الحرب. يصف الكتاب استخدام الفيلم الوثائقي في فترة ما بعد الحرب، كالشعر، والتاريخ، والإثنوجرافيا، ومناصرة القضايا، ويتعرض لصعود الأفلام الوثائقية المدعومة، والفيلم الوثائقي التليفزيوني. ساهم ظهور حركة معارضة دولية أيضًا في تطوير أساليب تعبيرية جديدة. وتعقد مقارنة بين منهج الرصد التسجيلي الذي يمثله فنانون مثل ريتشارد ليكوك وألبرت وديفيد مايسلز وفريديريك وايزمان وآلان كينج، وبين منهج سينما الواقع الأكثر إثارة واستفزازًا الذي طبقه فنانون في جميع أنحاء العالم، وينتهي الكتاب بمجموعة من الحركات السينمائية المنشقة، مثل: الأفلام المستقلة في الإمبراطورية السوفييتية الجديدة، والأفلام المعارضة للحرب الأمريكية في فيتنام، والأفلام المعارضة للنمو الصناعي في اليابان، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.

وبأسلوب يخلو من العاطفة وثرٍ بالتفاصيل، صوَّر بارنو صناع الأفلام الوثائقية عمومًا كأصوات للحرية، والاقتناع، والتلاحم مع العالم، فقد أظهرهم يستكشفون الوسيط لرواية قصص أهملت من جانب الإعلام السائد الذي أصبح أكثر قوة ونفوذًا أكثر من أي وقت مضى، التي حللها فيما سبق في سجل تاريخي من ثلاثة أجزاء عن التليفزيون. وسرعان ما استخدم كتاب «الفيلم الوثائقي» في محاضرات دراسات السينما، التي كانت شعبيتها تنمو نموًّا سريعًا. في نفس الفترة الزمنية، أنتج آخرون نصوصًا شهيرة أيضًا نبعت من الاستخدام في حجرات الدراسة وتدريس الخبرة الإنتاجية، فقد أنتج لويس جاكوبس — على سبيل المثال — كتاب مقتطفات أدبية من المؤلفات عن الفيلم الوثائقي، وقد نظمه حسب التسلسل الزمني إلى حد ما، وتنوَّعت موضوعاته ما بين التجديد (العصر التأسيسي)، ومبدأ المحافظة (فترة ما بعد الحرب)، والتلاحم والانخراط (سينما الواقع). طور ريتشارد بارسام أيضًا هيكلًا مفاهيميًّا يبحث في الفيلم الوثائقي كفن داخل منهج جمالي أطول للواقعية، الذي أخذ في الاعتبار أيضًا نطاقًا واسعًا من التعبير، وذلك في كتاب «الفيلم الواقعي: تاريخ نقدي». نشر جاك إليس، الذي عمل مع جريرسون، أيضًا كتاب «فكرة الفيلم الوثائقي»، الذي ركز على الفيلم الوثائقي الاجتماعي باللغة الإنجليزية، وأظهر بجرأة عشقه لجريرسون، وقد حدَّثه فيما بعد مع بيتسي ماكلين. غير أن النطاق الجغرافي والجمالي والوضوح الشديد لبارنو لم يضاهِه فيه أحد من مؤرخي التاريخ التجميعي.

المعرفة العلمية التحليلية

تطورت المعرفة العلمية عن الأفلام الوثائقية كدراسات سينمائية، ولدت من رحم أقسام دراسة الأدب، وأصبح بعض الطلاب أساتذة في هذا المجال. لقد جذبت بدايات المجال البحث العلمي نحو التركيز التحليلي على النصوص النموذجية للباحثين الأدبيين؛ مع العلم بأن النصوص في هذه الحالة هي الأفلام، ومع نمو المجال الأكاديمي للدراسات الثقافية — دراسة تكوين الثقافة، مع الانتباه خصوصًا لظروف الإنتاج والاستقبال — نمت أيضًا الدراسات الخاصة بكيفية نمو الحركات السينمائية وكيف كانت الأفلام تُستقبل وتُستخدم.

استكشف الأكاديميون على نطاق واسع ومكثف التعقيدات الكامنة وراء ادعاء الفيلم الوثائقي المصداقية بشأن العالم الواقعي، ذلك الادعاء الذي يبدو بسيطًا، فقراءاتهم الدقيقة للأفلام حللت تحليلًا دقيقًا الكيفية التي يحقق بها صناع الأفلام وَهْم العرض الشفاف للحقيقة، وغالبًا ما كانوا يضفون قاعدة غنية من المعرفة البيوجرافية والتاريخية على قراءاتهم الدقيقة أيضًا. علاوة على ذلك، كانوا يتحدون ويعيدون تمحيص سمعة ودور الأعلام المؤسسين، خاصة جريرسون وفلاهرتي.

في هذا الشكل الفني، طور الأكاديميون تصنيفاتهم الخاصة لاستيعاب ونقد أعمال المخرجين الوثائقيين في إطارها، فالتصنيف يرسي لهم الأساس لتفسير وتحليل العمل، وتتوقف قيمة مثل هذه التصنيفات على مساعدتها في شرح الكيفية التي يعمل بها المخرجون الوثائقيون، والاستمرار في ابتكارها، وتختلف التصنيفات البحثية اختلافًا حادًّا عن التصنيفات المستخدمة في سوق العمل، حيث الموضوعات (التاريخ، والحياة البرية، والعلوم، والأطفال) هي المهيمنة، فهي تركز على «التقنيات» التي يستخدمها صناع الأفلام لتجسيد الواقع، ومن ثم تصوغ مشكلة التجسيد بطريقة من شأنها إقناع المشاهدين بأنه ليس تجسيدًا على الإطلاق، ولكنه الواقع؛ فعلى سبيل المثال، وصف بيل نيكولز أربع طرق لمخاطبة المشاهد في الفيلم الوثائقي، لكل منها تداعيات بالنسبة لادعاءات المصداقية: الإيضاحية (مثل الراوي ذي التأثير والثقل)، والمراقبة (مثل أعمال الأخوين مايسلز)، والتفاعلية (قصص التاريخ الشفهي والحوارات وما شابهها)، والانعكاسية (الأعمال التي تعلق على الشكل الذي تنتمي إليه، مثل أعمال فيرتوف أو فيلم «معركة الفئوس»). وقد تعرض نيكولز وآخرون لهذه التصنيفات بالنقد وأضافوا إليها؛ فأضاف كيث بيتي إلى القائمة الطريقة التجديدية (الدوكودراما)، والترفيه التسجيلي (تليفزيون الواقع). وصف مايكل رينوف أيضًا أربعة أشكال وظيفية للأفلام الوثائقية: التسجيلية، والإقناعية، والتحليلية، والتعبيرية.

وقد كرَّس العديد من الأكاديميين والباحثين أنفسهم لتأريخ وتحليل الأفلام الوثائقية التي تتناول القضايا والنضال، وهذا من شأنه أن يعكس في جزء منه الدور التاريخي لمخرجي الأفلام الوثائقية، الذي مثَّله بارنو على نحو رائع بأصوات للمعارضة والنقد، إلى جانب أنه يظهر نزعة ليبرالية داخل الوسط الأكاديمي وأيضًا في محور ماكينة الإنتاج الوثائقي في السبعينيات وبداية الثمانينيات حين كانت المجموعة الأولى من باحثي دراسات السينما الوثائقية بصدد إنهاء باكورة أعمالهم، وقد تجسد هذا التركيز على حركة النضال على نحو جيد للغاية في سلسلة كتب «الدليل الواضح». على سبيل المثال، قُدمت أعمال عن الأفلام الوثائقية النضالية التي تتناول الإيدز بدءًا من الثمانينيات في الولايات المتحدة، والأفلام الوثائقية عن المساواة بين الجنسين، والشواذ والسحاقيات، والأفلام الوثائقية الأمريكية الأفريقية، وأفلام «حرب العصابات» الوثائقية، أو الأفلام الوثائقية البديلة والمعارضة.

توجد طرق عديدة للتساؤل عن أسباب وكيفية اختلاف الأفلام الوثائقية عن الفيلم الروائي، بالنظر إلى اشتراكهما في العديد من التقنيات والأساليب، فقد ذهب ويليام جويين، انطلاقًا من نظرية وضعت للأفلام الروائية، إلى أن الفيلم الوثائقي أقل إشباعًا وإرضاءً من الفيلم الروائي، ذلك لأنه يعجز عن منح المشاهد نفس العودة غير المدركة لما هو مكبوت في العقل الباطن؛ الوعد بتكامل ووحدة رائعين. ويعارض محللو ما بعد الحداثة استخدام الأفلام الوثائقية للواقعية السيكولوجية (مثلما يحدث في الأفلام الروائية) لتجسيد الواقع، فالواقعية، في تحليلهم، تعمل فقط على التعتيم على أيديولوجية الثقافة البرجوازية. ويذهب نيكولز إلى أن الأفلام الوثائقية التي تتلاعب بتوقعات المشاهد بالشفافية والحقيقة تعكس على نحو أكثر إبداعًا وجهات النظر المتعددة لحياة ما بعد الحداثة. في الوقت نفسه، يقر براين وينستون بأنه في عصر المعالجة الرقمية التي لا حد لها والتدخل الجامح من قبل المشاهد، لا يستطيع مخرجو الأفلام الوثائقية أن يدَّعوا الدقة العلمية أو الحق الأبوي في الوعظ والإرشاد، ولكن على الواحد منهم أن يعترف بأنه ليس إلا متحدثًا ضمن متحدثين آخرين. ويرد المنظرون المعرفيون أمثال نويل كارول بأن البشر يفسرون المعلومات والبيانات بدقة وعقلانية من العالم المحيط بهم، بما في ذلك المعلومات القادمة إليهم من الشاشات التي يشاهدونها، ويذهبون إلى أن وهم الحقيقة ليس بالضرورة أن يكون نزعًا للنفوذ والتمكين.

المجالات الناشئة

لا تزال المعرفة العلمية في مجال الفيلم الوثائقي في طور التطور، وهناك مجالات نمو محتملة ومثمرة، فالباحثون الناطقون بالإنجليزية، على سبيل المثال، عادة ما كانوا يعولون على نحو محدود على المعرفة العالمية عن الأفلام الوثائقية، على الرغم من أن العكس ليس صحيحًا بالضرورة، وقد كان مهرجان ياماجاتا للسينما في اليابان يدعم بقوة التبادل العالمي للمعرفة بجريدته المنشورة عبر الإنترنت «صندوق الفيلم الوثائقي»، وقد كان هناك استثناءات مبهرة للأفق المحدود للغة الإنجليزية أيضًا، مثل أعمال جوليان بيرتون ومايكل شانان عن الأفلام الوثائقية اللاتينية، وأعمال ماركوس نورنس عن الأفلام الوثائقية اليابانية.

ولا يملك معظم باحثي الدراسات السينمائية سوى القليل من المعرفة عن حركة توزيع الأفلام الوثائقية، ولا يهتمون بأشهر أنواع الأفلام الوثائقية إلا قليلًا؛ فقد كان تركيزهم منصبًّا في الأساس على الإنتاج المستقل والأفلام الموجهة للجماهير العامة، وعلى أعمال السينما المنشقة وأعمال السينما التجريبية، وعادة ما يتركون تأملات بشأن تأثيرات الفيلم الوثائقي التقليدي والممول من جهات معينة — حيث غالبًا ما يكون تعقب جهة التأليف الأصلية أكثر صعوبة بكثير — لعلماء الاجتماع والعلماء الاجتماعيين الآخرين الذين يدرسون تأثيرات الإعلام وغالبًا ما لا يملكون معرفة معينة بشكل ونهج الفيلم الوثائقي.

غير أن الأفلام الوثائقية التي تقدم لعملاء بعينهم (الأفلام الوثائقية «المدعومة») وتلك الأفلام الوثائقية التقليدية التي تُعرض عبر شاشة التليفزيون، مهمة، وتعد من الأوجه الآخذة في النمو للإنتاج الوثائقي، وكلاهما عادة ما يُشكِّل التجارب الأولى للمشاهد مع الفيلم الوثائقي. كذلك غالبًا ما تقدم الأفلام الوثائقية المدعومة والتقليدية دعمًا ماديًّا للأعمال المستقلة؛ إذ إن هذا الجانب من المجال يوفر عملًا منتظمًا لمخرجي الأفلام الوثائقية. وبالفعل، تساهم الأعمال المدعومة في الكثير من الدول النامية في إبقاء قطاع السينما بأكمله على قيد الحياة في وسط المشروعات الكبرى. ومن الممكن لنظرة على نقاط التقاطع بين الأعمال المدعومة والأعمال المستقلة أن توفر فهمًا أفضل لكيفية تطور الفيلم الوثائقي.

ونظرًا لقلة الأبحاث التي أجريت على الأفلام الوثائقية المدعومة، فإننا لا نعرف الكثير عن مجال لا شك أنه المسئول عن الغالبية العظمى من الأفلام المنتجة. وتعمد المؤسسات حاليًّا إلى استخدام الأفلام الوثائقية للمؤتمرات، واجتماعات مجالس الإدارات، والعروض التقديمية، وحملات المبيعات، وفي الحملات الاستراتيجية الموجهة لأطفال المدارس، أو مرضى الإيدز، أو الموظفين، لتعليمهم كيفية تجنب التحرش الجنسي وما شابه. أنتجت صناعة الأفلام، التي تدعمها الشركات والحكومات، أيضًا مواد أرشيفية ثرية لصناع الأفلام.

لم تنجح الأفلام الوثائقية التي صُنعت بغرض الترفيه التافه في جذب انتباه الكثير من الباحثين، ولكن ربما تفعل مع تنامي شعبية الشكل، وقد بدأ باحثو الدراسات السينمائية أخيرًا في دراسة أنواع مثل الفيلم الأسود واستوديوهات السينما أو «نابغة المنظومة» كما أطلق عليها توماس شاتز، وقد طبق النموذج جيدًا على أعمال مصانع الأفلام الوثائقية، مثل ديسكفري كوميونيكيشنز.

ومع تزايد أهمية الأفلام الوثائقية، نستطيع أن نتوقع أن نرى الباحثين يستكشفون هذه الأنواع الفرعية، وبنياتها، واستراتيجياتها في التجسيد، ومدى جاذبيتها. وجميع وثائقيات الأداء المسرحي في الموسيقى والكوميديا، ووثائقيات «الكواليس»، ووثائقيات رياضات المغامرة، والبرامج التليفزيونية مثل البرامج التي توجه تعليمات أو نصائح لشيء ما، وبرامج الجمال، والطهي، وغيرها من البرامج، كلها لا تعتمد فحسب على الأعمال السابقة التي قدمها مخرجون وثائقيون مبتكرون، ولكنها أيضًا تشكل توقعات السوق والمشاهدين، وقد كانت الأعمال الأولى، والمدرج بعضها في قائمة «مزيد من القراءة» تدور عن وثائقيات الروك، مثل فيلم دي إيه بينبيكر الكلاسيكي المنتمي لسينما الواقع «لا تنظر للخلف» (١٩٦٧) عن إحدى جولات بوب ديلان الفنية، وفيلم مارتن سكورسيزي «رقصة الفالس الأخيرة» (١٩٧٨) عن فريق ذا باند الغنائي، وفيلم جوناثان ديم المنتج عام ١٩٨٤ «توقف عن التعقل»، الذي يبرز فريق توكينج هيدز. والاهتمام بأعمال أكثر رواجًا وشهرة سوف يربط الباحثين على نحو أكثر اكتمالًا أيضًا بالوقائع الاقتصادية لشكل فني يرتبط ارتباطًا وثيقًا بوسائل الإعلام التجارية، وسوف نتعرف على المزيد، من خلال هذه الوسائل، عن الكيفية التي تشكِّل بها الظروف الاقتصادية أسلوب التعبير.

ثمة تغييرات أخرى في التعبير الوثائقي قد تحرك النشاط الأكاديمي، فازدهار الإنتاج في مجال أفلام القضايا الوثائقية والشعبية المتزايدة للأفلام الوثائقية التي تتناول موضوعات الساعة قد ينشط أعمالًا أكاديمية عن المعايير والأخلاقيات في المجال، وقد يحرك النمو في الإعلام التشاركي مزيدًا من الأعمال المشتركة بين عدة تخصصات، مثل علماء الاجتماع، وعلماء الأنثروبولوجيا، وباحثي الاتصالات، والعلماء السياسيين، وعلماء معالجة المعلومات، وباحثي السينما، الذين يسعى كل منهم لفهم الظاهرة، وسوف تستمر المعرفة العلمية والبحثية في تغيير فهمنا للفيلم الوثائقي، وسوف تعكس ارتباطًا مبدعًا بين اهتمامات الأكاديميين وممارسات مخرجي الأفلام الوثائقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤