ترجمة حياة مؤلف الكتاب

تمهيد

قد يتوالى كرُّ الجديدين، وتمرُّ الأيام والأعوام مر السحاب، طامسة بأقدامها رسوم الأجيال الماضية، والناس على ما هم عليه من فطرتهم الأصلية، مستسلمون لما ورثوه عن آبائهم من التقاليد والعادات مذمومة كانت أم مرضية، فاسدة أم صحيحة، ويظلون كذلك لا يفقهون معنى لما يرونه من المرئيات، ولا يحركون ساكنًا لما يمر عليهم من صنوف العظات، إلى أن يمنَّ الله عليهم بمن يميط اللثام عن سر ما جهلوه، ويكشف لهم الستار عن كُنْه ما لم يتحققوه، فينبههم من رقدتهم، ويرشدهم إلى ما كانوا عنه غافلين.

أولئك هم أقطاب العلم، ورسل التهذيب، ومهبط المدنية، ونور العرفان، بهم تهتدي الأمم، وعلى يدهم يتم صلاح الجماعات ونظام الشعوب، غير أن الدهر — وهو بخيل بأمثال هؤلاء الأقطاب — لا يكاد يجود بفرد منهم على رأس كل جيل حتى تنصبَّ عليه سهام اللعنات من كل صوب، وتتلقَّاه الناس بالعداوة والبغضاء، والسبب واضح جلي؛ فالناس إذا استسلمت مدة من الزمان إلى بعض العادات الفاسدة، وتوارثت طوال الأجيال العاهات والأمراض النفسية بعضها عن بعض، تصبح بينهم من الصفات اللازمة، ولا ينظرون إليها إذ ذاك كعاهات وأمراض، بل يعتبرونها كخلال طبيعية أنزلها الله على آدم، فإذا ظهر بينهم من هو خال منها غير متحل بما ظنوه ناقصًا ناصبوه العداء، ونابذوه الألقاب.

نظرة إلى كل من اشتهر بفضل أو عُرِفَ بشيء من النبل نعلم مقدار ما عانى من الدهر، وقاسى من مناوأة الناس في سبيل الحق، فهذه أئمة المسلمين وهداتهم؛ مثل: مالك، والشافعي، وفلاسفة هذه الأمة، ودعاة الصلاح فيها؛ كالمعري وابن رشد وابن تيمية، ومن تقدمهم وجاء بعدهم من فلاسفة اليونان والرومان والفرس وغيرهم من علماء المعقول والمنقول ممن لا تزال أشخاصهم ماثلة في أذهاننا، ولا نزال نستضيء بنبراسهم، قد نَغَّصَ الدهر عليهم عيشهم، وضيق عليهم مذاهبهم؛ لشذوذهم عن المألوف، وخروجهم عن المعروف، ولم يرجعهم ما هم فيه عن سبيل رأوه هو سبيل الحق، بل ما زالوا في عراك وكفاح حتى لقوا ربهم فرحين بما قضوا من واجب الإرشاد عليهم، غير مكترثين بما لقوا في سبيل الواجب.

والكونت تولستوي الذي أقدم إلى القراء ترجمة حياته (مقتضبة من دائرة المعارف البريطانية، ومجلة الهلال الغراء، وبعض المجلات التركية) هو أحد أولئك الأفراد القلائل الذين لا يكاد الدهر يجود بواحد منهم حتى يتفانى الناس في تمجيد خصاله، ويغرقوا في إجلال ذكره، وإكبار شأنه؛ إذ يعمل الفرد منهم على إسعاد نوع الإنسان، وترقية حال بني البشر أكثر مما يعمله المئات بل الألوف من معاصريه:

ولم أر أمثال الرجال تفاوتًا
إلى الفضل حتى عد ألف بواحد

نشأته الأولى

تشْغَل حياة تولستوي ثلاثة أرباع القرن التاسع عشر وعشر سنين من فجر القرن العشرين؛ إذ كان ميلاده في الثامن والعشرين من شهر أغسطس عام ١٨٢٨ في قرية (ياسنايا بوليانا) في ولاية طولا من أعمال روسيا، فأنت ترى أن شمس حياته بزغت في فجر القرن التاسع عشر، وعاش معاصرًا لكثير من فحول العلماء والفلاسفة؛ مثل: هيجو، وغوته، وغيرهما من الذين ولدوا معه في فجر القرن، وغربت شموس حياتهم في أصيله.

وأسرته ألمانية الأصل، هاجرت في عهد بطرس الأكبر، واشتهر منها بطرس تولستوي الذي كان سفيرًا لروسيا لدى الدولة العثمانية، وأدخل في مصافِّ الأشراف عام ١٧٢٤، وكان لهذه الأسرة منزلة رفيعة بين الأسر الروسية؛ إذ اشتهر كثير من أبنائها بالسياسة، ونبغ آخرون منهم في فن الكتابة.

أما أمه فكانت من بيت مجد عريق في الحسب وشرف الأصل، يعرف بأسرة فولكون، وكانت القرية التي ولد فيها الفيلسوف مِلْكًا لها؛ فأقامته فيها ليقضي أيام طفولته، ولكن وافاها القدر المحتوم وهو في إبان نشأته، فعهد بتربيته إلى سيدة من ذوات قرابته، وانتقل به والده إذ ذاك إلى مدينة موسكو، حيث عاجلته المنية قبل أن يبلغ الكونت العاشرة من عمره، فعهد بتربيته إلى سيدة أخرى من ذوات قرابته تدعى بوشكوفا؛ فعادت به إلى قرية ياسنايا مقر ولادته، وهناك تلقى دراسته الأولية.

تعليمه

وما كاد يبلغ الخامسة عشرة حتى انتقل إلى مدينة قازان، وانتظم في سلك جامعتها مدة عامين، توفر أثناءهما على دراسة بعض العلوم العالية، وفيها درس أيضًا بعض اللغات الشرقية، غير أنه ما لبث أن عافت نفسه الجامعة ودروسها؛ لنفوره من أخلاق تلامذتها، فعاد إلى قريته ثانية، وأكب هناك على مطالعة كتب مشاهير المؤلفين والأدباء من الروسيين والفرنسيين والألمان؛ أمثال: روسو وهيجو وفولتير وديكنز وبوشكن وترجنيف وشيللر وغوطه، ولكنه كان أكثر تعلقًا بمؤلفات روسو، فعاش عيشة مستقلة لا يحتاج فيها إلى مرشد ولا مؤدب إلا الدهر وحوادث الأيام وتتبعاته الشخصية.

أوائل شبابه

وقد أخذت الاعتبارات الفلسفية تشغل أفكاره في أوائل شبابه؛ فكان شغله الشاغل أيام صباه هو التفكير في (ما هو الإنسان؟) و(من أين أتى؟) و(إلى أين مصيره؟) و(ما هي السعادة؟) إلى غير ذلك من المسائل الفلسفية العويصة التي كانت ترِد مخيلته تباعًا؛ آخذة بعضها برقاب بعض، حتى نشأ عنده ميل خاص للمباحثات والمناظرات، فكان يقضي طوال الساعات والأيام في مجادلة أقرانه ومناقشتهم فيما يعرض له من الأفكار.

انتظامه في سلك الجندية

وبينما كان الفيلسوف الشاب على الحال التي وصفناها لك حائرًا بين تأثيرات الطبيعة وموحيات الكتب والأسفار؛ إذ زاره شقيق له أكبر منه سنًّا في قرية (ياسنايا) وكان شقيقه هذا من ضباط الجند الروسي ببلاد القوقاز، فوصف له حالة الجند وما هم عليه من نضارة العيش ورفاهة الحال، وما زال به يحسِّن له حالته ويرغبه الانتظام بسلكهم حتى رضي وأطاع شقيقه فأصبح في عداد الضباط وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وعند نشوب حرب القرم انتقل إلى الطونة وانضم إلى أركان حرب البرنس غورتشاكوف، ثم انتقل إلى سباستبول؛ حيث عين قائدًا لفرقة من المدفعية، وكان لانتقاله من بيئة لأخرى أثر كبير في إثارة قريحته، وتوسيع خياله، فتغيرت أطواره، وتحولت كليته، وتبطنت أعماق نفسه بانفعالات كثيرة ظهر على أثرها أهم مؤلفاته التي يصف فيها حالة الجند، وأهوال الحروب، وما يكابده الإنسان من فظائعها.

رحلته وزواجه

وفي العقد الرابع من سني حياته تطلع إلى السفر، فسافر سنة ١٨٦٢ وساح في بعض أنحاء أوروبا، ثم رجع إلى قريته واقترن في العام الثاني بالسيدة صوفيا ابنة الدكتور بيرس الألماني الذي كان يقيم في موسكو؛ فاضطر تولستوي أن يداول السكنى بينها وبين قريته، وكانت قد نضجت مواهبه واتسعت معلوماته؛ لكثرة ما شاهده واختبره بنفسه، وكانت الحكومة قد عينته قاضيًا في قريته، فبدأ بنشر تعاليمه، وأخذ يدعو الناس إلى السلام والفضيلة؛ سواء بالقدوة أو بالتعليم.

عيشته اليومية

وقد اشتهر بزهده في الحياة وتخليه عن مظاهر الوجاهة؛ فكان في قريته مع زوجته وأولاده في منزل بسيط محاط بغابة كثيفة ليس فيه من الأثاث إلا الضروري، فكان يقوم مبكرًا فيلبس ثوبًا بسيطًا مثل أثواب الفلاحين، وهو عبارة عن سراويل واسعة فوقها كساء كالقميص يتمنطق حوله بسير من الجلد.

وكان يتناول طعام الإفطار، ثم يذهب إلى العمل في حرث الأرض، وتعهد أشجارها، وبذر الحبوب، ومساعدة ضعفاء الفلاحين في أعمالهم.

سيرته بين فلاحيه

كانوا يعجبون بتواضعه ويستأنسون بدعته ولطف شمائله، فإذا وقع بينهم خلاف تقاضوا إليه وارتضوا حكمه، وكان قد أنشأ في قريته مدرسة ينفق عليها من ماله الخاص لتعليم أبناء الفلاحين، وكان يتولى تعليمهم بنفسه؛ فاشتهرت المدرسة وقصدها أهل المدائن الأخرى المجاورة يلتمسون الاستفادة من آرائه وفلسفته، وأنشأ لهم أيضًا مجلة تهذيبية تصدر باسم القرية، وقد بلغ من محبته لفلاحي قريته أنه أراد أن ينبذ فكرة الاستئثار بالملك الشخصي، وأَحَبَّ أن يوزع أملاكه بينهم بالتساوي فيشتغل كواحد منهم، ولكن زوجته وذوي قرابته أبوا عليه ذلك، تلك كانت حاله بالصيف، أما في الشتاء فكان يقيم في موسكو؛ فينقطع عن الأعمال البدنية، ويتفرغ للتأليف والتحبير؛ فيؤلف ويراسل ويكاتب.

حياته العلمية

لا نكاد نذكر اسم تولستوي حتى يخطر على البال مؤلفاته العديدة ورسائله المتنوعة؛ وأشهرها: (الحرب والسلم) و(البعث) و(حنا كرانينا) و(القيامة) و(أين المخرج؟) و(الحب والزواج) و(بم يعيش الناس؟) و(ديانة المسيح) و(الحياة) و(مملكة الظلام)، غير أننا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن لرواياته الثلاث الأولى؛ وهي: (الحرب والسلم) و(البعث) و(حنا كرانينا) القدح المُعَلَّى، والمكانة السامية في عالم الأدب والتأليف، لا فى الروسيا فقط؛ بل في جميع العالم الأوروبي، ولا مِراء في أن هذه الروايات الثلاث هي الدرة اليتيمة وواسطة القلادة بين درر مؤلفاته وغوالي حكمه؛ فإن رواية (حنا كرانينا) تمتاز بدقة البحث في تصوير ما يحصل عادة في عالم الزواج من الآلام والاضطرابات التي مَنشؤها عدم التروِّي والمضي مع الأهواء النفسية، وفي روايته (البعث بعد الموت) وصف الأمراض الاجتماعية وصورها بكل ألوانها ومعانيها، مع ذكر كيف أن الناس في هذا العصر أصبحوا يتنشقون سموم الظلم والاستبداد، ويتجرعون كئوسًا ملؤها الكذب والرياء بدل استنشاقهم الهواء وشربهم الماء، وفي هذه الرواية يقول الناقد الفرنسي المعروف جول لومتر: «كَتَبَ تولستوي روايتيه (الحرب والسلم) و(حنا كرانينا)، ثم خجل من الشهرة وبُعد الصيت اللذين نالهما أثر ظهورهما فاحتجب في كسر داره، واختفى بين صحائف الإنجيل مدة خمسة عشر عامًا، ثم ظهر في عالم الأدب ثانية وفي يده أعجوبة مؤلفاته «كتاب البعث بعد الموت».»

ولو أمعنا النظر في حياة تولستوي المعنوية نرى أنها بكل ألوانها ومظاهرها، سياسية كانت أم اجتماعية، دينية أم خلقية؛ عبارة عن سلسلة حروب شعواء كان يشنها ذلك الرجل العظيم ضد الظلم والاستبداد، ومفاسد المدنية الحاضرة ورذائلها، فكان يرى رأي روسو القائل بأن صلاح الناس أو فسادهم إنما يدخل عليهم من باب المعاشرة والمخالطة، ويسلك إليهم من طريق البيئة والجوار، ثم نظر إلى المدنية الحاضرة المشعشعة بالأنوار الكاذبة، وفطن إلى ما تحت تلك الأضواء من ظلمة المفاسد والرذائل، وعلم أن التبعة في فساد نظام الاجتماع واقع على الرئاسات الدينية والسياسية، فوقف حياته على إيقاظ إخوانه في الإنسانية، وقضى معظم حياته يدعو الناس إلى دينه الجديد (Religion de la bonté) وأساسه إيجاد رابطة المحبة والشفقة بين الناس، وعدم مقابلة الشر بمثله؛ ولذا نرى أن روح هذا المبدأ تتجلى في أغلب كتبه وتعاليمه التي تكاد تنطق بلسان واحد هاتين الكلمتين؛ وهما:
  • (١)

    أحبوا بعضكم بعضًا.

  • (٢)

    لا تقابلوا الشر بمثله.

مقارنة بينه وبين أبي العلاء

ذهب بعض كتَّاب أوروبا إلى وجود الشبه بين تولستوي وبين روسو، وعزز رأيه بأدلة لا محل لذكرها في هذه المقدمة الوجيزة، وإنا نرى أنه من الظلم أن نختم مقدمتنا دون أن نذكر ما رأيناه من وجوه الشبه بين حياة صاحب الترجمة وحياة أبي العلاء المعري المولود سنة ٩٧٣م، فكلا الرجلين عاش زاهدًا في الحياة، وكلاهما ناله من اضطهاد رجال الدين ما نغص عليه عيشه، وضيق دونه المذاهب، ولكليهما آراء في الحياة، ونظرات في الاجتماع تتفق معنى ومبنى.

اشتهر تولستوي بزهده في الحياة وتخليه عن مظاهر الوجاهة على نحو ما مر بك في مقدمتنا هذه؛ كذلك كان أبو العلاء زاهدًا في الحياة متخليًا عن ملذاتها؛ يردد قوله:

أتتني من الأيام ستون حجة
وما أمسكتْ كفَّاي ثني عنان
ولا كان لي دار ولا ربع منزل
وما مسني من ذاك روع جنان
تذكرت أني هالك وابن هالك
فهانت عليَّ الأرض والثقلان

إلا أنهما وإن زهدا في كل لذات الحياة، فقد رغبا في العلم والتأليف اللذين قد ملكاهما، واستأثرا بهما، ولا شك أن ذلك كلفهما معاشرة الناس ومجاملتهم إلى حد معلوم؛ فإن أبا العلاء كان مضطرًّا إلى عشرة الناس؛ لاحتياجه إلى من يقرأ له، ويكتب عنه، ولذلك لم يكد يستقر في المَعَرَّة حتى اشتغل بالتعليم؛ فالتف حوله الطلاب من جميع الأطراف، كذلك كان تولستوي مضطرًّا لمجاملة زواره العديدين الذين كانوا يقصدونه من أقاصي البلاد يلتمسون الاستفادة من فلسفته وآرائه.

وَصَفَ الرحالة ناصري خسرو أبا العلاء المعري بقوله: «ويحكمها (أي المعرة) رجل ضرير يعرف بأبي العلاء عظيم الثروة، يملك عددًا ضخمًا من العبيد، وكان سكان المدينة كافة خدَمه، أما هو فيحيا حياة خشنة، يلبس غليظ الصوف، ولا يغادر بيته، ولا يأكل إلا الشعير، وسمعت الناس يتحدثون بأن بابه لا يغلق وأن نوابه يعملون في تدبير المدينة، ولا يلجئون إليه إلا في مهام الأمور إلخ.» ولو صح هذا الوصف — وهو ما أثبت احتماله العلامة طه حسين في كتاب (ذكرى أبي العلاء) صحيفة ٢٣٠ بقوله: «فمن الظلم للتاريخ أن نمر بهذا الخبر من غير أن نثبت هذا الاحتمال.» — لكان مشابهًا للمعيشة التي كان يعيشها الفيلسوف تولستوي في قريته بين فلاحيه ومريديه.١

كان تولستوي يرى أن نظام الاجتماع فاسد يحتاج إلى إصلاح، وأن فساده ناجم عن الرئاسات الدينية والسياسية، كذلك كان يرى أبو العلاء وصرَّح بهذا الرأي غير مرة في اللزوميات وسقط الزند؛ فمن ذلك قوله:

ساس الأنام شياطينٌ مسلطة
في كل مصرٍ من الوالين شيطان

وكذلك قوله:

ملَّ المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
فعدوا مصالحها وهم أُجَراؤها

رأي تولستوي في المرأة قبيح؛ لأنه يسيء الظن بها في كل أطوارها، ويرى أن تقطع كل علاقة بينها وبين الحياة العامة؛ فمن ذلك قوله: «على الرجل أن يراقب سلوك امرأته ولا يطلق لها العنان، بل يحجبها في البيت، والبيت دائرة حريةٍ واسعة للمرأة.» وقال في موضع آخر في الزواج: «إن الزواج أصبح في عصرنا هذا بيننا محضَ خداعٍ وغشٍّ، ولكنه لا يزال يوجد عند أولئك الذين يرون فيه سرًّا من أسرار الدين؛ كالمسلمين، والصينيين، والهنود، أما نحن فلا نرى فيه غير تلك المقارنة الحيوانية.»

ولأبي العلاء رأي في المرأة كثير المطابقة لرأي تولستوي، فهو كثير الظن بها ويرى أن تعيش بمعزل عن الحياة العامة، وتشدد في طلب الحجاب كما أشار في قوله:

علموهن النسج والغزل والرد
ن وخلوا كتابة وقراءه

وكذلك قوله:

فحمْل مغازل النسوان أولى
بهنَّ من اليراع مقلمات

ومنه قوله في التائية:

ولا ترجع بإيماء سلامًا
على بيض أشرْن مسلِّمات
أولات الظلم جئن بشرِّ ظلم
وقد واجهننا متظلمات
فوارس فتنة أعلام غي
لقينك بالأساور معْلمات

ذكرنا آنفًا كيف أن تولستوي نبذ الاعتقاد القائل بالاستئثار الشخصي، وأراد أن يقسم أملاكه بين فلاحيه ويشتغل كواحد منهم، فكأنه بذلك يعزز رأي أبي العلاء القائل:

كيف لا يشرك المضيقين في النعـ
ـمة قوم عليهم النعماء

وأقواله في هذا المعنى كثيرة يقف عليها القارئ في أكثر (لزومياته).

إلى هنا ننتهي من المقارنة بين أفكار بطلي القرن التاسع والقرن العشرين بعد الميلاد، وإلى هذا الحد نكون قد أنجزنا ما وعدنا به القارئ من ترجمة حياة فيلسوف روسيا العظيم (الكونت لاون تولستوي) الذي أفل نجم حياته في ٢٠ نوفمبر عام ١٩١٠، ليكون على بينة من تاريخ حياة أحد رجال العالم العظماء الذين أفادوا النوع الإنساني بأفكارهم الصالحة، وسيرتهم المبرورة، وسريرتهم الطاهرة.

قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي بك في رثاء الفيلسوف

(تولستويُ) تجري آية العلم دمعها
عليك ويبكي بائسٌ وفقيرُ
وشعب ضعيف الركْن زال نصيره
وما كل يوم للضعيف نصير
ويندب فلاحون أنت منارُهم
وأنت سراج غيَّبوه منير
يعانون في الأكواخ ظلمًا وظلمة
ولا يملكون البث وهْو يسير
تطوف كعيسى بالحنان وبالرضا
عليهم وتغشى دورهم وتزور
ويأسى عليك الدين إذ لك لبه
وللخادمين الناقمين قشور
أيكفر بالإنجيل مَن تلك كتْبه
أناجيل منها منذرٌ وبشيرُ
تناولَ ناعيك البلاد كأنه
يراعٌ له في راحتيك صرير
وقيل تولى (الشيخ) في الأرض هائمًا
وقيل بدير الراهبات أسير
وقيل قضى لم يغنِ عنه طبيبه
وللطب من بطش القضاء عذير
إذا أنت جاورت (المعريَ) في الثرى
وجاور (رضوى) في التراب ثبير
وأقبل جمع الخالدين عليكما
وغالى بمقدار النظير نظير
جماجم تحت الأرض عطَّرها شذًى
خباهن مسك فوقها وعبير
بهن يباهي بطن (حواء) واحتوى
عليهن بطن الأرض وهو فخور
فقل يا حكيم الدهر حدِّثْ عن البلى
فأنت عليم بالأمور خبير
أحطت من الموتى قديمًا وحادثًا
بما لم يحصِّل منكر ونكير
طوانا الذي يطوي السماوات في غد
وينشر بعد الطي وهْو قدير
تقادم عهدانا على الموت واستوى
طويلُ زمانٍ في البلى وقصير
وهل عالج الأحياء بؤسًا وشقوة
وقل فساد بينهم وشرور
قم انظر وأنت المالئ الأرض حكمة
أأجدى نظيم أم أفاد نثير
أناس كما تدري ودنيا بحالها
ودهر رخيٌّ تارة وعسير
وأحوال خلقٍ غابرٍ متجدِّدٍ
تشابه فيها أولٌ وأخير
تمرُّ تباعًا في الحياة كأنها
ملاعبُ لا تُرخى لهن ستورُ
وحرْصٌ على الدنيا ومَيْلٌ مع الهوى
وغشٌّ وإفكٌ في الحياة وزورُ
وقام مقامَ الفرد في كل أمة
على الحكْم جمعٌ يستبد غفيرُ
وحُوِّرَ قولُ الناس مولًى وعبدُه
إلى قولهم مستأجرٌ وأجيرُ
وأضحى نفوذ المال لا أمْرَ في الورى
ولا نهْيَ إلا ما يَرى ويُشير
تُساس حكومات به وممالك
ويذْعن أقيالٌ له وصدور
وعصرٌ بنوه في السلاح وحرصه
على السلْم يجري ذكرها ويدير
ومن عجب في ظلها وهْو وارفٌ
يصادف شعبًا آمنًا فيُغير
ويأخذ من قوت الفقير وكسبه
ويُؤوي جيوشًا كالحصى ويَمير
ولما استقل البر والبحر مذهبًا
تعلق أسبابَ السماء يَطير

هوامش

(١) لم نجد في كل التواريخ التي ترجمت تاريخ حياة أبي العلاء ما يحقق قول الرحالة أو يثبت احتمال الأستاذ طه حسين، فقد أجمع الكل على أنه كان فقيرًا لا يملك من عرض الدنيا غير القليل التافه، وقد رفض هبات الملوك وأعطيات الأمراء، وعاش قانعًا باليسير؛ إذ كان له وقْف يحصل منه في العام على ثلاثين دينارًا، قدَّر منها لمن يخدمه النصف، إلا أننا مع ذلك لا ننكر ما كان لأسرته التنوخية من الوجاهة، وما كان لأبي العلاء نفسه من المكانة في نفوس أمراء عصره، وقد ذكر الذهبي نقلًا عن القفطي: «إن صالح بن مرداس صاحب حلب خرج إلى المعرة وقد عصى عليه أهلها فنازلها وشرع في حصرها ورماها بالمجانيق، فلما أحس أهلها بالغلب سعوا إلى أبي العلاء بن سليمان، وسألوه أن يخرج ويشفع فيهم فخرج ومعه قائد يقوده فأكرمه صالح واحترمه، ثم قال: ألك حاجة؟ قال: الأمير — أطال الله بقاءه — كالسيف القاطع؛ لان مسُّه وخشِن حدُّه، وكالنهار المبالغ (؟) قاظ وسطُه وطاب برده، خذ العفو ومُرْ بالعرف وأعرض عن الجاهلين. فقال له صالح: قد وهبتها لك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤