الفصل التاسع

لزمت بوليفار «جيري» في اتجاه وسط المدينة. كان الجو حارًّا على غير العادة ونسبة الرطوبة عالية. عبرت أفنيو «فان نیس»، وانحرفت في ثاني شارع رئيسي اعترضني وهو «لاركين». مضيت جنوبًا في اتجاه الساحة التي يشرف عليها المركز المدني. لمحت ماكينة نقود في واجهة أحد البنوك، فتقدمت منها. وضعت بطاقة الائتمان وضغطت كلمة السر وسحبت خمسين دولارًا.

واصلت السير ثم تمهَّلت عند إحدى التقاطعات. انتظرت حتى انسابت السيارات فبدأت العبور وأجبرتها على التوقف. سرت على مهَل مستمتعًا بحقوق المشاة المقدسة.

انضممت إلى مجموعة من المنتظرين أمام المكتبة العامة التي تفتح أبوابها في العاشرة تمامًا. تبينت بسهولةٍ الطلابَ من أعمارهم، وبقايا النعاس في عيونهم، والباحثين المتقدمين في السن من نظراتهم الشاردة وحافظاتهم القديمة. وكان هناك أيضًا ثلاثة أو أربعة يمسكون بجرارات صغيرة بها لفافات من الملابس. حِرت في أمرهم إلى أن فُتحت الأبواب، ورأيتهم يندفعون إلى دورات المياه، فأدركت أنهم ممن اصطلح على تسميتهم بالمشرَّدين أو ناس الشوارع.

كان المبنى حديثًا تتكدس به الكمبيوترات المتصلة بأميال من رفوف الكتب. صعدت إلى القاعة المخصَّصة لتاريخ المدينة في الطابق السادس. طُفت بصناديق العرض الزجاجية التي احتوت على مصنوعات يدوية قديمة منها بضعة فناجين للشاي، الْتَحمت ببعضها البعض خلال الحريق الكبير الذي عرفته المدينة في أعقاب زلزال سنة ١٩٠٦م. وكان بجوارها عدة بطاقات بريدية ملوَّنة باليد لمشاهد من الحريق، وزجاجة ويسكي صغيرة من نوع «البوربون» الأمريكي، مستندة إلى بطاقة تحمل بيتًا من الشعر الشعبي من تلك الفترة يقول:

«لو أن الله، كما يقولون،
عاقب المدينة؛ لأنها فاسدة،
فلماذا حرق الكنائس
وأنقذ مصنع الويسكي؟»

الْتَجأت إلى طاولة من الخشب الثقيل، وبسطت أوراق المؤتمر المقترح أمامي. تناولت ورقة لمفكر مصري معروف فتصفَّحتها بسرعة. أوشكت أن أنتقل إلى الورقة التالية عندما لاحظت أنه يكرر في أكثر من موضع صيغة واحدة لا تتغير: «لا أتصور أن ثم حاجة هنا للحديث عن …» ثم يستفيض في ذكر ما نفى الحاجة إلى الحديث عنه.

قلبت الصفحة وتوقَّفت عند صيغ أخرى مماثلة: «لا أظن أني بحاجة إلى إثبات فكرة التنوع داخل التناسق»، ثم يمضي إلى إثباتها فيما لا يقل عن ۱۲ سطرًا.

عدت أقرأ الورقة بإمعان، وتوقفت أمام عبارة جعلتني أبتسم: «وإذا كان بيت الشعر الشائع قد أصبح الآن مبتذلًا، ويكاد يفقد قوة ضربته: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق، فإنه على الرغم من فصاحته التقليدية الخاوية يظل صادقًا وحقيقيًّا.» كيف يمكن أن يظل صادقًا وحقيقيًّا على الرغم من خوائه؟

ولم يقتصر الأمر على هذه الصياغات المتناقضة؛ فأغلب الأفكار التي عرضها لا تحتاج إلى «مؤتمر القرن» لمناقشتها وإقرارها، من قبيل الحديث عن أهمية الحرية وإعمال العقل، وقوله: إن «المثقف عندما يكون متكاملًا مع المجتمع، وعنصرًا عضويًّا فيه، يؤدي وظيفة ليست اجتماعية فقط، بل اجتماعية وحضارية.»

نحيت الورقة جانبًا وانتقلت إلى ورقة مهندس سوري، ذكر أنه من خبراء الحواسب الآلية. تناولت ورقة وقلمًا؛ استعدادًا لتسجيل ما سيطرحه من أفكار ومقترحات. وتوقَّعت أن أقرأ عن مشاكل البرمجة باللغة العربية، أو عن مشروع جبَّار لاستخدام اللغة العربية على الشبكة، وما يمكن أن تقدمه ثورة المعلومات من خدمات للبحث العلمي، أو عن اتفاقية «الجات» وأثرها في تحجيم حصول العرب على التقنيات الجديدة … إلخ. توقعت كل هذا ثم صُدمت. وجدتني أمام موضوع إنشائي مماثل لما كان يُطلب منا في المدرسة الابتدائية … «للحلم دور في الإبداع الهندسي كما في الإبداع الشعري»، «المعرفة الهندسية مختلفة عن العلمية، لكن الإبداع الهندسي يفتح أمام المبدع ما أغلقته العقلانية من ينابيع الإلهام»، «ليست التقنية ضد الثقافة، بل هي جزء لا يتجزأ منها». لاحظت أيضًا أن حيزًا كبيرًا من ورقته يتألف من استشهادات بكتابات «البرديسي»، ومن الرسائل المتبادلة بينهما.

فوجئت بأن الورقة التالية، وهي لأستاذ أدب أردني معروف تحفل باستشهادات بكتابات «البرديسي» وأفكاره التي وصفها ﺑ «الرهافة»، لكني لم ألبث أن وجدت لديه إلى جانب ذلك ومضات لامعة عندما ردَّ ما نشكو منه من عيوب ومظاهر تخلُّف إلى ارتباطها بمرحلة معينة من التطور.

انتقلت إلى ورقة أخرى لمفكر مغربي، ومرَّت عيناي بسرعة على عناوين القضايا التي تواجه الفكر في نهاية القرن: التراث، الهوية والخصوصية، مفهوم التقليد والتاريخ، الاتصال والانفصال، الوحدة والتعدد، الحداثة والتحديث، التفكيك والبناء.

وضعت الورقة جانبًا، وتناولت ورقة جديدة، كانت لفيلسوف بحريني اشتهر بتنبؤاته وشطحاته الغريبة.

وفي هذه المرة قدَّم نظرية جديدة عن «الدورة السباعية» قال: إن الإسلام نشأ منذ ١٤ قرنًا وأقام حضارته في القرون السبعة الأولى، ثم جاءت الفترة الثانية إبان العصر المملوكي الثاني من القرن الثامن الهجري حتى القرن الرابع عشر. ونحن الآن على عتبة فترة ثالثة نعتَها بالسباعية الثالثة التي تبشر بالعودة إلى عصر ذهبي ثانٍ.

خُيل لي أن المائدة اهتزَّت فتصلبت، وعندما لم تتكرر الهزة استرخيت. شعرت فجأةً بالجوع فأقفلت أوراقي وغادرت المكتبة، ووقفت مترددًا أمامها. أردت أن أواصل السير جنوبًا بحثًا عما يؤكل، لكن «ماهر» سبق أن حذرني من منطقة الْتقاء الشارع السادس بشارع «ماركت»، وقال: إنني يمكن أن أفقد فيها حياتي بسهولة في أي وقت من اليوم؛ لهذا اخترت الطريق الذي جئت منه.

ولَجت حانوتًا صغيرًا لساندوتشات النقانق. كان البائع الواقف خلف منصة عالية ضخم الجثة ذا ملامح شرق أوسطية. طلبت قطعتين من «الفرانكفورتر»، فألقى بهما فوق لوح معدني إلى جوار قطع أخرى يجري تسخينها. كان المكان ضيقًا ومزدحمًا بالزبائن معبئًا برائحة الشَّيِّ الخانقة فانتظرت على الرصيف. وتابعت فتاة طويلة القامة عبرت الشارع بطريقة استعراضية، وهي تلوح لشخص ما، فترجرجت كرتان مطاطتان من اللحم في مؤخرتها.

انتهى تسخين طعامي فحملته في منديل ورقي إلى رفٍّ ثُبتت إليه ثلاثُ أوانٍ بلاستيكية؛ واحد للمايونيز، والثاني لصلصة لا أعرفها، والثالث لحلقات من البصل. أضفت ملعقة من المايونيز وكثيرًا من البصل، فلم أكن أتوقع اقترابًا من أنفاس أحد. أقبلت على الأكل وأنا أتأمل المارَّة الذين تتابعوا أمامي من كل صنف ولون: سود برءوس حليقة تمامًا ونظارات شمسية سوداء، مسطولون يتلمسون مواقع أقدامهم، شاب يوزع دون حماس منشوراتٍ ما، هيبيون في سترات جلدية يحملون الجيتار، أبناء الحي المالي في ملابسهم الرسمية الكاملة ورءوسهم الحليقة وخطواتهم النشيطة المسرعة، فتيات بيضاوات بشعور مضفرة، وصفراوات بشعور مستقيمة ناعمة، في ملابس متباينة من الميني جوب والشورت إلى «الساري» الهندي و«الكيمونو» الياباني، ومن الصنادل والشباب إلى الأحذية المطاطية والكعوب العالية المدببة.

فرغت من طعامي فانضممت إلى نهر الطريق. مررت بحانوت للهدايا أسدلت على بابه ستائر من الخرز الملوَّن، وانبعثت منه روائح البخور وموسيقي «السيتار» الهندية المسجلة. وولجت حانوتًا للبورنو امتلأت واجهته بالمعروضات البلاستيكية والمطاطية. مررت من أمام مكتب جلس خلفه شاب ذو ملامح آسيوية يقرأ مجلة رياضية، وهو يراقب الزبائن الذين توزعوا أمام حوامل المجلات المصفوفة حسب الاهتمامات المختلفة.

طفت بأرجاء الحانوت إلى أن اكتشفت بابًا في مؤخرته بلافتة تعلن عن أفلام بورنو قصيرة مقابل ربع دولار للعرض. ذهبت إلى الشاب الآسيوي، واستبدلت منه دولارًا، وولجت مقصورة ضيقة فوق بابها لافتة تعلن عن الفيلم الذي سأراه: «عشاق ليسبو: فتاتان وحيدتان يمارسان رذائلهما فوق الجياد.»

اقتعدت حافة خشبية، بعد أن وضعت ربع دولار في صندوق معدني مثل حصالة النقود. وبدأ العرض على الفور فوق لوحة بيضاء مثبتة في ظهر الباب. ظهرت فتاة سوداء ضخمة في حوض استحمام، وبدأت تدعك جسدها بالصابون في بطء. ثم انتهى العرض فوضعت ربعًا جديدًا. ورأيت الفتاة تصوب الدوش إلى جسدها لتزيل الصابون، وهي تسبل عينيها مستمتعة. وأضفت ربعًا ثالثًا لأراها تبدأ في دعك جسدها من جديد، فغادرت قبل أن ينتهي العرض.

كانت هناك مقصورة أخرى تعلن عن فتيات حقيقيات يرقصن عاريات، بينما تتلصص عليهن مقابل نصف دولار. دفعت الباب ودخلت مكانًا ضيقًا للغاية، فطالعتني علبة «كلينكس» فوق رف صغير. أسقطت نصف دولار في شق، فارتفع مصراع معدني في مستوى وجهي كاشفًا عن كوة زجاجية. ألصقت أنفي بسطح الزجاج، فرأيت فتاة عارية ترقص. كانت نحيفة بثديين ضخمين، صناعيين بالتأكيد، وندبة عرضية فوق عانتها، من أثر جراحة قيصرية في الغالب.

شعرت بالحاجة إلى استنشاق الهواء النقي، فغادرت المقصورة والحانوت. تنفست الهواء الجاف بعمق ثم عبرت الطريق. تمهلت أمام حشد التفَّ حول خطيب أسود. كان يصيح في كهلة بيضاء بصوت جهوري: الرئيس «يسوع» يحبك أنت أيضًا يا أختي. الرئيس «يسوع» يحبنا جميعًا، السود والسمر والصفر والبيض. إذا صدقت أن الرئيس «يسوع» يحبك أكثر من شركات البترول وأصحاب مصانع الأسلحة، إذا صدقت هذا دعيني أسمع: أيوه. قوليها عالية. ليسمعك الرئيس «يسوع».

تركت المرأة تصيح للرئيس يسوع، وسرت الهوينا في اتجاه منزلي. اكتشفت حانوتًا للأثاث الخشبي بجوار السوبر ماركت فوقفت أتأمل معروضاته من الواجهة الزجاجية. ولحظت مجموعة من الرجال والنساء السود تقف فوق حافة الرصيف، أمام الحانوت مباشرة. كانوا يحملون لافتة كُتِب فوقها بخط كبير: «من فضلك لا تشترِ من هنا!» قرأت السطور التالية التي كُتبت بخط أصغر: «هذا الحانوت لا يحترم نضال عمال الأثاث من أجل العدالة والكرامة.» ناولني أحدهم ورقة، فأخذتها ووضعتها في جيبي وواصلت السير.

لمحت «فيتز» في الحديقة الخلفية بمجرد أن ولجت المسكن. غسلت يدي ومضيت إلى المخدع، ففتحت الباب المنزلق وخرجت إليه. كان يرتدي بنطلون الجينز المألوف، وفوقه بلوزة قطنية زرقاء بربع كُمٍّ لا يكاد يغطي الكتف.

دعوته إلى كوب من عصير البرتقال فقبِل. أومأت برأسي إلى مسكن جيراني وسألته: أليست هناك شكوى جديدة؟

هزَّ رأسه نفيًا وقال: البعض يبالغون، أنا شخصيًّا لا أدخِّن، لكني لا أعترض على مَن يفعل ذلك.

قلت: إني لمحته في المعهد، فبدا عليه شيء من الحرج، وذكر لي أنه كان يعمل في بنك، ثم استغنوا عنه في إحدى موجات الانكماش، فبدأ يلتقط رزقه من رعاية الحدائق والأعمال الصغيرة المماثلة، وتبخرت أحلامه في تقاعد مريح. وأخيرًا اضطر لقبول وظيفة كتابية في المعهد.

انهمك في انتزاع بعض الأوراق الصفراء من شجرة تين صغيرة، وهو يهز رأسه متمتمًا لنفسه فتأرجح قرطه ثم وجَّه إليَّ الحديث: أولاد العاهرة يقولون لك إن منصبك مأمون، ثم يتخلصون منك في لمح البصر، عندما يعثرون على مَن يؤديه بنصف الراتب؛ ولهذا أكره البنوك وأيضا المحامين والنساء.

لم أستطع كتمان الضحك: المحامون أمرهم معروف، لكن ما ذنب النساء؟

قال: لأنهن عاهرات. كانت زوجتي محامية ولم تكَدْ تسمع بتسريحي من البنك، حتى أرسلت إليَّ أوراق الطلاق في اليوم التالي. وبعد أسبوع استولى البنك على منزلنا.

عكف على بسط ستارة من السلك فوق الشجرة؛ ليحميها من الطيور، ثم سألني: هل تفرجت على المدينة؟

قلت: ليس بعدُ.

قال: يمكنني أن أريك أماكن لا تحلم برؤيتها.

قلت باهتمام: موافق.

قال: ما رأيك في أن نذهب الآن؟

قلت: إني أريد أن أتفرج على «كلينتون».

قلَّب شفتيه ازدراء: النساء … هل تعرف ماذا قال أمام هيئة المحلفين؟ قال بعد القسم: إن «مونيكا» أتت فعلًا جنسيًّا معه، أما هو فلم يرتكب فعلًا معها … وإنه لم يكذب حين نفى قيام علاقة جنسية بها.

لم أكن قد تتبعت هذه التفاصيل، فاستوضحته.

– «مونيكا» ارتكبت الفعل؛ لأنها استعملت شفتيها، أما هو فلم يرتكبه؛ لأن سيجاره هو الذي لامسها وليس هو شخصيًّا.

كان الأسبوع حافلًا بحق، سيطرت عليه الحياة الشخصية للرئيس الأمريكي، وتصدرت أسراره الصفحات الأولى للصحف منذ وضع تقرير المدعي المستقل «كينيث ستار» على الإنترنيت. وكان المقرر أن يوجه الرئيس كلمة إلى الشعب في المساء عن طريق التليفزيون.

جلست في الحديقة بعض الوقت بعد انصراف «فيتز». تذكرت حانوت الأثاث، فأخرجت الورقة التي وضعتها في جيبي، وقرأت: «يتعرض العمال، وأغلبهم من المهاجرين، للإيذاء والمعاملة السيئة من الأجور المنخفضة إلى غياب التأمين الصحي وقواعد الأمان. ويجني أصحاب الحانوت/المصنع أرباحًا طائلة من استغلال العمال. وقد أخذ عليهم المحققون الحكوميون عشرات المخالفات لقانون العمل وقواعد الصحة والأمان، لكنهم لا يعبئون. إن الطريق الوحيد الآن لإجبار هذا الحانوت على الانصياع هو أن تتبضَّعوا من مكان آخر. عليكم أن تقرروا.»

أعدت الورقة إلى جيبي ونهضت واقفًا، ولَجت المسكن فجاءني رنين التليفون، تسارعت دقات قلبي كما صار شأني في الآونة الأخيرة كلما سمعته. مضيت إلى الصالة ورفعت السماعة في تردُّد فجاءني صوت أنثوي: هاي، أنا «ميجان».

استعرضت وجوه طالباتي بسرعة، وتوقفت عند صاحبة الملامح الشرق-آسيوية. كنت قد عرضت عليها مشكلتي عندما عرفت أنها تدرس علوم الكمبيوتر.

قالت: أنا عند صديق لي الآن، ولديه طابعة أظن أنها تناسب جهازك، نحن لسنا بعيدين عنك ويمكن أن نكون عندك بعد دقائق.

ظهرت أمام بابي بعد خمس دقائق بالضبط تحمل طابعة عتيقة من النوع الذي يعمل بالشرائط. كانت ترتدي كنزة صوفية ضيقة أبرزت صغر نهدَيها، وجوبة طويلة ملونة بلغت قدميها. تقدمتها إلى المكتب حيث وضعت الطابعة إلى جوار الكمبيوتر. انحنيت على الجهاز محاولًا إدخال كابل الطابعة في ظهره، فوقعت عيناي على شق جانبي في جوبتها يبدأ من أعلى الفخذ.

شغَّلت الكمبيوتر، وضغطت أمر الطباعة فلم يحدث شيء.

سألتها: ما هي المشكلة بالضبط؟

قالت: ليتني أعرف. كل دراستي نظرية، ولا أفهم شيئًا في التطبيقات والأجهزة.

قلت مهونًا عليها: لا عليك. أشكرك على كل حال.

فصلت الجهاز عن الطابعة. وأضفت: ما رأيك في قدح من الشاي، أو زجاجة بيرة؟

ابتسمت وقالت: كنت أتمنى، لكن صديقي ينتظرني بالخارج.

حملت لها الطابعة حتى الباب حيث أصرت أن تحملها بنفسها. انتظرت حتى صعدت إلى سيارة صديقها الذي لم أتبين ملامحه، ثم عدت إلى الداخل. قاومت رغبة ملحة في التدخين، وجلست إلى المكتب. أزحت الكمبيوتر جانبًا وقلبت أوراق مؤتمر المثقفين.

مللت القراءة فأغلقت الملف وانتقلت إلى التليفزيون. تنقلت بين القنوات وتابعت جانبًا من برنامج عن الشرطة الراكبة، وكيف هُرعت لإنقاذ قطة ارتقت شجرة عالية، ولم تتمكن من الهبوط. واستدعت الشرطة فريقًا متخصصًا استخدم سلمًا معدنيًّا، وجعبة خاصَّة لالتقاط القطة بينما وقفت صاحبتها تنتظر النتيجة في قلَق وإشفاق.

ووجدت في قناة أخرى برنامجًا عن مجموعة من النساء البدينات اللاتي كوَّنَّ فريق سباحة. وأفاض مقدم البرنامج في الحديث عن مشكلة البدانة، وخاصة بين الأطفال. وقال: إن وزنهم ازداد عن المعدَّلات السابقة وأصبح هناك جيل «إكسترا إكسترا لارج»، وإن في الولايات المتحدة ستة ملايين طفل بدين بدرجة تهدد صحته.

أعددت لنفسي عشاء خفيفًا، وعندما عدت إلى التليفزيون اكتشفت أن «كلينتون» بدأ كلمته. وكان يقول في تأثر شديد إنه أقام بالفعل علاقة مشينة مع «هذه المرأة مس لوينسكي» كما وصفها، وإنه «كذب على الشعب الأمريكي وخدع أسرته وزوجته وابنته». وفجأة دمعت عيناه.

أوشكت عيناي أن تدمعا أيضًا، لولا أن انتزعني جرس التليفون من مأساة الرئيس. رفعت السماعة متوقعًا أن تكون «ميجان» قد قررت قبول دعوتي، فجاءني صوت رجالي غريب: «هوبس»؟

كان يتحدث لكنة أمريكية واضحة تختفي فيها مخارج الألفاظ.

قاطعته: عفوًا! «هوبس» ليس هنا.

صمت برهة كأنما بُوغت، ثم سأل متوجسًا: مَن هذا؟

قلت: مستأجر.

قال: أنت لست من هنا. من أي بلد؟

قلت: «مصر».

قال: «مصرایم»؟

عجبت لاستخدامه الاسم التوراتي، ولمست نبرة استهزاء في صوته. وعندما هممت بالرد وضع السماعة.

كان حديث «كلينتون» قد انتهى فأغلقت جهاز التليفزيون، ووضعت فيلمًا إيروتيكيًّا في جهاز الفيديو. بدا لي من لقطاته الأولى أنه على درجة من الإتقان، وكانت بطلته امرأة ذات جسد مثير. لكن الأكثر إثارة كان صوتها المغناج وخطوات غوايتها لفتاة أخرى ذات تكوين ذكوري واضح. تمددت أمام التليفزيون بعد أن خلعت بنطلوني، وتهيأت للمتعة المرتقبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤