ذكر مقالات بعض معاصرات المؤلفة

سارة نوفل

ولنبدأ بما قالته حضرة الآنسة والأديبة السيدة «سارة نوفل»، كريمة الفاضل نسيم أفندي نوفل، من الاقتراحات التي اقترحتها على علماء اللغة العربية، قالت: «نحن في عصر سطعت فيه شموس العلم والآداب، فأنارت بأشعتها مدارك ذوي الألباب، فلا غرو إذا سميناه بعصر الاختراعات والاكتشافات. وقد رأينا فيه من فعل البخار والنور أعجب العجائب، ومن قوة البرق والكهرباء أغرب الغرائب، حتى لم يبق فيه محل للغرابة إذ تطفلتُ في هذا المقام على نصراء العلم والعلماء، وأرباب الفضل الألباء، باقتراحٍ يهمني الحصول على نتيجته، والوصول إلى فائدته، كما يهم البنات الشرقيات اللواتي عرفن ما كان لهن من الحق المسلوب، وما عليهن من الواجب المفروض.

فأقول — بعد الاستسماح من ذوي الفضل والآداب: قد علم السواد الأعظم أن الأوروبيين وغيرهم من الأمم الأكثر تمدنًا قد اتحدوا بعقد الخناصر واتفاق الخواطر، سواء كان في محافلهم العلمية ومجتمعاتهم الأدبية، أو في نواديهم العمومية وهيئاتهم الاجتماعية، وقرروا وجوب احترام المرأة يوم عرفوها عضوًا مُهمًّا في جسم الكون للارتقاء وحسن التربية. ولمَّا عمَّ في أرجائها هذا القرار العادل، وصار نظامًا مرعيًّا بين الخاص والعام؛ أخذت المرأة بالتقدم إلى مراتب الوجود، ومقام الكمال الإنساني، حتى بلغت ما بلغته من المعارف والواجبات، وقد رفعت بواسطتهما علم السلام بين أولادها وذويها، وتمكنت بسببها من عقد وثاق الحب والولاء بين كل من أفراد عائلتها، إلى غير ذلك مما نراه من آثار آدابها في أكثر الشعوب الغربية.

ولم يكتف الغربيون بهذه الأمنية حتى استنبطوا للتمييز بين البنت العذراء والمرأة المتزوجة لفظة افتخارية قائمة بذاتها؛ كقولهم في اللغة الفرنساوية للمرأة: مدام، وللعذراء مادموازيل، وفي الإنكليزية: مسز، ومس، وباليونانية: كريا وسبينيس، وبالإيطالية سنيوره، وسنيورينة، أو مداما، ومدام، وهكذا في غيرها من اللغات الأجنبية الأكثر انتشارًا في وقتنا الحاضر.

أما نحن — الشرقيين عمومًا والغربيين خصوصًا — فقد أغمضنا الجفن عن هذا التخصيص رغمًا عن اتساع اللغة العربية، وتسابقنا إلى انتحال أكثر عوائد الغربيين وأزيائهم، واشتركنا في معظم هيئاتهم ومنتدياتهم، واستحسان أخلاق البعض منهم، إلا أننا لسوء الحظ لم نحذُ حذوهم بإعطاء البنات هذا التمييز الاحترامي، والإشارة الخاصة بهن عندهم.

والأغرب من هذا أننا لو فتشنا وبحثنا مَليًّا بين مائة مليون نفس وأكثر من الناطقين بالضاد، لما وجدنا فيها كلمة واحدة تقوم مقام المدام والمادموازيل في مبناها ومعناها، وإن قيل: إن كلمتي ست وستيتة يستعملان بمعنى مدام ومادموازيل في الفرنساوية، إلا أن هاتين الكلمتين ليستا صحيحتين على ما يظهر، وفضلًا عن ذلك فإن التصغير في ستيتة هو للاحتقار لا للافتخار خلافًا للمعنى المقصود بالمادموازيل، كما لا يخفى على كل لبيب أديب.

نعم عندنا كلمتان مترادفتان؛ وهما: السيدة والخاتون، ولكن نراهما غير وافيتين بالمرام؛ لأنهما تطلقان على العذراء والمتزوجة في آنٍ واحد بلا استثناء، وليس في إحداهما صفة خاصة تدلنا على معرفة الموصوفة بإحداهما معرفة حقيقية. والدليل على ذلك أننا لو عثرنا على مقالة لإحدى السيدات والخواتين الشرقيات في إحدى الجرائد العربية، لما قدرنا أن نحكم ما إذا كانت المُحررة بنتًا أو امرأة، بل نقف بالالتباس حيارى بين هذه وتلك إلى ما شاء الله.

هذا وإن شئنا أن نعرب كلمة مس أو مادموازيل ونستخدمهما كما هما في كتاباتنا وحديثنا العام، نخاف الملامة ممن درسوا مفردات اللغة ولسان حالهم يقول: «كل الصيد في جوف الفرا.» فنحتاج وقتئذ إلى أحد أمرين: إما المباحثة والجدال الطويل، وإما أن نسكت ونستر الوجه بأكمام الخجل، حين لا نرى في كتب اللغة كلمة واحدة تتميز بها العذراء من المتزوجة احترامًا، كما تميزا في اللغات المذكورة آنفًا.

فرجاؤنا من أئمة اللغة وجهابذة الفضل من أبناء هذا العصر أن يبحثوا لنا عن كلمة عربية تقوم مقام المادموازيل بوضعها ومعناها، بحيث تصبح عامة بين الرفيع والوضيع لفظًا وكتابة، وإلا فلا لوم علينا ولا تثريب إذا التجأنا إلى لغات الأعاجم باستخدام هذه الكلمة وغيرها مما لا شبه له في لغتنا العربية، التي إن طال عليها مطال هذه الاستعارات أصبحت يومًا كاللهجة المالطية اختلالًا وامتزاجًا.

ولا ننكر أن في زمن تدوين اللغة العربية كانت المرأة في عين الرجل حقيرة ذليلة، وليست بأكثر من أدوات البيت أو كباقة من الأزهار تُطرح خارجًا حينما تذبل، ولذلك لم يخطر ببال أحد من ذلك العصر أن يستنبط في اللغة كلمة مثل هذه تدل على المرأة دلالة صريحة باحترامٍ وتوقير، ولكن نحن الآن في عصر تنوعت فيه أنواع الاستنباطات، فلا يعسر على نصراء اللغة ابتكار كلمة كالمادموازيل للدلالة والتمييز مع حفظ صفة الاحترام والافتخار، وحبذا لو أضافوا إلى اللغة ما لا يوجد فيها من الكلمات المستحدثة، ولكن هذا يحتاج إلى معاضدة الحكومة بإقامة مجمع علمي أكاديمي، وليس من خصائصي أن أبحث فيه وأحث عليه في هذا المقام.

هذا؛ وأرجو من جمهور الألباء، وأصحاب الفضل الأذكياء أن يسبلوا حجاب العفو والمعذرة على ما تطفلت به تجاه ساحات حلمهم؛ إذ قصد لي من هذا الاقتراح أن نباري الأجانب في هذا الشأن، والاستفادة من نفثات أصحاب الفضل، وخير الناس من أفاد، وبناء على هذا الاقتراح استنبط بعض علماء اللغة لفظة آنسة للبنت، وعقيلة للمتزوجة، واستعملهما أكثر الجرائد.»

جليلة كريمة الخواجة نخلة موسى

وقالت حضرة الآنسة جليلة، كريمة الخواجة نخلة موسى، حاضَّةً على لزوم تربية الأولاد والبنات لأجل تحسين حالة نسلهم، وهذا ما قالت: «لقد علم كل إنسان بأن كل ما يراه الولد في صغره يستمر راسخًا في ذهنه أيام حياته كلها، فعلى الوالدين أن يجتهدوا في تربية أولادهم، وأن يكون اجتهادهم هو القاعدة الوحيدة لتثقيفهم. وقد أُجمع على أن المرأة هي علة الترقي والنجاح، وأنها قابلة للتقدم، فمن ثمَّ لا بد أن يكون لتربيتها تأثير عظيم، فقد رأينا سلوك الإنسان مدى حياته قائمًا على محور التربية التي ترباها في طفوليته وحداثته. ولما كان في نعومة أظفاره على الفطرة كان قابلًا أن يتخلق بأخلاق الخير، أو بأخلاق الشر على ما يربيه والداه، وما يسمعه ويراه منهما من التصرف، فهل من مناسبة بين من تربي أولادها بالاحتداد والشتائم والكذب والحيل، ومن تربيهم بطول الأناة والنصائح والإرشاد والصدق، فمن تربى على الخير قام بأعماله حق قيام مكرمًا في حياته، ومأسوفًا عليه بعد مماته، والعكس بالعكس، فمن أراد أن يحيا بمقتضى النواميس الأدبية والدينية، يجب أن يحيد عن طريق الشر، ويسير بحسب الاستقامة، فإذا أخلَّ بشيء كان من الخاسرين.

قيل: «ومن يشابه أباه فما ظلم.» ففي ذلك دليل على اتباع الأولاد أثر والديهم صلاحًا أو طلاحًا، وقيل: «ربِّ الولد على مخافة الله؛ فمتى شاخ لا يحيد عنها.» وذلك برهان على رسوخ التربية في الأحداث؛ ففي حسن التربية سعادة الوالدين والأولاد معًا. ويجب على الوالدين أن ينظروا إلى طرق أولادهم، وأن ينصحوهم وينذروهم لكيلا يسلكوا طريقًا معوجة، ولا ينهمكوا في الشهوات، ولا يتورطوا حبًّا في الدنيا وغرورها، بل يتقصون هذه الشجرة في صغرها، فكم من الأولاد يتعلمون القذف والشتائم والكلام القبيح قبل أن يتفوهوا بالصالحات، ولا يخفى على الوالدين أنهم مسئولون في أولادهم عند الله، وعند السلطة والألفة معًا؛ فإنما الأولاد للآخرة ولوطنهم ولأبناء جلدتهم.

فإذا فطن الآباء إلى تهذيب أولادهم في صغرهم ارتاحوا وأراحوا مدى الحياة، فخير للوالدين أن يُشدِّدوا على أولادهم في صغرهم من أن يطلقوا لهم العنان، فيندموا ويوقعوا أولادهم في ورطات عظيمة.

فمن الناس من يرى ولده عليلًا ولا يبادر إلى دفع الأذى عنه، أو جريحًا ولا يسعى في مداواة كلومه، فإذا كانت هذه غيرتهم وعلل أولادهم جسدية، فكم يقضي من الزمن في مداواة أمراضهم النفسية! فمن أحب ابنه أدَّبه، فليس التأديب إهانة وذلًّا، بل شفاء وخلاصًا.

فقد نهى تعالى شعبه عن الامتزاج بالأمم لفسادها، وسن له نواميس الإصلاح حتى إنه أذن بأن ينهوا في التربية ويهلك جيلهم فيها من أن يدخلوا أرض الميعاد بفساد مصر.

فعلى المرأة الراغبة في تربية أولادها أن تكون على جانب وافر من الأدب، وحبذا لو كانت ذات معارف وصاحبة تدبير؛ ففي ذلك تهذيب أولادها وراحة قرينها، فعلى المرأة تدبير المنزل، فتساعد قرينها في الاقتصاد، فكم من امرأة هدمت بيتها بسوء تدبيرها! وكم من امرأة أحيت موات منزلها بحسن إدارتها! فلا فائدة للغِنَى مع الإسراف، ولا للمداخيل مع التبذير. وهي خلال إذا تربى عليها الأولاد زاد البلاء بلاء، وما نفع أبو العائلة إذا سعى وجد وحرص وأحرز إذا كانت المرأة تبدد أمواله، وتفسد تربية أولاده بعدم تعقلها وترويها، فمن رام الإصلاح علم الفتيات، وغرس في فؤادهن المبادئ الصالحة، وزين عقولهن بالحكمة، وحملهن على حب الفضيلة، ولله در من قال: «لو كانت الآداب بالعقود والقلائد والأساور والخواتم؛ لكان المال إنما هو نفس التمدن.»

فأشقى الأمم من حجب الله عنهم الحكمة والأدب، فأول شيء يقتضي غرسه في فؤاد الولد من أنثى وذكر حب الله، وحب الوالدين، وحب السلطة، وحب القريب. فمن رسخت في فؤاده هذه المبادئ، وتربى عليها؛ أفلح ومال إلى الشغل، وكد واجتهد، وكان أديبًا حسن السلوك والتدبير؛ ففي الدرس والمطالعة والمجالسة والمعاشرة حسن الحديث، ولين الجانب، ولطف الأخلاق ودماثتها.

هذا ولا بد لكل أنثى أو ذكر من مهمة يهتم بها، فقيمة المرء ما يحسنه، فعليه بإحكام صناعته، وأن يحرص على حاله ويستجيدها، فالصناعة تكسبه مالًا وتجبره على نبذ الكسل، وعلم الحساب يقيه من الخطأ، وأعمال اليد تساعده على ترتيب المعيشة، وثمرة السعي الترتيب وحسن النظام.

أوليس الأليق بنا التخلق بالأخلاق الحميدة، وأن نزدان بالعلوم والمعارف، ونعكف على الشغل والعمل من أن نمضي الأوقات فيما لا طائل تحته من الأحاديث، بل بالقدح والطعن والنميمة والثلب والتعصب والإغراض؟ فعلينا أن نكون كالرياحين زهرًا وزَهاء لا كالأرض البور قرطبًا وعوسجًا.»

هناء كوراني

وقالت حضرة الأديبة الفاضلة العقيلة «هناء كوراني» مُظهِرةً واجب الزوجة نحو الرجل، وإليك ما قالت: «والحق إذا علا، والفضل إذا سما، والصلاح إذا بدا، والعقل إذا ارتقى؛ فهناك مقام البهجة والحبور، ومرتع الانبساط والسرور، ومجتمع السلام والهناء، وملتقى الراحة والصفاء، في منزل من سارت به زوجة تلاقيك بوجه طلق، ومُحيَّا بشوش، وتهدي إليك من رقة أنغام صوتها لطفًا وحلاوة يأخذان منك بمجامع القلوب، وتنظر إليك بألحاظ الفطنة والذكاء، فتُعيرك نشاطًا جديدًا، وتهديك طريقًا قويمًا؛ تلك التي رسم التعقل والحلم والرصانة على جبينها آياتٍ، بما لها من الفضل والعفاف وكريم المآثر معلنات بينات.

الزوجة — كما تعلمون — مدبرة العالم الإنساني، وعليها يترتب أمر التقدم والانحطاط؛ وذلك لأنها ربة المنازل وسيدة المساكن من قصر باذخ يناطح برأسه السحاب إلى كوخ على جانب كبير من الفقر ورثَّة الحال؛ ولهذا كان مركزها في غاية قصوى من الأهمية، جديرًا بأن يُعار معظم الاعتبار، وخليقًا بأن تحوم حوله دوائر صائبي الأفكار؛ لتسلم من شر عواقبه الوبيلة على العباد. أجارنا الله منه.

إذا تأملنا في أحوال ما حولنا من البشر، ووقفنا على دخائل أمورهم؛ نرى — بعين آسفة — أن معظم الشقاء والتعاسة والآلام التي نصادفها صادرة عن جهل اللاتي يتخذن مقام الزوجة بما يترتب على ذلك من الواجب واللازم، فيسود في مساكنهن الخصام والشقاق، وتفر الراحة من أمامهن على جناح السرعة إلى مقام السلام، وتكون حياتهن مع أزواجهن عبارة عن سلسلة متصلة حلقاتها بالمرارة والويلات، مرتبطة أجزاؤها بالمصائب والتنهدات، مع أنه كان بوسعهن — لو دبَّرن أو أردن — أن يتقين ذلك البلاء الأعظم الذي يفتك ببهجة الحياة ورونقها.

ولا واقي لذلك الداء العضال، الذي لا ملجأ من آلامه مدى الحياة، سوى عمل الزوجة بما يفرضه عليها الدين والأدب — حتى الطبيعة — من الواجب نحو رَجُلها، فالزوجة التي هي شريكة حياة الرجل، يجب أن تتأكد بأن مسرتها ومسرة زوجها يتوقفان على محبتها الحقيقية له، وخدمتها الأمينة لجميع حاجاته، كما أنه يدور بخدمتها، ويفعل ما به يطيب خاطرها. ويشترط عليها أن تعمل بقلب فرح؛ إذ لا أحب إلى الرجل من الزوجة البشوشة؛ لأن البشاشة تنير وجهها وإن يكن غير جميل، فالفتاة الجميلة الفاتنة التي تصنع بعد زواجها حنجرة كدرة لا تقدر أن تُوجِّه لومًا إلا على نفسها إذا غاب رجلها كثيرًا عن المنزل؛ لأنه من طبع الرجل كراهة الوجه المنقلب، والسحنة الشكسة.

وعلى المرأة أن تدرس طباع وأخلاق رجلها درسًا جيدًا لتستطيع السلوك معه بحسب مشتهاه؛ لأنها إن فعلت ذلك لا ريب تصيب لديه المنزلة الأولى، والمقام الأجل؛ فتصبح إرادته رهن رضاها، أو مناه تلبية أمرها، اللهم إلا إذا كان بعيدًا من الإنسانية بشيء لا يخفى داخل جسده البشري، ذا قلب وحشي لا يلين. ومن أهم واجب الزوجة الذي قلما تكثرت به: المحافظة على حسن صحتها في الاعتدال في المأكل والمشرب والملبس؛ لئلا تُبتلَى بداء يرميها العمر على فراش السقام، فتكون حملًا لا يطاق على عاتق رجلها، فضلًا عن أنها تخسر محبته الأولى. وهذا أمر بديهي؛ إذ الرجل لم يقترن بالمرأة ليُمرِّضَها، بل لتكون عونه وشريكته في حمل أثقال الحياة ومتاعبها الجمة. وما قصدتُ بهذا أن يراد الرجال الذين لا يعتنون بنسائهم، كلَّا؛ لأنه من أول واجب الرجل أن يبذل مستطاعه في تطبيب زوجته إذا فاجأها مرض أو بلاء، بل لأُذكِّر المرأة بأمر ربما لم يخطر لها ببالٍ، فتستفيد للاستقبال حقًّا واجبًا.

إن واجب الزوجة نحو رجلها فرض مقدس سُنَّ مِن قِبل الخالق والوجود، فإهماله يعود عليها بشقاء مستمر؛ إذ إنها تخسر محبة زوجها وثقته بها. ويا لعظم الخسارة! فيصرفان حياتهما في تعسر وتكدير، بخلاف ما إذا قامت بمطلوبات مركزها بجهد وأمانة؛ فالسعادة تظلها بأجنحتها، والبركة والسلام يأويان منزلها، وكم قد أطنب الشعراء والكتبة في وصف الزوجة الصالحة، ورفعوا من منزلتها، وأكثروا من مدحها! وذلك دلالة على سمو شأنها، وعزيز نفعها في عالم الوجود.

والزوجة الصالحة هي التي تمتاز بأفكارها الطاهرة الشريفة، وبشعورها الخفي اللطيف، وبأخلاقها البهجة الأنيسة، وبصبرها الجميل، وعريكتها اللينة، وعفتها النقية، فتراها مرتدية النظافة واللياقة ثوبًا، ومغتذية مع عائلتها على حدود الاعتدال والاقتصاد. تلك التي تسرُّ يدها بالعمل، وتكره رِجْلُها التبختر، فتنهض في الصبح باكرًا متسربلة القوة والنشاط لترتيب أشغال النهار، والقيام بمهام منزلها، فتكون ينبوع سعادة رجلها، وفخر أولادها الذين يسمعون أناشيد مدحها، فيهيمون طربًا، ويزيدون من إكرامها شيئًا عظيمًا.

هذه هي المرأة التي ترفع شأن الإنسانية، وتعمل في تقدم الجنس البشري أشرف وأجل عملًا، والتي فوائدها لا تحصى، وآثارها لا تستقصى؛ فإنها تفعل في ارتقاء العالم أكثر جدًّا من التعليم والإنذار والتوبيخ، وبدونها لا تفيد وسائل التقدم شيئًا مذكورًا؛ ولذلك كانت حاجتنا — نحن الذين أخذنا نتدرج سلم المعالي — لمثلها شديدةً؛ فإني أرى البلاد ظمأى لتأثيرها المحيي، ومآثرها الغراء. فرجائي أن يصيب مقالي في قلوب نسائنا ثرى ثريًّا؛ ليجتنِبْنَ نُكْرًا، ويزددن فضلًا، ويثمرن معروفًا، فتسمو بهن البلاد والعباد. والله ولينا، وبه نتوفق إلى خير الأحوال.»

مريم خالد

وقالت حضرة الكاتبة الأديبة «مريم خالد» في مقالتها التي عنوانها: «وجوب تعليم البنات ردًّا على معترض هذا المقصد»: «لا أدري ما الذي دفع بالمُتعرض إلى هذا القول، ولا أعلم ما هذا الغشاء الذي قام أمام عينيه؛ فلم يعد ينظر من ورائه الفوائد الحاصلة التي لا ينكرها إلا من أعماه الجهل، وخيم فوق رأسه الغرور، وكأني به وقد رأى كُلًّا يبدي رأيًا ويتكلم بما يَعِنُّ له من محسنات ومسببات النجاح كقوله: «هل تقصد أن ترسل ابنتك للمكتب …؟» أراد أن يتكلم فبحث في زوايا دماغه، وفتش مخبآت قريحته، فلم ير إلا أن تعلُّمنا صورة خارجية، وضرر عظيم، فهل يظن أن العلم خُلق للرجل؟

لعمري إنه في ضلال مبين، وخطأ عظيم، ولنفرض أننا سلمنا اعتقاده وجاريناه على قصده، حسب زعمه، أن العلم لا ينفع البنات، بل يُنتج المضار، فما هي يا ترى؟ أيحسب أن أولها النفقات التي تبذل لوضعهن في المدارس؟

ثم إن المدارس جامعة البنات من رتب وطبائع مختلفة، فتدخل الابنة بسيطة لا تعرف الحي من اللي، فتستنير بعدئذٍ، وتتغلب عليها آفة الغيرة فتُجرِّب أن تجاري البنات اللواتي هن أعظم منها رتبة وغنًى بالملابس والزينة الخارجية، وتقتبس كل عوائدهن حتى يصعب على الإنسان أن يرى الفرق بين الغنية والفقيرة، وتتمرن على الراحة والرفاهية حتى متى رجعت إلى البيت تراها شامخة بأنفها، معجبة بنفسها، لا يعجبها العجب، ولا تمارس الأشغال البيتية، فتخسر والديها مبالغ لا طائل تحتها، فكان الأجدر بها أن تبقى في البيت. مثل هذه حجة المعترض، لتكن.

وا أسفاه على المعترض! لا يعلم أن هذا الغلط غير لاحق بالبنات فقط، بل بالشبان أيضًا؛ فإني أقرُّ بهذا الغلط، ولكنه ليس عموميًّا، ألا يعلم أن للناس طبائع وأميالًا مختلفة، فالبعض يميلون إلى الإسراف والتبذير، والبعض إلى العلم والتهذيب، والبعض لغرور العالم وشهواته؛ فلا خوف على ابنة واقعة تحت ظروف كهذه، فمهما كانت طائشة وميالة للإسراف لا بد من أن يعلق في ذهنها أثر التهذيب، والتي لا يفعل فيها التهذيب المدرسي، لا يفعل فيها لو لزمت البيت، فكفى أن المدرسة تربي فيها ميلًا للعلم والأدب، وتُدرِّبها في أعمال الحياة بعد خروجها من المدرسة ودخولها في العالم. ومن جهة الأشغال البيتية، لا يلزمها أفكار وتعب جزيل لتتعلم ممارستها؛ فعليك أيها المعارض أن تتشجع ولا تخاف من هذه المضار، بل أن تصوب آمالك للفوائد الجمة التي تنتج من تعليم البنات، ولا تحتقر عملهن؛ فإنك بذلك تحتقرهن، ولا تنس أن المرأة هي المحور الذي تدور عليه أسباب النجاح، وهي سبب التقدم والفلاح، وهي حافظة للهيئة الاجتماعية، ومرآة الآداب العمومية.

لا مشاحة أنها تبلغ في العالم مبلغ الرجل أحيانًا؛ فلذلك يجب تعويدها على إطلاق أعنَّة الأقلام في ميادين التصورات العقلية؛ لتجتني من الطبيعة عسلها الشهي، وبذلك يعلم العالم أنها على شيء، وينطلق لسان الأبكم بفضلها، وعندئذٍ تبكم الألسنة القائلة بحطَّة عقلها وحقوقها.

أما أنا، فعندي أن صرير أقلامنا الحاضرة سيدوي في وديان سوريا، ويؤثر في آذان الهيئة الاجتماعية؛ فعلينا أيتها السيدات بالتحفظ في كل أمر يحط شأننا، وملازمة الخطة التي ترفع قدرنا ومقامنا. واعلمن بأن الأنظار تراقبنا، والإصلاحات تنتظرنا، والمرأة مرآة الوطن، فيها يظهر هيكله، ومنها يعرف كيف هو، ورجاؤنا أن نكون نحن الرابحات، والمعترضون الخاسرين.

وأخيرًا، يجب علينا الشكر لله، ولوفرة اهتمام الحضرة العلية الشاهانية في ترقي البلاد والرعية، وأكثر الآباء الآن أدركوا أهمية تعليم بناتهم، حتى صار تعليمهن عند البعض أمرًا لازمًا، فأطلقوا قيودهن حتى بادرن على نزر المساعدة المبذولة لهن إلى مجاراة الرجال.»

استيرازهري

وقالت حضرة الأديبة الآنسة «استيرازهري» في مقالتها التي عنوانها «الإحسان الكتابي»:

المرء بعد الموت أحدوثة
يفنى وتبقى منه آثاره
وأحسن الحالات حال امرئ
تطيب بعد الموت أخباره

وماذا يفضل حالة من يكرس نفسه لنشر الآداب وإعلاء منارها؟ وأي خبر نشره أطيب ممن يصل سواد ليله ببياض نهاره سعيًا وراء هداية غيره سبل المعرفة، مستجليًا عويصها له، كاشفًا غوامضها، لا يأخذه بذلك ملل، ولا يناله كلل؟ أجل، أليست هذه حالة العلماء والفلاسفة منذ نشأ العلم إلى اليوم، أشغلوا جل أوقاتهم بكتابة الكتب التي تعود على عموم العالم بالنفع، وتدرأ عنهم المضار. وبهذه الواسطة لم تقصر إفاداتهم على الجيل الذي عاشوا معه، أو البقعة التي قضوا فيها حياتهم، بل لا تزال منتشرة في كل قطر مدَّت المعرفةُ سماءها عليه، لابسة من الحياة ثوبًا قشيبًا لا تبليه الأيام، ولا يؤثر به كرور الأعوام، فخُلدت أسماؤهم، وكانت خير أثر. ومن رغب في أن يأتي بالإحسان الكتابي لا يحتاج أن يجمع الشعب من حوله ليلقي عليهم معارفه، كما كانت تفعل العلماء في سالف الأيام، بل خولته التقدمات العصرية مقدرة على وضع أفكاره وتعاليمه في كتاب ينشره بين الملأ، فتتناوله الأيدي، ويقطف أثماره القاصي والداني، ونرى تأليفه يقوم مقامه في كل عصر، حتى إذا فني المؤلف ولعبت الديدان في جسده؛ بقي كتابه بين أيدي الذين بعده يغذون عقولهم بمواده.

وعليه نرى الإحسان الكتابي آلة يستخدمها المحسنون لإذاعة الآداب واستمرارها، فتغني الطلاب عن الأساتذة، فكم من الناس الذين لم تسمح لهم أحوالهم بالدخول إلى المدارس، وجدوا هذا الأستاذ ينادي بصوته الجهوري قائلًا: «تعالوا يا محبي المعرفة وراغبي التقدم؛ فها أنا أستقبلكم على الرحب والسعة، وسترون مني أستاذًا شفوقًا محبًّا محسنًا، أرغب في تقدمكم، وإعلاء شأنكم، لا أطلب منكم أجرًا ولا تعويضًا، فلا أترك غامضًا في السماء أو تحت الثرى إلا وأجْلُوه لكم، وأُظهِر مخبآته، فلا يأخذكم بذلك ملل، بل ثابروا على خطتكم، واجتهدوا بالثبات فيها؛ ترونني طلق المحيا لا أسأم عندما يتعذر عليكم فعل أمر. وها أنا أهدي الشاب منكم صراطًا سويًّا، وأعد شيخكم بالتقدم، ممثلًا له قول الشاعر:

لا تقل قد ذهبت أربابه
كل من سار على الدرب وصل

فأطاعوا دعوته، وولجوا حدائقه الناضرة، ومروجه الخضراء، فاقتطفوا منها ما طاب لهم، وعادوا ظافرين، فعندئذٍ شعروا بفضل ومنة مَن أحسن إليهم بتآليفه التي أنارت عقولهم، فاقتدوا به، وبدءوا بتأليف الكتب التي تخفف على الغير مشاق الدرس الذي لزمهم، فأحسَنُوا كما أُحسِن إليهم. ومَن يتأمَّل المتاعب التي تحدق بالعلماء لا يبتعد عن إكرامهم وتبجيلهم ما أمكن، فضلًا عن الاضطهادات التي كان يُجازَى بها من صرَّح بحقيقة لم يدركها زملاؤه في الأجيال الغابرة، وكفى «بغليلو» برهانًا، فعندما صادق على قول «كوبرنيكوس» بكون الشمس ساكنة، والأرض متحركة؛ نُفي إلى سجن مدينة غربية بعيدًا عن أهله وخلانه، ومات فيه. وعليه «فغليلو» كان أسير الاعتصاب كما قال «ملتني»، الشاعر الإنكليزي، عند محاماته عنه: ألا إن أضداده لم يقدروا على سجن الحقيقة التي أذاعها «غليلو»، وعليه فكم يجب علينا أن نقدم الشكر لله تعالى، الذي أوجدنا في هذا العصر الحميدي تاج العصور الغابرة، ففسح فيه للعلماء مجال بث حقائقهم بين الشعوب؛ فكان ذلك أكبر نصير لتقدم العلوم، وأعظم عاضد لنشرها!

ومما مرَّ نرى أن العلماء لم يكن يستفزهم وعد، أو يرهبهم وعيد، بل كانوا يقبلون الموت فداء لحقائقهم، فكانوا يُساقون لتناول ضروب العذاب كمن يذهب لينال إكليل الظفر، ولولا ذلك لانفَنتْ المعرفة وعمَّ الفساد، وإذا رغبوا في الحياة لا تكون غايتهم منها سوى نفع الغير، فينكرون ذاتهم في سبيل الإحسان. ويؤيد ذلك ما قاله «ملتون» عندما كان يُؤلِّف كتابه المسمى «بدفاع الإنكليز» عندما أنذره الأطباء بالعمى، إن لم يكف عن الدرس والتأليف، فقال: «إن كثيرين يبتاعون الخير الصغير بالشر الكبير. أما أنا فحسبي أن أبتاع الخير الكبير بالشر الصغير.» حاسبًا عمى عينيه شرًّا صغيرًا في جنب الخير الكبير الذي هو خير بلاده.

وعلى الراغب بالإحسان كتابيًّا أن لا يرهب في الحق لومة لائم، بل يُذيع الصواب منتصرًا له بكليته، ولو خانته المسكونة بأسرها، مبتعدًا عن أن يطوي عليه كشحًا، وإذا فعل ذلك لا يكون قد أدى المعارف حق خدمتها، ولكن عليه أن يراعي ذوق الجمهور بالبحث عن كل ما يرى منهم الإقبال عليه؛ فإذا أراد مثلًا ردعهم عن طرق ألفوها، وهي مضرة لهم، لبعدهم عن التقدم؛ فعليه أن يُظهِر وجوه المضار التي تحصل منها الوسائط؛ للابتعاد عنها، ولا يؤخذ من كلامه لهجة الأمر، بل كمريد الإصلاح، وعليهم حسنُ الاختبار، وعند ذلك يكونون قد قاموا بالخدمة المطلوبة منهم.

وقالت حضرة الكاتبة الأديبة «استير هوري» — في مقالتها التي عنوانها «الروايات»، التي تلتها في دار المدرسة الإسرائيلية عند تمثيل رواية «المسرف»: «الروايات — والكل يعلمون — حقائق، لا بل فوائد ملبسة بلباس الهزل، ومنافع قُدِّمت في معرض المجون تلذ للسامع، وتُخوِّل نظره قوة تحكم بين صحيح الأمور وفاسدها، فيراها بعين الخبرة وقد أميط النقاب عن مؤداها، ويسبر غور تجارب أخذت قسمًا عظيمًا من الزمن بما يفوق القليل منه، فتحنكه بلا تعب ولا كد، وربما عن غير قصد في معرض اللذة التي ينالها عند تمثيلها فتفيده، وبالحري تربيه بالوقائع التي يشاهدها كأنها مرت عليه، وقد قال الشاعر:

تعطي التجارب حكمة لمجرب
حتى تربي فوق تربية الأب

وفوائدها أعظم من أن تُحصر بخطاب يدونه قلم عاجزة نظيري، ومقالة يحصرها يراع قاصرة مثلي، بيد أني وجدت للكلام مجالًا فعملت بقول من قال: «وإن وجدت لسانًا قائلًا فقل.»

فإذا تمَعَّنَّا في الروايات منذ نشأتها إلى عهدنا هذا؛ نرى أنها كانت عنوان فضائل الأجيال الغابرة أو أخلاقها، بحسب الموضوع الذي كتبت فيه، ولكن عند ابتداء عهدها كانت لعقاب المجرمين وإعدام الأسرى، فكانت تُمثل في ذلك الوقت بهيئة تقشعر منها الأبدان، وتشمئز منها النفوس، بحيث إن ممثليها قلما يستطيعون أن يلعبوا دورهم بعد ذلك في رواية الحياة الكبرى.

ثم سمت غايتها بعدئذٍ، فاستعملت لإظهار بعض العقائد الدينية، ثم صارت لتسلية الملوك والأمراء إلى أن تحسنت أكثر فأكثر، وصارت غايتها العظمى إصلاح ما فسد من العوائد والأخلاق، وبيان مصير تابعيها إلى النتائج الرديئة التي تكدر كأس صفاء حياتهم، وتعبث براحتهم من كل جانب، وإظهار ما للفضائل من المزايا الحسنى لكي نقتدي بها، ولا نحب أن يعزب عن بالنا ما لها من الفوائد التاريخية، فتخبر الجميع الحاضر بكل ما جرى فيما سلف من الزمان.

وهي مفيدة لتلامذة المدارس بما ليس دون فائدتها في الناس، بل أسمى وأجل؛ لأن تأثير الحوادث في مخيلة الأحداث يفوق بمرات تأثير الكلام المجرد فيها، فإذا راجع كل منا تاريخ حياته يرى صحة قولي، وناهيك بالفوائد التي يجتنيها المشخصون أنفسهم من عبارات يلتقطونها، وأمثال يحفظونها، وحكم يستوعبونها، فكلما طرقوا خزانة التذكار يرون ما الذي وعوه فيها من الآثار، ولا حاجة أن نقول: إن وقوفهم وهم في هذا السن في محفل حافل كهذا يجعل وقوفهم في المستقبل بأحسن مما ترون مني إلا تصفيق.

وللروايات شروط لو تعدتها لسقطت فوائدها، وعبث بالمقصود منها، غير أني أضرب عن تعدادها الآن. ولدينا رواية تنطق بأوضح ما يعبر عنه لسان، موضوعها من أحسن المواضيع، ومادتها من أغزر المواد، ومغزاها أحسن مغزى؛ فهي قد خاضت بحر الشعر والنثر، فالتقطت منها أنفس الدرر، وتقلدت بها زينة وبهاء، فشكرًا لناسج بُرْدها أفاض فأجاد، ولمساعي رئيس المدرسة الهمام، ومدحًا لفتية نجباء أحسنوا التمثيل وأجادوا الإلقاء. نسأل الله دائمًا نفعنا بما نراه؛ فهو المجيب السميع.»

وقالت حضرة الأديبة «سارة نوفل» تحت عنوان «الصحة أفضل من المودة»؛ الزِّي: «هرعت نساء الغرب إلى دائرة التفنن بأنواع البهارج، وأساليب الزخارف، وأخذن بمناظرة بعضهن في اختراع الأزياء، والتلاعب في صورها وأشكالها تباهيًا وافتخارًا، حتى وصلن بها إلى ما هي عليه في الوقت الحاضر من الوضع والتركيب، ولسان حالهن يقول:

لم يَرُقْ لي منزلٌ بعد النقَا
لا ولا مُستَحْسنٌ مِن بَعدِ مَي

ولما كانت هذه الأزياء بعيدة عنا، غريبة منا، كانت نساؤنا وبناتهن قانعات بما ورثنه من التقاليد والعوائد، سواء كانت صحيحة المبنى، أو سقيمة المبدأ، راضيات بما يختاره رجالهن وآباؤهن من الأزياء وأشكالها، والأثواب وألوانها، وكُنَّ بحالتهن هذه مُمتَّعات بتمام الرفاهية والهناء، وكمال الصحة والصفاء.

ولكن لم تلبث أن تقدمت نحونا تلك المناظرة بخيلها ورَجْلها، ودخلت بلادنا ضيفًا غير محتشم، واستمالت قلوب النساء والبنات إلى الأخذ بناصرها، فتغيرت الحالة الأولى بضدها، واستحالت عوائدنا القديمة إلى عكسها، وارتفع علم «المودة» — أي الزِّي الجديد — في ربوعنا حتى راجت بضاعته، ونال من أفئدتنا بغيته، وما كان رافعه إلا بعض اللواتي أغمضن الجفن عما يتخلل هذه المودة من الإضرار بالصحة العمومية، وأقدمن بحكم التَّشبُّه والتمثُّل ببنات جنسهن الغربيات إلى الانقياد لحكم الأزياء الجديدة، التي لو عرضناها على الأقدمين لظنوها من أثواب الهزل، كأثواب المساخر التي تلبسها الآن بعض النساء في أيام المرافع؛ لما فيها من أعداد التقاطيع والأشكال، وعديد الصور والألوان. ولو تصفح هذا البعض كتب الحكمة وقانون الصحة لحكمن على نفوسهن بالخطأ، وعلِمْنَ كيف تورَّطن بأهوائهن إلى ما يمس الواجب المفروض عليهن في نظام الصحة العامة، التي يترتب على سلامتها الجنس البشري وصيانته من آفة الأمراض الوراثية.

ومن البديهي المقرر في الأذهان أن الأثواب الضيقة جدًّا هي وحدها عثرة للدورة الدموية في جسم لابسها، ومتى اختل نظام هذه الدورة الطبيعي كان الجسم معرضًا لكثير من الأمراض، فكيف لو شدت النساء خصورهن بمشد موسومٍ بلغة الإفرنج «بكورسيه» أو «بوسطوري» حبال متينة، وأضلاع حديدية لا يقوى على احتمال قوتها الضاغطة جسم، أو ضممن أرجلهن وأصابعهن بأحذية لا نقدر أن نَفِيَها حق التشبيه، إلا بقولنا بالأحذية الصينية صغرًا وقالبًا، حتى لا يستطعن بعد ذلك أن يأكلن بلذة، أو يمشين مستقيمات بحُرِّية، بل نرى الواحدة منا مع هذه المضايقة وذاك الأسر ممسكة بأذيال هذه العادة الوخيمة صاغرة لأحكامها الصارمة، قائمة بأمرها إلى ما شاء الله.

وإذا سألنا إحدى اللواتي رُبِّين في مهد الفضيلة والآداب، وتثقفت عقولهن في مدارس الحكمة حتى عرفن أن الكمال إنما هو بمحاسن الأعمال أن: أي الثوبين الآتي ذكرهما أحسن نفعًا، وأكثر فائدة، وألطف منظرًا، أثوب بسيط منسوج من الصوف، أو من القطن أو الحرير أو الكتان يوافق كلًّا من فصول السنة الأربعة، ويجر بذيله عنوان العفة والوقار، وسمات الطهارة والقناعة، ثم يحفظ بوسعه القليل راحة المرأة وصحتها مدى الحياة، أو ثوب من أثواب الأزياء الجديدة الحاكمة علينا بالخضوع لأحكام التقليد واستبداده، فضلًا عما يلهيها من الإسراف والتبذير؟ لقالت:

وما عن رضا كانت سليمى بديلة
بليلى ولكن للضرورة أحكام

نعم، نقدِرُ أن نلومك، أيتها القائلة، إذا كنتِ متوسطة الوجاهة والثروة، ولا ننكر عليك حكم الضرورة التي أشرت إليها؛ لأنك معذورة بعدم انفرادك عن زميلاتك والاقتداء ببنات جلدتك، على أننا نلوم ولا نعذر تلك المرأة الوجيهة الغنية التي نفح الدهر عليها بواسع الخيرات، وغاية الوجاهة، ولم تنثن عزمًا عن مناظرة اللواتي هن أقل منها رتبة ومقامًا، وأضعف حالًا وثروة؛ لأنها قادرة أن تجعل نفسها نبراس الفضائل ليقتدي بها النساء اللواتي هن أصغر منها منزلة، وهكذا تقتدي الصغرى بالكبرى تدريجًا؛ حتى تصل إلى حيث المطلوب والمقصود والمرغوب.

أما الآن فنرى المسألة معكوسة من جميع وجوهها؛ حيث نجد المُثْريات منا اللواتي ينبغي أن يَكنَّ قدوةً لجمعياتٍ يتسابقن إلى ميدان المودة، ويبرزن بحللهن وحليهن تيهًا وإعجابًا، ويتفاخرن كل يوم بثوب جديد إعلامًا ببذخهن وإسرافهن، إلى غير ذلك مما يجدد في نفوس عامة النساء روح الغيرة والاقتدار، ويَحمِلهُنَّ على إقدامهن على نحو هذا التقليد المُضرِّ بصالحهن المادي والأدبي، فضلًا عن إضراره بصحتهن وراحتهن.

وقد سمعت يومًا من إحدى السيدات المثريات ما يُعرِب عن ميلها إلى استئصال «المودة» ومضارها الصحية والمادية؛ حيث قالت: إنني أود من صميم فؤادي أن أحذو حذو السيدات الأمريكيات في أزيائهن؛ لما فيها من اللطافة واللياقة واللباقة والراحة، لكني أخاف أن أكون البادئة لئلا ينسب إليَّ البخل والتقتير المُخلَّان بشرف وجاهتي وثروتي، أو يُظن بي الفقر وعدم الاقتدار على مجاراة نسيبتي دعد، وحسيبتي وصاحبتي أسماء، وحبيبتي سلمى. وهذا أمر يُزري بالمجد، ويَمسُّ التمدن، ولكن بحكم الوهم، على أنني لو رأيت واحدة من أمثالي تقدَّمت قبلي إلى نبذ أحكام «المودة» لكنتُ — وايم الله — ثانية لها. والله عليم بذات الصدور.

فإلى ذوات الأثر والمآثر، وربات الفضل والمبادئ الصحيحة، أرفع عجالتي هذه بعد أن ألتمس من منازل لطفهن حلمًا، ومن واسع آدابهن عفوًا؛ لعلي أفوز بمن تحمد من هذين الأمرين ما لا يقبل النقض والإبرام، والتنكيت والتبكيت؛ لأن التطرف ﺑ «المودة» قد أوصلنا إلى منازل لا تحمد عواقبها، والتشبه يقضي بين الأحساب والأنساب، والأقران والأمثال بأن ينفقوا كل غالٍ حبًّا للمساواة بين المقلِّد والمقلَّد.

وكم من امرأة باعت ما لديها من الحلي والعقار، وابتاعت بقيمته قبعات وأثوابًا ومراوح إلى غير ذلك من لوازم «المودة» العائدة بخراب بلادنا، والمنفعة لغيرها من البلاد التي تختلق لنا لزوم ما لا يلزم! فنتهافت إلى ابتياعه ولا تهافت الجياع إلى القصاع، حالة كوننا موجودين في عصر كثرت فيه احتياجات الإنسان، كما قلت موارد الرزق، وسدت أبواب المصالح تجاه وجوه أربابها، ولم يبق من سبيل للتخلص من الضنك المستحوذ على أكثر الشعوب إلا الاقتصاد بعدم الالتفات إلى مهالك الأزياء.

فعلينا أن نترك التقاليد الإفرنجية، ونتمسك بأحاسن العوائد التي يمكننا أن نقتطفها من مجموع عوائد الغربيين والشرقيين، وحبذا لو اقتدينا بعقائل نساء الإفرنج اللواتي لا يملن إلا إلى الجد والصالح، وحسبنا شاهدًا اللواتي نراهن كل عام يَسِحْنَ من جهة إلى جهة ثانية، ومن قارة إلى قارة أخرى تبديلًا للهواء، واستطلاعًا لما في الوجوه من المناظر والغرائب والآثار والعوائد، وهن بغاية البساطة في ملابسهن وتقليداتهن.

ومن المستحيل أن نرى واحدة منهن لابسة ذاك المشد الحديدي، الذي تستلزمه «المودة» لضم أضلاع الصدر، وترفيع دائرة الخصر إلى حدٍّ لا تطيقه المعدة. والمعدة بيت الداء كما لا يخفى. وبناء على ذلك، يجدر بنا — نحن الشرقيات — أن نقتبس من أديبات الأجانب، ونقتدي بفاضلاتهن، ولا نتجرع كأس الضرر ونحن على علم بأن السم في الدسم، ويجب علينا أن نتحد من الآن فصاعدًا على نبذ كل عادة مضرة بأجسامنا ومصالحنا، ونعرف ما لنا من الحقوق، وما علينا من الواجبات، فهلمَّ يا بنات سوريا الأديبات، يا من سطعت بكُنَّ شموس ذوات الخدور، فغنيتن بالضياء عن البدور، إلى نشر هذه المبادئ في جرائد الوطن ولسان الحال لكي تصير علنًا، ونفوز بالأمنية، ونستأصل من بين ظهرانينا آفة الاقتداء بغيرنا ممن لا يهمهم همنا، ولا يسرهم وفاقنا. والسلام.»

ولنبدأ الآن بسرد التراجم، والله المعين في البداية والنهاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤