حرف الجيم

جان دارك

وتُسمى «لابوسل»، وتُعرف بالسيدة «أوريان». هي فتاة فرنساوية كانت نقية البشرة، مهفهفة القوام، دعجاء العينين، ذات شعر فاحم مسترسل على كتفيها، يلوح على محياها الصبيح سيما الحياء واللطف والدعة، وتبدو من مخايلها أمارات مَضاء العزيمة، وبُعد الهِمَّة، وثبات الجأش، ولطالما امتطت الفرس فسابقت عليه وهو غير مسرج ولا مشكوم جراءةً وفروسية، وكانت ذات كلام بالغ بيِّن الرشد، وأفعال دائرة على محور الاستقامة والصلاح.

ولدت في «دومرمي» من مقاطعة «لورس» سنة ١٤١١ للميلاد، من راعٍ يدعى «جان»، وكان قد ربَّاه الفقر وهذَّبه الدين، فنشأت كثيرة الهواجس الدينية. ولما بلغت الخمس سنوات أخذت ترى في هجعتها رؤيا علوية، زاعمة أن الملائكة والأولياء تتجلى عليها بمظهر نوراني، فلما أنس أبوها منها ذلك أراها من القسوة والعنف ما حدا بها إلى الفرار والانطواء إلى أرملة من ربات الفنادق، فأقامت في خدمتها زمنًا تبذل عندها من الإخلاص في السعي، والإقدام في العمل، والعفاف في المسلك ما تُذكر به فتُشكر، ثم عادت إلى أبيها زمان إذ كانت فرنسا على شفا حفرة من النار، والإنكليز يذيقونها من حروبهم ضريع الويل الممزوج بالشنار.

وكان قد مرَّ بقريتها فريق من الأعداء فاكتسحوها، واستافوا أموالها فاقتسموها، وتركوها خاوية على عروشها يندبها لسان الخراب، ويأوي إلى أطلالها البوم والغراب، فصدَّع فؤادها الشفاف ذلُّ قومها وبوارهم وانكسارهم للعدو المفضي إلى دمارهم، فعاودتها الأحلام والرؤيا، وزعمت أنها مأمورة بالإلهام بإنقاذهم وبلادهم من الهلكة والمعرة، وانتشال قومها من هوة الحيف والمضرة.

وبعد ترددٍ وإعمال روية سارت إلى «شارل»، ملك فرنسا، وذلك في شهر شباط سنة ١٤٢٩ ميلادية، وكان عليها أن تقطع مسافة ١٥٠ فرسخًا في أقطار مشحونة بدبابة الإنكليز، ومحفوفة بالمكاره والأهوال حتى تبلغ مدينة «لوزين»؛ حيث يقيم الملك، فتزيَّتْ بزي فارس، وعلت جوادها بعد أن تقلَّدت حسامًا بتارًا، واخترقت تلك المهامه حتى إذا أشرفت على مقر الملك بعثت تُنبِّئه بقدومها، وتُخبره بأنها ستكون منقذة العرش، ورافعة الحصار عن «أوليان»، وأنها ستُمهِّد سبيل تتويجه في «رام»، فلما قدم عليه البشير بذلك النبأ ابتسم ذَرْيًا عن قلب مشحون بالغيظ، ثم استمر مع وزرائه في شأنها ثلاثة أيام، فكان فريق يسخر منها ويضحك عليها، وفريق يذود عنها ويرى إلقاء المقاليد إليها، والملك بين ذلك من حزب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، حتى أسفر الرأي عن لقائها، فلبس الملك ثياب أحد أتباعه، وألبسه ثوبه الملكي اختبارًا لأمرها، ثم أذن لها فجاءت تخترق صفوف الحشم والحاشية حتى وقفت بإزائه، فانحنت جاثية لديه قائلة له: بلسان ذربٍ حييت وحبيت أيها الملك الحليم؟

فقال لها: أخطأت؛ فإن الملك هو ذاك، مشيرًا إلى من ألبسه ثوبه، فقالت: ما الملك إلا أنت، وما أنت إلا الملك، وإني لمأمورة أنا العذراء المسكينة من الروح الأمين بشد أزرك، والدأب لأسباب نصرك، وما على الرسول إلا البلاغ. فخلا بها الملك حينًا من الدهر، ثم ناجى وزراءه فقال لهم: لقد أحاطت — لعمر الله — بما في سرائري، وأدركت مما لا يدركه بعد الله إلا ضمائري، وإني لا أشك أن أكون من أمرها على ثقة، ولكن لا بأس من التأنِّي ريثما تمتحن.

ثم أتاها برهطٍ من مهرة الأطباء وأساطين العلماء حاولوا أن يفقروها بمسائل مشكلات وغوامض، حتى إذا أعيتهم الحيل وعادوا بالخيبة والفشل عززها الملك بكتيبة من خواص فرسانه، فبرزت أمام الجيش شاكة السلاح، معتقلة بيدها رمحًا وبالأخرى راية، وأخذت تعدو على جوادها متفننة في أنواع الفروسية، حتى سحرت الناظرين فهتفوا ترحيبًا بها، واستحسانًا لها، وتعجُّبًا منها.

ثم صارت بجيشها تنهب الأرض هملجة وخببًا حتى بلغت العسكر في «أورليان»، وإذا بأرواح القوم تكاد تبلغ التراقي، والعدو محيط بالمدينة إحاطة الهالة بالبدر، وأهلها في شدة من ضيق الخناق، فأمرت بادئ بدأة بتطهير العسكر من عواهر النساء، وحضت الرجال على الاستمساك بالتقوى، والاعتصام بالرجاء، ثم زحفت على البلد، فاستولى الرعب على قلوب الإنكليز وقالوا: ما هذه بشر، إن هي إلا ملك كريم أو ساحر أثيم. وكانت ترتدي حُلَّة بيضاء، وتركب جوادًا أشهب، وتنشر فوقها راية بيضاء، فإذا بصر بها الإنكليز وهي في هذا الهندام فروا من أمامها كأنهم حُمُر مُسْتَنْفرة فرَّتْ من قَسْورة.

وما برحتْ تَصدُق الحملةَ وتُتابِعُها وتُبلي بالعدو البلاء الحسن وهي تتجرع من انحراف جيشها عنها، وعدم انقياده لها، أنواع الغصص وضروب الإحن، حتى استتب لها الفوز؛ فضعف الإنكليز واستكانوا، وضربت عليهم الذلة أينما ثُقفوا، فألجئوا إلى الجلاء عن «أورليان»، فكفُّوا عن حصارها في ١٨ أيار سنة ١٤٢٩م، وانهزموا لا يلوون على شيء، فسارت «جان دارك» إلى «بلوا» لتهنئ الملك بما أوتيه على يدها من النصر، وكان القرويون في تلك الأصقاع يتسابقون لمرآها، ويتزاحمون على لثم أقدامها، ولمس ثراها، فأكرم رجال البلاد وِفادتها، ودعاها الملك إلى وليمة فأبتْ قائلة: إن الوقت وقت جهد وثبات، لا وقت قصف ولذات، وإن الروح أنبأني بأن الموت قد دنا فتدلى حتى صار على قاب قوسين، وأنه لم يبقَ بيني وبينه أكثر من عامين؛ فاذهب بحقك إلى «رام» حيثما أُتوِّجك بيدي، وبعد ذلك يفعل الله ما يشاء.

وسارت أمامه بفصيلة من الجيش حتى إذا بلغت «جارجوا» اعترضها العدو فهاجَمتْه، ورَقَتْ سُلَّمًا نُصب لها على السور، فرُميتْ مِن أعلاه بما جَندَلها من الخندق فصُرعتْ، ولكنها أفاقت بعد قليل وجعَلتْ قائد الجيش يستثير حمية العساكر بكلام أرق من السحر، وأفعل في الرءوس من نشوة الخمر، وهي تعاني آلامًا مبرحة، فدبت النخوة في صدور الرجال، وحملوا حملة صادقة أذاقت العدو الأزرق بلاء أسود، وأرته من بريق النصل الأبيض موتًا أحمر، فاستولت على البلد عنوة بعد أن أُسِرت. ولما طار الخبر إلى الأمير «تلبوت»، قائد الإنكليز العام، أخلى سائر المدن وكرَّ قافلًا إلى باريس، وما برحت «جان دارك» آخذة في سيرها، وكلما عثرت بشرذمة فتكت بها حتى بلغت مدينة «رام»، وهناك تم تتويج «شارل» في ١٧ تموز سنة ١٤٢٩م، وكانت «جان دارك» مُمْسِكة بسيفه وعليها أثواب الكماة.

وبعد انقضاء الحفلة جثَتْ عند قدميه وعانقته باكية ثم قالت: اليوم أكملت لكم نصركم، وأنجزت كل ما وعدتكم؛ فأطلقوا سراحي فأعود إلى أبي قريرة العين حيثما أرعى الماشية، وأغزل الصوف، جريًا على سنة بيت رُبِّيتُ فيه ونشأتُ عليه، فامتنع الملك قائلًا: كيف أغادر من بها نجاة الأمة، وإليها يرجع أمر استتباب راحتها، وعليها يتوقف استكمال سعادتها. ذلك لأن الناس كانوا قد ازدادوا بها اعتقادًا، وعلقوا على بسالتها وإقدامها آمالًا طوالًا، حتى كانوا يرون حول رايتها أرواحًا من الفراش البراق. فساءها امتناع الملك، وعرتها من تلك الساعة الكآبة والحزن، وفارقها ذلك الرشد والنشاط، وذهبت عنها تلك الحمية والبسالة، وانقطعت عنها أحلامها الروحانية حتى أصبحت أعمالها رهينة الحيرة والفشل، وأقوالها قرينة الوهم والركاك، وكانت تُرى أبدًا حائرة النفس، دائمة البكاء.

ولما لم يُجْدِها الإلحاح نفعًا استعادت من معبد «رام» سلاحها، وبرزت ثانية في زي الأبطال، غير أن كبراء القادة وأمراء الجيش كانوا قد أُشْرِبوا بُغضها، وأضمروا لها الحسد والضغينة، فصاروا يُشنِّعون عليها، ويُسِيئون معاملتها، ويُغرُون العساكر على نبذ طاعتها، ويُلقِّبونها بالألقاب المستهجنة، ويتَّهمونها بهتك حجابها، ويفضحونها أمام العموم، فكانت تردهم أقبح الرد، ولا تجالس إلا حرائر النساء ومصونات الأبكار، ولا تنام إلا مع امرأة تخفرها، فلم يجد أحد فيها محلًّا للوم والقذف.

ومع أنها جرحت جراحات لم يثبت كونها سفَكت بيدها دمَ أحد، ثم أشارت على الملك بالشخوص إلى باريس ليستخلصها من يد الإنكليز، فسار و«جان دارك» سائرة في ركابه، حتى إذا بلغها بعد شق الأنفس أمرها بالهجوم على «قويورسنت أوترى»؛ حيث يقيم الأعداء، فأثخنت في تلك الواقعة جراحًا، وصرعت صرعات، ولما استعادت رشدها قامت فعلَّقت درعها وسألت الملك الانصراف، فأبى ووعدها بإعفاء قريتها من الضرائب، ومنحها رتبة جليلة، فعاودت الخدمة مرغمة.

وفي سنة ١٤٣٠م، انتدبها الملك إلى إجلاء الإنكليز عن «كوبيين»، فسارت متدرعة بالإقدام، بيد أنها لما أرادت الإيقاع بالمُحاصِرين خذلها أتباعها فرُميت بسهم فصُرعت واستسلمت إلى الأمير «فندوم». وذلك في ٢٤ أيار سنة ١٤٣٠م، فذاع خبر أسرها في تلك الأصقاع، وأقبل الناس لرؤيتها، ثم بيعت للإنكليز، وخذلها الملك «شارل» جاحدًا جميلها، كافرًا نعمتها، لؤمًا منه وخسَّة أصلٍ، وخاض الناس في حديثها، وكان أهل باريس يُشدِّدون عليها النكير، ويُغرون الإنكليز على إتلافها، فلبثت مسجونة في قلعة «جان دو لكسنبرغ» حتى أقيمت عليها الدعوى في ١٣ شباط سنة ١٤٣١م، تحت رياسة «كوشون مترنه بوفه» — من صنائع «هنري السادس» عامل الإنكليز — فسِيقتْ إلى المحكمة ست عشرة مرة أبدَتْ في خلالها ثباتًا عجيبًا، ودفاعًا مُفْحمًا، على أنهم حكموا أخيرًا بأنها مبتدعة ساحرة، وبأن تجازى بالحبس الأبدي، مقصورًا قُوتَها على الخبز والماء، ثم أرغموها على الحلف بأن لا ترتدي بعد ذلك لباس الرجال، ثم نصبوا لها شركًا بأن بدَّلوا ثيابها ليلًا بثياب رجل.

فلما أرادت ترك فراشها لم تجد سوى تلك الثياب، فلبستها مضطرة، فهوجمت وسيقت إلى الحاكم بهذا الزي، فحكم بأنها حانثة تستحق الإحراق، فقالت بثباتٍ وإجلال: إنني أستأنف حكمك إلى عرش الحكيم العظيم، ولكنها لما أُخرجت إلى حيث استوقدت النار خارت قواها، فأنَّت مُتأوِّهة، ولما حمي الوطيس ولعلع لسان اللهيب فيه جعلت تدعو وتبتهل بلسان أبكى أعداءها، وحيَّر الكردينال «بوفور»، فحول وجهه عنها تألمًا والدموع تنحدر من مآقيه كالسواقي. وقد تم هذا المشهد الأثيم في ٢١ أيار ١٤٣٠م، في ساحة تسمى «موضع البكر»، وذرى رمادها بالهواء فوق نهر السين، ثم بعد عشرين عامًا نقض مطران باريس ومطران «رام» هذا الحكم وأثبتا براءتها.

وفي سنة ١٨٢٠م، أقيم لها تمثال في موطنها «دومرمي»، وآخر في محل إحراقها «دون»، ثم آخر في باريس وهو أجمل تماثيلها.

وفي سنة ١٨٥١م، نصب لها أهل «أورليان» تمثالًا في مدينتهم وهم يعيدون تذكارها في ٨ أيار في كل عام، وقد عاب الرأي العام «فوليث» بقصيدته التي أودعها ذم «جان دارك»، وتسويد صحيفتها بأنواع السب الظالم والقذف الغادر، ولكنه لا يستغرب ذلك ممن أوقف حياته على تقويض عُمُد الديانات، وتزييف أوليائها، وقد ألف كتبة الإفرنج بموضوع قصتها عدة روايات محزنة من النوع المعروف ﺑ «التراجيدي»، أي الفاجعة، وهي مما يذيب تمثيلها القلوب، ويشق المرائر. فيا قاتل الله الإنسان! إنه لكافر.

ليت السباع لنا كانت مجاورة
وليتنا لا نرى ممن نرى أحدا
إن السباع لتهدى عن فرائسها
والناس ليس بهادٍ شرُّهم أبدا

جليلة بنت مُرَّة الشيباني

هي أخت «جساس» قاتل كليب بن ربيعة أخي المهلهل. وكانت جليلة تزوجت ﺑ «كليب»، فلما قتل «جساسٌ» أخوها «كليبًا» زوجها، اجتمع نساء الحي للمأتم فقلن لأخت «كليب»: أخرجي جليلة عن مأتمك؛ فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب، فقالت لها: يا هذه، اخرجي عن مأتمنا؛ فأنت أختُ واترنا، وشقيقة قاتلنا، فخرجت وهي تجر أعطافها، فلقيها أبوها مُرَّة فقال لها: ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثكل العدد، وحزن الأبد، وفقد حليل، وقتل أخي عن قليل، وبين ذلك غرس الأحقاد، وتفتت الأكباد، فقال لها: أوَيكُفُّ ذلك كرمُ الصفح وإغلاءُ الديات؟ فقالت جليلة: أمنية مخدوع ورب الكعبة، أبالبُدن تدَعُ لك تغلب دم ربِّها!

قال: ولما رحلت جليلة قالت أخت «كليب»: رحلة المعتدي وفراق الشامت، ويلٌ غدًا لآل مرة من الكرَّة بعد الكرَّة، فبلغ جليلة قولها فقالت: وكيف تَشمتُ الحُرَّة بهتك سترها، وترقُّب وترها؟ أسعد الله خيرًا أختي، أفلا قالت: نفرة الحياة وخوف الاعتداء، ثم أنشدت تقول:

يا بنة الأقوام إن لمت فلا
تعجلي باللوم حتى تسألي
فإذا أنت تبينت الذي
يوجب اللوم فلومي واعذلي
إن تكن أختُ امرئ ليمتْ على
شغَف منها عليه فافعلي
جلَّ عندي فعل جساس فيا
حسرتي عما انجلى أو ينجلي
فعل جساس على وجدي به
قاطع ظهري ومُدنٍ أجلي
لو بعين فدَّيت عينًا سوى
أختها فأنفقأت لم أحفل
تحمل العين أذى العين كما
تحمل الأم أذى ما تفتلي
يا قتيلًا قوض الدهر به
سقف بيتي جميعًا من عل
هدم البيت الذي استحدثته
وانثنى في هدم بيتي الأول
ورماني قتله من كثب
رمية المصمي به المستأصل
يا نسائي دونكن اليوم قد
خصني الدهر برزء معضل
خصني قتل كليب بلظًى
من ورائي ولظًى من أسفل
ليس من يبكي ليومين كمن
دائمًا يبكي ليوم ينجلي
يشتفي المدرك بالثأر وفي
دركي الثأر لثكل المثكل
ليته كان رمى فاحتلبوا
دررًا منه برمي بالحلي
إنني قاتلة مقتولة
ولعل الله أن يرتاح لي

جميلة الخزرجية

هي مولاة بني سليم التي قيل فيها:

إن الدلال وحسن الغنا
ء وسط بيوت بني الخزرج
وتلك جميلة زين النسا
ء إذا هي تزدان للمخرج

كانت جامعة بين أجل طبقات الغناء والجمال وأسمى مراتب العفاف والكمال، وقورة السمت، رخيمة الصوت، بهية الشارة، فتانة الملامح، رزينة الحصاة، عذبة الكلام، وجيزة العبارة. أجمع مجيدو عصرها — مثل: الغريض، وابن سريج، وابن محرز، ومعبد بن جامع، وحيابة، وابن عائشة، وسلامة، وزمين، وخليدة، وعقيلة العقيقية — على كونها إمام هذا الفن، ومُجلَّى مضمار السبق فيه شرقًا وغربًا بين الإنس والجن.

وكان معبد يقول: لو لم تكن جميلة لم نكن نحن مُغنِّين، ولطالما تحاكم لديها أولو الفن المجيدون من مكيين ومدنيين وبصريين، فقضت بينهم قضاء آخذًا بناصية الإنصاف، مأمونًا به جانب الحيف والإجحاف، قيل: حجت ذات سنة فخرج إلى لقائها كبراء مكة وساداتها، ومشاهير مغنيها وقيناتها، فكثر الزحام، وازدحمت في أرجاء الحرم الأقدام، والتفَّت الساق على الساق، حتى كأنه يوم التلاق، ولما انقضى الحج اقترح عليها الأمراء، وعقد مجلس للغناء فقالت: ما كنت يا ذوي الفضل لأخلط الجد بالهزل.

ثم عادت إلى يثرب مدينة النبي ، فاستقبلها سراتها وأشرافها يتقدمهم الأطفال والنساء، وكان قد صحبها قوم من غرر مكة وأعيانها، فلما حلت دارها أتاها الجميع مهنئين باللطف والإيناس، فغصت الساحات والسطوح بتخليط الناس، واصطف المغنون طبقتين متناوحتين، فكان كلما دمدمت وشَدَت علا من الخلق ضجيج ينطح عنان السماء، وأذن السمع صماء، الكل يقول: ما رأينا ولا سمعنا بمثل هذا، ثم اقترحت على المغنين أن يهذبوا شفعًا ووترًا، ففعلوا، فكانت تصلح لكلٍّ أغلاطه، وتريه وجه الإصابة من الطرب طريقًا، حتى أبهتت الناس عجبًا، وحيرتهم وأبكتهم طربًا وصبابة، فانصرفوا يقولون: اللهم غفرًا. فسبحان من جعلها في كل معنى غاية. إنه ولي التوفيق.

جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح الأنصارية

هي أخت عاصم بن ثابت امرأة عمر بن الخطاب، تكنى أم عاصم بابنها عاصم بن عمر بن الخطاب، سمَّته باسم أخيها، وكان اسمها عاصية، فلما أسلمت سماها رسول الله جميلة. تزوجها عمر سنة ٧ من الهجرة فولدت عاصمًا، ثم طلقها عمر فتزوجها يزيد بن حارثة، فولدت له عبد الرحمن بن يزيد، فهو أخو عاصم لأمه.

وقيل: إن عمر ركب إلى قبيلتها فوجد ابنه عاصمًا يلعب مع الصبيان فحمله بين يديه، فأدركته جدته الشموس بنت أبي عامر فنازعته إياه حتى انتهى إلى أبي بكر الصديق فقال له أبو بكر: خلِّ بينه وبينها. فما راجعه، وسلَّمه إليها لكونها حاضنته، وكانت جميلة إذ ذاك متزوجة بيزيد بن حارثة.

جنان جارية عبد الوهاب الثقفي

كانت بمنزلةٍ عظيمة من الحب عند أبي نواس، وقال: إنه لم يصدق بحب امرأة غيرها، وكانت حسناء أديبة عاقلة ظريفة، تعرف الأخبار، وتروي الأشعار. رآها أبو نواس بالبصرة عند مولاها المذكور فاستحلاها وقال فيها أشعارًا كثيرة، وقيل له يومًا: إن جنان عزمت على الحج، فقال: إني سأحجُّ على هذا إن أقامت على عزيمتها، فلما علم أنها خارجة سبقها، وما كان نوى الحج ولا أحدث عزمه إلا خروجها، وقال لما عاد من حجه:

ألم تر أنني أفنيت عمري
بمطلبها ومطلبها عسير
فلما لم أجد سببًا إليها
يُقرِّبني وأعيتني الأمور
حججت وقلت قد حجت جنان
فيجمعني وإياها المسير

وقد أرسل إليها أبو نواس حين عاد من حجه بهذه الأبيات:

إلهنا ما أعدلك
مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
والليل لمَّا أن حلَكَ
والسابحات في الفلك
على مجاري المنسلَكَ
ما خاب عبد أمَّلك
أنت له حيث سلَكَ
لولاك يا رب هلك
كل نبيٍّ وملَكَ
وكل من أهلَّ لك
سبح أو لبى فلَكَ
يا مخطئًا ما أغفلك
عجِّل وبادر أجلَكَ
واختم بخير عملك
لبيك إن الملك لك
والحمد والنعمة لك
والعز لا شريك لَكَ

وقيل: كانت جنان قد شهدت عرسًا في جوار أبي نواس فانصرفت منه وهو جالس، فلما رآها أنشد بديهًا:

شهدت جلوة العروس جنان
فاستمالت بحسنها النظارهْ
حسبوها العروس حين رأوها
فإليها دون العروس الإشارهْ

وغضبت يومًا جنان من كلام كلَّمها به، فأرسل يعتذر إليها، فقالت للرسول: قل له لا برح الهجران ربعك، ولا بلغت أملك من أحبتك، فرجع الرسول إليه، فسأله عن جوابها فلم يخبره، فقال:

فديتك فيمَ عتبُك من كلام
نطقت به على وجه جميل
وقولك للرسول عليك غيري
فليس إلى التواصل من سبيل؟
فقد جاء الرسول له انكسار
وحال ما عليه من قبول
ولو ردت جنان مردَّ خير
تبيَّن ذاك في وجه الرسول

قيل: ولم تكن جنان تحبه أولًا، فمما عاتبها به حتى استمالها بصحة حبه لها فصارت تحبه بعد بغضها له قوله:

جنان إن جدت يا مناي بما
آمل لم تقطر السماء دما
وإن تمادى ولا تماديت في
منعك أصبح في قفرة رمما
علقت مَن لو أتى على أنفس الـ
ـماضين والغابرين ما ندما
لو نظرت عينه إلى حجر
ولَّد فيه فتوره سقما

وقال الجماز: كنت عند أبي نواس جالسًا إذ مرت بنا امرأة ممن يداخل الثقفيين فسألها عن جنان وألحَف في المسألة فاستقصى، فأخبرته خبرها وقالت: قد سمعتها تقول لصاحبة لها — من غير أن تعلم أني أسمع: ويحك! قد آذاني هذا الفتى وأبرمني وأحرج صدري، وضيق عليَّ الطريق بحدة نظره وتهتكه؛ فقد لهج قلبي بذكره والفكر فيه من كثرة فعله لذلك حتى رحمته، ثم التفتت فأمسكت عن الكلام، ففرح أبو نواس بذلك، فلما قامت المرأة أنشأ يقول:

يا ذا الذي عن جنان ظل يخبرنا
بالله قل وأعد يا طيب الخبر
قال اشتكتك وقالت ما ابتليت به
أراه من حيثما أقبلت في أثري
ويعمل الطرف نحوي إن مررت به
حتى ليخجلني من حدَّة النظر
وإن وقفتُ له كيما يُكلِّمني
في الموضع الخلو لم ينطق من الحصر
ما زال يفعل بي هذا ويدمنه
حتى لقد صار من همي ومن وطري

وقيل: أرسلت جنان تقول لأبي نواس: قد شهرتني؛ فاقطع زيارتك عني أيامًا لينقطع بعض القالة، ففعل وكتب إليها:

إنا اهتجرنا للناس إذ فطنوا
وبيننا حين نلتقي حسن
ندافع الأمر وهو مقتبل
فشب حتى عليه قد مرنوا
فليس يقذي عينًا معاينة
له وما إن تمجه أذن
ويح ثقيف ماذا يضرهم
لو كان لي في ديارهم سكن؟
أريب ما بيننا الحديث فإن
زدنا فزيدوا فما لذا ثمن

وقيل: كتب إليها من بغداد:

كفى حزنًا أن لا أرى وجه حيلة
أزور بها الأحباب في حكمان
وأقسم لولا أن تنال معاشر
جنانًا بما لا أشتهي لجنان
لأصبحت منها داني الدار لاصقًا
ولكنَّ ما أخشى فديت عداني
فوا حزنًا حزنًا يؤدي إلى الردى
فأصبح مأسورًا بكل لسان
أراني انقضت أيام وصلي منكم
وآذن فيكم بالوداع زماني

وقيل: بلغه أن امرأة ذكرت لجنان عشقه لها، فشتمته جنان وتنقصته وذكرته أقبح الذكر، فقال في ذلك:

وا بأبي من إذا ذكرت له
وطول وجدي به تَنقَّصني
لو سألوه عن وجه حجته
في سبه لي لقال يعشقني
نعم إلى الحشر والتنادي نعم
أعشقه أو أُلفَّ في كفني
أصيح جهرًا لا أستسرُّ به
عنَّفني فيه من يُعنِّفني
يا معشر الناس فاسمعوه وعوا
إن جنانًا صديقة الحسن

فبلغها ذلك فهجرته وأطالت هجره، فرآها ليلة في منامه وأنها قد صالحته، فكتب إليها:

إذا التقى في النوم طيفانا
عاد لنا الوصل كما كانا
يا قرة العين فما بالنا
نشقى ويلتذ خيالانا
لو شئت إذا أحسنت لي في الكرى
أتممت إحسانك يقظانا
يا عاشقين اصطلحا في الكرى
وأصبحا غضبى وغضبانا
كذلك الأحلام غدارة
وربما تصدق أحيانا

وقيل: رآها يومًا في ديار ثقيف فقابلته بما كره، فغضب وهجرها مدة، فأرسلت إليه تُصالحه فردَّه ولم يصالحها، فرآها في النوم تطلب صلحه فقال:

دست له طيفها كيما تصالحه
في النوم حين تأبَّى الصلح يقظانا
فلم يجد عند طيفي طيفها فرجًا
ولا رثى لتشكيه ولا لانا
حسبت أن خيالي لا يكون لما
أكون من أجله غضبان غضبانا
جنان لا تسأليني الصلح سرعة ذا
فلم يكن هينًا منك الذي كانا

ومن قوله فيها:

أما يغني حديثك عن جنان
ولا تبقي على هذا اللسان؟
أكل الدهر قلت لها وقالت
فكم هذا أما هذا بفان؟
جعلت الناس كلهم سواء
إذا حدثت عنها في البيان
عدوك كالصديق وذا كهذا
سواء والأباعد كالأداني
إذا حدَّثت عن شأن توالت
عجائبه أتيتهم بشأن
فلو موَّهت عنها باسم أخرى
علمنا إذ كنيت من أنت عاني

ومن ظريف ما كتبه إليها قوله:

أكثري المحو في كتابك وامحيـ
ـه إذا ما محوته باللسان
وامرري بالمحاء بين ثنايا
ك العذاب المفلجات الحسان
إنني كلما مررت بسطر
فيه محو لطعته بلساني
تلك تقبيلة لكم من بعيد
أهديت لي وما برحت مكاني

ورآها يومًا في مأتم سيدها تندبه باكية وهي مخضبة فقال مرتجلًا:

يا قمرًا أبرزه مأتم
يندب شجوًا بين أتراب
يبكي فيذري الدر من نرجس
ويلطم الورد بعناب
لا تبكي ميتًا حل في حفرة
وابكي قتيلًا لك بالباب
أبرزه المأتم لي كارهًا
برغم دايات وحجاب
لا زال موتًا دأب أحبابه
ولا تزل رؤيته دأبي

ودخل على أبي نواس بعض أصحابه يعودونه وهو مريض، فوجدوا به خفة، قالوا: فانبسط معنا فقال: من أين جئتم؟ فقلنا: من عند جنان، فقال: أوَكانت عليلة؟ قلنا: نعم، وقد عوفيت الآن، فقال: والله أنكرت علتي هذه ولم أعرف لها سببًا غير أني توهمت أن ذلك لعلة نالت بعض من أحب، ولقد وجدت في يومي هذا راحة، ففرحت طمعًا أن يكون الله عافاه منها قبلي، ثم دعا بدواة وكتب إلى جنان:

إني حممت ولم أشعر بحماك
حتى تحدث عوادي بشكواك
فقلت ما كانت الحمى لتطرقني
من غير ما سبب إلا بحماك
وخصلة قمت فيها غير متهم
عافاني الله منها حين عافاك
حتى إذا ما انقضت نفسي ونفسك في
هذا وذاك وفي هذي وفي ذاك

وقيل: إن أبا نواس حاول مرارًا أن يتزوج بها ولم ينل ذلك، وتوفي قبلها، وبقيت هي في منزل سيدها معززة مكرمة إلى أن ماتت بعد أبي نواس بمدة قليلة، ويقال: إن سبب وفاتها حزنها على أبي نواس لكونها لم تتصل به.

جنفياف ابنة دوق براينت من أعمال فرنسا

ولدت في فرنسا سنة ٦٨٠ ميلادية، وكانت من أبدع نساء عصرها جمالًا ورقة، وأكثرهن لطفًا ورزانة، وأبدعهن حديثًا ومعاشرة. أحبها «سغفريد» — كونت «بالاتين» — وأحبته، فاقترنا سنة ٧٠٠م، وقبل أن يمضي على قرانهما عامٌ انتدب «شارل مارتل» زوجُها لقيادة كتيبة من جيشه المُعدِّ لمهاجمة العرب في المغرب، فأجاب سؤاله وغادر «جنفياف» إلى عناية «ألكافلير غولو»، وكيل أملاكه، الذي لما خلا له الجو زيَّن له الخنَّاس مراودة سيدته ومطارحتها الوجد، فألفى من عفافها سورًا من حديد لا تخرقه هجمات الماكرين، ولا تفعل به مجانيق المحتالين.

ولما قنط وأعيته الحيلة عمد لؤمًا وخبث طينة إلى اتهامها بالفحشاء، زاعمًا أنها حملت بعد ترحال زوجها خيانة، ولما كان بعلها ساذج القلب، نزيه الضمير، دخلت عليه وشاية أمينه الخائن، وحدثت به الحمية والأنفة إلى توقيع أمر بإتلافها مع وليدها الطفل على زعمه، بيد أن «غولو» خدع مَن عُهِد إليهم قتلُها، فتُركت مع طفلها في توغاب لرحمة الله تعالى، فحنت على ولدها وأخذت ترضعه وتدأب على تربيته حتى ترعرع، ولما عاد زوجها من غزوته علم أنها بريئة من الوصم والعار، فندم على فعلته ندم الفرزدق على طلاق نوار، فخرج ذات يوم متجولًا في ذلك الغاب للقنص ترويحًا لكربه، وإفراجًا عن قلبه، فلقي «جنفياف» عرَضًا فخُيِّل له أن روحها مثلتْ لديه لتشدِّد النكير عليه، ولم يبد له أنها حية حتى ناجته بما يعهد من رقتها، وأزاحت له الستر عما يعلم من مسألة قتلها ودخيلتها، فتجلت له الدنيا إذ ذاك بثوب بهج، وغمر الفرح أهداف آماقه، فأسبلت الدموع، وضم محبوبته وابنها إلى صدره ضمة كادت تستفرشهما الفؤاد لو لم تحل دونه حنايا الضلوع، وذهب بهما إلى قصره الجميل القائم بين مرج أفيح وماء سلسبيل، وقال لهما: كُلَا منها رغدًا حيث شئتما، ولا جناح بعد اليوم عليكما، فبنت «جنفياف» حيث كانت في الغاب معبدًا؛ حمدًا لله على حياتها وشكرًا، وهو لا يزال حتى اليوم عِبْرة للمارين وذكرى.

قد شُيِّد فيه أخيرًا مذبح نقش عليه خلاصة ما كان، وضريح دفن به بعد ذلك العروسان، وقد نظم بلغاء الإفرنجِ المهمَّ من حوادث «جنفياف» المجيدة شعرًا، وألَّف كَتَبَتُهم في أنبائها روايات تترَى، عُرِّبت إحداها وطبعت ونشرت للعالم، وهي على علاتها تثير الأشجان، وتهيج الأحزان، وتتلو على قارئها كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (الرحمن: ٢٦).

جنفياف القديسة

سميت محامية لباريس. ولدت في بلدة «تنشر» نحو سنة ٤٢٢ ميلادية، وتوفيت في باريس سنة ٥١٢م، حسب أشهر التقاليد كان أبواها «سفيروس» و«جيرونتيا» فقيرين جدًّا، وكان عملها وهي صغيرة أن ترعى الماشية على قمة جبل «فالريان» حقل يدعى باسمها، وكذلك نبع ومغارة عند حضيضه. ولما كان عمرها ١٥ سنة أقامها للخدمة الدينية القديس «جرمانوس الأوستري».

وقد نبَّأت سنة ٤٤٩م بمهاجمة الهونة تحت قيادة «أطيلا»، ولما تهدد هذا القائد سنة ٤٥١م أن يهاجم باريس يقال: إن شجاعتها وبراعتها خلصت المدينة، وكذلك في أثناء حصار الفرنكة لباريس تحت قيادة «كلوفيس» كانت تُقوِّي الأهالي وتشجعهم، واتخذت طريقة لإدخال المئونة إلى المدينة، ولما أُخذت باريس خلَّصتها شفاعة «جنفياف» من الأعمال القاسية، وكان «كلوفيس» يعتبرها. وقد دفنت بالقرب منه في كنيسة القديسين «بطرس» و«بولس» التي بنياها. وقد سميت تلك الكنيسة مع الدير المجاور لها باسمها، وتابوتها الذي يقال: إنه من عمل «سان ألدا» جعل مكانه في القرن الثالث عشر تابوتًا أكبر وأثمن، وكان يحسب زمانًا طويلًا ملجأ أهل باريس، وقد أرسل إلى دار الضرب سنة ١٣٩١م، وأحرقت الذخائر التي كانت فيه.

جنوب أخت عمرو ذي الكلب النهدي

كانت شاعرة أديبة فصيحة لبيبة، بليغة المعاني، ذات ألفاظ رائقة، ومعانٍ فائقة، لها في أخيها مراثٍ قالتها لما قتله بنو كاهل، منها ما رواه الجوهري:

أبلغ بني كاهل عني مغلغلة
والقوم من دونهم سعيَا فمركوب
والقوم من دونهم أين ومسغبة
وذات ريد بها رضع وأسكوب
أبلغ هذيلًا وأبلغ من يبلغها
عني حديثًا وبعض القول تكذيب
بأن ذا الكلب عمرًا خيرهم حسبًا
ببطن شريان يعوي حوله الذيب

وقالت تمدحه في خلال رثائها:

فأقسمُ يا عمرو لو نبهاك
إذا نبها منك داء عضالا
إذا نبها منك ليث عرين
مغيثًا مفيدًا نفوسًا ومالا
وخرق تجوَّزت مجهولة
بوجناء حرف تشكي الكلالا
فكنت النهار به شمسه
وكنت دجى الليل فيه الهلالا
لقد علم الضيف والمرملون
إذا أغبر أفق وهبت شمالا
وخلَّت عن أولادها المرضعات
ولم تر عين لمزن بلالا
بأنك ربيع وغيث مريع
وأنك هناك تكون الثمالا
وحرب رددت وثغر سددت
وعلج شددت عليه الحبالا
ومال حويت وخيل حميت
وضيف قربت يخاف الوكالا

جهان

والدة السلطان شمس الدين ملك «دهلي» في بلاد الهند، وأم السلطان تدعى المخدومة «جهان»، وهي من أفضل النساء، كثيرة الصدقات، عمرت زوايا كثيرة، وجعلت فيها الطعام للوارد والصادر، وهي مكفوفة البصر. وسبب ذلك أنه لما ملك ابنها جاء إليها جميع الخواتين وبنات الملوك والأمراء في أحسن زيٍّ وهي على سرير الذهب المرصع بالجواهر، فخدمن بين يديها جميعًا، ومن شدة فرحها بولدها ذهب بصرها للحين، وعولجت بأنواع العلاج فلم ينفع. وولدها أشد الناس برًّا بها، ومن بره أنها سافرت معه مرة فقَدِم السلطان قبلها بمُدَّة، فلما قدمت خرج لاستقبالها وترجَّل عن فرسه وقبَّل رجلها وهي في المحفة بمرأى من الناس أجمعين.

قال ابن بطوطة في «رحلته»:

إننا لما انصرفنا من عند السلطان شمس الدين المذكور خرج الوزير ونحن معه إلى باب الصرف، وهم يسمونه باب الحرم، وهنالك سكنى المخدومة «جهان»، فلما وصلنا بابها نزلنا عن الدواب وكل واحد منا قد أتى بهدية على قدر حاله، ودخل معنا قاضي قضاة الممالك، كمال الدين بن البرهان، فخدم الوزير والقاضي عند بابها، وخدمنا كخدمتهم، وكتب كاتب بابها هدايانا، ثم خرج من الفتيان جماعة، وتقدم كبارهم إلى الوزير فكلموه سرًّا ثم عادوا إلى القصر.

ثم رجعوا إلى الوزير، ثم عادوا إلى القصر ونحن وقوف، ثم أمرنا بالجلوس في سقيف هنالك، ثم أتوا بالطعام وأتوا بقلالٍ من الذهب يسمونها السُّبني — بضم السين، والياء آخر الحروف — وهي مثل قدور، ولها مرافع من الذهب تجلس عليها يسمونها السُّبُك — بضم السين والباء الموحدة — وأتوا بأقداحٍ وطُسُوت وأباريق كلها ذهب، وجعلوا الطعام سماطين، وعلى كل سماط صفان، ويكون في رأس الصف كبير القوم الواردين، ولما تقدمنا للطعام خدم الحجاب والنقباء، وخدمنا لخدمتهم.

ثم أتوا بالشربة فشربنا، وقال الحجاب: باسم الله، ووقف الوزير ووقفنا معه، ثم أخرجوا من داخل القصر ثيابًا غير مخيطة من حرير وكتان وقطن، فأعطي كل واحد منا نصيبه منها، ثم أتوا بتيفور ذهب فيه الفاكهة اليابسة، وتيفور مثله فيه الجلاب، وتيفور ثالث فيه التبنول. ومن عادتهم أن الذي يخرج له ذلك يأخذ التيفور بيده ويجعله على كاهله، ثم يخدم بيده الأخرى إلى الأرض، فأخذ الوزير التيفور بيده قصدَ أن يُعلِّمني كيف أفعل إيناسًا منه وتواضعًا ومبرَّة — جزاه الله خيرًا — ففعلتُ كفعله.

ثم انصرفنا إلى الدار المُعدَّة لنزولنا بمدينة «دهلي»، وبمقربةٍ من «دروازة»، وبعد وصولنا بعثت لنا الضيافة، وهي مع جزار وطحان، وأمرتهما أن يعطونا مقدارًا معينًا كل يوم، وذلك مدة إقامتنا في بلادها، وكان وزن اللحم بمقدار وزن الدقيق، ومكثنا نستلم ضيافتها إلى أن انصرفنا من بلادها، ولم أر مثلها في نساء الملوك لما حوته من العز والجاه والكرم العديم المثال.»

جورج سند دوفان

كانت صاحبة روايات فرنساوية سمَّت نفسها «جورج سند». ولدت في باريس سنة ١٨٠٤ ميلادية، وتوفي أبوها «موريس دوين» ولم يكن لها من العمر سوى أربع سنوات، فربَّتها جدتها الكونتس «دوهدن»، وبعد أن صرفت نحو سنتين في مدرسة يومية في باريس رجعت إلى «توهان» سنة ١٨٢٠م. وعند وفاة جدتها بعد ذلك بأشهرٍ قليلة سكنت مع أصحاب عائلتها في «ملون»، حيث تعرَّفت ﺑ «كزمير دوفان»، فتزوجت به سنة ١٨٢٢م، وسكنت في «توهان»، ولم يمض إلا قليل حتى ظهر لهما ما بينهما من الاختلاف في الطباع والأخلاق والذوق، وزاد النفور بينهما الارتباك المالي الذي وقع في سنة ١٨٣١م.

ولما كانت هي راغبة في امتحان حظها من التأليف حصَّلت رخصة من زوجها بأن تصرف ثلاثة أشهر من كل ستة أشهر في باريس، فنشرت بضع نبذ في جرنال «الفيقارو»، فظهر لها أنها غير قادرة على الكتابة في الجرائد؛ لما يلزم لذلك من سرعة الخاطر والعمل. وكان زوجها قد عيَّن لها ١٥٠٠ فرنك راتبًا سنويًّا، فطلبت الاقتصاد، ورغبةً في الدخول إلى المكاتب والملاعب العمومية دون ملاحظة لبست لبس رجل.

وفي تلك الأثناء كتبت بمساعدة صديقها «جول سند» رواية عنوانها «روزة وبلانش» تحت اسم «جول سند»، فصادفت قبولًا، فقوَّى ذلك عزمها على نشر رواية أخرى من القلم نفسه، ولكن لم تجد عند «جول» المذكور رواية مجهزة، إلا أنها كانت قد أكملت رواية عنوانها «أن بانا»— نشرت في أيار سنة ١٨٣٢م تحت اسم «جورج سند» — فصادفت قبولًا تامًّا. ومما زادها قبولًا ما شاع من أنها من قلم امرأة، ثم أردفتها بعد قليل برواية عنوانها «فالنتين» — وهي أحسن من الأولى — وصادفت قبولًا، ثم صارت بعد ذلك كاتبة روايات الجريدة «الريفودي ردموند».

وسنة ١٨٣٣م، نشرت رواية عنوانها «ليليا» أثرت في العموم تأثيرًا بليغًا لمحاماتها عن مبادئ الكفر والخلل في الهيئة الاجتماعية، ومن ذلك الوقت أخذ كثيرون من الذين كانوا يعتبرون مؤلفاتها ينظرون إليها بعين استخفاف، فذهبت حينئذٍ إلى إيطاليا طلبًا لتبديل الهواء، ورافقها «أكفرت دومست» الشاعر، ولكنهما افترقا في البندقية، فرجع إلى فرنسا، وبقيت هي وكتبت هناك عدة كتابات، وعند رجوعها إلى فرنسا في أوائل سنة ١٨٣٥م التقت بالمتشرع الفصيح «ميشال دوبرج»، فساقها إلى الأمور السياسية، ومع «لامني» الذي وقع جدال بينه وبينها في أمور دينية، ومع «بيرلورو» الذي علمها المبادئ الاشتراكية، وظهر تأثيرهم فيها في كثير من مؤلفاتها، وكان حينئذٍ قد ازداد النفور بينها وبين زوجها، فحصلت على أمر يؤذن لها بتركه، ويولجها إدارة أمورها بنفسه وتربية أولادها، وبعد ذلك جعلت «توهان» مكانًا لاجتماع أصدقائها، واعتنت بتربية أولادها.

وسنة ١٨٣٨م، صرفت الشتاء في جزيرة «ميورقة» حيث رافقها «شوبن»، معلم البيانو، فبقيت فيها إلى سنة ١٨٤٧م، حين اضطرتها ثورة سنة ١٨٤٨م أن تعود ثانيًا إلى ميدان السياسة، ويقال: إنها عضدت بكتاباتها كثيرًا من الأعمال التي اتخذها «لدورولن»، وكان حينئذ عضوًا للحكومة المؤقتة، ثم رجعت إلى «توهان».

وسنة ١٨٥٤م، نشرت في جريدة «جرس» ترجمة حياتها محتوية على بعض الحوادث التي تخللتها، وهي تاريخ لأفكارها وحاسياتها، ونشرت نحو ٦٠ رواية، منها كتب، ومنها نبذ في الجرائد، ولها تآليف أخرى كثيرة مطبوعة باللغات الإفرنجية.

جوزفين ابنة الكونت تشاوي لاباجري الفرنساوي

من مقاطعة بالقرب من «بلو»، وأمها فرنساوية الأصل أيضًا من مستعمرات جزيرة القديس «رومينيكو» التابعة لفرنسا. عرفها الكونت «تشاوي» لما هاجر إلى تلك الجزيرة سنة ١٧٦٠م ليكون مأمورًا بحريًّا تحت قيادة المركيز «بواهرني»، والي الجزيرة وقتئذٍ، فتزوج بها ورُزق منها «جوزفين» المذكورة آنفًا. وتوفي والدها بُعيد ولادتها، ثم ماتت زوجته وتركا «جوزفين» طفلة يتيمة الوالدين، فاعتنت بها عمتها القاطنة في تلك الجزيرة، وكانت هي وزوجها من أصحاب الأملاك الكثيرة والثروة الطائلة، وعلى جانبٍ عظيم من اللطف والدعة، حتى أكرمهما أهالي الجزيرة، واشتهرا بكل منقبة ومحمدة حتى كان خدمهما ينظرون إليهما نظر الآلهة، وأحبهما جميع معارفهما حبًّا عظيمًا.

فهذان اعتنيا ﺑ «جوزفين» وربياها على المبادئ الأدبية منذ الصغر، وغرسا في قلبها الحنو واللطف، فكانت تعامل بمثل ذلك العبيد القاطنين في ذاك المكان فأحبوها كثيرًا، وكانوا يُعدُّونها كملكة عليهم، ولم يكن لها في تلك الجزيرة مَن تلعب معه من الأولاد سوى أولاد العبيد، فهؤلاء كانوا أصدقاءها في الصغر. أما أصحاب عمتها وزوجها فكانوا من خاصة الفرنساويين القاطنين في تلك الجزيرة، وهم جماعة من المهذبين العارفين بالآداب والفنون، المتمسكين بعوائد بلادهم واصطلاحاتها الحسنة، ومن السياح الأوروبيين الذين يأتون الجزيرة ويجولون في أقطار العالم، وكانت «جوزفين» تسمع أحاديثهم وتستوعبها في عقلها النير، وتحفظ منها أمورًا كثيرة لمستقبل الأيام؛ ولذلك ظن الناس بعد اقترانها ﺑ «نابليون» ومطالعة رسائلها الأنيقة أنها تعلمت في أحسن المدارس، ودرست كل الفنون، على أنها لم تدرس شيئًا منها درسًا قانونيًّا، ما عدا الموسيقى والتصوير والرقص، وأما ما بقي فاكتسبته اكتسابًا بجدها واجتهادها، وتوقُّد ذهنها، وشدة ميلها إلى الدراسة.

وكانت تضرب الغيثار بحذاقة غريبة، وتغني بصوت رخيم يأخذ بمجامع القلوب، وإذا قرأت أثرت في عقول السامعين وسحرتهم بحسن بيانها ورقة كلامها.

وقد اشتهرت بمحبة الأزهار ودرْس علم النبات والرقص، وبرعت في الخياطة وسائر فنون النساء، غير أنها لم تكن تهتم بأمر الملبس اهتمامًا خاصًّا، ولا كانت تباهي بحسن قوامها وجمال محياها شأن كثيرات من النساء، وكانت صديقتها الحميمة في الصغر إحدى البنات الحبشيات اللون، ويقال: إنها ابنة الكونت «تشاوي»، والد «جوزفين»، قبل اقترانه الشرعي، وهي أكبر منها بسنتين، ولم تفارقها لفرط محبتها لها وتعلُّقها بها.

وبينما هما ذاهبتان للنزهة ذات يوم وجدتا عددًا من العبيد حول امرأة سوداء طاعنة في السن، تزعم أنها من أهل الكرامات الذين يُنبِّئون بالغيب، فوقفت «جوزفين» مع البنات، ودنت إلى المرأة وسألتها أن تُنبِّئها بمستقبل أمرها، فقبضت المرأة على يدها وهزَّتها، فقالت «جوزفين»: أظنك اطَّلعت على شيء من مستقبلي، فقالت المرأة لها: نعم، قالت «جوزفين» مبتسمة: هل تصيبني السعادة أو التعاسة؟ فأجابتها المرأة: التعاسة، ثم سكتت وقالت: ثم تتلوها السعادة، فقالت «جوزفين»: أظنك غلطت فانظري ثانية، فرفعت المرأة نظرها إلى السماء وعلامات الكدر تلوح على وجهها وقالت: لا يسوغ لي أن أقول أكثر من ذلك، فسألتها «جوزفين» بإلحاح أن تُنبِّئها بمستقبلها، فأجابتها المرأة: أخاف أن لا تصدقيني، فألحت عليها، فقالت: إنك تتزوجين عن قريب، ثم لا يمضي إلا القليل حتى يموت زوجك، ولكنك ستصيرين ملكة فرنسا عدة سنين، ثم تموتين في مستشفًى وسط اضطرابات أهلية.

وفي تلك الأثناء هاجر إلى تلك الجزيرة عائلة إنكليزية، وسكنت بالقرب من بيت عمة «جوزفين»، وبين أفراد هذه العائلة شاب اسمه «وليم» يقارب عمره عمر «جوزفين»، فأحب كل منهما الآخر حتى صار أهلهما يلمحون إلى ذلك، وظنوا أنهما سيتزوجان عند بلوغهما سن الرشد، إلا أن الفتى عاد إلى بلاده مع عائلته لأسبابٍ قضت بذلك، فشق عليه فراق «جوزفين»، وشعر أن حياته منغصة، فتعاهد معها على المحبة والثبات على المودة إلى حين اللقاء.

وكان عمر «جوزفين» وقتئذٍ أربع عشرة سنة، وهي في معظم البهاء والجمال، أسيلة الخد، معتدلة القد، واتفق في ذلك الحين أن رجلًا فرنساويًّا يلقب ﺑ «الكونت فيس إسكندربواهرني» زار عم «جوزفين» لأشغال له. وهذا الرجل مولود في جزيرة «دومينيكو»، وقد نال الوسامات وألقاب الشرف على شجاعته في الحرب التي نشبت بين المستعمرات والممالك الأصلية، وهو من المشهورين بالبسالة والنخوة ومساعدة المستعمرات، فصيح اللسان، ثابت الجنان، أنيس المعشر، لطيف المحضر. وقد حضر وقتئذٍ إلى الجزيرة لإثبات حق له على أملاك من جملتها قسم في حوزة عم «جوزفين»، واضطر إلى البقاء عدة أيام في بيت عم «جوزفين» لإنجاز أشغاله، وهناك علق قلبه ﺑ «جوزفين»، وسحرت عقله بلطفها وكمالها، حتى لم يعد يستطيع فراقها، ولما رأت عمتها وزوجها ميل هذا الشاب إليها، ورغبته فيها، وهما يعلمان عظم منزلته وغناه سُرَّا من ذلك، وصارا يُمسكان عنها كل الرسائل الواردة عليها من خطيبها الأول، والمرسلة منها إليه مدة سنة من الزمان.

أما «جوزفين» فحارت في عدم وصول رسائل خطيبها، ولم تَنثنِ عن محبته وولائه مع ما أظهره لها الكونت «بواهرني» من شديد المحبة، وكانت تنظر إليه كضيف كريم في بيت عمتها.

وفي بعض الأيام كلَّمها عمها في أمر زواجها ﺑ «بواهرني»، ولما كانت تعلم أنه لا قبل لها برفض ذلك، وليس لها إلا إبداء رأيها في الأمر حسب عادة تلك الأيام قالت: وكيف ذلك وقد وعدتَ «وليم» بأن تُزوِّجه بي؟ فأجابها بأن «وليم» نسيك و«بواهرني» أفضل منه، ثم ذكر لها بعض مناقبه، فاضطرت إلى الصمت والتسليم.

وبعد أيام رجع «بواهرني» إلى «رايس»، ثم بعد أشهر قليلة عزمت «جوزفين» أيضًا على الذهاب إلى فرنسا، وكانت في تلك المدة تفتكر ﺑ «وليم»، وتؤمل أن تسمع عنه شيئًا، ولكنها قطعت آمالها منه قبل وصولها إلى باريس. ولما وصلت إلى باريس وجدت «بواهرني» في انتظارها مع بعض رفقائه ومعارفها، فذهبت برفقتهم، وعلمت وقتئذٍ أن «وليم» وأباه في ذلك المكان، ثم أتيا بعد وصولها بقليل لزيارتها.

وفي اليوم التالي أتى «وليم» وحده لزيارتها، فرفضت مقابلته، فأرسل إليها رسالة يلومها على عدم محافظتها على العهد، ويذكر لها الرسائل العديدة التي أرسلها إليها، وعدم إجابتها عن شيء منها، ويطلب الإفادة عن كل ذلك، فلما قرأت الرسالة ساءها ذلك كثيرًا، وتأكدت أنه لا يزال يحبها كما كان، وأن عمتها وزوجها خدعاها ليزوجاها ﺑ «بواهرني»، وقد أخذ منها الغيظ كل مأخذ، فطلبت إلى أصحابها أن يسمحوا لها بالذهاب إلى دير تقضي فيه مدة من الزمن، فأجابوا طلبها، وتوجهت إلى دير قضت فيه بضعة أشهر بالحزن والقلق.

وكان «وليم» في تلك المدة يترقب الفرص ليراها ولو مرة، فلم ينل مرامه، فيئس منها وقطع الرجاء من الاقتران بها، فتزوج بفتاة غنية قضى وإياها حياة تعيسة.

أما «بواهرني» فقصدها إلى الدير، وسُمح له أن يكلِّمها من نوافذ غرفتها، ولما رأت أنه لا سبيل لها إلا الاقتران به، حسب رغبة عمتها وزوجها، وأن «وليم» تزوج بغيرها، طلبت الرجوع من الدير واقترنت بالقسيس كونت «إسكندر بواهرني» المذكور ولها من العمر ست عشرة سنة. وكانت الهيئة التي تجتمع بها بعد زواجها مُؤلَّفة من أعلى طبقة من الأمراء والأشراف، وكانت تُرضي جميع الناظرين إليها برقة حديثها، وجودة أخلاقها.

أما زوجها فكان معجبًا بجمالها، وقد عرَّفها بالبلاط الملكي وبالملكة «ماري أنتوانت» هناك في قصر «فرسالية». وقضت «ماري أنتوانت» و«جوزفين الأولى» — ابنة «ماريا تريزا» إمبراطورة النمسا من سلالة قياصرة «أستوريا» — وقد أتت من وسط البلاط النمسوي لتكون ملكة فرنسا وزينة البلاط الفرنساوي، والثانية «جوزفين» ابنة رجل مزارع مولودة في جزيرة بعيدة عن العالم، وقد رُبِّيتْ بين الزنوج. ومن كان يظن أو يخطر له ببالٍ أن «ماري أنتوانت» تنحطُّ إلى أسفل دركات الذل وتقتل بالسيف، و«جوزفين» تستوي على عرش لم يجلس عليه القياصرة في أيامهم؟

وفي تلك الأيام بدأت الثورة وعمَّ الكفر والإلحاد بلاد فرنسا، واستخفوا بالديانة المسيحية، فكثر الفساد وزاد البلاء، ولم يعد للزواج الشرعي أقل احترام، بل شاع الطلاق إلى درجة مستهجنة. ولما رأت «جوزفين» أن زوجها «بواهرني» لا يعتقد بالدين ولا يراعي حرمة الآداب، وقد تلطخ بالمفاسد على أنواعها بخلاف ما كانت تعتقده فيه؛ كبُر عليها الأمر وأظهرت له كدرها بلطيف العبارة خوفًا من غيظه منها.

وفي سنة ١٧٨٠م، ولدت ابنة وسمَّتها «هورتنس»، فحببت ولادتها «جوزفين» إلى زوجها، ولما كان «بواهرني» على ما تقدم من الأوصاف لا يعرف من الإنصاف والطهارة إلا اسمهما، كان يلوم «جوزفين» لإنكارها عليه سوء تصرفه، حاسبًا أنه ليس لها حق في الكلام معه في هذا الشأن ما دام يعاملها باللطف والمعروف، ومن ثَمَّ لم تعد جوزفين ترى يومًا سعيدًا، وزادت تعاستها يومًا بعد يوم، ولم تجد لها سلوًّا سوى ابنتها الصغيرة.

وفي سنة ١٧٨٣م، ولدت ابنًا وسمته «أيوجين»، فصار لها ولدان تعزَّت بهما عن جفاء والدهما الذي لم يزل عاكفًا على المنكرات، ومما زاد «جوزفين» غيظًا فساد المرأة التي يميل إليها «بواهرني»، فإنها جاءت مرة إلى «جوزفين» وهي غير عالمة أنها عشيقته، وأرتها أنه لا يستحق محبتها، ثم ذكرتها بمحبة «وليم» لها، وما زالت تكلمها بمثل ذلك حتى اضطرتها لكتابة رسالة إلى عمها وعمتها ذكرت فيها أنها لولا الأولاد لتركت فرنسا إلى الأبد، وأن واجباتها تقضي عليها بأن تسلو «وليم»، ولكنهما لما زوَّجاها به لم تكن تعيسة كما هي الآن. إلى غير ذلك من مثل هذا الكلام.

فاختلست تلك المحتالة الكتاب وارتدت ﻟ «بواهرني» مُبَرهنةً له أن بين «وليم» و«جوزفين» مثل ما بينه وبينها، فكره «جوزفين» من أجل ذلك كرهًا عظيمًا، وحاولت أن تبرئ نفسها مما اتهمها به ظلمًا وعدوانًا، فلم يُصغ إليها، بل طردها وأخذ ابنها منها، وطلب من المجلس طلاقها، فأخذت ابنتها وذهبت إلى دير هناك لتقضي مدة من الزمان ريثما تنتهي محاكمتها. ويا لها من مدة قضتها بالعزلة ومرارة العيش، والقلق الذي ما عليه من مزيد! على أن المجلس برَّأها من كل ما اتُّهمت به بعد محاكمة طالت سنة من الزمان، وحكم على «بواهرني» أن يقوم بنفقتها ونفقة ابنتها، وأن تنفصل عنه انفصالًا.

وحدث في ذلك الوقت أنها تلقت رسالة من عمها وعمتها من «مرتينيكو» يسألانها فيها الذهاب إليهما، فأخذت ابنتها معها وتوجهت إلى هناك، فقابلاها بالمحبة والإعزاز، وقضت ثلاث سنين في «مرتينيكو» مغمومة حزينة لا سلوى لها سوى المطالعة وتعليم ابنتها، والتصدُّق على من حولها، وكان يغلب عليها الافتكار بولدها وما جرى لها مع زوجها، فتذهب إلى الأماكن المنفردة وتبكي بكاء مرًّا نادبةً تعس حظها وسوء حالها.

أما «بواهرني» فانغمس في السرور، وانهمك في الشهوات محاولًا نسيان امرأته وابنته، فجلب ذلك له عارًا، وكثر تحدُّث الناس بأمره حتى صار مضغة في الأفواه، ولم ير من يمدحه على أعماله، فتذكر زوجته الأمينة وحنوها وكمالها وجمالها، فندم على قسوته وسوء معاملته لها، وأحب أن ترجع إليه ثانيًا، فكتب لها مُظهرًا أسفه على ما فرط منه في الماضي، واعدًا أن يسلك معها بالمحبة والأمانة، ولا يعود في المستقبل إلى ما كان عليه، مؤكدًا لها احترامه لصفاتها الشريفة، راجيًا أن ترجع إليه مع ابنتها لتجمع شمل تلك العائلة المشتتة.

فلما اطلعت «جوزفين» على رسالة زوجها جذبها الوجد والشوق إلى ابنها البعيد عنها، وتصورت أنها ستضمه إليها، فابتهجت بمجرد التصور والفكر، ولكنها لم تكن قد نسيت الأتعاب والأحزان التي قاستها، فذكرت أمرها لأصدقائها، وأظهرت لهم أنه لولا شوقها إلى ولدها ما كانت تترك الجزيرة طول عمرها، فألح عليها أصدقاؤها بالبقاء فلم ترض، بل ودعتهم ورجعت إلى فرنسا، ولما وصلت إليها قابلها زوجها بالترحاب، وكان قد اختبر قيمة العيشة الأهلية، والمحبة الطاهرة النقية، وفرحت «جوزفين» بزوجها وابنها، وسر زوجها من اجتماع الشمل بعد التفرق، وتناسَيَا الأيام التعيسة الماضية، وصمَّما على المعيشة بالصفاء والسعادة.

ولكن الدهر في الناس قُلَّب، فإن صفاءهما لم يطل لما حدث من الاضطرابات عند شبوب نار الثورة الفرنساوية، فإن البلاد كانت وقتئذٍ قائمة قاعدة، والملك والملكة كانا في السجن، وكان «بواهرني» في ابتداء الثورة من أشد أنصار حزب الحرية، وانتخب معتمدًا للجمعية التي أقامها ذلك الحزب، فكان له إلمام بكل متعلقاتها، ثم انحل عقد الجمعية فرجع إلى الجيش، ولما انتظمت جمعية اتفاق الأمة انضم إلى عضوية هذه الجمعية، وانتخب رئيسًا لها مرتين.

وانقسمت فرنسا في ذلك الوقت إلى حزبين، حزب مؤلف من العوام، وآخر من الأشراف، وقوي حزب العوام على حزب الأشراف، وكان قائده رجلًا قاسيًا يدعى «دوبسير»، فقبضوا على جمهور غفير من حزب الأشراف وأودعوهم السجن ليقتلوهم بعد المحاكمة، وكان في الجملة «جوزفين» وزوجها، فإنهم قبضوا عليهما بعنف وساقوهما إلى السجن، ووضعوا كلًّا منهما في مكانٍ مظلم بعيدًا عن الآخر، ولم يرثوا لحالة ولديهما الصغيرين. وكان في صباح اليوم الذي سُجنت «جوزفين» فيه أتتها رسالة من بعض الأصدقاء يُخبرونها بما سيجري عليها، ويحضونها على الهرب وطلب النجاة.

فلما اطلعت «جوزفين» على الرسالة جعلت تتأمل في أمر نجاتها ونجاة أولادها أيضًا، ولكنها لم تر بابًا للهرب حتى سمعت قرع الباب الخارجي والضوضاء أمامه، ففهمت سبب ذلك وأسرعت إلى الغرفة التي كان الولدان نائمين فيها، ودنَتْ منهما وهما نائمان والدموع تتساقط على وجنتيها، ثم أكبَّت عليهما وقبَّلتهما قبلة الوداع، وخرجت من الغرفة وأغلقت الباب؛ لئلا يستيقظا، ودخلت غرفة الاستقبال، فرأت فيها عُصبة من العساكر المُسَلَّحة، فأغلظوا لها الكلام، ثم سلبوا ما في بيتها وساقوها إلى السجن الذي قتل فيه ثمانية آلاف شخص منذ أشهرٍ قليلة.

أما الولدان، فلما استيقظا ووجدا أنفسهما منفردين في البيت مع الخدم سألا عن أمهما، فأجابهما واحد أنه قد قُبض عليها وأُخذت إلى السجن، فبكيا وانتحبا، وطلبا أن يذهبا إلى السجن ويقيما مع أبيهما وأمهما، وكان لهما عمة، فلما علمت بسجن «جوزفين» أخذتهما إليها.

أما «بواهرني» و«جوزفين» فكان كل منهما في سجن مظلم من سجون القتلى، وقد تلطخ كل منهما بآثار الذين قتلوا في تلك السجون، وكانا لا ينفكان عن الافتكار والبكاء بسبب ما جرى لهما، وما سيئول إليه أمرهما، وما آل إليه بيتهما من الخراب، ويتشوقان إلى استماع شيء عن ولديهما وأحوالهما. وبينما هما في السجن إذ وصلت الأخبار إلى «جوزفين» عن أمر سلامتهما، ففرح قلبها بتلك الأخبار السارة.

وأما «بواهرني» فلم يمكنه أن يسمع شيئًا. وكان هذا الحادث الهائل هو العاصف الثاني الذي لاقته «جوزفين» في بحر هذه الحياة العجاج. أما السجن الذي كانت «جوزفين» مسجونة فيه، فكان دير «الكرمليين»، وقد اشتهر في تلك الأيام بكونه مسرح الظلم والعدوان، وكان متسعًا وفيه عدة غرف، وله أسراب مظلمة، حتى لقد وجد داخل جدرانه عشرة آلاف مسجون في وقت واحد، وكان كل قسم من هذا البناء العظيم مُلطخًا بدماء القتلى الذين قتلوا في تلك الأثناء، وكان الرجال والنساء الهائجون يجرُّون الناس إلى السجون بالمئات والألوف، وكان كثير منهم من الكهنة الذين سيقوا أمام مذبح الكنيسة للاستهزاء برسوم الدين، وهناك قتلوهم.

وكان في سجون فرنسا حينئذٍ نحو ثلاثمائة ألف مسجون، وكلهم من الأبرياء ينتظرون ساعة قتلهم، ولم يكن فيهم أحد من سوقة الناس وجهالهم، بل كانوا جميعًا من أشراف فرنسا ومُهذَّبيها. أما سجن «جوزفين» فكان في كنيسة هذا الدير مع مائة وستين نفسًا من الرجال والنساء، وكانت تظهر البشاشة بقدر الإمكان بين هؤلاء الرفاق وهي موقنة أنه لا ينال زوجها سوء، وراجية أنهما سيخرجان قريبًا ويرجعان إلى بيتهما، وكانت تكتب إلى زوجها وأولادها تشجعهم، وتشد عزائمهم، وتجذب جميع من في السجن إليها بحسن أخلاقها، ورقة شمائلها، حتى امتلكت قلوب المسجونين في زمن قصير، فاختاروها لتقرأ لهم الجريدة اليومية؛ لمهارتها في القراءة وكونها ذات صوت رخيم يأخذ بمجامع القلوب، وكانوا يرون العجلات من نوافذ السجن مشحونة بالمسجونين المسوقين إلى الذبح كل يوم، فالبعض يرين رجالهن، والبعض أولادهن وغيرهم من الأعزاء عندهم، فيقعن على الأرض فاقدات الشعور.

وفي صباح يوم من الأيام حلمت «جوزفين» أنها خرجت من السجن وجلست مع زوجها وأولادها، فسمعت مناديًا يناديها للحضور أمام الحكام، فتأكدت من ثَمَّ قرب أجلها؛ لأنها علمت أن لا رادَّ للعدو في تلك الشدة العديمة الشفقة والرحمة، وأن خداع هذه المحاكمة ليس إلا الخطوة الأولى لإعدام حياتها، وليس بعدها إلا المذبحة، فسقطت آمالها في الخلاص من قمة الرجاء إلى الحضيض واليأس، وجذبها الوجد إلى زوجها وأولادها، وغلب إلى هنيهة حنوُّ المرأة على شجاعتها، ولكنها رجعت إلى نفسها واستعدت إلى المحاكمة بقدر ما يمكن من الهدووء والسكينة، ثم سيقت من سجنها إلى دار المحكمة المُلطخة بدماء القتلى، وأدخلت إحدى غرفها هي وآخرون أيضًا لكي ينتظروا نوبتهم للمحاكمة، التي نتيجتها إما الحياة وإما الموت العاجل.

وبينما كانت «جوزفين» جالسة في هذه الغرفة تنتظر نوبتها إذ فتح باب من الجهة المقابلة، ودخل منه فرقة من العساكر المتسلحة ومعهم عدد من الأسرى، وكانوا قد أتوا بهم من سجن آخر، وكانت عيون الجميع محدقة بهم وهم داخلون واحدًا بعد آخر، ونظرت «جوزفين» فرأت رجلًا مهزولًا ذكرها بزوجها، فأعادت النظر إليه والتقت العين بالعين فعرف كل منهما الآخر، وركض وركضت مسرعين، وتذكر «بواهرني» عند ذلك عدم أهليته لكرم أخلاق «جوزفين» ومحبتها له، فحنى رأسه المنصدع على كتفها، وبكى بكاء الندامة والتوبة، فبعد أن قضيا بضع دقائق على تلك الحالة أتى الجنود وجروا «بواهرني» إلى المحكمة — وكانت هذه المرة الأخيرة التي رأى فيها «جوزفين» ورأته — ثم أرجعوه إلى السجن، ولم يثبت عليه شيء إلا أنه كان من الأشراف والأكابر، وعلى ذلك استحق الموت.

ثم أدخلت «جوزفين» في نوبتها، ولم يثبت عليها شيء أيضًا سوى أنها كانت امرأة رجل من الأشراف وصاحبة «ماري أنتوانت»، وكانت ذات امتيازات خاصة بها في القصر الملكي، وعلى ذلك استحقت الذبح هي أيضًا، فرُدَّت إلى السجن، ولكنها لم تعلم بشيء من الحكم الذي صدر عليها ولا على زوجها، وكانت واثقة أنهما سيخرجان قريبًا؛ إذ لم يدر في خلدها أنه يحكم عليهما بالموت من غير أن يثبت عليهما ارتكاب جريمة، وكانوا يأتون إلى السجن في كل مساء بجريدة أسماء الذين نصيبهم الذبح في الصباح التالي، وحدث بعد محاكمة «جوزفين» وزوجها بأيامٍ قليلة في مساء أربعة وعشرين يوليو سنة ١٧٩٤م، أن «بواهرني» رأى اسمه بين أسماء الذين سيساقون إلى الذبح عند الصباح.

فلما علم ذلك وتذكر «جوزفين» وأولاده حزن وعزَّت عليه الحياة، ولكنه تجلد واستعد للذبح، ثم أخذ يكتب رسالة طويلة إلى «جوزفين» مُفْعمة بعواطف المحبة، وأكد لها اعتقاده القلبي بطهارتها وسمو صفاتها، وشكرها مرارًا لأجل مسامحتها إياه القلبية عن كل ما صدر منه عندما كان مذنبًا؛ حيث رجع وطلب محبتها، وطلب منها أيضًا أن تربي ولديها وتعلمهما محبة أبيهما، حتى يبقى ذكره بينهما ومحبته في قلوبهما بعد الممات، وبينما كان يكتب الرسالة أتى الجلادون وقصُّوا شعره، لكيلا يبقى شيء معارض للسيف عند قطع رأسه، فالتقط خصلة ضفيرة منه لكي يرسلها إلى «جوزفين» تذكارًا أخيرًا، فمنعه الجلادون القُساة، ولم يسمحوا له بذلك، ولكنه اشترى منهم بضع شعرات وأرسلها ضمن الرسالة.

وفي الغداة كانت عجلات المذنبين واقفة على باب السجن، وكان قد حكم في ذلك اليوم بإعدام عدد كثير من المسجونين، ولما كانت العجلات مارة في أسواق باريس مشحونة بالأبرياء المحكوم عليهم، كانت عيون الشعب شاخصة إليهم وقد اشمأزَّتْ من هذه المظالم، ولما وصلوا إلى المكان المعين لقتلهم قتلوهم جميعًا بلا شفقة، حتى إذا أفضت النوبة إلى «بواهرني» صعد إلى المذبحة وهو رابط الجأش، ثابت الجنان، فضربوه بالسيف ضربة كانت القاضية.

أما جوزفين فلم تكن موقنة بما سيقع على بعلها، ولا عارفة بشيء من ذلك، ولما أتت جريدة الأخبار اليومية إلى السجن اجتهد بعض السيدات العالمات بذلك أن يُخفينها عنها، أما هي فلم تنفك عن طلب الجريدة حتى استلمتها، وأول شيء حول نظرها إليه أسماء الذين قتلوا، فلما وجدت اسم زوجها بينهم سقطت إلى الأرض كميتة، وبقيت مدة فاقدة الحواس، ولما استفاقت صرخت في وسط حزنها: آه! يا إلهي، أمتني أمتني؛ لأنه لا سلام إلا في القبر، فاجتمع أصدقاؤها حولها وجعلوا يعزونها ويسألونها الحرص على حياتها إكرامًا لولديها، ولكنها لم تجد للسلوى سبيلًا، ولا غمض لها جفن في تلك الليلة. ولما بزغ الفجر أتى عصبة من الثائرين القساة العديمي الشفقة إلى السجن بالأخبار التي كانت تفرح «جوزفين» لولا محبتها لولديها وتعلقها بهما، وكان مآل تلك الأخبار أنهم استاقوها هي أيضًا إلى القتل، فجاء الجلادون وقصوا شعرها استعدادًا للقضاء المبرم كما كانوا يفعلونه بالمحكوم عليهم، وقالوا لها: إنك لا تحتاجين إلى هذا الشعر فيما بعد، فاجتمع أصدقاؤها حولها وطفقوا يبكون وينوحون.

أما هي فكانت رابطة الجأش ليس عليها شيء من ملامح الحزن والخوف والرعب، ولما رأت أصدقاءها وما هم عليه من الحزن والغم التفتت إليهم وقالت لهم: ما بالكم تنوحون وتبكون، فأنا لم أقتل كما تظنون، بل إنني سأصير ملكة فرنسا؛ لأن ذلك مكتوب لي في صحف الحوادث، فلما سمع أصحابها ذلك ازدادوا بكاء وعويلًا، ظانين أنها أصيبت بالجنون، ونظرت إليها إحدى السيدات وقالت: إذن لماذا لا تهيئين الحواشي والحشم لقصرك؟ فقالت لها «جوزفين»: صدقتِ، فإنك أنت تكونين وصيفتي في القصر. وكان كذلك بعد إذ. ولمَّا أرخى الليل سدوله على ذلك السجن شمل الهدوء والسكون داخله، ثم بزغت شمس الظهيرة في وسط قتام الليل، وعلا هتاف الفرح والسرور بين المسجونين من كل جانب، ووقع كثيرون على الأرض فاقدي الشعور غير مصدقين بما سمعوه من البشرى، وذلك أن «دوبسير» القاسي القلب كان قد أُمسك وقتل وقام حكام آخرون، وفتحوا أبواب السجون التي كانت مفعمة بالأسرى، وأطلقوا سبيل الجميع.

أما سبب إمساك «دوبسير» وقتله، فهو أن رجلًا يقال له «تاليان» من المقتدرين مع ذوي الجاه والسطوة كان يحب مدام «فانشاي»، وهي سيدة بارعة الجمال، وكانت مسجونة مع «جوزفين»، وكان يذهب كل يوم إلى السجن ليراها، فحدث ذات يوم أنه اتَّصل بها سرًّا، وأنه قد قربت محاكمتها، فلما علمت ذلك انتظرت وقت حضور «تاليان» إلى دار السجن، ولما حضر اقتربت هي و«جوزفين» من نافذة السجن المشبكة بالحديد ورمت ورقة ملفوفة «كرمب» كتبت عليها: قد دنت محاكمتي، والموت مؤكد، فإذا كنت تحبني — كما تقول — فابذل كل ما تستطيعه لإنقاذي وإنقاذ فرنسا، ثم جعلتا تشيران إليه حتى فهم قصدهما، والتقط الورقة الملفوفة من الأرض، ولما قرأها ثار ثائره، ونبض نابضه، وذهب حالًا إلى أصدقائه وجعل يهيجهم ضد «دوبسير» وأتباعه، وكان الشعب قد ملَّ من مظالم «دوبسير»، فوافقه على ذلك حزب كبير منهم، وأثاروا ثورة عظيمة في باريس على «دوبسير»، فدارت الدائرة عليه وعلى أتباعه، فقبضوا عليهم وقتلوهم، وخلصوا البلاد من ظلمهم وعدوانهم، ثم فتحوا أبواب السجون، وأخرجوا جميع الذين كانوا فيها، وعددهم نحو خمسمائة ألف مسجون، فأي قلم أو أي لسان يستطيع أن يعبر عما شمل الفرنساويين من الفرح والابتهاج لما انتشرت الأخبار في البلاد بإعدام ذلك الظالم الغشوم، وإنقاذ أحبائهم من يده، وتخلصت «جوزفين» بهذه الواسطة من سجنها مثل كثيرين، ولكنها لم تخرج من ظلام السجن إلا إلى عالم أشد ظلامًا، وأكثف غمامًا، فإن زوجها كان قد قتل، وبيتها قد نهب، وأملاكها اغتالها الناس، وكثيرون من أصدقائها قد هلكوا، فأمست وهي أرملة فقيرة ليس عندها شيء، ولا لها من تذهب إليه وتطلب معونته، ولم تستطع أن تتعاطى عملًا من الأعمال يمكنها به القيام بمعاشها ومعاش ولديها. السبب توقف الحال بالاضطرابات الكثيرة، فلم تر بدًّا هي وولداها من بسط كف السؤال، وكان ما تجشمته في هذه المدة من أمرِّ ما ذاقت، وأصعب ما لاقت في كل أيام حياتها، فمن هذه الدرجة ترقت «جوزفين» إلى أسمى درجة لا يمكن أحدًا من الناس أن يتصورها ولا في منامه.

قلنا: إن «دوبسير» قتل وقام مكانه حكام آخرون، وفتحوا أبواب السجون للأسرى، إلا أن دم القتلى لم يزل جاريًا كما كان؛ لأن هؤلاء الحكام قصدوا قطع شأفة الأشراف من البلاد، فكانوا يجرون الناس للقتل ذكورًا وإناثًا، كبارًا وصغارًا، حتى إنهم كانوا يذهبون إلى المدارس ويجرون تلامذتها صبيانًا وبنات ويقتلونهم. فلما رأت «جوزفين» ذلك ارتعدت فرائصها جزعًا على ابنها، وحاولت إخفاءه، فأرسلته إلى أحد النجارين، وظل يعمل عنده بمهنة عدة أشهر، وهو فرح بذلك.

أما «جوزفين» فلم تبق على هذه الحالة، وحاشا لسيدة كبيرة النفس، كريمة الأخلاق، حميدة السجايا مثل «جوزفين» أن تترك بين جماعات البشر ولا يلتفت إليها، بل تفتح صدور المنازل، وتعطى كل ما تحتاج إليه، فإن كل أحد كان يشعر أنه ينال شرفًا عظيمًا بمصاحبتها. وكانت امرأة تدعى «دوميلين» — وهي سيدة عظيمة ذات ميراث عظيم، وقد اتفق خلاصها وخلاص أموالها من جور فرنسا — فهذه دعت «جوزفين» إلى بيتها، وبذلت لها كل ما تحتاج إليه، وكذلك مدام «فانشاي»، وهي السيدة التي خلصت نفسها وعددًا كبيرًا معها بكتابتها إلى «تاليان» على ورقة الملفوف، وكان بعد خلاصها من السجن أنها اقترنت ﺑ «تاليان»، وهي أيضًا كانت من أعز صديقات «جوزفين»، وكانت تبذل لها ما تحتاج إليه مع كثير من غيرها.

ثم إن جوزفين قامت تطالب بحقوقها مع جمعية اتفاق الأمة، وهي استرجاع أملاكها المحجوزة، وذلك على يد «تاليان»، فنجح مسعاها بعد مدة طويلة وأتعاب جسيمة، واسترجعت جانبًا من أملاكها التي استولوا عليها، فرجعت بذلك ثانية إلى بيتها الخاص، وجمعت إليها ولديها «هورتنس» و«أيوجين»، وكانت محاطة بأصدقائها المخلصين، وصفت لها الأيام وسالمتها الليالي رويدًا، وحدث ذات يوم أنها دعت ابنها إلى غرفتها وأعطته صورة أبيه المقتول وقالت له: خذ هذه يا ولدي إلى غرفتك، واجعلها غاية تأملك، ونموذج حياتك الدائم؛ فإن صاحبها كان أول محبوب بين الناس، ولو بقي حيًّا لكان أحسن والد، فأخذ «أيوجين» الصورة من أمه وخرج وهو يقبلها والدموع تتساقط من عينيه. ثم عاد في المساء إلى والدته وبصحبته ستة من أصدقائه، وقد وضعوا على أعناقهم شرائط بيضًا وسودًا على مثال صورة «بواهرني»، فنظر «أيوجين» إلى أمه وقال: انظري يا أماه، إلى مؤسسي نظام جديد في الفراسة، وهذا قديسنا الحافظ لنا، وأشار إلى صورة والده، وهؤلاء هم أعضاؤها الأولون.

ثم عرَّفها بكل منهم وقال: إن اسم هذا النظام نظام المحبة البنوية، فإذا كنت تحبين أن تكوني شاهدة على افتتاحها فادخلي المجلس الصغير مع هؤلاء الشبان، فدخلت «جوزفين» معهم وإذا جدران الغرفة مزينة تزيينًا جميلًا بأكاليل الورد والغار، وكانوا قد أخذوا نسق ذلك من مقالات ﻟ «بواهرني» كانت قد طبعت قبلًا، وكانت الغرفة مستنيرة أيضًا بالشموع المضيئة، وفي أحد حيطانها مذبح كبير وعليه صورة «بواهرني» التي كانت بقدر جسمه تمامًا، وقد زين بالأزهار الجميلة، وعلق بإطار الصورة ثلاثة أكاليل معقودة من الورد الأبيض والأحمر، وأمامها حنجوران من الطيوب.

ثم رتبوا أنفسهم حول المذبح بكل هدوء واستلوا سيوفهم من أغمادها عند إبداء شارة معينة، ثم تعاهدوا على محبة والديهم ومساعدة بعضهم بعضًا، والمحاماة عن بلادهم. ولما فرغوا من معاهدة بعضهم بعضًا تقدمت «جوزفين» إليهم ودموع الفرح من صنيعهم ممزوجة بالتبسمات الوالدية، ثم أخذت يد كل منهم وأظهرت فرحها بتأسيس هذه الجمعية.

وكانت «جوزفين» مع كل ما أصابها لا تزال على ما كانت عليه من اللطف والبشاشة، والنزاهة والفكاهة، وذلك ما جذب كثيرين من الأصدقاء إليها. وكانت هيئات باريس الاجتماعية قد انقلبت من التقلبات السياسية، وقد ابتدأ الشعب إذ ذاك في إقالتها من عثرتها، ولكنها انقسمت إلى دائرتين عظيمتين؛ الواحدة: مؤلفة من بقايا الأشراف الذين رجعوا إلى باريس وجمعوا بقايا عيالهم وأموالهم وعاشوا بالاقتصاد، والثانية: من التجار والصيارفة الذين حصَّلوا ثروة عظيمة في وسط زوابع الثورة.

وكانت نيران الحرب قد استعرت وقتئذٍ بين فرنسا وبقية دول أوروبا؛ إذ تحالفت جميع دول أوروبا على محاربة فرنسا واقتسامها فيما بينهم، وذلك على تلك الحرب الأهلية التي أثارها الأهالي بسبب سوء سياسة جمعية اتفاق الأمة، فحار رئيس الجمعية في أمره، ولكنه قال: أنا أعرف من القادر على المحاماة، فهو ذلك الشاب الكورسيكي «نابوليون بونابرت» الذي طرد جيوش الإنكليز من «طولون» واسترجع المدينة.

فدعوا «نابوليون» إلى مواجهة الجمعية، وكان بمدينة «فالنس» في بداية الثورة في رتبة قائم مقام، وكان حاد الطبع، قليل الكلام والحركة، كثير التفكر، شديد الميل إلى المطالعة، فلما دعته جمعية اتفاق الأمة أجاب الدعوة ومَثُل لديها، فسأله الرئيس إذا كان يقبل أن يأخذ على نفسه المحاماة عن البلاد، فقال: نعم، ثم سأله إن كان يعلم عظم هذه الشيعة، فأجاب: إنه يعلم ذلك حق العلم، فذاعت أخبار ذلك على الأثر، وشعر هو بالتبعة التي ألقيت عليه، وأرسل فاستدعى كل قواد الجمعية من جهات البلاد إلى داخل باريس، وشهر الحرب على العُصاة وأرجعهم إلى الطاعة، فذاع اسم «نابوليون بونابرت» في أطراف باريس، وتحدثوا به وبأعماله في كل قصر وبيت وحانوت، وفي الأزقة، وعلى الطرقات. ولقبه البعض بمخلص «الكونفانيسيون» أي اتفاق الأمة، والبعض بعفريت الحرب.

وفي مساء يومٍ من الأيام كانت «جوزفين» في بيت أحد أصدقائها، وبينما هي تنظر من نافذة إلى بعض أزهار البنفسج إذ دخل «نابوليون»، ولم تكن تعرفه، ولكن كانت قد سمعت عنه؛ إذ كانت شهرته قد ملأت الحاضرة، ولما دخل سُرَّ الجميع به، وأحدقت العيون إليه، فسلم على الجميع، ثم تقدم وأخذ مكانًا بالقرب من «جوزفين»، وجعلا يتحدثان في أمر المعركة الجندية التي جرت في أسواق باريس. وهذه كانت أول مواجهة بينهما، ولم يمض على ذلك مدة قصيرة حتى أمر «نابوليون» بجمع كل الأسلحة من الأهالي، وأخذ بالجملة سيف «بواهرني»، فلما علم «أيوجين» بذلك ذهب من الغد إلى «نابوليون»، وكان له من العمر حينئذٍ اثنتا عشرة سنة، وطلب منه استرجاع سيف والده، فسُرَّ «نابوليون» من جراءة الولد وحماسته، وسمح له به في الحال، وأرادت «جوزفين» إظهار شكرها «لنابوليون»، فذهبت إليه بنفسها وشكرته على ذلك، فسُرَّ منها أضعاف سروره من الولد. ومن ثم صارا يلتقيان كثيرًا، ولم يخف عن «جوزفين» ميله إليها، وحدَّثته نفسه من ذلك الوقت بالاقتران بها، وأحبها حبًّا عظيمًا، وكانت هي المرأة الوحيدة التي أحبَّها في حياته، ولم يحل عن حبها مع كثرة ما طرأ عليه من الحوادث والغير.

أما «جوزفين» فكانت في ريب من أمر اقترانها به، وقد قالت ذات مرة لبعض أصدقائها: إنها لم تر في زمانها إنسانًا محبوبًا مثله، وإنها شغفة بشجاعته وسعة اختياره، ولكنها لم تكن تحبه مقدار ما كان يحبها، بل كانت ترهبه وترتعد من نظره إليها، وقد قالت مرة لإحدى صديقاتها: ألا تخاف امرأة جعلها «نابوليون» السرية الخفية التي لا يفهمها حتى مديرونا، وكتبت مرة إلى أخرى تقول: قد تقضى شرخ شبابي، وهل يوجد رجاء بعدُ في المطل لكثرة رغبة «نابوليون» فيَّ، على غير استحقاق مني لها؟ أوَلا يعيرني بما يكون قد احتمله من أجلي إذا كان يترك محبتي بعد اقتراننا، ماذا أصنع؟ وبماذا أجيب؟ اكتبي إليَّ حالًا ولا تخافي أن توبخيني إذا وجدت أنني مخطئة، وأنت تعرفين أن كل ما يخطه يراعك مقبول. إن «باراس» أكد أني إذا اقترنت ﺑ «نابوليون» يولِّيه على إيطاليا، فماذا تقولين عن هذا النجاح؟ انتهى.

وكانت عواصف الثورة قد خمدت وقتئذٍ، ولكن أوروبا كلها كانت لم تزل شاهرة السلاح على فرنسا، وكان الحكم غير ثابت، والشرائع غير محترمة، فوقف هذا القائد الحديث السن كل أيامه لمصلحة الجمهور، ولكنه كان يخصص كل مساء ﻟ «جوزفين»، ولم يذق في أيامه شيئًا من أفراح الشبان ومسراتها؛ لأن رغبته في حب الارتقاء غلبت على كل شيء، ولكن لم يكن عنده مع كل ذلك شيء أسعد وأبهج من الساعات التي كان يقضيها وحده مع «جوزفين»، إما بالأحاديث المفيدة، وإما بالمطالعة النافعة، وكانت محبته لها ورغبته فيها تزداد يومًا فيومًا، ولم تكن صفات النساء في فرنسا وقتئذٍ تعد في منزلة عالية، وكان «نابوليون» قلما يحترم هذا الجنس ويقول: «إن كل النساء لا يقسن بجوزفين.» وقد كان معتادًا أن يرى في بيت «جوزفين» بعضًا من الأصدقاء المخلصين الذين كانوا يحبونها محبة خالصة، ويرغبون في ترقية «نابوليون» إكرامًا لها.

أما «نابوليون» فكان ذا عواطف قوية، ولكن حبه للارتقاء والارتفاع كان أقوى. وأما «جوزفين» فكانت قانعة بخلوص محبته لها، وشدة غرامه بها، وما زالا يظهران الحب والتودد لبعضهما حتى كان التاسع من آذار (مارس) سنة ١٧٩٦ للميلاد، فاقترن «نابوليون» ﺑ «جوزفين».

وفي تلك الأثناء تولى «نابوليون» قيادة العساكر الفرنساوية في إيطاليا، فترك عروسه بعد زفافه باثني عشر يومًا، وأسرع إلى الجيش وكان كأنه لم يشعر بتعبٍ ولا بجوع ولا نعاس وهو على ظهر جواده نهارًا وليلًا. ولم يمضِ على توليته قيادة الجيش خمسة عشر يومًا حتى أحرز الغلبة في ست وقائع، وغنم إحدى وعشرين راية، وخمسة وخمسين مدفعًا، وعدة أماكن حصينة وأغنى جهات أرض «بيارمونت»، وأسر خمسة عشر ألف أسير، وقتل وجرح عشرة آلاف جندي، وطرد النمساويين من إيطاليا وأرجعهم إلى بلادهم، فإن إيطاليا كانت في تلك الأيام مقسومة إلى عدة ممالك وولايات صغيرة مستقلة، أكثرها خاضع للنمسا.

ولما علمت «جوزفين» بانتصار زوجها أتت إليه لكي تشاركه في أفراحه، فأخذ قصر «منتبلو» في «ميلان» مسكنًا لهما، فقضت «جوزفين» هناك عدة من الشهور في سعادةٍ ورخاء، فكان لها كل معدات الثروة والغنى. بعدما كانت أرملة فقيرة أصبحت زوجة قائد ظافر قد طبقت شهرته آفاق أوروبا، وبعدما كانت أسيرة محكومًا عليها بالموت وجدت نفسها محاطة بالأشراف والأمراء، وكان لها منزلة عالية في قلب كل ميلاني، وقد قال «نابوليون» ذات مرة مشيرًا إلى ذلك: «إنني تسلطت على الممالك، وأما جوزفين فقد تسلطت على القلوب.»

ولما أخضع «نابوليون» كل إيطاليا ضرب عليها الضرائب، ووضع لها النظامات الجمهورية، وعقد العهود مع دولها، وتقدَّم إلى محاربة النمسا في أراضيها فانتصر هناك أيضًا انتصارًا عظيمًا، وفتح أكثر مدنها، ثم طلبت دولة النمسا الصلح فعقد «نابوليون» معها صلحًا عاد على فرنسا بالفوائد العميمة، ثم قفل راجعًا إلى باريس تاركًا «جوزفين» وأولادها في «ميلان» لكي تحفظ له انقيادهم إليه بأنسها وبشاشتها، وحسن معاملتها، فكانت تدعوهم غالبًا إلى بيتها، وتفتح أنديتها لهم، فعدَّها أهل «ميلان» ملكة بينهم، وكثيرًا ما كانت تتعب من أجلهم، ولكنها لم تكن تعبأ بالتعب إكرامًا لزوجها، وحبًّا له، وكان «نابوليون» يكتب إليها يوميًّا وهي كذلك، وقد قال في نهاية حياته «إنه مدين لها في كل دقيقة سعيدة حصل عليها على وجه هذه البسيطة.»

وكانت «جوزفين» في أثناء إقامة «نابوليون» بباريس تسهر على مصالح الجمهور، وتجهد أيضًا في المحافظة على مصلحة «نابوليون»، وتؤيد سطوته، وكانت مُعجبةً بتقدمُّه، راغبة في ازدياد شوكته، ومع أن حاشيتها كانت من الأمراء والأشراف، فإن العامي لم يشعر أنها بعيدة عنه، ولا الفقير أنها لا تلتفت إليه، بل شعروا جميعًا بقربها منهم، والتفاتها إليهم، الفقير كالغني، والصعلوك كالأمير، وكانت إذا صادقت صديقًا أقام على صداقتها مدى العمر، والذي مكنها من ذلك قواها العقلية، وخلوص محبتها، وسهولة الاقتراب منها، ولولا مساعدتها ﻟ «نابوليون» ما أوصلته بسالته إلى الدرجة التي وصل إليها، فإنه لما كانت «جوزفين» رفيقته ومعينته كان ظافرًا منصورًا، ولما تركها كسر وخذل.

وأقامت «جوزفين» سنة ونصفًا في «ميلان»، ثم رجعت إلى فرنسا حيث «نابوليون». كانت حكومة «الديركتوار» خائفة منه، فأرادت أن تبعده عنها، فعرضت عليه أن يتقلد قيادة الأسطول المعين بغزو الأساكل الإنكليزية، فذهب «نابوليون» يتعهد أحوال تلك الأساكل، وقضى عشرة أيام ثم رجع إلى باريس وقال: «إن النجاح غير مؤكد.»

ولكنه أبدى لهم رأيًا بفتح الديار المصرية والسورية لتكون بابًا للهند، ثم يتقدم إلى فتح الهند وطرد الإنكليز منها، وتجنيد عساكر من الأهالي، وجعْل ضباطٍ من الأوروبيين عليهم، ففرحت الحكومة بهذا الرأي، وأجابت طلبه حالًا، لا رغبة في فتح البلدان، بل في إبعاد «نابوليون» عن فرنسا، متوقعين أن يهلك ويتخلصوا منه؛ لأنهم أمسوا جميعًا خائفين سطوته، فجهزت الحكومة له ثمانية وعشرين بارجة، وأربعمائة سفينة لنقل مهمات الحرب، وأربعين ألف جندي.

وفي صباح التاسع عشر من أيار (مايو) سنة ١٧٩٨م كان في ميناء «طولون» طالبًا الديار الشرقية، وكانت «جوزفين» قد رافقته إلى «طولون»، وقد رغبت كل الرغبة في الذهاب معه إلى مصر، ولكنه لم يسمح لها، ووعدها أنه إذا نجح يبعث ليأخذها، ولما أقلعوا كانت «جوزفين» واقفة في شرفة البيت وعيناها مغرورقتان بالدموع، محدقتان بذلك المنظر البهيج المحزن، ثم حوَّلت عينها وتفرست في المركب الكبير الذي كان ينقل زوجها وابنها سائرًا بهما وسط المخاطر، وصار المركب يبعد عنها ويصغر أكثر فأكثر حتى اختفى أخيرًا بين مياه البحر المتوسط، فدخلت غرفتها، وشعرت بانفرادها ووحدتها، وكان «نابوليون» قبل ذهابه إلى مصر قد عين «بلومبيا» مسكنًا ﻟ «جوزفين» ريثما يُرسل في طلبها.

ولما رأت «جوزفين» أنها منفردة أرسلت فطلبت ابنتها من المدرسة لتقيم معها مدة بُعدها عن زوجها وابنها، وكانت تأمل أنه حالما يفتح بلاد مصر ينجز وعده لها وينقلها إلى وادي النيل، ولم يمض زمان طويل حتى كتب إليها بأن تتأهب للسفر، فعما قريب تصل إليها البارجة المسماة «بومونا» لتعبر بها البحر المتوسط إلى مصر، ولكن اتفق في صباح يوم من الأيام أنها كانت جالسة وإبرتها في يدها، وحولها عدد من السيدات صديقاتها وابنتها «هورتنس»، فخرجت إحدى السيدات إلى الشرفة خارجًا، فأبصرت كلبًا قريبًا مارًّا في الزقاق، ودعتهُنَّ ليَرَينَه فتراكضن إلى الشرفة، ولما وصلن إليها هبطت بهن إلى الأرض وألقتهن جميعًا، فاضطر كثير منهن إلى ملازمة الفراش مدة طويلة، وفي جملتهن «جوزفين»، فإنه مضى عليها مدة أشهر ما أمكنها الخروج من البيت، ولكن هذه الحادثة مِن عِظَمِها كانت قد نجتها من أخرى أعظم منها، فإن البارجة التي كان قد أرسلها «نابوليون» لتأخذها إلى مصر كانت قد أُخذت في البحر وأُرسلت إلى لندن.

فلما علم «نابوليون» بما وقع ﻟ «جوزفين»، وأنه لا يمكنها الحضور بعدُ إلى مصر كتب إليها بأن تشتري مسكنًا خارجًا عن باريس وتنتقل إليه، وأنه إذا لم يَعُقه عائق يصل إليها قريبًا، فاشترت «جوزفين» قصرًا جميلًا يبعد عشرة أميال عن باريس، وخمسة أميال عن «فارساليا» اسمه «ملمازون» بمائة ألف ريال، وأضافت إليه أراضي واسعة من كل الجهات، وكانت مولعة به لكثرة ما يشرف عليه من المناظر الطبيعية. ولما حضر «نابوليون» سُرَّ به هو أيضًا، وكان من أحب المساكن إليهما.

وفي أول فصل الخريف أخذت «جوزفين» تتعافى مما أصابها، فتركت «بلوم بيار» وأتت إلى «ملمازون» مع ابنتها وعدد من السيدات، وكان بيتها غاصًّا بالأشراف والأدباء، وكانت تكتب إلى «نابوليون» بكل ما يجري في القصر، حتى الأحاديث التي تدور بينها وبين زوَّارها، فيُسرُّ بأخبارها، ويطلب منها أن تجتهد في توثيق رباطات المحبة والمودة بينه وبين أصدقائه القدماء، وأن تبذل جهدها في مصادقة آخرين غيرهم. وكان ﻟ «جوزفين» تأثير عظيم في أعضاء «الديركتوار»، وقد خلصت كثيرين من الضيق، وردت إلى كثيرين آخرين الأملاك التي أُخذت منهم.

ولما رأى البعض تأثير «جوزفين» في «نابوليون» أرادوا أن يحولوا بينهما لغايات سياسية، فاستعملوا لذلك نفس الأسباب التي كانت هي تستعملها لكي تكتسب له أصدقاء، ونسبوا إليها الخفة والطيش، وكان لهؤلاء الأعداء تأثير عظيم في «نابوليون»، فجعلوا يوسوسون في صدره ويهيجونه عليها، فأثر كلامهم فيه لحدِّة مزاجه، وقام من فوره فكتب إليها رسالة ضمَّنها قوارص الكلم، فلما اطلعت «جوزفين» عليها تأثرت تأثرًا عظيمًا، وقامت فكتبت إليه كتابًا لطيفًا رقيقًا لم يسبق له نظير في الخلوص والرقة — وكانت محبتها وصفاء قلبها يظهران في خلال كل سطر من سطوره — ولكن حجزت هذه الرسالة بمساعي المحتالين، فلم تصل إلى «نابوليون»، وكانت المراكب الإنكليزية وقتئذٍ مراقبة لفرنسا، وقد منعت كل مراسلة بينها وبين الجيوش في مصر.

وكانت كل يوم تصل إلى «جوزفين» أخبار سيئة عن أحوال الجيوش في مصر، ومرة وصل إليها أن زوجها مات، فاشتغل بالها، وأمست في قلقٍ وبلبال، وقد كانت تخاف دائمًا أن زوجها ربما يترك محبتها بعد رجوعه، محمولًا على ذلك بسعي المفسدين والوشاة، ولكنها لم تزل تبذل غاية جهدها في كل ما يئول إلى خيره ونجاحه، مع أن قلبها كان تعبًا، وخاطرها مكسورًا.

كانت تفعل كل ما تقدر عليه لكي تظهر البشاشة للجميع حسب عادتها، وكانت تسلي نفسها بالأزهار والرياحين، فتقضي جانبًا من وقتها مع ابنتها «هورتنس» في الحديقة، ومعولها ومرشتها في يدها، ثم كانت تقضي جانبًا كبيرًا من وقتها في زيارة بيوت الفلاحين حواليها، وكان كفُّها دائمًا مفتوحًا لسد عوز المحتاجين، فتتصدق عليهم، وتفرح لأفراحهم، وتحزن لأحزانهم.

ولما تُوِّجتْ إمبراطورة على فرنسا ابتهج هؤلاء الفلاحون ابتهاجًا عظيمًا، ودعوا لها بطول البقاء، وحسبوها من أجدر النساء بهذا المقام. وهكذا قضت «جوزفين» عدة أشهر بعضها في الجَوَلان بين هؤلاء الفلاحين، وبعضها في القصر بين الأشراف والأمراء في انتظار استماع الأخبار من «نابوليون».

وفي ذلك الوقت ابتدأت سنة ١٧٩٩ ميلادية، فلاح أنها من بَدْأتها سنة شؤم على فرنسا؛ فإن الفرنساويين كانوا قد تعبوا من مظالم الثورة، وكانت حركة الأشغال واقفة، والجوع عامًّا في البلاد، وكان النمساويون قد دخلوا إيطاليا ثانية، وأوقعوا بالفرنساويين من كل جانب، وكانت الصلات بين الجيوش في مصر وبين فرنسا مقطوعة، وأخبار موت «نابوليون» ذائعة في كل البلاد. وأما حكومة «الديركتوار»، فكانت مؤلفة وقتئذٍ من خمسة قد نشئوا في غضون الثورة من بين عامة الناس، واستلموا زمام الحكم، وكانوا قساة ظالمين لا يعرفون شيئًا من العدل والإنصاف، وكان الشعب قد سئم منهم، وكره الاستمرار على هذه الحالة، وتمنى مد يد قوية لإصلاح الأحوال السياسية، وإرجاع الحكم والنظام إلى البلاد.

وفي مساء التاسع من تشرين الثاني (أكتوبر) من تلك السنة، دعا رئيس «الديركتوار» إلى بيته أكابر باريس ووجهاءها — وكانت «جوزفين» في جملة المدعوين — وبينما هم جالسون على المائدة عند نصف الليل إذ وصلت رسالة برقية إلى الرئيس حاوية أخبار وصول «نابوليون» إلى «فريجي» — وهي مدينة صغيرة على شاطئ البحر المتوسط — فلما سمعت «جوزفين» ذلك أسرعت إلى بيتها، وركبت مركبها، وسارت مسرعة لملاقاة زوجها، وكانت راغبة في الوصول إليه قبل أن يصل إليه الأعداء ويُسمِعوه التُّهم والوشايات الباطلة، فسارت نهارًا وليلًا بلا أكل ولا نوم، حتى إذا وصلت إلى «ليون» أخبرت أن «نابوليون» ترك المدينة إلى باريس منذ يومين، فساءها ذلك كثيرًا، وجعلت تضرب أخماسًا لأسداس وتقول: «ما عسى أن يقول الأعداء عني إذا وصل «نابوليون» إلى باريس ولم يجدني في البيت.»

وكان من أخص هؤلاء الأعداء إخوة «نابوليون» ونساؤهم، وذلك أنهم لما رأوا النجاح الذي وصل إليه «نابوليون» بتأثير جوزفين فيه، وأن زمام الأمور سيصبح في قبضة يده عما قريب، ويكون هو الحاكم المطلق حسدوه، وحاولوا أن يقفوا في سبيله، فلم يجدوا سوى إلقاء البُغض والفساد بينه وبين «جوزفين». ولما وصل إلى باريس في العاشر من تشرين الثاني (أكتوبر) اجتمعوا حواليه، وصاروا يشكون إليه أعمال «جوزفين»، وينسبون إليها الخفة والطيش والإسراف وعدم الافتكار به وغير ذلك.

فلما سمع «نابوليون» ذلك هاج غضبه وقال بصوتٍ عالٍ: «إنني لأطلقنها.» فالتفت إليه أحد الحضور وقال له: الآن تأتيك معتذرة بلسانها الفصيح، وكلامها العذب، فتصفح عنها وتعودان إلى ما كنتما عليه، فأجاب «نابوليون» وهو يتمشى في الغرفة ذهابًا وإيابًا: «لن أصفح عنها وأنت تعرفني، ولولا خوف العاقبة لنزعت هذا القلب وألقيته في النار.» وبمثل ذلك عزم «نابوليون» أن يلاقي «جوزفين» بعد غيابه عنها زهاء سنة ونصف من الزمان.

ولما كان اليوم الثالث من وصوله عند منتصف الليل وصلت «جوزفين»، وكان «أيوجين» ينتظر وصولها بفارغ صبر، ولما علم بذلك لاقاها إلى الدار السفلى، ثم صعد بها إلى القسم العلوي حيث كان مجتمع أهل البيت، وكان «نابوليون» جالسًا هناك مع أخيه يوسف، فأخذت «جوزفين» ترتجف وهي صاعدة على السلم خوفًا من «نابوليون»، ولما وصلت إلى الباب رآها «نابوليون» قبل أن تدخل الغرفة، فالتفت إليها مغضبًا وقال لها: «ارجعي حالًا إلى ملمازون.»

فلما سمعت «جوزفين» ذلك غابت عن الرشد، وأوشكت أن تسقط إلى الأرض فأمسكها ابنها، وذهب بها إلى غرفتها وهو في حال الكدر الشديد، ولم يمض ربع ساعة حتى سمِع صوت «أيوجين» وأمه وأخته نازلين على السلم قاصدين الذهاب جميعًا إلى «ملمازون»، فلما شعر «نابوليون» بنزولهم أسرع من غرفته، وصار يكلم «أيوجين» ويلح عليه بالرجوع — وهو لم يكن متوقعًا هذه الطاعة الغريبة في «جوزفين» — وكان قلبه لم يزل يحبها، وطلب رجوعها، ولما وجدها تاركة البيت وذاهبة أراد إرجاعها، ولكن أنَفَته منعته من أن يدعوها صريحًا ويرجعها، فصار يكلم «أيوجين» ويلح عليه بالرجوع، حتى اضطر أن يرجع بأمه وأخته، ولما رجعوا لم يكلم أحدٌ منهم الآخر، بل دخلت «جوزفين» غرفتها وطرحت نفسها على مقعد كان فيها، ودخل «نابوليون» غرفته أيضًا، وبقيا يومين لم ير أحدهما الآخر، وأخذت محبة «نابوليون» ﻟ «جوزفين» ترجع تدريجًا في هذه المدة. ولم يأت اليوم الثالث حتى غلب حبه على كبريائه، فقام ودخل غرفتها، فرآها جالسة بالقرب من مائدة ورسائل «نابوليون» المرسلة إليها مفتوحة أمامها على المائدة، فلما دخل «نابوليون» وقف هنيهة ثم نادى بصوتٍ خفيف: «يا جوزفين.» فرفعت «جوزفين» رأسها وقد غسل الدمع وجهها، وأجابت بصوتٍ كَئِبِ، ونغمةٍ حنونة جرحت قلبه، ولم ينسها كل أيام حياته، فمد يده إليها، ومدت يدها إليه، ثم حنت رأسها عليه وبكت بكاءً شديدًا، وقضيا بضعة ساعات في إيضاح الأمور، وإزالة الشكوك، ومن ثم عادت ثقة «نابوليون» الأولى ﺑ «جوزفين»، ولم يعد شيء يُغيِّره عنها.

وكان «نابوليون» و«جوزفين» مقيمين وقتئذٍ في «دي شنتراين»، وكانت أنديتهما دائمًا غاصة بالقواد والأدباء والأشراف شأن أندية الملوك والعظماء وهم يتباحثون في أحوال البلاد وكيفية إصلاحها، ويقولون: إنه لا رجاء لفرنسا إلا إذا مد «نابوليون» يده.

ولم يمض شهر على رجوعه إلى باريس حتى انقلبت سياسة فرنسا، وأبدلت الحكومة المديرية بالقنصلية، وكانت الحكومة القنصلية مؤلفة من ثلاثة قناصل وخمسة وعشرين عضوًا، و«نابوليون» أحد هؤلاء الثلاثة قناصل ورئيسهم أيضًا. ولما أخذ «نابوليون» على نفسه عهد هذه الخدمة التي دعي إليها لم يَفُه لأحد البتة بذلك حتى ذهب أولًا إلى «جوزفين» وأخبرها عن ذلك، وسمع من فمها أولًا كلمات التهاني، وحينئذٍ أخبر الآخرين.

وفي الغد، اجتمع الثلاثة قناصل وجمهور كبير من وجهاء باريس وأكابرها، وأعلن أن «نابوليون» سيكون الحاكم الأول في البلاد، فقبل الجميع ذلك، ودعوا له بالنصر، ولم يسفك نقطة واحدة من الدماء في هذا التغير. وكان السبب الأعظم في ذلك تأثير «جوزفين» القوي في أهالي باريس مدة غياب «نابوليون» في مصر، وقد شعر «نابوليون» نفسه بعظم مساعدة «جوزفين» له في هذا الأمر؛ فشكرها على ذلك.

وفي غد ذلك نقل «نابوليون» و«جوزفين» من «دي شنتراين» إلى «لوكزمبرج»، وكان هذا القصر عتبة «التوبلمري». وفي صباح التاسع عشر من شباط (فبراير) سنة ١٨٠٠م، انتقل «نابوليون» إلى «التوبلمري» بموكبٍ عظيم. كان انتقاله إليه تبوُّؤَه تَخْت ملك فرنسا. وفي مساء ذلك اليوم نفسه، انتقلت «جوزفين» أيضًا في مركبٍ خاص بها، ولما وصلت إلى «التوبلمري» وجدت زوجها بين سفراء الدول وعظماء المملكة وأشرافها، فدخلت عليهم، وعرَّفها بهم، فتلقاها الجميع بإجلال واحترام يليقان بملكة عظيمة الشأن، وكان ﻟ «جوزفين» في ذلك الوقت نحو ثلاث وثلاثين سنة من العمر، وقد زادتها هذه السنون حُسنًا وجمالًا عوضًا عن أن تذهب بنضارة صباها، فإنها كانت معتدلة القوام، وضاحة الحسن، ذات عينين زرقاوين، ومُحيا تقرأ عليه آيات اللطف والكمال، وكأن ما جرى لها في حياتها من الأتعاب والأحزان قد زاد اختبارها لهذه الدنيا، ووسع نطاق معارفها، وثقف عقلها، وكانت قد بلغت أوج عزها، وإيناع مجدها، وطارت شهرتها في أنحاء البلاد كما طارت شهرة «نابوليون» في ذلك الحين.

وكان رجال الثورة وقتئذٍ قد غيَّروا تقسيم الوقت إلى أسابيع، وأبطلوا حفظ الآحاد، إلا أنهم جعلوا يومًا واحدًا من كل عشرة أيام للراحة من عناء الأعمال، وكان «نابوليون» يقضي هذا اليوم هو و«جوزفين» في «ملمازون»، وقد كان من أسعد أيامهما؛ لأنهما سئما من عيشة البلاط وازدحامه، وكثرة تكلفاته ورسمياته، فإذا أتت ساعة رجوعهما إلى «التوبلمري» ذكر «نابوليون» ذلك ﻟ «جوزفين» فتنهدا. وكان النمساويون في مدة غياب «نابوليون» في مصر قد رجعوا إلى إيطاليا وطردوا الفرنساويين من كل الأملاك التي كان «نابوليون» قد رفع فيها راية الجمهورية.

فلما حسن «نابوليون» أحوال البلاد الداخلية وجَّه أفكاره إلى الجيوش المهزومة التي كان قد أوصلها النمساويون إلى الألب، فأخبر «جوزفين» بأفكاره وقال لها: إن ذهابه ضروري، ولكنه لا يغيب طويلًا، فودعها في السابع من أيار (مايو) سنة ١٨٠٠م في «التوبلمري». وفي الثاني من تموز (يوليو) عاد إليها ظافرًا منصورًا، فإنه كان في هذه المدة الوجيزة التي لم تزد على الشهرين قد طرد النمساويين، وزينوا المدينة ليلة بعد أخرى، وإظهارًا لفرحهم وحبهم له كانوا حيثما يجدونه يتجمهرون ويدعون له بالنصر.

وكانت «جوزفين» قد قضت هذه المدة من غياب «نابوليون» في «ملمازون»، وكانت تكاتبه يوميًّا، وهو كذلك، وكان كثيرًا ما يكتب إليها وهو على ظهر جواده، وأحيانًا وهو في ساحة القتال، وأحيانًا كان يملي على كاتبه من وسط المعركة وطبول الحرب تقرع، وجثث القتلى تتساقط، فكان يكتب الكاتب الجمل الوجيزة التي يلقنه إياها، ويرسلها إلى «جوزفين».

فهذه الالتفاتات من «نابوليون» إلى «جوزفين» في مثل هذه الأوقات الحرجة تمثل أبهج صورة من حسن معاملته إياها، وتؤكد سمو أخلاق «جوزفين» وآدابها، وإلا لم يكن رجل نظير «نابوليون» يحسب الكتابة إليها يوميًّا فرضًا واجبًا عليه، وخصوصًا في أحرج أوقاته، وقضت «جوزفين» أكثر مدة غياب «نابوليون» في إصلاح الأشياء التي كانت تظن أن «نابوليون» يُسَرُّ بإصلاحها. ولما رجع من الحرب صارا يقضيان جانبًا من الوقت في «ملمازون» أكثر مما كانا يقضيان فيه قبلًا.

وفتحا الأندية للزوار كما في «التوبلمري»، وكان لهذه الأوقات التي تقضى فيه شهرة عظيمة، وكانت من أبهج أوقاتهما، وقد كانا يقضيان جانبًا منها في بعض الملاهي والألعاب اللطيفة، ويشاركهما في ذلك ولدا «جوزفين» وبعض الأصدقاء الخصوصيين من ملوك وملكات وأمراء وأشراف، وغيرهم من القواد المشهورين والضباط المميزين، ولكن «جوزفين» لم تغفل في وسط هذه الأفراح واللذات عن مساعدة الذين كانوا يحتاجون إلى مساعدتها، بل كانت تساعد كل من كان في طاقتها مساعدته، وخصصت جانبًا معينًا من دخلها لمساعدة المهاجرين، وكانت أحيانًا تُتَّهم بالإسراف.

وبعد تبوُّء «نابوليون» القنصلية بقليل، أمر برجوع المهاجرين إلى أوطانهم، وبذل غاية جهده في إرجاع أملاكهم المحجوزة، ولا شك أنه وجد صعوبات كثيرة من جهات بعض الأرامل والأيتام الذين كان لهم ما يكفيهم من المال، وأصبحوا فقراء مساكين ليس لهم شيء، فكانوا يأتون إلى «جوزفين» ويَقُصُّون عليها قصصهم الحزينة، فتسعى إليهم، وترثي لأحوالهم، وتمدهم بالمساعدة التي تمكنها، وكانت دائمًا تفي بوعدها معهم شأن الكريم.

وكان عمر «هورتنس» وقتئذٍ نحو ثمان عشرة سنة، وعمر «لويس» — أحد إخوة «نابوليون» — أربعًا وعشرين سنة، فاتفق «نابوليون» و«جوزفين» على أن يزوجا «هورتنس» ﺑ «لويس». وكان «لويس» شابًّا عالمًا كثير التأمل، قليل الكلام مثل أخيه «نابوليون»، وكان في كل شيء أشبه سائر إخوته به، ولما كان «نابوليون» في إيطاليا يحارب النمساويين تعرف «لويس» بفتاة من سلالة أحد الملوك القدماء، فأحبها وتعلَّق قلبه بها، ولكن لما رجع «نابوليون» وعلم بذلك لم يُسرَّ به؛ لأنه خاف أن اقترانهما ربما يضرُّ به، فأبعد «لويس» مع العساكر عن باريس، ولم يسمح برجوعه حتى تزوجت الفتاة.

فلما رجع «لويس» وعلم أنها تزوجت تكدر كدرًا عظيمًا، ومن ثم تكدر صفو أوقاته ولم تعد الحياة تطيب له. أما «نابوليون» فشعر بهذا الجرح البالغ في قلب أخيه، وكان دائمًا يجتهد في مرضاته، وأراد أن ينسيه تلك الفتاة، فعزم أن يزوجه ﺑ «هورتنس»، ولكن «لويس» لم يقبل ذلك أولًا، غير أنه قبل أخيرًا، وكذا «هورتنس» لم ترغب من أول الأمر؛ لأنها كانت تحب أحد القواد، وكان من أصدقاء رابها المقربين، وكان يتكل عليه أكثر من سائر القواد، ولكنها اغترت أخيرًا بمواعيد رابها، وقبلت أن يكون «لويس» بعلًا لها، ولكنهما قضيا بعد اقترانهما حياة تعيسة؛ إذ لم يكن أحدهما يحب الآخر، وفي ساعة زفافهما لاحظ كل من الحاضرين أثر الغم على وجه كل من العروسين، ولم تخف بعدئذٍ تعاستهما التي أدت إلى انفصال أحدهما عن الآخر.

أما «جوزفين» فرافقت نابوليون سنة ١٨٠٢م عند طوافه ببعض جهات المملكة، ورافقته أيضًا في ذهابه إلى «ليون» لأجل ملاقاة نواب إيطاليا، وكانت حيثما ذهبت تدهش الجميع بمزاياها الطبيعية، وتأثيرها في زوجها وفي كل مَن عرفها، ومن ثَمَّ رجعت هي و«نابوليون» إلى قصرهما المحبوب في «ملمازون»، وقضيا هناك عدة أسابيع في أفراحٍ وسرور لا يوصف، ثم عاد إلى الجولان في أطراف المملكة الشمالية لاستطلاع أحوال تلك القطائع، وكان الشعب يستقبلهما بالفرح والترحاب في كل مكان، ويثنون على «نابوليون» مزيد الثناء لإخماد نيران الثورة، وإرجاع النظام إلى المملكة، وتوطيد السلام فيها.

وكان حيثما توجه يشعر باستعداد الشعب لتسليمه صولجان فرنسا في أقرب وقت، ولما رجع من سفره استلم قصر القديس «كلود»، وكانت هذه خطوة أخرى إلى عرش «البوربون»؛ فإن الشعب كان قد مل من سكينة الجمهورية، وأحب العودة إلى البهجة والأبهة الملكية، فجدد هذا القصر، وجعل «جوزفين» وأربع سيدات معها للقيام بواجباته، وحينئذٍ سمي «نابوليون» قنصلًا كل حياته.

وكانت «جوزفين» في ذلك الوقت باذلة غاية جهدها لتقنع «نابوليون» بوجود الله، وبإرجاع الديانة المسيحية إلى البلاد؛ لأن الكفر كان قد مد أعراقه في فرنسا و«جوزفين» نفسها لم تكن تعرف كثيرًا من التعاليم الدينية، ولا كانت من ذوات التقى، إلا أنها كانت قد رأت الكفر وتعاسة البلاد الناشئة عن رفض الديانة المسيحية، والأتعاب الأهلية المسببة عن عدم اعتبار الزواج اعتبارًا دينيًّا، وكانت تميز فضائل الدين المسيحي واقتداره على ردع الشعب عن عمل الشر، وحملهم على عمل الخير، فاقتنع «نابوليون» بكلامها، وأعلن إرجاع الديانة المسيحية إلى البلاد، وفي غد صدور الإعلانات أقيمت الاحتفالات الدينية المرة الأولى في كنيسة «نوتردام» وأرجعت الديانة المسيحية إلى المملكة، ولم يمض بعد ذلك مدة طويلة حتى كثرت الإشاعات في شأن تتويج «نابوليون» ملكًا على فرنسا، وكان كثيرون راغبين في ذلك.

أما «جوزفين» فكانت ترتعد كلما سمعت ذلك؛ لأنها رأت احتياج «نابوليون» إلى ولد يخلفه إذا توج ملكًا، وكانت تسمع البعض يلحون عليه بأن يطلقها ويتزوج بغيرها من الأسرة الملكية قائلين: إن مصالح فرنسا تستلزم أن يكون له ابن يخلفه في الملك، وقد كانت متأكدة شدة محبة «نابوليون» لها، إلا أنها كانت خائفة من إنفاذ هذا الأمر؛ لأنها كانت قد عرفت أنه ليس لدى «نابوليون» تقدمة لا يمكنه تضحيتها لأجل مجده وتقدمه في هذه الدنيا.

وفي يوم من الأيام دخلت «جوزفين» غرفة زوجها، فوجدته جالسًا مع رجل آخر من أصحاب السياسة يتحدث معه في الأمور السياسية، فلما دخلت جلست قليلًا، ثم قالت: إنها لا ترغب البتة في تتويج «نابوليون» ملكًا، بل تفضل بقاءه قنصلًا كما هو، فضحك «نابوليون» وقال: «لماذا هذا الجنون يا جوزفين؟ إلى متى تصدقين كلام هؤلاء العجائز؟»

وكان كلما قال أحد أمام «جوزفين» إنها ستكون إمبراطورة فرنسا عما قريب، تجيب أنها مكتفية أن تكون امرأة القنصل «نابوليون» فقط.

وفي الثاني من (مايو) سنة ١٨٠٤م، قرر المجلس القضائي أن «نابوليون» سيكون إمبراطور فرنسا، وأرسل التقرير إلى كل جهات فرنسا، فوافق عليه أكثر من ثلاثة ملايين ونصف من الشعب، ولم يزد عدد المضادين على ألفين وخمسمائة.

وفي غد تبوُّء «نابوليون» تخت إمبراطورية فرنسا، صنَع احتفالًا عظيمًا في «التوبلمري» لكل العظماء والأشراف، وبرَزت بينهم «جوزفين» في ذلك الاحتفال إمبراطورة لفرنسا، ولكن مخاوف بعض المتوحيات نزعت كل أفراح تلك الساعة منها، ولم تكد تتمالك إظهار غمها وحزنها؛ وذلك لأن المجلس قرر أيضًا أن الإمبراطورية ستدوم في أسرة «نابوليون»، وقد حضر ذلك الاحتفال عدد عظيم من أكابر أوروبا وعظمائها، فوجدت «جوزفين» نفسها حينئذ في درجة لم يصل إليها أعظم ملكات أوروبا، وكانت شهرة زوجها قد عمت كل أوروبا، وقوته قد فاقت أعظم ممالكها.

وفي الثاني من تشرين الثاني (أكتوبر) من السنة المذكورة، حضر البابا من رومية لكي يتوِّجهما إمبراطورًا وإمبراطورة على فرنسا في كنيسة «نوتردام»، ولم يحصل على هذا الشرف أحد من ملوك أوروبا قبل «نابوليون» منذ عشرة قرون، وكان الهواء في ذلك اليوم رائقًا، والكنيسة مزينة بأفخر الزين والعجلات أمامها تلمع بعدد خيولها الذهبية والأرجوانية، والقواد والأبطال في ثيابهم الرسمية الموشاة بالذهب.

ولما كان وقت التتويج دخلت «جوزفين» في حلة من الأطلس الأبيض موشاة بالذهب، وموشحة بالخرز الذهبي، ومزينة بالحجارة الكريمة، ومشمل على المخمل القرمزي مبطن بالأطلس الأبيض، وفرو القاقم على أكتافها، وكانت حلي التتويج تاجين؛ الواحد لأجل التتويج ولتضعه على رأسها في احتفالات المملكة الخصوصية فقط، والآخر لأجل باقي الأوقات الرسمية، ومنطقة أيضًا.

أما التاج الأول، فكان له ثمانية فروع ذهبية، أربعة منها على شكل النخل، والأربعة الأخرى على شكل ورق الريحان، وكانت حجارة الألماس البرلنتية منثورة عليها كنقط الندى وقد أحاطت بها حلق ذهبية مرصعة بحجارة من الزمرد والجمشت، والتاج الثاني كان مصنوعًا من أربعة صفوف من اللؤلؤ، ومفصلًا بحجارة ألماس، ومن الأمام عدة حجارة من ألماس بلغ وزن واحد منها مائة وتسعة وأربعين قمحة، وكانت المنطقة من الذهب الأبريز، وقد رصعت بتسعة وثلاثين حجرًا من الماس الفلمنكي الملون.

أما «نابوليون» فدخل في حلة من المخمل الأبيض موشاة بالذهب، ومزرورة بحجارة ألماس، وجبة ومشمل من المخمل القرمزي موشيين بالذهب، ومُرصَّعين بحجارة ألماس أيضًا، وكانت المركبة الملكية على غاية ما يكون من الإتقان والجمال؛ فإن ألواحها كانت من الزجاج النقي؛ ويجرها ثمانية رءوس خيل حمر الألوان. وكانت المسافة بين «التوبلمري» و«نوتردام» نحو ميل ونصف، وكان عشرة آلاف خيال في ثيابهم الرسمية ملازمين العجلات، وبلغ عدد الناظرين نصف مليون؛ إذ كانت النوافذ والسطوح وشرف البيوت المطلة على الطريق التي مرَّ عليها الموكب غاصَّة بالوقوف، وكانت الموسيقى تصدح بألحانها المطربة، والمدافع تضرب في الهواء، وعشرات الألوف من العساكر تهتف معًا، وكانت تلك الساعة مما لم يسبق لها مثيل في تاريخ العالم.

وكان العرش في كنيسة «نوتردام» مغطى بأغطية من المخمل القرمزي، وعليه مقعد من المخمل أيضًا يرقى إليه باثنتين وعشرين درجة مستديرة، وكانت مغطاة بالجوخ الأزرق، ومحلاة بالخرز الذهبي، فجلس «نابوليون» بجانب «جوزفين» على العرش، ووقف كبار القواد على الدرج، ثم ابتدأ التتويج وطالت مدته أربع ساعات، وكانت تتخلله الموسيقى العسكرية. ولما أزف الوقت لأن يضع البابا التاج على رأس «نابوليون» أخذه بيده واقترب إلى «نابوليون»، وقبل أن يضعه على رأسه أخذه «نابوليون» من يده، ووضعه هو نفسه على رأسه، ثم نزعه عن رأسه ووضعه على رأس «جوزفين»، ثم نزعه عن رأسها حالًا لثقله، ووضعه على مسندٍ بجانبه، وتوَّجها بآخر أصغر منه، ثم جثت «جوزفين» والتاج على رأسها، ويداها مكتوفتان، وصلَّت لله، والتفتت إلى زوجها التفاتة عبَّرت عن شكرها ومحبتها له، وبقي «نابوليون» يتذكر هذه الالتفاتة كل أيامه.

ولما تمَّ التتويج وأزِفَ وقتُ الانصراف ارتجل «نابوليون» خطبة تناسب المقام، ذكر فيها أن نسله سيجلس على هذا العرش من بعده، فأثَّر هذا الكلام تأثيرًا عظيمًا في «جوزفين»، ونشب كحربة في قلبها، خصوصًا لما تَعْهَده في «نابوليون» والشعب الفرنساوي أيضًا من الرغبة في أن يكون له ولد. ولما عادت إلى «التوبلمري» كان الليل قد أرخى سدوله، وأسواق المدينة مزينة بالأنوار، و«التوبلمري» يتلألأ بها أيضًا، ودخلت «جوزفين» مخدعها وجثت على ركبتيها، وطلبت الإرشاد من ملك الملوك والدموع منسجمة على خديها.

أما أهالي باريس فخصصوا الشهر الأول من تتويج «نابوليون» و«جوزفين» بكل أنواع الأفراح والملاهي العمومية، وكانت المدينة تزين كل ليلة بالأنوار. وفي صباح أحد الأيام، دخلت «جوزفين» إحدى غرفها، فوجدت ناصلة ذهبية مع كل أدواتها، وكانت من الذهب أيضًا، وقد أهداها إليها مجلس بلدية باريس.

وفي مساء تتويجهما أطلق الشعب منطادًا كبيرًا في الجو كان مصنوعًا على هيئة التاج الملكي، فبقي مدة ظاهرًا فوق باريس، ثم سار نحو الجنوب.

وفي مساء اليوم التالي، وقع في مدينة رومية — وهي تبعد مسافة تسعمائة ميل عن باريس — ثم حدث على أثر تتويج «نابوليون» أن مديري جمهورية إيطاليا كتبوا إلى «نابوليون» — وكان وقتئذٍ رئيسهم — يطلبون إليه أن يرافقهم إلى «ميلانو» ويتوج ملكًا عليهم؛ إذ كان هو المنقذ لهم من أيدي أعدائهم النمساويين. وكان من عوائد «نابوليون» السفر بغير أن يُعلِم أحدًا من قبل، ففي مساء يوم من الأيام، بعد عماد الابن الثاني لأخيه «لويس»، أمر بإعداد الخيل للسفر إلى إيطاليا الساعة السادسة من الصباح، فرافقته «جوزفين» في هذا السفر، وكانا حيثما يصلان يستقبلهما الشعب بالترحاب، ويزين لهما المدن، ويدعو لهما بالنصر.

وكانت «جوزفين» حاصلة حينئذٍ على كل ما من شأنه أن يجعلها أسعد البشر، لولا أمر واحد، وهو عدم وجود ولد ﻟ «نابوليون»، ولكنها لما وصلت إلى إيطاليا نسيت غمَّها، وقضت هنالك عدة أيام بغبطة وهناء. وكان بينها وبين البابا «بيوس السابع» صداقة قوية، وقد رافقهما بنفسه إلى «تورين»، ولما افترق عنها أهدت إليه كأسًا من فخار «سافراس»، ومن «تورين» أخذها «نابوليون» إلى ساحة «مارنفو» حيث نشبت أعظم وقائعه، وهناك لبس ثيابه الحربية، ووقف في وسط ثلاثين ألف جندي، ومثَّل لها واقعة القتال.

وفي الثامن من مايو سنة ١٨٠٥م، دخلا ميلانو، وكانت المدينة مزينة، والفرح والطرب قائمين فيها. وفي السادس والعشرين من الشهر نفسه، توج «نابوليون» ملكًا على إيطاليا في كنيسة «ميلان»، ولم يكن هذا الاحتفال أقل من الاحتفال في كنيسة «نوتردام»، والذي زاد هذه الحفلة عظمة وأبهة أنه أُحضر ﻟ «نابوليون» — سوى التاج المُعَد لتتويجه — تاج «شارلمان» الحديدي، ولم يكن هذا التاج قد علا رأس الملوك منذ أيام «شارلمان» من ألف سنة.

وهنا أيضًا — كما في «نوتردام» — لم يدع أحدًا يضعه على رأسه، بل وضعه هو بنفسه، ثم توَّج «جوزفين» هو أيضًا، وأقاما مدة شهر في «ميلانو»، وذهبا منها إلى «جنوا»، ثم رجعا إلى باريس. وكان «نابوليون» قد أعطى «جوزفين» لائحة عن سفرهما، وعن جميع الأماكن التي سيقفان فيها، والخطب والأجوبة التي سيخطبها ويجيب بها، والهدايا التي كان يجب عليها تقديمها، والمبالغ التي يمكنها أن تنفقها، فكانت «جوزفين» تقضي قسمًا من كل صباح في درس هذه المثالات، وقد أظهر «نابوليون» ﻟ «جوزفين» في هذا السفر ما لا مزيد عليه من البشاشة والأنس، وكانا دائمًا مسرورين.

وذكرت «جوزفين» فيما بعد أن هذا السفر من أسرِّ أسفارها مع «نابوليون»، وكانا حيثما يصلان يتلقاهما الشعب بالترحاب، ويقيم لهما الأفراح، ويولم الولائم. وبعد وصولهما إلى باريس بمدةٍ وجيزة سمعا أن قصد «أيوجين» ابن «جوزفين» الاقتران بابنة ملك «بافاريا»، فذهبا إلى «ميونخ» ليحضرا الزفاف، فاجتمعت «جوزفين» بابنها، وفرحت له بعروسه، خصوصًا لأنها كانت في كل شيء كما تشتهي، ثم رجعا من هناك إلى باريس مشيعين بجمهورٍ كبير من أمراء «جرمانيا» وأميراتها.

وكانت «جوزفين» وقتئذٍ في ذروة من المجد التي لا يمكن هذا العالم أن يمنحها لأحد البشر، فإن كل أوروبا كانت عند قدمي زوجها، وابنتها «هورتنس» كانت ملكة «هولاندا»، وابنها «أيوجين» كان نائب ملك إيطاليا، وصهر ملك «بافاريا». وكان نابوليون قد نزع من فكْرِه طلاقها، وقرر أن ابن أخيه «لويس نابوليون الأكبر» سيكون وارث ملكه، فزالت كل الارتباكات في ذلك الوقت من هذا القبيل. وكان «نابوليون» دائمًا معجبًا ﺑ «جوزفين»، حتى كان يقول في غالب الأوقات: «إنه لا نظير لها بين نساء العالم.»

أما هي فلم تكن تنسى المحتاجين والحزانى مع ما وصلت إليه من السلطنة والسؤدد، بل كانت دائمًا مستعدة لمساعدة كل من طلب مساعدتها، سواء كان بمالها أو بكلامها، حتى كانت تتهم أحيانًا بالتبذير والإسراف، وكانت تحب مرافقة «نابوليون» في أسفاره، وهو أيضًا كان يرغب مرافقتها؛ لأنها كانت الشخص الوحيد الذي يوثق به. ومرة وعدها بمرافقته في إحدى سفراته، ولكن الأحوال أحوجته إلى الذهاب سرًّا، فأمر بإعداد لوازم السفر.

وفي الساعة الأولى بعد نصف الليل — وهو الوقت الذي ظن أن «جوزفين» تكون فيه مستغرقة في النوم — قصد الذهاب، ولكنه لم يصل إلى العجلة حتى كانت «جوزفين» بين يديه، فأمر بإعداد لوازمها في الحال، وذهبا معًا إلى إسبانيا، فأخضع «نابوليون» إسبانيا تحت طاعته، وملأها من العساكر الفرنساوية، وولى أخاه «لويس» عليها، ثم قفل راجعًا إلى فرنسا، ولكن لم يلبث طويلًا حتى أتته الأخبار أن الإسبانيين طردوا أخاه من العاصمة بمساعي الإنكليز، وقتلوا كثيرين من الفرنساويين القاطنين هناك، فرجع مسرعًا إلى إسبانيا. وفي هذا الوقت أيضًا طلبت «جوزفين» الإتيان معه، ولكنه لم يسمح لها بذلك، بل دخل مدريد عاصمة البلاد، وأرجع أخاه إلى مقامه، وثبت حكمه فيها، ورجع ثانيًا إلى فرنسا.

وكانت آمال «نابوليون» و«جوزفين» في ذلك الوقت معلقة بالأمير الصغير ابن «لويس» و«هورتنس»، وشاع في كل فرنسا وهولندا أنه سيكون صاحب الملك من بعد عمه.

ولكن في ربيع سنة ١٨٠٧م، بينما كان «نابوليون» يحارب «بروسيا» وهو منتصر عليها انتصارًا عظيمًا، أصاب الولد داء الخناق، ومات في ساعاتٍ قليلة، وكان له من العمر خمس سنوات، فحزنت «جوزفين» لفقده حزنًا عظيمًا، ورجعت إلى مخاوفها القديمة؛ لأنها كانت تعرف «نابوليون»، وتعرف رغبته في أن يكون له وارث يترك الملك له، وكانت فرائصها ترتعد كلما افتكرت مرارة تلك الكأس التي كان لا بد لها من تجرعها، وقد بقيت مدة ثلاث أيامٍ منفردة في غرفتها بلا أكل ولا نوم تسكب الدموع على عظم مصيبتها.

أما «نابوليون» فلما وصلت إليه هذه الأخبار المحزنة كان في أوج انتصاره؛ إذ كان قد قهر جميع أعدائه، وأخضع «بروسيا» تحت طاعته، وكان جميع ملوك أوروبا مستعدين لإتمام أوامره، فلما سمع هذه الأخبار جلس ساكتًا، وارتفق بيده على وجهه، وسُمِع وهو في حزنه الشديد يقول لنفسه المرة بعد الأخرى: «لمن أترك كل هذا؟» وكان يتنازع أفكاره عاملان قويان: محبة «جوزفين» من جانب، ومحبة المجد واشتهاء أن يكون له ولد يرث اسمه وشهرته من جانب آخر.

وبقي مدة على هذه الحال وهو لا يذوق طعامًا ولا يغمض له جفن، ولكن رغبته في كسب المجد، واعتقاده أنه أوصل فرنسا إلى درجة لم تصل إليها مملكة على وجه الأرض، فينبغي أن يخلف من يرثها من نسله جعلاه يضحي بكل سعادته وراحته، ويفقد سلامة الذوق، ويحل قوى ربط المحبة، وكانت «جوزفين» تعرف زوجها جيدًا، فكانت بالخوف والرعب تنتظر قدومه، وكانت تقضي أكثر أوقاتها بالنوح والبكاء. وكان أحيانًا كثيرة يصدر في الجرائد كلام في شأن طلاقها واقتران «نابوليون» بإحدى بنات الأسرة الملكية.

وفي تشرين الأول (أكتوبر) سنة ١٨٠٧م، رجع «نابوليون» من «فيينا» فسلم على «جوزفين» بمزيد اللطافة. أما هي فلاحظت في الحال أنه كان قلقًا في فكره، وأنه كان حينئذٍ يشتغل بهذه المسألة، وكثيرًا كان يجتمع بوزرائه سرًّا، فلاحظ رجال البلاط ذلك، وكانوا قليلي الكلام، وكان «نابوليون» لا يكثر أن يلتفت إلى امرأته؛ لأنه خاف أنه إذا التفت إلى التي أحبها هذا الحب العظيم يتغير فكره، وكانت «جوزفين» قلقة جدًّا من هذا القبيل، ولكنها اجتهدت في إخفاء عواطفها، وكانت تلاحظ حركات «نابوليون» وسكناته، فترى في كل يوم أمرًا جديدًا يؤكد لها ما كانت تخافه.

أما هو فكان يتجنبها ويبتعد عنها، وقد قفل الباب الذي بين غرفته وغرفتها، وكان قليلًا ما يدخل مخدعها، وإذا أراد ذلك قرع الباب، كل ذلك ولم تكن جرت كلمة واحدة بينهما في هذا الشأن، وكانت «جوزفين» عندما تسمع وقع أقدام «نابوليون» ترتجف وتظن أنه آتٍ إليها بالأخبار المخيفة، ولم تعد تقدر أن تصل من مكانها إلى الباب بغير أن تتمسك بالحائط أو بشيء آخر، ولكنه مضى كلا شهري تشرين الأول والثاني «أكتوبر ونوفمبر» ولم يكلم «نابوليون» «جوزفين» بشيء من هذا القبيل، مع أنه كان في المذاكرة مع وزرائه في أمر الزواج الجديد والأسرة التي يصاهرها، فإنه كان يستصعب مفاتحتها بهذا الشأن، غير أن هذه الصعوبة لم تُغير مقاصده الثانية البتة، وكانت شهرته وسلطته عظيمتين إلى حد أنه لم يوجد أسرة في أوروبا لم تكن تحسب شرفًا لها أن تعطي من بناتها زوجة ﻟ «نابوليون»، فأشار عليه وزراؤه أولًا أن يأخذ زوجة من أسرة «البربون»؛ لأنهم افتكروا أنه إذا فعل ذلك يرضي حزب الملكية في فرنسا، ويكون ملكه أثبت بهذه الواسطة.

ثم أشاروا عليه أن يأخذ سيدة سكسونية، ولكنهم ظنوا بعد طول التأمل أن يكون الأنسب أن يصاهر جلالة ملك «روسيا»، ولكن بعد أن جرى كلام بين البلاطين في ذلك قرَّ الرأي أن يأخذ «ماريا لويزا» ابنة إمبراطورة النمسا، وكان في ذلك الوقت قد آن ﻟ «نابوليون» أن يخبر «جوزفين» بما كان قاصدًا أن يفعله، وكان في اليوم الأخير من تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٨٠٩م، دخل الإمبراطور والإمبراطورة لكي يتعشيا ولم يدخل معهما أحد، وكانت «جوزفين» كل ذلك النهار في غرفتها تسكب الدموع بغزارة كأنها عرفت أن ذلك اليوم كان يومها المحزن، ولكنها لما أتت ساعة العشاء غسلت عينيها ودخلت غرفة المائدة، وبذلت غاية جهدها لكي تضبط نفسها عن البكاء، ولذلك لم تتجاسر أن تفتح فمها بكلمة واحدة.

أما «نابوليون» فكان تائهًا في بحر الأفكار ولم يكلمها بكلمةٍ واحدة، فكان حول تلك المائدة حينئذٍ سكوت تام، ولم يذق أحدهما شيئًا، بل كانت أنواع الطعام تتبدل بغير أن تمسَّ، وكان اصفرار الموت على وجه كل منهما. ولما انتهى تقديم العشاء صرف «نابوليون» الخدم، ثم نهض وأغلق الباب بيده على نفسه و«جوزفين»، حينئذٍ أتت تلك الدقيقة التي كان كل منهما هالعًا منها، فاقترب «نابوليون» إلى «جوزفين» وأخذ يدها وقال لها بصوتٍ منقطع: «يا جوزفين، يا عزيزتي جوزفين، أنت تعلمين كيف أحببتك، وأني لك وحدك شاكر على الدقائق القليلة التي بك عرفت فيها السعادة على الأرض. والآن أخبرك أن واجباتي أقوى من إرادتي، وأن عواطفي القوية نحوك يجب أن تخضع لمصلحة فرنسا.»

فلما سمعت «جوزفين» ذلك خفق قلبها، ونضب الدم في عروقها، ووقعت على الأرض مغشيًّا عليها، فلما رأى «نابوليون» ذلك فتح حالًا الباب ونادى مَن يساعده، فأتى إليه حالًا عدد من الخدم من الغرفة المجاورة، وكان هناك أيضًا الكونت «بومون»، فأومأ إليه «نابوليون» وهو مرتجف ووجهه ممتقع بأن يأخذها على يده إلى غرفتها، وأخذ هو مصباحًا بيده وذهب أمامه، ولكن لمَّا وصل إلى السُّلَّم سلَّم المصباح إلى أحد الخدم وساعد الكونت في حملها، وكانت تقول في غشيها: «آه! لا يمكنك أن تفعل ذلك؛ لأنك لا تحب قتلي.»

ولما وصلا بها ووضعاها على فراشها صرف «نابوليون» الكونت وقرع الجرس في طلب خادمتها الخصوصية، وقضى الوقت بجانبها حتى أخذت تستفيق، ولما ظهر له أنها ابتدأت ترجع إلى نفسها تركها ومضى، إلا أنه لم ينم طول ذلك الليل، بل كان يتمشى في غرفته ويأتي إلى باب غرفة «جوزفين» ويسأل الطبيب عن أحوالها. أما الطبيب فلم يفارقها كل ذلك الليل.

وفي مدة الأسبوعين الأولين بعد ذلك لم ير الواحد منهما إلا قليلًا ما يتعلق بالآخر، واتفق أنه في تلك المدة كان عيد التتويج ونصرة «أوسترلينز» الشهيرة، فكانت المدينة في ذلك الوقت مشتعلة بالأنوار، وصوت قرع الأجراس ملء الفضاء، وفي هذين الاحتفالين كانت «جوزفين» مضطرة أن تحضر أمام الشعب، وكانت مُتأكِّدة أن كل الملوك والأمراء — الذين كانوا حينئذٍ في باريس — عالمون بالإهانة المُقبلة عليها، وكانت كل أصوات الطرب والابتهاج في مسامعها قرع أجراس حزن مؤذنة بمصيبتها، ومع ذلك فإنها بذلت جهدها في تسليتها لكي تظهر أمام الناس كعادتها، غير أن اصفرار وجهها واغريراق عينيها بالدموع كانا يُنْبئان عما تحاول إخفاءه. وكانت ابنتها «هورتنس» دائمًا معها باذلةً غاية جهدها في تسليتها، وابنها «أيوجين» ترك إيطاليا وأتى باريس إليها، وبعد مواجهتها ذهب إلى «نابوليون» وطلب الاستعفاء من خدمته قائلًا له: إن ابن التي ليست بعدُ إمبراطورة لا يقدر أن يكون نائب الملك، وأنا قصدي أن أتبع أمي في انحطاطها؛ لأنه يجب أن تجد الآن تعزية في أولادها.

أما «نابوليون» فلم يكن خلوًّا من العواطف، بل تساقطت العبرات من عينيه، وصار يكلم «أيوجين» بصوتٍ مرتعش، ويبين لزوم ذلك، ويوضح له الأمور، فتأثر «أيوجين» من كلامه، وأما أمه فطلبت منه أن يبقى في خدمة «نابوليون»، ويبقى من أصدقائه المخلصين كما كان أولًا.

وفي الخامس عشر من كانون الأول سنة ١٨٠٩م، جمع «نابوليون» جميع الملوك والأمراء من أسرة الإمبراطورية، وأكثر القواد المشهورين في منتدى «التوبلمري» العظيم؛ حتى يقص عليهم خبر انفصاله من «جوزفين»، وكان كل واحد من الحاضرين منذهلًا من غرابة هذا الاجتماع، فنهض «نابوليون» في أثناء ذلك وخاطبهم قائلًا:

إن مصالحي السياسية ورغبة شعبي الذي كان دائمًا يدرب أعمالي تستدعي أن يكون لي وارث يرث محبتي للشعب، والعرش الذي وضعتني العناية عليه. وقد مضى عليَّ عدة سنوات مع الإمبراطورة «جوزفين» حتى قطعت الأمل من أن يكون لي أولاد منها. وهذا هو الداعي الذي حملني على التضحية بأشد عواطف قلبي، ومراعاة مصالح رعيتي، وطلَبِ انفصالنا. وقد بلغت الآن الأربعين من العمر، وآمل أن أعيش طويلًا بعدُ، وأن أحتضن في أفكاري الأولاد الذين تسر العناية بأن تباركني بهم. والله وحده يعلم كم كلف قلبي هذا المقصد، ولكن ليس من أمر مهما كان عزيزًا عليَّ إلا وأنا أضحيه طائعًا مختارًا لمصلحة فرنسا، وليس لي سبب أشكو منه، ولا شيء أقوله سوى مدح محبة امرأتي المحبوبة وحُنُوِّها، فإنها زينت خمس عشرة سنة من حياتي، فيبقى ذكرها منقوشًا على صفحات قلبي إلى الأبد، وأنا بيدي توَّجتها إمبراطورة. ستبقى إمبراطورة في القلب والرتبة. وأحب فوق كل ذلك أن لا تَشُكَّ مطلقًا بعواطفي من نحوها، ولا تعتبرني إلا أعز صديق لها.

فأجابت «جوزفين» بصوتٍ منقطع وعينين مغرورقتين بالدموع: «إني أجيب على مآل كلام الإمبراطور من جهة انفصالنا بالقبول؛ لأن اجتماعنا كان حائلًا دون مسيرة فرنسا، بسبب عدم وجود مَن يسوس يومًا ما هذا الشعب من نسل هذا الإنسان العظيم، الذي أقامته العناية لكي يطفئ شرر الثورة المخيفة، ويرجع المذبح والعرش والهيئة الاجتماعية، ولكن هذا الانفصال لا يغير عواطف قلبي، بل سيجد الإمبراطور فيَّ أحسن صديقة له، وأنا أعلم ماذا كلَّف هذا العمل السياسي قلب الإمبراطور، ولكن نحن الاثنين نفتخر بهذه التضحية التي ضحيناها لأجل خير المملكة، وأشعر أنين التعظيم والمجد بإيرادي بإعطائي أعظم برهان على محبتي.»

هذا ما أظهرته «جوزفين» جهارًا، وأما في الخفاء فإنها استسلمت للحزن والكآبة، وقضت ستة أشهر بالبكاء والنحيب حتى قاربت العمى من شدة الحزن.

وفي اليوم المعين لإنهاء نظام الانفصال اجتمع المحفل ثانية في نادي الإمبراطور العظيم ليشهدوا تمام نظام الانفصال، فدخل الإمبراطور بحلته الرسمية واصفرار الموت على وجهه، وعلامات اليأس والقنوط تلوح عليه، واستند إلى أحد الأعمدة مكتوف اليدين لا يفوه بكلمة، وبقي برهة غائصًا في بحور الافتكار كالصنم لا يبدي حراكًا، وكان في وسط النادي مائدة جميلة وعليها كل أدوات الكتابة من الذهب الإبريز، أمامها كرسي أعد ﻟ «جوزفين»، وكان جميع الحاضرين صامتين لا يفوهون بكلمة، وكلهم شاخِصٌ إلى المائدة وما عليها، كأنهم ينظرون إلى مذبحة أو مشنقة مُعلَّقة، ففي وسط هذا فُتح بابٌ من جانب المنتدى، ودخلت منه «جوزفين» مستندة إلى يد ابنتها «هورتنس» واصفرار الموت يلوح على وجه كل منهما، ولما دخلا غلب البكاء على «هورتنس»، ولم تنفك عن ذلك كل مدة الاجتماع.

ولما دخلت «جوزفين» نهض الجميع إجلالًا لها، وتساقطت العبرات من عيونهم لشدة تأثُّرهم من منظرها. أما هي فتقدمت بحركاتها اللطيفة إلى المكان المعد لها، وارتفقت بيدها على وجهها، وأصغت إلى قراءة نظام الانفصال والدموع تُسكب من عينيها، وكان ابنها «أيوجين» جالسًا على مقربةٍ منها، وبعد نهاية قراءة النظام حسمت «جوزفين» دموعها، وانتصبت واقفة، وأخذت على نفسها عهد الانفصال بصوتها الرائق العذب الاعتيادي، ثم جلست وأخذت قلمًا ووقَّعت اسمها بفكِّ أمتن رُبط المحبة والوداد التي لا يمكن للعقل البشري أن يتصورها، أو للقلب الإنساني أن يشعر بها، ثم استندت ثانية إلى يد ابنتها، وخرجت من المكان، أما «أيوجين» فوقع على الأرض مُغمًى عليه.

أما شدة ذلك اليوم وآلامه فلم تكن قد انتهت، بل كان على «جوزفين» وهي في وسط توهانها في بحور الأحزان ما كان آلم وأشد عذابًا من الأول، وهو وداع من كان زوجها الوداع الأخير، فانتظرت في غرفتها وهي حزينة القلب مكسورة الخاطر لا تفوه بكلمة، فلما حان الوقت أتى «نابوليون» إلى غرفته قلقًا كئيبًا بسبب ما جرى، ورمى بنفسه على فراشه.

وفي الساعة نفسها فُتح الباب الذي بين غرفته وغرفة «جوزفين»، ودخلت هي منه وهي ترتجف وعيناها وارمتان من البكاء، وشعرها مسدول على أكتافها، وعلامات الحزن والغم الشديدين تلوح على وجهها، فتقدمت إلى وسط الغرفة ودنت من سرير «نابوليون»، ثم وقفت بغتة وغطت وجهها بيديها، وصارت تبكي بكاء شديدًا، وكان ذلك لأنها افتكرت حينئذ أنه لا حق لها بعدُ في الدخول إلى غرفة «نابوليون»، ولكن محبتها الشديدة له حالًا تهيجت وأنْسَتْها كلَّ ذلك، فتَقدَّمتْ إليه وطرحت نفسها بجانبه، وغمرته بيدها، وصارت تدعوه باكية منتحبة، فتهيجت عواطف «نابوليون»، وجعل يؤكد لها محبته الصحيحة الصادقة وهو يبكي وينتحب، ويثبت لها أنه سيبقى كذلك إلى يوم موته، واجتهد لكي يسليها ويعزي قلبها، وبقيا على ذلك برهة من الوقت، ثم قامت «جوزفين» وودعت زوجها الذي أحبته كل هذه السنين الوداع الأخير، وافترقت عنه إلى الأبد.

وفي اليوم الثاني ودَّعت «جوزفين» البلاط وأهله، وفي الساعة الحادية عشرة اجتمع كل حاشية «التوبلمري» على أعلى السلالم، وفي الشبابيك والمماشي؛ ليروا افتراق سيدتهم المحبوبة التي كانت زينة ذلك القصر وبهجته، فنزلت على السلالم مغطاة بمنديلٍ من قمة رأسها إلى قدمها، والدموع ملء عينيها، فصارت تلوح بمنديلها علامة الوداع للأصدقاء الباكين حولها إلى أن وصلت إلى الباب، وهناك وجدت عجلة مطبقة باستنظارها يجرُّها ستة من الخيول الجياد، فدخلتها وسارت بها، وتركت وراءها «التوبلمري» إلى الأبد.

أما محل إقامتها الجديد فكان قصر «ملمازون» الذي كانت تُفضِّله على سائر قصور الإمبراطور، وكانت قد قضت فيه هي و«نابوليون» أسعد أوقاتهما، فإن «نابوليون» كان يعرف محبتها لهذا القصر، وقد أعطاها إياه لكي تقضي فيه باقي حياتها، وكان قد أجرى عليها راتبًا سنويًّا قدره ستة آلاف ريال، وأبقى لها اسمها ومقامها هناك، ومكثت «جوزفين» عائشة كما يعيش الملوك، وكانت محبوبة عند كل شعب فرنسا، ومُعتبرة ومُكرَّمة عند كل أهالي أوروبا، وكان «نابوليون» يزورها — غالبًا — ويستشيرها في أعماله، وقد أدرك الناس أن الذي يريد أن يرضي الإمبراطور ويكون مِن المقربين إليه هو الذي يلتفت إلى «جوزفين» ويُحسن معاملتها وإكرامها، ومن ثم أصبح قصر «ملمازون» محل اجتماع كل أعضاء بلاط «نابوليون»، يأتون إليه دائمًا بحللهم الرسمية الملوكية، وكانت تدعو منهم كل يوم عشرة أو اثني عشر نفسًا ليُفطروا معها صباحًا.

وفي الساعة الحادية عشرة قبل الظهر كانت تمرُّ أمام الجميع إلى غرفة المائدة يتبعها المدعوُّون حسب رُتبهم ومَقامهم، وكانت تفرز اثنتين منهم للجلوس عن يمينها وعن يسارها، ويقف وقت الطعام خمسة من الخدم وراءها، وخادم واحد وراء كلٍّ من المدعوين، وسبعة أفواج من رُتَب مختلفة كانوا يخدمون على المائدة. أما مدة الفطور فلم تكن تزيد عن ثلاثة أرباع الساعة إلا فيما ندر، وكانت تذهب بعد الفطور مع سيداتها وضيوفها إلى قاعة التحف.

أما أوقات «جوزفين» فكانت تُقضى في أعمال الرحمة مع المساكين حواليها، والمطالعة، واستقبال أعضاء بلاط «نابوليون»، فإن مُنتداها كان دائمًا غاصًّا بهم، وكان «نابوليون» دائمًا يزورها، ويقضي عندها ساعات كثيرة يتمشى بها معها في الجنينة، أو في محل آخر آخذًا بيدها، وكان يفعل كل ما في وسعه كي يُعوِّض لها عن معاملته السالفة، وعن الحزن والغم اللذين سببهما لها، وكان قلبه باقيًا متعلقًا بها، ويحبها محبة شديدة، ومحبته واعتباره لها يزدادان يومًا فيومًا.

وكانت «جوزفين» تقضي أوقاتها يوميًّا على وتيرة واحدة، فتنزل في كل يوم الساعة العاشرة صباحًا إلى قاعة الاستقبال وتستقبل زُوَّارها الذين كانوا من أعيان باريس، وكانوا يشتغلون ببعض الأمور المُسلِّية مثل: الصور الجميلة، والنقوش البديعة، والتحف الغريبة، والذي كان لا يرغب في ذلك يذهب مع «جوزفين» لاستماع تلاوة بعض الكتب المفيدة مِن المُوكَّل على بيتها، وكانوا يقضون الوقت في ذلك إلى الساعة الثانية بعد الظهر، فتأتي إذ ذاك ثلاث عجلات يجرُّ كلًّا منها أربعة من جياد الخيل، فتركب «جوزفين» واحدة منها، وتذهب مع اثنتين من خادماتها الخصوصيات وبعض الأصدقاء، وتقضي مقدار ساعتين من الزمان أحيانًا في التنزه، وأحيانًا في الجَوَلان بين سكان القرية والتحدث معهم، ثم ترجع في الساعة الرابعة إلى القصر، ويذهب كل في طريقه ويفعل ما يشاء إلى الساعة السادسة بعد الظهر ساعة العشاء.

وكان يتعشى على المائدة ما بين اثني عشر وخمسة عشر ضيفًا، ثم يقضون الوقت بعد العشاء بالمؤانسة والألعاب المختلفة إلى الساعة الحادية عشرة، وحينئذٍ كانت تُقدم الحلواء والشاي، وبعد ذلك الانصراف.

وفي شهر آذار (مارس) سنة ١٨١٠م، وصلت «ماريا لويزا» إلى باريس، وجرى احتفال إكليلها على «نابوليون» في «سنت كلود»، وكان حافلًا جدًّا. وبعد الإكليل دوَّت باريس بأصوات الطرب، فأخذ «نابوليون» عروسه إلى «التوبلمري» من حيث خرجت «جوزفين» منذ ثلاثة أشهر، وكانت أصوات المدافع، وقرع الأجراس، وابتهالات الشعب ثقيلة جدًّا على قلب «جوزفين»، واجتهدت في إخفاء حزنها وغمها، ولكن عبثًا كانت تفعل ذلك؛ فإن اصفرار وجهها واغريراق عينيها لم يُخفيا أمرها.

أما «نابوليون» فبقي يكاتبها، ولم تمنع غيرة «ماريا لويزا» زيارته لها، وبعد اقترانهما بأكثر من سنة وُلِد ملكٌ لرومية، وفي نفس المساء الذي وصل به هذا الخبر إلى «جوزفين» كتبت رسالة لطيفة إلى «نابوليون» تُهنِّئه بالمولود، وهذه خلاصتها:

سيدي، هل يمكن صوت امرأة ضعيفة أن يصل أذنيك في وسط التهاني الكثيرة الآتية إليك من كل جهات أوروبا ومدن فرنسا وأفراد جيشك؟ وهل تتنازل للإصغاء إلى التي طالما سلت أحزانك، وخففت أوجاعك، فتتكلم معك عن الفرح العظيم الذي به تحققت كل أمانيك، أو تتجاسر التي ليست بعدُ امرأتك أن تهنئك بأنك صرت والدًا. نعم سيدي، لا شك أن من القلب إلى القلب دليلًا، وأنا أعرف قلبك ولا أظلمك كما أنك أنت أيضًا تعرف قلبي. وإنني أقدر أن أحس معك كما أنك أنت الآن تحس معي، ونحن الآن مشتركان بتلك المعاطفة التي تفوق كل شيء وإن كنا مفترقين.

كنت أشتهي أن أسمع منك أنت ميلاد ملك رومية، وليس من أصوات المدافع أو والي المقاطعة، غير أني أعلم أن واجباتك الأولى هي للمملكة ولسفراء الدول الأجانب ولعائلتك، وعلى الخصوص للأميرة السعيدة التي بلَّغتك أعظم أمانيك. نعم، إنها لا تقدر أن تكون محبة لك أكثر مني، ولكنها تمكنت من إتمام سعادتك أكثر مني؛ إذ ولدت هذا الولد لفرنسا، ولذلك كان لها الحق الأول لعواطفك الأولى ولكل اعتنائك. وأما أنا فلم أكن إلا رفيقة لك في أيام الصعوبات؛ ولذلك فلا أطلب من فؤادك إلا مكانًا بعيدًا جدًّا عن المكان الذي تحله الإمبراطورة «لويزا»، وغاية ما أؤمله الآن أن تأخذ قلمك وتتحادث قليلًا مع أعزِّ صديقة لك، ولكن ليس قبلما ينتهي سهرك بجانب سرير امرأتك، ولا قبلما تتعب من معانقة ولدك. وها أنا ذا بالانتظار.

أما أنا فيتعذر عليَّ الإبطاء في إخبارك بأني أفرح لفرحك أكثر من كل إنسان في العالم، وأنت لا تشك في خلوص محبتي وصدق كلامي، وأنا آسفة على شيء واحد، وهو أني لم أفعل حتى الآن ما به الكفاية لأُبيِّن لك مقدار حبي لك، وأني لم أسمع شيئًا عن صحة الإمبراطورة. سأتجاسر أن أتكل عليك يا سيدي بقدر أملي بك أن أسمع منك عن هذه الحادثة العظيمة التي حصَّلت دوام الاسم الشريف الذي أنت تمثله. وإن «أيوجين» و«هورتنس» سيكتبان لي مفصلًا عن ذلك، ولكني منك أشتهي أن أسمع إذا كان ابنك حسنًا، أو إذا كان يشبهك، أو إذا كان يؤذن لي في رؤيته يومًا ما. وبالاختصار إني أنتظر منك ثقة غير محدودة، وعلى ذلك — سيدي — لي حقوق بالنظر إلى محبتي غير المحدودة التي لا تتغير ما دمت حية.

فلما انتهت جوزفين من كتابة هذه الرسالة أرسلتها إلى «نابوليون»، ولكنها لم تفتح الباب لترسل رسالتها حتى وقف أمامها رسول «نابوليون» وبيده رسالة منه يبشرها فيها بالمولود، فأخذتها «جوزفين» منه وذهبت بها إلى غرفة منامها، وبعد نصف ساعة رجعت إلى أصحابها وقد احمرَّت عيناها من البكاء، ورسالة «نابوليون» في يدها ملطخة بالدموع، فدفعت إلى رسول الإمبراطور رسالة أخرى كانت قد كتبتها جوابًا للإمبراطور على رسالته، وأعطته دبوسًا من ألماس وألف ريال من الذهب علامةً على اعتبارها قيمة البشرى التي حملها إليها، وبعد أن صرفت الرسول أخذت رسالة الإمبراطور وتلتها على أصحابها الحاضرين.

ولم ينقطع الإمبراطور بعد ذلك من زيارة «جوزفين»، بل كان يذهب إليها كالأول، ودبر طريقة تمكن بها من تقديم الولد على يديه لها حتى تراه، وكان ذلك في المضرب الملوكي قرب باريس، وقد ذكرت «جوزفين» بعد ذلك في إحدى رسائلها إلى «نابوليون» أن تلك الدقيقة التي رأته فيها حاملًا ولده على يديه كانت أسعد ما لاقته في حياتها؛ لأنها كانت أوضح علامة أظهر فيها محبته الأكيدة لها.

أما الغرفة التي كانت منام «نابوليون» في «ملمازون» قبل انفصاله عن «جوزفين» فبقيت كما كانت، وكان مفتاحها مع «جوزفين»، وكانت هي تذهب إليها يوميًّا وتنزع الغبار عن أدواتها وأثاثها، ولم تسمح البتة بتغيير شيء أو نقل شيء من مكانه، وكانت في أول مدة إتيانها إلى «ملمازون» حزينة كئيبة، وعلامات الكدر والغم تلوح على وجهها على الدوام، فأعطاها «نابوليون» قصر «نافار» الذي كانت حواليه منتزهات فسيحة تجري فيها الأنهار الصافية، وتُغرِّد في أشجارها الطيور الجميلة.

وكان هذا القصر أحد القصور الملكية، وهو قائم في وسط غابة «إفري» الشهيرة، وكان قد تعطل قليلًا في مدة الثورة، فأعطى «نابوليون» «جوزفين» ٣٠٠ ألف ريال لترميمه وإصلاحه، فرممته وأصلحته وحسَّنت فيه أشياء كثيرة حسب ذوقها حتى جعلته كجنة عدن، وصارت تفضله على «ملمازون»، وبعد أن نقلت إليه بأيامٍ قليلة كتبت إلى «نابوليون» الرسالة الآتية:

سيدي، تشرفت هذا الصباح برسالتك العزيزة التي كتبتها إليَّ مساء اليوم الذي تركت فيه «سنت كلود»، وقد بادرت إلى إجابتك عما فيها من المواضيع اللطيفة الحبية. والحق أن هذه المواضيع تدهشني، ولكن ما أدهشني غير سرعتها، فإنه ليس لي هنا سوى خمسة عشر يومًا، فتأكدت فيها أن محبتك لي تطلب تسليتي وتعزيتي حتى في الوقت الذي نحن فيه منفصلان الانفصال الذي كان لا بد منه لراحتنا كلينا، ويقيني أن حسن اعتنائك بي والتفاتك إليَّ يتبعاني حيث كنت ويعزياني.

والآن لم يعد لي شيء أشتهيه بعد اختيار محبة كانت مشتركة، وآلام محبة ليست بعدُ مشتركة، وبعد التمتع بكل السرور الممكن للقوة غير المتناهية أن تمنحه، وبعد أن نلت كل السعادة بنظري إلى الإنسان الذي أحبه فوق جميع الناس. نعم، إنني لا أشتهي شيئًا سوى السكون والراحة، وهكذا فإني الآن لا أرى أن لي شيئًا من دواعي الحياة سوى عواطفي الحبية نحوك ومحبتي لأولادي. والأمل أنه ربما يمكنني أن أفعل بعدُ شيئًا من الخير يئول إلى راحتك وسعادتك؛ لذلك لا تأسف معي لأني هنا بعيدة عن البلاط — الذي يظهر أنك تظن أني أتحسر عليه — فإني هنا في «نافار» مُحاطةً بأحباء أعزاء، وحرية لاتِّباع أميالي في الفنون، وإني أجد نفسي أحسن مما لو كنت في أي مكان آخر.

وعندي هناك الكثيرُ للعمل؛ لأني أرى حوالي عاملات الخرائب التي أحدثتها الثورة الهائلة، وسأبذل قصارى جهدي لأزيل آثارها من هذا البناء، كما أن سعادتك علَّمت الناس أن ينسوها. وإصلاح هذه الخرائب ومساعدة المساكين حولي يسرَّاني أكثر من تملُّق سكان البلاط وما يظهرونه من التصنُّع والتكلُّف.

إني أخبرتك سابقًا عن كل أعضاء هذا البيت، ولكني لم أخبرك ما به الكفاية عن سيادة المطران «بورليايرفاني»: كل يوم أتعلم منه أمورًا جديدة تجعل اعتبار الإنسان الذي يقرن عمل الخير بالسيرة الممدوحة يعظم في عيني، وسأتكل عليه في توزيع صدقاتي في «إفري». ولما كان هو سيوزعها على الفقراء كنتُ على ثقة أنها ستُوزَّع على الجميع بالسواء.

سيدي، إني لا أقدر أن أقوم بالشكر الواجب لك لأجل الحرية التي متعتني بها في انتخاب أعضاء بيتي الذين يزيدون جميعًا في بهجة عيشي البيتية، وليس ما يحسرني البتة سوى شيء واحد، وهو رسمية اللباس هنا في البرية، إلى أن تقول: وإني الآن أُلقَّب بشريفة، ليس لأني تُوِّجت إمبراطورة لفرنسا، بل لأني كنت مختارتك، وليس لي قيمة من دون ذلك. وحسبي هذا الفخر لتخليد اسمي. أما زُوَّاري في هذه المدة المتأخرة، فأكثر مما كانوا قبلًا، ويسرني منهم إعجابهم وافتخارهم ﺑ «نابوليون». وبالجملة فإني أجد نفسي كأني في بيتي وأنا في وسط هذا الغاب. لا تنسَ صاحبتك، واذكر لها أحيانًا أنك حافظ لها جزءًا من محبتك لتنتعش روحها به، وكرر لها الكلام عن سعادتك، وتأكد أن مستقبلها سيكون مستقبل سلام، كما أن الماضي كان مشئومًا بالأحزان والأكدار.

وقبل ذهاب «نابوليون» إلى ساحات «روسيا» المهلكة ذهب إلى «جوزفين» وقضى معها ساعتين من الزمان في الجنينة يحادثها بما كان أمامه، وكانت «جوزفين» تحذره من مباشرة هذا العمل الخطير، ولكن ثقته بالنجاح أقنعتها وجعلتها تُسلِّم معه.

وفي الختام قبل يدها ونهض للذهاب، فرافقته إلى العجلة، ولكن لم يمض طويل من الزمن حتى رجع «نابوليون» من «موسكو» فوجد أن كل أوروبا متجندة عليه، ومتقدمة نحو عاصمته، فذهب في وسط هذه المخاطر إلى «جوزفين» وطلب مواجهتها، وكانت هذه المواجهة الأخيرة. وفي نهاية هذه الزيارة الأخيرة القصيرة شخص إليها برهة ساكتًا وعلامات الحزن على وجهه، ثم قال: يا جوزفين، إني كنت سعيدًا كأسعد الناس عاش على وجه الأرض، ولكني في هذه الساعة عندما أرى عواصف تتجمع فوق رأسي ليس لي في كل هذا العالم الواسع أحد إلا أنت التي ألتفت إليها وأستريح.

وفي أعظم هذه الاضطرابات والانزعاجات الهائلة التي لم يُسطَّر أعظم منها في تاريخ البشر، كانت أفكار «نابوليون» دائمًا عند «جوزفين» رفيقة صباه، وكان يكتب إليها كل يوم تقريرًا، ويعلمها بالحوادث الجارية، ويخبرها عن أحواله والرسائل التي كتبها إليها من مبادئ تلك الحروب. ومن ساحات القتال كان ألطف وأرق ما كتب لها في حياته؛ فإن المصائب والنكبات كانت قد دمَّثت أخلاقه، حتى إنه في تلك الأيام المضطربة عندما كان يحارب الجيوش الجرارة، وكان عرشه آخذًا في التقلقل تحت قدميه، كانت رسالة من «جوزفين» تنعش روحه مهما كانت شواغله عظيمة.

أما الجيوش المتحالفة فكانت آخذة في الاقتراب من باريس، وكانت «جوزفين» مهمومة مغمومة بسبب ما حل ﺑ «نابوليون»، وكانت هي وكل سيداتها في «ملمازون» يقضين أكثر أوقاتهن في إعداد خيوط الكتان للجرحى الذين ملئوا المستشفيات. وأخيرًا لما اقتربت جيوش الدول المتحالفة من «ملمازون»، وصار بقاء «جوزفين» هناك من الأمور الخطيرة، ركبت عجلتها وسارت إلى «نافار»، وذعرت من أصوات العساكر ثلاث مرات في طريقها؛ إذ كانت على مسافة غير بعيدة منها، وبعد أن قطعت نحو ثلاثين ميلًا من طريقها انكسرت عجلتها، وفي نفس ذلك الوقت رأت أمامها عصبة من الخيالة أتت نحوها فظنتها من عساكر الأعداء، ومن شدة خوفها تركت عجلتها وصارت تركض مع سيداتها في الحقول، وكان المطر يهطل حينئذٍ.

وبعد أن سِرْن مسافة أدركن غلطهن ووجدن أن هؤلاء الفرسان فرنساويون، وبعد أن أصلحت العجلة ركبت ثانية، وهكذا وصلت «جوزفين» بالسلامة إلى «نافار»، وكانت ساكتة في معظم الطريق لا تفوه ببنت شفة.

وبعد أن أقامت عدة أيام في «نافار» قلقة مضطربة البال تنتظر الأخبار عن «نابوليون»، أرسل إليها الإمبراطور «إسكندر»، إمبراطور الروس، خفراء يحرسونها من الاعتداء عليها؛ لأن مئات الألوف من العساكر كانت حينئذٍ منتشرة في كل تلك الجهات، وقد ألقت الرعب في قلوب سكان تلك النواحي.

وكانت جوزفين حينئذٍ مغمومة حزينة لما ألمَّ ﺑ «نابوليون»، كانت تقضي كل أوقاتها إما بالكلام عنه، وإما بتلاوة رسائله، فإنه كان يكتب إليها بلا انقطاع، ويخبرها بأحوال الحرب، وبفراره من مكان إلى آخر، ولكن كثيرًا من هذه الرسائل لم يصل إليها؛ لأن العساكر المحتلة التي كانت مالئة تلك الجهات كانت تُمسكها عنها. وآخر رسالة وصلت إليها قبل الأخيرة كانت من «بريان»، يخبرها فيها بما جرى له، وبالعصبة القليلة من العساكر الباقية له، وأرسل في كتاب آخر يقول:

إني عندما أتذكر أيام شبابي، وأقابل سلام تلك الأيام التي مرت عليَّ بالأتعاب والمخاوف التي أتجرعها الآن أكره الحياة. وقد سبق لي مرارًا كثيرة أنني طلبت الموت بطرقٍ مختلفة، ولا يجب أن أخافه الآن، وأنا أرى موتي الآن يكون بركة، ولكني أريد ثانية أن أرى جوزفين.

فلما وصلت هذه الرسالة إلى «جوزفين» لم تقطع الأمل من نجاح «نابوليون»، بل أمَّلت أن الإنسان الذي كان كيفما توَجَّه يُلاقي النصر والنجاح لا بد أن يفوز أخيرًا، ولو كان حينئذٍ متقهقرًا، وكان ذلك رجاءها إلى أن وصلت إليها الرسالة الآتية:

عزيزتي جوزفين، كتبت إليك في الثامن من هذا الشهر، ولكن ربما لم يصل كتابي إليك. القتال قائم على ساقٍ وقدم، وربما كان إبطاله ممكنًا، وينبغي تجديد المفاوضات والمراسلات الآن، وقد دبرت كل أموري، ولا شك أن هذه التذكرة تصل إليك، ولا أحتاج أن أكرر ما ذكرت لك سابقًا، وقد رثيت وقتئذٍ لحالتي، وأما الآن فإني أُهنِّئ نفسي لأجلها. إن رأسي وقلبي قد تخلصا من ثقل عظيم. سقطتي عظيمة، ولكن ربما تكون مفيدة كما قال البعض، وسأبدل القلم بالسيف في تقهقري، وسيكون تاريخ ملكي غريبًا. العالم إلى الآن لم يرني كما أنا، ولكنني سأريهم نفسي تمامًا. إن عندي كثيرًا من الأمور أريد إظهارها، لقد أفَضْتُ النعم والخيرات على ملايين من المساكين، ولكن ماذا فعل هؤلاء لي؟ إنهم خانوني جميعًا إلا «أيوجين» الذي يستحقك ويستحقني. والآن أستودعك الله يا عزيزتي جوزفين، سلِّمي كما أني أيضًا مُسلِّم، ولا تنسي الذي لا ينساك ولن ينساك مدى العمر، أستودعك الله ثانيةً يا جوزفين.

فلما وصلت هذه الرسالة إلى «جوزفين» تكدَّرت كدرًا عظيمًا، وسكبت دموعًا غزيرة حتى إذا سكن روعها قليلًا قالت: «لا يجب أن أبقى هنا؛ فإن حضوري لازم للإمبراطور. نعم، إن ذلك من واجبات «ماريا لويزا» أكثر مما هو من واجباتي، ولكن الإمبراطور وحده ولا يجب أن أتخلَّى عنه. نعم، إنه كان في غنًى عني في أوقات سعادته، وأما الآن فلا بد أن يكون في انتظاري.»

ولما فرغت من هذا الكلام سكتت وتأملت قليلًا، ثم التفتت إلى الموكل على بيتها وقالت له: «ربما أُعوِّق الإمبراطور عن أعماله إذا ذهبتُ، وربما يضطر أن يغير مقاصده لأجلي. أنت ستقيم معي هنا حتى أستخبر من الملوك المتحالفين؛ فإنهم سيحترمون المرأة التي كانت زوجة ﻟ «نابوليون».»

نعم، إن الملوك المتحالفين ذكروا «جوزفين» وعرفوها، فإن سمو تصرفها عند طلاق «نابوليون» لها كان قد ملأ أوروبا حيرة واندهاشًا، وقد كتب إليها الملوك المتحالفون يظهرون شعائر احترامهم، وطلبوا منها أن ترجع إلى «ملمازون»، ووكلوا عددًا وافرًا من الحراس بوقايتها، ومن ذلك الوقت كان منتداها مزدحمًا بالملوك والأشراف الذين أتوا ليقدموا لها الاحترام على فضائلها الكثيرة، وأول من فعل ذلك كان الإمبراطور «إسكندر»، إمبراطور الروس، فإنه قال عند أول مواجهة لها: «يا سيدة، إني كنت ملتهبًا بنار الشوق لمعرفتك، فإني من يوم دخلت فرنسا لم أسمع اسمك يذكر إلا بالبركة، وقد سمعت خبر أعمالك الملائكية من أحقر البيوت إلى أعظم القصور، ويسرني أن أقدم لجلالتك احترامات الجمهور التي أنا حاملها.»

أما «ماريا لويزا» فلم تكن مفكرة إلا بنفسها، وقد أبت أن تصحب «نابوليون» في انحطاطه، وأما «جوزفين» فكتبت إليه رسالة تقول فيها:

إني أقدر أن أتصور الآن مقدار مصيبة انفكاك اتحادنا الذي فكته الشريعة، وإني الآن أندب حظي ويشق عليَّ أنني لستُ صديقة لك، ومَن لا يحزن ويقطر قلبه دمًا عند حلول مصيبة هذا مقدارها؟ آه يا سيدي! حبذا لو كان بوسعي أن أطير إليك وأؤكد لك أن البعد لا يُغير إلا ذوي العقول السخيفة، ولا يستطيع أن يلاشي محبة خالصة زادت المصائب قوتها.

لقد أوشكت أن أترك فرنسا وأتبع خطواتك، وأخصص لك بقايا حياة أنت زينتُها، لو كنت أعلم أني أنا الوحيدة التي ستتم واجباتها باتباعك؛ لكنت أذهب إلى ذلك المكان الوحيد الذي فيه سعادتي، وأسليك في وحدتك وتعاستك. قل كلمة واحدة وأنا أذهب حالًا، وأما الآن فأستودعك الله يا سيدي؛ لأني مهما زدت على ذلك كان قليلًا جدًّا، وعواطفي بعد الآن لا تبرهن لك بالكلام، بل بالعمل، وأرجو أن تُسلِّم بذلك؛ لأنه ضروري.

وبعد كتابة هذه الرسالة بأيامٍ قليلة تناول الإمبراطور «إسكندر» وبعض أصحاب الألقاب والرتب طعامًا مع «جوزفين»، وفي أول المساء خرج الجميع بنور الشفق إلى خارجٍ وخرجت «جوزفين» معهم، وكانت صحتها منحرفة بسبب الأحزان والأكدار، فشعرت بزكام شديد، وجعل يزداد يومًا فيومًا، وتنحط معه صحتها وقوتها، حتى حكم الطبيب بدنوِّ أجلها، وكان ولداها «أيوجين» و«هورتنس» لا يفارقانها ليلًا ولا نهارًا، وأخبراها بكلام الطبيب، فتلقت تلك البشرى بفرحٍ وسرور، وسألت حضور قسيس فحضر، وأتم الفروض الدينية، ثم دخل عليها الإمبراطور «إسكندر» فرأى ولديها «أيوجين» و«هورتنس» جاثيين عند فراشها وقد غسلتهما الدموع، فأومأت «جوزفين» إلى الإمبراطور أن يقرب منها، فلما اقترب قالت له ولأولادها: «كنت دائمًا أشتهي سعادة فرنسا، وقد فعلت كل ما في طاقتي لأجل ذلك، وها أنا ذا أقول لكم في الدقيقة الأخيرة من حياتي أيها الحاضرون الآن: إن امرأة «نابوليون الأول» لم تسبب مطلقًا انسكاب دمعة واحدة من عين واحدة.»

ثم طلبت صورة الإمبراطور، فلما أحضروها التفتت إليها وعلامات الرقة والمحبة تلوح على وجهها، ثم أخذتها وقربتها إلى صدرها، ووضعت يديها فوقها وصلَّت قائلة: «اللهم احرس الإمبراطور مدة بقائه في صحراء هذه الدنيا. وا أسفاه! إنه ارتكب غلطات فاحشة، ولكنه لم يعوض عنها بآلامٍ عظيمة، وأنت وحدك أيها الإله قد عرفت قلبه، وعلمت أنه كان في نفسه أميال شديدة إلى صلاح أشياء كثيرة؛ فتنازل واصغِ إلى تضرعي الأخير، واجعل هذه الصورة صورة زوجي تشهد أن رغبتي وصلاتي الأخيرة كانتا لأجله ولأجل أولادي.»

وكان ذلك في التاسع والعشرين من شهر أيار (مايو) سنة ١٨١٤م، وكانت الشمس قد قاربت الغروب فألقت بعض أشعتها المذهبة من نوافذ غرفة «جوزفين» المفتوحة، وكان النسيم اللطيف يتلاعب بالأشجار والطيور تغرد فيها. وبين حفيف الأشجار وتغريد الطيور ألقت «جوزفين» عينيها على صورة «نابوليون» وأسلمت الروح، فلما رأى الإمبراطور «إسكندر» أنها قد فارقت الروح قال والدموع تتساقط من عينيه: «ليست بعد تلك المرأة التي سمتها فرنسا «محبة الخير، وملاك الصلاح»، وكل هؤلاء الذين عرفوا «جوزفين» لا ينسونها؛ فإنها ماتت وتركت الأسف الشديد لأولادها ولأصدقائها ومعارفها.»

وبعد موتها بأربعة أيام احتُفل بجنازتها، وكان ذلك في الثاني من حزيران (يونيو) عند الظهيرة، فأخذوها من «ملمازون» إلى «رويل» وواروها بالتراب في دار الكنيسة، وقد شهد احتفال الجنازة أعظم ملوك أوروبا وأشرافها. وبعد تمام كل الواجبات ورجوع الجميع، بقي ولداها «أيوجين» و«هورتنس» هناك، ثم جثوا على قبرها، وبقيا برهة يمزجان الصلاة بالدموع، وقد جاء أكثر من عشرين ألف نفس من الأهالي وشاهدوا جثتها، وبقوا يتردَّدون عليها أربعة أيام متوالية قبل دفنها.

وقد أقام ولداها بعد ذلك نُصبًا من الرخام الأبيض مثلاها به، وهي لابسة الحلة التي تُوِّجت فيها وقد جثت للتتويج، وأقاماه فوق قبرها، وكتبا عليه هذه الكلمات:

أيوجين وهورتنس لأجل جوزفين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤