الفصل الأول

إشكالات الصحوة الإسلامية

في العالم الإسلامي اليوم خطأ ما … خطأ فادح؛ إنَّه يضمُّ في داخله أغنى بلاد العالم وأفقرها في آنٍ معًا، ويضمُّ داخل فئتَي الدول الغنية والدول الفقيرة أشدَّ حالات التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين أبناء المجتمع الواحد. وفي الوقت الذي لا يملُّ فيه مُنظِّرو الفكر الإسلامي من الكلام عن عدل السلف الصالح وحرصه على المساواة، نرى الطبقية الصارخة تسود العلاقات بين بلد إسلامي وآخر، كما تسري بأشدِّ صورها ظلمًا بين أبناء المجتمع الواحد. وفي الوقت الذي لا يكفُّ فيه الدُّعاة الإسلاميون عن الزهو بأمجاد الإسلام والعروبة، نرى الدول الإسلامية — على الصعيد الدولي — في ذيل المجتمع العالمي. إنَّها وحدها الدول التي تعيش بلا أمل. قد تكون هناك دول أخرى في «العالم الثالث» أفقر منها أو أبعد عن الأخذ بأسباب الحضارة، ولكن بعض هذه الدول، في شرق آسيا، تبني نفسها من أجل غدٍ أفضل، وتبذل ضحايا بالملايين لتقريب اليوم الذي تحتلُّ فيه مكانتها بين مجتمعات العالم المتقدمة، وبعضها الآخر، في إفريقيا، يثور ويتمرد ويُبدي روحًا متحررة تدلُّ على أنَّ قلبه ينبض بحُبِّ الحرية ويتطلع بأمل إلى المستقبل، وبعضها الآخر، في أمريكا اللاتينية، لا يكفُّ عن المقاومة والنضال ضدَّ قُوًى عاتية، وفي مواجهة جار جبار في الشمال، ويحرز من آنٍ لآخر انتصاراتٍ مُدوية.

الكل في بلاد العالم الثالث، ينهضون، وإن لم ينهضوا يقاومون، وتنتفض قلوبهم بروح الثورة والسخط على الأوضاع، ويتملكهم الأمل في مستقبل يتغيَّر فيه مجتمعهم وإنسانهم إلى الأفضل … إلَّا العالم الإسلامي، فكل شيء فيه هامد خامد، وكل شيء فيه مُبعثَر ومنقسم، وكل روح فيه منطفئة مكدودة، أمَّا الأمل، قُصارى الأمل، ففي أن يدوم الحال، ولا يطرأ «مكروه» يقلب الأوضاع ويعكر الهادئ ويُغيِّر المستقر.

شيءٌ ما خطأ، وخطأٌ فادح، في هذا العالم الإسلامي. فهل هو خطأ الإسلام ذاته؟ إنَّ التاريخ يُثبت لنا، على نحوٍ قاطع، أنَّ الإسلام هو ما يصنعه به المسلمون. فإذا أراد منه المسلمون أن يكون سندًا روحيًّا لحركة امتداد وانتشار هائلة، ولنهضة فكرية وعلمية وحضارية منقطعة النظير — كما حدث بالفعل في قرون الدعوة الإسلامية الأولى — كان لهم ما يريدون، وإذا أرادوا منه أن يكون وسيلةً لتبرير الظلم الاجتماعي والتخلف الحضاري وكافة أشكال الركود والركوع، كان لهم أيضًا ما يريدون. وفي تباين اتجاهات العالم الإسلامي اليوم، فكريًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا بل و«دينيًّا»، ما يُثبت أنَّ كل قوة من القُوى في هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف تجتذب الإسلام ناحيتها، وتفسره وفقًا لتكوينها ومصالحها وغاياتها، وليست هي التي تنقاد لإسلام واحد يُمثِّل نواةً صلبةً يستحيل تشكيلُها وفقًا للأهواء. أجل، في كل يوم تُثبت الأحداث أنَّ البحث عن هذه «النواة الصلبة» التي تُلزم الجميع، وتفرض نفسها عليهم، هو بحث عقيم، وأنَّ كل مجموعة، وكل فئة أو طبقة اجتماعية أو نظام حكم، تُوحِّد بطريقة قطعية جازمة، بين «الإسلام في ذاته» وبين «إسلامها هي»، تؤكد أنَّ الأخير هو وحده الذي يُعبِّر عن حقيقة الأول وجوهره الأصيل.

إذَن، لندَعْ جانبًا مشكلة البحث عن كُنه هذه «النواة الصلبة» التي لا تقبل التشكُّل في العالم الإسلامي المعاصر، ولنتأمل الواقع كما هو؛ واقع وجود كثرة من التيارات في العالم الإسلامي، يضع كلٌّ منها لنفسه «إسلامه» الخاص. عندئذٍ يرتدُّ البحث في مسألة «تخلُّف العالم الإسلامي» إلى البحث في «تخلُّف المسلمين»، ويصبح الانطلاق من الواقع الإسلامي بدلًا من الضياع في متاهة النصوص المتعارضة والناسخة والمنسوخة، هو المدخل الحقيقي إلى فهم أسباب التخلف في هذه المنطقة من العالم.

•••

غير أنَّ من السهل أن يتخيل المرء صوتًا معترضًا يصيح بقوة: كيف تتحدث عن التخلف في الوقت الذي يتحدث فيه العالم كله عن «اليقظة»، أو عن «الصحوة» الإسلامية؟ ولكن الواقع أنَّ كل ما يُقال عن هذه الصحوة، خارج البلاد الإسلامية وداخلها، يؤكد فكرة التخلف ولا ينفيها. والمسألة في رأيي هي أنَّ في العالم الإسلامي المعاصر موارد نفطية هائلة، ذات أهمية بالغة لاستمرار الحياة في العالم الصناعي الغربي المتقدم، وهو يحتلُّ موقعًا استراتيجيًّا عظيم الأهمية في الصراع بين المعسكرَين الرأسمالي والشيوعي. وهذا العالم كان يتمُّ التعاملُ معه حتى الآن بأساليب يسيرة لا تتضمن تعقيداتٍ كثيرة، ولكنها تُحقِّق تدفقًا منتظمًا للموارد النفطية، وتضمن وضعًا مريحًا للمعسكر الغربي بالذات في الصراع الاستراتيجي العالمي. ويكفي، كأسلوب مضمون للتعامل مع هذا العالم، أن تُزرع فيه إسرائيل، لكي تُهدِّد أيَّ نظام يسعى إلى تحقيق التقدم في بلاده، وأن يُنشر الخوف من الشيوعية لكي يُرغم النُّظم الطبقية والعشائرية على الاستسلام الدائم لرغبات الغرب.

هاتان إذَن هما ركيزتا السياسة التي تتبعها الدول الصناعية الكبرى في تعاملها مع هذه المنطقة، لكي تضمن تحقيق مصالحها بانتظام؛ إسرائيل بوصفها خنجرًا مصوَّبًا يجهض كل حركة تسعى إلى تغيير الأوضاع إلى الأفضل، والخوف من الشيوعية كضمان لولاء الأنظمة صاحبة المصالح المالية والاقتصادية الكبرى. والركيزتان متكاملتان؛ فعندما يفكر أيُّ زعيم أو حزب عربي في تبنِّي تغيُّرات أساسية لا يعود معها الخوف من الشيوعية عاملًا رئيسيًّا في سياسته، تُسلَّط عليه إسرائيل، وعندما يُضطرُّ أيُّ نظام مرتكز على قوة الموارد النفطية الهائلة، إلى التفكير في اتخاذ موقف ضدَّ إسرائيل (بضغط شعبي أو رغبة في تحسين صورته وتخفيف أثر ممارساته الاجتماعية غير العادلة)، يُسلَّط عليه الخوف من الشيوعية.

إنَّه إذَن أسلوب سهل، واضح، مضمون النتائج، وعلى هذا الأسلوب سارت الدول الغربية الصناعية في تعاملها مع أهم الدول الإسلامية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولكن ظهور اتجاهات جديدة، غير الاتجاهات التقليدية التي ظلَّت تلك الدول تتعامل معها بنجاح، يمكن أن يُحدِث خلخلةً في الخطة بأكملها، ويدفع إلى السطح بعوامل غير منظورة وغير متوقَّعة، تقتضي تعديلات، قد تكون طفيفةً أو أساسية، في خطة التعامل. لهذا السبب أعتقد أنَّ كل ما يُقال عن اهتمام العالم ﺑ «اليقظة الإسلامية» إنَّما هو محاولة لاستيعاب أيِّ اتجاه فكري أو سياسي جديد في إطار أساليب التعامل التي أثبتَت فعاليتها طوال العقود الثلاثة الماضية، ولامتصاص أيِّ تغيير تُفكر المجتمعات الإسلامية في إدخاله على حياتها، بحيث يعود فيخدم المصالح الإمبريالية، ومصالح الغرب الرأسمالي بالذات، في نهاية الأمر.

هذا هو التفسير الحقيقي، في رأيي، لذلك الاهتمام المحموم الذي يُبديه العالم ﺑ «اليقظة الإسلامية»، فهو ليس اهتمامًا مقصودًا لذاته، ولا يُعبِّر عن موقف تجاه الإسلام ذاته، وإنَّما هو محاولة لإعادة وضع «النبيذ الجديد في الزجاجات القديمة»، ولفهم الواقع الإسلامي الموجود، بكل ما تطرأ عليه من تطورات، من أجل استمرار التعامل معه بنجاح.

والدليل على صحة هذا التفسير:
  • أنَّ أحدًّا لا يهتمُّ — إلَّا في الأوساط الأكاديمية الخالصة — بما يجري في الإسلام في المناطق التي لا تُشكِّل خطرًا استراتيجيًّا على الغرب، وإنَّما يثور الاهتمام كله حين يظهر تيار إسلامي قوي جارف في بلد حيوي، نفطيًّا وجغرافيًّا واستراتيجيًّا، مثل إيران، وحين يكون هناك خوف حقيقي من أن يمتدَّ هذا التيار لكي يشمل بلدانًا أخرى لا تقلُّ أهميةً عن إيران من جميع الجوانب.

  • إنَّ أمريكا هي أكثر المهتمين بتلك الظاهرة التي نسميها «يقظة إسلامية»، وهو أمر طبيعي، لأنَّ أمريكا هي راعية الاستراتيجية الغربية بأكملها، والحارس الذي يسهر على أمن وسلامة النظام الرأسمالي في العالم، هذا فضلًا عن مصالح أمريكا الخاصة، ممثلةً في شركات البترول بوجه خاص. وهكذا بدأت موجة عارمة من الاهتمام بالإسلام تبدو أكاديميةً في ظاهرها، ولكن كل دراساتها موجهة إلى معرفة ما يدور في عقول سكان هذه المنطقة حتى لا تحدث في المستقبل أيَّة مفاجأة، وحتى يظلَّ التعامل معهم مبنيًّا على أساس من الفهم الكامل. وكل مَن يعرف شيئًا عن الجوِّ العلمي الحالي في الجامعات ومعاهد الأبحاث الأمريكية، يعلم جيدًا أنَّ الأبحاث المتعلقة بالإسلام، حتى في أدقِّ تفاصيله وأكثر جوانبه خفاءً، لها فرصة هائلة في الحصول على التمويل السخي، وعلى كل ما يلزم القائمين بها من تيسيرات. وقد أثمر ذلك بالفعل مشاريع بحث تفصيلية عديدة، يُشارك في الكثير منها — للأسف — باحثون عرب، أو عرب أمريكيون، مع أنَّهم يعلمون حقَّ العلم أنَّ أبحاثهم سوف تصبُّ نتائجها قطعًا، بعد تحليلها وتنظيمها، في ملفات الشرق الأوسط على مكاتب صُناع القرار السياسي من الأمريكيين.

  • ومن جهة أخرى، فإنَّ الطرف الرئيسي الآخر في الصراع الأيديولوجي الدولي، وهو الاتحاد السوفييتي، يُبدي اهتمامًا غير قليل بتلك الصحوة الإسلامية التي لا بدَّ أن يكون لها تأثير ملموس على استراتيجيته في مواجهة المعسكر المضاد. وفضلًا عن ذلك فإنَّ الصحوة الإسلامية تقدِّم أيديولوجيةً بديلةً عن الأيديولوجية الشيوعية أو الاشتراكية التي كانت تتبناها معظم الحركات المضادة للإمبريالية الغربية في بلاد العالم الثالث. ومن المؤكد أنَّ المُفكرين النظريين في العالم الشيوعي يقدحون أذهانهم كيما يجدوا ردًّا على أسئلة مثل: هل الحركات الإسلامية المعاصرة مرحلة في طريق التحرير يؤدِّي في نهاية المطاف إلى قبول الاشتراكية، أعني هل هي خطوة أولى لا تلبث أن تتبين ضرورة الاستناد إلى أسلوب في بناء المجتمع سبق أن جربَته مجتمعات أخرى نامية وأحرزَت بفضله نجاحًا ملحوظًا، ومن ثَم فإنَّ أيَّة ثورة إسلامية لا بدَّ أن تُفضي آخر الأمر إلى شكل من أشكال الثورة الاشتراكية، حتى لو لم تُطلق على نفسها هذا الاسم؟ أم إنَّ هذه الحركات تستهدف الإسلام بوصفه غايةً في ذاته، وتُريد منه أن يكوِّن أيديولوجيةً بديلة، ترجع إلى جذور أبعد بكثير من الأيديولوجية الاشتراكية؟ وفي هذه الحالة الأخيرة، هل تظلُّ الأيديولوجية الإسلامية محتفظةً باستقلالها وهُويَّتها الخاصة، التي تُميزها عن سائر الأُطُر الفكرية السائدة في العالم المعاصر، أم إنَّها تنزلق تدريجيًّا إلى محاربة الشيوعية بالذات، وتتحوَّل — عن وعي أو بغير وعي — إلى أداة يستخدمها ويفيد منها المعسكر الرأسمالي في سعيه إلى السيطرة على العالم عسكريًّا واقتصاديًّا؟ تلك، بلا جدال، أسئلة حيوية لا بدَّ أنَّها تشغل أذهان مُفكري المعسكر الاشتراكي، وخاصةً في الاتحاد السوفييتي، وتدلُّ على نوع الاهتمام الذي يُبديه ذلك المعسكر إزاء «اليقظة الإسلامية».

ولكن، ما موقف المُفكرين في البلاد الإسلامية ذاتها من هذه الموجة الجديدة التي تسعى إلى إحياء القِيَم الإسلامية واتخاذها مُرشِدًا ومُوجِّهًا للمجتمع؟

لنبدأ بمواقف العلمانيين، ولنأخذ مثلًا واضحًا مُحدَّد المعالم، هو الثورة الإيرانية، فعلى الرغم من أنَّ المُفكرين العلمانيين ظلُّوا طويلًا يقاومون تأثير الاتجاهات الإسلامية التي ترمي إلى صبغ الفكر السياسي والاجتماعي بصبغة دينية، فإنَّ الثورة الإيرانية، وخاصةً في أيامها الأولى، قلبَت مفاهيمهم، ودفعَتهم إلى إعادة النظر في الكثير من مُسلَّماتهم السابقة. وكانت نتيجة هذه المراجعة الفكرية أن أبدى الكثيرون منهم تحمُّسًا هائلًا للثورة الإيرانية، بل لمبدأ الثورة الإسلامية ذاته، ورأوا فيها الحلَّ الذي ربما كان هو الوحيد المتاح أمام جماهير العالم الإسلامي في ظروفه الحاضرة.

ذلك لأنَّ الليبرالية، بمفهومها المعروف في الغرب، والذي طُبِّق في بعض البلاد الإسلامية خلال فترات مُعيَّنة من تاريخها، أصبحَت في الوقت الراهن مُعرَّضةً لحملات كاسحة من التشويه وسوء الفهم، ونجحَت أجهزة الإعلام، في البلاد التي تُسيطر عليها نُظم عسكرية أو عشائرية (لأعني في مجموعة من أهم البلاد الإسلامية وأقواها تأثيرًا)، في تلطيخ سُمعتها وإدانتها لأسباب لم تكُن الليبرالية ذاتها، في واقع الأمر، مسئولةً عنها في معظم الأحوال. وهكذا تُتَّهم التجربة الحزبية المحدودة النطاق، القصيرة الأجل، التي مرَّت بها بعض البلاد الإسلامية، بأنَّها كانت فاسدة، وفاشلة، وتأخذ الأجيال الجديدة من الشباب هذا الاتهام على أنَّه قضية مُسلَّم بصحتها، لأنَّها لم تُعاصر التجربة القديمة، ولأنَّ وسائل الإعلام، وربما الثقافة والتعليم الرسمي أحيانًا، يُردِّدون على أسماعهم هذه التهمة وكأنَّها حقيقة لا سبيل إلى مناقشتها.

ومن ناحية أخرى، فلن ينكر أحدٌ أنَّ المناخ الحقيقي لليبرالية، الذي تبلغ فيه أوج ازدهارها، هو المناخ الرأسمالي المكتمل النمو. ولمَّا كانت البلاد الإسلامية بعيدةً عن هذه المرحلة حتى الآن، ولم تنضج فيها الأنظمة والمؤسَّسات الاجتماعية والاقتصادية التي تجعل الليبرالية تنمو في تربتها الحقيقية، فإنَّ من الطبيعي أن تبدوَ مبادئ الليبرالية غريبةً عن هذه المنطقة من العالم.

ومن جهة ثالثة، فإنَّ هناك ارتباطًا وثيقًا بين الجوِّ الليبرالي وبين سيادة العقلانية في المجتمع؛ ففي جوِّ المنافسة الحرة، والمناقشات الحزبية المفتوحة، يُفترض — نظريًّا على الأقل — أنَّ صاحب الحجَّة الأكثر إقناعًا هو الذي سيفوز بتأييد الجماهير. ومعنى ذلك أنَّ الليبرالية تقتضي مستوًى مُعيَّنًا من الوعي الجماهيري لا يبدو أنَّ معظم الشعوب الإسلامية، التي تتفشَّى فيها الأُميَّة، قد وصلَت إليه في المرحلة الراهنة من تاريخها.

فإذا تركنا الليبرالية جانبًا، وتأمَّلنا الاشتراكية، وصورتها الراديكالية في الشيوعية، وجدناها تَعرِض نفسها في البلاد الإسلامية بأشدِّ صور التوصيل تعقيدًا، وتكتب تحليلاتها بلغة لا تنقل معنًى واضح المعالم للجماهير العريضة، وتغرق في التنظير إلى حدِّ نسيان العلاقة مع الواقع، مع أنَّ فلسفتها قد بُنيَت أصلًا على أساس الالتصاق بالواقع والتعبير عن حركته. وهكذا أخفقَت التيارات الماركسية، بمُختلِف درجاتها، في تكوين حركة شعبية لها وزنها في معظم البلاد الإسلامية، وبدَا في حالات كثيرة أنَّها تُخاطب نفسها وتعجز عن الخروج من شرنقتها.

ومن ناحية أخرى، فإنَّ تلك الاجتهادات المستقلة التي نجحَت في إقامة بناء اشتراكي في مجتمعات لا تنطبق عليها المواصفات التي حدَّدَتها الكتابات الماركسية الأصلية، كما هي الحال في بعض التجارب الإفريقية، وفي كوبا، وفي فيتنام، لم تعرف طريقها إلى العالم الإسلامي بعد. فما زالت الاشتراكية في هذه المنطقة من العالم تنتظر المُفكر الذي يعرف كيف يستخلص من النظرية الأصلية ومن الظروف المميزة لمجتمعه اجتهادًا أصيلًا يأخذ في حسبانه كل السمات النوعية للبيئة الخاصة التي يعيش فيها، إلى جانب استرشاده بالمبادئ العامة للنظرية. وما دامت الاشتراكية في العالم الإسلامي، لم تصل بعد إلى هذه المرحلة، بل تعتمد على المحاكاة والنقل أكثر ممَّا تعتمد على التأصيل والابتكار، فمن الصعب أن نتصوَّرها كحركة شعبية قادرة على تحريك الجماهير على نطاق واسع.

وهكذا تظهر الأيديولوجيات، التي قد تنجح في مناطق أخرى من العالم، عاجزةً عن إحداث تأثير جماهيري حقيقي في العالم الإسلامي. وهذا الواقع ذاته هو الذي يدفع الراديكاليين أنفسهم إلى البحث عن حلول بديلة، وعندما جاءت الثورة الإيرانية بدَا للكثيرين أنَّ الإجابة على أسئلتهم قد أتت من ذلك المكان غير المتوقَّع.

فواقع العالم الإسلامي، في معظم أرجائه، هو واقع جماهير أُميَّة ينقصها الوعي السياسي والعقلانية، وهو أيضًا واقع بطش واستبداد وكبت للحريات من جانب القوى المُعادية للجماهير. في مثل هذا الواقع يبدو أنَّ الإسلام هو القوة الهائلة التي هي وحدها القادرة على تحريك مثل هذه الجماهير وتعبئتها ودفعها إلى الوقوف أمام القوى الغاضبة ومقاومتها إلى حدِّ الاستشهاد. وهكذا رأى بعض الراديكاليين في العالم الإسلامي أنَّ الثورة الإسلامية قد تكون هي الصيغة الوحيدة الفعَّالة والناجحة، المتاحة في هذه الظروف، وأصبحوا على استعداد لقبول مبدأ الثورة المرتكزة، في بدايتها على الأقل، على الدين، والتي تفتح الباب بعد ذلك لشتَّى أنواع التطورات والتفاعلات.

على أنَّ مفهوم «البعث الإسلامي»، في المرحلة الراهنة من تاريخ البلاد الإسلامية، يتعرض لقَدْر كبير من الخلط. ولو كان لي أن أُحدِّد الشكل الرئيسي الذي يتخذه هذا الخلط، لقُلتُ إنَّه فقدان القدرة على التمييز بين اتجاهات إسلامية تدعو إلى التغيير، وفي اتجاهات أخرى تدعو إلى تثبيت الأوضاع أو العودة بها إلى الوراء. وفي زحمة الحديث المحموم عن اليقظة الإسلامية، تجد أشدَّ الفئات رجعيةً تتصور أنَّها جزء من هذه «اليقظة»، مع أنَّ دعوتها في حقيقتها «نوم» لا يقظة، وموات لا «بعث». غير أنَّها تتعلق بآخر عربات القطار، وتدعو إلى تعاليمها المتخلفة، على أساس أنَّ العالم كله قد شهد للبعث الإسلامي بالحيوية والانتشار، ومن ثَم فليقبل المسلمون أفكارهم ويعودوا ألف سنة إلى الوراء ما داموا جزءًا من هذا «البعث»! والحقُّ أنَّ هذا الخلط قد فرض نفسه على الكثيرين؛ فقد قرأتُ لباحثين أجانب يُفترض فيهم التدقيق، بل ولكُتَّاب من بلاد إسلامية مُتعددة، من بينها إيران، كتاباتٍ يتحدثون فيها عن أحد أئمة المساجد في القاهرة على أنَّه مظهر لحركة البعث الإسلامي في مصر. وإمام المسجد هذا، الذي اكتسب شهرةً هائلةً في السنوات الأخيرة، وأصبحَت الشرائط التي سُجِّلَت عليها خُطبه تُباع في طول البلاد العربية الإسلامية وعرضها، يعتمد على رصيد واحد أساسي، هو طريقته في الإلقاء ورفع نبرة الصوت وخفضها. أمَّا المضمون ذاته، وأمَّا البرنامج الذي يدعو إليه، وأمَّا الأفكار التي يتقدم بها إلى الناس، فإنَّها آخر ما يهتمُّ به، وهي على أيَّة حال رجعية شديدة التخلف. وليست هذه هي الحالة الوحيدة، بل إنَّ هناك حالاتٍ أخرى عديدةً حدث فيها خلط بين اتجاهات إسلامية رجعية يستحيل أن تُشكِّل «بعثًا» بأيِّ معنًى من المعاني، وبين الاتجاهات التي تكافح من أجل أن تغيِّر من واقع البشر عن طريق الإسلام، أو تُعيد تفسير الإسلام على نحو يسمح بتحقيق التغيير من خلاله.

وفي رأيي أنَّ من واجب كل مَن يتصدَّى لرصد حركة الفكر في العالم الإسلامي المعاصر أن يُحلِّل ظاهرة الخلط هذه بعمق ووضوح. ذلك لأنَّها فرضَت نفسها على الجميع، باستثناء القِلَّة التي بلغ وعيها الفكري مستوًى عاليًا. وكانت نتيجة الانتشار الهائل لهذا الخلط أن تأثرَت النظرة التقدمية إلى الإسلام تأثرًا سلبيًّا بتلك العناصر المتخلفة التي ارتبطَت في أذهان الناس، وربما في أذهان أصحابها أنفسهم. كما اكتسب أصحاب الاتجاهات المتخلفة أفضالًا لا يستحقونها لأنَّهم تعلقوا، كما قلت، بقطار «الصحوة» الإسلامية. ومن ثَم فإنَّ المهمة الأساسية التي تقع على عاتق المُفكر، في أيامنا هذه، هي أن يبحث عن «المعايير» التي تُتيح للناس أن يميزوا بين صحوة إسلامية داعية إلى تغيير واقع المسلمين إلى الأفضل، وأخرى لا هدف لها إلَّا إرجاع الزمان إلى الوراء، والوصول بالمسلمين، باسم «الصحوة»، إلى حالة من التخدير لن «يصحوا» منها إلَّا بعد أن يكون الأوان قد فات.

فما هي إذَن هذه المعايير؟ وكيف يتسنَّى لعقل المسلم العادي أن يميز بين الاتجاهات الإيجابية والاتجاهات السلبية في الدعوات الإسلامية التي تنهال عليه من كل جانب؟ سأحاول فيما يلي أن أعدِّد بعضًا من المشكلات الرئيسية، التي يتحدَّد في ضوئها كل جماعة تدَّعي أنَّها جزء من الصحوة الإسلامية. ومن خلال هذا الموقف، نستطيع بحقٍّ أن نحكم على هذه الجماعة، وعلى كل مَن يمثلها، إن كانت تعاليمهم كفيلةً حقًّا بإحداث نهضة أو يقظة إسلامية، أم إنَّها في حقيقتها «نكسة» و«غيبوبة» تنسب إلى نفسها القدرة على «البعث» زُورًا وبُهتانًا.

(١) مشكلة الشكل والمضمون

تُعَدُّ هذه مشكلة المشاكل بالنسبة إلى الحركات الإسلامية المعاصرة؛ ذلك لأنَّ الغالبية العظمى من هذه الحركات تركز كفاحها على الجوانب الشكلية من العقيدة؛ أعني تلك الجوانب التي تتعلق باستكمال الشروط الشعائرية للدين، والاستجابة لبعض الأوامر والنواهي التي لا تمس، في الأغلب، الحياة العامة في المجتمع، وهذه قصة معروفة، فكلنا نرى من حولنا أولئك الشُّبَّان أو الشابَّات الذين يركزون «كفاحهم» الديني على ميدان الملابس، وأداء الفروض، ومنع كافة أشكال الاختلاط بين الجنسين. وهم يحاربون في هذا الميدان بلا هوادة، ويعتقدون أنَّهم أرضَوا ضمائرهم وأرضَوا ربَّهم، لو نجحوا — مثلًا — في قطع اجتماع من أجل إقامة صلاة المغرب، أو في فصل الطلاب عن الطالبات في قاعة المحاضرات، أو في الدعوة إلى ملابس تُخفي كافة معالم جسم المرأة، باستثناء العينين، في قيظ الصيف، أو في إثارة ضجة إعلامية هائلة تُدافع عن تربية اللِّحَى لدى الرجال.

ولا بأس على الشباب المتدين إنْ هو تمسَّك بشعائر عقيدته على هذا النحو، غير أنَّ من واجبه أن يعلم أنَّ هذا ليس ميدان الكفاح الوحيد، بل هو، إذا شئنا الدقة، أسهل الميادين جميعًا؛ ذلك لأنَّ ارتداء زيٍّ مُعيَّن، أو أداء شعائر مُعيَّنة، هو أيسر الأمور، والمحكُّ الحقيقي لقوة الإنسان المعنوية هو سلوكه في الميادين التي تُمتَحن فيها مصالحه، وتتطلب منه تضحيةً جسيمة.

ولكم بحَّت أصوات المتحاورين مع أنصار هذه الحركات الدينية، مطالبين إياهم بأن يُدلوا بآرائهم في المشكلات الحقيقية التي يتعرض لها الإنسان المسحوق في معظم أرجاء العالم الإسلامي، فهل يقبل الدين ذاته أن نولي موضوع الاختلاط أو الحجاب اهتمامًا يفوق بكثير ما نوليه لموضوع العدالة الاجتماعية أو نوع التحالفات الدولية التي تخدم قضايانا أو أسلوب الحكم في البلاد؟ هل يرضى الدين أن نتجاهل هذه الأمور التي تمسُّ صميم حياة كل فرد في المجتمع، أو نُصدر عنها أحكامًا غامضةً شديدة العمومية، لا تقبل التنفيذ عمليًّا، وتؤدِّي في الواقع إلى ترك هذه المسائل خاضعةً لهوى مَن يعبثون بها من الطغاة والمستبدين؟ ما من حوار دار بين أنصار الجماعات الدينية وخصومها إلَّا وأُثيرَت فيه هذه المشكلة، واشتدَّ الإلحاح على الأولين كيما يوجهوا اهتمامهم إلى المشكلات المصيرية التي تتحكم في حياة الإنسان المعاصر، ويقدِّموا عنها برنامجًا محدَّدًا يمكن تنفيذُه، ومع ذلك فإنَّ النتيجة في جميع الحالات سلبية، وما زال الناس ينتظرون هذا البرنامج بلا جدوى.

والحقُّ أنَّ الاهتمام بالأمور الشكلية يبدو أمرًا غير مفهوم. ولكي نزيد هذا الأمر وضوحًا فإنَّنا سنقسم تلك الشكليات إلى ثلاث فئات، يمكن تحليلُ كل فئة منها على نحو يتكشَّف فيه قصور الموقف الذي تتخذه منها الجماعات الدينية:
  • (أ)

    أولى هذه الفئات تتعلق بالمظهر الخارجي والملبس؛ فإطلاق اللحية وحلق الشارب وارتداء الجلباب إلى منتصف المسافة بين الرُّكبة والقَدَم، أمور يرونها أساسيةً للشاب المتحمس لدينه، ويقابلها الحجاب عند الفتيات.

    والأمر الذي لا يناقشه أنصار هذه الاتجاهات هو أنَّ الملابس، بوجه عام، لها وظيفة اجتماعية في الأساس، وأنَّ ملابس كل عصر وكل بيئة تتحدَّد تبعًا لنوع الأعمال التي يقوم بها الناس في البيئة المُعيَّنة، ومن ثَم فإذا تغيَّرَت أعمال الناس وبيئتهم كان من الحمق أن يتمسكوا بشكل للملابس كان يصلُح لأداء أعمال مختلفة في بيئات مختلفة. وحتى لو كان هناك نصٌّ دينيٌّ يدعو إلى ملابس بشكل مُعيَّن، فلماذا لا يُفسَّر هذا النَّص على أنَّه من ذلك النوع من النصوص التي كانت تُصدر أحكامًا لمناسبات مُعيَّنة (وما أكثرها)، وليست من النوع الآخر الذي يُصدر أحكامًا مطلقة؟ ولماذا نقتدي بالسلف في شكل ملابسهم ولا نقتدي بهم في ركوب دوابهم أو سكن خيامهم أو أكل ثريدهم وقديدهم؟

  • (ب)

    أمَّا الفئة الثانية فهي فئة الأمور المتعلقة بالحياة الجنسية بوجه عام، ولا شكَّ أنَّ حجاب المرأة ينتمي إلى هذه الفئة، مثلما ينتمي إلى الفئة السابقة. ولكنْ من المعروف أنَّ التركيز على منع الاختلاط بين الجنسين يُمثِّل جانبًا رئيسيًّا من جوانب «كفاح» الجماعات الإسلامية، وكل مَن عاش في جوِّ الجامعات ومعاهد العلم العربية يعرف هذه الحقيقة ويلمس لها كل يوم أمثلةً صارخة.

    هذه التحريمات التي تستهدف إقامة حواجز قاطعة بين نصفَي المجتمع تُقدَّم إلينا على أنَّها تستهدف «العفة» وترمي إلى صون الأخلاق. غير أنَّ حقيقة الأمر هي أنَّ التحريم المفرط لأبسط مظاهر الاختلاط وإعطاء الجنس بوجه عام حجمًا أكبر بكثير من حجمه الحقيقي، وكأنَّه هو المشكلة الكبرى التي تتوارى إلى جانبها مشكلات الخبز والمأوى والإحساس بالعدل والأمان؛ هذا التحريم المفرط هو ذاته شكل من أشكال الاهتمام الزائد بالجنس، وهو الوجه الآخر لنفس العملة، أعني الحرمان، وربما الشبق. ومن المؤكد أنَّ أيَّ محلِّل نفساني قادر على أن يكتشف الكثير من العُقَد وراء هذا التصور المبالَغ فيه لدَور الجنس في حياة الإنسان.

  • (جـ)

    أمَّا الفئة الثالثة من الاهتمامات التي نُسميها شكلية، فهي فئة الشعائر الدينية؛ وهذه الفئة، وإن كانت تُقصَد لذاتها في الدين بوصفها أركانًا أساسيًّا فيه، لا بدَّ أن تُترجم إلى أفعال تنعكس إيجابيًّا على حياة الناس، وإلَّا فقدت فعاليتها ولم تعد مقبولة، حتى من وجهة نظر الدين نفسه. فكم من أحاديث نبوية تؤكد أهمية المعاملة بوصفها المظهر الأساسي للدين، وتندِّد بأولئك الذين يقومون ويقعدون دون أن ينفعوا الناس بشيء. وأمثلتنا ونِكاتنا الشعبية حافلة بالسخرية من أولئك الذين يؤدُّون فروض الصلاة والصوم والحج، ولكنَّهم يغتالون أموال الناس أو يغشونهم. ومعنى ذلك بعبارة أخرى، أنَّ القيمة الحقيقية للشعائر إنَّما تكمن في تلك القوة المعنوية التي تمكِّن الإنسان من مواجهة الظلم والطغيان، والسعي إلى أداء عمل نافع للمجتمع، أمَّا التركيز على شكلية الشعائر دون اكتراث بما تؤدِّي إليه من مضمون، فهو في حقيقته تستُّر على المظالم ومساندة للاستبداد.

وهنا نعود مرةً أخرى إلى ضرب مثال مُستمَد من ظاهرة التحجُّب، التي يُنظر إليها على أنَّها تُمثِّل بدَورها شَعيرةً من الشعائر. فأصحاب الاتجاهات الدينية المحافظة يدعون إلى التحجُّب استجابةً لنصٍّ دينيٍّ يُردِّدونه على مسامع الجميع، وينشرون دعوتهم بين الفتيات من خلاله. ومع ذلك فإنَّ هذا النَّص يقبل تفسيراتٍ اجتماعيةً تختلف في مرماها اختلافًا كبيرًا عن أهداف هذه الدعوة، وتؤدِّي إلى النظر إلى هذا النَّص على أنَّه لا يتضمن تشريعًا دائمًا، وإنَّما يُعبِّر عن ظرف خاص مؤقت فحسب.١

ويجد هذا التفسير الشكلي للحجاب قبولًا واسعًا في كثير من المجتمعات الإسلامية التي تسودها ازدواجية الحرمان من الجنس الآخر وتحريمه، والرغبة العارمة في الجنس مستترة وراء قناع من العفة المتطرفة، أو على الأصحِّ مُعبِّرة عن نفسها، عن طريق شكل واضح من أشكال «الإعلاء والتسامي»، من خلال هذه العفة المفرطة. وليس من الصعب أن نضيف تفسيراتٍ نفسيةً واجتماعيةً أخرى لهذا الانتشار الواسع لظاهرة الحجاب؛ فالمرأة المحجَّبة تصبح مُلكًا خاصًّا لرجلها وحده، حتى بالنسبة إلى أعين الآخرين ونظراتهم التي هي في المجتمعات الشرقية نظرات جائعة في أغلب الأحيان. والحجاب يُضفي على المرأة «ضمانة» ترضي غرور الرجل الشرقي وتُهدِّئ مخاوفه الدائمة وعدم ثقته الأزلية في الجنس الآخر.

أمَّا بالنسبة إلى المرأة التي ورثَت تاريخًا طويلًا من القهر والاستعباد الرجولي، فإنَّ الحجاب وسيلة لتأكيد نقائها، وهو بالنسبة إلى الفتاة قبل الزواج «ورقة ضمان» تُشجع الراغب في الزواج وتُطمئنه، وبالنسبة إلى المتزوجة وسيلة لتحقيق تلك الازدواجية التي قد تكون أحيانًا ذات نتائج مدمِّرة؛ أعني أن تكون المرأة قديسةً في أعين الآخرين، وتتحوَّل مع زوجها إلى امرأة فائضة بالأنوثة، حتى تعوِّض له خشونة المظهر الخارجي، وتُثبت له أنَّها لا زالت المرأة القادرة على تلبية احتياجاته العاطفة والحسية. وعليها أن تبحث عن الصيغة التي تُتيح لها التوفيق بين هذين النقيضَين.

(٢) مشكلة الفرد والمجتمع

لاحظنا من قبل أنَّ من أكبر المشكلات التي تواجه الجماعات الإسلامية المعاصرة، افتقارها إلى برنامج اجتماعي مُحدَّد المعالم. وحين يتحدث المرء عن برنامج فإنَّه يعني:
  • (أ)

    وجود تخطيط واضح بين الاتجاه الذي سيسير فيه المجتمع ككل بصورة محدَّدة. والوضوح والتحديد هنا ضروريان؛ لأنَّ المجتمع لا يمكن أن يسير بعبارات إنشائية ومبادئ هلامية واتجاهات شديدة العمومية؛ فالغموض يفتح الباب لشتَّى أنواع التفسيرات، وحين يقتصر البرنامج على مبادئ عامة يصبح من الممكن استغلالُ هذه العمومية المفرطة والغموض الشديد من أجل جذب المجتمع في اتجاهات رجعية أو مستبدَّة أو استغلالية، ما دام المبدأ العام يتسع لكل شيء.

  • (ب)

    وجود خطة قابلة للتطبيق في المجتمع الحديث؛ فالاستشهاد المستمر بحِكَم ومبادئ وأحداث ووقائع تفصلنا عنها مئات السنين، يمكن أن يُفيد في ضرب المَثَل وحفز الهِمَم، ولكنَّه لا يكفي لإدارة شئون مجتمع يعيش وسط عالم تتفاعل أحداثه وتتبدَّل مواقعه يومًا بعد يوم. ومن هنا كان من الشروط الواجب توافرها في أيِّ برنامج تتقدَّم به أيَّة جماعة أو أيُّ حزب، أن يُحدِّد لنا الطريقة التي يمكننا أن نواجه بها ظروف عالم سريع التغير، وتيارات عالمية لا ترحم المتخلف أو الخيالي أو الغارق في أحلام الماضي. ولا بدَّ لمثل هذا البرنامج أن يدرك بوضوح ووعي كاملَين، الاختلاف الأساسي بين تلك المجتمعات القديمة البسيطة التي ينظر إليها باعتبارها مثله الأعلى، وبين المجتمعات الحديثة الشديدة التعقيد.

وحين يتأمل المرء دعوات الجماعات الإسلامية المعاصرة في ضوء هذين المعيارين، يستطيع أن يستنتج بوضوح أنَّها تفتقر إلى برنامج اجتماعي بالمعنى الذي حدَّدناه. وكل محاولات الاجتهاد التي قد يبذلها هذا المُفكر أو ذاك ما زالت في مرحلة التحسُّس الأولى، وما زالت هناك هوَّة شاسعة بين تلك الاجتهادات المتناثرة وبين ما نُطلق عليه اسم «البرنامج» بالمعنى المتكامل لهذه الكلمة.

ولكن المشكلة الحقيقية لا تكمن فقط في عدم وجود برنامج محدَّد المعالم، قابل للتطبيق في ظروف المجتمع الحديث، لدى هذه الجماعات، بل ربما كان الأهمُّ من ذلك، هو أنَّ أيديولوجيتها السائدة حاليًّا لا تهتمُّ كثيرًا بوجود مثل هذا البرنامج؛ ذلك لأنَّ الاتجاه السائد لدى الجماعات الدينية، منذ أن تبلورت دعوة الجماعة الأم، وهي «الإخوان المسلمون»، هو تركيز الاهتمام على الفرد، وتجاهل البعد الاجتماعي أو السكوت عنه. وهكذا فإنَّ مُنظِّري هذه الجماعات، عندما يُثار ضدَّهم الاعتراض القائل بأنَّ دعوتهم تفتقر إلى برنامج اجتماعي واضح المعالم، يردُّون بأنَّ هدفهم الأول هو بناء «الفرد المسلم»، وحين يتحقق هذا الهدف، يصبح إصلاح أمور المجتمع أمرًا هينًا.

والفلسفة الكامنة من وراء هذا هي أنَّ المجتمع ليس إلَّا مجموع أفراده، وأنَّ إصلاح الأفراد معناه إصلاح المجموع. وتلك بغير شكٍّ «نظرة تجزيئية»، أو إن شئتَ فقُل إنَّها «نظرة ذرية» إلى المجتمع، لأنَّها تتجاهل أمرَين على جانب كبيرة من الخطورة:
  • الأول: هو أنَّ المجتمع ليس مجرَّد مجموع أفراده؛ فالمجتمع حقيقة قائمة بذاتها، تتجاوز نطاق الأفراد المكوِّنين لها، وله قوانينه ومطالبه ومقتضياته الخاصة التي تزيد عن كونها حاصل جمع آلي لاتجاهات الأفراد المكوِّنين له.
  • والثاني: هو أنَّ هذه النظرة تتناول وجهًا واحدًا من أوجه ظاهرة ذات جانبَين متفاعلَين، يستحيل الفصلُ بينهما. فإذا قلنا إنَّ إصلاح المجتمع ينبغي أن يسبقه إصلاح الأفراد الذين يؤلفونه، لكان من الطبيعي أن يعترض علينا مَن يقول: وكيف نصلح الأفراد إنْ لم نصلح المجتمع الذي يعيشون فيه؟ هل يمكن إصلاحُ الأفراد في فراغ؟ أليس الفرد مرتبطًا ارتباطًا عضويًّا بالمجتمع، وبالبيئة التي يعيش فيها؟ ألا تفترض تلك النظرة التي تبدأ بالفرد، نوعًا متعسفًا من التجريد، نتصور فيه أنَّ من الممكن وجود كيان منعزل اسمه الفرد، قابل للإصلاح، بغض النظر عن حالة «الوسط» الذي يعيش فيه ويتفاعل معه؟ وهل من المعقول أن يظلَّ المجتمع فاسدًا، ثم نبدأ بإصلاح أفراده على أمل أنَّ هؤلاء هم الذين سيُصلحونه فيما بعد؟

إنَّ شعار «إصلاح الفرد»، أو تكوين «الفرد المسلم» — والتعبير الأخير لا يعني فردًا متدينًا فحسب، بل يعني فردًا مثاليًّا تتوافر فيه كل القِيَم الإيجابية التي يدعو إليها الدين — هو من الناحية العملية شعار عسير التطبيق، وهو على الأرجح غير قابل للتنفيذ عمليًّا؛ ذلك لأنَّ معناه هو أن تتناول كل فرد في المجتمع، تعمل على تربيته وتقويمه وتوجيهه وجهةً سليمة. وبالإضافة إلى الصعوبة العملية الهائلة لهذا النوع من إعادة بناء الأفراد، فإنَّ نتيجته الفعلية تظلُّ غير مضمونة، لأنَّ الكثيرين سيسلكون ظاهريًّا كما لو كانوا قد انصلحوا بالفعل، بينما يكونون في حقيقتهم فاسدين، ولن تكون لدينا الوسائل التي تُتيح لنا استطلاع مكنونات ضمائرهم.

وعلى العكس من ذلك، فإنَّ البدء بالمجتمع، أعني التركيز على إصلاح الوسط الذي يعيش فيه الأفراد عن طريق إقامة إطار من العلاقات الإنسانية، غير الاستغلالية، يضمُّ أفراد المجتمع ويظلِّلهم، هو أفضل الطرق لبناء الفرد الصالح، وهو فضلًا عن ذلك طريق مضمون. وهذا الطريق قابل للتنفيذ عمليًّا، ويمكن على الدوام التحقُّقُ من نتائجه، على عكس تلك العملية الشاقة، المستحيلة، التي نتناول فيها كل فرد لكي نجعل منه إنسانًا صالحًا.

والواقع أنَّ الاعتراضات على أسلوب «بناء الفرد الصالح» — وهو المقصود بالفرد المسلم — لا نهاية لها. فبأيِّ معنًى يكون الفرد صالحًا، وفي أيِّ مجال؟ هل يكون صلاح الإقطاعي هو نفسه صلاح فلَّاحه الأجير؟ وهل تعني التقوى عند صاحب العمل نفس معناها عند العامل؟ أليس تركيز الجهود على الأفراد، مع تجاهل الإطار الاجتماعي أو إرجائه إلى مرحلة لاحقة، نوعًا من التستُّر على الاستغلال والمظالم القائمة، إن لم يكُن تواطؤًا معها؟ وأخيرًا، هل سيصبح المجتمع صالحًا بصورة آليَّة بعد أن نبني «الفرد المسلم» على مستوى المجتمع كله، أم إنَّنا سنحتاج، حتى بعد بناء الأفراد جميعًا، إلى ضوابط وقواعد هادية، أيْ إلى برنامج؟ وإذا كنَّا حتمًا سنحتاج إلى مثل هذا البرنامج، فلماذا لا تُحدَّد معالمُه مقدَّمًا لكي نوجِّه على أساسه أساليب تربيتنا للفرد المسلم؟

هذه كلها أسئلة يثيرها مبدأ «بناء الفرد قبل إصلاح المجتمع»، أو مبدأ «بناء الفرد هو ذاته إصلاح المجتمع». وأحسب أنَّ مُحصِّلتها النهائية هي أنَّه لا مَهرب لأيِّ مذهب جماهيري، في عصرنا الحاضر، من أن يُحدِّد بوضوح برنامجه للخروج بالمجتمع من أزمات التخلف والاستغلال والتبعية والانقياد، حتى لو كان هذا المذهب يعتقد أنَّ جهده الحقيقي ينبغي أن يركز على الأفراد، لا على المجتمع.

(٣) مشكلة الدين والسياسة

تُعَدُّ هذه المشكلة، في نظر الجماعات الدينية، جزءًا من مشكلة أخرى أعم، هي مشكلة الدين والدنيا. فهناك مبدأ عام تدافع عنه هذه الجماعات، هو أنَّ الدين ينظم كافة جوانب الحياة الروحية والحياة المادية أو الروحية للإنسان. ولمَّا كانت السياسة أو الحُكم شكلًا من أشكال الحياة الدنيوية، فلا بدَّ أن تخضع بدَورها لأحكام الدين.

وتذهب الجماعات الإسلامية إلى أنَّ الدين الإسلامي يتوجَّه إلى الإنسان برسالة مفصَّلة تنظِّم له كافة أمور دنياه وآخرته. غير أنَّ من الواضح أنَّ لجميع العقائد التي عرفها البشر وجهًا دنيويًّا، لأنَّها على الأقلِّ موجَّهة إلى إنسان حي يعيش على سطح هذه الأرض، وحتى لو كان معظم ما تقول منصبًّا على حياة أخرى غير هذه الحياة الأرضية، فإنَّ كلامها عن الحياة الأخرى موجَّه إلى الإنسان (في هذه الحياة)، ومن ثَم فإنَّه يهدف إلى توجيه هذه الحياة الأرضية ذاتها توجيهًا مُعيَّنًا عن طريق التنبيه الدائم إلى وجود حياة أخرى، وبهذا المعنى تكون للعقائد الأخروية ذاتها جوانب دنيوية. ولو تناولنا المسيحية على وجه التخصيص — وهي التي تقوم الجماعات الإسلامية على الدوام بمقارنات صريحة أو ضمنية معها — لوجدناها قد تضمَّنَت جوانب دنيوية شديدة الوضوح في عصورها الأولى. وحسبُنا أن نُلقيَ نظرةً إلى تعاليم الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى لكي ندرك أنَّ طموحها كان يتجه إلى تنظيم كافة جوانب حياة الإنسان على هذه الأرض، إلى جانب إعداده للحياة الأخرى. صحيح أنَّها لم تكُن تجد في كتبها المقدسة نصوصًا مفصَّلةً تنظِّم شئون الحياة الدنيوية، كما هي الحال في الإسلام، ولكن الكنيسة كانت قادرةً على إيجاد البديل ووضع التفسيرات التي تكفل لها الهيمنة على أمور الدنيا. ولم تتخلَّ المسيحية عن هذا الطموح الشامل إلَّا في مرحلة لاحقة، وكانت في ذلك مرغمة لأنَّ التطور المكتسح الذي طرأ على أوروبا منذ عصر النهضة كان لا بدَّ أن يؤدِّي بها إلى التراجع والانكماش. ومع ذلك فإنَّ أحلام السيطرة الشاملة ما زالت تراودها حتى اليوم، ويكفي دليلًا على ذلك أن نتأمل معركة قوانين الإجهاض في فرنسا وإيطاليا، والدَّور المستميت الذي لعبَته الكنيسة الكاثوليكية، على المستوى السياسي إلى جانب المستوى الديني، لكي ندرك أنَّ الرغبة في تنظيم جوانب الحياة الدنيوية ما زالت قائمة. وربما كان الأهمُّ من ذلك أن نرجع إلى الدَّور الخطير الذي لعبَته الأحزاب «الديمقراطية المسيحية»، في بلاد أوروبية هامة، على رأسها إيطاليا وألمانيا الغربية، منذ الحرب العالمية الثانية. صحيح أنَّ هذه كانت أحزابًا تمارس السياسة بكل ألاعيب الحياة الدنيوية ومؤامراتها، وأحيانًا لا أخلاقياتها، ولكن الأيديولوجية الدينية ظلَّت تؤدِّي دَورها الحاسم في التأثير على عقلية الجماهير العريضة من المواطنين، وتقوم بدَور أساسي في تحديد اتجاهاتهم.

وهكذا يبدو أنَّ طموح أيَّة عقيدة دينية يتجه إلى شمول كافة مرافق حياة الإنسان، وأنَّ انكماش هذا الطموح أو التزامه حدودًا أكثر حكمةً وتعقلًا، وأقرب إلى إدراك متطلبات التطور الإنساني الحر. لا يحدث إلَّا بعد مرحلة تاريخية مُعيَّنة يُستعاد فيها التوازن بين المطالب الدينية ومقتضيات الحياة الإنسانية المتغيرة. ففي البداية يكون الاتجاه إلى الشمول هو السائد وبقدْر ما يتحقَّق التطور والتقدم في المجتمع يتراجع هذا الشمول وتفرض متغيرات الحياة نفسها. وبهذا المعنى نستطيع أن نفسر الدعوة الحالية إلى الدمج بين الدين والسياسة، أو الدين والحُكم في العالم الإسلامي. ففي معظم فترات القرن العشرين لم يكُن صوت هذه الدعوة عاليًا، بالرغم من وجود ممثلين متحمِّسين لها. وإذا كانت قد عادت بقوة عارمة منذ السبعينيات بوجه خاص، فلا بدَّ أن يُفسَّر ذلك في ضوء التخلف الشامل الذي طرأ على العالم الإسلامي، والعالم العربي، في هذا العقد الأخير على وجه التخصيص — هذا العقد الذي أعقب هزيمة ١٩٦٧م الساحقة، والذي شهد «نكسات» عديدة إلى جانب ما يُسمَّى ﺑ «النكسة» العسكرية؛ نكسة في السياسة الخارجية، حيث تزايد الاتجاه إلى الارتماء في أحضان الإمبريالية العالمية، ونكسة في السياسة الداخلية وأساليب الحُكم، حيث بلغ القمع والإرهاب والافتقار إلى الديمقراطية أقصى درجاته، ونكسة في الثقافة والفكر، حيث عادت أشدُّ الاتجاهات تخلُّفًا وأكثرها جهلًا لطبيعة العصر إلى الإطلال بوجهها المظلم من جديد، ونكسة في الاقتصاد والمجتمع، حيث أخفقَت المجتمعات الإسلامية إخفاقًا ذريعًا في حلِّ مشكلة العدالة الاجتماعية والإفادة من إمكانياتها من أجل تحقيق تنمية حقيقية. وبالاختصار، فإنَّ اقتران الدعوة إلى إخضاع السياسة للدين بفترة التخلف الشامل هذه، هو دليل بالغ على صحة ما نقول به من إنَّ طموح التنظيمات الدينية إلى السيطرة على كافة جوانب حياة الإنسان لا يحدُّ منه إلَّا التقدم العقلي والاجتماعي للمجتمع ككل. ويبدو أنَّ هذا قانون عام ينطبق على تطوُّر العقائد، وإن كانت درجة إصرار كل عقيدة على تنظيم حياة الإنسان الدنيوية تختلف في شدتها من مجتمع إلى آخر.

في ضوء هذا التحليل العام تظهر الدعوة التي تتحمس لها الجماعات الإسلامية في الوقت الراهن على أنَّها جزء من ظاهرة أعم، هي اتجاه التنظيمات الدينية في مراحل من التاريخ لها سماتها الخاصة، إلى السيطرة على كل جوانب الحياة الإنسانية. وحين يُطبَّق هذا الاتجاه على العالم الإسلامي نجده يُعبِّر عن نفسه في ذلك الشعار المعروف الذي يسيطر على عقول الكثير من المسلمين المعاصرين، وهو أنَّه، ما دام الإسلام دينًا ودنيا، فلا بدَّ أن تكون له الكلمة الأولى في السياسة وتدبير شئون الحُكم.

هذه القضية الهامة تحتاج إلى تحليل يُلقي الضوء على جوانبها المختلفة، ويحدِّد مدى إمكانيات الانتقال بها من مستوى الشعارات إلى مستوى التطبيق الفعلي. ولهذا التحليل عناصر متعددة، ستقتصر الآن على عرض أهمِّها:
  • أولًا: يرتكز الداعون إلى الجمع بين الدنيا والدين، ومن ثَم بين العقيدة والسياسة، على مبدأ صلاحية النَّص الديني لكل زمان ومكان. وهذا المبدأ في ذاته يولِّد تناقضًا أساسيًّا عند تطبيقه على القضية التي نقوم الآن بتحليلها؛ ذلك لأنَّ «الدنيا» بطبيعتها متغيرة، وأحوال المجتمع والإنسان والسياسة لا تكفُّ عن التطور. وهذه في نظر أيِّ إنسان لديه الحدُّ الأدنى من الثقافة العصرية بديهية لا تُناقَش، فكيف يمكن التوفيقُ في هذه الحالة بين مبدأ سريان النَّص على كل زمان ومكان، ومبدأ «الإسلام دين ودنيا»، إذا كانت «الدنيا» لا تكفُّ عن التغير، والتغير معناه أن ما يصلُح لها في زمان مُعيَّن، ومكان مُعيَّن، قد لا يصلُح في زمان ومكان آخرَين؟

    إنَّ المخرج الوحيد من هذا التناقض هو الاقتصار على تأكيد الجوانب العامة فقط في النصوص الدينية، وتَرْك التفاصيل لاجتهادات كل عصر. غير أنَّ هذا الحلَّ يصطدم بعقبات ليست بالهيِّنة على الإطلاق، مثل وضع الحدِّ الفاصل بين ما ينتمي إلى «المبدأ العام» وما ينتمي إلى التفاصيل، فضلًا عن وجود كثير من «التفاصيل» التي تتناول أمورًا في صميم الحياة الإنسانية المتغيرة، ضمن النصوص الدينية، كأحكام المواريث والزواج والطلاق … إلخ.

    وهكذا يبدو أنَّه سيظلُّ هناك صراع بين الطابع التفصيلي للنصِّ الديني ومدى شمول انطباقه؛ فكلما ازداد تفصيلًا، زادت صعوبة انطباقه في ظروف الحياة الإنسانية الدائمة التغير. فإذا حُلَّ هذا الصراع عن طريق الاكتفاء بأعمِّ مبادئ العقيدة، كان معنى ذلك أنَّ مَلء التفاصيل لا بدَّ أن يتمَّ من مصدر آخر غير العقيدة، هو مقتضيات العصر ومتطلبات المجتمع في زمن مُعيَّن، وتجربة الإنسان وخبرته الدنيوية، وكذلك ما يستمدُّه من خبرات المجتمعات والشعوب الأخرى. وبالاختصار فإنَّ عنصر التغير وعنصر الشمول يتعارضان؛ فإذا عملتَ حساب تغيُّر الأحوال البشرية — وهذه كما قلتُ بديهية لا يجادل فيها أحد — كان من الضروري أن يقلَّ شمول النصوص وتقتصر على العموميات، وإذا أصررتَ على التطبيق التفصيلي للنصوص كان معنى ذلك أنَّك تتجاهل حقيقة التغير.

  • ثانيًا: يظلُّ النَّص الديني في حاجة دائمة إلى البشر لكي يصبح حقيقةً واقعةً ويُطبَّق في مجال إنساني ملموس. وعلى الرغم من أنَّ الإسلام لا يعرف كهنوتًا، ولا يعترف بهيئة كنسيَّة منظمة تكون «وسيطًا» شرعيًّا بين كلمة الله وأفعال الإنسان، فإنَّ تفسير النَّص الديني على يد إنسانٍ ما، يظلُّ أمرًا لا مفرَّ منه حتى يصبح هذا النَّص حقيقةً واقعة. وهكذا يبدو من الضروري وجود «توسط» بشري من نوعٍ ما، بين النَّص وبين الواقع. وفي عملية التوسط البشري هذه تظهر كافة الأخطاء والتحيُّزات التي يتعرض لها بنو الإنسان. فإذا كان النَّص إلهيًّا مقدَّسًا فإنَّ مَن يطبقه ويفسره إنسان يتصف بكل جوانب الضعف البشرية. وأخطر ما في الأمر أنَّ الإنسان الذي يتصدَّى لهذا التفسير والتطبيق، سواء أكان رجل دين يشغل منصبًا كبيرًا، أم كان حاكمًا تستند سُلطته إلى أساس ديني، يضفي على نفسه قدْرًا (يزيد أو ينقص) من تلك القداسة التي تتسم بها النصوص الدينية، ويقدِّم أوامره أو فتاويه للناس بوصفها تعبيرًا عن رأي الدين ذاته، لا عن فهمه هو للدين، ويصف معارضيه بأنَّهم أعداء الدين، لا بأنَّهم أعداء طريقته الخاصة في تفسير الدين.

إنَّ الحُكم تجربة بشرية، قد تُصيب وقد تخطئ. وحين نعترف منذ البداية بهذا المبدأ، يصبح إمكان تصحيح هذه التجربة قائمًا على الدوام، ولكن الحكم الذي يرتكز على السُّلطة الدينية — والذي هو على الدوام حُكم بشري يعطي نفسه سُلطةً تفوق سُلطة البشر — لا يصحِّح خطأه بسهولة، وربما أضفى على نفسه نوعًا من «العصمة» يمنعه أصلًا من الاعتراف بأيِّ خطأ.

وأعظم مزايا الديمقراطية، بوصفها تجربةً بشريةً في الحكم، تكمن في نفس تلك الصفة التي يعيبها عليها خصومها من أنصار الحكم المرتكز على سُلطة الدين، فهؤلاء الأخيرون يتهمون الديمقراطية بأنَّها تستند إلى اتجاهات البشر وآرائهم وتفضيلاتهم، والبشر بطبيعتهم متقلِّبون مُعرَّضون للخطأ، على حين أنَّ الحكم الديني يستمدُّ تشريعه من مصدر يعلو على البشر وعلى أخطائهم ومظاهر ضعفهم، ولكن هذه الصفة بعينها هي التي تكمن فيها عظمة الديمقراطية.

فالبشر حقًّا كائنات تتسم بالضعف، والتغير، وربما الجهل، وسوء التقدير، غير أنَّ الديمقراطية هي التي تتيح للبشر فرصة التعلُّم من أخطائهم، وتصويبها بالتدريج، واكتساب خبرة جديدة من كل تجربة فاشلة يمرُّون بها. إنَّها هي التي تُنضج الإنسان وتصحِّح أحكامه وتُكسبه وعيًا بجوانب الضعف فيه، وقدرةً على تجاوز هذا الضعف. أمَّا الحكم الديني — الذي هو كما قلنا حكم بشري مُعرَّض بدَوره لكل أخطاء البشر — فإنَّه لا يتعرف بأنَّ الإنسان يتعلم من تجربته، بل يفرض على الإنسان وصايةً منذ بادئ الأمر، بحجَّة أنَّه «قاصر». وهكذا يظلُّ هذا «القاصر» عاجزًا عن النمو والوصول إلى مرحلة النضج، ما دام يؤمن بحاجته الدائمة إلى مصدر للتوجيه أرفع وأسمى وأحكم منه.

إنَّ جوهر الإيمان هو الطاعة. ولكن، ما دام الحاكم بشرًا كسائر الناس، فإنَّ أعظم صفة يستطيع أن يبثَّها في المحكومين هي أن يناقشوه ويعارضوه ويقفوا منه موقفًا نقديًّا كلما وجدوا ما يستحقُّ النقد. أمَّا صفة الطاعة فهي أسوأ علاقة يمكن أن تربط محكومًا بحاكم.

إنَّ الطاعة هي الفضيلة الكبرى للجندي إزاء قائده، وعلاقة المحكوم بالحاكم ينبغي ألَّا تكون مماثلةً لعلاقة الجندي بقائده؛ فليس للجندي أن يناقش ضابطه أو ينقده أو يطلب إليه، إذا أخطأ، أن يعتزل. وكل الكوارث التي لحقَت بالعالم الإسلامي عامة، والعالم العربي خاصة، على يد الحكومات العسكرية أو «ثورات» الضبَّاط، إنَّما ترجع إلى أنَّ العسكريين يقيمون، في ميدان السياسة، علاقاتٍ مع المحكومين تُوازي علاقات الضابط بالجندي، وأخشى أن أقول إنَّ الدعوة إلى الحكومة الدينية هي الوجه الآخر لهذا النمط من الحكم. فكلا النوعَين حكم سُلطوي، لا يرتكز على العقل والإقناع والنقد، وكل ما في الأمر أنَّ الحكم العسكري يرتكز على سُلطة القوة والبندقية، والحكم الديني يرتكز على سُلطة الإيمان والمنبر.

وإذا كانت أقطار إسلامية عربية كثيرة قد خضعَت طويلًا لحكم النَّسر واعتادت أسلوب الحكم المرتكز على القوة، وافتُتنَت بسُلطة القوة وجبروتها في بعض الأحيان، فإنَّ حكم النَّسر هذا هو خير تمهيد لحكم العمامة، لأنَّه عوَّد الناس طويلًا على الطاعة، وأفقدهم مَلَكات النقد والاعتراض.

•••

على أيَّة حال، فإنَّ أولئك الذين يتحدثون عن «الصحوة الإسلامية» الحاليَّة من بين كُتَّاب ومُفكري الدول الكبرى في الغرب، يؤمنون بأنَّ العالم الإسلامي مُقبِل على مرحلة سينتقل فيها إلى حكم العمامة. وهم يدرسون مظاهر هذه الصحوة بدقة كاملة حتى يعرفوا كيف يتعاملون معها، ولا تفاجئهم أوضاعها الجديدة وتأخذهم على غرة وهم غير متأهبين لمواصلة استغلال واستغفال هذا العالم الإسلامي الذي أصبح اليوم يضمُّ أعظم الثروات وأهم مصادر الطاقة.

ولأنَّ هدفهم الحقيقي هو أن تستمر سيطرتهم على هذه المنطقة من العالم، فإنَّهم يغمضون أعينهم عن أهم عناصر التشويه في فكرة «الصحوة الإسلامية» هذه، فلا أحد منهم يتساءل: هل هي صحوة كمية، أم كيفية؟ أعني هل المظهر الواضح للصحوة، وهو انتشار الجماعات الدينية وازدياد عدد المنضمِّين إليها، يوازيه ارتفاع في مستوى تفكير هذه الجماعات وموضوعات اهتمامها وطريقة فهمها للإسلام وتطبيقها له في ظروف عالم سريع التغير؟

هل قدَّمَت هذه الجماعات حلولًا واقعيةً قابلةً للتنفيذ لمشكلة العدالة الاجتماعية، ولمشكلة توزيع الثروة؟ هل لديها برنامج واضح المعالم لاستغلال الثراء النفطي الخيالي، وللانتفاع بأموال المسلمين الطائلة من أجل النهوض بالمجتمعات الإسلامية الفقيرة؟ هل حدَّدَت بوضوح موقفها من التحالفات الخارجية التي تتفق مع المصالح الحقيقية للشعوب الإسلامية؟ هل أصدرَت حُكمًا صريحًا وقاطعًا على أساليب الإنفاق السفيه الذي يُبدِّد به الأثرياء من المسلمين أموالًا تحتاج إليها الأجيال المُقبِلة، والملايين الفقيرة من الأجيال الإسلامية الحاليَّة، أشدَّ الاحتياج؟

إذا لم يكُن هذا كله قد تحقَّق، فكيف نطلق على ما يحدث الآن اسم «الصحوة الإسلامية»؟ هل ازدياد العدد وحده صحوة، أم إنَّ الصحوة الحقيقية هي ارتفاع مستوى الفكر وقدرته على إثبات مرونته ومواجهته للمشاكل المتجددة في عالم سريع التغير؟ وإذا كان المضمون الحقيقي لفكر معظم الجماعات الإسلامية المعاصرة أشدَّ تخلُّفًا بكثير ممَّا كانت عليه أفكار الجماعات المناظرة لها منذ نصف قرن، أيكون من حقِّنا أن نُسمِّي هذا صحوةً لمجرَّد أنَّ أعدادًا متزايدةً تنضمُّ إلى الموكب مطأطئة الرأس، لا يدفعها سوى الإذعان والطاعة فحسب؟

على أنَّ السؤال الهام الذي يُثار هنا هو: كيف أمكن الجمع بين هاتين الحقيقتَين المتنافرتَين في ظاهرة واحدة؟ كيف ازدادت أعداد المنضمِّين إلى ركب الجماعات الدينية زيادةً هائلة، في نفس الوقت الذي تدهور فيه مستوى تفكير هذه الجماعات، وهبط كثيرًا بالقياس إلى ما كان عليه نظراؤها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؟ كيف اجتمعَت الصحوة الكمية مع الكبوة الكيفية في وقت واحد؟

إنَّ التعليل الواضح لهذه الظاهرة ذات الوجهَين المتنافرَين، هو أنَّ تلك «الصحوة» في حقيقتها مظهر من مظاهر الإحباط وخيبة الأمل، فدلالتها الحقيقية سلبية؛ سخط ونفور على الأوضاع القائمة، وعجز عن الاهتداء إلى طريق جديد. وهكذا تكون النتيجة العملية هي الارتماء في أحضان ذلك الطريق القديم المجرَّب، طريق الدعوة الدينية، وكأنَّ إعلان العودة إلى طريق الدين سيحُلُّ بطريقة آليَّة مشكلات السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والانتماءات الدولية.

في تصوُّري أنَّ الانتشار الكمِّي الهائل لهذه الدعوات الإسلامية إنَّما يُعبِّر أساسًا عن رغبة في البحث عن مَخرج، لمَن لا مَخرج لهم. إنَّ الطرق جميعها مسدودة أمام المجتمعات الإسلامية، والقهر هو الوسيلة الوحيدة لضمان بقاء الأنظمة القائمة، وأهم ما يترتب على القهر هو تلطيخ سُمعة جميع البدائل الأخرى، كالليبرالية وحُكم الأحزاب، واليسار، والاتجاه الديمقراطي بكافة أشكاله. فهذه البدائل تتعرض للنقد والتجريح ليلَ نهار، دون أن تكون قادرةً على الرد، أو على الدفاع عن نفسها. وفي ظلِّ فقدان العدالة الاجتماعية، وضياع الرشد الاقتصادي، وضلال التوجه السياسي، وانهيار القِيَم الأخلاقية والفكرية، ما الذي يتبقى أمام الإنسان — وخاصةً إذا كان شابًّا — إلَّا أن يعلن كفره بكافة الأنظمة الدنيوية والبشرية من خلال تأكيد إيمانه بالنظام الإلهي؟

هكذا تتسع الدعوة وتنتشر، وتصبح مأوًى وملجأً لكل مَن هو محبط، ساخط، عاجز عن الفعل الإيجابي. إنَّها طوق نجاة يمنع من الغرق والسقوط. ولكن هذه كلها سمات سلبية، وبالفعل تظلُّ الدعوة سلبيةً عاجزةً عن تقديم رؤية محدَّدة المعالم للمستقبل؛ هذا إذا كان للمستقبل ذاته مكان في توجهاتها، ولم يكُن الماضي وحده هو مَحطُّ آمالها. وهكذا يقترن الانتشار الكمِّي الهائل بخواء وهزال في المضمون، وتصبح اليقظة، التي لا تُقاس إلَّا بالعدد والمقدار، غفوةً فكرية، وتغدو الصحوة كبوةً عقلية، ويظلُّ أعداؤنا، رغم هذا كله، يهتفون: احذروا الصحوة الإسلامية! ولكن لسان حالهم يقول: مرحبًا بها، ما دامت لا تُهدِّد شيئًا من مصالحنا، ولا من مصالح حلفائنا الممسكين بدفَّة الأمور في العالم الاسلامي.

١  يشير الدكتور عبد السلام الترمانيني في كتابة القيِّم «الرق، ماضيه وحاضره» (سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، نوفمبر ١٩٧٩م)، إلى الأصل الاجتماعي الموقوت بظروف مُعيَّنة لظاهرة حجاب المرأة، فيقول إنَّ الوضع الاجتماعي للجواري كان يستلزم أن تكون مكشوفةً لترغيب الناس في شرائها، ومن ثَم كان الحجاب ضروريًّا للحرائر حتى يتميَّزن عن الجواري، ولا يُصيبهنَّ مكروه من أولئك الذين كانوا يتعرفون على الجارية من ملبسها. وهكذا كان ارتداء الجلباب في الآية يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا، كان ذلك دعوةً إلى دفع الأذى عن الحرائر حتى لا يخلط الناس بينهنَّ وبين الجواري. وينبِّهنا المؤلِّف إلى حقيقة هامة، وهي أنَّ عمر بن الخطاب كان يمنع الجواري من التحجُّب بالقوة، حتى لا يتشبَّهن بالحرائر، وينتهي من ذلك إلى القول بأنَّ «حجب المرأة الحرة كان تدبيرًا قضَت به الظروف الطارئة على المجتمع الإسلامي» (ص١٢٥-١٢٦). وهكذا لم يكُن الحجاب تشريعًا عامًّا للنساء (بدليل منع الجواري منه بالقوة)، وكان مرتبطًا في أصله بظروف خاصة، هي الرغبة في التمييز بين الحرة والجارية، ومن ثَم تثور علامة استفهام كبيرة في هذا الصدد: لمصلحة مَن تُفسَّر الآية المذكورة على أنَّها تشريع غير مُقيَّد بزمن مُعيَّن؟ وما معنى التحجُّب في عصر اختفَت فيه الجواري، ولم تعد المرأة الحرة بحاجة إلى الحجاب لكي تتميز به عن الجارية؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤