الفصل الأول

الأُسس الفلسفية لحقوق الإنسان في العالم الإسلامي المعاصر

إنَّ هناك ما يشبه الإجماع، في معالجات المسلمين المعاصرين لموضوع حقوق الإنسان، على اتباع منهج واحد، هو العودة إلى نصوص القرآن والسُّنة بوصفها المصدر الأساسي لهذه الحقوق. وفي أيِّ بحث يتقدم به مُفكر إسلامي معاصر حول هذا الموضوع، نجد في جميع الحالات تقريبًا غرضًا لقائمة الحقوق الأساسية التي تقول بها المواثيق والإعلانات الحديثة، مع إيراد آيات قرآنية وأحاديث نبوية تدلُّ على أنَّ هذه الحقوق قد عُرِفَت في الإسلام من قبل. ولمَّا كانت الكتب المقدسة تؤكد جميعها تلك المبادئ الأخلاقية الأساسية التي اكتسبَتها البشرية بعد خبرة طويلة، والتي أكَّدَتها الفلسفة والحكمة الإنسانية منذ القِدَم، فإنَّ مهمَّة هؤلاء الباحثين في الاهتداء إلى نصوص تؤيد حقوق الإنسان الرئيسية، لن تكون في هذه الحالة بالمهمَّة العسيرة، لا سيَّما وأنَّ عمومية النَّص الديني تسمح باستخلاص معانٍ متعدِّدة ومتشعِّبة منه.

هذه المحاولات، التي تُحقِّق أيضًا نجاحًا ملحوظًا، تُعَدُّ مصدر فخر كبير للمُفكر المسلم في العصر الحاضر. ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا الفخر لا يرجع إلى اعتقاده بأنَّ قاعدة حقوق الإنسان، في كتاب الإسلام المقدس، أوسع منها في المواثيق الحديثة، بقدْر ما يرجع إلى أنَّ تلك النصوص الدينية التي أكَّدت حقوق الإنسان الأساسية «أقدم» بكثير ممَّا عرفَته الحضارة الغربية. وهكذا تجدهم يؤكدون أنَّ الحقوق كلها موجودة، وربما أضاف البعض حقوقًا أخرى، أو أكَّد أنَّ الحقوق المعروفة معروضة بصورة أكثر تفصيلًا، ولكن التأكيد ينصبُّ — في أغلب الأحيان — على الأسبقية الزمنية أكثر ممَّا ينصبُّ على المضمون نفسه. فالكل، تقريبًا، يصلون آخر الأمر إلى نتيجة واحدة: لقد عرفنا نحن هذه الحقوق قبلهم!

هذه الحقيقة الأساسية معناها أنَّ الأساس الأول لفكرة حقوق الإنسان في الذهن الإسلامي المعاصر، أساس ديني. ونستطيع أن نُحدِّد وجهة النظر التي ترتكز على هذا الأساس الديني في عبارة نموذجية قالها أحد كبار القانونيين المصريين في صدد حديثه عن حقوق الإنسان في الإسلام: «الإسلام أقرَّ الدولة القانونية، التي تحكُم بالشريعة، وترعى حقوق الإنسان، قبل استقرار هذا المبدأ، الذي لم يظهر في أوروبا بوضوح إلَّا بعد الثورة الفرنسية.»١
هذه العبارة تُعَدُّ — في نظرنا — نموذجية، لأنَّها تنطوي على عناصر تتكرَّر لدى معظم الكُتَّاب الذين عالجوا هذا الموضوع من وجهة نظر إسلامية، وهي:
  • أولًا: إنَّ المقارنة تجري بين الإسلام والغرب، من أجل تأكيد مبدأ «الأسبقية الزمنية للإسلام»، وهو المبدأ الذي يهتمُّ به الكاتب أكثر من اهتمامه بإثبات تفوُّق المفهوم الإسلامي لحقوق الإنسان على المفاهيم الغربية.
  • ثانيًا: إنَّ المقارنة تُعقد بين «الإسلام» و«أوروبا»، أيْ بين عقيدة وقارة، أو عقيدة وحضارة (على أساس أنَّ أوروبا = الحضارة الغربية)، وهي مقارنة غير جائزة، لأنَّ أحد طرفيها مُقدَّس والآخر دنيوي، وأحدهما وحي إلهي والآخر ممارسة تاريخية.
  • ثالثًا: إنَّ إقرار الإسلام للدولة القانونية شيء مختلف كل الاختلاف عن وجود هذه الدولة بالفعل خلال التاريخ الإسلامي، وعن طريق الممارسة الفعلية في الحكم.

ومع ذلك فإنَّ المؤلِّف يعتبر أنَّ مجرَّد الإقرار النظري للمبدأ، في نصوص العقيدة، معناه أنَّ الدولة تحقَّقَت بالفعل، أو أنَّ المبدأ قد اعتُرف به واقعيًا، وهو أمر تُكذبه أبسط معرفة بالتاريخ الإسلامي بعد عصر الرسول والخلفاء الراشدين.

هذا الأساس الديني لحقوق الإنسان تترتَّب عليه نتائج هامة، وتتفرَّع عنه أهمُّ السمات التي تتميز بها نظرة العالم الإسلامي إلى هذا الموضوع، وأعني بها أنَّ أساس حقوق الإنسان: (١) مقدس. (٢) وقديم. (٣) وليس مُستمَدًّا من خبرة أو تجربة إنسانية.

  • (١)

    عندما تتخذ فكرة حقوق الإنسان، في ذهن الإنسان العربي المسلم، طابعًا مقدَّسًا، يرجع إلى أصول إلهية، فإنَّ هذا لا يبدو غريبًا كل الغرابة بالنسبة إلى تطوُّر مفهوم حقوق الإنسان بصورة عامة. فمن الأمور التي يتفق عليها معظم الباحثين في هذا الموضوع أنَّ هناك أساسًا ميتافيزيقيًّا لفكرة حقوق الإنسان، يتمثَّل في وجود نظرة مُعيَّنة إلى الطبيعة البشرية، تفترض أنَّ الإنسان كيان له كرامته واحترامه، وأنَّه وُلد حرًّا ومتساويًا مع الآخرين، وأنَّ مظاهر القهر والاستعباد ترجع إلى أسباب اجتماعية، وليست مظاهر تنتمي إلى «الطبيعة» ذاتها. هذا الأساس الميتافيزيقي يرجع إلى أصول من أهمِّها العقائد الدينية، وأقول إنَّ العقائد الدينية من أهمِّ هذه الأصول، ولكنَّها ليست هي الأصل الوحيد؛ لأنَّ الفلسفات — التي كان البعض منها وثنيًّا — قد أسهمَت أيضًا بدَور لا يُستهان به في بَلْوَرة فكرة الكرامة البشرية، فضلًا عن أنَّ الحكمة التشريعية، التي وصلَت إلى درجة عالية من النضج في عصر مثل عصر بركليز، وقبل ذلك في شريعة حمورابي، لم تكُن ترجع مباشرةً إلى أصول دينية، بل كانت أحيانًا بعيدةً عن هذه الأصول كل البعد. كذلك ينبغي ألَّا نُغفِل تأثير الآداب والفنون القديمة في تشكيل فكرة الإنسان بوصفه كائنًا مميزًا له حقوق ينبغي صيانتُها.

    ومع هذا كله فقد كان للعقائد الدينية، وخاصةً عقائد التوحيد الثلاث، دَور رئيسي في تأكيد القيمة المطلقة للإنسان، الذي ينبغي ألَّا يُتخذ وسيلةً أو أداةً لغيره. ومن المؤكَّد أنَّ الدفعة المعنوية التي بعثَتها تلك العقائد كانت من أهمِّ العوامل الحافزة لتلك الحركة التي تعاقبَت عبر عصور عديدة، من أجل استخلاص حقوق الإنسان وجَعْلها حقيقةً واقعة.

    ولو بحثنا في السمات التي تُميِّز الإسلام، بوصفه دينًا توحيديًّا، في نظرته إلى الإنسان، التي يبني عليها فهمه لحقوقه، لوجدنا أنَّ الإسلام يجعل للإنسان طبيعةً مكرَّمةً مُستمَدةً من كونه «خليفة» لله. هذا التكريم مطلق، لا يتقيَّد بجنس أو مكانة اجتماعية، وإنَّما هو تكريم للإنسان بما هو كذلك، ومن حيث علاقته الفريدة بخالقه فحسب. إذَن فهناك طبيعة خاصة يفترضها الإسلام للإنسان، ومن هذه الطبيعة، التي تحدَّدَت معالمها في القرآن، تُستمَدُّ حقوقه. فالإنسان الذي تحدَّدَت طبيعته على أنَّه خليفة لله في الأرض، لا يصحُّ أن يُضطهد أو يُظلم أو تُسلب حريته أو يُفرَّق بينه وبين أخيه على أساس العِرق أو اللون … إلخ.

    ويحدِّد باحث معاصر هذا الأساس الديني لحقوق الإنسان في الإسلام فيربطه بفكرة القداسة إذ يقول: «ولكن للإنسان قداسة ولحقوقه قداسة، جوهرها وسندها ما فيه من روح الله، وهذا ما لم يخطر على بال كثيرين ممَّن يتكلَّمون عن حقوق الإنسان التي إن لم تكُن موضع تقديس إيماني فلا ضمان لها ولا أمان. ولا شيء يضرُّ قضية الإنسان أكثر من اعتباره عضوًا في عالم الحيوان، لأنَّه سيخضع للقانون الذي يسود الطبيعة، مع أنَّه فوق الطبيعة وسيدها بكل ما فيها.»٢ ومثل هذا الرأي يتكرَّر مرارًا لدى المُفكرين الإسلاميين المعاصرين، الذين يسعَون إلى تأكيد أهمية مفهوم حقوق الإنسان في الإسلام؛ فهم جميعًا متفقون على أنَّ القداسة التي يُضفيها القرآن على حقوق الإنسان هي خير ضمان لهذه الحقوق.٣

    من السهل إذَن أن نرى أنَّ الأصل «المقدس» لحقوق الإنسان، الذي يرجع إليه المُفكرون المعاصرون في العالم الإسلامي بلا انقطاع، له سماته المميزة، فحقوق هذا الكائن الفاني، المتغير، أي الإنسان، مُستمَدَّة من مصدر أزلي. وهذه الحقوق تضمنها نفس الجزاءات التي تضمن «الخير والشر» في العقيدة الدينية؛ فالحساب على مخالفتها يتمُّ في الحياة الأخرى، ولا توجَد جزاءات دنيوية مُحدَّدة تعاقب مَن يخرقها. وبعبارة أخرى، فإذا لم يكُن إيمان الحاكم صادقًا، فلن يردعه شيء عن انتهاك تلك الحقوق، ولن يستطيع مواطنوه المضطهدون أن يهيبوا ضدَّه بأيِّ شيء سوى الجزاء الأخروي.

    ولنتأمل في هذا الصدد نصًّا آخر، للباحث نفسه، يُعلِّق فيه على كلمة للصوفي المسلم المشهور ابن عربي، أكَّد فيها أنَّ الله خلق الإنسان على صورته، فيقول: «فإذا كان الله قد خلق الإنسان على صورته، فإنَّ هذا الصوفي يقول إنَّ مِن يراعي الإنسان فهو يراعي خالقه.»٤

    هذا إذَن هو الضمان الذي تُقدِّمه وجهة النظر الدينية لحقوق الإنسان؛ إذ ينبغي أن تُصان هذه الحقوق مراعاةً للخالق. ومراعاة الخالق تفترض مقدَّمًا سيادة الإيمان؛ إذ إنَّ المجتمع الذي يختفي فيه الإيمان يستطيع بسهولة أن يضرب بحقوق الإنسان عرض الحائط، ما دامت مراعاة الخالق ليست من أهداف مجتمع كهذا. وبعبارة أخرى، فالمجتمع الذي تُراعَى فيه حقوق الإنسان هو ذلك الذي تختفي فيه، أصلًا، المصالح الدنيوية وأطماع الحكام وشهواتهم إلى القوة والسيطرة والمال. مثل هذا المجتمع، الذي يخشى غضب الله فوق كل شيء، هو وحده الذي يحفظ حقوق الإنسان، وفقًا لوجهة النظر الدينية. وهكذا فإنَّ النظرية تصلُح لمجتمع الإيمان المثالي وتُطبَّق فيه بنجاح. وهذا شيء رائع، ولكن ماذا عن تلك المجتمعات التي تسودها الأطماع الدنيوية، ويتوارى فيها الإيمان، على مستوى الطبقات الحاكمة والمسيطرة على الأقل؟ إنَّ حكَّام مثل هذه المجتمعات لن يحرصوا كثيرًا على مراعاة الخالق، فما السبيل إلى انتزاع حقوقنا الإنسانية منهم؟

    من السهل أن نرى أنَّ معظم المجتمعات البشرية تنتمي إلى هذه الفئة الأخيرة، فالمجتمع الذي يسوده الإيمان التام هو حُلم لا يكاد يتحقَّق في تاريخ البشر، ولو تتبَّعنا تاريخنا الإسلامي، باحثين فيه عن مجتمع الإيمان الخالص، والتجرد من الأطماع الدنيوية، لظلِلْنا نتراجع ونتراجع دون أن نهتديَ إليه، إلى أن نتوقَّف عند عصر الخلفاء الراشدين، فنرى الكثيرين يصورونه بأنَّه أقرب المجتمعات إلى ما نبحث عنه، وإن كان هؤلاء مضطرين إلى الاعتراف — بحكم الحقائق التاريخية — بأنَّ الصراعات التي شهدها هذا العصر ذاته، والتي كانت في كثير من الأحيان دامية، تؤكد أنَّه لم يخلُ تمامًا من الأطماع والمصالح الدنيوية. وعلى أيَّة حال فإنَّ هذه الفترة المحدودة، هي تلك الفترة التي يعترف فيها المُفكرون المتحمسون للنظرية الإسلامية في حقوق الإنسان، بأنَّ القداسة والإيمان العميق، قد مارسا فيها تأثيرهما على الحُكَّام، على حين أنَّ كل مَن جاءوا بعد هذه الفترة، أو معظمهم، قد شوَّهوا «الحكم الإسلامي الصحيح».

    فلنُسلِّم بذلك، ولكنْ ألا يعني هذا أنَّ الاعتماد على الحسِّ الدينيِّ وحده غير كافٍ؟ إنَّ الله كرَّم الإنسان وجعله «خليفة»، هذا صحيح، ولكن هل يكفي ذلك لردع الحاكم أو إلزامه بالاعتراف بحقوق الإنسان؟ إنَّ التاريخ نفسه خير شاهد على أنَّ ذلك لم يكُن كافيًا، فالضمان الوحيد لحقوق الإنسان يصبح عندئذٍ ضمانًا إلهيًّا، فإذا تخلَّى الحاكم عن التقوى الشاملة الكاملة، وتملَّكَته الأطماع البشرية المألوفة، أصبحَت حقوق الإنسان بلا دعامة، بلا أساس، بلا ضمان. ولو قِيلَ للحاكم «لا تضطهد رعاياك لأنَّ فيهم روح الله مثلك» أو «لا تسلبهم حياتهم أو حريتهم حتى لا تُغضبَ الله»، فلن يرتدع، لأنَّه ابتعد منذ البداية عن طريق الإيمان، واتخذَت أفعاله (بغضِّ النظر عن شكليات أداء الشعائر) خطًّا دنيويًّا بحتًا، بحيث لا يعود «الأمر اللاهوتي» السابق يمارس عليه تأثيرًا. فإذا لم يوجَد ضمان بشري، تاريخي، دستوري، لحماية حقوق الإنسان، عندئذٍ يصبح الباب مفتوحًا على مصراعيه لانتهاكاتٍ لا مثيل لها لهذه الحقوق؛ وهو ما حدث بالفعل في التاريخ.

    ومُجمَل القول أنَّه، في عالم تسوده المصالح الدنيوية، يؤدِّي الاعتماد التام على الضمان الإلهي لحقوق الإنسان إلى إضعاف هذه الحقوق أو القضاء عليها. وما لم نكُن نعيش في عالم التقوى المثالي، الذي تفترضه النظرية الإسلامية في حقوق الإنسان، فإنَّ الوسيلة الوحيدة لحماية هذه الحقوق هي إيجاد ضمانات «إنسانية» «وضعية» لها.

    والواقع أنَّ قدْرًا كبيرًا من سوء السُّمعة الذي يلحق بكلمة «القوانين الوضعية»، في جميع الكتابات الإسلامية المعاصرة، يرجع إلى خلط تقع فيه هذه الكتابات بين المثل الأعلى والواقع، فالنصوص الدينية مثالية، لا تعاقب مَن يخالفها إلَّا بعذاب الآخرة، أيْ إنَّها لا تتضمن جزءًا دنيويًّا مُحدَّدًا للحاكم الذي ينتهك حقوق البشر. وحتى لو كانت هناك نصوص تقضي بعزل الحاكم المسيء، فإنَّ وسائل العزل وكيفيته و«آليَّاته» غير محدَّدة، ومن ثَم يستطيع الحاكم دائمًا أن يتجاهلها ويتحدَّاها. أمَّا القانون الوضعي فأمامه واقع يواجهه، ويُقيِّده، ويفرض عليه ظروفه الخاصة. وبعبارة أخرى، فالنَّص الديني يتحرك في مجال الحرية المطلقة، بينما القوانين الوضعية تُقيِّد نفسها بواقع معقَّد، متغير، متعدِّد الجوانب، ومن ثَم فإنَّ المقارنة التي يعقدها الكثيرون بين الاثنين غير جائزة.٥ إنَّها مقارنة بين المثل الأعلى والواقع، بين أحكام نظرية مثالية لم تُطبَّق بالفعل، وأحكام لا بدَّ لها أن تتقيَّد بالمتغيرات والمشكلات والصعوبات التي يفرضها الواقع.

    والمشكلة الأخرى، إلى جانب عدم وجود ضمانات دنيوية مُحدَّدة لحقوق الإنسان في ظلِّ وجهة النظر الدينية، هي أنَّ طابع القداسة الذي تتَّسم به النصوص الدينية سرعان ما تتغيَّر طبيعته على أيدي البشر. فالنصوص الدينية، كما قُلنا مرارًا، لا تحكم بذاتها، ولا تُطبِّق نفسها بنفسها، وإنَّما يطبِّقها بشر فانون، لهم مصالحهم وأطماعهم وشهواتهم. وكثيرًا ما يُقال إنَّ الابتعاد عن الطريق القويم، الذي ترسمه الشريعة للبشر، سببه «التشويه» الذي طرأ على أحكام الشريعة نتيجةً لانحرافات البشر، وكأنَّ هناك أساسًا ثابتًا يمكن أن يظلَّ على ما هو عليه، لو لم يشوِّهه القائمون بالتطبيق. ولكن كل حاكم ديني لا يمكنه أن يستغنيَ عن العنصر البشري في التطبيق، ومجرَّد وجود هذا العنصر البشري معناه نزع القداسة الأصيلة، وإنزال الحكم الديني من مستوى المطلق إلى مستوى النسبي والمتغير. وهكذا يكون الخلاف، في حقيقته، خلافًا بين حُكمِ بشريٍّ يعترف ببشريته، وحُكمِ بشريٍّ أيضًا يدَّعي الارتكاز على أساس ديني، وغالبًا ما يكون النوع الثاني أخطر، لأنَّه يتيح للحاكم أن يضع نفسه فوق مستوى النقد، ويُضفي هالةً من القداسة على أفعال تحركها الأغراض البشرية المألوفة، بينما الحكم البشري المعترف ببشريته هو، في الوقت ذاته، قابل للتبديل والتغيير والنقد.

    والواقع أنَّ الأمر الذي سهَّل الخرق المستمر لحقوق الإنسان، كما أكَّدها الوحي طوال التاريخ الإسلامي، هو أنَّ الحاكم كان في الوقت ذاته «خليفة» للرسول، يحكُم بكل ثقل السُّلطة التي يستمدُّها من سلفه العظيم. وبهذا الوصف كان الحاكم هو الذي يتولَّى تفسير النصوص الدينية، التي هي — في الأغلب — عامة إلى حدٍّ تقبل معه شتَّى الاتجاهات، وكان من الطبيعي — إذا استثنينا حالاتٍ قليلة — أن تتحكم مصالحه الدنيوية في تحديد التفسير الذي يميل إليه.

    وهكذا تظهر هنا كل المشكلات التي تترتَّب على وجود نصٍّ إلهيٍّ مقدَّس، يقوم بتطبيقه بشر فانون، وتُثار هنا كل الصعوبات الناجمة عن التقابل بين الثابت والمتغير، والمقدس والبشري، والروحي والزمني، والفطري والتجريبي، والأزلي والتاريخي، والمثالي والواقعي.

    ومُجمَل القول أنَّه حين تكون حقوق الإنسان مُستَمدَّة، في المحلِّ الأول، من علاقة الإنسان بالله، لا من علاقة الإنسان بالإنسان، فإنَّ المجال يصبح مفتوحًا أمام البشر للتحايل على هذه الحقوق، مع ادِّعاء العصمة التي تُنسَب للنصِّ المقدس.

  • (٢)

    هذا الأساس المقدس لحقوق الإنسان، يتميَّز أيضًا بأنَّه «قديم». ففي عصور نزول الوحي، والفترة التي أعقبَته مباشرةً، كانت الحقوق الإنسانية في أوج تحقُّقها؛ وعلى ذلك فإنَّ الخطَّ البياني لهذه الحقوق، في الحضارة الإسلامية، يزداد هبوطًا كلما ابتعدنا عن تلك القمة التي بلغها في «العصر الذهبي»، وهو العصر الذي نجد لدى جميع أنصار التراث، من بين الكُتَّاب العرب المعاصرين، حنينًا دائمًا إليه، مع كل ما يُضفيه الحنين على القديم، السحيق في القِدَم، من مثالية رومانسية تنتقي من الصورة المُعقَّدة ما يلائمها من العناصر، وتضيف إليها كل ما يُشعِر الإنسان في العصور التالية، بأنَّه قد حُرِم منه.

    هذا التصور يؤدِّي بالفعل إلى إلغاء «التاريخ». فالمسار التاريخي، عندما يصبح تدهورًا مستمرًّا بالنسبة إلى نقطة بداية عُليا، لا يعود «تاريخًا» بالمعنى الصحيح؛ فالباحث في عصرنا الحاضر، حين يتحدَّث عن حقوق الإنسان، يقفز مباشرةً إلى مصدر الإشعاع الأول، من القرآن والحديث، ويُسقِط الزمن الواقع بين عصره وذلك العصر، ويُسقِط بالتالي التحولات الهائلة التي طرأت، خلال ذلك الزمن، على معاني الحقوق الرئيسية ومداها ودَورها في حياة الإنسان.

    ففي المعالجات المعاصرة لحقوق الإنسان، في العالم العربي، يُعاد استخدام المصدر القديم لهذه الحقوق في ظروف مختلفة كل الاختلاف، وفي عالم أشدَّ تعقيدًا بكثير، وبعد أن طرأت على الحياة البشرية تطورات لم يكُن من الممكن إدخالُها في الحسبان في المصدر الأصلي. ويؤدِّي هذا التباين بين قِدَم المصدر الأصلي، وظروف الحياة الحديثة التي يُطبَّق فيها، إلى تعدُّد في المواقف يوازي تمامًا ذلك التعدُّد الذي يطرأ كلما حدث تصادم بين التراث وبين إحدى مشكلات الحياة الحديثة في دول العالم الثالث.

    فهناك أولًا المحافظون المتزمتون، الذين يدعون إلى الأخذ بالنَّص الحَرفي للعقيدة بلا تصرف، ولا يعترفون إلَّا بالأوضاع التي وردَت في ذلك النص، والحلول التي أتى بها لهذه الأوضاع. ومن الواضح أنَّ هذا الموقف يؤدِّي إلى خلق هوَّة سحيقة، وازدواجية عميقة، بين المصدر الذي يستمدُّون منه أفكارهم ويبنون عليه تصرفاتهم، وبين الظروف الفعلية التي يعيشون فيها. وتنعكس هذه الازدواجية بوضوح على إخفاقهم في التصدِّي لمشكلات العصر، ومخاطبتهم الجماهير، والأجيال الجديدة بوجه خاص، بلُغة يصعُب أن نجد لها انطباقًا على الواقع.

    ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا الاتجاه الفكري يدعم موقفه بالإشارة الدائمة إلى أنَّ النصوص المقدسة المتعلقة بحقوق الإنسان صالحة لكل زمان ومكان، وهي في ذاتها فكرة تُعبِّر عن اتخاذ موقف لا تاريخي منذ البداية. ورغم أنَّنا لا نرغب في الدخول في مناقشة حول مبدأ الصلاحية لكل زمان ومكان، فإنَّ من البديهيات الواضحة أنَّ الأمور البشرية، التي يُطبَّق عليها هذا المبدأ، متغيرة، وأنَّ تجربة الحياة والتاريخ الإنساني تُثبت هذا التغير بصورة قاطعة. والنتيجة الضرورية لهذا التباين بين مبدأ الصلاحية لكل زمان ومكان، من جهة، وتغيُّر الحالات التي يُطبَّق فيها، من جهة أخرى، هي حدوث تخلخُل وعدم اتزان في الفكر، يفتح الباب — في حالة حقوق الإنسان — لأشدِّ التفسيرات تباينًا، ويمكن أن يتسلَّل منه الاستبداد والطغيان بسهولة ويُسر.

    لذلك كان من الضروري أن يظهر موقف آخر يُخفِّف من تطرُّف الموقف السابق، وهو موقف المتحرِّين الذين يدعون إلى الاجتهاد والتفسير المرن، وإضافة الأحكام التي لم تَرِد في الأصل، ما دامت تتفق مع مصالح المسلمين. وهذا الموقف توفيقي بطبيعته، لأنَّه لا يتجاهل الشريعة، ولكنَّه يُدخل في تأويله لها عناصر جديدة قد تصل أحيانًا إلى حدِّ التغيير الجذري للأصل، وإن كان هذا التغيير يتمُّ دائمًا في إطار الاعتراف — الفعلي أو الشكلي — بالأصل.

    أمَّا الموقف الثالث، الذي ينطلق من موقع مستقلٍّ عن الأصل الديني لحقوق الإنسان، فهو موقف الجماعات العلمانية الليبرالية، والجماعات اليسارية التقدُّمية بمختلف درجاتها، وهو موقف يستمدُّ هذه الحقوق من الممارسة الفعلية ومن الظروف القائمة، ويعمل على الإفادة من التجربة العالمية في هذا الميدان، ولا يعترف بخصوصية التجربة الإسلامية إلَّا في حدود ضيقة، تقلُّ كثيرًا عن عناصر الاتفاق بين هذه التجربة وتجربة الإنسان الحديث في أيِّ مكان آخر بالعالم. ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا الموقف كان أوسع انتشارًا، بالنسبة إلى العالم العربي، في المرحلة السابقة على الحرب العالمية الثانية، أمَّا في الفترة الراهنة، فهو يعاني من ضعف شديد وتناقص مستمر في عدد المؤيِّدين له.

    ومن الجدير بالذكر أيضًا أنَّ أنصار الاتجاه المحافظ يتهمون العلمانيين بالمروق، وهو اتهام لا أساس له في معظم الحالات؛ ذلك لأنَّ كل ما يستند إليه هؤلاء العلمانيون هو أنَّ الاعتماد على النَّص الديني يفتح الباب لشتَّى أنواع التفسيرات التي قد تؤدِّي في النهاية إلى ضياع حقوق الإنسان. وهم لا يعارضون الإسلام ذاته، بل يهدفون إلى تجنُّب النتائج الخطيرة التي ترتَّبَت، طوال التاريخ، على الاكتفاء بالنَّص الديني. وهكذا يكون الصراع بين العلمانيين والمحافظين، في حقيقته، صراعًا بين نظرة تاريخية واقعية، ونظرة مثالية لا تاريخية، أكثر ممَّا هو صراع بين التديُّن والخروج على الدين.

  • (٣)

    وهناك سمة ثالثة، مستمَدَّة من السمتَين السابقتَين، تتصف بها نظرة العرب المعاصرين إلى حقوق الإنسان، كما استُمِدَّت من تعاليم الإسلام؛ هي أنَّ هذه الحقوق ليست تجريبيةً ولا نسبيةً ولا متطورة. هذا الطابع الثابت لحقوق الإنسان في الإسلام يُعَدُّ مصدر فخر في نظر المُفكرين الإسلاميين، ولكنَّه في الحقيقة يؤدِّي إلى فقدان عناصر هامة اكتسبَت بفضلها المجتمعات الحديثة فكرتها عن حقوق الإنسان.

    ولكي ندرك ما يضيع في ظلِّ هذه النظرة السكونية إلى حقوق الإنسان، علينا أن نقارن بينها وبين النظرة الحديثة كما تبلورَت حتى وصلَت إلى ما هي عليه في مواثيق حقوق الإنسان المعاصرة. هذه النظرة الحديثة تجريبية، على الرغم من أنَّها بُنيَت — كما قُلنا من قبل — على تصوُّر ميتافيزيقي مُعيَّن للطبيعة البشرية وكرامة الإنسان، فهي قد نمَت ببطء، ومن خلال تجارب طويلة كان بعضها مريرًا. وخلال هذه التجارب ظلَّ الإنسان ينتزع حقًّا له تِلوَ الآخر، ويخوض في سبيل ذلك شتَّى أنواع الصراعات والمعارك، ولكن أي حقٍّ كان يكتسبه، بعد هذا الكفاح الصعب، كان يستقرُّ بوصفه مكسبًا قانونيًّا لا يمكن العدوانُ عليه. كذلك فإنَّ تفسير الحقِّ الذي يُكتسَب بهذه الطريقة لا يتعرَّض للتعسُّف وسوء التأويل؛ لأنَّ التجربة ذاتها هي التي تُحدِّد معنى الحقِّ وطريقة استخدامه.

    أمَّا في ظلِّ النظرة الإسلامية، فإنَّ اكتساب الإنسان للحقِّ يبدأ كاملًا في العصور الأولى للإسلام، ثم يتناقص بالتدريج. وخلال التاريخ الطويل تحدث، في الممارسة والتطبيق، تراجعات، وتأويلات مزيفة، ولا تكون وظيفة التاريخ هي تثبيت الحقِّ وزيادته وضوحًا، بل زعزعته وزيادة غموضه.

    وهكذا فإنَّ التجربة الحديثة تبدأ متواضعة، ثم تواصل مسارها بطريقة عينية واقعية، وتكسب لنفسها موقعًا تِلوَ الآخر، وتحتفظ بكل موقع جديد تحصل عليه. أمَّا حين تكون البداية طَموحةً أكثر ممَّا ينبغي، وحين يظلُّ الأساس مثاليًّا نظريًّا، فإنَّ الواقع المعاش يُترك خاليًا لكي تتلاعب به الأهواء الدنيوية، وتتحايل على الأصل الديني، الذي تدَّعي دائمًا أنَّها تنتسب إليه، وتستغلُّ عمومية النَّص الديني من أجل تبرير كل ألوان الاستبداد، وكل مظاهر الإساءة إلى حقوق الإنسان.

    وحسبُنا أن نشير هنا إلى الاختلافات الهائلة التي دارت حول مفهوم «الشورى» في الإسلام، حيث تسمح النصوص العامة بكل درجات التطرف، يمينًا ويسارًا، في التأويل، وحيث وصل الأمر بأحد المسلمين المتحمِّسين إلى أن يعلن، في مناقشة دارت حديثًا٦ على صفحات الجرائد الكويتية، أنَّ الإسلام الحقيقي لا يعرف الديمقراطية، وإنَّما يؤيِّد حُكم الفرد وولايته على الجماهير. ولنلاحظ أنَّ الإشارة، في مثل هذه الحالات، تكون دائمًا إلى الإسلام «الحقيقي»، فكل درجة من درجات الطيف اللوني، تُمثِّل، في نظر صاحبها، الإسلام الحقيقي الذي يرى أنَّه هو وحده الصحيح، ولا يمكن أن يلومه أحدٌ على ذلك ما دام النَّص شديد العمومية. وهكذا ينتهي الأمر إلى أن يقوم صاحب كل رأي بإسقاط موقفه الخاص، الذي قد يكون نابعًا من تحيُّزات أو مصالح خاصة، على الإسلام، كما لو كان هو وحده الموقف الذي يعترف الدين بصحته.

    والأهمُّ من ذلك أنَّ هذا الرجوع الدائم إلى «الإسلام الحقيقي»، لا إلى التجربة والممارسة الفعلية خلال التاريخ، يؤدِّي إلى إضفاء طابع القداسة الدينية على أيِّ تأويل متعسِّف، ويجعل المعترض عليه «كافرًا»، لا مجرَّد معارض سياسي، وهو وضع ينعكس بوضوح حتى على طريقة معاملة الحكومات «العلمانية» لمعارضيها السياسيين في العالم العربي المعاصر.

    والنتيجة النهائية لذلك هي العشوائية في الحُكم، مع تبريرها دينيًّا، وعدم وجود بناء تراكمي من الحقوق التي تُكتسَب مرةً واحدةً وإلى الأبد، وتحكُّم «لعبة النصوص» والتفسير في مصير الحقوق الإنسانية، وقيام صاحب كل سُلطة بإخضاع الدين لمصالحه وطريقة تفكيره التي تكوَّنَت مسبقًا، لا بإخضاع رأيه للدين، كما ينبغي أن يكون الأمر من وجهة النظر الدينية التي يزعم أنَّه يتبعها.

    وفي مقابل ذلك قد يكون من المفيد أن نُذكِّر أنفسنا بالطريقة التي تمكَّن بها الإنسان في العصور الممهِّدة للعصر الحديث من اكتساب بعض حقوقه الأساسية، فحقُّ الإنسان في كيانه وجسمه، الذي اكتُسِب بعد كفاح طويل ضدَّ استبداد الملوك، كان في أول الأمر مبدأً قانونيًّا، ثم أخذ يتحوَّل بالتدريج إلى مجموعة متشعِّبة من الحقوق المتعلقة بصَون كرامة الإنسان وحقِّه في محاكمة عادلة. وخلال هذا الكفاح الطويل كان هناك تأثير مُتبادَل بين الحقِّ النظري والممارسة، بحيث تؤدِّي الممارسة إلى تأكيد الحقوق وتوسيع نطاقها ونقلها من حقوق سلبية إلى حقوق إيجابية، كما يؤدِّي التجديد النظري الدقيق للحقوق إلى مزيد من الإصرار على تطبيقها عمليًّا. هذا التأثير المُتبادَل بين النظرية والتطبيق يكاد يكون قد اختفى في التاريخ الإسلامي، ولذلك لم يكُن هناك ما يمنع أحد الخلفاء، مثلًا، من أن يأمر بقطع رأس أحد رعاياه إذا شاء سوء حظِّ هذا الأخير أن يكون هو أول مَن يراه الخليفة في «يوم نحسه»، كما تروي كتب الطرائف الأدبية.٧

    ومن جهة أخرى فإنَّ التجارب التي تمرُّ بها الأمم، في مراحل مختلفة من تاريخها، كانت هي العامل الأساسي في تطوير مفهوم حقوق الإنسان وظهور مطالب وحقوق جديدة لم يكُن من الممكن أن تُعرف في العصور القديمة، ولا يمكن أن يُضمِّنها نصٌّ قديم. والدليل على ذلك، تلك التعديلات المتعددة التي أُدخِلَت على وثائق حقوق الإنسان، منذ أيام الإعلان الأمريكي حتى إعلان الثورة الفرنسية، ومنذ إعلان الأمم المتحدة في ١٩٤٨م حتى إعلان هلسنكي في ١٩٧٥م، وما زالت الحاجة تدعو إلى التعديل المستمر، والمطالبة بالمزيد من الحقوق، فالعلاقات الاجتماعية المُعقَّدة في العصر الحديث قد أضافت حقوقًا «إيجابية» أو «اجتماعية»، مثل حقِّ العمل، وحقِّ الثقافة والتعليم، وحقِّ الخصوصية. والعلاقات الدولية المتشابكة قد أضافت إلى حقوق الإنسان من حيث هو شخص أو فرد، حقوق المجموعات البشرية على مستوى الشعوب أو الدول، مثل حقِّ الهجرة واختيار نظام الحكم وتقرير المصير. وكل هذه حقوق كان من المستحيل تصوُّرُها في ضوء مفهوم يلغي التجربة والتاريخ وتأثير الممارسة، ويستمدُّ الحقوق كلها من حَرفية النَّص المقدس. وحتى لو أمكن استخلاصُ بعض هذه الحقوق، باجتهاد هائل، من النَّص، فإنَّ ذلك لا يكون إلَّا من خلال نظرة تقرأ الحديث — المُكتسَب بالتجربة — في القديم، لا من خلال القوة الكامنة في النَّص نفسه.

ما هي إذَن، حصيلة هذا كله؟ النتيجة التي تظهر لنا صارخة، في كافة المعالجات المتحمِّسة لوجهة النظر الدينية في حقوق الإنسان، هي ذلك التجاهل الصارخ للواقع والاكتفاء بما تقول به النصوص، دون أن يفكر أحدٌ في استخلاص دلالة عجز النظرية عن أن تفرض نفسها عمليًّا طوال معظم فترات التاريخ. وهكذا يتحدَّث هؤلاء الباحثون جميعًا عن نصوص لم تُطبَّق بالفعل، ولا يتساءل أحدٌ منهم: لماذا لم تُطبَّق؟ وعلى أيِّ أساس نتصوَّر أنَّها ستكون قابلةً للتطبيق في المستقبل، إذا كانت قد ظلَّت بعيدةً عن التطبيق طوال التاريخ السابق؟

إنَّ الأمثلة على هذا التحايل الغريب للواقع لا حصر لها ولا عدد. ولنكتفِ بحالات قليلة؛ ففي بحث بعنوان «حماية حقِّ الحياة في النظام الإسلامي»٨ يشير الكاتب إلى تكريم القرآن للإنسان في الآيات: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ … وإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، ثم يعلِّق على ذلك قائلًا: «ومن أجل كرامة الإنسان وحقِّه في الحياة [حفظ النفس]، قرَّرَت الشريعة الإسلامية حُرمة حياة الإنسان، وحفظ هذه الحُرمة وعدم الاعتداء عليها بالقتل، فحرَّم الإسلام قتل الإنسان واعتبره جريمةً موجَّهةً للإنسانية كلها، بل جعل حِفظها [يقصد حفظ الحياة] نعمةً للإنسانية. قال تعالى في تأكيد ذلك: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا … فما أعظم هذه الأحكام وما أبلغها في حماية النفس الإنسانية التي قرَّرَتها الشريعة الإسلامية قبل ما يزيد على ألف وأربعمائة عام، في الوقت الذي لم يستطع المجتمع الدولي أن يعتبر قتل المئات بل الآلاف من البشر جريمةً إلَّا في عام ١٩٤٨م، حين قرَّر المجتمع الدولي، عن طريق الجمعية العامة للأمم المتحدة، أنَّ إبادة الجنس البشري جريمة مُعاقَب عليها.»

وبغضِّ النظر عن المغالطة المكشوفة في الادِّعاء بأنَّ قتل النفس لم يصبح، في نظر المجتمع الدولي، جريمةً يُعاقَب عليها إلَّا في ١٩٤٨م، والخلط بين جريمة القتل الفردي وجريمة «إبادة الجنس»، وتجاهل التاريخ الطويل للقوانين الوضعية في محاربة جريمة القتل منذ ألوف السنين … بغض النظر عن هذا، فإنَّ المؤلِّف يكتفي بالمبدأ النظري المنصوص عليه — وهو بالفعل مبدأ رفيع — ويتخذه مقياسًا أوحد، ويتجاهل التطبيق المفقود والممارسات المقلوبة طوال التاريخ الإسلامي، على أيدي حُكَّام كانوا يؤكدون في جميع الحالات أنَّهم يحكمون بشرع الله. ومهما قِيلَ إنَّ هؤلاء الحكَّام خالفوا الأحكام الأصلية للشريعة وخرجوا عنها، سيظلُّ من حقِّ المرء أن يتساءل: لماذا كان التطبيق، في الغالبية الساحقة من الحالات، متجاهلًا لتلك الأحكام الأصلية ومضادًّا لها؟ أليس السبب الحقيقي في ذلك هو أنَّ تلك الأحكام لا تحمل في ذاتها طريقةً عمليةً لتطبيقها، ولا جزاءاتٍ دنيويةً ملموسةً على مخالفتها، وإنَّما اعتمدَت على الحسِّ الديني للحاكم فحسب؟

ولنتأمَّل مثلًا آخر؛ في بحث الدكتور أبو ريدة المُشار إليه من قبل، يؤكد أنَّ أساس حقوق الإنسان في الإسلام ليس مجرَّد طبيعة الإنسان، وإنَّما هو «نفحة إلهية» تأكَّدَت بها الكرامة الإنسانية وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ …، ويُعلِّق على ذلك بقوله: «ومن الواضح أنَّ الإنسان بعد هذا لا يصحُّ بأيِّ حال من الأحوال أن يُستعبَد أو يُحرم من حريته التي خلقه الله مستعدًّا لها بالفكر والعمل، ولا يصحُّ أن تكون حريته موضع خلاف.»٩

إذَن الاستعباد أو الحرمان من الحرية «لا يصحُّ» في نظر الكاتب، ولكن هذا الذي «لا يصحُّ» كان، للأسف، هو الذي حدث بالفعل طوال معظم فترات التاريخ الإسلامي، غير أنَّ التناقض بين النَّص النظري، والواقع الفعلي، لا يلفت نظر الكاتب على الإطلاق، في هذه الحالة بدَورها، ولا يصدُر عن الكاتب تعليق واحد على ما حدث بالفعل في التاريخ والواقع. وإنَّ المرء ليُصاب بدهشة حقيقية حين يرى أولئك الذين يتحدَّثون بحساسية شديدة عن «النفحة الإلهية»، يقفون صامتين إزاء معاملة الإنسان، في كثير من البلاد الإسلامية، وكأنَّه حيوان، وحين يقارن بين ما يقولونه عن «الكرامة الإنسانية» وبين الحطِّ من شأن الإنسان وإذلاله واستعباده على أيدي حُكَّام يؤكد كلٌّ منهم أنَّه لا يخرج عن الإسلام، بل ربما أعلن بعضهم أنَّه يُطبِّق شريعته تطبيقًا مباشرًا، ولو تنبَّه هؤلاء الكُتَّاب قليلًا إلى عالم الواقع، وخرجوا قليلًا عن عالم النصوص والألفاظ، لتجلَّت أمامهم المشكلة الجوهرية في موضوع حقوق الإنسان، وهي مشكلة «الضمانات» التي ينبغي أن تُحاط بها هذه الحقوق. فالمبادئ ذاتها، مهما كان سموها، لا بدَّ أن تقف عاجزةً خرساء، إن لم توضَع لها الضمانات الكفيلة بجعل الخروج عنها مستحيلًا، والحكم على مستوى حقوق الإنسان في أيَّة حضارة ينبغي أن يُقاس بمدى الضمانات التي تُحاط بها هذه الحقوق، أكثر ممَّا يُقاس بالمبادئ النظرية العامة التي تُحدِّد طبيعة هذه الحقوق.

إنَّ الباحث الإسلامي المعاصر، الذي يزهو ويتباهى بالمستوى الرفيع لحقوق الإنسان في الإسلام، لا يُبدي أيَّ اكتراث بالتناقض بين التعاليم النظرية التي يستشهد بها بلا انقطاع، وبين الأوضاع الفعلية التي حدثَت في ماضي المسلمين وما زالت تحدث في حاضرهم، وكأنَّ هذا التاريخ وهذا الواقع لا ينتميان إلى مجال «الإسلام»، فهو يكتب وكأنَّ مشكلة التنفيذ الفعلي لهذه الحقوق لا تعنيه، وكأنَّ كل ما هو مطلوب منه هو أن يُثبت وجود أساس لحقوق إنسانية رفيعة في النصوص الدينية، أمَّا مشكلة ما إذا كانت هذه النصوص قد تُرجمَت إلى واقع فعلي، والأسباب التي أدَّت إلى عدم تطبيقها طوال التاريخ؛ هذه المشكلة تبدو كأنَّها لا تعني هؤلاء الباحثين أصلًا. فهم يتصورون أنَّهم قد أدَّوا واجبهم كاملًا، وأثبتوا قضيتهم إثباتًا قاطعًا، لو تمكَّنوا من أن يستخلصوا من القرآن والسُّنة أحكامًا ساميةً عن حقوق الإنسان. إنَّها نفس الروح ونفس العقلية التي تجعل المشاركين في مهرجان خطابي حول قضية وطنية يتصورون أنَّهم قد أدَّوا واجبهم إذا كانوا قد أثاروا حماس الحاضرين، على المستوى الكلامي البحت، دون أن يقترحوا حلًّا عمليًّا واحدًا، ثم يعود الجميع إلى بيوتهم راضين عن أنفسهم رضاءً كاملًا، حتى لو ترامت إلى أسماعهم، وهُم في الطريق، أنباء عن هزيمة أو نكسة كبرى لحقَت بهذه القضية.

ولكنْ، ما قيمة تأكيدنا وإلحاحنا على أنَّ الإنسان خليفة الله في الأرض، وأنَّ الله كرَّمه من دون سائر المخلوقات، إذا كان الإنسان في الدولة الإسلامية يُجلَد علنًا لمجرَّد إبدائه رأيًا يخالف الحاكم؟ وما قيمة الاستشهاد الدائم بالنصوص الدينية التي تنطوي على معانٍ سامية، إذا كانت أهمُّ الحقوق الإنسانية في البلاد الإسلامية بالذات تشغل فصولًا كاملةً من تقارير المنظمات الدولية التي تتابع موضوع حقوق الإنسان؟ فلنقارن بين قيمة الإنسان الفعلية، في كل أرجاء الرقعة الإسلامية الواسعة الممتدة من المحيط الهادي شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، وبين قيمة الكائن البشري في بلد أوروبي أو أمريكي، يخضع لقوانين «وضعية» صنعها البشر الفانون، الضعفاء، القاصرون. لنقارن بين ذلك الإهدار الدائم لحياة الإنسان وكرامته، في الأغلبية الساحقة من البلاد الإسلامية، وبين الحرص الشديد على كرامة الإنسان كما يتمثَّل في تعويضات هائلة تُدفَع له إذا تعرَّض ﻟ «الإزعاج» أو «الإهانة» أو «الأذى». مثل هذه التعويضات لا ينبغي أن تُقاس حسب قيمتها المادية فحسب، وإنَّما الأهمُّ من ذلك أنَّها تنطوي على الاعتراف بأنَّ الإنسان غاية في ذاته، وينبغي أن تُصان سلامته المعنوية والجسدية بوصفه أرفع المخلوقات في هذا الكون. ولنتساءل: أيهما هو الذي يعامل الإنسان بوصفه مخلوقًا مكرَّمًا؛ أولئك الذين يمكنهم عزل رئيس جمهوريتهم إذا ارتكب أبسط خطأ في حقِّ شعبه، أم أولئك الذين لا يحُول شيءٌ بين حُكَّامهم وبين إذلال الألوف من مواطنيهم ومصادرة حرياتهم وإزهاق أرواحهم بلا محاكمة؟

إنَّ الأصل الإلهي لحقوق الإنسان، ما لم يكُن محاطًا بسياج يحميه، على شكل ضمانات عملية تشرف على تنفيذها مؤسَّسات وقوانين وتقاليد راسخة، لن يحُول — كما رأينا — دون إهانة الإنسان وسلبه حقوقه في كل لحظة.

ولكن الذي يحدث بالفعل، لدى جميع الكُتَّاب الإسلاميين عن حقوق الإنسان، هو أنهم بعد أن يمجِّدوا النصوص الدينية المتعلقة بحقوق الإنسان، يغمضون أعينهم عمَّا حدث في التاريخ وفي عالم الواقع، وإذا ألقَوا نظرةً على هذا العالم الفعلي ووجدوه متناقضًا مع ما تقول به النصوص، كان الردُّ الجاهز الذي يقدمونه هو: إن التاريخ والواقع خرجَا عن جوهر الإسلام! أمَّا لماذا كان هذا الخروج الدائم، وما السبيل العملي إلى تلافيه، فهذا ما لا يشغل بال أحد.

بل إننا نستطيع أن نؤكد أن قراءة هؤلاء الباحثين المعاصرين للنصوص، كثيرًا ما تكون مجرَّد إسقاط للمبادئ الحديثة والمعاصرة على النَّص الديني الذي هو بطبيعته قابل لأنواع شتَّى من التفسيرات. والأمثلة على ذلك لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وكلها تقرأ النَّص الديني ﺑ «أثر رجعي»، فتجد فيه، بالطبع، أحدث مبادئ التشريع.١٠ ولكن السؤال الذي لا يخطر ببال هؤلاء الباحثين هو: لماذا لم تطرأ هذه التفسيرات التي يقدِّمها كُتَّابنا المعاصرون، على بال مسلمي العصور السابقة، ولم تؤثر في ممارساتهم؟ ولماذا لم يستطع أولئك أن يستخلصوا من النصوص كل هذه المبادئ التي يجدها الباحثون المُحدِثون فيها؟ أغلب الظنِّ أن الباحث المعاصر قد «قرأ» هذه المبادئ في النَّص الديني، لأنه سبق أن اطَّلع عليها من خلال القوانين «الوضعية» وإعلانات حقوق الإنسان الحديثة، وإلا فأين كان، على سبيل المثال، مبدأ الأمن الفردي طوال عهود التاريخ الإسلامي التي كان السياف فيها يقف إلى جوار الحاكم لكي يمارس مهنته المُخيفة بكلمة واحدة منه، والتي كان فيها منع الأرزاق ومصادرة الحريات عقوبةً تُفرض، جزاء أبسط شكل من أشكال المعارضة والمخالفة؟ لماذا لم تؤدِّ النصوص، خلال تاريخ، إلى شكل من أشكال «الماجنا كارنا» يصون للإنسان كيانه وحريته، ويحاط بالضمانات الكفيلة بتطبيقه عمليًّا؟ السبب الواضح هو أن النصوص لم تُفسَّر بالطريقة التي نجدها لدى الباحثين المُحدِثين إلا بعد أن اطَّلع هؤلاء الباحثون على مبادئ حقوق الإنسان في صورتها الحديثة، ثم قرءوها في النصوص بأثر رجعي.١١

•••

فلْنُلخِّص إذَن تلك السمات التي تُعبِّر عن مفهوم لحقوق الإنسان، وتمسَّك به المسلمون المعاصرون بوصفه تعبيرًا عن تراثهم، على حين أنه في واقع الأمر تعبير عن طريقتهم الخاصة في فهم هذا التراث واستخدامه، هذا المفهوم لاهوتي، لا يتخذ من الإنسان محورًا إلا من حيث هو قبس من النور الإلهي، وهو مفهوم لا تاريخي، أو لنقُل إنه يُجمِّد لحظةً مُعيَّنة من لحظات التاريخ ويتمسك بها إلى النهاية، وبذلك يلغي الديناميكية والحركة والتطور مع التاريخ. وأخيرًا فهو مفهوم غير تجريبي، لا يعتمد على الممارسة الطويلة المتدرجة في توسيع نطاق حقوق الإنسان، بل يسعى إلى محاكاة مَثَل أعلى ذي طبيعة نظرية، مع إغفال تأثير الممارسة في هذا المَثَل الأعلى النظري إغفالًا يكاد يكون تامًّا.

ولا شكَّ أن هذه النظرة لا بدَّ أن تؤدِّي إلى انفصامٍ شِبه كامل بين الواقع الفعلي والأفكار النظرية، ولا تعطي لحقوق الإنسان دعامة «مؤسَّسيَّة»، تحميها ضمانات وجزاءات دنيوية محدَّدة، بل تعتمد على الأخلاقيات الشخصية للحاكم ومدى إيمانه بالجزاء الأخروي، ممَّا يُفسِّر تقلُّب تاريخ حقوق الإنسان في الإسلام بين حالات قليلة كانت تلك الحقوق تُحترم فيها عند وجود حاكمٍ تقيٍّ صالح، وحالات أخرى أكثر بكثير كانت المصالحة الدنيوية للحاكم تغلب فيها على شعوره الديني، ومن ثَم كانت تُنتهَك فيها أهمُّ حقوق الإنسان انتهاكًا صارخًا.

•••

وفي وقتنا الراهن يشهد العالم الإسلامي — الذي يعنينا منه منطقتنا العربية أكثر من غيرها بطبيعة الحال — تدهورًا متزايدًا في الاعتراف بحقوق الإنسان. فالسمة المميزة للعقود الأخيرة هي الإحساس العام بأنَّ هذه الحقوق تُنتهك انتهاكًا صارخًا. وعلى حين أنَّ المسار العام لحركة حقوق الإنسان، على المستوى العالمي، يتجه إلى المطالبة بالمزيد، والانتقال من الحقوق السلبية إلى الإيجابية، ومن إقرار حقوق الفرد إلى تأكيد الحقوق الجماعية، فإنَّ خطَّ التطور في العالم العربي، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كان خطًّا هابطًا بحدة.

ولكي تزداد الصورة وضوحًا، ينبغي أن نعرض لكلٍّ من جوانبها بقدْر من التفصيل؛ ذلك لأنَّ العالم العربي لا يُشكِّل، من حيث طريقة الحكم، وحدةً متجانسة. فهناك أنظمة شبه ليبرالية، وأنظمة قبلية، مبنية على حكم العائلة، وأنظمة عسكرية. هذه هي الأنماط الرئيسية، مع وجود استثناءات أو تداخلات طفيفة، وفي كل نمط من هذه الأنماط تعاني حقوق الإنسان من صعوبات حقيقية.

فالأنظمة شِبه الليبرالية تتحوَّل بالتدريج إلى اتِّباع سياسة العنف والقضاء على الخصوم بأساليب قد يكون لها أحيانًا مظهر قانوني، ولكنَّها في حقيقتها استبدادية. وفي كل يوم تُنتهك الحريات الأساسية انتهاكًا متزايدًا، ويزداد هُزال القشرة الديمقراطية التي تغلِّف بها طريقة حكمها، وتتباعد على نحوٍ متزايدٍ عن أصولها الليبرالية.

أمَّا الأنظمة القبلية فإنَّ سيطرة عائلات مُعيَّنة على الحُكم فيها تؤدِّي إلى نوع من الخصوصية والازدواجية في الحكم تكاد ترقى إلى مستوى وجود قانونين؛ أحدهما للخاصة والآخر لعامة الشعب. وكثيرًا ما تُسنُّ قوانين صارمة يُقصد بها ردع الغالبية العظمى من السكان، على حين تعلم الأقلية الحاكمة أنَّها معفية أصلًا من الالتزام بها. وهكذا فإنَّ الولاء العائلي يفوق في تأثيره الالتزام القانوني، وينحسر الأسلوب اللاشخصي في الحكم، الذي هو سمة أساسية من سمات الدولة القانونية الحديثة، لتحلَّ محلَّه العلاقات الشخصية التي تلغي فكرة الحقِّ الشامل. ولا شكَّ أنَّ هذه الأنظمة تتفاوت في مدى خضوعها للأسلوب القبلي في الحكم، ففي بعضها محاولات جادة من أجل التحديث، ولكن هذه المحاولات تصطدم بالبناء الأساسي الذي يصعُب معه إيجادُ كيان قانوني يسري على الجميع بلا استثناء.

وهناك مشكلة محدَّدة، في ميدان حقوق الإنسان، تُثار في هذه المجتمعات بالذات أكثر من غيرها، نظرًا لكونها — في الأغلب — مجتمعاتٍ غنيةً بالموارد البترولية. فهذه المجتمعات قد انتقلَت، أحيانًا في جيل واحد، من حالة الفقر إلى الثراء الهائل، وهي تعلم جيدًا أنَّ ثروتها البترولية ناضبة، وأنَّ المستوى الرفيع الذي تعيش فيه لن يدوم أكثر من جيل واحد أو جيلَين في المستقبل، على أكثر تقدير، وأنَّ هذه الفترة هي فرصتها الوحيدة لتعديل بناءاتها الأساسية بالصورة التي تتيح لها تحسين أوضاعها بشكل دائم. وهكذا تُثار هنا مشكلة «حقوق الأجيال القادمة» بصورة أكثر حدَّةً من غيرها من المجتمعات؛ ذلك لأنَّ هذا الإحساس بوجود «فرصة واحدة لن تعود» لا يمكن تصوُّرُه في مجتمع تكنولوجي أصبح التقدم يُشكِّل قاعدة حياته، بل يصنع هو ذاته هذا التقدم. صحيح أنَّ مشكلة الاستهلاك الزائد للمواد الخام، واحتمال حرمان الأجيال القادمة منها، تُثار في المجتمعات المتقدمة تكنولوجيًّا، ولكن هذه المجتمعات تفكر في تلك المشكلة دائمًا عن طريق البحث عن بدائل تحلُّ محلَّ الموارد المُستنفَدة، أو أساليب لإعادة استعمال المستهلك … إلخ. أمَّا في حالة المجتمعات التي تكتسب ثروةً جاهزة، وتستمتع بثمار تقدُّم تكنولوجي لا تسهم في صُنعه أو حتى في فهم أسراره، فإنَّ مشكلة حقوق الأجيال القادمة تتخذ طابعًا مختلفًا، ربما أصبحَت له فيما بعد أبعاد مأساوية، لأنَّ الترف الخيالي الذي تستمتع به الأجيال الحالية يحرم عشرات الأجيال في المستقبل من فرصة الحصول على حقِّها في حياة كريمة، والقدرة على مسايرة التقدم الذي سيزداد تسارعًا في العصور المُقبِلة.

وأخيرًا، فإنَّ مشكلة حقوق الإنسان في العالم العربي المعاصر، تظهر أوضح ما تكون في المجتمعات التي تحكمها أنظمة عسكرية، وهي أهمُّ المجتمعات العربية وأكثرها سكانًا. ففي هذه المجتمعات دساتير لا يُعمَل بها في أغلب الأحيان، أو تُعدَّل دائمًا وفقًا لرغبات الحاكم، وفيها تحلُّ القوة محلَّ الحق، وفيها يمكن أن يفقد الإنسان أهمَّ حقوقه بمجرَّد إثارة شبهة غير مؤكَّدة وغير محقَّقة حوله. وأكثر الحقوق معاناةً هو حرية التفكير والتعبير؛ لأنَّ الأنظمة العسكرية بطبيعتها لا تصمد أمام المعارضة المنطقية العاقلة، وهي تستخدم أحدث أساليب الإعلام والتأثير في العقول من أجل المحافظة على أشكال من الطغيان عفَا عليها الزمان. ويمكن القولُ إنَّ معاناة الجماهير العربية في ميدان حرية الرأي بالذات، أشدُّ من معاناة معظم شعوب الأرض في العصر الحاضر. أمَّا الحقوق الإيجابية، الاجتماعية، كالتعليم والثقافة والعمل المناسب … إلخ، فهي دائمًا خاضعة لمطالب النظام، وتأتي دائمًا في المرتبة الثانية بعد رغبة النظام في المحافظة على ذاته أو القيام بمغامرات خارج حدوده.

والأخطر من ذلك أنَّ الخضوع المستمر للقمع، قد أفقد الإنسان العادي الإحساس بحقوقه، فبالتدريج أخذ انتهاك الحقِّ القانوني يصبح شيئًا طبيعيًّا، وأخذ الناس ينظرون إلى هذه التصرفات على أنَّها جزء من طبيعة الأشياء، وبالتالي أخذَت تقلُّ قدرتهم على المطالبة بحقوقهم، وهذا أكبر خطأ يمكن أن يتعرَّض له مجتمع في ميدان حقوق الإنسان، عندما ينهزم من الداخل، ويفقد القدرة على الثورة من أجل حقوقه المسلوبة، بل لا يشعر — من فرط الطغيان — بأنَّه قد سُلب منه شيء.

ولقد لاحظ كثير من المُفكرين العرب أنَّ هذا الوعي بالحق، والاستعداد للمطالبة به والدفاع عنه، كان أقوى بكثير في عهود ما قبل الانقلابات العسكرية، وأنَّ «الفساد» الذي تُتهم به تلك العهود كان — من ناحية التعبير عن الرأي بالذات — أفضل بكثير من «الفضائل» التي تدَّعيها النُّظم العسكرية، وأنَّ المقياس البسيط للديمقراطية، وهو القدرة على سماع وجهة نظر الطرف الآخر، أخذ ينعدم في ظلِّ هذه النُّظم على نحوٍ متزايد.

•••

ويمكن القولُ إنَّ الصورة الإجمالية لحقوق الإنسان، في العالم العربي المعاصر، تدعو إلى التشاؤم، فالخط البياني هابط، والقوة المالية الاستثنائية التي اكتسبها العرب المعاصرون، وكذلك القوة العسكرية التي تشغل قدْرًا كبيرًا من اهتمامهم، تُستخدم من أجل إيقاف تقدُّم وعي الإنسان بحقوقه الأساسية. والاتجاهات التسلطية هي التي تصبح لها الغلبة يومًا بعد يوم.

والأمر المؤسف هو أنَّ ضمان الحقوق الأساسية لا يمكن أن يُعَد، في هذه المجتمعات أو غيرها، مجرَّد ترفٍ نظري، يمكن الاستغناء عنه في سبيل تحقيق أهداف أهم، كالتنمية القومية؛ ذلك لأنَّ التجربة تُثبت يومًا يعد يوم، أنَّ التنمية، حتى في جانبها الاقتصادي المادي الخالص، تتخذ طابعًا مشوَّهًا في المجتمع الذي لا يكون لدى الإنسان فيه وعيٌ كافٍ بحقوقه الأساسية. وحتى أسلوب التعبئة الشاملة، الذي لجأت إليه بعض المجتمعات، وضحَّت من أجله ببعض الحقوق الفردية، بعيد كل البعد عمَّا يحدث على المسرح العربي، حيث يقترن الاستبداد بأنانية وخصوصية واضحة في الحكم، وحيث تُستبعَد الأغلبية من كافة مراحل عملية اتخاذ القرار، مثلما تُتجاهل مطالبها في تحقيق الحدِّ الأدنى من الحياة الآدمية المعقولة.

هذا الوضع، الذي يرجع أساسًا إلى عوامل سياسية برجماتية، لم يكُن من الممكن إصلاحُه؛ لأنَّ الطريقة التي نظر بها العرب إلى تراثهم كانت طريقةً سكونيةً تمنع أيَّ تطوُّر وأيَّ تقدُّم نحو اكتساب حقوق جديدة. وهكذا تآمَر الماضي والحاضر على الإنسان العربي لكي يُحطمَا أمله في اكتساب حقوقه، أمَّا المستقبل فلا يمكن أن يكون أفضل إلَّا إذا حدث تغيير شامل في أساليب الحياة والتفكير في هذه المنطقة من العالم.

١  عثمان خليل عثمان، تطوُّر مفهوم حقوق الإنسان، مجلة عالم الفكر، مجلد ١، عدد ٤، ص١٥.
٢  انظر: د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، نظرة القرآن لمكانة الإنسان في الكون ولحقوقه، ص٢٤، بحث في الملتقى الإسلامي المسيحي الثالث، تونس، مايو ١٩٨٢م.
٣  ينبغي أن نلاحظ أنَّ النَّص السابق يُضيف إلى الموضوع بُعدًا آخر؛ إذ إنَّ إنكار قداسة الإنسان، حسب وجهة النظر الدينية، لا بدَّ أن يؤدِّي في نظره إلى تأكيد حيوانيته. وهكذا لا ينتبه الكاتب إلى أنَّ هناك بدلًا ثالثًا، اختارته جميع المواثيق لحقوق الإنسان، هو أنَّ الإنسان يكتسب حقوقه بوصفه إنسانًا، متغيرًا، فانيًا، يخطئ ويتعلم من أخطائه، ويجرِّب وينضج بفضل تجاربه، فلا هو بالكائن المقدس، ولا هو بالحيوان، أو إن شئتَ فقُل إنَّ تاريخه سعي دائم لتجاوُز أصوله الحيوانية، وللوصول إلى نوع من القداسة يكتسبه بجهده وكفاحه، ولا يتلقَّاه جاهزًا، غير أنَّ وضعنا أمام هذا الاختيار بين القداسة والحيوانية هو — بلا شكٍّ — حيلة لا شعورية، يلجأ إليها أنصار المفهوم الديني، لكيلا يدعوا لأحد مجالًا سوى أن يُسلِّم بوجهة نظرهم.
٤  د. أبو ريدة، الموضع نفسه.
٥  انظر مثلًا: عثمان عبد الملك الصالح، حق الأمن الفردي في الإسلام، دراسة مقارنة بالقانون الوضعي، بحث أُلقي في «ندوة حقوق الإنسان في الإسلام»، الكويت، ديسمبر ١٩٨٠م.
٦  كُتِبَ هذا الجزء من البحث في يونيو ١٩٨٠م.
٧  من الجدير بالذكر أنَّ هذه الرواية كانت مُتضمَّنة في الكتب الدراسية الرسمية، التي كان الجيل الذي ينتمي إليه كاتب البحث يدرسها ضمن مقرَّر الأدب العربي في المرحلة الثانوية. وكانت القصة (وهي أطول بكثير) تُروى بوصفها تعبيرًا أدبيًّا رفيع المستوى، دون أن يتضمَّن الكتاب المدرسي أيَّ استنكار لسلوك الحاكم، أو أيَّة إشارة إلى انتهاكه حقَّ الحياة بالنسبة إلى إنسان لم يرتكب أيَّ جرم.
٨  كتبه د. جابر إبراهيم الراوي في «المجلة الثقافية» أ، الجامعة الأردنية، عمان، العدد الأول، أيلول (سبتمبر) ١٩٨٣م، ص١٠٤.
٩  أبو ريدة، نفس المرجع، ص٢٣.
١٠  انظر مثلًا البحث المُشار إليه من قِبَل للدكتور عثمان عبد الملك.
١١  يُلاحَظ أنَّ هذا يوازي بالضبط ما يحدث في حالة «التفسير العلمي للقرآن»، حين يُحاول البعض الاهتداء إلى نظريات علمية حديثة في آيات قرآنية، ولا يتمُّ ذلك بالطبع إلَّا بعد أن تكون هذه النظريات قد اكتُشفَت بجهود بشرية خالصة، ثم تُعاد قراءتُها ﺑ «أثر رجعي» في نصوص دينية لم يكُن الناس يجدون فيها شيئًا من ذلك طوال العصور التي لم تكُن فيها هذه النظريات قد اكتُشفَت بعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤